#1  
قديم 11-03-2012, 12:25 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي سيكولوجية المشاكل المدرسية وأهمية معالجتها في تنمية استعدادات الطفل للحياة الاجتماعية


الضرورية لنموّه النفسي والتربوي "المدرسة وسط إنساني تنمو فيه استعدادات الطفل للحياة الاجتماعية"

حسين محي الدين سباهي

سيكولوجية المدرسية استعدادات الاجتماعية 36-501e3e7d321c2.jpg

تتناول المشاكل المدرسية ثلاثة عناصر مختلفة: الرفاق، العمل، المعلمين..0 حيث يشكّل الرفاق الوسط الاجتماعي الذي يتمرّن فيه الطفل على العلاقات الاجتماعية، ويختلف هذا الوسط بادئ الأمر عن الوسط العائلي بحيث يخلو من بعض خصائص هذا الأخير، وممّا لا ريب فيه إنه يوجد دوماً في المدرسة معتدون ومعتدى عليهم، جريئون وجبناء، مجتهدون وكسالى ولكنّ النتيجة الإجمالية لهذه الفوارق تخلق جوّاً متشابهاً تقريباً، وبنتيجة الاحتكاك مع هذا الوسط يمضي الولد في مقارنة نفسه بغيره من الرفاق وفي تقدير قيمة شخصيته، ولهذه البيئة ميّزة أخرى لا تُقدّر بثمن وهي كونها مؤلفة من أولاد في سن متقاربة ومتجانسة.
إنّ اختلاف السّن يميّز الأطفال بشكل ظاهر، ففرق سَنَة أو سنتين يُحدث تفاوتاً بيِّناً بينهم، وفي الأسرة يرى الأولاد أنفسهم حيال الكبار في حالة ضِعة تامّة وتبعيّة بارزة، وإذا كان لهم إخوة أو أخوات أكبر أو أصغر منهم سِنّاً، فإن هذا التصنيف يُوجد حالة من التسلسل الدائم، وتفاوتاً ثابتاً، ولا شكّ إنه يوجد في المدرسة أولاد كبار وصغار كما في الأسرة، ولكنّ الصّف هو وسط اجتماعهم الدائم، وهنا تتساوى الأعمار عند معظمهم على الأقل، وينتج عن هذا تلاشي هذه الفروق بسرعة، إذ يأخذ الولد بالاحتكاك مع رفاقه، مُقارِناً نفسه بهم كَصِنوٍ مماثل، وإنّ مقدرة الطفل في هذه المقارنة بالغة الخطورة، إذ إن الطفل الذي يعدم هذه الوسيلة يكون عاجزاً أيضاً في مستقبل حياته عن توثيق العلاقات بينه وبين الآخرين.
وأخيراً فإن للوسط المدرسي مِيزَة العدد والتنوّع، فللمرّة الأولى يستطيع الولد أن يختار أصدقاءه وأعداءه بما يتلاءم وطبيعته، وبدون أن يكون خاضعاً في ذلك إلى إيحاء الأسرة أو ضغطها، وتتهيأ هنا شروط ملائمة لنموّ الحياة العاطفية والإحساس، ومن جهة أخرى، لَمّا كان الطفل لم يخضع لأيّ تأثير في تفضيله بعض الرفاق على غيرهم، فإنّه لم يجد لا تردّداً ولا حرجاً في التمييز بين الفئات الصغيرة لدى الكبار، إنه يتعلّم تحليل ميوله الاجتماعية، والتعبير عنها، في أدق خصائصها الشخصيّة.
ومن جهة أخرى، فإنّ هذا الوسط المدرسي المُزدحم هو مركز التيارات العاطفية التي يميل إليها جميع التلاميذ إلى الانصهار في بوتقتها، ويتعلّم كل منهم بهذه الطريقة كيف يذوب في الجماعة، ناسياً كل خصائصه، ويمكن القول بأن الاستعداد الاجتماعي الأكثر كمالاً يحتوي، بالإضافة إلى مبدأ (الأنا) الواضح المحدود، سهولة الاندماج في الأعمال الجماعية المشتركة، ويستطيع الطفل في المدرسة أن يستخدم مرونته النفسية في الناحيتين المتضادتين، وإذا كان صحيحاً أن كل غريزة تتضمّن لذّتها النوعيّة، فإن الغريزة الاجتماعية قادرة على إحداث نوع من اللذّة وهي: شعور الطفل بمتعة اندماجه في مجموعة متماسكة قوية، وعندئذٍ لا يبقى مجال للاختيار (إن كل اختيار يفترض شبهة مقدمة مع نوع من الانقباض)، وكذلك يزول كل تردد وحرج، كما يحدث من جهة أخرى شعور عميق بالاطمئنان والأمن، لأنّ قوّة الجماعة تسري إلى كل من أفرادها.
إنّ التيارات العاطفية التي تسبب وحدة الرأي بين تلاميذ الصف الواحد، إن هي، تارةً إلاّ وَثَبات الإعجاب والاحترام لهذا أو ذاك من الناس، وطوراً موجات من الكره الإجماعي لشخص آخر، وقد يكون هدف هذه العاطفة أستاذ أو ناظر، وعندئذٍ يصحب الكره نوع من الخوف يجعله مكبوتاً، وكثيراً ما يحدث أن يتّجه الكره الجماعي نحو رفيق عاثر الحظ قد يكون أجبن التلاميذ، وأكثرهم فقراً، وأضعفهم بنية، ومزدرى من أسرته، أو مكروهاً من أساتذته.
فهذا الكره الجماعي جدير بالتحليل، لأنّه يكشف عن الدوافع الغريزية لهذه الشراسة الصبيانية العنيفة، والجماعة بصورة عامّة تضطهد العناصر التي لم تندمج بعد في كتلتها، أي الذين لم يستطيعوا أن يتخذوا معها مبادلات عاطفية: كالرفاق الجدد، والغرباء، والمجهولين، أو الذين يتميّزون بخصائص لا يمكن تحويرها، والأولاد، رغبة منهم في أن يكونوا كتلة قوية متجانسة، يجهدون لمحو، أو نسيان كل ما يميّز بينهم، فإذا بدا على أحد الرفاق فارق ظاهر أو كان لونه مغايراً، أو كان يسكن حيّاً آخر، أو يلبس ثياباً مخالفة للنوع المفروض، فإن الجماعة تسعى بصورة لا شعورية لرفض، أو إزالة هذا العنصر غير القابل للانسجام، وقد لوحظ عند الكبار أن أقرب الجيران هم أكثر الناس تباغضاً، وما ذلك إلا بسبب فوارق صغيرة تمنعهم من الشعور بأنّهم جماعة منسجمة حقّاً، وتحرمهم لذّة الاتحاد والامتزاج، فلمّا لم يستطيعوا التأثير على هذه الفوارق، اندفعوا بسخطهم نحو الأشخاص الذين يحملونها، وكذلك، فإن الخوف من الفقر عند الأشخاص البسطاء يوحي إليهم بموقف شديد القسوة حيال الفقراء، كما يدفع الخوف من الألم أحياناً (مهما ظهر ذلك مخالفاً للعقل) إلى اضطهاد المتألمين البؤساء.
وهذه العوامل نفسها تلعب دورها في المدرسة أيضاً، فالطفل الذي يكون ضحيّتها هو الذي تظهر عليه اضطرابات نفسية شديدة، وهو الذي قبل أن يكون هدفاً لأي عداء، كان كثير الشّك في نفسه، أو كثير الشعور بنقصه وضِعته.
ومن الطبيعي أن تجسيم اضطراباته الداخلية مع الشكل الذي تظهر به حالته العصبية على فم الغير ومظاهرهم، تزيد آلامه بصورة تصبح معها مستعصية وغير قابلة للشفاء، ولا أعتقد أن أحداً من الكبار الذين لاقوا في صغرهم هذا الاضطهاد يستطيع التخلّص من بعض مشاعر الانقباض في جميع علاقاته مع الآخرين.
وتكون الاضطهادات المدرسية عند الأطفال، الذين تقع عليهم، بمثابة اختبار خطير للغاية، وكلّما كانت ضحاياها صغاراً، بدت إمكانيّاتهم الغريزية للانسجام الاجتماعي مزعزعة مهددة، وكثيراً ما تقع بعض الاعتداءات بين الطلاب على مسمع ومرأى من الأساتذة والمراقبين، فلا يهتمّون بها مهما توسّعت شقّة الخلاف، ومهما ارتدت طابعاً عنيفاً، مع إنه كان من أوُلى واجباتهم قمْعها، وأشد من كل هذا نرى أن بعضهم يصبّ جام غضبه ظلماً على الضحيّة المعتدى عليها، فعلى المديرين والمفتّشين أن يحاربوا هذا الإهمال والجور عند النظارة والأساتذة.
إنّ السّن المدرسية هي المرحلة التي تنمو وتتفتّح فيها الغرائز الاجتماعية، حتى أن بعض مظاهر هذه الغرائز تبلغ في هذه المرحلة مدى، لا تبلغ مثله في طور الرجولة، ومن جهة أخرى، فإنّ، في الغرائز الاجتماعية، مجموعة من المظاهر المختلفة التي تتكامل بالتتابع، والمظاهر الأوّلية التي قد يطرأ عليها عادة هذه الحال.
وهكذا فإن الحاجة إلى التقليد تأخذ مداها الواسع، ويكفي أن يلهو أحد التلاميذ بلعبة من أتفه اللعب، حتى يسعى الآخرون جاهدين للحصول على مثلها، وتنشأ أحياناً في الصفوف طقوس وعادات مختلفة، منها، اللغات الصبيانيّة الخاصّة، أو الكتابة السرّية، التي يبتكرها التلاميذ، والتي ليست سوى استجابات لحاجة الطفل للتقليد، والابتكار، وتتضمّن الغرائز الاجتماعية هذه الحاجة المزوجة للتقليد، وإلى الانصهار في بوتقة الجماعة المنسجمة، والتمييز الجماعي (الكل)، والفردي (التنافس)، ويسعى الطفل إلى الانفراد ببعض البطولات (الرياضية أو العقلية أو غيرها) في الوقت الذي يرجو فيه الحصول على استحسان رفقائه، أي أنه يرغب بتمتين الأواصر التي تربطه ببيئته، وإذا لم ينجح بأمور ذات بال يجهد لكسب التقدير ولو عن شعوذاته ومشاغباته، وعلى المربي الصالح أن يساعد كل تلميذ على انتهاج السبل القويمة للاندماج بالجماعة، وهذا أجدى نفعاً في حياة التلميذ المقبلة، من كل معلوماته المدرسية الأخرى.
إنّ أسمى مظاهر الغرائز الاجتماعية تنمو في طور البلوغ، وهي تسيطر على السلوك، وتقود خطاه لتحفظه متناسباً مع مثالية خُلقية ما، ويحاول المراهق الحصول على السيطرة على نفسه، وتنظيم اتجاهات غرائزه، العفويّة بطريقة ضبط آلي، ولا شكّ في أن كل إفراط في هذه الطريقة يؤدي إلى أمراض عصبية، وإلى مبدأ تدمير النفس، وأنّ على التربية منع زجر، أو قمع، غير ملائمَين.
إنّ الأطفال الذين ليس لهم إخوة أو أخوات، بعدد كبير، فإنهم يجدون في الوسط المدرسي فرصة للألعاب الجماعية التي لا يمكنهم التمتّع بها في البيت، وهناك نموذجان من اللعب:
أولاً: الألعاب التي تنمّي مَلَكة الخيال، عند الأطفال، وذلك بأن يتّحد الطفل روحاً مع شيء ما، ثمّ يأخذ بتصوّر حالات مختلفة، وهذا النوع من الألعاب يمكن المثابرة عليه، في الوحدة أيضاً، إذا تهيّأت بعض التفاصيل الملهمة: كاللعبة والقطار، والطيّارة، وغير ذلك... أما الأطفال الكبار فإنّهم يقومون بالألعاب ذات الصّفة الفعّالة التي تجد مرتعها الرَحِب في الطريقة المشتركة الواسعة.
ولكي يكون للّعب نتائجه السعيدة، وقيمته الفعّالة، يجب أن يؤمِّن سرور الطفل وانشراحه، وأن يعوّض عن رغباته التي لم تتحقّق، وعن فشله وإخفاقه، ولو في حدود خياله، وتصوّره، وإلاّ كانت فشلاً جديداً، يضاف إلى إخفاقات سابقة.
إنّ بعض الأولاد المخذولين في حياتهم العادية، والمروَّعين لا يستطيعون حتى أثناء اللعب، أن يحصلوا على التعويضات المعنويّة، التي هم بأمسّ الحاجة إليها، وهنا يترتب على المربين الحاذقين أن يتدخلوا، سواء بنصائحهم أو مهارتهم، لقيادة الطفل في ألعابه، والأخذ بيده حتى يصل إلى النتائج المرضية.
لقد توصّل المربون أخيراً إلى الاعتراف بضرورة اللعب للأطفال، وخاصة للذين يشكون ضعفاً جسميّاً، ونفسيّاً، بشرط أن يؤمّن اللعب لهم التعويض عمّا ينقصهم، ولذا فلا يكفي أن تعطى للأطفال فسحة للاستراحة فقط، وليس اللعب وسيلة لتحرير المعلمين من أعمالهم، كما إنه ليس وسيلة للكبار، للحصول على الراحة والهدوء، بتركهم الأطفال وشأنهم، بل إن اللعب عبارة عن عمل آخر يستدعي الانتباه والتشجيع، والتوجيه نحو أهدافه التربوية النافعة، وما هو للطفل إلا وسيلة فعّالة للنموّ الجسمي، والتكامل النفسي.
ومهما يكن العمل المدرسي هامّاً بالنسبة للامتحانات، والمسابقات فإنّه لا يشكّل في كيان شخصيّة الطفل إلا نوعاً من الاختبار البسيط بين اختبارات أخرى، غير إنه اختبار يجعل الكبار يحكمون من خلاله على مقدرة الطفل، ويولونه أهميّة كبرى، فبعض التلاميذ، بسبب جبنهم، أو شعورهم بالنقص، يعجزون عن تحقيق استعداد ملائم للحياة الاجتماعية مع أترابهم، من الحصول على خطوة أو تقدير، أو الذين يخشون اعتداءً عَرَضيّاً من رفاقهم، يرون أنفسهم مضطرين إلى بذل جهود كبيرة في أعمالهم المدرسية، ليحصلوا – إذا فاتهم إعجاب الرفاق – على تقدير وحماية المعلمين، وشكر الأهل.
ومن المُتعارف أن الإمكانيّات العقلية عند الطفل، تكون متناسبة مع حالته الجسمية، أي إن الذكاء هو قوّة سامية، بل نوع من الإنتاج الأسمى عند الأحياء، والذي لا تتحقق فعاليته الكبرى إلا إذا تأمّن له توازن صحّي كافٍ، مهما كانت التعويضات، أو الاستثناءات الظاهرة التي يمكن أن تعترض طريقه، وممّا لا ريب فيه إن اختلال الغدد، والتراث المرضي، يمكن أن يؤثّر تأثيراً بالغاً في قوّة الذهن، ومع ذلك فيجب الاحتراز من هذه البدهيّات الظاهرة لأنّه يلحظ كثيراً، بعكس ذلك، النتائج المدهشة لعوامل الشعور في الإنتاج المدرسي.
إنّ رغبة الطفل أن يعوّض النقص في ميادين أخرى، وأن يظهر أكثر جدارة بالتقدير من أخ، أو أخت، في موضوع التنافس، أو أن يكون مشمولاً بعطف المعلم وحبه، يدفعه بسرعة إلى زيادة إنتاجه لدرجة مدهشة، ويمكن تشبيه الحالة العضوية بالآلة، والوثبة العاطفية بالفنان، فالفنان العبقري يستطيع أن يصنع تُحْفَة جميلة ولو بآلة رديئة، وعلى كل حال، فلا بدّ من الاعتراف بقيمة صحة الجسم، وهناك نقطة أخرى جديرة بالاعتبار، تدعم النقطة السابقة، في صدد تقدير العامل العاطفي، في الإنتاج الدراسي، فالمواهب وحدها إذا لم تنظم وتوجّه توجيهاً صحيحاً، لا توصل الطفل إلى رجولة طيبة وكل شيء يجري في الحقيقة كما لو كان النجاح الأكيد يتبع نسبة بالجهود، فالتسهيل والتبسيط المفرطان خطيران جدّاً إذا كانا يغنيان عن كل جهد، لأنّ المصاعب الجوهرية إذا ما أثارت بعض الجهود تصبح نقطة الانطلاق نحو النجاح.
ينتج عن ذلك نتيجتان: الأولى هي أن لا نعتبر التجارب التي تختبر بها الكفاية والأهلية كدليل مطلق للمستقبل، كما لا يجب توجيه الطفل في دراساته، استناداً إلى هذه القاعدة الوحيدة، دون الاهتمام بالانفعالات التعويضية التي يمكن أن تحدث والتي لها قوّة فعالة أكثر من سائر المواهب وأشدّها تمييزاً، والثانية: أن نذكر إنه إذا استطاع الضغط العاطفي التفوّق على كثير من العقبات فعلى العكس فإن التثبيط أو الإيحاءات السلبيّة يمكنها أن تضعف من قوّة الفعاليّات، فالتردد أمام الطفل بأنّه لن يستطيع فهم هذه أو تلك من المواد يغلق عليه باب التفكير ويحبسه في إطار صعوباته القائمة ويحكم عليه بالفشل والخسران اللذين ما كان يقع فيهما لولا تأثير تلك الإيحاءات، ويبدو تأثير الإيحاءات شديداً بنسبة درجة حب الطفل للشخص الموحي والذي لا يملك الطفل حياله أيّة قوّة دفاعية، ولكنّه لو استطاع، مقاومة هذا الإيحاء بنوع من الكره لآل به الأمر إلى تعويض قوي فعّال.
لقد بولغ كثيراً بأهمّية الاستعدادات العقليّة، وربّما كان لأجل الوصول إلى ذروة علم من العلوم أو فن من الفنون، لا بدّ من التحلّي ببعض المواهب الفطرية ولكن مادام الأمر يقتصر على دراسة برنامج مدرسي أو متابعة دراسة معيّنة فإن باستطاعة أي شخص كان أن يتوصّل عمليّاً إلى شيء ما اعتماداً على إمكانيّاته العقلية، هذا إذا استثنينا حالات التأخّر المرضية، والذكاء هو الشيء العادي والعام بين الناس، أما الشيء النادر فهو الوثبة العاطفيّة التي تثير جهوداً دائمة وعلى الأخَص فهو حبّ الحقيقة والذي بواسطته يستعمل الذكاء للبحث عن الخير للخير لا لتحقيق غاية نفعيّة.
هذه هي المثاليّة التي كان يجب على عِلم التربية الإيحاء بها وإيضاحها بالأمثلة (لو لم تكن تجربة سقراط قد برهنت على هذا الأمر الذي يكاد يكون فوق الطّاقة البشريّة).
والفكرة القائلة بأن الثقافة العقلية شيء تافه فائض هي بعيدة عنّا، وفضلاً عن إعدادها لتدريب واسع بأنّها تهيئ للطفل أنواعاً مختلفة من عناصر المقارنة، مثيرة ما عنده من قوّة المحاكمة، كما تعلّمه طريقة خاصّة بالتفكير، وفنّاً خاصّاً لفهم المسائل وحلّها في السّن التي يكتسب فيها تدريباً كهذا بصورة طبيعيّة، وهكذا فإن الذهن الذي هيّئ بهذه الطريقة يمتاز بسهولة عمّن لم تتهيأ له تربية مماثلة، ويجب الاعتراف بأن قسماً كبيراً من مواد التدريس هو أصلح بكثير لمدارك رجال بسنِّ الأربعين ممّا هو عليه لأجل التلاميذ الصغار.
ويجب ألاّ يغرب عن بالنا أن تعليم الناشئة ليس معناه حشو أدمغتهم بمعلومات تاريخية وفق اتجاه سياسي مرسوم، ولا بثقافة أدبيّة ذات أهداف مُلتوية، إذ ليس التعليم وسيلة للدعايات والأغراض بل يجب استخدامه لتمرين الناشئة على تمحيص الأفكار وفهمها مع تزويدهم بمعلومات إيجابية بقدر ما تسمح به العلوم، ومن جهة أخرى فليس من التربية في شيء إثقال البرامج بصورة تضطر التلميذ في سنّ الرابعة عشرة مثلاً إلى السهر الطويل في سبيل تأمين واجباته المدرسية، مع حرمانه من كلّ وسائل لهْوه وتسليته.
والبالغ لا يستطيع أن يحتفظ من معلوماته المكتسبة قبل الخامسة عشرة إلا بالتي يحييه منها بالاستعادة والتكرار فيما بعد، ولكنّ الشيء الذي يكتسبه من هذه المعلومات وهذه الوظائف التي قد يقوم بها بدون رغبة، هو التّعوّد على العمل بشجاعة وإقدام، وهذه التمارين من شأنها أن تهيئ له فرصة التفوّق على أقرانه، مع احتفاظه بسلوك مُنسجم مع سلوك الراشدين، دونما وساوس أو أخطار، أما الأسئلة والامتحانات فتشكِّل اختباراً للغرائز الاجتماعيّة، ومَنْ يستخدمها بحكمة وتعقّل يضمن فوائدها النفسيّة المؤدّية إلى نتائج حميدة، وفي الوقت نفسه قد تثير الاختبارات، حالات عصبيّة تؤدّي إلى شلل ذهني: وكم من التلاميذ يفقدون كلّ قواهم الفكريّة عند مثولهم أما الفاحصين، فبدلاً من تعذيب هؤلاء المساكين أو احتقارهم كما يفعل الكثيرون من الأساتذة يجب لأجل تخليصهم من الوقوع في أمراض نفسيّة ملازمة، مساعدتهم بكثير من اللطف والتساهل، إذ بقدر ما يعطي النجاح في الامتحان من القوّة والنشاط والنشوة ي*** الرسوب والخجل ضعفاً أو عجزاً عن بلوغ أي نجاح فيما بعد إذا لم ينتبه المربّون إلى كيفية تلافي حالات الرسوب عند التلاميذ.
ولكي نفصح عن فكرتنا بجلاء نقول إن تربية الشخصية الخُلقيّة هي خير من جميع الرياضات والتمارين العقليّة ومع ذلك فإن هذه القضيّة الجوهرية مازالت تعاني كثيراً من الإهمال.
والطفل يدرك مدى ارتباطه بالكبار فإذا لم يلاق منهم جفاءً وقسوة انتظر منهم فهم حقيقته وتوجيهه توجيهاً حكيماً وشعر بالاطمئنان إليهم والثقة بهم وبالاندفاع إلى طاعتهم، وحتى إلى الشعور بالعطف نحوهم، وجدير بالملاحظة أن الكبار قلّما يشاركون الطفل نظرته للأمور، فيعاملونه معاملة حيوان صغير، باحثين عن راحتهم الشخصية، ولو كان فيها إساءة إلى هذا المخلوق البريء، وهم لا يتورّعون عن الإفراط في استعمال سلطتهم حياله، فتبدو له غامضة التفسير، وسرعان ما يصبح قليل الثقة بهم وكثير الحذر منهم، أما المعلّمون الذين سيكون على تماس طويل معهم فيمثلون لديه امتداداً لعالم الكبار الذي صادفه في أسرته، ومن البديهي أن يستقبلهم الطفل بنفس الشعور العاطفي الذي كوّنه عن ذويه، وإذا ما أظهر له المعلّمون شكلاً آخر من العلاقات، فإن حالاته ومشاعره العاطفية تتبدّل بسرعة، لأنّه يستطيع، بالمقارنة أن يصحح ويعوّض بعض الانطباعات، ويحسن محاكمتها مصححاً بعض الانفعالات أيضاً، ولهذا كان واجب المعلّمين هامّاً جداً إذ إنّهم، بسائق تأثيرهم، إن حسناً وإن رديئاً، سيصلحون أو يفسدون أدَق الانحرافات النفسية عند التلميذ، فإذا أضافوا ظلمهم الجديد إلى مظالم الأسرة مثلاً، دفعوا بخير التلميذ إلى مهاوي النقائص وزجّوه في حمأة الإجرام، بقلبهم غرائزه الاجتماعية، وحمله على رفض قبول العقد الاجتماعي.
إنّ مهنة التربية والتعليم تتطلّب ذوقاً ولطْفاً أكثر ممّا تتطلّب معلومات ومحفوظات من بطون الكتب، ولا يزال التلاميذ في هذه النواحي مفتقرين إلى مَنْ يدرس حياتهم ويفهم مطالبها أكثر ممّا كان حتى الآن.
لقد رأينا كم تعاني التربية من مرض القسْوة، وربّما قلّ وجود حاجز أو سد يستطيع الوقوف في وجه هذا الخطر، وفضلاً عن هذه القسوة الفطريّة، فإن كثيراً من المعلّمين والأساتذة لم يختاروا مهنتهم حبّاً بالطفولة، ولكن كوسيلة للعيش لم يتهيأ لهم أفضل منها، فيتمنّى أحدهم لو تتاح له فرصة النجاح في السياسة، ويحلم آخر لو أنه نال شهادات عالية تخوّله حق التدريس في الجامعة أو في مدارس ثانويّة، ويتّخذ ثالث مهنة التعليم وسيلة لتأمين دراسات أخرى أملاً بالوصول إلى عمل آخر أحبّ لديه من هذه المهنة التي لا يتذوّقها، فجميع هؤلاء يشعرون وهم يمارسون مهنة التعليم، رغم فضلها وقيمتها الاجتماعية، إنّهم إنما يقومون بعمل يحط من قَدْرهم، ولا يتّفق ومواهبهم، وبدلاً من أن يسهّلوا لتلاميذهم فهم الدروس التي يلقونها عليهم، بالاستزادة من شرحها وإيضاحها، فإنّهم يكتفون بعرضها بشكل يثبط هممهم ويُنَفّرهم منها، فيرون أنفسهم أنّهم أمام معلومات غامضة جافّة لا يستطيعون فهمها ولا يستسيغونها، وكثير من الأساتذة في التعليم الثانوي لا يتورّعون في كلّ مناسبة، عن التصريح لطلاّبهم بأنّهم لا يصلحون لشيء وكان من الخير لهم أن ينصرفوا عن التعليم إلى مهنة أخرى بسيطة تتناسب ومقدرتهم لأنّهم بعملهم هذا يسيئون إلى طلاّبهم إساءة كبرى.
ويلاحظ أن بعض المُربّين قد اختاروا مهنتهم دون شعور واضح بالدافع لهذا الاختيار: فلمّا كانت قلوبهم مازالت متعلِّقة بطفولتهم، وجدوا في التعليم وسيلة للبقاء في المدارس وإطالة أمد حياة طفولتهم التي لم يملّوها، غير أنّهم قد أصبحوا الآن مركز الاهتمام بين التلاميذ، وفي الوقت نفسه، السلطة العليا في صفوفهم، كما صاروا مساوين لأساتذتهم القدماء، ولهذا فهم يسعون للاستفادة من الامتيازات التي كانوا يغبطونهم عليها فيما مضى، وكثيراً ما يستغلّون هذه الامتيازات ليظهروا بمظهر الشدّة والقسّوة، تحقيقاً لإصلاح طفولتهم السابقة، فيصبّون على طلاّبهم الحاضرين جام حسدهم القديم لرفاق طفولتهم.
وأمام هذه المحن، لا بدّ للطفل من أحد انفعالين: فهو إما أن يرتضي بنقصه وضِعَتِه، متقبّلاً الإيحاء، ومقرراً عدم صلاحه لأيّ شيء، مُقِرّاً بالفشل الدائم، وهذه تهيئة سيئة، رهيبة للكفاح في سبيل الحياة، وإمّا أن ينفرد ويتمرّد، حاملاً حيال أُستاذه الجاني ضغينة قد يعممها بسهولة أو ينقلها إلى أشخاص آخرين.
وبقدر ما يكون الطفل كبيراً، يستطيع الحكم على الحالات التي تعترض حياته، ويكون لديه السلاح الفعّال لرد الفعل، أما إذا جاء كره الأستاذ جمعياً استطاع التلاميذ البقاء حياله في حالة احترام، بدافع الخوف المشوب بالتوقير، وذلك دليل على انفعالات الأطفال حيال الكبار القادمين، غير أنّهم حالما يكتشفون نقطة ضعف عند أستاذهم المكروه، يأخذون باللّغط والضجيج، وما ضجيج التلاميذ في هذه الحالة إلا ردّ فعل للبغض الجماعي، وهذا لا يحدث إلا عند التلاميذ المشرفين على دور البلوغ، أما الصغار فربّما أظهروا طيشاً وصخباً، ولكنّهم غير قادرين على تلك الحالة العنيفة المبيّتة المنظمة.
الصخب والضجيج خاصّتان من خصائص الذكور، أما البنات فيتضاحكن ويهزأن، ولكنّهنّ لا يصخبْن عادة بأصوات مرتفعة، فالصخب والضجيج لا يتجهان إلا نحو المعلّمين الذين لا يضمرون حبّاً لتلاميذهم، والذين يبدو عليهم، في الوقت نفسه، شيء من دلائل الضعف، قد تختل سلطة الأساتذة حالما يشعرون بمرضٍ ما، أو بانحراف في المزاج، أو عندما يكونون بحالة حزن أو حِداد، أو إذا أصيبوا بما يُعكِّر حياتهم الزوجيّة، كما أن من أهم دواعي اضطراب نفوذ المعلّم تهديده التلاميذ بعقوبات يهملها، أو لا يستطيع تنفيذها، ولا يجب الاعتقاد أن التلاميذ يندفعون بطبيعتهم إلى هذا النوع من رد الفعل في الصخب والضجيج الذي لا يكون غالباً إلا تعبيراً عن حالة من الفشل والقنوط أما عقلية، لأنّ الأستاذ لم يسهّل لهم مهمّتهم، وإمّا عاطفيّة، لأنّهم لم يجدوا فيه السلطة اللطيفة الخيّرة التي هم بحاجة إليها.
وإلى جانب هذا الشغب الذي يبديه التلاميذ نحو معلِّميهم، هناك انفعال عاطفي آخر يظهرونه حيالهم، مشفوعاً باحترام يقارب العبادة، وتأخذ هذه العاطفة عند البنات شكل حب عميق سواء أكان الأستاذ رجلاً أم امرأة، أما عند الصبيان فإنّها عبارة عن إجلال وتعظيم، حتّى أنّهم لَيَتّخذون أستاذهم مثلاً أعلى في كلّ شيء، وفي هذه الحالة فإن الأستاذ يترك في نفوس التلاميذ انطباعات بالغة الأثر في شخصيّاتهم وسلوكهم.
وهكذا فالمدرسة وسط إنساني تنمو فيه استعدادات الطفل للحياة الاجتماعيّة بفضل التجارب الكثيرة والاختبارات التي يشاهدها في مدرسته، ونكرر القول إن هذه التجارب، وهذه القضايا، ضروريّة جداً للنمو النفسي عند الطفل، وإن النجاح يزيد في قوّته، بينما يضعف إخفاقه المتسلسل إمكانيّاته الحيوية، ويدفعه نحو أمراض عصبيّة وخيمة، والتربية لا تعرف كيف تلائم بين الاختبارات ومدارك التلاميذ العقلية والأدبيّة، فتجنّبهم الفشل واليأس، تقوم بعمل عظيم الأهمّية بتهيئتها نشأً قوياً بشخصيّته، وقادراً على تقديم إنتاج كبير، كمية وقيمةً، فتنمية الشخصية وتربيتها، وحماية الطفل من الأمراض العصبية خير بكثير من التربية التعليمية التي تصبّ في أدمغة مشلولة.



المصدر : الباحثون العدد 62 آب 2012
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للحياة, معالجتها, المدرسية, المشاكل, الاجتماعية, الطفل, استعدادات, تنمية, سيكولوجية, وأهمية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع سيكولوجية المشاكل المدرسية وأهمية معالجتها في تنمية استعدادات الطفل للحياة الاجتماعية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
استعدادات عالية للجيش اليمني على مشارف صنعاء عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 06-07-2016 06:03 AM
الاسباب الاقتصادية لظاهرة الفقر وطرق معالجتها Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 07-02-2015 11:20 AM
الأساليب النبوية في تنمية المسؤولية الاجتماعية عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 05-08-2015 07:07 AM
فشل العلمانية في تربية الإنسان وتهذيب سلوكه سبب في كل المشاكل الاجتماعية في الغرب. عبدو خليفة أخبار منوعة 0 05-07-2014 12:54 AM
ملخص بحث بعنوان الأساليب النبوية في تنمية المسئولية الاجتماعية Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 11-22-2012 11:53 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:15 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59