#232  
قديم 09-22-2013, 05:56 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

تفسير سورة هود
ـــــــــــــــــــــــ

مكية
ـــــــ

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ( 84 - 95 ) إلى آخر القصة .
أي: ( و ) أرسلنا ( إِلَى مَدْيَنَ ) القبيلة المعروفة، الذين يسكنون مدين في أدنى فلسطين، ( أَخَاهُمْ ) في النسب ( شُعَيْبًا ) لأنهم يعرفونه، وليتمكنوا من الأخذ عنه.
فـ قَالَ لهم يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أي: أخلصوا له العبادة، فإنهم كانوا يشركون به، وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكيال والميزان، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط.
إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ أي: بنعمة كثيرة، وصحة، وكثرة أموال وبنين, فاشكروا الله على ما أعطاكم، ولا تكفروا بنعمة الله، فيزيلها عنكم.
وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ أي: عذابا يحيط بكم, ولا يبقي منكم باقية.
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ أي: بالعدل الذي ترضون أن تعطوه، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ أي: لا تنقصوا من أشياء الناس، فتسرقوها بأخذها، بنقص المكيال والميزان.
وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن الاستمرار على المعاصي، يفسد الأديان، والعقائد، والدين، والدنيا، ويهلك الحرث والنسل.
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أي: يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير، وما هو لكم، فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غنية، وهو ضار لكم جدا.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فاعملوا بمقتضى الإيمان، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي: لست بحافظ لأعمالكم، و**** عليها، وإنما الذي يحفظها الله تعالى، وأما أنا، فأبلغكم ما أرسلت به.
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أي: قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم، والاستبعاد لإجابتهم له.
ومعنى كلامهم: أنه لا موجب لنهيك لنا، إلا أنك تصلي لله, وتتعبد له، أفإن كنت كذلك، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك، فكيف نتبعك، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب؟!
وكذلك لا يوجب قولك لنا: أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا ما قلت لنا، من وفاء الكيل، والميزان، وأداء الحقوق الواجبة فيها، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا، لأنها أموالنا، فليس لك فيها تصرف.
ولهذا قالوا في تهكمهم: إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أي: أئنك أنت الذي، الحلم والوقار، لك خلق، والرشد لك سجية، فلا يصدر عنك إلا رشد، ولا تأمر إلا برشد، ولا تنهى إلا عن غي، أي: ليس الأمر كذلك.
وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين: بالسفه والغواية، أي: أن المعنى: كيف تكون أنت الحليم الرشيد، وآباؤنا هم السفهاء الغاوون؟!!
وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم، وأن الأمر بعكسه, ليس كما ظنوه، بل الأمر كما قالوه. إن صلاته تأمره أن ينهاهم، عما كان يعبد آباؤهم الضالون، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأي فحشاء ومنكر، أكبر من عبادة غير الله، ومن منع حقوق عباد الله، أو سرقتها بالمكاييل والموازين، وهو عليه الصلاة والسلام الحليم الرشيد.
قَالَ لهم شعيب: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: يقين وطمأنينة، في صحة ما جئت به، وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا أي: أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني.
( وَ ) أنا لا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ فلست أريد أن أنهاكم عن البخس، في المكيال، والميزان، وأفعله أنا، وحتى تتطرق إليَّ التهمة في ذلك بل ما أنهاكم عن أمر إلا وأنا أول مبتدر لتركه.
إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي: ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم، وتستقيم منافعكم، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي، شيء بحسب استطاعتي.
ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس، دفع هذا بقوله: وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ أي: وما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى، لا بحولي ولا بقوتي.
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي: اعتمدت في أموري، ووثقت في كفايته، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات، وفي [ هذا ] التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات.
وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه، والإنابة إليه، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .

وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أي: لا تحملنكم مخالفتي ومشاقتي أَنْ يُصِيبَكُمْ من العقوبات مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ لا في الدار ولا في الزمان.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عما اقترفتم من الذنوب ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فيما يستقبل من أعماركم، بالتوبة النصوح، والإنابة إليه بطاعته، وترك مخالفته.
إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ لمن تاب وأناب، يرحمه فيغفر له، ويتقبل توبته ويحبه، ومعنى الودود، من أسمائه تعالى، أنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، فهو « فعول » بمعنى « فاعل » وبمعنى « مفعول »
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ أي: تضجروا من نصائحه ومواعظه لهم، فقالوا: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وذلك لبغضهم لما يقول, ونفرتهم عنه.
وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا أي: في نفسك، لست من الكبار والرؤساء بل من المستضعفين.
وَلَوْلا رَهْطُكَ أي: جماعتك وقبيلتك لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ أي: ليس لك قدر في صدورنا، ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك، بتركنا إياك.
فـ قَالَ لهم مترققا لهم: يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أي: كيف تراعوني لأجل رهطي، ولا تراعوني لله، فصار رهطي أعز عليكم من الله.
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي: نبذتم أمر الله، وراء ظهوركم، ولم تبالوا به، ولا خفتم منه.
إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لا يخفى عليه من أعمالكم مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فسيجازيكم على ما عملتم أتم الجزاء.
( و ) لما أعيوه وعجز عنهم قال: يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ أي: على حالتكم ودينكم.
إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ويحل عليه عذاب مقيم أنا أم أنتم، وقد علموا ذلك حين وقع عليهم العذاب.
وَارْتَقِبُوا ما يحل بي إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ما يحل بكم.
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا بإهلاك قوم شعيب نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ لا تسمع لهم صوتا، ولا ترى منهم حركة.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي: كأنهم ما أقاموا في ديارهم، ولا تنعموا فيها حين أتاهم العذاب.
أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ إذ أهلكها الله وأخزاها كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ أي: قد اشتركت هاتان القبيلتان في السحق والبعد والهلاك.
وشعيب عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته لقومه، وفي قصته من الفوائد والعبر، شيء كثير.
منها: أن الكفار، كما يعاقبون، ويخاطبون، بأصل الإسلام, فكذلك بشرائعه وفروعه، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد، وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل الوعيد، مرتبا على مجموع ذلك.
ومنها: أن نقص المكاييل والموازين، من كبائر الذنوب, وتخشى العقوبة العاجلة، على من تعاطى ذلك، وأن ذلك من سرقة أموال الناس، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين، موجبة للوعيد، فسرقتهم - على وجه القهر والغلبة - من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، فمن بخس أموال الناس، يريد زيادة ماله، عوقب بنقيض ذلك, وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ أي: فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم.
ومنها: أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله، ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة، وأن ذلك خير له لقوله: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ففي ذلك، من البركة، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق، وضد البركة.
ومنها: أن ذلك، من لوازم الإيمان وآثاره، فإنه رتب العمل به, على وجود الإيمان، فدل على أنه إذا لم يوجد العمل، فالإيمان ناقص أو معدوم.
ومنها: أن الصلاة، لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين، وأنها من أفضل الأعمال، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها، وتقديمها على سائر الأعمال, وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي ميزان للإيمان وشرائعه، فبإقامتها تكمل أحوال العبد، وبعدم إقامتها، تختل أحواله الدينية.
ومنها: أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء، فإنه أمانة عنده، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار، ومن أشبههم، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون، سواء وافق حكم الله، أو خالفه.
ومنها: أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به، وأول منته عما ينهى غيره عنه، كما قال شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ولقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ
ومنها أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها أو بتحصيل ما يقدر عليه منها وبدفع المفاسد وتقليلها ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة
وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية
ومنها أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه
ومنها أن العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين بل لا يزال مستعينا بربه متوكلا عليه سائلا له التوفيق وإذا حصل له شيء من التوفيق فلينسبه لموليه ومسديه ولا يعجب بنفسه لقوله وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
ومنها الترهيب بأخذات الأمم وما جرى عليهم وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر
كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى
ومنها أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده ولا عبرة بقول من يقول « إن التائب إذا تاب فحسبه أن يغفر له ويعود عليه العفو وأما عود الود والحب فإنه لا يعود » فإن الله قال وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
ومنها أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة قد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئا منها وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم
-----------------------------------
رد مع اقتباس
  #233  
قديم 09-22-2013, 06:00 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

تفسير سورة هود
ـــــــــــــــــــــــ

مكية
ـــــــ

وقوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 96 - 101 ) إلى آخر القصة .
يقول تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى ) بن عمران ( بِآيَاتِنَا ) الدالة على صدق ما جاء به، كالعصا، واليد ونحوهما، من الآيات التي أجراها الله على يدي موسى عليه السلام.
( وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي: حجة ظاهرة بينة، ظهرت ظهور الشمس.
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ أي: أشراف قومه لأنهم المتبوعون، وغيرهم تبع لهم، فلم ينقادوا لما مع موسى من الآيات، التي أراهم إياها، كما تقدم بسطها في سورة الأعراف، ولكنهم فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ بل هو ضال غاو، لا يأمر إلا بما هو ضرر محض، لا جرم - لما اتبعه قومه - أرداهم وأهلكهم.

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ أي في الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أي يلعنهم الله وملائكته والناس أجمعون في الدنيا والآخرة
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس ما اجتمع لهم وترادف عليهم من عذاب الله ولعنة الدنيا والآخرة
ولما ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم قال الله تعالى لرسوله ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ لتنذر به ويكون آية على رسالتك وموعظة وذكرى للمؤمنين
مِنْهَا قَائِمٌ لم يتلف بل بقي من آثار ديارهم ما يدل عليهم ( وَ ) منها ( حَصِيدٌ ) قد تهدمت مساكنهم واضمحلت منازلهم فلم يبق لها أثر
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بأخذهم بأنواع العقوبات وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك والكفر والعناد
فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وهكذا كل من التجأ إلى غير الله لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد
وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ أي خسار ودمار بالضد مما خطر ببالهم
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( 102 ) .
أي: يقصمهم بالعذاب ويبيدهم، ولا ينفعهم، ما كانوا يدعون, من دون الله من شيء.
إِنَّ فِي ذَلِكَ المذكور، من أخذه للظالمين، بأنواع العقوبات، لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ أي: لعبرة ودليلا على أن أهل الظلم والإجرام، لهم العقوبة الدنيوية، والعقوبة الأخروية، ثم انتقل من هذا، إلى وصف الآخرة فقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي: جمعوا لأجل ذلك اليوم، للمجازاة، وليظهر لهم من عظمة الله وسلطانه وعدله العظيم، ما به يعرفونه حق المعرفة.
وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي: يشهده الله وملائكته، وجميع المخلوقين.
وَمَا نُؤَخِّرُهُ أي: إتيان يوم القيامة إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ إذا انقضى أجل الدنيا وما قدر الله فيها من الخلق، فحينئد ينقلهم إلى الدار الأخرى، ويجري عليهم أحكامه الجزائية، كما أجرى عليهم في الدنيا, أحكامه الشرعية.
يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم، ويجتمع الخلق لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ حتى الأنبياء، والملائكة الكرام، لا يشفعون إلا بإذنه، فَمِنْهُمْ أي: الخلق شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فالأشقياء، هم الذين كفروا بالله، وكذبوا رسله، وعصوا أمره، والسعداء، هم: المؤمنون المتقون.
وأما جزاؤهم فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا أي: حصلت لهم الشقاوة، والخزي والفضيحة، فَفِي النَّارِ منغمسون في عذابها، مشتد عليهم عقابها، لَهُمْ فِيهَا من شدة ما هم فيه زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وهو أشنع الأصوات وأقبحها.
خَالِدِينَ فِيهَا أي: في النار، التي هذا عذابها مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ أي: خالدين فيها أبدا، إلا المدة التي شاء الله, أن لا يكونوا فيها، وذلك قبل دخولها، كما قاله جمهور المفسرين، فالاستثناء على هذا، راجع إلى ما قبل دخولها، فهم خالدون فيها جميع الأزمان، سوى الزمن الذي قبل الدخول فيها.
إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ فكل ما أراد فعله واقتضته حكمته فعله، تبارك وتعالى، لا يرده أحد عن مراده.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا أي: حصلت لهم السعادة، والفلاح، والفوز فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ثم أكد ذلك بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: ما أعطاهم الله من النعيم المقيم، واللذة العالية، فإنه دائم مستمر، غير منقطع بوقت من الأوقات، نسأل الله الكريم من فضله.

--------------------------------------
رد مع اقتباس
  #234  
قديم 09-22-2013, 06:02 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

تفسير سورة هود
ـــــــــــــــــــــــ

مكية
ـــــــ

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ( 109 ) .
يقول الله تعالى، لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ ) المشركون، أي: لا تشك في حالهم، وأن ما هم عليه باطل, فليس لهم عليه دليل شرعي ولا عقلي، وإنما دليلهم وشبهتهم، أنهم ( مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ) .
ومن المعلوم أن هذا، ليس بشبهة، فضلا عن أن يكون دليلا لأن أقوال ما عدا الأنبياء، يحتج لها لا يحتج بها، خصوصا أمثال هؤلاء الضالين، الذين كثر خطأهم وفساد أقوالهم, في أصول الدين، فإن أقوالهم، وإن اتفقوا عليها، فإنها خطأ وضلال.
( وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ) أي: لا بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا، مما كتب لهم، وإن كثر ذلك النصيب، أو راق في عينك, فإنه لا يدل على صلاح حالهم، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين الصحيح، إلا من يحب، والحاصل أنه لا يغتر باتفاق الضالين، على قول الضالين من آبائهم الأقدمين، ولا على ما خولهم الله، وآتاهم من الدنيا.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 110 ) وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 111 ) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 112 ) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( 113 ) .
يخبر تعالى، أنه آتى موسى الكتاب، الذي هو التوراة، الموجب للاتفاق على أوامره ونواهيه، والاجتماع، ولكن، مع هذا، فإن المنتسبين إليه، اختلفوا فيه اختلافا، أضر بعقائدهم، وبجامعتهم الدينية.
( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) بتأخيرهم، وعدم معاجلتهم بالعذاب ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بإحلال العقوبة بالظالم، ولكنه تعالى، اقتضت حكمته، أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة، وبقوا في شك منه مريب.
وإذا كانت هذه حالهم، مع كتابهم، فمع القرآن الذي أوحاه الله إليك، غير مستغرب، من طائفة اليهود، أن لا يؤمنوا به، وأن يكونوا في شك منه مريب.
( وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ) أي: لا بد أن الله يقضي بينهم يوم القيامة، بحكمه العدل، فيجازي كلا بما يستحقه.
( إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ ) من خير وشر ( خَبِيرٌ ) فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم، دقيقها وجليلها.
ثم لما أخبر بعدم استقامتهم، التي أوجبت اختلافهم وافتراقهم, أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن معه، من المؤمنين، أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة.
وقوله: ( إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أي: لا يخفى عليه من أعمالكم شيء, وسيجازيكم عليها، ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة، وترهيب من ضدها، ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال: ( وَلا تَرْكَنُوا ) أي: لا تميلوا ( إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فإنكم، إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم ما هم عليه من الظلم ( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) إن فعلتم ذلك ( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) يمنعونكم من عذاب الله، ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله.
( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم، ففي هذه الآية: التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم.
وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل الله العافية من الظلم.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ( 114 ) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 115 ) .
يأمر تعالى بإقامة الصلاة كاملة ( طَرَفَيِ النَّهَارِ ) أي: أوله وآخره، ويدخل في هذا، صلاة الفجر، وصلاتا الظهر والعصر، ( وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) ويدخل في ذلك، صلاة المغرب والعشاء، ويتناول ذلك قيام الليل، فإنها مما تزلف العبد، وتقربه إلى الله تعالى.
( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) أي: فهذه الصلوات الخمس، وما ألحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات، وهي: مع أنها حسنات تقرب إلى الله، وتوجب الثواب، فإنها تذهب السيئات وتمحوها، والمراد بذلك: الصغائر، كما قيدتها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: « الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر » ، بل كما قيدتها الآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا .
ذلك لعل الإشارة، لكل ما تقدم، من لزوم الاستقامة على الصراط المستقيم، وعدم مجاوزته وتعديه، وعدم الركون إلى الذين ظلموا، والأمر بإقامة الصلاة، وبيان أن الحسنات يذهبن السيئات، الجميع ( ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) يفهمون بها ما أمرهم الله به، ونهاهم عنه، ويمتثلون لتلك الأوامر الحسنة المثمرة للخيرات، الدافعة للشرور والسيئات، ولكن تلك الأمور، تحتاج إلى مجاهدة النفس، والصبر عليها، ولهذا قال:
( وَاصْبِرْ ) أي: احبس نفسك على طاعة الله، وعن معصيته، وإلزامها لذلك، واستمر ولا تضجر.
( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) بل يتقبل الله عنهم أحسن الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون، وفي هذا ترغيب عظيم، للزوم الصبر، بتشويق النفس الضعيفة إلى ثواب الله، كلما ونت وفترت.
فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ( 116 ) .
لما ذكر تعالى، إهلاك الأمم المكذبة للرسل، وأن أكثرهم منحرفون، حتى أهل الكتب الإلهية، وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا، من أهل الخير يدعون إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من نفعهم ما بقيت به الأديان، ولكنهم قليلون جدا.
وغاية الأمر، أنهم نجوا، باتباعهم المرسلين، وقيامهم بما قاموا به من دينهم، وبكون حجة الله أجراها على أيديهم، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة
( وَ ) لكن ( اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ) أي: اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف، ولم يبغوا به بدلا.
( وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ) أي: ظالمين، باتباعهم ما أترفوا فيه، فلذلك حق عليهم العقاب، واستأصلهم العذاب. وفي هذا، حث لهذه الأمة، أن يكون فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى.
وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون, إماما في الدين، إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين.
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( 117 ) .
أي: وما كان الله ليهلك أهل القرى بظلم منه لهم، والحال أنهم مصلحون, أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون عليه، فما كان الله ليهلكهم، إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله.
ويحتمل، أن المعنى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق، إذا رجعوا وأصلحوا عملهم، فإن الله يعفو عنهم، ويمحو ما تقدم من ظلمهم.

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ( 118 ) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 119 ) .
يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم, متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره.
( إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.
وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله, والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء.
( وَ ) لأنه ( تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) فلا بد أن ييسر للنار أهلا يعملون بأعمالها الموصلة إليها.
وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 120 ) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ( 121 ) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 122 ) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 123 ) .
لما ذكر في هذه السورة من أخبار الأنبياء، ما ذكر، ذكر الحكمة في ذكر ذلك، فقال: ( وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) أي: قلبك ليطمئن ويثبت ويصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها, ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به.
( وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ ) السورة ( الْحَقُّ ) اليقين، فلا شك فيه بوجه من الوجوه، فالعلم بذلك من العلم بالحق الذي هو أكبر فضائل النفوس.
( وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: يتعظون به، فيرتدعون عن الأمور المكروهة، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله فيفعلونها.
وأما من ليس من أهل الإيمان، فلا تنفعهم المواعظ، وأنواع التذكير، ولهذا قال: ( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) بعد ما قامت عليهم الآيات، ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي: حالتكم التي أنتم عليها ( إِنَّا عَامِلُونَ ) على ما كنا عليه.
( وَانْتَظِرُوا ) ما يحل بنا ( إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) ما يحل بكم.
وقد فصل الله بين الفريقين، وأرى عباده، نصره لعباده المؤمنين, وقمعه لأعداء الله المكذبين.
( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: ما غاب فيهما من الخفايا، والأمور الغيبية.
( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) من الأعمال والعمال، فيميز الخبيث من الطيب ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) أي: قم بعبادته، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه، وتوكل على الله في ذلك.
( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) من الخير والشر، بل قد أحاط علمه بذلك، وجرى به قلمه، وسيجري عليه حكمه، وجزاؤه.
تم تفسير سورة هود، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وسلم.
[ وكان الفراغ من نسخه في يوم السبت في 21 من شهر ربيع الآخر 1347 ] .
المجلد الرابع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الرب المنان لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.

--------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #235  
قديم 09-23-2013, 06:02 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

تفسير سورة يوسف

ــــــــــــــــــــــــــــ

مكية
ــــــ

بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 1 ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 2 ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( 3 ) .
يخبر تعالى أن آيات القرآن هي ( آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أي: البين الواضحة ألفاظه ومعانيه.
ومن بيانه وإيضاحه: أنه أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة، وأبينها، [ المبين لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق النافعة ] وكل هذا الإيضاح والتبيين ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي: لتعقلوا حدوده وأصوله وفروعه، وأوامره ونواهيه.
فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها، أثمر ذلك عمل الجوارح والانقياد إليه، و ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي: تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة العالية، على أذهانكم،. فتنتقلون من حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل.
( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) وذلك لصدقها وسلاسة عبارتها ورونق معانيها، ( بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ) أي: بما اشتمل عليه هذا القرآن الذي أوحيناه إليك، وفضلناك به على سائر الأنبياء، وذاك محض منَّة من الله وإحسان.
( وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) أي: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي الله إليك، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.
ولما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن من القصص، وأنها أحسن القصص على الإطلاق، فلا يوجد من القصص في شيء من الكتب مثل هذا القرآن، ذكر قصه يوسف، وأبيه وإخوته، القصة العجيبة الحسنة فقال:
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( 4 ) .
واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة وبسطها، وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله تعالى بشيء كثير.
فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصه، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقل.
فقوله تعالى: ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام: ( يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) فكانت هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة.
وهكذا إذا أراد الله أمرا من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة، توطئة له، وتسهيلا لأمره، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق، لطفا بعبده، وإحسانا إليه، فأوَّلها يعقوب بأن الشمس: أمه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكراما وإعظاما، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.
وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها، ولهذا قال:

قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 5 ) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 6 ) .
( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ) أي: يصطفيك ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة،. ( وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) أي: من تعبير الرؤيا، وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة، كالكتب السماوية ونحوها، ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) في الدنيا والآخرة، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ( كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ) حيث أنعم الله عليهما، بنعم عظيمة واسعة، دينية، ودنيوية.
( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: علمه محيط بالأشياء، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها.
ولما بان تعبيرها ليوسف، قال له أبوه: ( يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ) أي: حسدا من عند أنفسهم، أن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم.
( إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) لا يفتر عنه ليلا ولا نهارا، ولا سرا ولا جهارا، فالبعد عن الأسباب التي يتسلط بها على العبد أولى، فامتثل يوسف أمر أبيه، ولم يخبر إخوته بذلك، بل كتمها عنهم.

----------------------------------------
رد مع اقتباس
  #236  
قديم 09-23-2013, 06:08 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

تفسير سورة يوسف

ــــــــــــــــــــــــــــ

مكية
ــــــ

لقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ( 7 ) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 8 ) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( 9 ) .
يقول تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ ) أي: عبر وأدلة على كثير من المطالب الحسنة، ( لِلسَّائِلِينَ ) أي: لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال، فإن السائلين هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر، وأما المعرضون فلا ينتفعون بالآيات، ولا في القصص والبينات.
( إِذْ قَالُوا ) فيما بينهم: ( لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ ) بنيامين، أي: شقيقه، وإلا فكلهم إخوة. ( أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) أي: جماعة، فكيف يفضلهما علينا بالمحبة والشفقة، ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي: لفي خطأ بيِّن، حيث فضلهما علينا من غير موجب نراه، ولا أمر نشاهده.
( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ) أي: غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة لا يتمكن من رؤيته فيها.
فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين ( يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) أي: يتفرغ لكم، ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف شغلا لا يتفرغ لكم، ( وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ ) أي: من بعد هذا الصنيع ( قَوْمًا صَالِحِينَ ) أي: تتوبون إلى الله، وتستغفرون من بعد ذنبكم.
فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله، وإزالة لشناعته، وتنشيطا من بعضهم لبعض.
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ( 10 ) .
أي: ( قَالَ قَائِلٌ ) من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده: ( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) فإن قتله أعظم إثما وأشنع، والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه من غير قتل، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه ( فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) وتتوعدوه على أنه لا يخبر بشأنكم، بل على أنه عبد مملوك آبق منكم، لأجل أن ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ) الذين يريدون مكانا بعيدا، فيحتفظون فيه.
وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية، فإن بعض الشر أهون من بعض، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل، .فلما اتفقوا على هذا الرأي.

------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #237  
قديم 09-23-2013, 06:12 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

تفسير سورة يوسف

ــــــــــــــــــــــــــــ

مكية
ــــــ

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ( 11 ) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 12 ) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ( 13 ) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ( 14 ) .
أي: قال إخوة يوسف، متوصلين إلى مقصدهم لأبيهم: ( يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) أي: لأي شيء يدخلك الخوف منا على يوسف، من غير سبب ولا موجب؟ ( وَ ) الحال ( إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) أي: مشفقون عليه، نود له ما نود لأنفسنا، وهذا يدل على أن يعقوب عليه السلام لا يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها.
فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم، ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه الذي يحبه أبوه له، ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم، فقالوا: ( أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ) أي: يتنزه في البرية ويستأنس. ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) أي: سنراعيه، ونحفظه من أذى يريده.
فأجابهم بقوله: ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ) أي: مجرد ذهابكم به يحزنني ويشق علي، لأنني لا أقدر على فراقه، ولو مدة يسيرة، فهذا مانع من إرساله ( وَ ) مانع ثان، وهو أني ( أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) أي: في حال غفلتكم عنه، لأنه صغير لا يمتنع من الذئب.
( قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) أي: جماعة، حريصون على حفظه، ( إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ) أي: لا خير فينا ولا نفع يرجى منا إن أكله الذئب وغلبنا عليه.
فلما مهدوا لأبيهم الأسباب الداعية لإرساله، وعدم الموانع، سمح حينئذ بإرساله معهم لأجل أنسه.

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 15 ) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ( 16 ) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( 17 ) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( 18 ) .
أي: لما ذهب إخوة يوسف بيوسف بعد ما أذن له أبوه، وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب، كما قال قائلهم السابق ذكره، وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه، فنفذوا فيه قدرتهم، وألقوه في الجب، ثم إن الله لطف به بأن أوحى إليه وهو في تلك الحال الحرجة، ( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي: سيكون منك معاتبة لهم، وإخبار عن أمرهم هذا، وهم لا يشعرون بذلك الأمر، ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض.
( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ) ليكون إتيانهم متأخرا عن عادتهم، وبكاؤهم دليلا لهم، وقرينة على صدقهم.
فقالوا - متعذرين بعذر كاذب - ( يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ) إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال، ( وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا ) توفيرا له وراحة. ( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) في حال غيبتنا عنه في استباقنا ( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) أي: تعذرنا بهذا العذر، والظاهر أنك لا تصدقنا لما في قلبك من الحزن على يوسف، والرقة الشديدة عليه.
ولكن عدم تصديقك إيانا، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي، وكل هذا، تأكيد لعذرهم. ( وَ ) مما أكدوا به قولهم، أنهم ( جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و ( قَالَ ) ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) أي: زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه، لأنه رأى من القرائن والأحوال [ ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ] ما دلّه على ما قال.
( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) أي: أما أنا فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرا جميلا سالما من السخط والتَّشكِّي إلى الخلق، وأستعين الله على ذلك، لا على حولي وقوتي، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي إذا وعد وفى.

-----------------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #238  
قديم 09-23-2013, 06:18 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

تفسير سورة يوسف

ــــــــــــــــــــــــــــ

مكية
ــــــ

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 19 ) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ( 20 ) .
أي: مكث يوسف في الجب ما مكث، حتى ( جَاءَتْ سَيَّارَةٌ ) أي: قافلة تريد مصر، ( فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ ) أي: فرطهم ومقدمهم، الذي يعس لهم المياه، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك، ( فَأَدْلَى ) ذلك الوارد ( دَلْوَهُ ) فتعلق فيه يوسف عليه السلام وخرج، ( قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ ) أي: استبشر وقال: هذا غلام نفيس، ( وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ) وكان إخوته قريبا منه، فاشتراه السيارة منهم، ( بِثَمَنٍ بَخْسٍ ) أي: قليل جدا، فسره بقوله: ( دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ )
لأنه لم يكن لهم قصد إلا تغييبه وإبعاده عن أبيه، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه، والمعنى في هذا: أن السيارة لما وجدوه، عزموا أن يُسِرُّوا أمره، ويجعلوه من جملة بضائعهم التي معهم، حتى جاءهم إخوته فزعموا أنه عبد أبق منهم، فاشتروه منهم بذلك الثمن، واستوثقوا منهم فيه لئلا يهرب، والله أعلم.
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 21 ) .
أي: لما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها، فاشتراه عزيز مصر، فلما اشتراه، أعجب به، ووصى عليه امرأته وقال: ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) أي: إما أن ينفعنا كنفع العبيد بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع فيه استمتاعنا بأولادنا، ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد، ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ) أي: كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق.
( وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) إذا بقي لا شغل له ولا همَّ له سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا، من علم الأحكام، وعلم التعبير، وغير ذلك. ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) فلذلك يجري منهم ويصدر ما يصدر، في مغالبة أحكام الله القدرية، وهم أعجز وأضعف من ذلك.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 22 ) .
أي: ( وَلَمَّا بَلَغَ ) يوسف ( أَشُدَّهُ ) أي: كمال قوته المعنوية والحسية، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة والرسالة. ( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) أي: جعلناه نبيا رسولا وعالما ربانيا، ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها، وإلى عباد الله ببذل النفع والإحسان إليهم، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم علما نافعا.
ودل هذا، على أن يوسف وفَّى مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.

----------------------------------------------------------
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
السعيد, تفسير


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع تفسير السعدي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من هو السعيد حقاً صابرة الملتقى العام 0 12-17-2015 08:07 AM
الجانب الفقهي في تفسير التحرير والتنوير المعروف بـ (تفسير ابن عاشور) Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 02-12-2013 09:28 AM
تفسير السعدي [ قراءة صوتية ] تراتيل شذرات إسلامية 0 06-23-2012 10:03 PM
البيت السعيد جاسم داود الملتقى العام 2 06-12-2012 10:28 PM
مجموعة البيت السعيد Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 03-25-2012 08:24 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:35 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59