العودة   > >

مقالات وتحليلات مختارة مقالات ..تقارير صحفية .. تحليلات وآراء ، مقابلات صحفية منقولة من مختلف المصادر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #92  
قديم 10-12-2014, 08:03 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة الليبراليون عدو قديم

الليبراليون عدو قديم
ــــــــــ

(د. أحمد إبراهيم خضر)
ــــــــــــ

18 / 12 / 1435 هــ
12 / 10 / 2014 م
ــــــــــــ




الليبراليون عدو قديم: معاد للشريعة، وللإسلاميِّين، وللأنظمة
قراءة في تقرير قدَّمه الليبراليون للأمريكيِّين

بعيدًا عن اختلاف الموسوعات، والمعاجِم، والقواميس في تعريفِ وتحديدِ المقصود بـ"الليبراليين"، فإنَّ المفكِّرين الإسلاميِّين انتهَوْا إلى تعريف محدَّد وواضح لهذه الفِئة من الناس، يصف هذا التعريف الليبراليِّين بأنهم:
"جيش جرَّار من العملاء، مدَمَّرُ الظاهر والباطن، لا يستطيع أن يدرك حقيقةَ التلف الذي وقع في بنائه وتكوينه، يُعِدُّ نفسه لقيادة هذه الأمَّة، متوهمًا أنه يفكر لها، ويعمل على إصلاحها والنهوض بها، إنَّه جيل يتمثَّل في صورة أساتذة، وفلاسفة، ودكاترة، وباحثين، وأحيانًا كتَّاب، وشعراء، وفنانين، وصحفيِّين، يحملون أسماءً إسلامية.

يقوم هذا الجيش بمهمَّة خَلْخلة العقيدة في النفوس بشتَّى الأساليب، في صورة بحث وعلم، وأدب وفن وصحافة، وتوهين قواعد هذه العقيدة مِن الأساس، والتهوين مِن شأن العقيدة والشريعة على السواء، وتأويلها وتحميلها ما لا تُطيق، والدق المتَّصل على رجعيتها، والدعوة للتفلُّتِ منها، وإبعادها عن مجالات الحياة، وابتداع تصوُّرات، ومُثُل، وقواعد للشُّعور والسلوك، تناقض وتحطِّم أسس العقيدة ذاتها، كما تقوم بتزيين تلك التصوُّرات المبتدعة بقَدْر تشويه أمور العقيدة، كما تقوم بالدعوة إلى إطلاق الشهوات، وسَحْق القاعدة الخُلُقية التي تقوم عليها هذه العقيدة، بالإضافة إلى تشويه التاريخ، وتشويه النصوص".

هناك سِمتان أساسيتان يصِف بهما هذا التعريف حقيقةَ الليبراليِّين:
السمة الأولى: عداؤهم للشريعة وللمنادين بتطبيقها.
والسمة الثانية: عمالتهم لأعداء هذه الشريعة في الغَرْب الذين يصفونها:
بـ"القسوة والوحشية، والعنصرية والبربرية، واستعْباد المرأة، والانتقاص مِن قدْرها، وضرْب الزوجات، وزواج الأطفال، وعدم التسامح مع غير المسلمين، ورفْض حرية العقيدة وحرية التعبير..... ورفْض الشذوذ الجنسي، ورفض أي هجوم على الإسلام، أو حتى الارتداد عنه لِمَن دخَل فيه".

في مايو من عام 2006 كتَبت الدكتورة "هالة مصطفى" رئيسة تحرير Al-Ahrams political quarterly، Democratic Review. مقالاً بعنوان "سياسة تحفيز الديموقراطية الليبرالية في مصر"، نشر هذا المقال في سلسلة White Paper التابعة لِمَا يُعرف بمؤسسة الدِّفاع عن الديموقراطية FDD، ومقرها واشنطن العاصمة، تصَدَّر المقالَ عنوانٌ يقول "أصوات من الشرق الأوسط تُطالب بالديموقراطية والإصلاح".

جاء في تقديم الـ FDD لهذا المقال ما نصُّه: "هناك جَدلٌ نشط في دوائر صنع القرار الأمريكيَّة حولَ الحِكمة، ومدى الفاعلية في العمل على تعزيز الديموقراطية في الشَّرْق الأوسط، كسِلاح طويل المدى في الحرب ضد "الإسلام المتشدِّد"، ونحن نسعى في هذه السِّلسلة إلى أن نطرحَ للنقاش أصوات هؤلاء الذين يمثِّلون الجبهة الأمامية لنشْر الديموقراطية، وغيرهم من النُّشطاء المدنيِّين، والمثقَّفين المنشقِّين، وقادة المعارضة، ترى الدكتورة "هالة مصطفى" في المقال الذي تحت أيدينا أنَّ الولايات المتحدة تركِّز على وجود صِراع بيْن الإسلاميِّين، وبيْن ما يُسمَّى بأنظمة الحُكم التسلطية، وأنَّ الولايات المتحدة اختارتِ الوقوف إلى جانب هذه الأنظمة ضدَّ الإسلاميِّين، هذا الاختيار في نظر "هالة مصطفى" اختيار خاطئ؛ ولهذا فهي ترى أنَّ على السياسة الأمريكية التي تحثُّ على نشْر الديموقراطية أن تبحثَ في التمهيد لطريق ثالِث يعمل على تقوية الليبراليِّين الديموقراطيِّين، وليس التركيز فقط على العملية الديموقراطية.

قدم الليبراليُّون للأمريكيِّين كل ما لديهم من أسباب؛ لكي يقنعوا الأمريكيِّين بالوقوف إلى جانبهم بدلاً من التركيز فقط على تشجيعِ الاتجاه نحوَ الديموقراطية، ولعلَّ أقوى هذه الأسباب هي نظرتُهم إلى العلاقة بين الأنظِمة الحاكمة والإسلاميِّين على أنها منافِسة على الأرضية الإسلاميَّة، وتقاسم السلطة، ومِن ثم تزيد من مخاوفِ الأمريكيِّين، وتدعوهم إلى تمكينهم، ومِن ثم الاعتماد عليهم لا على الأنظمة.

كانت أهم الأسباب التي استند إليها الليبراليُّون العرب في حثِّ الأمريكيِّين على ذلك الآتي:
1- أنَّ الخطوات التي اتخذَها الغرب نحوَ تعزيز الديموقراطية والإصْلاح في دول الشَّرْق الأوسط هي خُطُواتٌ محدودة حقَّقت نتائجَ قليلةَ الفاعلية، وكانت في مجملها مجرَّدَ أشكال تجميليَّة أكثرَ منها خُطوات فعلية، تحقِّق الإصلاح السياسي المنشود.

2- أنَّ أنظمة الحُكم القائمة تشجِّع النظرة القائلة بأنَّ البديل الوحيد لنظام الحُكم القائم هو النظام الإسلامي، وأنَّ مصير البلاد يتوقَّف على الصِّراعِ بين هذين القُطبين، إنَّ هذه النظرةَ القطبية كما يتصوَّر الليبراليُّون لا تفسح مجالاً للقُوى الليبرالية والعلمانية بأنْ تشغل أي موقع يشكِّل أهمية في هذا الصِّراع.

3- هناك بعضُ دول العالم العربي لا تمثِّل مجتمعًا متجانسًا بسبب الانقسامات الطائفية والاثنية، ممَّا يحول بيْنها وبيْن نشْر الديموقراطية، لكنَّ هناك دولاً عربية أخرى تتمتَّع بإرْث ليبرالي – علماني خاص، يجعل منها نموذجًا لدولة علمانية ليبرالية عصرية معتدلة، تُشكِّل أساسًا للعملية الديموقراطية، التي تسعى إليها الولايات المتحدة.

يعتمد هذا الإرث العلماني - الليبرالي على بُروزِ شخصيات أسهمتْ في تحديث هذه البلاد بتأكيدها على أهميةِ القانون والنِّظام، واستقلال القضاء، والتأكيد على الهُويَّة القومية في مواجهة الهُويَّة الدينية والقبلية، وكذلك التأكيدُ على الحرية الفردية، والحريات العامَّة، وحريَّة الصحافة، والتعليم العام، وحقوق المرأة، والتعدديَّة السياسية، والحَركات النقابية.

حقَّقتْ هذه الدول الأخيرة ليس التحديث والليبرالية السياسية فقط، ولكنَّها حقَّقتْ إلى جانب ذلك تقدمًا ثقافيًّا في الفنون، والسينما، والموسيقا، كما تتميَّز هذه البلادُ بأنَّ الكثيرين من قادة هذا التقدُّمِ كانوا ذوي خلفية دِينية، لها مكانتُها في المجتمع، عمِل هؤلاء القادة الدِّينيون على نشْرِ سُبُل التجديد والإصلاح الدِّيني، وساند بعضُهم فِكرة الدولة العلمانية.

4- لم تكن لدَى العسكريِّين الذين وصلوا إلى السُّلطة في بعض هذه البلاد أَجندة سياسية خاصَّة بهم؛ ولهذا أخذوا البلاد بعيدًا عن كل المبادئ الليبرالية، وتبنَّوْا أيديولوجية مضادَّة لها، جمعوا فيها بيْن الإيديولوجيات الاشتراكية، والشعبية، والإسلامية، والقومية العربية؛ وذلك عملاً على تدعيم شرعيَّتهم، ولتأكيد هذه الشرعية حظَرُوا قيام الأحزاب السياسية، وتبنَّوا فكرة الحزب الواحد، الذي تدعمه آلة أمْن قوية، اعتمد تجنيد الصفوة السياسية في هذه البلاد على مبدأِ الولاءِ أكثرَ مِن مبدأ الجدارة، كما اعتمدتِ السياسة الخارجية فيها على محارَبةِ العدوِّ الخارجي ضمانًا لشرعية النِّظام أيضًا، هذا بالإضافة إلى الرِّقابة القوية على الإعلام، بحيث لا يُسمَح بحرية التعبير، أو تعدُّد الآراء.

5- لم يكن دافِع سياسة الانفتاح النسبيَّة التي أخذتْ بها بعضُ دول الشرق الأوسط هو الالتزامَ بالمبادئ الليبرالية، وبذلك لا تُعتبَر موافقتها على تأسيس أحزاب أخرى غير الحِزب الحاكم انفتاحًا حقيقيًّا؛ لأنَّ دورَ هذه الأحزاب في العملية السياسية ليس إلا مجرَّدَ عملية تجميليَّة لوجه النظام.

6- تؤكِّد بعضُ الدساتير في البلاد العربية على أنَّ الإسلام هو المصدرُ الأساس للتشريع، في الوقت الذي تحظُر فيه إنشاءَ أي حزب أو برنامج حزبي علماني، هذا التأكيد وإنْ كان براجماتيًّا، فإنَّه يعني أنَّ النظام لا يعطي اهتمامًا كبيرًا لإصلاحات بنائية عميقة هامَّة، ومِن ثَم يُعتبر هذا الانفتاح استثناءً في سياسة النظام.

7- الصُّعود الثابت للقُوى الإسلامية هو ناتِج طبيعي لركود الحياة السياسية، ووجود تشريعات تُقيِّد تأسيسَ أحزاب سياسية علمانية ليبرالية، هذا الركود وهذا القَيْد يجعل من المسجدِ الممرَّ الوحيد الممكن للتعبير عن الآراء السياسية، ومعارضة النِّظام، مما يعني أنَّ العلاقة بيْن النظام والإسلاميِّين ما هي إلا منافسة على الأرضية الإسلاميَّة إلى حدٍّ كبير، فالنظام وإنْ لم يعترف قانونًا بالإسلاميِّين، فإنَّه يقوم بعمليات أسْلَمة متزايدة في سياسته على حِساب فئات أخرى، منها وضعُه قيودًا على حرية الفِكْر والإبداع، التي تتناقض مع مبادئ الإسلام، كما يُشجِّع النظام الإسلاميِّين على التعبير عن المبادئ الإسلامية في أجهزة الإعلام، ويحظُر على الليبراليِّين ذلك.

كما يسمح النِّظامُ للإسلاميِّين بدخول الانتخابات تحتَ مسميات غير حِزبية، فيحتلُّون - بناءً على ذلك - مقاعدَ في البرلمان، ويُسمح لهم كذلك بالترشيح لانتخابات النِّقابات المهنية، والقصد من ذلك كلِّه بيانُ وجود اتفاق سياسي صامِت بيْن الإسلاميِّين والنِّظام على حساب الليبراليِّين.

8- هذا الصِّراعُ بيْن النظام والإسلاميِّين على الأرضية الإسلامية جعَل مِن الصعب على المحلِّلين والمراقبين تثمينَ القوة الفِعلية للإسلاميِّين، وتقدير حجْمها، طالما أنَّ التنظيمات الإسلامية لا تكشف عن عدد أعضائها، فأصبح مِن الصعْب الوقوفُ على حقيقة الجِهة التي تقف وراء النموِّ المتزايد في اتجاه المجتمع نحوَ الأسلمة، هل هو النِّظام أم التنظيمات الإسلامية.

هناك نموٌّ متزايد للمساجد، هناك زِيادة ملحوظة في أعداد المنتقِبات، هناك حظْر لشُرْب الكحوليَّات في بعض المناطق الشعبية، هناك لجوء للخطاب الدِّيني من قِبل الدولة، لمَن يُنسَب كل هذا: للنِّظام أم للإسلاميِّين، هناك أيضًا عدم فاعلية في التوجُّه نحو الديموقراطية تتمثَّل في نقْص المشاركة السياسية.

هناك أغلبيةٌ صامِتة، لكن من غير المعروف لمَن تنتمي، فإذا قيل: إنَّ الإسلام يمثِّل أقوى القوى السياسية في البلاد، كما يظهر في بعضِ الأحيان، فإنَّ هذا يعني أنَّ المسرح السياسي يكون قد تغيَّر تمامًا لصالحهم.

9- طرَح الليبراليُّون هذا السؤال على الأمريكيِّين: هل تؤدِّي مشاركة الإسلاميِّين في السياسة بالضرورة إلى التقليل مِن الاتجاه نحوَ التشدُّد والدعوة إلى الجهاد؟ أجاب الليبراليُّون: لا، بالتأكيد؛ لقد أثبتت التجارِب في الماضي صحَّةَ هذه الإجابة.

إنه مِن غير المحتمل أن يؤدِّي الاعتراف القانوني بالتنظيمات الإسلامية إلى التقليل مِن الاتجاه نحوَ الإرهاب والعُنف المسلَّح، العكس هو الصحيح، إنَّ هذا الاعترافَ من شأنه أن يقدِّم أرضًا خصبة لنموِّ التنظيمات الإسلامية، سواء أكانتْ عنيفةً أم غير عنيفة.

إنَّه يجب أن يُنظر إلى دخول الإسلاميِّين إلى الحياة السياسية على المدَى الطويل، وليس على المدى القصير، وتمثِّل التجرِبةُ التركية نموذجًا طيبًا هنا، فقد كان تكامُل الإسلاميِّين في الحياة السياسية ممكنًا؛ لأنَّ الدولة التركية دولةٌ حيادية تُجاهَ الدين، الدستور فيها علماني، ويُعتبَر صمام أمْن ضد محاولات حِزب العدالة تحويلَ الدولة إلى دولة أوتوقراطية، هذا بالإضافة إلى حِماية الجيش لعلمانية الدولة وللنِّظام العلماني، الذي أسَّسه أتاتورك.

إنَّ هذا الأمر لا يتوافَرُ لدول العالَم العربي، حيث لا تتصرَّف المؤسَّسة العسكرية كحارسٍ للعلمانية.

10- السَّماح للإسلاميِّين بالتكامل مع الحياة السياسية يتوقَّف على إعادتهم النظرَ في واحد من أهمِّ مبادئهم السياسية، وهو اعتبارهم الشريعةَ المصدرَ الرئيس للتشريع، وعليهم قَبول مبدأ أن تكون الشريعة أحدَ مصادر التشريع، أو مصدرًا أساسيًّا، وليس المصدر الوحيد، وإلا فلن يكونَ الإسلاميُّون قادرين على التعايش مع الجماعات العلمانية والليبرالية.

وقد يُمكن القول بأنَّ الإسلاميِّين - كحركة سياسية - قد يَقْبلون التفاوض حولَ هذا المبدأ الذي يدور حولَ التعديل المقترَح بأن تكون الشريعةُ أحدَ مصادر التشريع في حالةِ ما إذا كان قَبول ذلك موصلاً إلى اعتراف دولي بهم، ومن هنا تكون الخُطوة الأساس التي تمهِّد الطريق لتأسيس نِظام ليبرالي علماني - في نظر الليبراليِّين - هي إجراء تعديل دستوري يقلِّص دورَ الشريعة في النِّظام السياسي. إنَّ مثل هذا التقليص سوف يضمنُ حيادية الدولة، ومِن ثَمَّ يكون الدستور أكثرَ ملائمة للحدِّ مِن أسلمة الدولة والمجتمع، وستكون هناك فرصةٌ للتنوع الفكري والسياسي.

11- يرَى الليبراليُّون أنَّه على النقيض من العلاقة المتبادلة بيْن الأنظمة والإسلاميِّين، ووضوح أنَّ الخلاف بينهما هو على تقاسُمِ السلطة، وليس على الأيديولوجية، فإنَّ سِمة الصِّراع بيْن الأنظمة والليبراليِّين هو أنه صراع أيديولوجي عميق؛ بمعنى: أنَّ الصِّراع بيْن الأنظمة والليبراليِّين هو أكثرُ ضراوةً من الصِّراع بين الأنظمة والإسلاميين، فالأنظمة تتحالَف براجماتيًّا مع الإسلاميين، وتعتمد على المبادئ الإسلامية كتعويضٍ لافتقارها إلى تبنِّي أيديولوجية واضحة المعالِم.

12- يرى الليبراليون أنَّ الأنظمة تُقصي عمدًا أصحابَ الفكر الليبرالي من مثقَّفين وأكاديميِّين وغيرهم مِن الحياة السياسية، باستثناء جماعةٍ صغيرة من رجال الأعمال، تستفيد الأنظمةُ منها في الجانب الاقتصادي، لكنَّ النِّظام يشترط على هذه الجماعة عدمَ تحدِّي أساس النظام القائم، وعدم إجراء أي تغييرات بما فيها السياسة الاقتصادية للنِّظام، وبسبب هذه الشروط المقيّدة لحركة هذه الجماعة، لم تتمكَّن هذه الجماعةُ من صنع أي إسهام في مجالات الإصلاح الاقتصادي والسياسي معًا.

هذه هي الأسباب التي اعتمَدَ عليها الليبراليُّون لإقناع الولايات المتحدة للقيام بدَوْر فعَّال في مساندتهم، لم يكتفِ الليبراليون بتقديم هذه الأسباب، لكنَّهم قاموا بتقديم تصوُّرٍ للأمريكيين يساعدهم على تحقيقِ ما يُسمَّى بالإصلاح السياسي الحقيقي في البلاد، ويقوم هذا التصوُّرُ على مطالبة الولايات المتحدة بتعديل أولوياتها عندَ التعامل مع الأنظمة؛ بمعنى: أنَّ عليها أن تُعطي أسبقية للإصلاح السياسي على اهتماماتها بالاقتصاد والتجارة، والتعاون المخابراتي في مجال مكافَحة الإرهاب.

وعلى الولايات المتحدة أيضًا أن تُعيدَ النظر في مدخلها التقليدي؛ لتشجيع الديموقراطية في بلاد الشَّرْق الأوسط الذي يقوم على قُطبين هما: مساندة المجتمع المدني، ودفْع النِّظام إلى انتخابات حرَّة وعادلة.

لقد أثبتتِ التجرِبة - كما يرى الليبراليُّون - أنَّ الاعتماد على هاتين الإستراتيجيتَيْن لم يحقِّق إلا نتائج محدودة جدًّا على المستوى العملي، وأنَّه قد يصلُح لبعض الدول في الشرق الأوسط دون الأخرى، كما يتجاهل هذا المدخل الدور المركزي الضابط للدولة، وتدخل آلة الأمْن في الحياة السياسية، وهذا مِن شأنه أن يحولَ دون قيادةِ نشطاء المجتمع المدني لعملية إصلاحٍ سياسي في الداخل. كما أنَّ اختزال العملية الديموقراطية في صناديق الاقتراع يُمكِّن قوةً سياسيةً واحدة - وهي القوة الإسلاميَّة - من تحقيقِ مكاسبَ على حساب القوى الليبرالية؛ وذلك بسبب القيود الصارِمة التي يفرِضها النظامُ على الجماعات السياسية العلمانية والليبرالية.

يبدأ المدخلُ الصحيح في نظَر الليبراليِّين بالضغط المباشِر على الأنظمة بقَبول "لبرلة" النِّظام السياسي والإعلام، وإنْ لم يتحقَّق ذلك، فستظلُّ جهود الولايات المتحدة والمجتمع الدولي محدودةً، وسوف يتمُّ سحْق عملية الإصلاح، وخسارة المكاسب الليبرالية.

إنَّ إستراتيجية الولايات المتحدة يجب أن تركِّزَ على تقوية الليبراليِّين الديموقراطيِّين، وليس فقط على العملية السياسية، وذلك بالتركيز على الأسبقيات الآتية:
أولاً: ضرورة تعديل الدُّستور بإلْغاء المادة التي تنصُّ على أنَّ الشريعة الإسلاميَّة هي المصدرُ الوحيد للتشريع، وإدخال موادَّ أخرى في الدستور تجعله متشبِّعًا برُوح المبادئ العلمانية، والليبرالية والتعددية.

ثانيًا: يجب تغيير موادِّ قانون الأحزاب، والأنشطة السياسية، وأنشطة المجتمع المدني، بحيث تسمح للأحزاب الليبرالية والعلمانية التي تحمِل أفكارًا مخالِفة لأفكار الأحزاب القائمة بالوجود، حتى وإنْ لم يكن لها أيُّ رصيد شعبي؛ ولهذا يجب السماحُ لهذه الأفكار بأن تُحقَن في جسَد الشعب؛ حتى لا تكون السيطرةُ للإسلاميين وغيرِهم كاملة عليه.

ثالثًا: يجب على الولايات المتحدة أن تضغطَ على الأنظمة بتغيير سياساتها، بحيث يُسمَح للقيادات الليبرالية بالوجُودِ في المناصِب الحكومية والإعلامية، حتى تتمكنَ هذه القيادات من تحقيق وإنجاز عملية الإصلاح المنشودة، وكذلك مِن تحديث الخِطاب السياسي، وإيجاد إطارٍ سياسي قادِر على استيعاب التحوُّلاتِ الديموقراطية.

لقد ضغطتِ الولاياتُ المتحدة لعدَّة سنوات على الأنظمة العربية بإجراءِ إصلاحات اقتصادية في الحكومة، لكنَّها لم تقمْ بهذا الضغط من أجْل الإصلاح السياسي، ومِن ثَمَّ لم تُتحِ الفرصة لاحتمالات حقيقية تدفع عمليةَ الإصلاح إلى الأمام.

رابعًا: يجب أن تحثَّ الولاياتُ المتحدة الأنظمةَ على الانفتاح و"لبرلة الإعلام"، وذلك بالسماح بوجود مساحة أكبرَ لوِجهات النظر المعارضة في الصحافة، ووسائل الاتصال الأُخرى.

إنَّ سياسة خصْخَصة الإعلام ليستْ هي الحلَّ *****ي، ربما يكون ذلك صحيحًا على المدى الطويل، أمَّا بالنسبة للمدى القصير، فيجب "لبرلة" كلِّ وسائل الاتصال؛ لأنَّ هذا القطاعَ هو أكبر القطاعات تأثيرًا على توجيه الرأي العام، وما لم تؤخذْ هذه الخُطوةُ، فإنَّ الإعلام الحالي سيدعم الوضعَ القائم، ويظل يعكس دائمًا الصوت الأحادي.

خامسًا: يجب أن تستمرَّ الولايات المتحدة في سياسة تمكين المرأة، وأن تضغطَ على الأنظمة بالسَّماح للمرأة بأن تشغلَ مناصبَ أساسية في دوائرِ وقياداتِ البناء السياسي الأساسي، ودوائر صُنْع القرار، وأن تسنَّ قوانين جديدة تسمح بنِسبة تمثيلٍ عالية للنساء في المؤسَّسات الحكومية والإعلام المملوكة للدولة، وفي مجالس الإدارات وفي البرلمان.

إنَّ تمكينَ المرأة وَفقَ هذه السياسة سيقف في وجه "المتشدِّدين" الإسلاميِّين، ويحول بيْنهم وبيْن كسْب أرضية واسعة في البلاد.

سادسًا: يجب الضغط على الأنظِمة بتحجيم تدخُّل آلة الأمْن التابعة له في الحياة السياسية.

الخُلاصة هي أنَّ هذا المشروع الليبرالي يحاول إقناعَ الولايات المتحدة بأنَّ تشجيعَها ومساندتها للأفكار وللقيادات الليبرالية في توسيع دَوْرها في الحياة السياسية، سوف يؤدِّي إلى تغيير الوضع السياسي الداخلي في البلاد، كما سيؤدِّي أيضًا إلى ظهور نموذج معتدل في المنطقة، يصلح أن يكونَ حجرَ زاوية في ظهور بِيئة منفتِحة، معتدلة مستقرَّة، تسمح للولايات المتحدة بنشْر الديموقراطية في المنطقة وحلِّ مشاكلها.

هذا المشروع الليبرالي - في تصوُّرِنا - علامةٌ واضحة على فشَل الليبراليِّين في تحقيق مكاسبَ في أرض يشكل الإسلامُ الحجرَ الأساس فيها، كما يدلُّ أيضًا على عقم الفِكر الليبرالي إذا ما قُورن بتنوُّع الفكر الإسلامي، حتى في مسألة المشاركة في العمل السياسي.

المشاركة الحالية للإسلاميِّين في الحياة السياسية تمثِّل جانبًا واحدًا من الفكر الإسلامي المتعلِّق بعملية المشاركة هذه، فهذا الجانب الذي قبل هذه المشاركة يَتبنَّى فِكرة جواز حُكم المشاركة في المجالس النيابية والوزارة، وإنْ كان البعض يعتقد أيضًا بأنَّ الأصل الذي تدلُّ عليه النصوص الصريحة في المشاركة في الحُكم هو عدم الجواز.

لكنَّ هناك قطاعًا آخرَ من الإسلاميِّين يعترض على فِكرة المشاركة في العمل السياسي أصلاً، ويرى أنَّ هذه المشاركة "عبَث لا يؤدِّي إلى نتيجة، وتفكير ساذج مهمَا كانت مبرراته، وينطوي على مزالقَ خطيرةٍ تصيب الدعوة في الصميم، وتعوقها كثيرًا بالرغم مما يبدو لأوَّلِ وَهْلة أنَّ هذه المشاركة تمكِّن للدعوة، وتعجِّل لها الخطوات".

عدَّد هؤلاء المعارضون المزالقَ العقدية المترتبة على هذه المشاركة، وكذلك المزالق السياسية كمزالقِ الوقوع في اللعْبة السياسية وغيرها، يقول أصحاب هذا الرأي: "لو افترضْنَا جدلاً أنَّ الإسلاميِّين توصَّلوا إلى تشكيل برلمان مسلِم مائة في المائة، يطالب كلُّ أعضائه بتحكيم شريعة الله، فإنَّ هذا البرلمان لن يستطيعَ أن يفعل شيئًا بدون قاعدة مسلِمة، وأنه يمكن لانقلابٍ عسكري أن يحلَّ البرلمان، ويقبض على أعضائه، فيودِعهم جميعًا في السجون والمعتقلات، وينتهي كلُّ شيء في لحظات".

ويقول معارِضون آخرون لهذه المشاركة أيضًا: "إنَّ مشاركةَ الإسلاميِّين في العملية السياسية تترُك مفاسدَ كثيرة، وتوقِع الجماهير العريضة في الحَيْرة والتضليل، والالتباس والشك والإحراج، وتُعتبر دليلاً على شرعية الأنظِمة التي تتبنَّى القوانين الوضعية".

هذا بالإضافةِ إلى أنَّ مَن يعارضون فكرةَ المشاركة في العملية السياسية يستندون إلى أنَّه لا فائدةَ من محاولة إقناع البرلمان بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، ودليلهم في ذلك آخِرُ كلمات أحدِ نوَّاب البرلمان الذين بذلُوا جهدًا مضنيًا لإقرار هذه القوانين، وهذا نصها:

"يا حضراتِ النواب المحترمين، لستُ عابدَ منصب، ولستُ حريصًا على كرسيٍّ لذاته، ولقد كان شعاري مع أهل دائرتي" أعطني صوتَك لنصلح الدنيا بالدِّين"، وكنت أظنُّ أنه يكفي لإدراك هذه الغاية أن تُقدَّم مشروعات القوانين الإسلامية لكنه تراءى لي أن مجلسنا هذا لا يرى لله حكمًا إلا مِن خلال الأهواء الحِزْبية، وهيهاتَ أن تسمحَ بأن تكونَ كلمةُ الله هي العليا..... لقد وجدت طريقي بينكم إلى هذه الغاية مسدودًا؛ لذلك أُعلِن استقالتي مِن البرلمان غيرَ آسِف على عضويته"، انصرف النائب العالِم إلى داره في أبريل 1981، ورُفعت الجلسة، رحَل النائب العام عن البرلمان، ثم رحَل عن هذه الدنيا كلِّها بعدَ ذلك بعدة سنوات، وبقي البرلمان يقضي ويشرع، وينفذ بغير ما أنزل الله".

هذا مِن ناحية عُقْم الفِكر الليبرالي وعجْزه، حتى عن مجرَّد فهْم أبعاد مشاركة الإسلاميِّين في العمل السياسي.

يُضاف إلى ذلك أنَّ المشروع الليبرالي المرفوع إلى الأمريكيِّين يُعاني من نقص معرفي حادٍّ، وعدم دراسة أو بحْث أو متابعة آخِر ما انتهى إليه الأمريكيُّون في تعاملهم مع ما أسماه الأمريكيُّون بـ"الأصولية الإسلامية والتطرُّف الإسلامي"، ومن ثَمَّ - كما نتصوَّر - لن يكون هذا المشروع المعروض أمامَ الأمريكيِّين سوى تقرير أخير بالعَجْز والفشَل، وعدم الدراية لهؤلاء الليبراليِّين، فهو لن يُضيف إلى الأمريكيِّين جديدًا، وإنَّما يجعل من الليبراليِّين أداةً ودُمية يستفيدون منها في الوقت المناسِب كعادتهم دائمًا.

منذ ربع قرْن مضى - وبالتحديد في 24 يوليو 1985 - بدأتْ جلسات استماع للجنة الفرعية لشؤون أوربا والشَّرْق الأوسط، وهي اللجنة المنبثِقة من لجنة الشؤون الخارجية التابِعة للكونجرس الأمريكي برئاسة (لي هاميلتون)؛ لمناقشة ما أسماه الأمريكيُّون بحركة الأصولية الإسلامية والتطرُّف الإسلامي.

استعانت اللجنة بلفيفٍ من الخبراء والمختصِّين في شؤون الإسلام والمسلمين، من هؤلاء الخبراء والمختصِّين: "هيرمان إليتز" أستاذ العَلاقات الدولية بجامعة بوسطن، والسفير السابق للولايات المتحدة في عِدَّة دول خليجية، و"شاروخ آخافي" أستاذ السياسة والدِّراسات الدولية في جامعة جنوب كارولينا، و"جون سبوسيتو" أستاذ الدِّراسات الدِّينية بكلية الصليب المقدَّس بوروسستر، و"أغسطس نورتون" الأستاذ في الأكاديمية العسكريَّة الأمريكيَّة، وآخرون، وننقُل هنا بعضَ فِقرات لما قاله "أغسطس نورتون"؛ لنبيِّنَ منها أن ما جاء به الليبراليُّون العرب للأمريكيِّين لا يُعتبر جديدًا عليهم.

يقول "نورتون" في تقريره الذي قدَّمه للجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأمريكي: "إنَّ المشاركة السياسية في شكْل انتخابات، أو استفتاءات عامَّة زائفة، وهي في الغالب عمليةُ استعراض أكثرَ منها كشيءٍ حقيقي...".

"... إنَّه مما يلفِتُ الانتباه بوجه خاص هو هذه البراجماتية، التي تُميِّز العديد من الحركات الإسلامية في الوقت الذي تُصِرُّ فيه هذه الحركات أنها صاحبة مبدأ.....".

"إنَّ الإسلام مثله مثل أي (أيديولوجية) أُخرى سياسية، هو موضع للاستخدام والاستغلال مِن قِبل السياسيِّين أيًّا كانت هُويتهم، سواء أكانوا رِجالَ دِين، أم ضبَّاط جيش سابقين، إنَّهم جميعًا يتنافسون لملءِ هذه الرمزية الإسلامية، سواء بأسلوب فعَّال أو غير فعَّال".

"إنَّ الإسلام جزءٌ لا يتجزأ من ثقافة الشَّرْق الأوسط، وهو بالنسبة للمسلمين مظهرٌ متجدِّد لمصداقية ولُغة معتادة للتظاهر، والفعل السياسي، والإسلام على عكس الشيوعية والليبرالية والاشتراكية، لم يفسد لارتباطِه بالغرب، فما زالتِ المنطقة تهاجِم الغرب، وتتهم أفعالَه في الماضي والحاضر بأنَّها أفعال إمبريالية".

الدليل الثاني على النقص المعرفي الحاد الذي يتمتَّع به الليبراليُّون العرب، هو أنَّ عداءهم للشريعة أعماهم عن الوقوف على كلِّ جوانب الموقف الأمريكي من هذه الشريعة، فعلى خلافِ هذا الهجوم الحادِّ على الشريعة الذي أشرْنا إليه سابقًا، هناك جانبٌ آخر يمثله واحدٌ من أرْفع المسؤولين الأمريكيِّين الذي كان يشغل منصبَ نائب رئيس المجلس القومي للمخابرات، وهو "جراهام فوللر".

يقول "فوللر" مثنيًا على الشريعة: "على عكس المسيحيَّة اعتنَى الإسلام منذ أن بدأ بالسياسة والحُكم، وقد وجَّه المسلمون بدءًا من حياة النبيِّ محمد (صلَّى الله عليه وسلَّم) اهتمامَهم إلى مبادئ الحياة المجتمعية المحليَّة، والعدالة، والإدارة، والعَلاقات مع غير المسلمين، والدِّفاع، والسياسة الخارجية، وما مِن شأنه أن يحقق الحُكم الصالح، والقانون العادل، والمجتمع العادل، لقد أتى النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) ليس بغرَض الحِفاظ على الوضْع القائم، ولكن لكي يصلح ويغيِّر.

المرأة على سبيل المثال أُعطيت مركزًا قانونيًّا لم تكن تحظَى به مِن قبل، بالإضافة إلى حماية قويَّة لها من قِبل المجتمع"، وهو اعتراف يدحض كلَّ آراء أعداء الشريعة، سواء أكانوا من الأمريكيِّين الآخرين، أو من الليبراليِّين العرب.

وهناك دليل ثالث آخَرُ لا يدل فقط على النقْص المعرفي الحاد عندَ الليبراليِّين، ولكنَّه يدل على مكابرتهم وإصرارِهم على الدخول في معاركَ مع الإسلام، أثبتوا هم أنفسُهم عجزَهم فيها.

لقد سبَق أنِ اعترف الليبراليُّون على لسان "سامي خشبة" بالآتي:
أولاً: أنَّهم كانـوا يتخـبَّطون في مساراتهم بسبب انبهارِهم بالنماذج الغَرْبية المتناقِضة، ومنها الماركسية، وما انبثق عنها مِن فكر وتطبيق.
ثانيًا: أن تصوُّراتِهم الفكرية عن الواقع الإسلامي للمجتمع لم تكن ناضجةً قبل الثمانينيات؛ أي: فـي الفـتـرة التي بدأتْ فيها الصحوة الإسلامية تترك بصماتِها بوضوح على الأصعِدة السياسية والاجتماعية والثقافية.
ثالثًا: أنَّ الواقع الإسلامي للمجتمع يمثِّل كيانًا ثقافيًّا واجتماعيًّا خاصًّا ومتميزًا، وله تاريخُه الخاص والمتميِّز، وهو نفْس ما توصَّل إليه "نورتون"، وقدَّمه في تقريره إلى الكونجرس الأمريكي - كما أشرْنَا سابقًا.

هذه الحقائق التي أقرَّ بها الليبراليُّون - وعلى رأسها: إقرارُهم بخصوصية المجتمع المسلم - لم تُفدْهم في شيء، فهم لا يزالون يتخبَّطون في مساراتهم بيْن منجزات الفِكر الغربي؛ بدليل اعترافهم في فترة سابقة بافتتانهم بالتيارات النقدية الغربية، وإنْ أضافوا إليها بما اعتقدوا أنَّه منجزاتهم النقدية الخاصَّة، ومنجزات شعوب الثقافات الأخرى، ومِن ثَمَّ تظلُّ تصوراتهم الفكريَّة عن الواقع الإسلامي للمجتمع غيرَ ناضجة، خاصَّة وأنها محاطةٌ بسِياج عدائي مسلَّح، يمتلك كلَّ سُبل الضبط والتأثير، وسِياج عدائي آخرَ يمثله الليبراليُّون أنفسهم، الذين يرون في هذا الواقع تهديدًا لوجودهم وكيانهم، ومراكزهم ومصالحهم وشهواتهم.

الدليل الرابع على هذا النَّقْص المعرفي الحادِّ الذي يتمتَّع به الليبراليُّون: هو عدم درايتهم بآخِر ما قام به الغربيُّون من تقويم لمعركتهم مع الإسلام.

"دافيد سيلبورنى" كتَب مؤلفًا بعنوان "المعركة الخاسِرة مع الإسلام"، ثم كتَب مقالةً قصيرة في مجلة "التايمز" بعنوان "هل يستطيع الغربُ أن يُوقِف التهديد الإسلامي؟"، أو يَهْزِمه بمعنى أصح، حدَّد "سيلبورني" عشرة أسباب رأى فيها أنَّ هزيمة الغَرْب للإسلام أمرٌ غير ممكن.

حصَرْنا هذه الأسباب العشرة عند "سيلبورني" فيما يلي:
أولاً: الانقسام السِّياسي بيْن غير المسلمين، وعدم اتِّفاقهم على ما يجري حولهم.
ثانيًا: عدم استطاعة الغَرْب تقديرَ قوة المجتمع الإسلامي تقديرًا حقيقيًّا، وعدم فَهْمه لطبيعة الإسلام فهمًا حقيقيًّا.
ثالثًا: المستوى المتدنِّي من القيادة الغربية، وخاصَّة في الولايات المتحدة.
رابعًا: التشوُّش والفَوْضى في صِياغة سياسة أو فَهْم متناسِق عن الإسلام.
خامسًا: عدم استيعاب التقدميِّين المعارِضين للإسلام لمواطِنِ القوَّة فيه، وانحسار هجومِهم على ما يُسمَّى بالمظاهر الرجعيَّة في دِين الإسلام.
سادسًا: حالة الرِّضا مِن غير المسلِمين على التحرُّك الأمريكي ضدَّ الإسلام.
سابعًا: الفَقْر الأخلاقي للقِيم الغربية عامَّة وللولايات المتحدة خاصَّة.
ثامنًا: الاستخدام الماهِر للإسلاميِّين لوسائل الاتِّصال عبرَ شبكات الإنترنت العالمية.
تاسعًا: اعتماد الغَرْب على المصادِر المادية للبلاد العربية والإسلاميَّة.
عاشرًا: اقتناع الغرْب الوهمي بأنَّ تكنولوجيته المتقدِّمة تقود إلى العصرية، وأنَّ أفكار السوق أسمَى من الإسلام الرجعي.

خلاصة القول: أنَّ الليبراليِّين العَرَب اتَّخذوا موقِف العداء للشريعة، وموقِف المواجهة مع الإسلاميِّين، ثم موقِف استعداء الولايات المتحدة على الأنظِمة، عن جهْل ومكابرة، لا عن عِلم ودراسة، ولا استقراء لنتائج تاريخهم السابِق في هذه المواجهات، لكن هذا لا يُنسينا مقولة "مايكل بيرليج": "إنَّ أي جهْد تبذله الأصواتُ الليبراليَّة في البلاد الإسلامية يجب تدعيمُه وتشجيعه".
----------------------------------

المصادر:
----
1- أحمد إبراهيم خضر، الإسلام والكونجرس، حلقات نشرتها مجلَّة المجتمع الكويتية اعتبارًا من العدد 914 الصادر في 25 أبريل 1989 إلى العدد 975 في 24 يوليو 1990، وأعيد نشرُها في كتاب بنفس العنوان، نشرتْه دار الاعتصام في عام 1994.
2- أحمد إبراهيم خضر:
أ- هزيمة الغَرْب للإسلام أمرٌ غير ممكن، موقع نور الإسلام.
ب- وتظل الشريعة عدوَّهم الأول، موقع الألوكة.
ج- وقائع برلمانية، مجلَّة البيان، العدد 66.
د- التنويريون الجُدد، الإستراتيجيَّة والواقع، موقع بوابتي تونس.
3- عمر سليمان الأشقر، حُكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، دار النفائس للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ص 116.
4- محمود محمد شاكر، أباطيل وأسمار، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1972، ص 446.
5- D.L.. Adams، War for Islamic Sharia Law،www.americanthiner.com/2010
6- Hala Mustafa، Policy For Promoting Liberal Democracy in Egypt، White paper Series:(Voices from the Middle East on Democratization and Reform)، FDD (Defense of Democracy)، May 2006.
(بتصرف)
7- David selboorni، Can the West defeat the jihad? Ten reasons why not، Jihad watch. September 9، 2006.
8- Graham F Fuller، Islam، a force for change، mondediplo.com10-1999/ 09 /16 islam.
9- Michael Burleigh، how defeat global jihadists، Standpoint online، June 2008.

------------------------------
رد مع اقتباس
  #93  
قديم 10-26-2014, 08:31 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة ليبرالية العرب في الجاهلية

ليبرالية العرب في الجاهلية
ـــــــــــــ

(د. إبراهيم بن محمد الحقيل)
ــــــــــــــ

2 / 1 / 1436 هــ
26 / 10 / 2014 م
ــــــــــ



تقوم فكرة الليبرالية على الحرية، وكسر القيود التي تُقيد الإنسان، دينية كانت أم أخلاقية أم عرفية، باعتبار أن الإنسان هو مركز الكون، وهو الذي يضع القيود التي تقيده، فيجب أن تكون القيود نابعة منه لا من غيره.

ولما كان لا بد من عيش الإنسان مع غيره كان اختيار القيود التي تقيد حرية الإنسان من مجموع الناس عن طريق اختيار ممثلين عنهم يتفقون على هذه القيود، وهو ما تقوم به المجالس التشريعية والبرلمانات في النظام الليبرالي، ولا ثبات لهذه القيود بل تغير بحسب رغبة الناس؛ إذ الأخلاق والقيم والمثل عندهم نسبية، وهي من صنع الإنسان، ويستطيع تغييرها، وهو ما عُبِّر عنه في القرآن بعبادة الهوى في قول الله تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [الجاثية:23].

ومن قارن فكرة الحرية بمفهومها الغربي بما كان عليه حال أهل الجاهلية في جاهليتهم وجد أنهما متشابهتان إلى حد كبير، يصل إلى التماثل بينهما في كثير من التفصيلات، وأن التعددية التي يفاخر بها الغرب، ويدعو إليها الليبراليون السعوديون كانت موجودة عند مشركي العرب، وأن الحرية المطلقة من قيود الدين والأخلاق كان المشركون يمارسونها في مجالها الشخصي والفكري والديني والاقتصادي، ولا يضعون من القيود إلا ما تعارفوا عليه فاتفقوا أن يكون قيدا، وإلا فالأصل عندهم الانفلات والحرية. ويتبين ذلك بعرض مجالات الحرية عند المشركين، ولن أتعرض في هذه الورقة للحرية السياسية عند العرب في جاهليتهم؛ لأن الليبراليين السعوديين لا يدعون إلى ليبرالية سياسية -وهي الديمقراطية- وإلا لما بقيت لهم صحفهم وفضائياتهم ونفوذهم، وهم أبعد الناس عن ممارستها ولو زعموا خلاف ذلك.

الحرية الشخصية عند المشركين:
---------------------

الحرية الشخصية لها قيمة عالية في الفكر الغربي، وتقدم في كثير من الأحيان على حرية الرأي،والمشركون العرب كان عندهم قدر كبير من الحرية الشخصية، بل كانوا يعارضون التدخل في خصوصياتهم، ومن مظاهر حريتهم الشخصية عدم تحريم محرمات المآكل والمشارب والملابس، وإن كانت محرمة في بعض الأديان المحرفة كاليهودية والنصرانية، أو كانت محرمة فيما توارثوه من بقايا الحنيفية؛ ولذا كانوا يأكلون محرمات الطعام، ويشربون الخمر، ويلبسون الذهب والفضة.

يقول جواد علي: ((وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويشرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة, على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئًا, وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة.... وكان استعمال الأغنياء لآنية من الفضة والذهب في أكلهم وشربهم معروفًا بمكة)).[1]

وفي حريتهم الشخصية في المآكل والمشارب والملابس ونحوها لم يتقيدوا بقيود إلا حسب أعرافهم أو ما استقذروه، وأبين دليل على إطلاقهم الحرية الشخصية، وتمتعهم بها: قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي لما سأله عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يصفهم حالهم: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ كنا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ونسيء الْجِوَارَ...وقال يحكي ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم: وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الحديث وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ... وقال يحكي حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم: فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ على ما جاء بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فلم نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا ما حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا ما أُحِلَّ لنا)).[2]

فهذا الحديث يكشف حال أهل الجاهلية وما كانوا عليه من الحرية الشخصية في المآكل والمشارب والأفعال وإتيان الفواحش، واستحلال المحرمات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم بعبودية تقيدهم وتكفهم عن ذلك، وأن حالهم تغير بعد طاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فصاروا يحرمون ما حرم عليهم، وهذا تقييد الحرية الشخصية بالدين وقد كانت مطلقة قبله.

ومن دلائل حريتهم الشخصية تمتعهم بأنواع اللحوم دون قيود، حتى نزل تقييد ذلك في قوله سبحانه ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ [المائدة:3] فهذه الأطعمة كان أهل الجاهلية يستبيحونها فحرمها الله تعالى عليهم.[3]

وكان من أهل الجاهلية من حرم على نفسه الخمر والأزلام ومنهم: عبد المطلب بن هاشم، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس المقتول ببدر، وعثمان بن عفان، وورقة بن نوفل، وقيس بن عاصم السعدي، وعبد الله بن جدعان، وجماعة غيرهم.[4]

وحرمها أيضا العباس بن مرداس السلمي، وقال: لا اشرب شرابا أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم، وكان سكر فجعل يساور القمر. فلما أصبح أخبر بذلك فحرمها. [5]

وأول من حرم الخمر في الجاهلية الوليد بن المغيرة، وقيل: قيس بن عاصم، ثم جاء الإسلام بتقريره.[6]

والملاحظ في نظام أهل الجاهلية أن من حرم الخمر على نفسه لم يلزم بالتحريم غيره من الناس، ومن استباحها لم يلزم غيره بتعاطيها، بل لكل واحد حريته الشخصية في ذلك، وهو ما تدعو إليه الليبرالية المعاصرة.

وفيما يتعلق بالعلاقات الخاصة التي يفاخر الغرب بإتاحة الحرية فيها، وهي التي كانت سببا في انتشار الفواحش وما نجم عنها من أضرار صحية ومشاكل اجتماعية، وهي التي يستميت الليبراليون السعوديون في الوصول إليها كما هي في الغرب، وذلك بمحاولة إلغاء سلطة الشريعة على الناس، وفرض الاختلاط بقوة القرار الحكومي، وربط الاختلاط بأرزاق الناس حتى تلجئهم الحاجة إلى استساغته وقبوله؛ فإن المشركين كانوا يؤمنون بالحرية الشخصية، ويمارسون الزنا بل يفاخرون به، ولم تكن تمنع منه إلا المرأة الحرة، فتأنف هي منه، وتعاقب عليه لو وقعت فيه، وقد روي عن هند زوج أبي سفيان رضي الله عنهما قولها لما نزلت آية بيعة النساء وفيها قول الله تعالى ﴿ وَلَا يَزْنِينَ ﴾ [الممتحنة:12] قالت: وهل تزني الحرة؟! [7]

قال ابن عاشور: كان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق... وكان في الإماء من يُلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن، فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب، وكانوا يسمون أجرهن مهراً كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله: نهى عن مهر البغي.[8]

وقد كان الزنا معروفًا في الجاهلية يفعله الرجال علنًا؛ إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرمًا عندهم. وإذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه، عدّ ابنًا شرعيًّا له، له الحقوق التي تكون للأبناء من الزواج المعقود بعقد، ولا يعد الزنا نقصًا بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه؛ لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء، وقد كانوا يفتخرون به...والزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون، هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها، وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء، فلا يعدّ عيبًا إذا كان بعلم مالكهن وبأمره.[9]

ويدل على انتشار الزنا فيهم، وتسخير الإماء لممارسته تحريمه في القرآن، قال الله تعالى ﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [النور:33]

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت. فلما جاء الإسلام نهى الله المسلمين عن ذلك.وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسرين من السلف والخلف -في شأن عبد الله بن أبي بن سلول المنافق؛ فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البغاء؛ طلبا لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة منه فيما يزعم.[10]

وفي آية ما ينكح من النساء وما يحرم قال الله تعالى ﴿ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾ [النساء:25] فالمسافحات: المعلنات بالزنا. والمتخذات أخدان: ذات الخليل الواحد. كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه، ولا تزني مع غيره.[11] قال الحسن رحمه الله تعالى: المسافحة: هي امرأة كل من أوى إليها تبعته، وذات الخدن: هي أن تختص بصديق.[12]

وهذا الفعل بشقيه المسافحة والمخادنة موجود في الحضارة الغربية المعاصرة، وتقره القوانين من باب الحرية الشخصية؛ فالمرأة الغربية تتخذ لها صديقا تخادنه ولا يمنعها القانون من ذلك، والمسافحة منتشرة في الغرب، وهو عملية منظمة يستصدر فيها لدور البغاء تصاريح، وتست*** النساء للدعارة، ويرتادها من يريدها، وكل ذلك يتم تحت حق الحرية الشخصية، فمن حق المرأة أن تؤجر جسدها وهي حرة فيه، ومن حق من شاء أن يضاجعها إذا تراضى الطرفان، والقانون يحمي هذا الحق ويكفله للناس.

والفارق بين هذا العمل وعمل أهل الجاهلية أن البغي في الجاهلية مملوكة لسيدها، وتعمل لحسابه، بينما في الحضارة الغربية لا يملكها من يشغلها وإن عملت لحسابه وأعطاها أجرتها.

وأما مسألة الإكراه التي يراها المدافعون عن الحرية بمفهومها الغربي فرقا جوهريا بين ممارسة الغربيين وممارسة أهل الجاهلية، فالحقيقة أن معنى الإكراه موجود؛ لأن المجتمع الرأسمالي المتوحش الذي لا مكان فيه للرحمة هو الذي ألجأ البغايا إلى ممارسة هذه المهنة؛ فالفتاة في الغرب يجب أن تعتمد على نفسها عند سن معينة، ويتخلى عنها ذووها، وتواجه الحياة ومصاعبها وأراذل الرجال وحدها، فتضعف أمام المغريات، وتنكسر كرامتها مع إلحاح الحاجة، فتمتهن البغاء لسد حاجاتها، وإلا فمن التي ترضى أن تؤجر جسدها لمن لا تعرف من الرجال لقاء مبلغ من المال لولا الحاجة التي ألجأتها إلى ذلك. فمعنى الإكراه على البغاء موجود في الحضارة الغربية، ولكنه ليس إكراه أفراد بل إكراه مجتمع كامل بقسوته وقوانينه الجائرة.

وإذا كان كسب الزانية في الجاهلية يعود إلى مولاها ومن يملك رقبتها؛ لأنها مملوكة، والمملوك وما يملك ملك سيده؛ فإن كسب الزانية في الحضارة الغربية يعود لمن شغلها، ويعطيها أجرة على ذلك، كما أن السيد في الجاهلية يتولى سكنى وكسوة وإطعام أمته التي أجرها للزنا، فالحالان متشابهان جدا، وهذا يدل على ما كان يتمتع به أهل الجاهلية من الحرية الشخصية المطلقة من قيود الدين، وهي عين الحرية الشخصية الموجودة في الغرب الآن، وإن اختلفت مفردات التمتع بهذه الحرية، بحيث إن العرب في الجاهلية يستقبحون مثلا السحاق وعمل قوم لوط، والحضارة الغربية المعاصرة تجيزه وتشرعه من باب الحرية الشخصية.

صحيح أن هذه الحرية الشخصية يتمتع بها الرجال دون النساء؛ فالنساء كن مظلومات مضطهدات، بل كانت الزوجة إذا مات زوجها تورث كما يورث المال، فكرم الله تعالى المرأة ونهى عن أفعال أهل الجاهلية، قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾ [النساء:19] قال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانُوا إذا مَاتَ الرَّجُلُ كان أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إن شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فَهُمْ أَحَقُّ بها من أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ هذه الْآيَةُ في ذلك.[13]

فالحرية الشخصية في الجاهلية كانت من حق الرجل دون المرأة، والغرب جعل الحرية الشخصية للمرأة كما هي للرجل، فاشتركا في منح الحرية الشخصية المطلقة من الدين وإن اختلفا فيمن يتمتع بها، وفي حين أن القيود على الحرية الشخصية كانت عند أهل الجاهلية تستقى من أعرافهم فإنها عند الحضارة الغربية تؤخذ من القانون الذي تقره المجالس التشريعية، والجامع بينهما أن مرجعها أهواء البشر، وتقديرهم للمصالح والمفاسد، ولا يسندها شرع عند كليهما.

وكان عند أهل الجاهلية أنواع من الأنكحة تدل على حرية شخصية واسعة في هذا الجانب، ومن تلكم الأنكحة:

1- نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه[14] ويسمّون فاعل ذلك الضيزن، ويسمَّون الابنَ من ذلك النكاح مَقيتا. [15]

ولذا جاء القرآن بالنهي عنه والتشديد فيه؛ لأنه كان شائعا عندهم، قال الله تعالى ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [النساء:22] فرغم مقت الجاهلية لهذا النوع من النكاح إلا أنهم لم يمنعوا منه، وهذا يدل على ما كان عندهم من حرية شخصية.

2- نكاح المتعة، وهو نكاح إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة. وهذا النوع من الزواج كان معروفًا عند ظهور الإسلام.

ومن دوافع حدوث هذا الزواج التنقل والأسفار والحروب، حيث يضطر المرء إلى الاقتران بامرأة لأجل معين على صداق. فإذا انتهى الأجل، انفسخ العقد. وعلى المرأة أن تعتدّ كما في أنواع الزواج الأخرى قبل أن يسمح لها بالاقتران بزوج آخر.

وينسب أولاد المتعة إلى أمهاتهم في الغالب، وذلك بسبب اتصالهم المباشر بالأم ولارتحال الأب عن الأم في الغالب إلى أماكن أخرى قد تكون نائية، فتنقطع الصلات بين الأب والأم؛ ولهذا يأخذ الأولاد نسب الأم ونسب عشيرتها.

وكان هذا النكاح مقرا في أول الإسلام؛ كما روى جَابِرِ بن عبد الله وَسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ قالا: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قد أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ[16] ثم حرم بعد ذلك كما ورد أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قال لابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ.[17]

ونقل الجصاص رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن المتعة فقال: ذلك السفاح، وقال عروة بن الزبير: كان نكاح المتعة بمنزلة الزنا.[18]

3- نكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فهو زواج بطريق المبادلة بغير مهر.

وقد كان موجودا في الجاهلية، وذكره المفسرون في تفسير قول الله تعالى ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ [الأحزاب:52] قال بن زيد رحمه الله تعالى: هذا شيء كانت العرب تفعله يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك.[19]

وظاهرة تبادل الزوجات موجودة في الغرب إذا تراضى أطراف المبادلة، وهي من الحرية الشخصية، سواء كانت المبادلة دائمة أم زمنا مخصوصا.

4- نكاح الاستبضاع: وفسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه...وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.[20]

قال ابن عاشور: وفي الإسلام...بطل الاستبضاع؛ ولذلك تجد الزنا لا يقع إلاّ خفية؛ لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم.[21]

5- نكاح الرهط: وهو الذي فسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها.[22] وهذا موجود في الغرب وهو من الحرية الشخصية، وشرطهم فيه رضى الأطراف.

6- صاحبات الرايات، فسرته عائشة رضي الله عنها بقولها: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما، فمن أرادهن دخل عليهن. [23]

وليس في هذا الزواج صداق ولا خطبة على عادة العرب، ومن يفعله من الرجال لم يكن يقصد به زواجًا... وإنما التسلية وتحقيق شهوة بثمن، ولهذا فهو من أبواب الزنا والسفاح. [24] وهذا موجود في الغرب، وللبغايا علامات وأماكن معروفة عندهم يقصدهن من أرادهن.

فهذه الأنكحة الكثيرة والغريبة عند أهل الجاهلية تدل على ما كان سائدا عندهم من الحرية الشخصية، وما كانوا يتمتعون به من حرية جنسية واسعة، ليس ما يوجد في الغرب مما هو من مظاهر الحرية الشخصية، والفوضى الجنسية إلا مماثلا لما كان عند أهل الجاهلية، وهو ما أبطله الإسلام كما قالت عائشة رضي الله عنها: فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم.[25]

ومن مظاهر الحرية الشخصية: التبني، وهو شائع في الغرب، فمن لم يولد لهم يتبنون من اللقطاء ما شاءوا، وكذلك من كان عندهم أولاد انصرفوا عنهم أو بقوا معهم يتبنون كذلك ما شاءوا. أو يشترون طفلا من أسرة فقيرة ويتبنونه، وتهريب الأطفال من الدول الفقيرة إلى الغنية تجارة رائجة.

وقد جاء إقرار التبني والاعتراف به في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 41/85 المؤرخ في 3 ديسمبر 1986: إن الجمعية العامة بعد الإشارة إلي إعلان حقوق الطفل الذي أصدرته بقرارها 1386 (د-14) المؤرخ في 20 نوفمبر 1959، وخصصت له خمس مواد من حقوق الطفل.[26]

وفي تقرير للأمم المتحدة الخاص بسكان العالم ذكر فيه أن أمريكا بها نصف حالات التبني على مستوى العالم. وحسب التقرير فإن عدد حالات التبني في ارتفاع مستمر منذ أعوام، وأن عدد حالات التبني يبلغ نحو (260 ألف) سنويا على مستوى العالم. [27]

والتبني كان جائزا في الجاهلية كذلك، ومنتشرا في أهلها، فأبطله الإسلام، قال الله تعالى ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ [الأحزاب:4-5]

قال أبو جعفر النحاس: كان هذا ناسخا لما كانوا عليه من التبني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فنسخ التبني، وأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبه إلى ولائه المعروف، فإن لم يكن له ولاء معروف قال بأخي، يعني في الدين قال الله عز وجل ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات:10] ثم ساق النحاس بسنده إلى ابن عمر عن زيد بن حارثة رضي الله عنهم قال: ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت ﴿ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ ﴾.[28]

قال جواد علي: وقد اعترفت شريعة الجاهليين بالتبني، فيجوز لأي شخص كان أن يتبنى، ويكون للمُتبنى الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للأبناء. ويكون بهذا التبني فردًا في العائلة التي تبنته، له حق الانتماء والانتساب إليها. وهو يتم بالاتفاق والتراضي مع والد الطفل أو ولي أمره أو صاحبه، ومالكه، وذلك بالنزول عن كل حق له فيه، ومتى تمّ ذلك وحصل التراضي، يعلن المتبني عن تبنيه للطفل وإلحاقه به، فيكون عندئذ في منزلة ولده الصحيح في كل الحقوق.... وقع التبني مع وجود أولاد للمتبني، وليست له حدود من جهة العمر.[29]

وهذا النظام في التبني عند أهل الجاهلية هو عين ما عند الغرب في التبني، وهو من الحرية الشخصية ما دامت أطراف التبني راضية، إلا الطفل فلا خيار له.

ومن مظاهر الحرية الشخصية عند الغرب: الحرية في الوصية، فللشخص أن يوصي بماله لمن شاء، وله أن يحرم الورثة منه، بل له أن يحرم أولاده ويوصي لقططه وكلابه؛ ولذا تكثر الوصية عندهم بالأموال الطائلة على كلاب وقطط ونحوها، وعلى رعاية الحيوان في الجملة، رغم أن أناسا يعانون الفقر وربما الجوع في نفس البلاد الغربية التي تجيز مثل هذه الوصايا، بل ربما كان في أسرة الموصي للقطط والكلاب من هو فقير من أولاده وعصبته وسائر أقربائه، لكن مقتضى ملكية الإنسان للمال، وحرية التصرف فيه تتيح له من باب الحرية الشخصية أن يهبه لمن يشاء ويمنعه من يشاء.

وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن الثرية الأمريكية (ليونا هلمسلي) وهي تملك عقارات ضخمة وفنادق في أمريكا تقدر بالمليارات قد أوصت بالملايين لكلبها المحبوب لديها(ترابل) وأوصت بثمانية مليارات دولار لرعاية الكلاب عموما ورفاهيتها. وكانت قد حددت مصرفين لثروتها كلها: الأول: مساعدة السكان الأصليين والثاني: توفير الرعاية والرفاهية للكلاب، لكنها ألغت المصرف اﻷول وهو مساعدة البشر وأبقت على الثاني.[30]

وكذلك أهل الجاهلية كانت حريتهم الشخصية تتيح لهم الوصية بأموالهم لمن شاءوا، ولم يكن صاحب الوصية مقيدًا بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته؛ لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف يشاء. ويجوز للموصي إن شاء حرمان من يشاء من الورثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك من يشاء في الإرث. وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين. [31]

وأسباب الميراث عند أهل الجاهلية: النسب والتبني والموالاة، والقاعدة العامة في الميراث عند الجاهليين هو أن يكون الإرث خاصًّا بالذكور الكبار دون الإناث، على أن يكونوا ممن يركب الفرس ويحمل السيف، أي: المحارب.[32]

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته.[33]

والظاهر أن هذا كان في أغلبهم، ولكن كان منهم أناس يورثون البنات، قال ابن حبيب البغدادي رحمه الله تعالى: وكانت العرب مُصفقة على توريث البنين دون البنات، فورث ذو المجاسد وهو عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الأنثيين، فوافق حكم الإسلام.[34] وقال ابن حزم رحمه الله تعالى: وهو أول من أعطى الذكر حظين والأنثى حظاً. [35]

وهذا التنوع عند الجاهلية بحرمان كثير منهم النساء من الميراث، وتوريث بعضهم النساء، بل وقدرتهم على الوصية بأموالهم لغير ورثتهم مع حرمان ورثتهم، كل هذه التعددية في الميراث والوصية تدل على ما كانوا يتمتعون به من حرية شخصية فيما يملكون من أموال.

وقد تنزل القرآن بالحد من هذه الحرية وتقييدها، وتولى الله تعالى قسمة المواريث وتحديدها في سورة النساء، ومنع سبحانه المورث من الوصية بكل ماله أو التبرع به وحرمان الورثة منه، أو تخصيص بعض الورثة بوصية ليكون حظه من الميراث أكثر من غيره.

الحرية الدينية عند المشركين:
---------------

يفاخر الغرب بأن قوانينه وإعلانات حقوق الإنسان التي أصدرها وعممها على البشر تكفل حرية تدين الإنسان، ويكثر في كلام الليبراليين السعوديين الذي هاموا على وجوههم في الفكر الغربي وقيمه، وكرعوا منه حتى الثمالة التباهي بأن الغرب حفظ حق التدين لكل الأجناس والديانات بلا تفريق، ومع ما في هذا الإطلاق من مجازفة، وخاصة مع الإسلام؛ فإن الحقيقة التي يغفل عنها كثير من الناس هي أن حرية التدين كانت تطبق عند المشركين على أوسع نطاق، وأن التعددية الدينية عند العرب في جاهليتهم لا مثيل لها، حتى إنهم سعروا حروبا من أجل ناقة البسوس لما عقرت، وحروبا أخرى في خيل سبقت وهي حروب داحس والغبراء، وغيرها من الحروب التي كثيرا ما تكون أسبابها تافهة، ولم أقف على تسعيرهم لحرب واحدة بسبب الدين، رغم كثرة حروبهم، حتى أفردها أبو الفرج الأصبهاني بكتاب اسمه (أيام العرب) عدّ فيه من أيامهم ألفا وسبع مئة يوم[36] وهذا يدل على تسامحهم في مسألة الدين، وخلوهم من التعصب الديني، وأنهم مارسوا التعددية في أظهر صورها.

وأدلة الحرية الدينية والتعددية عند المشركين كثيرة، منها:
------------------------------

أولا: انقسام العرب بين الأديان؛ فكانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت اليهوديه في حمير وفي كنانة وبني الحارث بن كعب وكنده، وكانت المجوسية في تميم، منهم زرارة بن عدس التميمي وابنه حاجب بن زرارة وكان تزوج ابنته ثم ندم، ومنهم الأقرع بن حابس وكان مجوسيا، وأبو سود جد وكيع ابن حسان كان مجوسيا، وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة، وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلها من حيس فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال رجل يعيرهم:

أكلت حنيفه ربها
زمن التقحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم
سوء العواقب والتباعة[37]

وهذا يدل على ما كان يتمتع به أهل الجاهلية من التعددية، وهي التي حاربها النبي صلى الله عليه وسلم، وقسرهم على معبود واحد هو الله تعالى، وعلى دين واحد وهو دين الإسلام، وعلى منهج واحد وهو شريعة الإسلام؛ ولذا استعظم المشركون أن يلغي النبي صلى الله عليه وسلم حريتهم الدينية، ويبطل ما تمتعوا به من التعددية ليقصرهم على ما جاء به ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص:4-5].

فالتعددية التي ينادي بها الغرب، ويصيح بها أتباع الغرب كان أهل الجاهلية يدعون إليها، ويمارسونها، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليبطلها.

ثانيا: أن قوما من العرب رفضوا الشرك وعبادة الأوثان، وبقوا على ما توارثوا من الحنيفية، ولم ينقل أن المشركين آذوهم أو عذبوهم أو قهروهم على ما اختاروا، بل تركوهم وما يدينون ما داموا لم يلزموا غيرهم بما اختاروا، وهذا عين ما تقرره الليبرالية.

قال عالم السير ابن إسحاق: كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش بن رئاب...حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين إبراهيم عليه السلام وخالفوه، ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع؟! فابتغوا لأنفسكم. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، فأما ورقة بن نوفل فتنصر فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب، فلم يكن فيهم أعدل أمرا ولا أعدل شأنا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الأوثان وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين إبراهيم يوحد الله عز وجل ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه بادأهم بالفراق لما هم فيه.[38]

وفي أخبار حنيفية زيد رحمه الله تعالى روت أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَالله مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْءُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ، لاَ تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا.[39]

وله رحمه الله تعالى شعر تبرأ فيه من الأصنام، قال فيه:

تركت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها
ولا صنمى بني غنم أزور

ولا هبلا أزور وكان ربا
لنا في الدهر إذ حلمي صغير[40]

وكان زيد يمتنع عن أكل الذبائح التي يذبحونها لأصنامهم، وما كانوا يجبرونه على الأكل منها؛ كما في حديث عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَقِيَ زَيْدَ بن عَمْرِو بن نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ قبل أَنْ يَنْزِلَ على النبي صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ منها ثُمَّ قال زَيْدٌ: إني لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ على أَنْصَابِكُمْ، ولا آكُلُ إلا ما ذُكِرَ اسْمُ الله عليه، وَأَنَّ زَيْدَ بن عَمْرٍو كان يَعِيبُ على قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا الله، وَأَنْزَلَ لها من السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لها من الأرض، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا على غَيْرِ اسْمِ الله إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا له.[41]

وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة عن التمسح بالأصنام قبل أن يبعث، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته نبيا رسولا لم يكن موافقا للمشركين في تعظيمهم للأصنام وعبادتها، ومع ذلك لم يكن المشركون يعادونه قبل الدعوة، بل كانوا يجلونه ويوقرونه، ويحكمونه بينهم كما في قصة بناء الكعبة، وكانوا يستودعونه أماناتهم، ولقبوه بالأمين.

روى زيد بن حارثة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصار فذبحنا له شاة ثم صنعناها في الأرة حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرة، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير مردفي في يوم حار من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن عم مالي أرى قومك قد شنفوك -أي: أبغضوك- فقال أما والله إن ذاك لغير ثائرة كانت مني فيهم، ولكني كنت أراهم على ضلال فخرجت أبتغي هذا الدين فأتيت على أحبار يثرب فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فخرجت حتى أتيت أحبار الشام فوجدتهم يعبدون الله عز وجل ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحد يعبد الله تعالى به إلا شيخا بالجزيرة فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له، فقال لي: إن كل من رأيت على ضلالة فمن أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله تعالى ومن الشوك والقرظ، قال: فإنه قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج قد خرج نجمه فارجع فاقصده واتبعه وآمن به، فرحلت فلم أخبر بشيء، فقدّمنا إليه السفرة فقال: ما هذا؟ فقلنا: ذبحناها لنصب من الأنصاب، قال زيد رضي الله عنه: ما آكل شيئا ذبح لغير الله تعالى، فتفرقنا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، قال زيد بن حارثة رضي الله عنه: وأنا معه، وكان صنم من نحاس يقال له إساف ونائلة مستقبل القبلة يتمسح بهما الناس إذا طافوا بالبيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمسهما ولا تسمح بهما، قال زيد: فقلت في نفسي لأمسهما حتى أنظر ما يقول، فمسستها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه فلا والذي أكرمه ما مسستهما حتى أنزل الله عز وجل عليه الكتاب.[42]

فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على دين قومه في تعظيمهم للأصنام، ويدل على أن قريشا أبغضوا زيد بن عمرو؛ لأنه صرح بضلالهم، والظاهر أنه أنكر عليهم عبادتهم للأصنام، ونهاهم عن ذلك، فناله منهم أذى بسبب إنكاره لا بسبب عبادته. ومما يدل على ذلك قول زيد في شعره:

سبحانه ثم سبحانا يعود له
فقبلنا سبح الجودي والجمد

لا تعبدن إلها غير خالقكم
وإن دعيتم فقولوا دونه حدد[43]

ثالثا: أن من المشركين من كان يؤمن بالبعث والنشور، مع أن عامتهم لا يؤمنون بذلك، ولم ينقل أن من لم يؤمن به كان يؤذي من يؤمن به ويقهره على إنكاره، بل كان كل واحد حرٌّ فيما يعتقد ويدين به على غرار ما تقرره الليبرالية الغربية، قال الله تعالى ﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [الرعد:5]

قال البغوي رحمه الله تعالى: وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب.[44]

والآيات الدالة على أن المشركين كانوا ينكرون البعث والنشور كثيرة في القرآن الكريم، مما يدل على أن هذا القول منتشر فيهم، ويمثل عقيدة في المجتمع الجاهلي، وبسبب تقرير النبي صلى الله عليه وسلم للبعث والنشور في أوساطهم رموه بالجنون أو بالكذب، مما يدل على شدة تكذيبهم بالبعث، واستقرار ذلك عندهم، وانتشاره فيهم، قال الله تعالى ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلَالِ البَعِيدِ ﴾ [سبأ:7-8].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا إخبار من الله عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة، واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك.[45]

ومع كل هذا التكذيب واستبعاد البعث والنشور، والسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم به؛ فإن من المشركين من كان يؤمن بالبعث والنشور، ولم ينلهم أي أذى، بل كفلت لهم حرية الفكر والمعتقد.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وممن كان يقر بالخالق والابتداء والإعادة والثواب والعقاب: عبد المطلب بن هاشم، وزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وعامر بن الظرب، وكان عبد المطلب إذا رأى ظالما لم تصبه عقوبة قال: تالله أن وراء هذه الدار لدارا يجزي فيها المحسن والمسيء.[46]

ومنهم زهير بن أبي سلمى الشاعر، وهو القائل:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم [47]

وكان زهير يمر بالعضاة وقد أورقت بعد يبس فيقول: لولا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيى العظام وهي رميم.[48]

فهو صرح هنا بأنه يخاف من المسبة ليس إلا، والمسبة قد تندرج تحت حرية التعبير والنقد بحسب لفظها، وقد تعد تجريحا وتشهيرا، لكن الملاحظ أنه لم يخش شيئا غير المسبة مما يدل على مساحة واسعة من حرية الفكر والمعتقد عند المشركين.

ومن هؤلاء النابغة الذبياني آمن بيوم الحساب فقال:

مجلتهم ذات الإله ودينهم
قويم فما يرجون غير العواقب

وأراد بذلك الجزاء بالأعمال.[49]

ومنهم قس بن ساعدة قال في موعظة له: مطرٌ ونبات، وآباءٌ وأُمهات، وذاهب وآت، وآيات في إثْر آيات، وأموات بعد أموات، وسعيد وشقي، ومحسن ومسيء، أين الأربابُ الفَعَلَةُ؟ إنّ لكل عامل عَمَلَهُ. بل هو والله واحد، ليس بمولود ولا والد، وإليه المآب غدا. أمّا بعدُ، يا معشر إياد، فأين ثمودُ وعادُ؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين الحَسَنُ الذي لم يُشْكَرْ، والظلمُ الذي لم يُنْكَرْ؟ كلاَّ وربِّ الكعبة، ليعودَنَّ ما بادَ، ولئن ذهب يوماً ليعودَنَّ يوما ما.[50]

ومنهم علاف بن شهاب التميمي كان يؤمن بالله وبيوم الحساب وفيه قال:

ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة
فأخذت منه خطة المقتال

وعلمت أن الله جاز عبده
يوم الحساب بأحسن الأعمال[51]

فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم عادى المشركون النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءهم بالتوحيد؟!

فالجواب: أن المشركين كانوا يقرون بحرية الدين وممارسة شعائره، لكنهم يعادون من ينهاهم عما يعبدون، ويأمرهم بما يعبد هو، وقد تكون العداوة مجرد سب وشتم وهجاء إذا لم يؤثر الداعي في الناس؛ كما وقع لزهير بن أبي سلمى فإنه ذكر سبب عدم صدعه بعقيدة البعث خوف المسبة، وقد تصل إلى حد المقاطعة؛ كما وقع لأمية بن عوف القلمس؛ إذ كان يقوم بفناء البيت ويخطب العرب، وكانت العرب لا تصدر حتى يخطبها ويوصيها، فقال: يا معشر العرب، أطيعوني ترشدوا. قالوا: وما ذاك؟ قال: إنكم قوم تفرَّدتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله بكل هذا براض، وإن كان ربَّ هذه الآلهة إنه ليحبّ أن يعبد وحده. فنفرت العرب عنه ذلك العام، ولم يسمعوا له موعظة. فلما حجّ من قابل اجتمعوا إليه، وهم مزورون عنه، فقال: مالكم -أيها الناس- كأنكم تخشون مثل مقالتي عاما أول، إني والله لو كان الله تعالى أمرني بما قلت لكم ما أعتبتكم ولا استعتبت، ولكنه رأي مني، فإذا أبيتم فأنتم أبصر.[52]

فهذا يدل على أنهم قاطعوا مواعظه واكتفوا بذلك ليعود إليهم، فعاد إليهم في العام القابل معتذرا بأن ما قاله مجرد رأي رآه، وهذا يندرج تحت حرية التعبير وتركه لأجلهم.

فإن كان لمن ينكر عليهم تأثير على الناس بحيث كثر أتباعه، والتزموا أمره ونهيه، وكان مع ذلك يسفه آلهتهم؛ فإنه حينئذ يشكل خطرا على نفوذهم وسلطتهم على من هم تحتهم من جهة، وعلى الحرية التي ارتضوها من جهة أخرى، ووقع شيء من ذلك لزيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله تعالى، قال جواد علي: فهو -أي زيد- من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقه دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى أُكره على ترك مكة والنزول بحراء، وكان الخطاب بن نفيل عمه، وقد وكل به شبابًا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الاتصال بأهلها؛ مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه. واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلًا قومه إلا فترات، كان يهرب خلالها سرًا، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك آلموه وآذوه.[53]

وذكر ابن حبيب البغدادي أن زيدًا رحمه الله تعالى هو أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان.[54]

ولو أن زيدا لم ينكر عليهم، ويسفه آلهتهم لما آذوه، ولتركوا له حرية المعتقد وممارسة الشعائر كما لم يؤذوا غيره من الحنفاء وغيرهم ممن كانوا مفارقين لهم في دينهم وشعائرهم.

رابعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد بغار حراء قبل بعثته، حتى نزل عليه الوحي وهو فيه، ولم ينقل أن المشركين منعوه من عبادته تلك، أو آذوه بسببها، أو انتقدوه بها، مع أن فيها مفارقة لما يعبدون، وخلوة بالله تعالى.

قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: كان أَوَّلَ ما بُدِئَ بِهِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إليه الْخَلَاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه قال وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قبل أَنْ يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا[55]

فدل الحديث على أن خلوته كان فيها مفارقة لقومه وما يعبدون، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعبد عبادة تخصه، ونقل الحافظ ابن حجر الخلاف في تعبده هل كان بشريعة سابقة؟ وبشريعة مَن مِن الأنبياء عليهم السلام، وقوّى أنه كان يتعبد بما بلغه من شريعة إبراهيم عليه السلام، قال رحمه الله تعالى:ولا سيما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم.[56]

خامسًا: أن التحول عن الدين إلى دين آخر كان مشهورًا عند أهل الجاهلية ولم يؤذوا من تحولوا من دينهم إلى دين آخر أو ينكروا ذلك عليهم، وممن تحول عن الشرك إلى النصرانية حنظلة بن أبي عفراء الطائي، وهو عم إياس بن قبيصة الذي كان ملك الحيرة، تنصر وبنى ديرا سمي دير حنظلة الطائي. [57] قال البكري: وكان من شعراء الجاهلية ثم تنصر وفارق بلاد قومه ونزل الجزيرة مع النصاري حتى فقه دينهم وبلغ نهايته وابتاع ماله وبنى هذا الدير وترهب فيه حتى مات.[58]

وممن تنصر أيضاً داود بن هُبالة، وكان أول ملك للعرب في بلاد الشام، فغلبه ملك الروم على ملكه، فصالحه داود على أن يقره في منازله ويدعه فيكون تحت يده، ففعل، ثم تنصر وكره الدماء وبنى ديرًا سمي (دير اللثق) وأنزله الرهبان.[59]

واستعرض اليعقوبي حركة تغير الدين في العرب فقال: وكانت العرب في أديانهم على صنفين: الحمس والحلة، فأما الحمس فقريش كلها، وأما الحلة فخزاعة لنزولها مكة ومجاورتها قريشا...فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما، ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود وفارقوا هذا الدين، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية، فأما من تهود منهم فاليمن بأسرها، كان تُبَّعٌ حمل حبرين من أحبار اليهود إلى اليمن فأبطل الأوثان وتهود من باليمن وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام. وأما من تنصر من أحياء العرب فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل ابن أسد، ومن بني تميم بنو امرئ القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة بنو تغلب، ومن اليمن طيء ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم وتزندق حجر بن عمرو الكندي.[60]

الحرية الاقتصادية عند المشركين:
يفاخر أرباب الحضارة الغربية ولمسوقون لهم من الليبراليين السعوديين بأن من ميزات هذه الحضارة إقرار الحرية الاقتصادية، وتحرير التجارة، وعدم المنع من أي نشاط تجاري إلا ما منعه القانون كالاتجار في المخدرات؛ لأن الأصل عندهم أن الإنسان مركز الكون وهو يضع من القوانين ما يناسبه، وهو مالك المال، وهو حر في تشغيله بالطريقة التي يريدها وفق القانون، ويمكن القول إن أبرز مظاهر الحرية الاقتصادية في الغرب تعود إلى ثلاثة أمور:

الأول: تخفيف القيود على التجارة في نوع البيع وصيغته، فما دام البيعان متراضيين فالرضا شريعة المتعاقدين. وتخفيف القيود على المبيع فالاتجار بكل شيء تجيزه القوانين، إلا الممنوعات قانونا كالمخدرات ونحوها.

الثاني: التعامل بالربا، واعتماده أساسا في الاقتصاد.

الثالث: إباحة القمار بكل أنواعه، والاعتراف به مجالا من مجالات الكسب.

والحقيقة أن كل هذه الثلاثة كانت موجودة عند العرب في الجاهلية:
1- ففي ما يتعلق بتخفيف القيود على التجارة في نوع البيع، فالظاهر من حال المشركين أن التراضي هو الأساس.

((فالبيع والشراء، إما أن يكونا بشروط يشترطها أحدهما أو كلاهما عند عقد الصفقة، ويتم التوافق والتعاقد عليها برضا البائع والمشتري، أي: الطرفين, وإما ألا يكونا بشروط)).[61]

ولذا كثرت عندهم البيوع المبنية على الحظ والغرر، وأجازوها وتعاملوا بها، ومنها: بيع الحصاة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع المزابنة، وبيع المعاومة، وبيع الجزاف، وبيع الحبلة، وبيع الغدوى، وبيع الرجع، وبيع التصرية، وبيع الإعراب، وبيع الخلابة، وبيع الذهب بالذهب سواء كان متفاضلا أم متسوايا، وسواء كان يدا بيد أم مؤجلا، ومثله بيع الفضة بالفضة، وبيع الرجل ما ليس عنده، وبيع المعدوم، وبيع المخاطرة، وبيع العينة، وبيع العبد الآبق، وبيع الحصان الشارد، وبيع الطير في الهواء، وبيع السمك في الماء. وكانوا يبيحون النجش في البيع، والاحتكار، ويجيزون بيع الحمل مستقلا، وبيع الثمر ولما ينضج، وبيع الأخ على بيع أخيه، وسومه على سومه، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي. [62]

ولهذه البيوع الكثيرة صور عدة، كان أهل الجاهلية يمارسونها، مما يدل على أنه لا قيود في التجارة، وأن رضا البائع والمشتري هو الشرط الوحيد الذي تواضعوا عليه. فجاء الإسلام فقضى على هذه الحرية في البيوع، وقيدها بقيود تمنع الغرر والجهالة في البيع.

وأما في المبيع فقد كان أهل الجاهلية يتاجرون في كل شيء متاح، ولا قيود عليهم في ذلك، فيتاجرون في الخمور وفي الميتة والخنزير والدم وكل ما يستحلون أكله أو شربه أو لبسه. فجاء الإسلام فأبطل هذه الحرية، ومنع الاتجار في المحرمات.

2- وأما التعامل بالربا فقد كان أساسا عند أهل الجاهلية، وأباحوه بكل أنواعه، وانتشر فيهم انتشارا كبيرا، وخاصة ربا النسيئة حتى نسب إليهم من كثرة تعاملهم به فسمي ربا الجاهلية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفة بحجة الوداع: وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ[63]. وهو المراد بقول الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران:130].

ونزل فيه وعيد شديد في القرآن حتى عدّ فاعله محاربا لله ورسوله؛ كما قال سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة:279].

قال السمعاني رحمه الله تعالى: والآية في إبطال ربا الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يدينون الناس بشرط أن يزيدوا في الدين عند الأداء، وكان يقرض الرجل غيره، ويضرب له أجلا، ثم عند حلول الأجل يقول له: زدني في الدين حتى أزيدك في الأجل، فهذا كان ربا الجاهلية وهو حرام.[64]

ويدخل في الربا: الربا في الطعام، وقد كان شائعًا بين أهل العمود والبوادي بصورة خاصة؛ إذ ليس عندهم دراهم ولا دنانير، فكانوا يأخذون الصاع الواحد مقابل صاع وزيادة، والزيادة رباه، حتى يكون قفزانًا كثيرة, فاستغل المرابون أهل الحاجة وضايقوهم بالطلب. ورد أن أحدهم في الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه, فهو ربا مثل الربا في النقد.... وسبب هذا التوسع في هذا النوع من الربا، أن العرب كانوا أهل تجارة وأهل زراعة ورعي، ولم تكن العملة من دنانير ودراهم منتشرة بين المزارعين وأهل البوادي، فكانت المقايضة تقوم عندهم مقام العملة. فمن احتاج إلى طعام أخذ من بائعه أو مالكه أو مكتنزه كيلًا بكيل مثله لأجل معلوم, على أن يعطيه زيادة عليه، يتفق على مقدارها. فيأخذ قفيص تمر بقفيص ونصف أو قفيصين، أو أكثر من ذلك، على نحو ما اتفق عليه، يؤديه له من جنس التمر المسلف ومن جودته، فإذا حل الأجل، ورأى المستحق أن يؤخر دينه، على أن يزيد في المال فعل، وكلما أخره زاد في المال حتى يصير أضعافا مضاعفة، وذلك بسبب الحاجة والفقر.[65]

وبسبب انتشار الربا في أهل الجاهلية تعجبوا من تحريمه، وقالوا ﴿ إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ فكان جواب الله تعالى عليهم ﴿ وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة:275] وهذا الجواب فيه تكريس للعبودية، وتوجيه إلى طاعة الله تعالى؛ فإن الربا وإن كانت صورته تشبه البيع فإن المانع منه تحريم الله تعالى له، كما أن حل البيع إنما كان بإباحة الله تعالى، ولم يكن جواب الله تعالى متضمنا لعلة سوى العبودية، مع أن الله تعالى قادر على أن يجيبهم بعلة تحريم الربا والحكمة منه، وهذا يدحض دعوى الحرية في معاملات الناس التجارية، ويدل على أنها مقيدة في الإسلام بقيود جاءت في الكتاب والسنة، وأن واجب المسلم التقيد بهذه القيود سواء أدرك علتها أم لم يدركها.

ومن دلائل حزم الشريعة في حسم الربا وإنهائه على الفور أن ما تم التعاقد عليه قبل التحريم بطل بنزول التحريم؛ فالمكاسب الربوية موضوعة، وليس للدائنين إلا رؤوس الأموال، وبرهان ذلك قول الله تعالى ﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة:279]

3- وأما القمار فكان من مكاسب أهل الجاهلية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الميسر: القمار، كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله[66].

وقال البغوي رحمه الله تعالى: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء.[67]

وقد قامر بعض المسلمين في أول الإسلام قبل التحريم، وذكر العلماء قصة قمار أبي بكر رضي الله عنه مع المشركين في تفسيرهم لأول سورة الروم.[68]

ونزل تحريم القمار مع تحريم الخمر في قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة:91].

ورغم أن المشركين أباحوا القمار، وكان منتشرا فيهم فإن أناسا منهم حرموه على أنفسهم، ولم يقامروا، وذكر أهل الأوائل أن أول من حرم القمار من أهل الجاهلية الأقرع بن حابس التميمي.[69]

ولم يعب المشركون عليه تحريم ذلك على نفسه، ولم ينقص مقداره عندهم بسبب ذلك، بل رأوا أنه حر في ماله وطريقة حفظه وكسبه وإنفاقه. وقد ذكر المؤرخون للتاريخ الجاهلي أن الأقرع بن حابس كان يحكم العرب في كل موسم، وكانت العرب تتيمن به.[70]

وبما سبق عرضه يتبين أن ما يدعو إليه الليبراليون هو عين دين المشركين الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كفار العرب قد سبقوا الثورة الفرنسية إلى تقرير الحرية الشخصية، وحرية الفكر والرأي، والحرية الاقتصادية. والله الموفق.

---------------------------------------
[1] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 7/124و14/126.
[2] رواه أحمد: 1/202، وصححه ابن خزيمة (2260).
[3] ينظر: تفسير الطبري: 9/495.
[4] المحبر: 236-237.
[5] الأشربة لابن قتيبة: 3.
[6] صبح الأعشى: 1/495.
[7] تفسير الطبري: 28/78.
[8] التحرير والتنوير: 18/270، والحديث الذي أورده رواه البخاري(5031).
[9] المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/232.
[10] تفسير ابن كثير: 6/54.
[11] زاد المسير: 1/394.
[12] تفسير السمعاني: 1/416.
[13] رواه البخاري(4303).
[14] تفسير القرطبي: 5/104.
[15] التحرير والتنوير: 4/293.
[16] رواه مسلم(1405).
[17] رواه البخاري(4825).
[18] أحكام القرآن: 3/96.
[19] تفسير القرطبي: 14/220.
[20] رواه البخاري(4834).
[21] تفسير التحرير والتنوير: 4/269-270.
[22] رواه البخاري(4834).
[23] نفس الحديث السابق.
[24] المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/212.
[25] رواه البخاري (4834).
[26] حقوق الإنسان: مجموعة صكوك دولية، الأمم المتحدة، نيويورك، 1993: 1/272.
[27] صحيفة الاقتصادية السعودية: 17/5/1431 هـ. عدد: 6046.
[28] الناسخ والمنسوخ: 626.
[29] المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/231.
[30] صحيفة الوطن السعودية: 20/5/1431 عدد:3504.
[31] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 10/233.
[32] المصدر السابق: 10/234.
[33] تفسير ابن كثير: 3/39.
[34] المحبر: 236-237
[35] جمهرة أنساب العرب: 2/308.
[36] تاريخ بغداد: 11/398 والمنتظم: 14/185.
[37] المعارف: 621.
[38] سيرة ابن إسحاق: 2/95.
[39] رواه البخاري معلقا مجزوما به (84).
[40] الأصنام للكلبي:22.
[41] رواه البخاري(3614).
[42] رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: (257)، وصححه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه: 3/238 ، وصححه ابن تيمية في الجواب الصحيح: 5/167.
[43] أمثال الحديث للرامهرمزي :15
[44] تفسير البغوي: 4/295.
[45] تفسير ابن كثير: 6/496.
[46] تلبيس إبليس: 80.
[47] جمهرة أشعار العرب: 92.
[48] الملل والنحل: 2/243-244.
[49] المصدر السابق: 2 /243.
[50] الزاهر في معاني كلمات الناس: 2/353.
[51] المحبر: 322.
[52] المعمرون والوصايا: 35.
[53] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 12/46.
[54] المحبر: 172.
[55] رواه البخاري(4670).
[56] فتح الباري: 8 /717.
[57] الديارات: 8.
[58] معجم ما استعجم: 2/576.
[59] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 18/ 19.
[60] تاريخ اليعقوبي: 1/256-257. وقال الكلبي في كتاب الأصنام: وتهود تبع وأهل اليمن:12.
[61] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 14/75.
[62] المصدر السابق: 14/75-86.
[63] رواه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: مسلم (1218).
[64] تفسير السمعاني: 1/281.
[65] المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام: 14/112-113.
[66] رواه الطبري في تفسيره: 2/358.
[67]) شرح السنة: 12/384.
[68] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب: 5/344.
[69] الأوائل للعسكري: 20.
[70] المعاني الكبير: 113.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #94  
قديم 11-07-2014, 07:48 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة نقد الليبرالية واستعبادها للشعوب

نقد الليبرالية واستعبادها للشعوب*
ــــــــــــــــــ

14 / 1 / 1436 هــ
7 / 11 / 2014 م
ــــــــــــ



انضم لمكتبة "نقد الليبرالية" ومحاكمتها إلى الاسلام كتاب مهم وجديد للكاتب: محمد إبراهيم مبروك، بعنوان :"نقد الليبرالية واستعبادها للشعوب" طبع: مركز الحضارة العربية / الطبعة الأولى / القاهرة / 2014م/ في : 406 من القطع المتوسط.

- أشار المؤلف في مقدمة كتابه إلى أن نقد وتفكيك مقولات الليبرالية الفكرية الغربية هو المحور الرئيسي للكتاب أما مادون ذلك فهو فرع عليه.

وقد أشار إلى أن أهم ماقصده في كتابه هو كشف المفاهيم الزائفة نحو الليبرالية والتي هاله حجمها، وهو يؤكد أن أخطر هذه المفاهيم الزائفة جميعا هو القول بأن الديمقراطية ليست مجرد صندوق الإنتخابات، وإنما قواعد مختلفة لابد من أن تؤخذ كاملة أولاً مثل حرية التعبير المطلق والحقوق المدنية العلمانية وإلا لايتم الإعتراف بها.

كما أشار في المقدمة إلى أنه ليس هدف هذا الكتاب هو نقد الليبرالية من وجهة نظر إسلامية أو إبراز التناقض بين الليبرالية والاسلام وإن كان ذلك نتيجة مترتبة على مانفعل بشكل حتمي، وإنما إلى الانسان بوجه عام لأبرز أن الليبرالية لاتقدم حلولا تجيب الإنسان عن تساؤلاته المصيرية.

- استهل كتابه بعنوان: "ماهي الليبرالية "معرفا إياها قاموسيا، ثم مبينا نشأتها وتطورها؛ وخاصة تطور مفهومها في المرحلة الأخيرة: مقرًرا أنه ليس لمفهوم الليبرالية دلالة محددة؛ بل يتعرض باستمرار للكثير من التغيرات والتحولات مشيراً إلى وصف جالستون بأنها تشبه سلة من القيم والمثل تتداخل وتتعارض أحيانا مع بعضها البعض مما يجعل فهم كلا منها مهمة صعبة فضلا عن فهمها كلها متزامنة.

ثم يشير الى تعريفه هو لليبرالية: فهو يرى أن الجوهر الوحيد لها هو صيرورة التحرر ومن ثم يتداخل الجوهر في الإطار وتفقد التقاليد معناها.

- وفي قسم آخر من الكتاب يتحدث تحت عنوان: الليبرالية السياسية؛ مبينا مراحلها على يد منظريها من لوك وفولتير، إلى جان جاك روسو إلى جون ستيورات مل الذي يعد منظر الليبرالية الأكبر، مبينا تناقضاته حول بعض المفاهيم المرتبطة ومنها مفهوم الديمقراطية؛ إذ تنطلق المسألة من رؤيته الفلسفية العلمانية والتي انتهت لديه إلى نسبية المعرفة والقيمة المطلقة..

ثم بين موقف الإسلام من الليبرالية: حيث فصل في ذلك غير أنه اتكأ على أن الإسلام دين مبدئي شمولي لا يقبل التجزؤ يقوم على عقيدة متكاملة وقواعد ثابته ومنظومة تجمع بين تصوراته لحقائق الوجود.

كذلك بين أن موقف الإسلام من الديمقراطية معتمد على فكرة: أنه يجب التحرر من الزعم الغربي بأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للحرية والرشاد العقلي، وأنها الحل الوحيد لسعادة الشعوب لدى الفلاسفة والمفكرين.

ثم استطرد في بيان ماهيتها وتقسيماتها بين الديمقراطية الدستورية وديمقراطية المشاركة والفرق بينهما، والمشاكل التي تواجه الأنظمة الديمقراطية المعاصرة.

ثم يعود إلى موقف الإسلام من الديمقراطية؛ ليوضح أنه قبل الحديث عن موقف الإسلام من الديمقراطية فلا بد أن نشير أولاً إلى أن هناك إجراءات أصيلة في الإسلام من إجراءات الحكم تعد في نفس الوقت من أهم مكونات الديقراطية ، هذا بعيد عن أي نوع من المقاربة أو الممالقة للأفكار الغربية.

ثم يقرر: وبوجه عام يمكن القول أنه إذا تم الاتفاق على مرجعية الإسلام كقاعدة دستورية وقبول بعض الإجراءات الديمقراطية للحذف والتعديل فإنه يمكن القول بإتفاق الإسلام مع الديمقراطية، أما بالنسبة للديمقراطية الليبرالية فالخلاف يصل إلى حد التناقض ، ثم بين موقف الإسلام من الديمقراطية الليبرالية ..

ونؤكد هنا أنه لم يطلق القول باتفاق الإسلام مع الديمقراطية وإنما قيده بالاتفاق على مرجعية الإسلام كقاعدة دستورية وقبول بعض الإجراءات الديمقراطية للحذف والتعديل.. كما استبعد الديمقراطية الليبرالية من إمكانية التوافق ، وإلا فهو من أشد الناقدين لجوانب الافتراق عن مرجعية الإسلام في فلسفة الديمقراطية وتطبيقاتها ؛ في هذا الكتاب وسابقه من كتبه.

- وعلى ذلك المنحى بين المؤلف الرأي في متعلقات كثيرة بمفهوم الليبرالية، فيتحدث في الباب الثاني عن الليبرالية الفكرية: متحدثاً فيها عن البراجماتيه الفكرية الليبرالية، وعن الظاهر الماسوني وعن ليبرالية فوكوياما ....وغيرها .

- وفي الباب الثالث: يتحدث عن الليبرالية الإجتماعية؛ مشيراً الى مفهوم المواطنة والمساوة وحقوق المرأة والحركات النسوية وحقوق الإنسان ..

- وفي الباب الرابع: يشرح الليبرالية الاقتصادية، مناقشاً الإقتصاد الحر، والإستهلاك ومفهوم الإقتصاد الإسلامي، وجانب استعباد الليبرالية الاقتصادية للشعوب .

- وفي الباب الخامس والأخير: يتحدث عن الليبرالية الإعلامية؛ مبيناً أساطير الإعلام الليبرالي، من أسطورة الحياد، إلى إستطلاعات الرأي و السياسة، إلى الهيمنة الثقافية.. وغيرها .



ويختم بجدول مبسط بين فيه خلاصة التناقضات بين الليبرالية والإسلام :



- وبالجملة: فالكتاب يقدم مادة ثرية ومتنوعة، ويطرح نقداً نافذاً إلى جوهر الأفكار والمفاهيم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{مركز البيان للبحوث}
ــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #95  
قديم 11-11-2014, 08:58 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة المضامين العلمانية للفكر التنويري

المضامين العلمانية للفكر التنويري
ـــــــــــــــــ

(أحمد سالم)
ــــــ

18 / 1 / 1436 هــ
11 / 11 / 2014 م
ـــــــــ



ذكرنا في المقال الأول أن المحدد الذي على أساسه نفصل بين التنوير الإسلامي وبين مذاهب الفقهاء السائغة أن رجال هذا التيار قاموا بعملية موائمة وتوفيق بين مفاهيم التنوير الغربي العلماني وبين نصوص الوحي والشريعة وأنهم في عملية التوفيق هذه أضاعوا قطعيات من الشريعة وخالفوها إما بقبول باطل وإما برد حق، فكانت مخالفة القطعي، بقبول ما هو باطل من المفاهيم الغربية، أو برد ما هو ثابت قطعي من الدين هو الموجب لتصنيفهم على الصورة السابق ذكرها.

والواقع أن العامل الأساسي الذي يُخرج عملية التوفيق هذه عن مسارها الصحيح ويؤدي لتضييع القطعيات هو قبول الباطل وهو الذي يؤدي بعد ذلك لرد الحق، وأكثر هذا الباطل الذي يتورطون في قبوله يكون مُحملاً بمضامين علمانية لا ينتبهون إليها مما يؤدي لاستحالة التوفيق بينه وبين الوحي الصحيح إلا بتضييع شيء من الدين الحق، فاستبطان مضامين علمانية بصورة لا شعورية هو أساس الضلالة في التنوير الإسلامي.

وقلنا أننا سنفرد لهذه المضامين العلمانية عدداً من المقالات تُجليها على النحو الذي يُرشد للحق ويُضِلُ عن الباطل، ويهتدي به إخواننا التنويريون إن شاء الله.، وتحدثنا في المقالة السابقة عن الشرعية السياسية في التنوير الغربي العلماني، وطريقة استقبال التنوير الإسلامي لها، والمضمون العلماني الكامن خلف طرح التنوير الإسلامي لمفهوم الشرعية، وقطعيات الوحي التي أهدرها الطرح التنويري.

وحديثنا في هذه المقالة هو فلسفة الجريمة والعقوبة في التنوير الغربي العلماني، وكيف استقبلها التنوير الإسلامي استقبالاً فيه من الشريعة والدين الحق، وفيه أيضاً من الباطل المحض المهدر لقطعيات الدين بسبب المضامين العلمانيية التي استبطنها التنويريون أثناء عملية الاستقبال والموائمة.

1- مفهوم الجريمة والعقوبة وفلسفتهما في التصور التنويري العلماني:

بنى التنوير العلماني صرحه الفكري في هذا الباب على ركنين رئيسين:

الأول: نزع الدين عن أن يكون مصدراً للتجريم المدني.

الثاني: منع جريان العقوبات السلطوية على جرائم دينية.

في التصور العلماني: ليس عد الدين الفعل جريمة بموجب لأن تعده السلطة السياسية جريمة، وليس كون الفعل جريمة من وجهة النظر الدينية بالموجب لإجراء العقوبة السلطوية على فاعله.

فالعلمانية بعد أن نزعت سلطات الكنيسة وخلعتها على دولة ملوك الحق الإلهي ثم على حكومات التعاقد ثم على الدولة/الأمة بعد ذلك أبت أن تجعل للكنيسة كممثل للدين أي شرعية في تعيين الفعل المجرم أو طلب إجراء العقوبة عليه؛ وكان ذلك متسقاً مع أمرين:

الأمر الأول: رغبة العلمانية في تقليص سلطات الكنيسة وتقليص الدين في نفوس الناس وتقليص المساحة التي يشغلها من وظائف الدولة؛ فإن وضع جهاز العقوبات المدني في خدمة الرسالة الدينية يتنافى مع المبدأ العلماني القاضي بفصل الدين عن الدولة.

الأمر الثاني: رغبة العلمانية في ترشيد الفعل السلطوي والأساس القانوني وإرجاعه للنظر العقلي في المصالح والمفاسد الوضعية ونزع الدين عن أن يكون مكوناً من المكونات القانونية وموجباً من موجبات العقوبات السلطوية.

وفي النصوص التالية نستعرض كيف تطور هذا المفهوم في الفكر الغربي:

- صنف مارسيل البادواني أستاذ الفنون الأدبية ورئيس جامعة باريس في القرن الرابع عشر الميلادي مع جان دو جاندان "المدافع عن السلام" وفي أحد نصوصه المهمة يقولان: "يعود لسلطة الأمير وحدها، بمقتضى القوانين الصادرة عن المشترع البشري، حق إصدار الحكم الجزائي ضد الهراطقة وسائر من يقتضي ردعهم بالقصاص أو العذاب الزمنيين، كما يعود إليها الحق في إنزال عقوبة شخصية أو عينية بهم وتسريع تنفيذها".

- ويقول مارسيل: "إن السلطة لكي تتمكن من القيام بهذا الأمر إن كان مشروعاً يجب أن يكون بيد المشترع الإنساني وحده".

- ويقول مارسيل: "عندما يعاقب الأمير أحدهم فما ذلك فقط لأنه أخطأ ضد الشريعة الإلهية؛ فكثيرة هي الخطايا المميتة التي ترتكب ضد الشريعة الإلهية كالزنى مثلاً، وتتساهل فيها الشريعة البشرية عن علم وإدراك.. إن إنزال العقاب بالهرطوقي الذي يخل بالشريعة الإلهية أمر ممكن في هذا العالم إذا كانت الشريعة البشرية تحظر هذه الخطيئة أسوة بما عداها. إلا أن سبب العقاب المباشر في هذه الحالة أيضاً هو انتهاك الشريعة البشرية" (النصوص بواسطة: "تاريخ التسامح في عصر الإصلاح" جوزيف لوكلير، نشر: المنظمة العربية للترجمة).

في هذا النص المبكر المهم نجد تباشير الصلة بين العلمانية والتسامح العقابي بجعل مناط عقوبة المهرطق هو خرقه للشريعة الإنسانية لا انتهاكه للشريعة الإلهية، ومطالبته بنقل سلطة تلك العقوبة من الكنيسة إلى الملك، واحتجاجه بأشياء من الشريعة المسيحية لا تعاقب عليها الشريعة ليقيس عليها جنس الشريعة فلا يجعلها بمجردها مصدراً للعقوبة، وجميعها أفكار ستتناسل منها تصورات التنوير العلماني والتنوير الإسلامي بعد ذلك.

- يقول تودوروف: "إن أول سمة تكوينية لفكر الأنوار تتمثل في جعلنا نفضل ما نختاره ونقرره بأنفسنا على ما تفرضه علينا سلطة خارجة عن إرادتنا... ينبغي الانقياد طوعاً للقوانين والقيم والقواعد التي يرغب فيها بالذات أولئك الذين هي موجهة لهم".

- وكان من لوازم هذا التأسيس العلماني للقوانين والتشريعات ألا يكون من مكونات مفهوم الجريمة وتكييف عقوبتها دين أو وحي؛ لذلك يواصل تودوروف عرضه لأسس التنوير العلماني قائلاً: "ولم يكن هذا البرنامج ليشمل السياسة فحسب بل شمل كذلك العدالة؛ إذ غدت الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد" (روح الأنوار؛ تزفيتان تودوروف، ص: [15-17]).

- وقد استوى هذا المفهوم تاماً حين عبر عنه جيفرسون بقوله: "لا تمتد السلطات المشروعة للحكومة إلا إلى تلك الأعمال التي تؤذي الآخرين فحسب، لكن لا يؤذيني في شيء أن يقول جاري إن هناك عشرين إلهاً، أو يقول لا يوجد إله قط؛ فلا هذه ولا تلك تسرق جيبي أو تكسر ساقي" (عصر التنوير، ليود سبنسر، ص: [130]).

- ويقول بنتام في كتابه "أصول الشرائع": "يجب أن يكون سير الديانة موافقاً لمقتضى المنفعة؛ فالديانة باعتبارها مؤثراً تتركب من عقاب وجزاء، يجب أن يكون عقابها موجهاً ضد الأعمال المضرة بالهيئة الاجتماعية فقط... وهذه هي القاعدة الأولية، والطريقة الوحيدة في الحكم على سير الديانة، هي النظر إليها من جهة الخير السياسي في الأمة فقط، كما نظر إليها رجال الدين من قبل، وما عدا ذلك لا يلتفت إليه وكل أمر ديني رأى المقنن وجوب استعماله يصير مضراً إذا سلك في إلزام الناس به طريق التهديد والعقاب" (أصول الشرائع، للنتام، ص: [307]).

2- استبطان المفهوم العلماني للجريمة في الفكر التنويري الإسلامي:

والحقيقة أن التنويريين في تأثرهم بمفاهيم حقوق الإنسان والتسامح الغربية وفي محاولتهم المواءمة بينها وبين الدين الحق قد أضاعوا ثوابت من الدين ما أداهم إلى تضييعها سوى استبطان المفهوم العلماني للجريمة والذي لا يجعل الدين وتضييعه موجباً للعقوبة حتى يقترن هذا بالموجبات العلمانية للعقوبة من أذى الآخرين والاعتداء على حرياتهم وحصول الضرر الاجتماعي.

العلمانية في صلتها بتطور الدولة القومية الحديثة نقلت علاقات الولاء والبراء وقيم الانتماء للجماعة والخروج عنها من الدين إلى مؤسسة الدولة القومية عبر مفهوم المواطنة؛ ونقلت لهذه الدولة الوظائف العمومية للدين، وأبطلت عقوبة المرتد مثلاً لكن تنقلها إلى عقوبة للخارج عن الدولة أو الخائن لها، ثم أبطلت العلمانية إقامة الشأن السياسي على التصورات المعيارية الدينية والأخلاقية؛ لتقيمه على أسس عقلانية إجرائية تعاقدية لا تعاقب إلا على قانون تم سنه بهذه الآليات، وسنرى كيف ابتلع التنويريون العلمانية وكيف قلبوا مفاهيم الدين السابقة على مفاهيم الدولة الحديثة؛ ليجعلوا تشريعات الدين في عقوبات المرتدين وأصحاب الأقوال المحرمة مرتبطة بالولاء للدولة وحفظ استقرارها المجتمعي.

ويتجلى لنا هذا الطرح عند التنويريين باستعراض كلامهم التالي:

- يقول طارق السويدان[1]: "هناك فرق شاسع بين حرية التعبير التي أدعو وأؤمن بها، وبين حرية السب والشتم والاستهزاء، لأني تعريفي للحرية الذي أكرره دوماً (قول وفعل ما تشاء بأدب وبلا ضرر)، فإذا أساء الإنسان الأدب مع الله أو رسوله أو حتى مع الناس، أو استهزأ بدين الله أو المقدسات عندنا أو مقدسات غيرنا، فإن صاحب هذا الفعل ينبغي أن يعاقب لأنه تجاوز الحرية إلى الإساءة والضرر، سواء كان من المسلمين أو غيرهم... وألخص رأيي بأنه على الصعيد العملي أعتقد أن للإنسان الحرية في أن يعمل ما يشاء ما لم يتجاوز ما اتخذه المجتمع من أنظمة تكفل أمنه واستقراره.

أما في مجال الفكر فلا أرى للحرية فيه حدود إلا الأدب وعدم الإيذاء اللفظي.

أما ما عدا ذلك فللإنسان أن يعبر عما بدا له من قناعات وإن خالفت قناعات المجتمع، بل وإن خالفت الدين السائد والمذهب القائم، وواجبنا أن نسمع له ونعمل على إقناعه بالدليل والبرهان لا بالتهديد والقانون" (بيان موجود على صفحته في الفيس بوك).

قلت: وهذه العبارات نصوص دالة على استبطان المفهوم العلماني الذي يجعل سب فلان وفلان، وإيذاء المجتمع، وتكدير الأمن العام، كل تلك جرائم تستحق العقوبة السلطوية، أما الإلحاد ففكر يقارع بالحجة فحسب!

- يقول جاسر عودة: "هناك فرق في الشريعة بين الذنب أي الإثم أو المعصية التي يرتكبها الإنسان مخالفاً لأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه وما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الجريمة التي قد تكون ذنباً، لكن الفرق بينها وبين الذنب أن الجريمة لها عقوبة مدنية" (بين الشريعة والسياسة؛ ص: [93-98]، نشر: الشبكة العربية للأبحاث).

قلت: واستبطان المفهوم العلماني ظاهر جداً فيما طرحه جاسر عودة، وقد زاد عليه بسوء فهم غريب جداً؛ إذ ظن أن إجراء العقوبات التعزيرية يستلزم تقنينها مع ما يستتبع ذلك من عبء على الدولة.

ومع كون هذا ليس صحيحاً؛ بل طبيعة العقوبات التعزيرية القائمة على النسبية التقديرية والموازنة المصلحية تتأبى على التقنين، إلا أن تضخيم الأمر وجعله عبئاً على الدولة فيه مبالغة، لا تتناسب مع التناسل اليومي للقوانين وزيادة أعباء الأجهزة التنفيذية في العالم من أجل قضايا تافهة واستدراكات عصبية لقصور التشريع الوضعي.

كما أن الدكتور عبر ست صفحات كاملة لم يذكر حجة شرعية واحدة بل ظل يسطر الكلمات خلف بعضها في دعوى مجردة عن البرهان.

- يقول عبد الله المالكي: "الشريعة من جهة علاقتها بالسلطة والفعل السياسي تنقسم إلى قسمين:

1- أحكام شرعية إيمانية فردية أخلاقية.

2- أحكام شرعية إيمانية اجتماعية حقوقية.

فالقسم الأول لا يتصف بصفة قانونية حقوقية، ومن ثم لا يحق للسلطة التدخل في فرضه... ومنشأ هذا التقسيم هو أن منطق الشريعة من الوجهة السياسية السلطوية يقوم على تمييز البعد الفردي الأخلاقي من البعد الاجتماعي الحقوقي.. كلها محل إلزام من حيث الديانة.. ولكن الفرق هو أن الأحكام الفردية الأخلاقية التزامها ذاتي فردي مبني على الاختيار الحر المنوط بالمسؤولية التكليفية أمام الله تعالى من دون إجبار أو إكراه سلطوي، ومن ثم فالمسؤولية فيها مسؤولية أخروية فقط، وأما الأحكام الاجتماعية الحقوقية فالتزامها قانوني مؤيد بسلطة الدولة ومؤسساتها التنفيذية ومن ثم فالمسؤولية فيها دنيوية وأخروية في آن" (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة؛ ص: [67-68]، نشر: الشبكة العربية للأبحاث).

قلت: والحقيقية أن الشريعة بريئة من هذا التقسيم، وظاهر جداً التناص الذي يقارب التطابق بين هذا الكلام وبين الأساس التنويري العلماني الذي قرره تودوروف بقوله: "إذ غدت الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد" (روح الأنوار، تزفيتان تودوروف، ص: [15-17]).

وقد نقل المالكي نقلين عن القرافي وابن تيمية في مسألة أخرى تماماً وهي أن حكم الحاكم لا تعلق له بمسائل الفتيا تعلقاً يعين الصواب والحق فيها، ولا صلة لهذا المبحث بمسألتنا والدليل على عدم تعلق كلامهم بمسألتنا ما يلي:

أولاً: أنهم ذكروا مسائل خلاف الفقهاء وأن حكم الحاكم لا يجعل أحد القولين صحيحاً، ومسألتنا ليس في تصحيح أحد القولين وإنما في إمكان العقوبة على مخالفة الشريعة في ما سماه التنويريون أخلاقاً، وأكثر هذا لا تعلق له بخلاف الفقهاء بل هو من المسائل المجمع علي حرمتها، وليس في كلام القرافي وابن تيمية منع الحاكم من العقوبة على مخالفة المجمع عليه، بل في كلامهم النص على جوازها.

ثانياً: أن القرافي بيّن مقصده من كلامه في نفس الموضع الذي ينقل المالكي منه وهو قوله: "ويلحق بالعبادات أسبابها وشروطها وموانعها المختلف فيها، لا يلزم شيء من احكام المترتبة على اعتبار أحدها من لا يعتقده، بل يتبع مذهبه في نفسه ولا يلزمه قول ذلك القائل بحكم الحاكم به".

فدل ذلك قطعاً على أن القرافي يتكلم في مسألة أخرى لا تعلق لها بما نحن فيه، وبينة ذلك القطعية أن المالكي قرر أن الزكاة وأخذها هو من أحكام الحقوق المجتمعية والقرافي هنا يُدخل العبادات في كلامه، فهل يقصد القرافي أن ولي الأمر لا دخل له بجمع الزكاة، أم يقصد أن اختيار ولي الأمر إيجاب الزكاة في الحلي (مثلاً) لا يعين أن هذا هو الحق ويوجب بذلك على الناس تغيير مذاهبهم؟

لا ريب أن مراد القرافي هو الثانية، ومنها ننتقل إلى ما يقطع الجدل كله وهو سؤال:

هل إذا اختار الحاكم إيجاب زكاة الحلي وأراد جمعها من الناس، هل يقصد القرافي وابن تيمية أن ليس للحاكم فعل ذلك؛ لأنها مسألة خلافية؟

الجواب لا؛ إذا لا تخلو مسألة اجتماعية حقوقية "بتصنيف المالكي" من خلاف فقهي ولو كان مراد القرافي وابن تيمية عدم التدخل في الخلاف الفقهي لانسد على الحاكم التدخل في كل شيء حصل فيه خلاف وامتنع عليه اختيار قول يُمضى به القضاء، وهذا باطل لا يقول به فقيه قط، وإنما جرنا إلى كل هذه الثرثرة هذا الفهم العجيب للمالكي لكلام ابن تيمية والقرافي، ومراد الرجلين هو عدم صلاحية اختيار الحاكم لتعيين الحق وقمع الفتيا المخالفة، وليس عدم صلاحية اختيار الحاكم لإمضاء القضاء والتصرف السلطوي على مقتضاه، لا فرق في هذا بين خلقية أو اجتماعية وليس هذا هو مورد القسمة في كلام الشيخين أصلاً بل مورد القسمة عندهما في التفريق بين الفتيا وأن اختيار الحاكم لا يقضي عليه سواءً في الأخلاق أو الحقوق، والتفريق بين ذلك وبين الفعل السلطوي وأن تأثير اختيار الحاكم فيه لا جدال فيه لا يفرقون في ذلك بين أخلاق وحقوق.

ثالثاً: أن كلام ابن تيمية في الموضع المنقول كان في سياق اعتراضه على رفع كلامه في الواسطية لابن مخلوف القاضي، وليست هذه من مسائل القضاء، ولا علاقة لهذا كما ترى بتفريق بين خلقية وحقوقية كما يتوهم المالكي.

ثم إن أكثر كلام ابن تيمية في هذه المسألة كان عطفاً على قوله في الطلاق ثلاث وإرادة بعض الفقهاء منعه من الفتيا فيها؛ لأن فتياه على غير اختيار الحاكم، وهذا يدل دلالة قطعية على بطلان فهم المالكي لكلام ابن تيمية وذلك لسببين:

الأول: أن هذه المسألة من مسائل الحقوق في تقسيم المالكي فيلزم المالكي على فهمه أن ابن تيمية يقصد منع تدخل الحاكم بسن قانون في الطلاق مبني على اختياره من أقوال الفقهاء، وهذا باطل لا يقول به المالكي.

الثاني: أن ابن تيمية مقر بأحقية الحاكم في فرض قانون مبني على اختياره في الطلاق وإنما نزاع ابن تيمية في احتجاج خصومه بذلك على منعه من الفتيا؛ فكلام ابن تيمية كله في الفتيا وأن اختيار الحاكم لا يقيدها وليس في أن اختيار الحاكم وتصرفه مقيد.

وخاتمة الاحتجاج هاهنا: أن عبد الله المالكي لو أتم نقل كلام ابن تيمية سيجده في الصفحة المقابلة للصفحة التي فيها هذا الكلام يُتم كلامه فيقول: "والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين. إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء من الآية:59].

وإذا تنازعوا فهم كلامهم: إن كان ممن يمكنه فهم الحق فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه وأن يقر الناس على ما هم عليه؛ كما يقرهم على مذاهبهم العملية. فأما إذا كانت البدعة ظاهرة -تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة- كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية.

فهذه على السلطان إنكارها؛ لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة ونحو ذلك ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئاً -عند الجهال- لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة" (مجموع الفتاوى: [3/239]).

وهذا نص قاطع في عدم التفرقة بين شرائع الدين في إمكانية التدخل السلطوي، وأنا أعقد خلوة شرعية بين هذا النقل وبين أخي عبد الله المالكي، فليس بعد دلالته مجال لاحتجاج ولا متسع للجاج.

وثم خطأ آخر وقع فيه المالكي في هذا الموضع وحاصله:

أنه لما أراد الاحتجاج للتفريق العلماني بين جرائم الحق العام وبين الحريات الفردية في ارتكاب ما يحرمه المقدس أورد نصوص الفقهاء في عدم جواز التجسس وتتبع العورات، وموضع الغلط هنا: أن الفقهاء يحرمون التجسس، ولكنهم لا يقولون بأن الجريمة المستورة لا يعاقب عليها صاحبها إن تم كشفها بغير تجسس كالإقرار -ماعز والغامدية- مثلاً، أو انكشاف ستر من غير تجسس كما في واقعة الزنا التي سيقت لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.

ويلزم المالكي أن يمنع عقوبة من أقر على نفسه بشرب الخمر؛ لأنه في تصوره إنما شربها في بيته ولم يقتحم بها المجال العام!

فالمالكي جعل منع التجسس منعاً للعقوبة السلطوية، والواقع أنه لا تلازم بينهما، وإنما جره إلى هذا استبطانه للتصورات التنويرية العلمانية الغربية في العقوبات ففرق بين الأخلاق والحقوق المجتمعية ثم فرق بين المجال الفردي والمجال العام، وكل هذه التفريقات مصادمة لنصوص الشريعة القطعية وغاية ما مع المالكي فيها هو أفهام بينة الخطأ لكلام الفقهاء، وهي الإشكالية الشائعة في الطرح التنويري.

والحقيقة أن هذا التصور ينافي تماماً الدين الحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكل معصية جعلتها الشريعة معصية وقدرت استحقاق فاعلها لعقوبة أخروية فهي جريمة يجوز التدخل السلطوي للعقاب عليها إن كان العقاب السلطوي هو الأصلح؛ فالأساس في اعتبار الفعل جريمة في نظر الإسلام هو مخالفة أوامر الدين (انظر: الجريمة؛ لمحمد أبي زهرة؛ ص: [25]).

ولعلي أختم بمثال من سياسة الفاروق عمر أوشك أن يعاقب فيه على تصرف غير أخلاقي لحق ديني هو حق مسجد رسول الله، ولم يمنعه إلا احتمال جهل الرجلين وعدم تفقههما:

عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَضَرَ رَجُلٌ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. فَذَهَبْتُ، فَجِئْتُ بِهِمَا فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ قَالَ: "لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ مَا فَارَقْتُمَانِي حَتَّى أُوجِعَكُمَا جَلْدًا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!" (صحيح، أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة [1/33] قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ومن طريقه البخاري في صحيحه رقم: [470] عن الْجَعْدُ (وقد يصغر) عن يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ به).

3- القطعيات المهدرة في الطرح التنويري لمفهوم الجريمة والعقوبة.

بيّنا أن الطرح العلماني حول مفهوم الجريمة والعقوبة يمنع تدخل السلطة السياسية لدعم الرسالة الدينية، ويرفض تجريم ما تعده الرسالة الدينية جريمة، ويقصر التدخل السلطوي على الجرائم المجتمعية التي تتعلق بأذى الأفراد مع ضبط حدود ذلك بالقوانين التي يختارها الناس.

وبينا تأثر التنويريين واستبطانهم لهذا المفهوم ومحاولتهم موائمته مع النصوص الشرعية عن طريق أفهام غير صحيحة للطرح التراثي الفقهي، في غفلة شديدة منهم عن المتعلق العلماني لهذا المفهوم والذي ترجع جذوره لسياسات فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية.

ونذكر هاهنا أمثلة على القطعيات التي أهدرها التنويريون بسبب استبطانهم لهذا المفهوم وهي ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تحريفهم للعقوبة الشرعية للمرتد.

اتفقت كلمةُ هؤلاء الإسلاميين على وجوب العقوبة على الردة المقترنة بالخروج بالقوة على النظام العام وهو قول محمد عمارة وطه جابر العلواني وحسن الترابي (انظر: التعددية؛ لمحمد عمارة؛ ص: [9]، و{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}؛ لطه جابر العلواني؛ ص: [15]، و"السياسة والحكم" للترابي؛ ص: [156]).

ثم اختلفوا في الردة التي لم تقترن بذلك على أقوال:

الأول: إمكان قتل المرتد وأن العقوبة سياسية تعزيرية إن شاء الإمام أمضاها وإن شاء لم يُمضها، وهو قول راشد الغنوشي، ومحمد سليم العوا (انظر: "الحريات العامة في الشريعة الإسلامية" للغنوشي؛ ص: [49-50]، و"أصول النظام الجنائي في الإسلام" لمحمد سليم العوا؛ ص: [217]).

ثانياً: التفريق بين الداعية لردته فيقتل وغيره فلا يقتل وهو قول الشيخ يوسف القرضاوي (انظر: "جريمة الردة" للقرضاوي ص: [48-56]).

ثالثاً: استتابته أبداً، وهو قول عبد المتعال الصعيدي وعبد المعطي بيومي (انظر: "الحرية الدينية في الإسلام" ص: [69-70] "التكفير بين الدين والسياسة" ص: [10]. مع ملاحظة أنهم لا يقولون حتى بسجنه أثناء مدة الاستتابة فهذا رفع لمطلق العقوبة).

وظاهر جلي جداً تأثر كل قول من هذه الأقوال بالتكييف العلماني الذي لا يربط العقوبة السلطوية بمجرد المخالفة الدينية، ويتجلى هذا بمراجعة نصوص أقوالهم خاصة حين استرواحهم للمحاربة السياسية أو الدعوة للردة وتكييفهم لهذا بما يُخرج الجريمة عن صورتها الدينية الضيقة ليدخلها في حيز ما تُجرمه القوانين الغربية المعاصرة في غفلة شديدة عن الأساس العلماني لهذا التفريق؛ فكل استرواح لمثل هذا هو ضعف في تصور عظمة مصيبة الكفر بالله عز وجل بعد الإيمان به، وأنه لا تفتقر لمكون آخر لإيجاب العقوبة، وعلى ذلك تدل النصوص الشرعية التالية:

1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» ومفارقة الجماعة هاهنا صفة مفسرة وليست قيداً؛ إذ كل ترك للدين هو مفارقة لجماعة المسلمين وسيأتيك نص أهل العلم على هذا المعنى (راجع تخريج الأخبار كلها في مقالتي: "عقوبة المرتد بالنقل"، في ملتقى أهل التفسير).

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم المسلم، إلا بثلاث: إلا أن يزني وقد أحصن فيرجم، أو يقتل إنسانا فيقتل، أو يكفر بعد إسلامه فيقتل».

2- وعن عكرمة أن علياً رضي الله عنه، حرَّق قوماً، فبلغ ابن عباس رضي الله عنهما فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه»".

3- في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري رضي الله عنه والياً إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما قدِمَ عليه ألقى أبو موسى وسادةً لمعاذ، وقال: أنزل، وإذا رجل عنده موثق، قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد[2]، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاء الله ورسوله -ثلاث مرات- فأمر به فقُتِل.

5- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، قال: أخذ ابن مسعود قوماً ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق؛ فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه: "أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة لا إله إلا الله فإن قبلوها فخل عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله".

6- وعَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِشَيْخٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: "لَعَلَّكَ إِنَّمَا ارْتَدَدْتَ لِأَنْ تُصِيبَ مِيرَاثًا ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ" قَالَ: لَا. قَالَ: "فَلَعَلَّكَ خَطَبْتَ امْرَأَةً فَأَبَوْا أَنْ يُنْكِحُوكَهَا فَأَرَدْتُ أَنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ" قَالَ: لَا. قَالَ: "فَارْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ" قَالَ: أَمَا حَتَّى أَلْقَى الْمَسِيحَ فَلَا، فَأَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إِلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِينَ.

وظاهر جلي دلالة هذه الأخبار بألفاظها وسياقاتها على عدم تقييد عقوبة المرتد بحرابة أو استتابة مطلقة، أو تقدير إمام، ونحو هذا، بل ألفاظها وسياقاتها قطعية في الدلالة على ما أجمع عليه فقهاء المسلمون من أن المرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل لمجرد ردته لا غير.

قال الشافعي: "فلم يختلف المسلمون أنه لا يحل أن يفادى بمرتد بعد إيمانه ولا يمن عليه ولا تؤخذ منه فدية ولا يترك بحال حتى يسلم أو يقتل" ("الأم": [6/169]).

وينص الشافعي نصاً لا ارتياب فيه على مناط قتل المرتد أنه: "إنَّمَا يُوجِبُ دَمَهُ كُفْرٌ ثَبَتَ عَنْهُ إذَا سُئِلَ النُّقْلَةَ عَنْهُ امْتَنَعَ، وَهَذَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَتَلَ مُرْتَدًّا رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَبُو بَكْرٍ قَتَلَ الْمُرْتَدِّينَ وَعُمَرُ قَتَلَ طُلَيْحَةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ، وَغَيْرَهُمَا" ("الأم": (1/295).

وقال ابن تيمية: "الخروج من الدين يوجب القتل وإن لم يفارق جماعة الناس" ("الصارم المسلول": [1/320]).

ويقول الطاهر ابن عاشور: "حكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة من الآية:256]، على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام" ("التحرير والتنوير": [2/319]).

المسألة الثانية: منعهم العقوبة الشرعية على الآراء الشاذة المحرمة.

الآراء المحرمة: هي كل اختيار في مسألة دينية يُظهره من اختاره، ويكون هذا الاختيار مخالفاً للنص القاطع أو الإجماع القديم.

والعقوبة: هي الجزاء، وتكون العقوبة شرعية حين تكون جزاء معيناً يؤذن الشرع باستعماله في هذا المقام المعين.

يقول القرافي: "الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة... معظمها على العصاة زجراً لهم عن المعصية، وزجراً لمن يقدُم بعدهم عن المعصية" (انظر: "الفروق": [1/213]).

ومحل النزاع في بحثنا هذا هو الصورة الباطلة التي قبلتها هذه الطائفة من التسامح الغربي، وهذه الصورة هي: منع العقوبة على مطلق الآراء المحرمة، وإنما ينتقون هم أنواعاً من الآراء المحرمة -فمستقل ومستكثر- يجيزون العقوبة عليها، أما الأكثر الأعم من الرأي المحرم فلا يجيزون العقوبة عليه.

لذلك كان النزاع بيننا في دعوانا أنه: يمكن شرعاً العقوبة على كل قول أو فعل محرم.

أي: إمكان أن تقع العقوبة على أي قول محرم، ويكون تحقق هذا الإمكان ووقوعه على قول محرم معين راجع لاجتهاد الإمام ونائبه من قاض ونحوه إن كانت العقوبة قضائية، وراجع للمجتهدين إن كانت العقوبة مجتمعية كالهجر أو الرد العلني ونحوه.

ويكون مناط النظر الاجتهادي في العقوبتين القضائية والمجتمعية هو: مصلحة الأمة ممثلة في المجتمع الذي أُظهر فيه القول المحرم، ومصلحة قائل القول المحرم نفسه، ومدى تطلب تحقيق هذه المصالح ودرء ضدها من المفاسد إلى معاقبة صاحب الرأي المحرم.

كما أن باب الاجتهاد مفتوح أمام أي محاولة لتفصيل ضوابط المصلحة في هذا الباب، بل باب الاجتهاد عندي مفتوح أمام المطالبة بإيقاف بعض صور هذه العقوبة ولو كانت مستحقة سداً لذريعة التوظيف السياسي إن انضبط مناط سد الذريعة ولم تعترضه مصلحة راجحة بينة.

والذي تدل عليه الأدلة والوقائع التاريخية للتجربة الراشدة، وممارسات السلف هو تقليل العقوبات السلطوية المصلحية-بالذات حين خروج السلطان عن الممارسة الراشدة وعدم أمن تعديه- وتغليب وتكثير العقوبات المجتمعية كالذم والزجر والهجر لكن هذا التقليل لا يعني الإعدام، بل الأصل إمكان هذه العقوبة وأنها مما يجيز الشرع للإمام استعماله بحسبه، وأنها مما يوجب الشرع النظر في مناطات استعمالاتها، فهذا قدر ثابت ليس مع المنازع فيه حجة عقلية أو نقلية.

وأما هؤلاء المخالفين: فمنعوا فتح الباب لإمكان العقوبة بهذه الصورة، وخصوا العقوبة بنطاقات معينة مرجعها في الغالب لتوسعتهم[3] لمبدأي السب وتكدير السلم الاجتماعي في العقوبات المدنية الغربية بحيث يتناولان بعد التوسعة بعض القضايا التي لم يجدوا مناصاً من إثباتها كعقوبة ساب الرسول، ولا حاجة بنا لتفصيل الرد على كل واحد منهم بحسب ما اختاره من نطاق للعقوبة؛ لأن قولنا هذا إن أثبتنا كونه حقاً، فسيؤدي هذا لإبطال جميع تقييداتهم؛ لكونه يُقرر أصل الجواز وشموله.

والحق أن موقف التنويريين من تلك الآراء يمكن تعيينه من غير عسر بمجرد تأمل أقوالهم في الردة نظراً إلى أن الردة هي سقف الأقوال المحرمة نظراً؛ لأنها تقع حتى من غير تأويل وتقع قصداً للخروج عن الإسلام فمن كان لا يعاقب بها أو يضيق نطاق عقوبتها فكيف سيكون قوله فيما دونها؟

ومع ذلك فإن تعيين أقوال الناس لا يكفي فيه مجرد هذا الاستدلال، ولذلك سأذكر هاهنا شيئاً من أقوالهم الدالة على موقفهم من العقوبة على الرأي المحرم:

1- يقول عبد المتعال الصعيدي: "كل ما يدخل في باب الحرية الفكرية في مأمن من العقاب الدنيوي؛لأنه يجب فتحه على مصراعيه؛ إذ لا يخشى على المجتمع منه، وإنما يقصده رواد الخير للإنسانية؛ليصلوا بأفكارهم إلى ما فيه سعادتها دنيا وأخرى، فإذا أصابوا فبفضل من الله، وإذا وقعوا في خطأ، كانوا معذورين فيه، ولا يصح عقابهم بشيء ما عليه. فإذا تعسف الحكام في ذلك بالتضييق على الناس في باب الحرية الفكرية فإن الدين يكون بريئاً من هذا التعسف" (انظر: "الحرية الدينية في الإسلام" ص: [12]).

2- يقول عبد العزيز قاسم منتقلاً من الحديث عن عقوبة المرتد إلى العقوبة على الآراء المحرمة مفرقاً بينهما: "عقوبة المرتد عقوبة شرعية ورد بها النص في قوله عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه» بيد أن تطبيقات هذه العقوبة تعرضت لتحولات خطيرة في التاريخ الإسلامي؛ فقد استغلت لتصفية حسابات سياسية في بعض الأحيان[4]، ووظفت في المواجهات المذهبية؛ فقد حوكم ابن تيمية مثلاً بتهمة مخالفة الإجماع -ما علاقة هذا بعقوبة المرتد؟!-، وكاد يُقتل، وقد توسعت بعض كتب الفقه في تشريع العقوبة حتى امتدت إلى المبتدع (هذا لم يكن من توسع كتب الفقه بل هو مستقر مستفيض في أقوال السلف وأفعالهم رحمهم الله).

وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين مع ردتهم، وعلل ذلك بأنه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتلُ أصحابه[5]؛ ولهذا[6] اعتبر بعض الفقهاء[7] أن هذه العقوبة مرتبطة بمفارقة الجماعة[8]، أي الخروج عليها" ("الحداثة والنص والإصلاح الديني" ص: [70]، نشر: الشبكة العربية للأبحاث).

وقد ذكرتُ هذا النقل رغم تفككه المعرفي؛ لأدلل على أن هذه الجمجمة في عقوبة المرتد وهي ثابتة بالنص فما بالنا بما دونها من الآراء المحرمة.

3- يقول نواف القديمي: "ما أريده هنا... أن نتأمَّل فقط في هامش الحريات الموجودة بمجتمع المدينة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، لأننا سنجد شيئاً مُذهلاً تتداعى أمامه كل مبررات الدعوة للطرد والإسكات واتهام العقائد والنيات، وذلك مع المنافقين الذين يعلم رسول الله نفاقهم القطعي من فوق سبع سماوات.. فكيف يكون الأمر في مجتمعاتنا اليوم أمام كتّاب -اختلفنا أو اتفقنا معهم- هم إسلاميون مهمومون بإصلاح المجتمع، ولهم آراؤهم الشرعية التي يستندون بها على أدلة من الكتاب والسنة.

لننظر فقط لما كان يقوله ويفعله المنافقون بالمدينة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبين ظهرانيه، وهو ما نقله لنا القرآن الكريم في آياتٍ تُقرأ إلى يوم القيامة... ورغم أن المنافقين كانوا يعيشون بين ظهراني الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكِرام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإسكاتهم قسراً وعِقابهم على أقوالهم. فضلاً عن قتلهم لقولهم ما يوجِب الكفر الصريح... أمام كل هذا الهامش الواسع لحُريّة الكلمة في مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي مجتمع الصحابة الأول، هل ثمة بعد ذلك مبررٌ لكل هذا القلق من ترداد البعض لأفكار يراها آخرون مخالفة لما اعتادوه من أحكام شرعية، أو حتى تصريح البعض بما يُناقض الشريعة في المُجتمع المسلم؟!

رغم أن التعامل مع المنافقين في مُجتمع المدينة، وإسكاتهم، وإيقاف كفرهم وضلالهم، كان أيسر بكثير مما يمكن أن يستطيعه أي نِظام سياسي اليوم تجاه المُختلفين سياسيّاً وفكريّاً" (مقالة بعنوان: "على هامش فتوى البراك في ***ي" وانظر: "تجديد فهم الوحي" لإبراهيم الخليفة ص: [446-455]).

والحقيقة أن الاحتجاج بواقع المنافقين من أعجب ما قيل من الاحتجاج العلمي في تاريخ الإسلام، وهو أحد دلائل ضعف القدرة الاحتجاجية في العصر الحديث؛ لذلك لا تجد فقيهاً ولا متكلماً في تاريخ الإسلام يحتج بمثل هذه الحجج، وأبسط البدهيات العقلية تقضي بأنه لم يك ثم داع لنفاق ولا غيره إن كانت حرية المنافقين في إظهار عقائدهم متاحة؛ فأي حاجة لرسول الله أن تنقطع معرفته بباطل المنافقين إلا بلحن قولهم؟

وبدهية أختها: وهي أن بعض المنقول في القرآن عن المنافقين هو مما يدخل في نطاق السب الذي يجعله إخواننا هؤلاء جريمة؛ فلازم قولهم أنه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم فيه حرية ولا عقوبة عليه، وهم لا يلتزمون هذا مما يدلك على خلل قولهم بل خلل فهمهم لقولهم.

وتضييع تلك البدهيات الواضحات مما يدلك على الواقع المؤسف للحالة الاحتجاجية في الفكر العربي المعاصر.

وقد توسع بعض الباحثين في نقد هذه الحجة من وجوه كثيرة أخص من هؤلاء الباحثين إبراهيم السكران؛ فهو أحسن من وفاها نقداً.

يبقى أمر أخير: وهو النصاعة الظاهرة لقيام المانع الشرعي من عقوبة المنافقين على باطلهم وهو ما في الصحيحين من حديث عمر وجابر بن عبد الله قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال: فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «دعوها فإنها خبيثة»، وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر رضي الله عنه: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (أخرجه البخاري [4905]، ومسلم [2584]).

ورغم ذلك فإنه لما تصاعدت ظواهر نفاقهم ليأسهم من وقف المد الإسلامي بدأوا يكثفون خططهم، وبدأ القرآن يكثف الحملة ضدهم؛ فقد آن أوان محاسبتهم على نفاقهم فقد أصبح الإسلام قوة يعمل لها ألف حساب وقد سيطرت على الإمبراطوريات الكبرى والوقت لم يعد وقت مداراة للمنافقين المعوقين داخل الصفوف؛ فقد أصبحت المصلحة تقتضي بعد ظهور قوة الإسلام أن يعامل هؤلاء كالكفار الصرحاء.

- فأنزل الله تبارك وتعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا . مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا . سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:60-62].

قال ابن تيمية: "دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم وأنهم لا يجاورونه بعد الإغراء بهم إلا قليلاً وأن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا وأصيبوا أسروا وقتلوا وإنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوماً لا يمكن قتلهم".

فأين الحرية المكفولة لهم إذن؟!

فإذا انتهينا من هذه الشبهة رجع القول إلى أصل مسألتنا وهو حكم العقوبة على الآراء المحرمة، والحق أن الآراء المحرمة هي من المنكر الواجب تغييره بالاتفاق، وللمسلمين ولولي أمرهم طرائق لهذا التغيير منها جواز تغييره بالقوة لصاحب السلطان، ومنه عقوبة صاحب الرأي المحرم عقوبة سلطوية، وهذا هو الذي تدل عليه نصوص الشريعة القطعية وكلام أهل العلم لا يختلفون فيه ومن ذلك:

1- عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (أخرجه أحمد: [11460]، [11073]. ومسلم [49]).

2- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» (أخرجه أحمد [4379] ومسلم [50]).

قلت: وكل صاحب سلطان يستطيع إزالة المنكر وإجراء العقوبة الشرعية على فاعله إن اقتضت المصلحة إجراءها فهو مخاطب بهذه الأدلة لا بينة على خروجه منها.

3- قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ . أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:12-13].

قلت: وهو صريح في اعتبار تصرف "الطعن في الدين" بمجرده تصرفاً حربياً يبرر القتال ويساوي تصرفات العداوات السياسية كنكث العهود، ويدل على جواز العقوبة السلطوية عليه، وأن الشريعة لا تفرق بين الطعن في الدين وبين التصرفات الحربية في استحقاق الجميع للعقوبة السلطوية.

- قال الشافعي: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويُحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" ("مناقب الشافعي"؛ للبيهقي [1/462]).

- قال الأجري: "يَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأُمَرَائِهِ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ مَذْهَبُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ -مِمَّنْ قَدْ أَظْهَرَهُ- أَنْ يُعَاقِبَهُ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، فَمَنِ اسْتَحَقَّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْتُلَهُ قَتَلَهُ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وُيُنَكِّلَ بِهِ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَنْفِيَهُ نَفَاهُ، وَحَذَّرَ مِنْهُ النَّاسَ" (الشريعة: [1/483]).

- وقال الماوردي متحدثاً عن واجبات الحاكم المسلم: "أَحَدُهَا: حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الْمُسْتَقِرَّةِ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَإِنْ نَجَمَ مُبْتَدِعٌ أَوْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ، أَوْضَحَ لَهُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ؛ لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ، وَالْأُمَّةُ مَمْنُوعَةً مِنْ زَلَلٍ" (انظر: "الأحكام السلطانية" ص: [40]، ومثله عند أبي يعلى ص: [24]).

- قال ابن تيمية: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور؛ وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات. فمنها عقوبات مقدرة؛ مثل جلد المفتري ثمانين وقطع السارق. ومنها عقوبات غير مقدرة قد تُسمّى "التعزير".

وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها؛ وبحسب حال المذنب؛ وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته.

"والتعزير" أجناس؛ فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، فإن كان ذلك لترك واجب مثل الضرب على ترك الصلاة أو ترك أداء الحقوق الواجبة: مثل ترك وفاء الدين مع القدرة عليه؛ أو على ترك رد المغصوب؛ أو أداء الأمانة إلى أهلها: فإنه يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الواجب ويفرق الضرب عليه يوما بعد يوم.

وإن كان الضرب على ذنب ماض جزاء بما كسب ونكالاً من الله له ولغيره: فهذا يفعل منه بقدر الحاجة فقط وليس لأقله حد... وأمر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة.

وأمر بضرب الذي نقش على خاتمه وأخذ من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة.

وضرب صبيغ بن عسل -لما رأى من بدعته- ضرباً كثيراً لم يعده.

ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قتل مثل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى البدع في الدين، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة من الآية:32].

وذهب مالك ومن وافقه من أصحاب الشافعي إلى قتل الداعية إلى البدع، وليست هذه القاعدة المختصرة موضع ذلك، فإن المحتسب ليس له القتل والقطع.

ومن أنواع التعزير: النفي والتغريب؛ كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزر بالنفي في شرب الخمر إلى خيبر؛ وكما نفى صبيغ بن عسل إلى البصرة وأخرج نصر بن حجاج إلى البصرة لما افتتن به النساء" (انظر: "الفتاوى" [28/108])

وقال ابن تيمية: "فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعياً، وهو لا يقبل الحق: إما لهواه، وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين. والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبينوا له الحق، كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه، ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه. وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين.

والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قوبل بالعقوبة. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّه مِنْ بَعْد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتهمْ دَاحِضَة عِنْد رَبّهمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَب وَلَهُمْ عَذَاب شَدِيد} [الشورى:16] (انظر: "درء التعارض" [7/172]).

قلت: ولا يحتج بأن الوحي لم يُرتب عقوبة معينة للأقوال الشاذ المحرمة؛ ذلك أنه لا حجة في ذلك لوجهين:

الوجه الأول: أن الاحتجاج بترك الوحي لا بد أن يكون بعد إثبات قيام المقتضى وانتفاء المانع والذي نقرره أن المقتضى لم يقم للنص على عقوبة للأقوال الشاذة لقلة وندرة ظهور هذه الأقوال زمن النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يك ثم من يستقل بنظر في الشريعة ليشذ في قوله، والناس كانوا تبعاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يك ثم مظنة لمثل ذلك سوى أقوال المنافقين الذين كانوا يستخفون بأقوالهم، وبعض أقوال لأعراب حديثي عهد بإسلام، واستخفاء الفريق الأول وحداثة عهد الفريق الثاني بالإسلام مع ندرة ذلك كله يقلل من اقتضاء النص على عقوبة لمثل ذلك، ومثلها بلوغ المحرمات رتبة تقتضي مصلحياً العقوبة عليها بعقوبات بدنية، فلا بينة على وقوع هذا ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم العقوبة رغم وقوعه، مع دلالة الأدلة على استعماله عقوبات زجر وهجر هي داخلة في جنس العقوبة المثبتة لأصل وجود عقوبة على جنس الذنوب.

يُضاف إلى ذلك قيام المانع: وهو تعذر إقامة العقوبات على مثل ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم والدين ينزلُ منجماً فحتى النادر من الأقوال الباطلة التي تقع من أصحابه صلى الله عليه وسلم يرجع لنقص العلم بالوحي ومراد الله ورسوله على نحو ما وقع من معاذ وعائشة وأسامة رضي الله عن الجميع، فكان يُكتفى بتعليمهم مع التشديد أو عدمه، مع تعذر عقوبة المنافقين لما سبق ذكره.

الوجه الثاني: أن الأقوال الشاذة في الدين لا تنضبط مقاديرها من جهة البطلان والطعن في الدين ولا من جهة الخطورة على المجتمع ولا من جهة انتهاكها لحرمة الدين ولا من جهة نفع العقوبة للقائل بها، ولا من جهة هذا القائل نفسه وما يظهر منه من حسن القصد والاجتهاد الموجبين للتخفيف، وهذه النسبية الشديدة في أحوال الأقوال الشاذة تمنع إجراء التعامل معها على وجه واحد فناسب ذلك جريانها على جهة السياسة والمصلحة كما قررناه.

فإن أبوا إلا التمسك بهذه الحجة، فإنا نذكر بينة قاطعة تدلهم على خطأ هذه الحجة، وتدل في الوقت نفسه على أن ما يحركهم هو المضمون العلماني لا الاحتجاج الفقهي: فإن لازم قولهم هذا هو عدم العقوبة السلطوية في جرائم السب المجرد كأن يسب الرجل أبا الرجل أو أمه؛ إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب على مثل هذه الجرائم أو أذن للناس أن يطلبوا العقوبة عليها، ولا يمكن تجويز العقوبة عليها إلا وفقاً لتأصيلنا لا لتأصيلكم.

المسألة الثالثة: إنكارهم قتال الطوائف المتتنعة عن الشريعة

يقول عبد الله المالكي: "فحروب الردة التي خاضها الصديق رضي الله عنه كانت لمواجهة انفصال القبائل المتمردة التي امتنعت عن دفع الزكاة، ولجل تثبيت الوحدة السياسية للدولة الناشئة.. فهو لم يحاربهم حرباً دينية؛ لأنهم على التوحيد في معظمهم ويدينون بالإسلام، ويصلون ويصومون ويحجون، بل ويزكون، ولكنهم يصرفون زكاتهم في مضارب قبيلتهم، ويمتنعون عن دفعها إلى عاصمة الخلافة وبيت مال الدولة، فلا وجه إذاً لمحاربتهم الحرب الدينية وإنما سيحاربهم حرباً سياسية تعيد للدولة هيبتها ووحدتها، وتضمن لهذه الوحدة النمو والتدعيم" (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة؛ ص: [175]).

والحقيقة إن هذه التصورات المستبطِنة للمفاهيم العلمانية عن الدولة الحديثة ذات السيادة والتي هي مركز الولاء ومنتجة القيم والتي تسقط الدولة بهذا المفهوم الحداثي العلماني على الخلافة الراشدة كلها أجنبية عن الشريعة والدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وفقه خليفه في إقامته الصديق أبي بكر رضي الله عنه؛ ذلك أن التكييف الذي لا يرتاب فيه لحروب مانعي الزكاة أنها حروب دينية لقوم ضيعوا شعيرة من شعائر الإسلام، هذا هو مناطها لا غير؛ لأنها دولة خلافة وإقامة للدين، وليست دولة العلمنة الحديثة التي تهمها حدودها ولا ترعى حدود ما أنزل الله، ويدل على هذا المناط دلالة قطعية لا يرتاب فيها فيه عالم بلسان الشرع قول أبي بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال" (أخرجه البخاري رقم: [1400]، وأطرافه فيه، ومسلم رقم: [20] من حديث أبي هريرة).

فجعل المناط هو التفريق بين شرائع الله في الاستجابة لها. وصريح قوله أنهم لو منعوا الصلاة لقاتلهم فدل ذلك دلالة قطعية على عدم تعلق القتال بالإمامة والسياسة، ولذلك نص الفقهاء على القتال على المندوبات المتواترة وليس فيها حق للإمام.

يقول مالك: "الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقاً عليهم جهادُه حتى يأخذوها منه" (الموطأ؛ ص: [269] ـ كتاب الزكاة، باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها).

ويقول شيخ الإسلام: "أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، فلو قالوا: نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعاً، كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة" (في مجموع الفتاوى؛ [28/ 469-470] بتصرّف واختصار، وانظر: مجموع الفتاوى؛ [22/ 51، 28/ 308، 502، 556]، والفتاوى الكبرى: [2/ 32، 3/ 473، 5/ 529]، ومختصر الفتاوى المصرية: ص: [167، 468]).

خلاصة:

الحق أنك مهما حاولت استقراء الأساس الفكري للتفريق بين الآراء الباطلة المحرمة وبين غيرها من الأقوال والأفعال التي لا يمانع المخالف من العقوبة الدنيوية عليها.

ومهما حاولت أن تجد فرقاً منضبطاً بين السب والشتم الذي يجيز التنويريون العقوبة عليه وبين الجناية على الدين والاعتداء على حق الله الكامنين في الردة والطعن في الدين.

ومهما حاولت أن تتأمل لم جعل المخالفون العقوبة على الرأي جائزة إن اقترن بعدوان على الدولة ومنعها إن لم يقترن بذلك.

مهما حاولت التأمُّل في كل ذلك لن تبصر مناطاً منضبطاً لتفريقاتهم هذه سوى كونها نوعاً من الاستبطان اللاشعوري للعلمانية.

فالعلمانية وحدها هي الأساس الذي يفسر كل تلك الفروقات التي يرفضها العقل السليم.

فالعلمانية هي التي أسست لعدم تدخل القانون الزمني لحماية الديني.

والعلمانية هي التي تنزع القداسة عن الديني وتبقيها للإنسان فلا تعاقب على التجديف وسب الله والأديان وتعاقب على سب الإنسان.

والعلمانية هي التي ابتدعت التفرقة بين الجرائم الدينية وبين الجرائم المدنية.

والعلمانية هي التي فرقت بين الجريمة بصفتها خطأ في حق المجتمع وحدها تستوجب القمع وصار لزاماً تمييزها من الإثم بصفته خطيئة أخلاقية من منظور التقاليد.

وستجد الحقيقة الناصعة التي لا تحتجب إلا بأخلاق النعام: أن استبطان التنويريين لهذه التصورات العلمانية هو الذي أنتج أقوالهم الشاذة في أبواب الردة والعقوبة على الأقوال الشاذة وقتال الطوائف الممتنعة وجهاد الغزو، وسائر ما أضاعوه من قطعيات الدين.

كل ذلك نفق مظلم أدخلتهم فيه المفاهيم الغربية ومجاهدة بلاء الموائمة غير المنضبطة بينها وبين الشريعة بالتأويلات المتكلفة والتحليلات المتطرفة والأفهام المعتسفة للنصوص والوقائع وكلام الفقهاء.

أسأل الله أن يهديهم وأن يشرح صدورهم وأن ينير دربهم وأن يُجري ماء الفرح بهذا الدين وثوابته دافقاً بين ترائب صدورهم.

ـــــــــــــــــــ

المراجع:


[1] (أختار حذف الألقاب من كلامي اختصاراً مع حفظ مقامات أصحابها؛ فأرجو ألا يُفهم من حذفها إرادة تنقص).

[2] (لاحظ كيف أنه لم يذكر مناطاً آخر كترك الجماعة أو غيره، بل فقط مجرد الارتداد).

[3] (وجعلتها توسعة؛ لأنه حتى الغرب لا يعاقب تحت هذين المبدأين على سب المقدسات غالباً، وإنما حشرها التنويريون تحتهما عنوة، فلا الحق ظل معهم ولا الباطل يقبلهم).

[4] (انظر لإبطال هذه الدعوى: "التفسير السياسي للقضايا العقدية" للشيخ سلطان العميري ص: [99-122]).

[5] (هذه هي العلة إذن).

[6] (أي لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم كي لا يتحدث الناس هذه هي مقدمة التعليل فننظر ما نتيجته؟).

[7] (لم يثبت بطريق صحيح يُطمئن إليه عن فقيه قط، وإنما هو قول محدث).

[8] (للقارئ الكريم جائزة من المؤلف إن استطاع أن يجد لي رابطاً بين امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين خشية سوء الشائعة وبين قصر قتل المرتد على مفارقة الجماعة).

...............
أحمد سالم

-----------------------------------------
رد مع اقتباس
  #96  
قديم 11-16-2014, 12:45 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة تناقضات الليبرالية العربية

تناقضات الليبرالية العربية*
ـــــــــــــــ

23 / 1 / 1436 هـ
16 / 11 / 2014 م
ــــــــــــ



من المعلوم أن الليبرالية منتج غربي خالص، وهي كلمة لاتينية بمعنى "حر" والليبرالية الغربية فلسفة سياسية تقوم على إطلاق حرية الفرد، ورفع شعار المساواة، ناهيك عن أن عموم الليبراليين يدعون في المجمل إلى :الديمقراطية، والانتخابات الحرة والنزيهة، وحقوق الإنسان، وحرية المعتقد....الخ.

ومع وجود كثير من التناقضات بين ما تدعو إليه الليبرالية الغربية وما ترفعه من شعارات، وبين ما تمارسه على أرض الواقع – وخصوصا خارج أرضها -، إلا أنها على كل حال أفضل حالا من الليبرالية العربية التي لم ت*** لشعوبها إلا الظلم والإقصاء والتضييق على الحريات.

إن من يتابع تصرفات الليبراليين العرب – وخصوصا في الفترة الأخيرة – يمكنه تدوين الكثير من التناقضات الظاهرة والواضحة، فبينما تدعو الليبرالية إلى المساواة، نجد الظلم والقهر من أبرز سمات ممارسات الليبراليين العرب، ورغم تقديس الليبرالية لمبدأ الحرية الفردية، تجد مصادرة الليبراليين العرب لحريات الآخرين تنافس في شدتها وقسوتها الأنظمة الديكتاتورية.

وإذا تحدثنا عن خرق الليبراليين العرب لمبدأ مهم من مبادئ الليبرالية، ألا وهو حماية حقوق الإنسان فحدث ولا حرج، فالسجون والمعتقلات تشهد بتناقض رهيب في هذا الجانب، وأما مبدأ احترام الديمقراطية فما فعله الليبراليون العرب بنتائج الانتخابات الحرة والنزيهة في بعض دول ما سمي "بالربيع العربي" غني عن البيان.

ولهذه التناقضات وغيرها هاجم الكاتب الصحفي خالد الغنامي الليبرالية السعودية، معتبرًا أنها نبتة لا تصلح للتربة السعودية أو حتى العربية، وهو ما يمكن إضافته لعيوب وتناقضات الليبرالية العربية.

وأضاف: أن الليبرالية في السعودية لا تحمل فكرًا أو هدفًا أو تتبنى مشروعًا إصلاحيًا، وكل ما تفعله المناكفة مع الإسلاميين والهيئة والصحوة، والمطالبة بقيادة المرأة للسيارة.

ويمكن القول: بأن الليبرالية في بقية الدول العربية لا تختلف عن الليبرالية في السعودية بل ربما تكون أسوأ.

واعتبر الغنامي أن الليبرالية في المملكة تتبنى قضايا الطبقة المترفة، ولا علاقة لها بواقع الفقراء والمساكين، متحديًا أن يكون هناك ليبراليًا تحدث يومًا عن مشكلة الفقر أو السكن، مشيرا إلى أن الليبرالية كلها لا ترى حقًا للفقراء والمساكين، وأن كل الليبراليين لا يؤمنون سوى بالرأسمالية، معتبرًا أن البنك هو الليبرالي الأول.

ولفت إلى تناقض الليبراليين في السعودية مع أفكار الليبرالية فهم إقصائيون لا يؤمنون بالحرية، ولعل ما حدث في بعض دول "الربيع العربي" خير شاهد على ذلك.

وأضاف: أنه لا يوجد ليبرالي مسلم، إما مسلم أو ليبرالي، من يعتقد أنه يستطيع أن يكون ليبرو إسلامي يعيش الوهم، والإسلام فيه غنية عن كل هذه المذاهب الفاسدة.

وعن سبب تخليه عن أفكاره الليبرالية التي تبناها في الماضي قال: إنه وجد نفسه في خلاف مع الليبراليين السعوديين مع حرب غزة الأولى مع مهاجمتهم للمقاومة وتمجيد بعضهم للمحتل، مضيفًا: "اكتشفت أن هذا التيار لا يمثلني بأي شيء، ولا يريد أن يصل لشيء، ودوره سفسطائي تخريبي عدو للدين والأخلاق والدولة".

إن مشكلة الليبرالين العرب أنهم لم يكتفوا بجريمة استيراد فلسفة غربية لتطبيقها على الشعوب الإسلامية، بل زادوا على ذلك بتفريغ تلك البضاعة المستوردة من بعض ما فيها من محاسن - وإن كانت نسبية – لتصبح الكارثة على الأمة أدهى وأمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{التأصيل للدراسات}
ــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #97  
قديم 11-27-2014, 09:07 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة هل أخلص الليبراليون حقا لفكرة الحرية؟

هل أخلص الليبراليون حقا لفكرة الحرية؟*
ـــــــــــــــــــــــ

5 / 2 / 1436 هــ
27 / 11 / 2014 م
ـــــــــــــ




صدر الليبراليون للغير صورة لأنفسهم زعموا فيها بأنهم دعاة للحرية الفكرية التي تسمح لهم ولمخالفيهم –كما قالوا- بالتعبير عن الأفكار، ورافق هذا الزعم في الوقت نفسه اتهامهم للإسلام وللإسلاميين بأنهم يضادون فكرة الحرية، وأنهم ظلاميون لا يقبلون بالرأي الآخر وأنهم لا يريدون فقط إلا فرض آرائهم بالترهيب الفكري.

والواقع والتاريخ يشهدان بكذب هذين الادعاءين تماما، فلا الإسلام يغلق الجانب الفكري في التحاور مع الآخر بل يقدم الحجة أمام الحجة والدليل أمام الدليل، وأيضا شهد التاريخ والواقع بكذب ادعاء الليبراليين تماما في تعاملاتهم مع الحرية الفكرية، وخاصة عندما يتحكمون كسلطة فكرية أو دعمت النظم السياسية فكرتهم أو بنت نظامها السياسي على الفكرة الليبرالية.

فكما يتفق الليبراليون على فكرة الحرية المطلقة ومنها الحرية الفكرية كأحد أهم أركان الليبرالية، وكما أنهم لا يعرفون ولا يتفقون على أي حد أو سقف لهذه الحرية إلا أنها تصب فقط في جانب حرية التفلت والخروج من العقائد والثوابت والقيم، ويدافعون بشراسة عن هذه الحرية فقط ويغضون الطرف، بل ينادون بتقييد حرية مخالفيهم ومصادرة آرائه ومحاربة معتقداته طالما لم تتوافق مع ارائهم وأفكارهم المتفلتة.

وحتى الفكرة الديمقراطية الغربية وهي الملهاة التي خدع بها بعض الإسلاميين، وظنوا أنهم يمكنهم التغيير بها، فحتى هذه الفكرة لا يمكن لليبراليين أن يقبلوا ولا يسلموا بنتائجها -رغم دفاعهم المستميت عنها دوما– إذا كانت نتيجتها على غير مرادهم، فيزعمون عنها أن الأغلبية تحد من حرية الأقلية.

وبالنظر إلى التطبيق الليبرالي في الممارسات على مستوى العالم وخصوصا في تعامل النموذج الغربي مع العالم سنجد أنه لم يسمح إطلاقا لمخالفيه بحرية أفكارهم، بل اعتدى بكل قسوة وشدة على حرياتهم العامة والخاصة واعتدى على كل عقائدهم وثوابتهم، بل واعتدي أيضا على حياتهم كلها، فمتى طبق الليبراليون تلك المزاعم؟

فمن الذي دفع الثمن باهظا خلال الحرب العالمية الأولى، التي صورت بأنها حرب لنشر القيم الليبرالية في العالم وقتل فيها نحو عشرة ملايين إنسان، بينما بلغ عدد الجرحى عشرين مليونًا؟ أو الثانية التي قتلت أضعافهم وخلفت بعدها أكثر من 80 مليون جريح؟ وماذا فعل دعاة الليبرالية في أعداء فكرهم؟

وماذا خلفت الجيوش التي سميت بالاستعمارية من قتلى وجرحي ومغتصبات في إهدار لكل ما هو إنساني تحت ستار الليبرالية البغيضة؟ وتم سرقة كل شئ من المخالفين حتى تراثهم الفكري ونسبوه لأنفسهم؟

فالليبراليون تحت شعار الحرية منعوا الحجاب في كل مكان سيطروا عليه، حتى في البلدان التي تصنف بأنها بلاد الحرية، فمنعوه عن المسلمات في فرنسا وقبلها في تركيا وفي تونس، وحرم على المسلمات الدراسة أو العمل أو ممارسة حياتهن بصورة طبيعية وهن مرتديات حجابهن، فهل هذه من الحيرة المزعومة؟

ودعاة الحرية هؤلاء هم من خطفوا الأطفال من إفريقيا وضحايا تسونامي ليستعبدوهم و ليبيعوهم بأبخس الأثمان لمن يعبث بأعراضهم وبأعراضهن، وهم الآن من يديرون شبكات الرقيق الأبيض والبغاء على مستوى العالم ولا يزالون يتحدثون عن الحرية، أما في وجوههم قطرة دم للخجل؟

ودعاء الحرية هم من يحتكرون كل التجارات العالمية والاقتصاد العالمي ولا يمكنون أي قوة من اقتحام تلك الأوكار الاقتصادية المغلقة التي تعمل عبر البحار والمحيطات في الشركات متعددة الجنسيات التي تعبر عن مفهوم الحرية الاقتصادية، وهي وهما وضربا من ضروب الخيال، فأي حرية يزعم دعاة الحرية والليبرالية؟

وهل قبل الليبراليون في أي مكان في العالم نتائج الديمقراطية –الوهم الكاذب- حينما خرجت النتائج لصالح من يوصفون بالإسلاميين حتى لو كان عندهم بعض التقصير أو الخلل الفكري المنهجي الإسلامي، فهل تحملوا نتائجها وقبلوا بها أم حاولوا الالتفاف بكل وسيلة للتخلص من نتائجها ولو بالاستناد والركون والاستعانة بمن يطيح بالحرية من أساسها.

فهل اخلص الليبراليون حقا لفكرة الحرية أم أنها كانت كالمبدأ الميكافيلي، الغاية تبرر الوسيلة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{التأصيل للدراسات}
ــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #98  
قديم 12-06-2014, 08:53 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,159
ورقة الخدعة العلمانية للعقل العربي بأنها ليست ضد الدين

الخدعة العلمانية للعقل العربي بأنها ليست ضد الدين*
ـــــــــــــــــــــــــــ


14 / 2 / 1436 هـــ
6 / 12 / 2014 م
ـــــــــــــ



العلمانية لا تحارب الأديان أو المذاهب، العلمانية هي التي تضمن للمؤمن ممارسة طقوسه الدينية بحرية مطلقة، العلمانية تضمن الحرية أيضا لغير المؤمن، العلمانية لا تحارب الحضارات والأديان بل تحميها من شر من يستخدمها كوسيلة لتضليل الشعوب، العلمانية لا تحارب الأديان وإنما تمنع الأديان من أن تحارب بعضها البعض....، هذه هي بعض ما تريد الأقلام العلمانية العربية ترويجه بعدما ظهر الوجه الحقيقي والقبيح للعلمانيين في عدائهم لكل ما يمت للدين عامة بصلة وللإسلام بصفة خاصة.

وتزداد استهانة العلمانيين بالعقليات المسلمة حينما يدعون هذا في حين يتبجح بكل صراحة ووضوح مُنشئو العلمانية بأنها ليت إلا حربا على الأديان وتذويبا للمجتمعات في بوتقة اللادينية وإنهاء لأي سلطة لأي رجل دين مهما كانت الديانة، بل تعمل على إنهاء سلطة الإله نفسه على الناس حتى توصلهم إلى عدم الاعتراف بوجوده، فكيف يمكن أن يقال أنها لا تتصادم مع الإسلام ؟.

ففي البداية تصادمت مع فكرة الخلق كما قال نيوتن في نظريته إن الحركة الموجودة في الكون تتمُّ طبقًا لقوانين محدَّدة، ولا تتمُّ برعاية الله، ولا تتدخَّل فيها السماء مصادما الآراء التي سادت قبلها كوراثة عن العقيدة التي أنزلت على عيسى عليه السلام بأن كل شيء يحدث في هذا الكون إنما يتمُّ بقدرة الله، فجاءت نظرية دارون لتدمر فكرة وجود الإله نفسه، وتنفي أن هناك مشيئة تسير الكون، بل إن الأمر كله مجرد وجود قوانين حركة صارمة وطبيعية، ولا علاقة لها لا بالخير ولا بالشر، ولا بالإيمان ولا بالكفر.

ثم تطورت الأفكار حتى تبلورت الملامح الأساسية لهذه الفكرة التي اقتربت من كونها معتقدا خاصا عند معتنقيها، والتي اشتملت على أفكار تدور حول فكرة رفض وجود الإله، واعتماد مبادئ الصدفة أو التطور أو الشك، ويعلي من قيمة العقل فقط، وينقل السلطة والتشريع من الإله إلى الشعب، فهل يبقى بعد هذه الفكرة دين؟

وتعتمد هذه المغالطات التي تأتي عن سببين أحدهما – وهو قليل نادر- عن جهل بالحقائق والآخر – وهو الأعم والأغلب – عن معرفة وسوء طوية مبيتة، تعتمد منهجين أولهما محاولة الجمع بينهما من حيث المبادئ، فيحاولون الترويج لمعنى غير حقيقي للعلمانية وهو مقصور على الحث على العلم والاكتشافات والتجارب، والدعوة إلى الحرية، وهي معان لا يختلف الإسلام معها على سبيل الإجمال لا التفصيل، وثانيهما منهج التفرقة بين ميادين العمل فيقولون أن العلمانية تخدم جوانب إنسانية بينما الدين يخدم جوانب إلهية.

وبالتأمل لو كان كلامهم هذا صحيحا فلماذا نشأت العلمانية في الغرب مصادمة للنصرانية؟ ولما قامت الحروب بينهما إذا كانت العلمانية بهذا التسطيح وبهذا التوافق مع الدين، أليس في هذه العداوة بين النصرانية والعلمانية في أوروبا دليلا كافيا على كذب العلمانيين العرب فيما يدعون أن العلمانية ليست ضد الدين؟

وبالفعل يدعو الإسلام إلى نبذ التأخر والأخذ بالعلم ومعرفة الاكتشافات والبحث والتجارب ونعم يدعو أيضا إلى الحرية، لكنه يصل بهذه الاختراعات بالتصور أنها محل الإله عز وجل، ولا يرفع أبدا من قيمة العقل فيعتقده أعظم من أن يخضع للتعاليم الربانية أو يستغني عنها وإحلال المخترعات، بل يُخضع العقل للأمر الإلهي عن رغبة واقتناع بان الحكم لله وحده.

ولا يرى الدين أن قضية التدين قضية شخصية مزاجية، يتدين من يريد وقتما يريد وأينما يريد بينما ينبذ التدين ويخلعه من ربقته في آن ومكان آخر حسبما رغبته، فالعلمانية لا تمانع أن يكون المسلم متدينا إذا دخل مسجده أو ذهب إلى أماكن عبادته كالحج، ولكنها تطلب منه ان يترك كل هذا عند معاملاته وعند مواقفه الحياتية والسياسية وغيرها، فلا حكم إلا للعقل والمصلحة بل تعلن العلمانية الحرب على كل من يريد إدخال مفهوم التدين في المعاملات والعلاقات، فلا معايير إسلامية أو دينية عامة تحكم الحياة بوجه عام ويجب أن ينحى الدين عنها.

وخلاصة القول أن العلمانية قامت من أول يوم لها على محاربة الدين كله وعدم التحاكم إليه، وعلى رفض الخضوع لله عز وجل ويعتقدون أن العقل البشري يمكنه أن يفرز حلولا حياتية يقدمها المشرعون أو القانونيون يرونها أعظم من الشريعة الإلهية ومن الرسل والرسالات لأنها بزعمهم لم تقدم الحلول الناجحة للإنسان.

وبعد هذا يتبجحون علينا بأن العلمانية ليست ضد الدين ويوروجون هذا لينطلي على البسطاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{التأصيل للدراسات}
ــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الآلام, الحلف, الرجوع, إلى, والتقدم


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الرجوع إلى الأمام والتقدم إلى الخلف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تجار الآلام عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 09-04-2015 02:04 PM
الحلف المصري الإماراتي عبدالناصر محمود شذرات مصرية 0 08-27-2014 03:17 PM
الرئيس اوباما يتمتع بصلاحيات شن هجوم على سوريا دون الرجوع للكونغرس عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 09-08-2013 06:48 AM
علماؤنا الرواد رفعوا مشعل النهضة والتقدم Eng.Jordan علماء عرب 0 11-03-2012 12:45 PM
حكم الحلف بحياة القرآن جاسم داود شذرات إسلامية 0 10-15-2012 04:14 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:02 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59