#1  
قديم 11-04-2012, 09:04 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي كتاب وثائق وقصائد عن سقـوط الجـولان


بسم الله الرحمن الرحيم
وثائق وقصائد
عن
سقــوط الجــولان



خليل مصطفى
ضابط استخبارات الجولان قبل الحرب











الإهداء
إلى ديار ثكلى... قد خذلها حماتها.
في يوم كريهة... غابوا فما ثبتوا.
إلى الجولان ******...
أسير حزن فاجع... شهيد غدر في الجريمة ضالع.
إلى حبة القلب مني...
ربا أنفقت فيها زهرة عمري...
ومكثت فيها سنوات طوالاً... أتحرق ليوم الصدام.
إلى ثرى رويناه عرقاً... وأتخمناه إعداداً.
ثم أبعدنا البغاة... فما أتاحوا لنا أن نرويه بالدم.
إلى الجولان المفجوع...
أضاعه التهويش الفاجر... في مسرحية حرب وما كانت كما زعموا.
إلى تلاله ووديانه... سهوله وهضابه.
إلى مخضر زرعه.. ودفاق مائه.. يروي كريم ترابه.
من خلال حنين يذيب قلبي... وما خففته الزفرات حرى
وشواظ شوق يلفح نفسي... فيذوى عود كان مخضراً
أكشف الحقائق... وأبح حلقي بهذه الصرخات.
فعساها.. ومن يدري ؟
تفجر جامد الصخر.. ولافح الحر.. وعاتى الرياح:
بركاناً يحيل أرضه مقبرة للغزاة الغرباء...
في أمثولات بطولة... تحيي قلوباً موتتها الفجيعة.
وتنجب جيلاً... يهزم النكبة...
يتقفى آثار الكماة من كرام قادتنا.
يتمثل إيمان أبي عبيدة.. وصدق جهاد خالد.. وبطولات شرحبيل وعكرمة.. ويحيى سيرة صلاح الدين وقطز وبيبرس..
ويتأسى جهاد عبد القادر الحسيني وعز الدين القسام وحسن الخراط.. فإني رأيت جيلنا ما عاد للخير يرجى.
وأرى (فرسانه) إلى ذل الاستسلام قد أنسوا...
خليل















أهداف الكتاب
... وبتواضع يفرضه عليّ ما أنا فيه من محنة ...
أقدم هذا الكتيب .. وأهدف في ذلك أموراً ثلاثة:
1ـ أن أثبت لمن أذهلهم ما سمي (انتصاراً ساحقاً) لإسرائيل... أن ذاك لم يكن انتصاراً في حرب... فإن الشعب لم يقاتل... ولو خلى بينه وبين العدو، لسطر صفحات جديدة من البطولات المعجزة... ولما كانت الفاجعة التي نجرع اليوم مرارتها... !!
2ـ أن أثبت أن الذي حدث ما كان غير مؤامرة متقنة، وجريمة مدبرة، أعدت قبل سنوات طوال... عمل العدو وعملاؤه خلالها على تصفية كل ما يمكن أن يقف في وجههم ويحبط ما يدبرون... حتى كان لهم ما أرادوا... وكانت النكبة... !!
3ـ رسم خطوط عريضة لمستقبل من الأيام.. تبادر فيه أمتنا لسلوك الطريق الحق، بتسارع لا يتوقف إلا يوم النصر.. فتمحو عارها، وتقضي على كل كيانات التآمر وجيوب التخلف.. وتطهر أرضها من كل غريب طامع.. فتصبح سيدة نفسها، ومالكة أمرها، وصانعة مستقبلها.. في حدود رسمها لها ربها.. ويرضاها لها.. فتنال رضاه وتأييده.
فالله أسأل أن أكون وفقت لذلك... إنه خير سميع، وأكرم مجيب.





القسم الأول
قبل تنفيذ المؤامرة














الفصل الأول
ما لابد من قوله


(إن الخطوة التي يجب أن تسبق الصلح مع
إسرائيل هي إقامة ديمقراطيات اشتراكية، محل
الحكومات الرجعية في الدول العربية... ).


من خطاب بن غوريون أمام الكنيست عام 1951.. عن كتاب : (المسلمون والحرب الرابعة).









توضيحات
1ـ ... ولست من الذين يتقنون الكتابة أو الكلام.. ولكن الفاجعة كفيلة بأن تنطق أكثر الناس فهاهة وعياً.. ممن مازالت عندهم بقية من حس، أو شيء من تيقظ الضمير والوجدان.
ولقد رأيت بعد الفجيعة التي حلت بنا في حزيران المؤامرة.. أن العيون الحائرة تدور في كل اتجاه، وأن الناس ينظرون نظر المغشي عليه من الموت.. يريدون أن يعرفوا كيف حدث الذي حدث.. ولماذا حدث ومن المسؤول الحقيقي عن الذي حدث.
ولقد كان وقع الفجيعة شديداً على الذين يعرفون، أكثر من غيرهم وكنت واحداً من هؤلاء، فقررت أن أتكلم.. لعلي أوضح جوانب ذات أهمية من تلك الفاجعة الكبرى في تاريخنا الحديث.
ولقد سبق لأمتنا أن أصيبت بكوارث ضخمة هائلةـ استطاعت تجاوزها والتغلب عليها مع مرور السنين وكر الأعوام.. ولكن الذي يميز هذه الفاجعة عما سبقها.. أنها وقعت رغم إعداد يفوق حدود التصور، وجهود ليس لأحد أن يحيط علماً بحجمها وضخامتها.. وطاقات عطلت، وأموالاً أنفقت في مدى عشرين عاماً.. كل ذلك لمنع وقوع الفجيعة.. ولكنها وقعت، وهنا يكمن السبب في أنها كانت شديدة الوطأة أكثر من كل ما عداها.
وإنني حين أحاول الكتابة في موضوع النكبة هذه، أشير إلى أنه ليس من حقي أن أتحدث إلا في حدود معرفتي، ولذا.. فلن أتكلم إلا عن الجولان.. ذلك الجزء العزيز من أرضنا.. لأني سبق لي أن عشت فيه، ومارست مستويات مختلفة من المسئولية خلال خمس سنوات كان آخرها وظيفة (رئيس قسم الاستطلاع في قيادة الجبهة)، وهو عمل في غاية الخطورة، ويتاح لشاغله أن يطلع على خفايا حياة القوات فيها،وأن يطلع على كل الاستعدادات من تحصين وتسليح ونشر للقوات، ومن خطط وأوامر تضع لكل احتمال حلاً أفضل.. يتيح للقوات مواجهته والخروج منه بنتيجة مشرفة.
2ـ ولقد سرحت من الجيش عام 1963 مع الأفواج الهائلة من العسكريين، الذي سرحهم حزب البعث بعد تعربشه على السلطة عقب حركة (8 آذار عام 1963).. وتركت الجبهة ثم الجيش، وفي ذهني كثير من الخفايا والأسرار، لا تقل خطورة عن النكبة، وتشكل في حد ذاتها جوانب هامة من الأسباب التي مهدت لها، وجعلت الجيش عاجزاً عن مواجهتها ومنع حلولها.
3ـ ولم يكن يدورـ يومذاك ـ بخلدي أن الذي حدث، يمكن أن يحدث. ونظراً لأني من العسكريين الذي أدوا واجبهم كأحسن ما يكون الأداء خلال خدمتي في الجيش.. ورغم اطلاعي على كثير من الأمور الخطيرة.. ولكني رغم ذلك، كنت حريصاً على إبقاء الأوامر والنصوص، والوثائق محفوظة في الأماكن المعدة لها.. ولذا، فإن كل ما ورد في هذا الكتاب، من معلومات وشروح حول الوضع الدفاعي للجولان، وحول أحداث الحرب فيه، كان اعتماداً على ما حفظته الذاكرة وحدها.. أو ما نقله إلي من أثق بصدقهم وإخلاصهم وحسن اطلاعهم. ولقد كتبت هذا الكتاب وأنا في وضع جعلني محروماً من إمكانية الحصول على ما يفيد في الشرح من وثائق أو خرائط وصور، سوى ما استطعت شراءه من المكتبات العامة من بعض أنواع الخرائط القديمة فاتخذتها أساساً لما رسمت من مخططات توضح ما ورد في هذا الكتاب.
4ـ وليس في كل ما جاء في هذا الكتاب، ما يمكن للمجرمين من أن يدعوا أنه سر أذيعه.. فكل ما ورد في هذا الكتاب من معلومات عسكرية، أصبح منذ نيف وعامين، عند العدو، محفوظاً مدوناً في وثائق تحمل تواقيع مختلف القادة العرب الذين تتابعوا على قيادة جيش سورية وجولانها ولم يبق شيء من تلك الوثائق وأسرارها خفياً على العدو.. الذي درسها وحفظ ما فيها وأفاد منها ثم بدأ ينشرها تباعاً على الرأي العام في كل بلدان العالم التي له فيها وزن أو تأثير ضدنا.
محتويات تلك الوثائق ـ التي تركت له سليمة كاملة ـ ومعلوماتهاـ بقيت سراً على شعوبنا دون سواها، فأصبح من الواجب اطلاع هذه الشعوب عليها، ليتمكن المخلصون من تحديد حجم الخيانة تمهيداً لوضع مرتكبيها ومنفذيها في قفص الاتهام.
5ـ وسيجد القارئ أنني أصف ما حدث بالنكبة، وأرفض تسميته النكسة، لأن تلك التسمية لا تقل لؤماً عن النكبة نفسها، فهي تعني أنها نكسة للقوى الضالة التي أهوت بهذه الأمة في منحدر العار.. كما تعني ضمناً وجوب استمرارهم في القيادة والتوجيه، وأن على الأمة أن تقبل بذلك، وهذا ما علينا أن نعلن رفضه، ونبادر بقوة إلى التخلص منه، وتقديم القوى الصادقة المخلصة لتأخذ مكانها الطبيعي في مراكز التوجيه والقيادة للأخذ بأيدي هذه الأمة إلى مكانها اللائق الذي يرضاه الله لها، ويوفر لها عزة ومكانة ومنعة جانب.
6ـ وأخيراً.. قد يكون ما جاء في هذا الكتاب، ناقصاً أو مقصراً.. بسبب ضعف في الذاكرة، أو أمور حدثت ولم يتح لي الاطلاع عليها. فأستميح القارئ عذراً وأسأل الله أن يهدي الذين يعرفون، ليسطروا الجوانب الأخرى من الحقيقة، حتى تكتمل وتوضع أمام القوى المخلصة التي آن لها أن تتجمع، لضرب مرتكزات التآمر، ومواقع الخيانة. والخروج بهذه الأمة من أغلالها، وإنني على استعداد لقبول كل نقد أو إضافة أو تصحيح لمعلومات الكتاب.. لنتمكن من تقديم الحقيقة كاملة إلى أصحابها.

لمحة تاريخية
(أ) لعل أكثر البلدان العربية والإسلامية إصابة بالنكبات، وتعرضاً للبلايا والمحن خلال العقدين الماضيين، هي سورية من بعد فلسطين.
إلا أن الذي يميز محنة سورية عن غيرها، ويجعل نكبتها أشد إيلاماً في النفوس، وأبلغ أثراً في قلوب المخلصين المتطلعين لمستقبل أفضل لهذه الأمة، هو أن نكبتها لم تكن بأيدي أعداء خارجين، وإنما كانت بأيدي أبنائها، وبصورة خاصة، بأيدي جيشها الذي اقتطعت لقمة العيش من قوت أطفالها وقدمت له في مدى عشرين عاماً ثلثي ميزانيتها ، وعطلت أهم وأكثر مشاريعها الإنمائية والإنتاجية حيوية، من أجل الوصول به إلى درجة من القوة والإعداد، يستطيع معها وفاء دينه نحوها، و ـ على الأقل ـ صون أرضها ومقدساتها.
ولكن ذلك الجيش، لم يكن باراً بالعهد، ولا وفياً للأمانة التي تصدى لها، فكان دوماً السباق لنكبتها، والعامل الأكبر في تشريد أبنائها، ومطاردة رجالها، وتدمير اقتصادها، وتعطيل طاقاتها.. ثم دوس مقدساتها وإهانة حرماتها، وأخيراً التخلي عن جزء من أرضها للعدو الطامع الغريب.
هذا الكلام ليس تجنياً على الجيش.. فأنا واحد من أبر أبنائه، ومن أكثر الناس إخلاصاً له، والله وحده يعلم أنني لم أبخل بدم، ولم آل جهداً في رفع مستوى الوحدات التي عينت فيها، والأرض ـ أرض الجولان وكناكر وقطنا وحمص وحلب ـ ستشهد أمام الله، كم بذلت من جهد، وكم سكبت من عرق وكم أصبت بجروح وإصابات وكم حرمت نفسي من النوم وحتى من الإجازات، لأؤدي واجبي، بصمت منتج، شهد لي به حتى قادتي الذين عينت تحت قيادتهم خصيصاً ليحطموا مستقبلي.. فكان منهم أن دافعوا عني في وجه خصومي.
ولكنها قولة حق، أقولها مهما أغضبت من الحاقدين أو صغار العقول، وعزائي في ذلك أنها ترضي رب العالمين، وتريح ضميري، وتكشف للصادقين في غيرتهم على مستقبل هذه الأمة، بعض مواطن الخطر الذي يكمن في بناء واحدة من أخطر مؤسساتها وأشدها حساسية وأكثرها شأناً.
(ب) ولقد بلغ ـ حتى اليوم ـ عدد الانقلابات الظاهرة التي وقعت في سورية وتغيرت أنظمة أو أشخاص الحكم نتيجة لها عشرة انقلابات كانت على التوالي:
1ـ انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار 1949.
2ـ انقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949.
3ـ انقلاب أديب الشيشكلي في 29 تشرين الثاني 1951.
4ـ الانقلاب ضد أديب الشيشكلي في 25 شباط 1954، وجاء بعده وضع ديمقراطي دستوري بدأت فيه مقدمات سيطرة اليسار على الحكم.
5ـ الانقلاب العسكري البطيء الصامت الذي توج بإعلان الوحدة في 22 شباط 1958.
6ـ انقلاب الثامن والعشرون من أيلول عام 1961 وكان الانفصال نتيجة له، وجاء بعده وضع ديمقراطي دستوري كان لليمين فيه سيطرة ظاهرية، بينما بقيت السيطرة الحقيقية فيه للقوى اليسارية.
7ـ انقلاب 28 آذار 1962 وقد أبدل حكومة بأخرى، ولكن موقف القوى اليسارية ازداد بعده قوة وخطراً.
8ـ انقلاب 8 آذار 1963، وجاء على أثره نظام الحكم (التركيبة) الذي ضم حزب البعث والحريري والناصريين.
9ـ انقلاب 23 شباط 1966، الذي أبدل أشخاصاً وفئات بغيرها ضمن إطار حزب البعث، ولكن كانت نتيجته ازدياد سيطرة اليسار المتطرف، يتخفى وراءه العنصر الطائفي المتعصب.
10ـ محاولة انقلاب 8 أيلول عام 1966 الفاشلة، والتي كان من نتائجها إبعاد فئة معينة من حزب البعث هي الفئة الدرزية التي يمثلها سليم حاطوم وطلال أبو عسلي.
(ج) أما العصابات والتحركات السرية، التي لعبت أدواراً لا تقل خطورة عن الانقلابات الظاهرة، فهي كثيرة، كان من أهمها:
1ـ عصيان البعثيين في قطنا، في آذار عام 1957 وكان من نتيجته تقاسم المناصب الخطيرة في الجيش بين البعثيين وخصومهم (مجموعة النفوري...)
2ـ الانقلاب الأبيض في 17 آب 1957، والذي أخرج بموجبه عدد من الضباط ذوي الرتب الكبيرة أمثال العقداء (عمر قباني، سهيل العشي، حسن العابد، هشام السمان)، ثم إقالة الزعيم توفيق نظام الدين، ثم اختتم برفع الشيوعي العقيد عفيف البزري إلى منصب رئاسة الأركان العامة بعد ترقيته إلى رتبة اللواء.
3ـ عصيان حمص في نيسان 1962، الذي أسفر عن إخراج عبد الكريم النحلاوي وعدد من زملائه خارج البلاد ثم سرحوا من الجيش، ثم أعقبه بعد أيام عصيان حلب بزعامة العقيد جاسم علوان، وقتل خلاله أربعة ضباط ثم فشل العصيان وأحيل العصاة إلى المحاكمة.
4ـ عصيان 13/1/1963، الذي قام به عدد من أنصار عبد الكريم النحلاوي، ملغومين بعناصر من أنصار القاهرة.. وكان من نتائج هذا العصيان أن فشل ودخل قادته السجن، وخلا طريق دمشق أمام زياد الحريري وشركائه في المؤامرة ليقوموا بانقلابهم في 8 آذار 1963.
5ـ محاولة الانقلاب المعروفة بـ (18 تموز)، التي قام بها الناصريون ففشلت، وكان من نتائجها استقالة رئيس الدولة ـ يومذاك ـ الفريق لؤي الأتاسي، وتصفية عدد كبير جداً من أنصار القاهرة، وإعدام سبعة وعشرين شخصاً، كان أشهرهم العقيد هشام شبيب، والنقيب ممدوح رشيد الذي ذهب ظلماً دونما ذنب اقترفه، والمساعد بحري كلش وعدد من الفدائيين الفلسطينيين.
6ـ سلسلة من العصيانات المحدودة تمت خلال عهد حزب البعث في سورية. وأسفرت عن تصفيات كثيرة، كان أهمها، طرد اللواء أحمد سويداني من قيادة الجيش، ثم هربه من سورية ملاحقاً. وكان ذلك في عام 1968.
7ـ وأخيراً.. حركة الفريق حافظ الأسد، التي جرت خلال نيسان عام 1969، والتي أسفرت عن نتائج خطيرة لم تظهر آثارها الحاسمة بعد.
(د) أما التصفيات المتعاقبة ـ بالقتل أو الطرد، أو المحاكمة أو التشريد ـ التي تمت خلال هذه المدة الطويلة فقد كانت كثيرة جداً، أهمها هو:
1ـ مقتل العقيد الطيار محمد ناصر، قائد القوى الجوية السورية، بتاريخ 31 تموز 1950 وقد كان من أكبر منافسي الشيشكلي على السلطة.
2ـ إخراج العقيد إبراهيم الحسيني من الجيش ثم من البلاد، بأوامر من الزعيم أديب الشيشكلي في عام 1952.
3ـ تصفية أنصار أديب الشيكشلي بعد الانقلاب عليه، وكان من أبرزهم الزعيم عمر خان تمر والرئيس شحادة عبد الحق.
4ـ مقتل العقيد عدنان المالكي في 22 نيسان عام 1955، بتدبير من الحزب القومي السوري.
5ـ تصفية العسكريين من الذين اتهموا بالصلة أو الانتساب إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي في عام 1955، وبعد مقتل العقيد عدنان المالكي ومن أبرزهم المقدم غسان جديد (شقيق صلاح جديد).
6ـ تسريح عدد من الضباط في (تموز ـ آب) عام 1957، بعد اتهامهم ـ ولم يحاكموا ـ بالإعداد لانقلاب يعيد الشيشكلي والحسيني إلى الحكم، وكان من أبرزهم العقداء (عمر القباني، جودت الأتاسي، سهيل العشي، عمر العابد، هاشم السمان)، واللواء طالب الداغستاني والزعيم محمود شوكت والزعيم فيصل الأتاسي.
7ـ سلسلة طويلة من التصفيات، بالتسريح أو التقاعد، أو النقل إلى الدوائر المدنية، قامت بها سلطات الوحدة، وشملت عدداً من الضباط والعسكريين الشيوعيين، والقوميين السوريين، والبعثيين، والأكراد، وبلغ مجموعهم ما لا يقل عن ستمائة ضابط وعدد أقل من ضباط الصف والجنود المتطوعين.
8ـ تسريح عدد من الضباط الموالين للقاهرة، خلال حكم الانفصال، لم يتجاوز عددهم العشرة أو يزيد قليلاً، وكان من أبرزهم قائد الجيش الفريق جمال فيصل، واللواء محمد الجراح، والعقيد جاسم علوان، والعميد جميل حكمت الداية، والعقيد محمد استانبولي الذي كان مديراً للمخابرات العسكرية.
9ـ تسريح 63 ضابطاً خلال عهد الانفصال أيضاً (أوائل عام 1962 على وجه التقريب) كان أكثرهم من كبار ضباط حزب البعث، وكان فيهم صلاح جديد، وعبد الكريم الجندي، وحافظ الأسد، ومحمد عمران.
10ـ سلسلة طويلة جداً من قرارات التسريح والسجن والمحاكمة والإعدام والقتل سراً، شملت أكثر من 85 % من ضباط وعناصر الجيش تمت منذ قيام حكم 8 آذار وحتى اليوم، وسنتحدث عنها مفصلاً في السطور القادمة، نظراً لعلاقتها المباشرة بالذي حدث في حرب حزيران عام 1967.
(هـ) وقد تعاقب على قيادة الجيش في سورية عدد من الضباط كان يتم تسليمهم ثم تركهم لها بصور شتى، وفيما يلي أبرز القادة:
ـ اللواء عبد الله عطفة، وقد كان قائداً للجيش عقب الاستقلال مباشرة وترك الخدمة بعد أن أحيل إلى التقاعد.
ـ الزعيم حسني الزعيم، وقد عين قائداً للجيش بعد اللواء عبد الله عطفة، ثم قام بانقلابه في 30 آذار عام 1949، ومات مقتولاً عقب انقلاب سامي الحناوي عليه في 14 آب 1949.
ـ الزعيم سامي الحناوي الذي تسلم قيادة الجيش والبلاد عقب انقلابه على حسني الزعيم، ثم ترك القيادة والحكم بعد انقلاب أديب الشيشكلي في 29 تشرين الثاني 1951.
ـ الزعيم أنور بنود، وقد عين في رئاسة الأركان العامة بعد التطويح بالحناوي واستمر في منصبه حتى تاريخ 21/5/1951 حيث رفع الشيشكلي إلى رتبة زعيم وعين بديلاً له، ونفى بنود إلى أنقرة ملحقاً عسكرياً.
ـ الزعيم أديب الشيشكلي الذي تسلم رئاسة الأركان العامة بتاريخ 21/5/1951 وبقي في هذا المنصب حتى النصف الثاني من تموز عام 1953 إذ تخلى عن هذا المنصب بعد تسلمه رئاسة الجمهورية، وعين بدلاً منه الزعيم شوكت شقير.
ـ الزعيم شوكت شقير الذي خلف الشيشكلي في تموز 1953 ثم أقيل من منصبه بتاريخ 8 حزيران 1956 وعين خلفاً له اللواء توفيق نظام الدين.
ـ الزعيم توفيق نظام الدين، وقد كلف بهذا المنصب من قبل رئاسة الجمهورية، ثم استقال عام 1957، عقب الضغوط التي مارسها عليه البعثيون والشيوعيون مدعمين بأكرم الحوراني، لإخراج الضباط الدمشقيين الكبار من الجيش، ولكنه رفض ذلك دون محاكمتهم وإدانتهم. فلما وجد ذلك غير ممكن، استقال، ولم يرض بتوقيع قرار التسريح.. كان ذلك في 17 آب 1957.
ـ اللواء عفيف البزري، بعد أن رفع من رتبة عقيد متجاوزاً رتبة الزعيم (سميت العميد فيما بعد) واستمر يحكم الجيش منذ 17 آب 1957حتى قامت الوحدة، حيث رفع لرتبة فريق، واستمر قائداً للجيش (الأول) حتى ربيع عام 1959 إذ أقيل من منصبه لوقوفه موقفاً صلباً في وجه محاولات التسلط التي بدأها الضباط المصريون، وقامت أجهزة الإعلام بإذاعة نبأ استقالته ـ دون علمه ـ ثم هرب إلى بغداد وطلب اللجوء السياسي.
ـ الفريق جمال فيصل، الذي عينه الرئيس جمال عبد الناصر خلفاً للفريق عفيف البزري واستمر يدير ظواهر أمور الجيش، وخاصة الاحتفالات ومناسبات تدشين المنشآت العسكرية والمدنية، حتى وقع الانفصال. في 28 أيلول عام 1961، فأحيل على التقاعد.
ـ الفريق عبد الكريم زهر الدين، الذي جيء به إلى قيادة الجيش ليكون واجهة ذات رتبة كبيرة منذ اليوم الأول للانفصال، ولكنه استطاع أن يتملك أمور الجيش شيئاً فشيئاً، واستمر في عمله حتى وقعت مؤامرة الثامن من آذار، عام 1963، فأدخل السجن وأحيل على المحاكمة، ثم شمله العفو، ومنح جميع حقوقه التقاعدية.
ـ اللواء راشد قطيني أحد منفذي مؤامرة 8 آذار عام 1963، وقد تسلم منصب رئاسة الأركان العامة مدة لم تزد عن شهور، إلى أن استطاع أمين الحافظ التسلل إلى المنصب بعد سلسلة التصفيات العنيفة التي قام بها حزب البعث لكل شركائه في الثامن من آذار وعلى رأسهم زياد الحريري وراشد قطيني ومحمد الصوفي ورابعهم لؤي الأتاسي.
ـ الفريق أمين الحافظ الذي تسلم قيادة الجيش بعد القطيني، ثم بدأ يزحف على السلطة حتى تسلم قيادة البلاد عقب محاولة انقلاب 18 تموز عام 1963 التي قام بها الناصريون بقيادة جاسم علوان، واستمر قائداً للجيش حتى عام 1964، حيث عينت قيادة الحزب بديلاً له اللواء صلاح جديد، ليتفرغ هو لمهام رئاسة الدولة.
ـ اللواء صلاح جديد، الذي استمر يدير الجيش دون أن يحاول الظهور، حتى شباط عام 1966، حين اتخذت القيادة القومية لحزب البعث قراراً بإخراجه من الجيش مع بعض زملائه.
ـ اللواء أحمد سويداني، الذي تسلم قيادة الجيش عقب انقلاب 23 شباط عام 1966، وتصفية الفريق أمين الحافظ وأنصاره، واستمر في منصبه حتى أدى دوره كاملاً في تسليم الجولان عام 1967، ثم أقيل من منصبه ـ ليتفرغ للمهام الحزبية ـ ثم لوحق وفر من البلاد مطارداً.
ـ اللواء مصطفى طلاس، الذي عينته القيادة القطرية لحزب البعث خلفاً للسويداني عام 1968، ومازال قائداً للجيش حتى كتابة هذه الصفحات.

(و) الضباط الذين رفعوا استثنائياً لتسلمهم مهام قيادة الجيش:
1ـ عفيف البزري وقد رفع من رتبة عقيد إلى رتبة اللواء ثم الفريق.
2ـ جمال فيصل وقد رفع من رتبة العقيد إلى رتبة الزعيم ثم اللواء ثم الفريق.
3ـ راشد القطيني، الذي رفع من رتبة العقيد إلى رتبة اللواء.
4ـ أمين الحافظ الذي رفعه حزب البعث من رتبة مقدم إلى عميد فلواء ففريق في خلال ثلاث سنوات.
5ـ صلاح جديد، الذي رفعه حزب البعث من رتبة مقدم إلى رتبة اللواء مباشرة.
6ـ أحمد سويداني الذي رفعته القيادة القطرية لحزب البعث بعد حركة 23 شباط 1966، من رتبة المقدم إلى رتبة اللواء.
7ـ مصطفى طلاس، وقد رفعه حزب البعث من رتبة العقيد إلى رتبة اللواء.
وهذا لا يعني أن الترفيعات الاعتباطية الاستثنائية اقتصرت على هؤلاء فقط، بل شملت كثيرين آخرين، ولكن هذا ليس مجال الحديث عنهم إنما يكفي للدلالة على سوء حال الجيش والبلاد، أن يتعاقب على قيادته ثلاثة عشر ضابطاً ، منهم واحد فقط تسلم مهامه بصورة دستورية، ومنهم ستة (أي النصف تقريباً) نالوا رتبهم ومناصبهم دونما أية أهلية أو استحقاق وإنما نظراً لتغييرات سياسية شهدتها البلاد، وجرتها إلى النكبة الفاجعة.

(ز) حركة الثامن من آذار، تمهيد لنكبة حزيران:
وقعت حركة الثامن من آذار عام 1963، واستطاع قادتها السيطرة على الحكم في سورية، مدعين أنهم قاموا بحركتهم لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية.
وبعد مضي ست سنوات من عمر هذه المؤامرة، ودخولها في عامها السابع، لم تحقق من شعاراتها شيئاً، وكانت نتائج أعمالها على الشكل التالي:
في الوحدة: قامت هذه الحركة بترسيخ أسس الانفصال، وتعميق جذوره، ونسف أمل الأمة بأية محاولة وحدوية قادمة، بل وقامت هذه الحركة بتعميق جذور القطرية الانعزالية إلى حد لم يعرف له مثيل في تاريخ هذه البلاد على الإطلاق.








في الحرية: لم يعرف الشعب في كل تاريخه الطويل، حتى في أيام الحكم الصليبي لأجزاء من البلاد، أو في أيام الاستعمار الفرنسي، قمعاً للحرية، وخنقاً لها، وملاحقة وتشريداً لأنصارها، كما عرفت منذ قيام هذه الحركة، ولا غرو، فإن الحركة تهدف إلى السيطرة على الحكم، يدبرها ويقودها سراً، ويربط قادتها جاسوس مثل إيلي كوهين . لتعمل على شل كل فعاليات البلاد، ووأد كل أمل بالمقاومة في وجه العدو إذا ما حاول التوسع على حسابها..
إن مثل هذه الحركة، ما كان ليتاح لها أن تؤدي دورها في تسليم البلاد للعدو، مقابل ثمن بخس، لو أنها حققت شيئاً حقيقياً ـ مهما كان ضئيلاً ـ من ممارسة الحرية الفعلية، بصورة من صورها أو أكثر.
ونحن لا نفتري على هذه الحركة وقادتها شيئاً من الكذب، وإنما ندع المجال لقادتها بأن يتكلموا ويفضحوا حقائق الأمور..
هذا واحد من قادتها، عضو القيادة القطرية لحزب البعث، ووزير الإعلام في أول حكومة شكلتها حركة الثامن من آذار، والمرشح أكثر من مرة لرئاسة وزارة حزب البعث، وسفير سورية في باريس خلال فترة من عهد حزب البعث، الدكتور سامي الجندي، يقول في كتابه (كسرة خبز) ما نصه بالحرف الواحد:
(... كنت أنذرتهم أن سبل الثورة باتت خطرة على نفسها وعلى الشعب وأنها ما باتت ثورة، بل انقلاب شرذمة، أدى بها الغرور والأنانية والتمسك بالحكم إلى طغيان بوليسي لا أهداف له ولا رجاء منه غير الخراب والتخريب، والولوغ بالدم والشرف).
فهل يكون القارئ، أو المؤرخ، أو حتى التاريخ نفسه، بحاجة لأكثر من هذا الكلام، يجري به لسان واحد من صناع نكبة الأمة، فيفضح حقيقة أمر هذه الـ(ثورة)، وحقيقة أمر ذاك الحزب والسلطة التي نشأت عنها ومارسها، من أجل (... الخراب والتخريب والولوغ بالدم والشرف ؟!)
في الاشتراكية: ورغم كل قرارات التأميم والمصادرة التي أصدرتها السلطة البعثية في البلاد، لم تحقق شيئاً واقعاً ملموساً من المفاهيم الاشتراكية.
إن كل ما أصدرته السلطة البعثية من قرارات تأميم ومصادرة، لم تتجاوز قيمته ثلاثمائة مليون ليرة سورية.
أي أن سلطات حزب البعث أممت أقل من ربع الثروة الحقيقية في البلاد وهنا تكمن اللعبة الخطرة التي أداها حزب البعث، خدمة للمطامع الإسرائيلية.
فلقد دب الرعب في نفوس أصحاب الثروات، عقب قرارات التأميم هذه، التي لم تهدف في حقيقتها إلى هذا الأمر، فقام رجال المال بتهريب أموالهم خارج البلاد، وهنا أفادت المطامع الإسرائيلية فائدتين كبيرتين:
الأولى ـ وهي الأهم ـ تعطيل المشاريع الإنمائية، وقتل روح المبادأة لدى الفرد السوري الذي يتميز بها عن غيره، وإيقاف النمو الاقتصادي في مجالات كبرى، وخفض الإنتاج، وبالتالي القضاء على الدخل الاقتصادي الذي كان قادراً ـ لو استمر في الارتفاع ـ على مد الجيش بكل احتياجاته للوصول إلى مرحلة التفوق (التكنولوجي) والعددي على القوات الإسرائيلية وهذا ـ لو تحقق ـ فإنه يشكل أحد مواضع الإصابة القاتلة في الكيان الإسرائيلي الدخيل.
والثانية هي أن قسماً كبيراً من الثروات التي تم تهريبها، نقل إلى البنوك في أوروبا، حيث تملك اليهودية العالمية السيطرة الكاملة على معظم تلك البنوك.. إذن، استطاعت اليهودية العالمية بواسطة خدامها من الاشتراكيين الزائفين، أن تدفع بالأموال العربية، إلى أحضانها، لتتحكم بها وتستغلها مقابل أجور تافهة تسميها لأصحابها (فوائد).
كان هذا دور حركة الثامن من آذار، في تلك المجالات الكبرى من حياة البلاد، وبذلك دمرت كل إمكانية تتيح للشعب أن يصمد في وجه الغزو العسكري الإسرائيلي المقرر منذ ما قبل مؤامرة 8 آذار. ومن أجل التمهيد له، جيء بمنفذي تلك الحركة ليقوموا بها، وعلى رأسهم، العقيد زياد الحريري، والمقدم أسعد حكيم، والرائد بهجت الخاير، والرائد صلاح جديد، والرائد عبد الكريم الجندي، والرائد محمود الحاج محمود، والنقيب محمد الحاج محمود، والنقيب سليم حاطوم، والنقيب فايز موسى وغيرهم كثيرون ليس هذا مقام حصرهم.
وبقيت رغم كل ذلك التخريب، نقطة قوة خطرة على كيانات التآمر وخطرة على مطامع الغزو الإسرائيلي (المقبل)... هذه القلعة الخطرة، هي الجيش... فلابد من تصفيته وشل فعالياته، وقد تم ذلك بأبشع صورة للخيانة، وأقبح جريمة ارتكبت في تاريخ الأمة، وكان ذلك على الشكل التالي:
1ـ بعد وقوع انقلاب الثامن من آذار بخمسة أيام فقط، أي بتاريخ 13 آذار عام 1963 صدرت نشرة عسكرية أخرجت من الجيش مائة وأربعة ضباط وهم كبار ضباط الجيش، افتتحت بالفريق عبد الكريم زهر الدين، واختتمت بالمقدم بسام العسلي.
2ـ وبتاريخ 16 آذار (أي بعد ثلاثة أيام أخر) صدرت نشرة أخرى، أخرجت من الجيش 150 ضابطاً هم الطاقة الفعالة في الجيش (قادة الكتائب ورؤساء عمليات الألوية وقادة السرايا)، وكنت واحداً من الذين شملتهم هذه النشرة.
3ـ ثم تتابعت النشرات، تسرح وتحيل على التقاعد، وتنقل إلى الوظائف المدنية على نحو لم يتح لي الإطلاع على تفاصيله، حتى بلغ مجموع الضباط الذين أخرجوا من الجيش، حتى أيار (مايو) 1967، لا يقل عن ألفي ضابط، مع عدد لا يقل ضعفه من ضباط الصف القدامى، والجنود المتطوعين الذي يشكلون الملاك الحقيقي الفعال لمختلف الاختصاصات في الجيش.
4ـ ولزيادة تعميق الجريمة، ولذر الرماد في العيون ـ لئلا يقال أنهم يسرحون الجيش ـ استبدل بالذين أخرجوا من الجيش (وخاصة الضباط) أعداد كبيرة جداً من ضباط الاحتياط (الذين سبق لهم أن أدوا خدمة العلم) وجميعهم تقريباً من البعثيين، وأكثريتهم من أبناء طائفة معينة (العلويين) وبذلك أصبح الجيش مؤسسة بوليسية لقمع الحريات والتنكيل بالشعب، لا جيشاً قادراً على صون الحدود، والدفاع عن أرض الوطن.
5ـ وقد رافق ذلك كله، عمليات مجرمة، شملت حل بعض الوحدات المقاتلة، وتشكيل وحدات غيرها على أسس طائفية بحتة ـ تماماً كما فعل الفرنسيون أيام الاحتلال ـ وبذلك أصبح الجيش عبئاً كريهاً على عاتق الشعب بدل أن يكون درعاً وحصناً يصون بلاده، ويحفظ أمنه وحرياته.
6ـ وقد تميزت تلك المرحلة من تصفية الجيش، بصورة من العنف والتنكيل، كان منها القتل، والسجن، والأحكام الاعتباطية والإعدام، والاتهامات جزافاً، ومصادرة الأموال والممتلكات وتضييق سبل العيش على الناس (وخاصة العسكريين)، حتى أصبح المواطن يمسي فلا يصدق أنه سيصبح بخير، أو يصبح فلا يصدق أنه سيمسي بدون أن يصيبه سوء.
وقد كان من أبرز العسكريين الذين قتلوا ظلماً، النقيب معروف التغلبي، والنقيب ممدوح رشيد، والملازم نصوح الجاني، والعقيد أ.ح كمال مقصوصة.
ومن الذين أعدموا، العقيد هشام شبيب، والمساعد بحري كلش، ثم امتدت يد الظالمين إلى بعضهم، فأعدموا سليم حاطوم، وبدر الدين جمعة.
وغصت السجون بالمئات من الضباط والآلاف من باقي العسكريين كان من أبرزهم، اللواء محمد الجراح، واللواء راشد قطيني، والفريق محمد الصوفي، والفريق عبد الكريم زهر الدين، واللواء وديع مقعبري، والعمداء مصطفى الدواليبي، ونزار غزال، وأكرم الخطيب، وموفق عصاصة، ودرويش الزوني، وممدوح الحبال، والعقداء هيثم المهايني، ومحيي الدين حجار، وحيدر الكزبري، ثم امتدت يد الظالم إلى أهله، فدخل السجن اللواء محمد عمران، والفريق أمين الحافظ وكثيرون من أنصارهما وعاد أهل البغي يأكل بعضهم بعضاً.
وصدرت أحكام الإعدام جزافاً، فشملت الكثيرين، وكان منهم العقيد جاسم علوان، والنقيب محمد نبهان، والمقدم عبد الرحمن السعدي، والرائد صدقي العطار، ثم عاد الظلم يأكل أهله، فصدرت أحكام الإعدام بحق سليم حاطوم، وبدر الدين جمعة، ومصطفى الأظن، وغيرهم ممن لا أذكر الآن أسمائهم.
واليوم ورغم النكبة، يعيش عسكريو الجيش المسرحون، إما داخل سورية، يتقاضون رواتب الذل (التقاعد)، كل شهر، أو يفتشون عن مصادر الرزق الكريم في كل مجال، وإما خارج سورية، وفي كل بقاع المعمورة، يفتش كل منهم عن مصدر عيش كريم، والقلوب تحترق، والشباب يذوى، وعملاء العدو مازالوا يتربعون كراسي السلطة، ينفذون الدور المرسوم، لتسليم جزء آخر من البلاد للعدو في وثبة قادمة.
وللأمانة التاريخية.. لابد أن نشير إلى أن الشعب لم يسكت، رغم عزله وغلبه وقلة حيلته فحدثت انتفاضات وحركات عنيفة، تمزيت بصورة من البطولة والنبل الأصيلين في هذا الشعب، كان من أهمها:
1ـ اضطرابات طرطوس خلال عام 1964، وقد جهدت السلطة لحصرها على أضيق نطاق.
2ـ أحداث حماة عام 1964، وكان من نتائجها عدد من الضحايا، وأحكام الإعدام لسبعة من الذين اشتركوا فيها.. وضرب المساجد والبيوت بالدبابات والمدفعية والطيران، والرمي بالرشاشات جزافاً على الآمنين العزل، وفيها هدم جامع السلطان، (أكبر جوامع مدينة حماة) تهديماً كاملاً.
وقد رافق أحداث حماة، اضطرابات عامة شملت دمشق وحمص واللاذقية، قمعت بمنتهى العنف وفتحت المحلات بالقوة، وصودرت أموال الكثيرين من المواطنين، وهوجمت بعض مساجد حمص، كمسجد خالد بن الوليد، بالدبابات لإخراج المعتصمين فيه.
3ـ أحداث دمشق عام 1965، التي أشعلها قسم من العلماء والتجار، وتجاوب معها الشعب تجاوباً مطلقاً، وكادت هذه الأحداث تعصف بالحكم البعثي، لولا العنف الذي استخدمه الجيش، فهوجم المسجد الأموي بدمشق بالمصفحات، وفتحت النيران على المصلين فسقط سبعة قتلى وعدد كبير من الجرحى، وغصت السجون مما لا يقل عن أربعة آلاف معتقل، وصدرت خلالها أحكام الإعدام اعتباطاً بحق خمسة عشر شخصاً، عدا الأحكام الأخرى.
4ـ أحكام حماة مرة أخرى عام 1966، التي قمعها الجيش بعنف وتم حصرها في نطاق حماة دون أن تمتد خارجها.
5ـ في الإضراب العام الذي وقع في شهر نيسان عام 1967 عقب مقال فاجر نشرته السلطة في مجلة جيش الشعب، يتهجم فيه الكاتب على الله والأديان، ويطالب بوضعها مع قوى الاستغلال والمتخمين في متاحف التاريخ .
وقد لجأت السلطة خلال هذا الإضراب إلى اعتقال كرام العلماء، وخيرة أبناء البلاد، ثم تنصلت من مسئوليتها عن المقال، وادعت أن كاتبه من عملاء المخابرات الأمريكية، واستمر الإرهاب والقمع الوحشي حتى جاءت القوات الإسرائيلية تحتل الجولان، وتهدد بالزحف على دمشق. عندها فر رجال السلطة بعد أن نقلوا متاعهم وعيالهم إلى قراهم، واختبأوا كالأرانب المذعورة في القرى التي ولدوا فيها، وفتحت السجون، وخرج المعتقلون منها، ليروا البلاد قد أصبحت خراباً... ونامت الدنيا ليلة الأحد حزيران على أنباء الفجيعة التي أعلنت سقوط الجولان فهزت ضمير كل صادق ومخلص، وفتحت في النفس جروحاً هي أبلغ وأكبر من كل جرح أصابنا بعد سقوط سيناء والقدس.









الفصل الثاني
الجولان


(... إن الجبهة السورية ـ الإسرائيلية " خط ماجينو " السوري المشهور، الذي كلف البلاد أكثر من ثلاثمائة مليون دولار، لتحصينه وتجهيزه بأحدث المعدات، والذي اشتهر عنه أنه لا يؤخذ.. هذا الخط سقط بأيدي القوات الإسرائيلية خلال 48 ساعة فقط)..
من كتاب (المسلمون والحرب الرابعة ص 171)












ـ 1 ـ
جغرافية الجولان
(أ) الجولان... مقاطعة هامة من الأرض العربية. تابعة للجمهورية العربية السورية، وتقع في الجزء الجنوبي منها. تجاوره من الشمال الغربي أراضي الجمهورية اللبنانية، ومن الغرب الأراضي المحتلة من فلسطين، ومن الجنوب أراضي المملكة الأردنية الهاشمية.
ويشكل الجولان، واحدة من ثلاث عشرة محافظة، هي التقسيمات الإدارية للجمهورية العربية السورية، ومركزه (عاصمة المحافظة): القنيطرة.
(ب) ويقع الجولان في الترتيب الأول بين المحافظات السورية من حيث:
ـ الأهمية العسكرية.
ـ خصوبة الأرض وغناها الطبيعي.
ـ توفر المراعي الغنية طوال فصول السنة.
ـ وعورة الأرض.
ـ الغنى بالكنوز الأثرية الدفينة والتي لم يكشف عنها حتى يوم ضياعه.
ـ تنوع أجوائه ضمن مسافات متقاربة، حتى ليبلغ البعد بين النقيضين (من البارد المثلج إلى الحار الممطر) مالا يزيد عن مسيرة ساعة بالسيارة.
ـ وفرة الزواحف والحشرات الخطرة وفي مقدمتها الأفاعي والثعابين والعقارب.
ـ توفر المياه المعدنية وحماماتها.
ـ تعدد طوائف وأديان وأجناس سكانه، فقد احتوى من أهل المذاهب والأديان:
1ـ المسلمين السنيين. والمسلمين الشيعة.
2ـ المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت.
3ـ الدروز 4ـ العلويين.
ومن الأجناس:
1ـ العرب 2ـ الشراكس 3ـ الداغستان
4ـ الأتراك 5ـ التركمان 6ـ الأكراد
ويأتي ترتيبه ثانياً من حيث:
ـ وفرة الأحراج والتشجير الطبيعي.
ـ غزارة الأمطار والثلوج.
ـ توفر الحيوانات وتنوعها، وخاصة البرية منها، ووفرة الطيور المقيمة والوافدة.
ـ إنتاج الخضار الموسمية وخاصة في فصل الشتاء.
ويأتي ثالثاً في الترتيب من حيث:
ـ كثافة السكان.
ـ توزع السكان في الريف بنسبة تفوق توزعهم على المدن.
ـ إنتاج المنتجات الحيوانية وخاصة العسل والأسماك.
ويأتي ترتيبه الأخير من حيث:
ـ استغلال الموارد والطاقات المتوفرة.
ـ مساحة أرضه.
ـ المستوى الثقافي والاجتماعي والحياتي للأكثرية العظمى من سكانه.
ـ اهتمام الدولة به من مختلف نواحي الحياة ـ عدا ما وقع في دائرة اهتمامات الجيش.
(ج) يبلغ طول حدوده مع العدو ثمانين كيلومتراً ... يمر خلالها خط الهدنة.
ـ تبلغ مساحته حوالي 1800 كم2. ولا يقل عدد سكانه عن 100 ألف ـ عدا القوات ـ أصبحوا اليوم كلهم نازحين مشردين.
ـ تبلغ كثافة السكان 79 نسمة ـ كم2.
(د) من أشهر مدنه:
ـ القنيطرة وهي مركز المحافظة.
ـ فيق وهي مركز قضاء الزوية.
من أشهر قراه:
ـ في القطاع الشمالي: مجدل شمس، بانياس، مسعدة، عين قنية، جباتا الزيت، زعورة، عين فيت.
ـ في قطاع واسط: وساط، حفر، قنعبة، الدرباشية.
ـ في القطاع الأوسط: كفر نفاخ، العلية، الدبورة، نعران، جليبينة، القادرية، عين السمسم، السنابر، الفاخورة، تل الأعور، حسينية الشيخ علي، الدوكا، الخشنية، القصبية، اليهودية.
ـ في القطاع الجنوبي: البطمية، خسفين، العال، حيتل، الياقوصة، كفر حارب، الحمة.
ـ في قطاع القنيطرة: جباتا الخشب، المنصورة، الصرمان، عين زيوان، الدلوة، المومسية، الجويزة، بريقة، بيرعجم، الفحام.
(هـ) أهم مصادر المياه فيه:
بالإضافة إلى نهر الأردن، وبحيرة طبريا، اللذين يعتبران من أكبر مصادر المياه التي كان سكان المنطقة يستفيدون منها، هناك مصادر أخرى للمياه (مستغلة أو غير مستغلة) أهمها:
1ـ نهر بانياس الذي يشكل ثاني روافد نهر الأردن وينبع من ارتفاع 300 م ولا يسير في الأرض السورية أكثر من 1000 م ويبلغ تصريفه السنوي 157 مليون م3 من المياه العذبة.
2ـ نهر اليرموك الذي يبلغ طوله 57 كيلومتراً يسير منها 47 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، معظمها في الجولان (على حدوده)، ثم يرفد نهر الأردن جنوبي بحيرة طبريا.
3ـ قناة العفريتية، وهي مأخوذة من نهر الأردن، وتروي معظم منطقة البطيحة.
4ـ نهرا الزاكية والمسعدية، ويصبان مباشرة في بحيرة طبريا.
5ـ بركة (بحيرة) مسعدة، وهي عبارة عن حفرة كبيرة بركانية تقع على ارتفاع 950 متراً، ويشكل المصدر الأكبر لمياهها، تساقط الأمطار، وفي أرضها بعض الينابيع.
6ـ بالإضافة إلى ينابيع وعيون كثيرة، موزعة في كل وديانه وقراه، وتشكل مصادر وفيرة للمياه، منها ما كان مستغلاً، ومنها المهمل (وهو الأكثر)، ومن أهم هذه الينابيع:
ـ نبع البرجيات وتذهب مياهه مباشرة إلى الأرض المحتلة قرب كفر شامير.
ـ عين الكبش في وادي الدبورة ويسيل في الوادي حتى يلتقي مع ينابيع جليبينة وتصب جميعها في نهر الأردن قرب بستان الخوري.
ـ نبع الجوخدار وقد كان مستغلاً أكثر ما يمكن في تأمين المياه إلى القرى والمعسكرات.
ـ نبع السنابر، وكان مستغلا بشكل ممتاز ويروي قرى كثيرة وتزرع على مياهه مساحات جيدة بالأرز، وذلك في قرى جرابا وسيرة الخرفان والقراعنة.
ـ ينابيع القصبية وهي مستغلة أيضاً بشكل جيد وعلى مياهها يزرع الأرز في منطقة القصبية.
ـ نبع الدورة (أمام السنابر)، وكانت الفائدة منه محدودة على أحد سفوح وادي حواء.
ـ ينابيع الحمة، وقد كان أكبر إفادة منها، في الاستحمام لكونها معدنية، وهي من أجود الحمامات المعدنية في العالم.
(و) أهم الطرق في الجولان:
الطرق المشتركة بين أكثر من قطاع:
1ـ الطرق الطولانية (من الشرق إلى الغرب):
سحيتا ـ مسعدة، آتياً من قطنا ـ بيت تيما ـ حينة ـ مزرعة بيت جن (نصف معبد).
قنيطرة ـ المنصورة، مسعدة، بانياس. آتياً من دمشق ومستمراً إلى مرجعيون (معبد).
قنيطرة ـ كفر نفاخ ـ العليقة ـ الجمرك السوري ـ جسر بنات يعقوب ومستمراً إلى صفد (معبد).
القنيطرة ـ الرفيد ـ خسفين ـ العال ـ فيق ـ الحمة (معبد).
2ـ الطرق العرضانية (من الشمال إلى الجنوب):
مسعدة ـ واسط ـ كفر نفاخ (معبد).
قنعبة ـ حفر ـ العليقة (ممهد).
كفر نفاخ ـ السنديانة ـ الخشنية (ممهد).
الدرباشية ـ جليبينة ـ المرتفع 217 (ممهد).
الجمرك السوري ـ علمين ـ تل المشنوق ـ البطيحة مخترقاً إياها وماراً بالقرى: تل الأعور ـ حسينية الشيخ علي ـ الدوكا ـ الكرسي ـ النقيب العربية (نصف معبد فيما بين الجمرك وتل الأعور، وممهد في باقي أجزائه).
يضاف إلى ذلك الطريق الموازي لخط أنابيب التابلاين، آتياً من الأراضي الأردنية، مخترقاً حوران، فالجولان ماراً بالجوخدار ـ البيرة ـ الرزانية ـ رواية ـ بانياس ـ الغجر، ثم يتابع سيره في لبنان حتى ساحل البحر قرب الزهراني جنوب صيدا.
الطرق ضمن القطاعات:
1ـ الطرق الطولانية:
في قطاع واسط:
المنصورة ـ واسط متفرعاً عن طريق القنيطرة ـ منصورة ـ مسعدة (وهو معبد).
واسط ـ راوية ـ حفر ـ الدرباشية (ممهد).
في القطاع الأوسط:
كفر نفاخ ـ عين السمسم ـ السنابر ـ أبو فولة ـ جرابا (معبد).
الخشنية ـ القصية ـ اليهودية (معبد).
في القطاع الجنوبي:
سكوفيا ـ تل ـ 69 ـ الكرسي (ممهد).
في قطاع القنيطرة:
دمشق ـ القنيطرة مروراً بالحميدية ومنها يتفرع على النحو السابق إلى: بانياس، وجسر بنات يعقوب، والحمة (معبد).
أوتستراد الحميدية ـ المنصورة (معبد).
أوتستراد ـ الحميدية ـ الصرمان (معبد).
2ـ الطرق العرضانية:
في القطاع الشمالي:
بانياس ـ تل العزيزيات ـ البرجيات ـ (مقابل كفر شامير) (ممهد).
في القطاع الأوسط:
الجمرك السوري ـ السنابر (ممهد)
جسر بنات يعقوب ـ أبو فولة مروراً بنقطة استناد أشرف حمدي (ممهد).
في القطاع الجنوبي:
خسفين ـ جسر الرقاد ـ تسيل (جزء معبد والآخر ممهد)؟
العال ـ حيتل ـ كفر الما (نصف معبد).
في قطاع القنيطرة:
حضر ـ جباتا الخشب ـ خان أرينبة ـ جبا (ممهد).
الصرمان ـ بير العجم ـ بريقه ـ كودنا (ممهد).
(ز) أهم المناطق الصالحة للزراعة:
1ـ سهل المنصورة.
2ـ بانياس.
3ـ الشريط الموازي للحدود مع بانياس شمالاً وحتى جسر بنات يعقوب ثم من علمين وحتى مصب نهر الأردن في بحيرة طبريا. ومن أبرز مناطق هذا الشريط: منطقة الدرباشية ـ منطقة جليبينة ـ منطقة علمين ـ منطقة الدكة وحتى مصب النهر.
4ـ منطقة العليقة ـ كفر نفاخ ـ القادرية.
5ـ منطقة الدلهمية ـ عين وردة.
6ـ الخشنية.
7ـ سهل البطيحة والسفوح الشرقية المطلة عليه (وهذه أغنى نقطة في الجولان كله).
8ـ سهول الرفيد وخسفين والجوخدار، والعال وفيق.
(ح) أشهر المحاصيل الزراعية التي كانت تنتجها الجبهة (الجولان):
1ـ الفواكه وخاصة التفاح والكرز من منطقة مجدل شمس والقرى التي حولها حتى مسعدة.
2ـ الزيتون واللوز من الوديان المنتشرة في كل الجولان.
3ـ الموز والحمضيات وأكثر المناطق إنتاجاً لها: البطيحة.
4ـ القمح والشعير والذرة.
5ـ الفول السوداني وأكثر المناطق إنتاجاً له منطقة بانياس.
6ـ الخضار وأهم المناطق إنتاجاً لها البطيحة وكانت تزود دمشق بها شتاء.
7ـ الأرز، وأهم المناطق إنتاجاً له منطقة القصبية، والسنابر وسيرة الخرفان.
(ط) أشهر المحاصيل الحيوانية:
ـ المواشي (وخاصة الأبقار).
ـ الأسماك وأهم المناطق إنتاجاً لها هي البطيحة.
ـ العسل، وأهم المناطق إنتاجاً له القنيطرة، ومجدل شمس، ونعران، وسنابر، والدرباشية. يضاف إلى ذلك كميات محدودة من الألبان والسمن والجبن، أكثرها يستهلك محلياً.
(ي) أكثر الأشجار انتشاراً في (الجولان) هي:
1ـ الأحراش: وتضم في غالبيتها أشجار السنديان، والبلوط، والسماق، والزعرور، ومن أشهر الأحراش فيها حرش مسعدة، وحرش عين زيوان، وحرش المومسية، جويزة، بريقة، بير عجم. وكذلك أكثر الوديان التي تخترق الجبهة من الشرق إلى الغرب كانت مغطاة بالأحراش.
2ـ الأشجار المزروعة غير المثمرة: كان من أهمها الكينا والحور.
(ك) أهم الأجواء التي تسود تلك المنطقة هي:
البارد المثلج في منطقة القنيطرة ومسعدة ومجدل شمس.
البارد الممطر في واسط ـ كفر نفاخ، القادرية ـ الخشنية.
الحار الرطب غزير الأمطار في منطقة البطيحة والحمة.
الحار الجاف في باقي المناطق وخاصة سهول خسفين ـ العال ـ حيتل.
(ل) أهم التلال ذات القيمة العسكرية:
1ـ في القطاع الشمالي: تل الفخار، تل الأحمر (أمام بانياس)، تل العزيزيات مضافاً إليه تل الأحمر قرب بقعاتا الذي تكمن أهميته في أنه أقيم فيه مرصد قائد الجبهة للإشراف على قتال القطاع الشمالي.
2ـ في قطاع واسط: تل شيبان، مرتفع الدرباشية.
3ـ في القطاع الأوسط: مرتفع الدبورة، مرتفعات جليبينة، المرتفع 217، مرتفع أم العسل، تل المشنوق، تل 62، تل الأعور.
4ـ في القطاع الجنوبي: تل الفرس وفيه مرصد قائد الجبهة للإشراف على قتال القطاع الجنوبي. تل السقي، تل ـ 96، مرتفعات سكوفيا، وبير شكوم، ومرتفعات كفر حارب ومزرعة عز الدين، مرتفعات العقبات التي تتحكم ببداية الطريق النازل إلى الحمة.
5ـ في قطاع القنيطرة: مرتفع خان أرينبة، تل النبي محمد، تل العرام، تل أبي الندى، وفيه أقيم المرصد الأساسي لقائد الجبهة، تل خنزير وفيه مرصد قائد الجبهة للإشراف على قتال القطاع الأوسط.









ـ 2 ـ
دور الجولان
لعلنا لا نجد في تاريخ الشعوب العربية، وعلاقاتها بالأرض التي تقلها وتنبت لها الخيرات وتضم رفاتها، منطقة كانت ذات أثر حاسم وفعال، وجزء من الأرض لعب أخطر الأدوار في صنع تاريخها الحديث، مثل الجولان...
وإنني لا أبالغ فيما أقول.. وسأسوق الأدلة على ذلك.
فالجولان... لعب دوراً خطيراً جداً في الأحداث المتعاقبة على سورية، منذ قيام دولة الاغتصاب، وحتى يوم النكبة.
ففي الجولان... نبتت الفكرة الأولى لأكثر الانقلابات التي شهدتها سورية.. وفيه حبكت الخيوط الأساسية لتلك الانقلابات.
أكثر الضباط الذين كان لهم دور خطير في الانقلاب الأول وعلى رأسهم الزعيم حسني الزعيم قائد الجيش والعقيد بهيج كلاس، تفتحت أبصارهم على سوء أوضاع الجيش.. نظراً لما شاهدوه خلال تمركز وحداتهم في الجولان..
ومن أجل خط أنابيب بترول التلابلاين، التي تمر في الجولان، ومن أجل توقيع اتفاقية الهدنة بين سورية وإسرائيل، بالشكل الفاضح المجحف بحقوق سورية وعرب فلسطين. ومن أجل هاتين نفذ حسني الزعيم انقلابه الأول منطلقاً من الجولان إلى دمشق.. ووقع اتفاقية الهدنة، واتفاق التابلاين، بعد أن رفضها المجلس النيابي السوري في شباط عام 1949، ثم أُزيح بعد أن أدى مهمته.
ومن الجولان، عام 1953، انطلقت المدافع تعترض سبيل العدو، وتمنعه من تنفيذ مشروعي تجفيف الحولة وتحويل نهر الأردن، حتى اضطر العدو إلى طرح القضيتين أمام مجلس الأمن الدولي، واستأثر الموضوع باهتمام العالم مدة لا تقل عن سنة، واستطاع الجيش السوري أن يوقف أعمال العدو في جزء خاص من تجفيف الحولة. في المرحلة الأولى والأهم من مشروع تحويل نهر الأردن، وأجبرت العدو على إدخال تعديل كبير جداً على مخططاته لهذا المشروع.
وفي الجولان... بدأت التجمعات الأولى، التي أعدت للإطاحة بحكم أديب الشيشكلي، رغم أن الشرارة الأولى لذلك الانقلاب، خرجت من حلب، ولكن ثقل الجبهة (الجولان)، كان إلى جانب الانقلاب. فنزل الشيشكلي عن الحكم.
وفي الجولان... وعلى أرضه الكريمة، حدثت الإغارة الإسرائيلية الكبيرة ليلة 11/12/1955 وكان من نتائجها بداية تسلط البعثيين على الحكم والجيش، تستراً وراء العقيد عدنان المالكي. ولعل ذلك كان واحداً من أهم أهدافها ؟
وفي الجولان.. وبسبب أرضه وجواره (المنطقة المجردة)، تتابعت الصدامات العنيفة.. بين سورية وإسرائيل، تفاوتاً في القوة بين الاشتباك الصغير المحلي، والاشتباك الشامل الذي يعم الحدود أو جزء كبيراً منها.
وكان من أبرز هذه الاشتباكات، معارك التوافيق عام 1957، وعام 1960.
وفي الجولان... وبسبب الصراع على المياه والأسماك، استمرت أيضاً الصدامات بين الطرفين، كان أكبر مظهر لها معركة تل النيرب عام 1961.
وعلى أرض الجولان... بدأت التجمعات الأولى للضباط اليساريين، وحبكت خيوط التعاون بينهم، لإسقاط الأوضاع الديمقراطية، وفرض ديكتاتورية اليسار، وكان ذلك في الأعوام (1955، 1956، 1957).
وشهد الجولان استعدادات للتدخل ضد العدو أكثر من مرة، كان أبرزها، الحشد الكبير الذي تم في عام 1956، خلال العدوان الثلاثي على مصر.
وكان للجولان أيضاً أثر كبير جداً في الضغوط التي مارسها العسكريون لفرض الوحدة بين مصر وسورية... حتى توجهت جهودهم بإعلانها عام 1958.
وعلى أرض الجولان... ومنذ بداية الوحدة، سقط الشهداء من أبناء الإقليمين، وكانت البادرة الأولى، مبشرة بتحقيق الارتباط الدموي المتين بين أبناء الوطن الواحد، امتزاجاً بالتراب الطاهر، على الحدود ضد العدو الدخيل.
وفي الجولان... نبتت وترعرعت الأفكار التي اتجهت تحو تقويم أوضاع الوحدة بعد انحرافها وتشويهها بأيد معينة (خفية وبارزة). وكانت تلك اللقاءات هي النواة الأولى في كيان الحركة التي وقعت في أيلول لعام 1961 وكان من نتيجتها انفصال الإقليمين، وفصم عرى تلك الوحدة.
وفي الجولان... وقعت أحداث في غاية الخطورة، كان لها الأثر الحاسم الفعال في تحديد خط سير الأحداث، خلال فترة الانفصال وبعده.
وعلى أرض الجولان... تمت اللقاءات الخطيرة بين الضباط العراقيين والسوريين، وفيها تم نسج خيوط التعاون لإسقاط حكم عبد الكريم قاسم في العراق، وحكم الانفصاليين في سورية .
ومن أرض الجولان... انطلقت الوحدات ليلة الثامن من آذار 1963، لتنفذ المؤامرة الكبرى، تحت ستار من الشعارات الكاذبة المضللة على نحو نوهنا عنه في صفحات مضت.
وعلى أرض الجولان... كان مقرراً أن تقوم المشاريع الضخمة لتحويل مصادر مياه نهر الأردن، ليتم حرمان العدو من مشاريعه التوسيعة الخطيرة، وفي مقدمتها مشروع تحويل نهر الأردن.
وشهدت أرض الجولان... صدامات عنيفة، واعتداءات متكررة، حقق العدو منها منع العرب تنفيذ مشاريعهم في تحويل منابع المياه، وكان لذاك أثره وصداه العميقان في ضمير كل مواطن في دنيا العرب.
وعلى أرض الجولان، تم تصفية عدد كبير من العسكريين، قتلاً وتسريحاً وتعذيباً، بأيدي جلادي حزب البعث الذي حكم سورية اليوم، تمهيداً لإضعاف قوة الجولان، ثم تسليمه للعدو، كما اتفقوا عليه.
وفي أرض الجولان، دفنت ملايين الليرات (للتحصين)، وعلى أرضه وذراه وروابيه، وفي وديانه ومنحدراته أقيمت المنشآت المختلفة، لإيواء الناس والقوات، استعداداً لساعة محنة يطلب فيها الصمود، ولكن جيش حزب البعث لم يصمد، فسلم الجولان للعدو، غنيمة سهلة ثمينة.
وعلى أرض الجولان... تم تنفيذ المسرحية الكبرى في تاريخ المسرح الدولي، مسرحية الحرب التي سموها (عدوان 5 حزيران)... وكان الختام المقرر لهذه المسرحية تسليم الجولان، بالتمام والكمال، كما اتفق عليه وكلاء حزب البعث، مع وكلاء إسرائيل... في باريس.
ذاك كله، وأكثر منه بكثير وأخطر، كانت أرض الجولان مسرحاً له، مما ليس هذا مجال ذكره، وفي الصفحات القادمة ، سنشرح جزء خطيراً منه، وهو الجزء المتعلق بحرب حزيران عام 1967، على أمل لقاء آخر، نشرح للقارئ فيه أسرار وخفايا الجولان، قبل الخامس من حزيران.





ـ 3 ـ
لمحة تاريخية عسكرية
ويرجع تاريخ اهتمام الجيش بالجولان، ودخول هذه المنطقة في حيز الاهتمامات الكبرى للدولة السورية ثم لمجموع الدول العربية، إلى أوائل عام 1947، حيث بدأت عصابات مسلحة بقيادة أكرم الحوراني وأديب الشيشكلي مهاجمة بعض المستوطنات اليهودية قرب الحدود السورية الفلسطينية، ثم تركز الاهتمام على الجولان منذ 16 أيار 1948 حيث دخل الجيش السوري أرض فلسطين المحتلة للاشتراك في الحرب ضد إسرائيل، وكانت أهم انطلاقات القوات السورية من أرض الجولان.
ولكن حين تدخلت القوى الاستعمارية وفرضت وقف القتال، ثم الهدنة، تحولت القوات السورية إلى اتخاذ الموقف الدفاعي، حماية لحدود الأرض السورية من أي هجوم يقوم به العدو، وخاصة لابتلاع الأراضي المجردة، ذات الأهمية الكبيرة.
ولقد خضعت أعمال القوات وواجباتها الدفاعية وأماكن تمركزها، وأعمال التحصين في الأرض لعوامل ومؤثرات عديدة تعاقبت عليها، حتى استقرت منذ عام 1954، على تقسيمات عسكرية قسمت الجبهة (الجولان) إلى قطاعات أربع هي:
الشمالي: وقيادته في مسعدة.
الأوسط: وقيادته في العليقة.
الجنوبي: وقيادته في العال.
قطاع القنيطرة الذي يضم قيادة الجبهة. ولكن هذا التقسيم عدل في خلال سني الوحدة وأصبحت القطاعات خمسة وهي:
الشمالي: وقيادته في مسعدة.
قطاع واسط: وقيادته في واسط.
الأوسط: وقيادته في العليقة.
الجنوبي: وقيادته في العال.
قطاع القنيطرة: ويضم قيادة الجبهة ومركزه الرئيسي في القنيطرة.
وكانت الأحداث الكبرى في تاريخ الجولان التي كان لها صدى ووقع في العالم، واهتمام على مستوى الجامعة العربية، هي على التالي:
1ـ توقيع الهدنة الدائمة بتاريخ 20 تموز 1949.
2ـ مشروع العدو لتجفيف الحولة، وقد أتمه رغم كل اعتراضات سورية والدول العربية والدول المؤيدة لها. وكان ذلك منذ عام 1952.
3ـ أعمال العدو للبدء بتحويل نهر الأردن، وقد تصدى لها الجيش السوري، وانتقل النزاع إلى أروقة مجلس الأمن، واستطاعت سورية إجبار العدو على وقف الأعمال في الجزء الأول من هذا المشروع، وهو الجزء الواقع في مواجهة الجولان، ويشكل اعتداء على قسم من الأراضي المجردة العربية، وعلى المياه العربية فيما لو نفذ.
4ـ هجوم العدو على الحمة ومحاولة احتلالها، ورد ذلك الهجوم، وكان ذلك عام 1953.
5ـ الإغارة الكبرى التي قام بها العدو على منطقة البطيحة وسكوفيا (شمال شرق بحيرة طبريا) بتاريخ 11/12/1955، وقد أدان مجلس الأمن العدو إدانة واضحة عقب ذلك الهجوم.
6ـ مشاكل التوافيق التي أسفرت عن اشتباكات عنيفة مع العدو خلال عامي 1957 و 1960.
7ـ معركة تل النيرب عام 1961، وفيها هاجم العدو موقع تل النيرب شرق بحيرة طبريا، وفشل فيها هجومه وكانت خسائره كبيرة، وكان نصراً للمدفعية السورية فريداً من نوعه في تاريخ الجيش.
8ـ هجوم الطائرات العدوة على الجبهة (منطقة بانياس)، في 13/11/1964، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الطائرات المعادية النابالم ضد القوات السورية. وقد كان موقف طيران حزب البعث في الهجوم في غاية الذلة والخزي.
9ـ هجوم العدو بالطائرات على مواضع ومشاريع تحويل روافد نهر الأردن (منطقة بانياس) وتدميره المنشآت العربية والآليات التابعة لها، وقد أسفر عن توقف سورية عن متابعة المشروع رغم دعم الجامعة العربية لها وكان ذلك في أيام 6،15،17،18،22/5/1965.
10ـ وأخيراً، المؤامرة التي سميت (حرب الخامس من حزيران) عام 1967، وكانت نتيجتها تسليم الجولان للعدو، بعد مسرحية قتال، بلغت غاية السخف والهزال.
















ـ 4 ـ
أسباب تكالب العدو
على الجولان
ترجع أهمية الجولان، وأسباب تكالب العدو حتى حصل عليه، لأسباب هامة نوجزها فيما يلي:
(أ) الأسباب الدينية: فالعدو يعتبر الجولان، من الأرض التي يزعمون أنهم وعدوا بها على لسان أبيهم إسرائيل، وآبائه إسحاق وإبراهيم:
(في ذلك الوقت قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات) .
(الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلاً: كفاكم قعود في هذا الجبل. تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الآموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظر قد جعلت أمامكم الأرض ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم) .
(ب) الموقع السوقي :
يتمتع الجولان بموقع جغرافي فريد من نوعه، فهو يسيطر على أهم مصادر المياه التي تزود فلسطين ويسيطر سيطرة مطلقة على القسم الأعظم من شمال فلسطين وخاصة سهل الحولة والسفوح الشرقية للجليل الأعلى.
هذا من ناحية الأرض المحتلة، أما من الناحية المقابلة، فإن العدو الذي ملك الجولان ، أصبح مصدر خطر كبير على كل من دمشق ودرعا، لأن الطريق إليهما قد أصبحت أمامه مكشوفة ليس فيها أية عقبات تعترض تقدمه إليها، اللهم سوى ما تقيمه القوات في وضع دفاعي.
(ج) الغنى الطبيعي:
1ـ فالجولان يتمتع بوضع طبيعي عجيب، ففي تلك المساحة الضيقة الصغيرة من الأرض، يجد المرء تنوعاً كبيراً في الأجواء.
ففي الشتاء، تجد الأجواء المثلجة الباردة في القنيطرة ومسعدة ومجدل شمس، إلى جانب الجو الدافئ الممطر في باقي المناطق. وفي الصيف تجد الجو اللطيف المعتدل حيث كانت الثلوج في الشتاء، وبجانبه الحار الرطب في وادي الأردن والبطيحة، والحار الجاف في باقي المنطقة.
والمسافر من القنيطرة إلى الحمة مثلاً ـ ولا تزيد المسافة عن ستين كيلومتراً ـ يجد نفسه يمر بتنوع غريب في الجو والأرض.
فمن الأحراش المتباعدة إلى الأحراش الكثيفة إلى الأراضي الجرد، إلى السهول المنبسطة فالوديان السحيقة، ومنها ما تزين مجاري المياه قاعه، ومنها ما تغطي الأشجار جانبيه. هذا التنوع في طبيعة الأرض، الذي جمع كل صور الجمال والطبيعة، كاف لجعله منطقة سياحية هامة، وهو أحد الأسباب التي جعلت العدو يتلمظ عشرين عاماً حتى حصل عليه بالمؤامرة لا بالحرب.
2ـ والجولان يتمتع بغنى كبيرـ نسبة لصغر مساحته ـ بالطيور (الوافدة والمقيمة)، وبأنواع الحيوان الأخرى، كالأرنب والغزال وحتى البقر الوحشي.
3ـ ومن أبرز مظاهر غنى الجولان، هي المياه المعدنية في الحمة التي تحتوي على نسبة جيدة من اليورانيوم وهي بحد ذاتها من أفضل ينابيع المياه المعدنية في العالم، وأكبر حمامات معدنية في الشرق الأوسط كله.
وتصلح لتكون من أفضل مراكز السياحة الشتوية في كل الأرض التي استولت عليها إسرائيل.
هذا بالإضافة إلى مصادر المياه الأخرى التي أشرنا إليها في صفحات سابقة.
4ـ ولا يقل غنى الجولان في تربته عن البقاع الخصبة النادرة في العالم. ولأضرب مثلاً عن خصوبة تلك الأرض، أقول: أن الذرة الصفراء، حين كان يزرعها الفلاحون، كان يزيد طول ساق الواحدة منها عن أربعة أمتار، وتحمل من (العرانيس) مقادير عالية جداً، رغم بدائية طرق الاستنبات.
وإن أنس لا أنس يوماً زرعت فيه حبات من (دوار الشمس)، فلقد نما عودها حتى بلغ في الطول ما يفوق ثلاثة أمتار، وفي غلظ الساق ما لا يقل عن 6 ـ 7 سنتيمترات. وكانت غلة القرص الواحد كيلو جرام من البذر الجاف.
فالخصوبة فائقة الحد، وقدرة الأرض على الإنبات عجيبة. وكان سكان البطيحة يستغلون الأرض ثلاثة مواسم في العام على الأقل، دونما تقويتها بسماد يذكر. ولقد قال عنها الجنرال كارل فون هورن، كبير المراقبين الدوليين، في كتابه (الخدمة العسكرية من أجل السلام) (إن كل شبر من الأرض، يساوي منجماً من الذهب لكثرة ما يغل من الحبوب)
(د) الغنى الأثري: ولعل من أكبر أسباب اهتمام العدو بالجولان وتكالبه عليه، هو غناه الأثري، الأمر الذي يجهله كل الناس، فليس في كل أجزاء سورية منطقة غنية بالآثار المطمورة مثل الجولان.
وكثيراً ما كنا نكتشف منشآت أثرية أو دلائل عليها خلال أعمال الحفر التي كنا نقوم بها للتحصين، وكثيراً ما أخبرنا قادتنا عن تلك الآثار، وطالبناهم إبلاغ مصلحة الآثار عنها... ولكن لا حياة لمن تنادي.
ومن أهم الآثار التي شاهدناها، هي الآثار الرومانية والمسيحية، وخاصة المقابر الملأى بالثروات والقطع الذهبية، ويتحدث سكان بعض تلك المناطق عن أناس كثيرين ممن اكتشفوا في السابق كنوزاً من هذه، فحملوها وسافروا إلى تركيا، كما يتحدثون عن آثار كثيرة مطمورة، وكانوا يحددون لنا أماكنها بدقة لا تحتاج لأكثر من إجراء الحفريات لكشفها ولكننا لم نكن نملك الوقت والإمكانات والصلاحيات للقيام بذلك، ومصلحة الآثار لا تعلم، أو تعلم ولم تفعل شيئاً.
ولعل من أهم الآثار البارزة في الجولان، قلعة النمرود، تلك القلعة العجيبة، التي تحتوي على آثار فينيقية، وإسلامية، وصليبية معاً، وتقع قرب بانياس على مرتفع من الأرض لا تصله إلا العقبان، وتشرف من موقعها على شمالي فلسطين كله، حتى ساحل البحر الذي يمكن رؤيته خلال أيام الصحو في الصباح، وفي منظر يكاد يخلب لب الناظرين إليه.








الجولان قبل سقوطه
(... إن سورية تسيطر على سلسلة من التلال الصخرية الشديدة الانحدار، تمتد لمسافة أربعين ميلاً، وتشرف على سهول منكشفة للنيران، وعلى جوانب التلال خطوط دفاعية مستقلة بعضها فوق بعض، وكل خط منها تحميه ثلاث طبقات من الألغام، وأسلاك شائكة واستحكامات منيعة، وللوصول إلى الطبقة العليا يجب عبور تسعة خطوط (ماجينو مصغرة..) مجلة (تايم) أول أيلول 1967
عن كتاب: (المسلمون والحرب الرابعة ص 171)









الإعداد المسبق لمنع سقوط الجولان
...ولو أن الجيش (البطل) صمد في وجه العدو ساعة عن كل مليون من الليرات التي أنفقها في تحصين الجبهة وتقويتها.. لكان قد أدى الأمانة التي تصدى لحملها عشرين عاماً قبل النكبة الأخيرة، ولكان قد أسهم في تحطيم أسطورة التفوق العسكري للعدو، ولكان حقق فعلاً أسطورة اختراق الجبهة وتحطم رأس كل غاز على صخورها.
ولكن ما الحيلة مع جيش المراهقين..؟ وهل يمكن أن ننتظر الاستبسال من جيش يشعر بقرارة نفسه أنه دخيل على الشعب ومفروض عليه بقوة السلاح، ويتمتع بامتيازات ترفعه عن باقي أبناء الشعب.
الجبهة محصنة تحصيناً فريداً من نوعه، كل شبر من أرضها مضروب بالنيران، وكل ثغرة بين موقعين دفاعيين محمية بالألغام، والألغام مضروبة بالنيران على كل محور يمكن أن يتقدم منه العدو، حضرت الرمايات الهائلة من مختلف الأسلحة، وزرعت الأجساد والأسلحة بكثافة تدعو للدهشة، كل ذلك، من أجل ساعة خطر كالتي وقعت في حزيران العار، ولكن جيش (معلمي المدارس) هرب، ولم يقاتل.
ولكي نتبين خطورة المؤامرة وعمقها وشمولها، وقبل أن نشرح الذي حدث خلال أيام الحرب (المسرحية) سأحاول أن أرسم للقارئ صورة الجهود التي بذلت والإمكانات الهائلة التي وضعت خلال العشرين عاماً التي سبقت النكبة من أجل تحصين الجبهة وجعلها سداً لا يمكن اختراقه.
فالتحصينات والنيران والمدافع زرعت ابتداء من الخطوط الأمامية التي هي بتماس مباشر مع العدو. وفي السنوات الأولى من احتلال الجيش للجولان، كانت التحصينات وطريقة تنظيم المواقع الدفاعية وخطة قتالها ومناوراتها وتعاونها، ذلك كله كان مبنياً على الأسلوب الغربي الذي ورثه جيشنا عن الجيش الفرنسي بعد الاستقلال، والذي يعتمد على إقامة نقاط استناد محصنة وقوية وقادرة على التعاون فيما بينها بالنيران لسد الثغرات وتحقيق المناورة خلال القتال الدفاعي.
ولكن منذ عام 1957.. ومع تسلط اليسار على الحكم، دخل عنصر جديد في حياة الجيش، وهو التسليح الروسي، الذي تبعه ـ لزاماً ـ أسلوب القتال الروسي، وأخذت القوات تتدرب بالاستعانة بالخبراء الروس على هذا النوع من القتال.
ومن تحصيل الحاصل أن يمتد التغيير إلى طبيعة تمركز القوات في الجبهة وأسلوب التحصين، وخطة قتالها، وقد بدأ ذلك فعلاً، واعتمدت خطة الدفاع على أساس أن الجبهة (بعمقها الطبيعي)، تشكل منطقتين دفاعيتين مضافاً إليها منطقة حيطة.
1ـ فمنطقة الحيطة هي المنطقة التي تبدأ من خط الهدنة وبعمق 2 ـ 3 كم وتشتمل على مجموعة من المخافر ومواقع الدفاع. واجبها الإنذار والقتال التأخيري، وتحتلها قوات الحرس الوطني شبه النظامية، وسيرد تفصيل آخر لهذه المنطقة في الصفحات الآتية.
2ـ وأما المنطقة الدفاعية الأولى فتحتلها وتقاتل فيها ألوية النسق الأول لمجموعة الألوية، وتشتمل على موضعين دفاعيين، كل منهما يشتمل على ثلاثة خنادق.
الخندق الأول وهو خط الدفاع الرئيسي والأهم والأكثر كثافة وتركيزاً بالسلاح والرجال والنيران والموانع، وواجبه صد العدو وكسر هجومه ومنعه من الاختراق، وتحتله الفصائل الأمامية من السرايا الأمامية من كتائب الدفاع الأمامية.
والخندق الثاني ويبعد عن الأول 500م ، وإذا اخترق الخندق الأول يتحول الخندق الثاني إلى أول بصورة آلية، وتحتله الفصائل الخلفية من السرايا الأمامية.
والخندق الثالث ويبعد 1000م عن الثاني وتحتله السرايا الخلفية من كتائب الموضع الأول، ومنه تنطلق هذه السرايا لتنفيذ الهجمات المعاكسة في حال حصول الاختراق، وفيه تدافع لمنع العدو من متابعة التقدم فيما لو سقط الخندقان الأولان.
وبذلك يكون عمق الموضع الأول للواء المشاة 2 ـ 3 كم تحتله كتيبتان مع الأسلحة الملحقة. وأما الموضع الثاني فيبعد عن الموضع الأول 2 ـ 3 كم وتحتله الكتيبة الخلفية من اللواء ويشبه في تنظيمه الخطي، الموضع الأول، وفيه أو قريباً منه تتمركز قيادة اللواء والوحدات الأخرى المعدة لتنفيذ الهجمات المعاكسة.
وفيما بين الموضعين، وخلف الموضع الثاني تتمركز وحدات المدفعية وتقع منطقة الدفاع م ـ د، والأسلحة المضادة للطائرات، وخطوط انتشار الدبابات واحتياط الـ م ـ د ، وخطوط الفتح لشن الهجمات المعاكسة. إلخ
3ـ وتكوين المنطقة الدفاعية الثانية لا يختلف عن الأولى إلا أنها تكون عادة أقل كثافة بالأسلحة، وتبتعد عن المنقطة الأولى 6 ـ 8 كم وعمقها كذلك، ويحتلها اللواء الخلفي من مجموعة الألوية مع الوحدات الملحقة ومنها تنطلق الهجمات المعاكسة الكبيرة (تنفذها الألوية) وبينها تتمركز وحدات المدفعية التابعة لمجموعة الألوية وتقع كذلك منطقة الدفاع م ـ د لمجموعة الألوية وخطوط انتشار الدبابات واحتياط الـ م ـ د العائدة لمجموعة الألوية أيضاً. وخطوط الفتح لشن الهجمات المعاكسة... إلخ
تنظيم الدفاع على أرض الجولان
(1)
ولشرح تنظيم الدفاع على أرض الجبهة، سنأخذ مثالاً للقطاع الأوسط.
فالقطاع الأوسط اعتبر محور الجهد في خطة عمليات الجبهة، وكان يحتله اللواء الخامس عشر، وقد نظم دفاعه على الأساس التالي:
1ـ منطقة الحيطة وتشمل مخافر جليبينة، الدريجات، الحصن، مرتفع 217، علمين، تل المشنوق، المرتفع 62، (تل الشعير) منطقة البطيحة، ويضاف إلى هذه المواقع المخافر الصغيرة الأمامية التي سميت بـ (الجيمات) ج1، ج2، ج3.. والتي كان دورها مراقبة الحدود مباشرة في النهار، ونصب الكمائن على طرق التسلل في الليل.
2ـ الموضع الدفاعي الأول وهو منطقة: مرتفع نذير وجيار الجمرك ـ أشرف حمدي ـ الدورة ـ السنابر.
3ـ الموضع الدفاعي الثاني وهو: منطقة دير سراس ـ نعران ـ العليقة.
4ـ منطقة الدفاع م ـ د للواء: هي منطقة الأبراج.
5ـ خطوط انتشار الدبابات واحتياط الـ م ـ د منطقة نعران.
6ـ مرابض المدفعية: نعران ـ دير سراس ـ وادي حواء ـ الفاخورة.
7ـ مربض الهاون ـ 120مم: جورة أم العسل، فرع وادي حواء غرب السنابر.
ثم لنأخذ مثالاً على الموضع الأول هو قطاع الكتيبة 13 ويشمل نقاط الاستناد: أشرف حمدي ـ الدورة ـ السنابر الشمالية. وتحتل كل نقطة من هذه النقاط سرية مشاة مع أسلحة التعزيز.
... ولشرح التحصين بصورة مفصلة، نأخذ مثالاً على ذلك نقطة استناد أشرف حمدي، وهي نقطة قوية وتقع في الموضع الدفاعي الأول، وعلى محور جهد القطاع الأوسط الذي هو بدوره محور جهد الجبهة.
... هذه النقطة كانت تحتلها القوى الآتية:
سرية + فصيلة مشاة + فصيلة رشاش متوسط + فصيلة دفاع م ـ د (ب 10) فصيلة دفاع م ـ ط ، 12.7 مم + جماعة م ـ د 21 وضع + جماعة قاذفات اللهب الثقيلة المضادة للآليات .
ولقد كان تمركز هذه القوات على الشكل التالي:
الخندق الأول: وقد حفر على حدود النقطة في اتجاه الغرب والجنوب الغربي وبعيداً عن الأسلاك الشائكة 15 ـ 25 متراً. واحتلته فصيلتان من فصائل السرية مضافاً إليه الأسلحة م ـ د وقاذفات اللهب والرشاشات المتوسطة.
الخندق الثاني: ويبعد عن الأول 500 ـ 600 متر واحتلته الفصيلة الثالثة من السرية مضافاً إليها الأسلحة م ـ ط 12.7مم ويربط الخندقين الأول والثاني خنادق المواصلات التي حفرت بمعدل خندق لكل فصيلة وذلك لمنع تحرك العسكريين خارج الخنادق.
وأقيمت الملاجئ قريباً من خنادق القتال وذلك بمعدل ملجأ لكل جماعة مشاة أو ما يعادلها من التعداد من الأسلحة الأخرى. وقد أقيمت هذه الملاجئ على أيدي الخبراء الروس وبطريقة القطع الأسمنتية مسبقة الصنع، التي تركب بالرافعات أو بواسطة الجنود (حسب ثقل القطع) ثم تهال الأتربة فوق الملجأ بعد إتمام صنعه بسماكة 1 ـ 1.5 متراً وتترك للملجأ فتحات للتهوية وبذلك أصبحت قادرة (حسب تقدير الخبراء الروس) على تقديم حماية نسبية ضد الضربات الذرية الصغرى أو القصف بالغازات السامة.
والأسلاك الشائكة تحيط بالمنطقة من كل جانب وتبعد عن الخندق الأول 15 ـ 25 متراً، وبعرض 5 ـ 8 أمتار. وبالإضافة إلى ذلك كله: كانت الألغام تحمي النقطة من الجهة الغربية والجنوبية الغربية وتسد الثغرة الواقعة بينها وبين نقطة الدورة، كما تسد الثغرة بينها وبين نقطة الجمرك (أي بين الموقع وجواره).
هذا... ولم يكتف القادة المسئولون، بتنظيم الدفاع عن الأسلوب الخطي (الروسي)، وإنما أرادوا الجمع بين مميزات هذا الدفاع ومميزات الدفاع السابق (الأسلوب الغربي) وهو الدفاع الدائري، فبالإضافة إلى مواضع الرمي الأساسية والتبادلية للأسلحة المختلفة جهزت لها مواضع رمي تكميلية بحيث أصبحت رمايات أسلحة الموضع نفسه تغطي مواجهته من كل الجهات، وتتيح له أن يدافع بصورة دائرية، بالإضافة إلى الرمايات الأخرى المحضرة من قبل الأسلحة الأكبر.
وأما نيران الموقع فقد نظمت على أن تغطي مواجهته تغطية كاملة وأن تشكل حاجزاً لا يخترق على بعد 400 متر من الخندق الأول، كما نظمت بشكل يحقق تشابك رمايات جميع الأسلحة فلا تدع ثغرة بين النيران قد يستفيد منها العدو المهاجم. ولقد شملت النيران التي حضرت للدفاع عن نقطة مثل أشرف حمدي (التي نشرح كل شيء عنها كنموذج لكل مواقع دفاع الجبهة)، الأنواع الرئيسية التالية:
1ـ نيران الموقع نفسه: أي النيران المنبعثة من الأسلحة المتمركزة في الموقع والتي تقع تحت إدارة قائد الموقع مباشرة، ويملك المناورة بها حسب تقلبات المعركة، ولقد نظمت بحيث تغطي مواجهة الموقع من جهة الهجوم الرئيسي المحتمل وأعطيت كذلك إمكانية الانتقال (كلياً أو جزئياً) لسد الطريق بوجه أي تقدم آخر من كافة الجهات.
ولقد روعي في تنظيمها إمكانية سد الثغرات التي قد تحصل أثناء اختراق العدو للخندق الأول، ومواكبته خلال زحفه بعد الخرق بحيث لا يتاح له الاحتلال إلا بعد أن يكون قد أنهك ودمر تدميراً كبيراً، وبهذا تكون الفرصة مواتية لسرية التنسيق الثاني أثناء الهجوم المعاكس وطرد العدو المهاجم وملاحقته حتى أثناء تراجعه.
والمهم في الأمر كذلك أن نيران الموقع نفسه هذه قد حسب لها حساب تغطية الثغرات مع الجوار، فالثغرة الواقعة بين أشرف حمدي ونقطة الجمرك كانت مغطاة كلها بنيران الموقعين المتشابكة، وكذلك الثغرة الواقعة بين أشرف حمدي ونقطة الدورة.
2ـ نيران وحدات الكتيبة: وتشمل نيران وحدات الهاون 82 مم والأسلحة م ـ ط و م ـ د التابعة للكتيبة أو الملحقة بها، وقد كان تنظيم هذه النيران من واجب قيادة الكتيبة بالتعاون والتشاور مع السريتين الأماميتين وقد روعي في تنظيم هذه النيران ما يلي:
ـ إمكانية مساعدة السرايا الأمامية في تحقيق رمي الإيقاف لكسر هجوم العدو ورده على أعقابه.
ـ إمكانية سد الثغرات بين السريتين الأماميتين، وكذلك سد الثغرات مع الوحدات المجاورة (الكتائب المجاورة).
ـ إمكانية مواكبة العدو المخترق بالنيران طيلة فترة إتمامه لاحتلال موقع أمامي أو اكثر.
ـ إمكانية تحقيق رمايات التمهيد من أجل الهجوم المعاكس الذي تقوم به سرية النسق الثاني للكتيبة أو الاشتراك في رمايات التمهيد التي تنفذ لفتح الطريق أمام الهجوم المعاكس الذي تنفذه كتيبة النسق الثاني من اللواء.
3ـ نيران المدفعية والهاون 120مم والأسلحة م ـ د والدبابات التي هي بتصرف قيادة اللواء: وهذه النيران كانت مهمتها تحقيق الإمكانات التالية:
ـ تنفيذ الرمايات البعيدة (وخاصة المدفعية)، وذلك خلال تحضيرات العدو للهجوم، بقصد تدمير تشكيلاته وإجبارها على الفتح قبل الوقت المناسب من أجل إنزال أكبر الخسائر بها، أو تدميرها على قاعدة انطلاقها للهجوم.
ـ الاشتراك في رمايات الإيقاف أمام الخندق الأول ومن ثم مواكبة العدو بالنيران خلال إتمامه لعملية الاختراق.
ـ سد الثغرات بين الكتائب ومع الألوية المجاورة.
ـ التمهيد للهجمات المعاكسة.
ـ رمايات التدمير على المواقع المحتلة نفسها.
ـ ملاحقة العدو خلال تراجعه بعد انكسار الهجوم.
كل هذه النيران كانت محضرة ومجهزة لتنطلق من فوهات الأسلحة المختلفة، ومثل هذا التنظيم شمل كل موقع وكل مخفر في أرض الجبهة حتى لنكاد نقول بمطلق الثقة، أنه ما من شبر من أرض الجبهة صالح لتقدم العدو، إلا وهو مغطى بالنيران والألغام واحتمالات الدفاع، واحتمالات الهجمات المعاكسة بحيث تكون أرض الجبهة أشبه بجحيم مسعرة، تنبعث منها النيران وتتساقط عليه الحمم من الجو، فلا تدع مجالاً لعدو مهاجم أن يتقدم شبراً واحداً، دون أن يغطيه بجثث القتلى، وحطام الآليات، ويساعد في ذلك حسن تنظيم الدفاع، ومتانة الملاجئ، ودقة تحضير الرمايات (حتى الليلية)، ووعورة الأرض، وقلة الطرق المناسبة لمناورة آليات المهاجم..
ولكي تتضح أبعاد الصورة وتبرز ملامحها ويتبين القارئ فداحة الخطب الذي نزل بالجولان الحصين.. يجب أن نعلم أن هذه النيران كانت محضرة لتنفذ من قبل أنساق متتابعة من القوات، فمن الحرس الوطني المدافع في منطقة الحيطة وعنها، إلى كتائب النسق الأول من الألوية الأربعة، إلى كتائب النسق الثاني من هذه الألوية، إلى ألوية احتياط قيادة الجبهة، إلى مجموعة الألوية التي احتفظت بها قيادة الجيش ، مضافاً لذلك كله نيران المدفعية من كل عيار ومن كل المستويات، ونيران الصواريخ، ونيران الطيران، أضف إلى ذلك كله الهجمات المعاكسة المقرر القيام بها ابتداء من سرايا النسق الثاني لكتائب النسق الأول المتمركزة على الموضع الدفاعي الأول، ومروراً باحتياطات الألوية فقيادة الجبهة وانتهاء بالهجمات المعاكسة التي كان مقرراً أن تقوم بها ألوية احتياط الجيش وفي مقدمة تلك الأولية... اللواء 70 ـ المدرع.
وهناك أمر آخر في غاية الخطورة والأهمية:
فالطرق والمحاور في منطقة الجبهة قليلة جداً، والأرض غاية في الوعورة وانعدام صلاحيتها للحركة السريعة للآليات، وقد سبق أن أفادت القيادة من هذه الخاصية، فحضرت التخريبات المختلفة على محاور التقدم المحتملة لقوات العدو، وقد كان من أبرز هذه التخريبات المحضرة: الملاغم.
ففي النقاط التي تشكل ممرات إجبارية على الطرق، وضعت الملاغم بحيث لو نسفت سدت الطريق أمام الآليات وتضع العدو ساعات طوالاً تحت رحمة نيراننا، في انتظار مرير مشحون بالخسائر والضحايا ريثما يقوم بإصلاح المخرب لمعاودة التقدم. وكانت خطة عمليات الجبهة تقضي بأن تكون قيادة هذه الملاغم وصلاحية نسفها بيد قائد الموقع الذي تقع مباشرة تحت سيطرته (حتى ولو كان برتبة عريف). وكان الذي يحصل في الأيام السابقة وخلال فترات التوتر، أن تنتقل قيادتها فعلاً إلى القادة المباشرين وتجهز تحسباً لكل طارئ، ثم إذا ما خفت حدة التوتر وعادت الأمور طبيعة هادئة، تعود قيادة هذه الملاغم إلى قيادة القطاعات (خوفاً من خطأ قد يقع)، وتبقى كذلك حتى يقع التوتر مجدداً، فتعود قيادتها إلى القادة المباشرين، وهكذا دواليك.
هذه الملاغم لو نسفت لكان لقوات العدو اليوم شأن آخر... ولكنها لم تنسف. وفي ذلك تقع نقطة من نقاط الإجابة على السؤال المحير... (كيف سقط الجولان الحصين ؟).



















تنظيم الدفاع على أرض الجولان
(2)
خطة العمليات الموضوعة في عام 1961 ؟
لا بد من أن نرسم صورة بسيطة لما احتوته الجبهة حسب خطة العمليات الموضوعة في عام 1961 لتبيان خطورة المؤامرة التي سلمتها للعدو ببلاغ فاجر وقعته يد متآمرة، وأذاعه صوت شؤم من إذاعة حزب البعث.
فمن ناحية وضع القوات على الأرض، شملت المنطقة خمسة قطاعات كان من واجب قوات الجبهة الدفاع فيها وعنها.
1ـ القطاع الشمالي يحتله اللواء السادس ومحور الجهد فيه طريق: بانياس ـ مسعدة ـ قنيطرة، وقيادته في مسعدة، وكتائبه الأمامية في النقاط: (زعورة، تل الفخار، تل مالك)، ومدفعيته في زعورة، عين فيت، ودباباته في منطقة حرش مسعدة، بقعاتا. واحتياط الـ م ـ د في القلع.
2ـ قطاع واسط ومحور الجهد في اتجاه الدرباشية، وحفر، واسط، قنيطرة. ويحتله اللواء الرابع (يتحرك لهذه الغاية من منطقة السويداء)، ونقاط الأساسية حفر، تل شيبان، وقيادته ودباباته في منطقة واسط ومدفعيته في منطقة حفر، راوية.
3ـ القطاع الأوسط يحتله اللواء الخامس عشر وهو محور جهد الجبهة والجيش، ومحور الجهد فيه طريق الجمرك ـ عليقة ـ القنيطرة، وكتائبه الأمامية في الجمرك، أشرف حمدي، الدورة، مرتفع نذير وجيار، السنابر، ومدفعيته في نعران، دير سراس، جورة أم العسل، ودباباته في منطقة نعران، وقيادته في العليقة.
4ـ القطاع الجنوبي ويحتله اللواء الثاني ومحور جهده هو طريق فيق ـ العال ـ القنيطرة، وكتائبه الأمامية في سكوفيا، فيق، نقطة الجسر وكفر حارب، وقيادته في العال، ومدفعيته ودباباته في ما بين فيق والعال، وحيتل، الياقوصة.
5ـ القنيطرة وهي المنطقة الدفاعية الثانية ويدافع عنها لواء احتياط بالإضافة إلى الوحدات المتراجعة من القطاعات إن تم الاختراق، وبالإضافة إلى وحدات مستقلة كثيرة شملت كتائب هاون، وكتائب مدفعية، وكتيبة استطلاع، وكتيبة هندسة وسرية قاذفات لهب وغيرها من الوحدات المساعدة الكثيرة، وقد دخلت في عمليات الجبهة الهجمات المعاكسة التي تنفذها مجموعة الألوية (18، 72، 90، واللواء 70 المدرع)، وذلك لصالح الجبهة ولرد الهجوم واستعادة الأرض وإعادة تنظيم الدفاع مجدداً.
ويضاف إلى هذه القطاعات والوحدات التي تحتلها، منطقة الحيطة التي شملت كل المواجهة مع العدو ابتداء من النخيلة وحتى الحمة، ومن أبرز المواقع الدفاعية في منطقة الحيطة:
1ـ في الشمالي: تل الأحمر وتل العزيزات، ومخفر البرجيات، وتشغلها كتيبة الحرس الوطني الثانية وقيادتها في بانياس.
2ـ في قطاع واسط: العقدة، الدرباشية، وتشغلها عناصر تابعة لكتيبة الحرس الوطني الثانية.
3ـ في القطاع الأوسط: تل هلال، الدردارة، جليبينة، الحصن، 217، علمين، تل المشنوق، وتحتل هذه المواقع كتيبة الحرس الوطني الثالثة وقيادتها في 217، ثم تل 62، وتل أعور، ومخافر الدكة، الحاصل، المسعدية، الدوكا، وتحتلها كتيبة الحرس الوطني الأولى وقيادتها في تل الأعور.
4ـ في القطاع الجنوبي: الكرسي، مرتفع ـ 69، مزرعة التوافيق، باب الحديد، وتحتلها كتيبة الحرس الوطني الرابعة وقيادتها في مزرعة عز الدين.





















تنظيم الدفاع على أرض الجولان
(3)
أنواع التحصينات التي شملت الجبهة:
1ـ خنادق القتال وهي في كل موقع دفاعي سواء أكان في منطقة الحيطة، أم على محور رئيسي أم محور ثانوي وسواء أكان في الموضع الأول أو الثاني أم في المنطقة الأولى أم الثانية.
2ـ خنادق المواصلات وقد أقيمت بالمعدلات الآتية:
ـ خندق لكل فصيلة يصل الخندق الأول بالثاني.
ـ خندق لكل سرية يصل الخندق الثاني بالثالث.
ـ خندق لكل كتيبة يصل الموضع الأول بالثاني.
ـ وفي الموضع الدفاعي الثاني أقيمت الخنادق هذه حسب النظام والمعدل نفسه.
3ـ خنادق الدفاع السلبي ضد الطائرات وقد أقيمت أكثر ما يمكن حول المباني والمنشآت في المعسكرات وفي منطقة القنيطرة.
4ـ الملاجئ وهي بالأسمنت المسلح، وقد أقيمت تحت الأرض لتحمي من نيران المدفعية والطيران. كما طورت منذ عام 1958 لتقي نسبياً من الضرب الذري أو القصف الكيماوي.
5ـ منعات الرمي: وهي أبنية من الأسمنت المسلح معظمها تحت الأرض ولا يرتفع منها عن الأرض إلا المقدار الذي يمكن الأسلحة المتمركزة فيها من تنفيذ الرمايات وهي تمتاز عن مواضع الرمي المكشوفة بأنها تقدم حماية جيدة ضد نيران الطيران والمدفعية وتمكن في الوقت نفسه الأسلحة وسدنتها من متابعة القتال رغم القصف.
ولقد وجد هذا النوع أكثر ما يمكن في المناطق الأمامية وهي منطقة الحيطة، وذلك لأن أوامر الدفاع في الجبهة لا تبيح الانسحاب بأي شكل، بل وتنص صراحة على التشبث بالأرض حتى انحدار العدو المهاجم أو الموت.
6ـ مراكز القيادة: وهي أبنية كبيرة وواسعة بنيت بالأسمنت المسلح تحت الأرض وقد بنيت بمعدل مركز قيادة لكل لواء، ومركز قيادة كبير فقيادة الجبهة وكانت تسمى: (المقرات التعبوية) ولا يتم احتلالها إلا في حالات احتمال القتال أو أثناء التمارين. وقد بنيت لتقدم حماية كاملة ومطلقة ضد قصف الطيران والمدفعية مهما بلغت كثافته وعنفه، وحماية كاملة ضد القصف الكيماوي وحماية نسبية ضد الضربات الذرية الخفيفة.
7ـ المراصد: ومنها مراصد الألوية ومراصد المدفعية ومراصد القادة وكلها مجهزة تجهيزاً حسناً، ومبنية بالأسمنت المسلح، ومتصلة بخنادق المواصلات ليكون الوصول إليها خفية عن أعين الرصد المعادي.
هذا بالإضافة إلى القرى الدفاعية التي أقيمت لتساهم في دورها بالدفاع عن الجبهة.
الأسلحة التي شملت الجبهة:
1ـ نيران الأسلحة الفردية أينما وجدت.
2ـ نيران الأسلحة الجماعية لوحدات المشاة (الرشاشات المتوسطة والثقيلة).
3ـ نيران الهاونات بمختلف عياراتها (ابتداء من الهاون 60مم وحتى الهاون 120مم).
4ـ نيران المدفعية ابتداء من مدفعية الألوية حتى مدفعية الجيش، والصواريخ.
5ـ نيران المدفعية المضادة للآليات وكذلك نيران الدبابات سواء منها (الوضع) أم الداخلة في عضوية اللواء والمستعدة للمناورة وتنفيذ الهجمات المعاكسة أم الملحقة على الجبهة للتعزيز.
6ـ نيران الأسلحة المضادة للطائرات من العيارات المختلفة ابتداء من عيار 7،12مم وحتى عيار 100مم.
7ـ نيران قاذفات اللهب، الخفيفة منها والثقيلة والمضادة للآليات.
الموانع: الموانع التي تستخدم عادة في القتال كثيرة جداً، ومتنوعة بمقدار ما يتنوع شكل القتال وطبيعة الأرض التي تدور عليها، ولقد استخدمت في منطقة الجولان أنواع محدودة من الحواجز هذه، ولكنها استخدمت بكثافة كبيرة جداً.
1ـ فالأسلاك الشائكة: على اختلاف أنواعها وطرق نصبها، كانت تحيط كل موقع أو مخفر أو مطلق مكان تتمركز فيه القوات، ويكاد يكون مستحيلاً أن تجد مكاناً فيه وحدات دون أو تكون قد أحاطت نفسها بنوع واحد أو أكثر من الشبكات الشائكة.
والجدير بالذكر أن هذه الأسلاك قد دخلت في صلب مخططات التحصين وحملت على الخرائط الخاصة بذلك بإحداثياتها وأصبح من غير الممكن لأي قائد أن يأمر بإزالتها أو تعديلها نحو الضعف دون أن يقدم لذلك مبرراً معقولاً ثم يأخذ موافقة قيادة الجبهة على هذا التغيير.
2ـ سدادات الطرق: وسواء أكانت من الحديد، أو الصهوات الشائكة، فلقد استخدمت هذه الأنواع بكثرة وخاصة لسد مداخل المواقع الدفاعية في الليل أو وقت الاشتباك، وكذلك جهزت لتستخدم وقت الاختراق كعنصر مساعد في تأخير قوات الهجوم.
3ـ الألغام المتحركة: وكانت تزرع في نقاط معينة على الطرق كل يوم مع حلول الظلام ثم تنزع صباح اليوم التالي وتخلو منها الطرق طيلة النهار.
4ـ الملاغم: وهي تخريبات معدة مسبقاً على الممرات الإجبارية، ولا تعدو كونها أماكن خاصة لوضع المتفجرات تحت الطريق، ومجهزة لنسفه في اللحظة المناسبة فتشكل تدميراً (يختلف حجمه باختلاف حجم المتفجرات وتوزيعها)، في نقطة العبور الإجبارية هذه، مما يجبر العدو على التوقف ريثما يتمكن من إصلاح الطريق لمعاودة التقدم.
وقد شرحنا عنها مفصلاً في موضع سابق ونضيف هنا أن سعة كل ملغمة كان في الجبهة (200) تنكة من متفجرات الـ ت . ن . ت وهذه الكمية قادرة على إحداث حفرة عمقها عشرون متراً ولا يقل قطرها عن 70 متراً، وهو حجم هائل فيما لو وقع على نقطة مرور إجبارية.
5ـ حقول الألغام: إنني أستطيع أن أؤكد أن على طول المواجهة وابتداء من خط الهدنة حتى الخط: مسعدة ـ واسط ـ العليقة ـ القادرية ـ القصبية ـ العال ـ حيتل. في هذا الشريط من خط الجبهة الذي يتفاوت عمقاً 4 ـ 9 كيلو مترات، أستطيع أن أؤكد أنه لم تكن هناك قطعة أرض صالحة لتقدم قوات العدو إلا وزرعت بحقول الألغام.
فحقول الألغام غطت جزءاً كبيراً من المناطق القريبة من العدو والصالحة لتقدم آلياته ومشاته. ولقد زرعت في الأراضي الفسيحة وعلى طرق التسلل، وعلى جوانب محاور التقدم، وأحاطت بالمواقع الدفاعية كما سدت الثغرات بينها واحتوت الأنواع العديدة من الألغام، من مضاد للأشخاص إلى مضاد للآليات، ومن عادي إلى وثاب إلى مفخخ... إلخ.
والأكثر من ذلك، وهو أن هذه الحقول كلها كانت مضروبة بالنيران لحمايتها ومنع العدو خلال تقدمه من فتح الثغرات فيها، ولقد غطت هذه الحقول بجميع أنواع الرمايات التي سبق أن نوهت عنها في الصفحات السابقة. ولذلك فإنها كانت تعتبر ـ لو صمدت القوات ـ من أفضل الحواجز في وجه العدو وأكثرها فعالية ضد تقدمه.
6ـ مفارز السدود المتحركة: وهي مجموعات من وحدات الهندسة مزودة بأنواع خاصة من الآليات المصفحة، تتحرك مع احتياطات الأسلحة المضادة للدبابات، وتقوم خلال القتال بنشر الألغام بصورة سريعة ـ هكذا على المكشوف وعلى وجه الأرض ـ وذلك كجزء من خطة الدفاع ولقد حددت خطوط انتشارها على الأرض (بموجب خطة العمليات)، وجهزت وزودت بكل احتياجاتها لساعة أداء الواجب ودربت على هذا العمل مرات ومرات، منفردة أحياناً، ومشتركة مع باقي وحدات القطاعات أحياناً أخرى. ومما هو جدير بالذكر أن ملاك كل مفرزة من هذه المفارز لعملية واحدة هو (4000) لغم مضاد للآليات.
7ـ ونستطيع أن نضيف إلى ذلك كله، قلة الطرق الصالحة للتقدم، وخاصة في المناطق المتقدمة القريبة من الحدود، وقد كان ذلك مقصوداً تعمدته القيادات المتعاقبة، بل وحالت دون نجاح بعض المحاولات لشق طرق جديدة لأن ذلك سيضيف أعباء جديدة على عاتق الوحدات.
وتتضح لنا شدة فعالية هذه الموانع حين نعلم أن الله قد وهب تلك المنطقة وعورة غريبة من نوعها فأرضها من أصل بركاني مغطاة على مسافة شاسعة بالصخور والأحجار البازلتية التي تجعل من العسير على الآليات السير فيها خارج الطرق.



تنظيم الدفاع على أرض الجولان
(4)
الهجمات المعاكسة المقررة:
الحديث عن هذا الأمر، يصعب الخوض فيه دون توفر مخططات واضحة تبرز أهميته، ولكني سأحاول أن أرسم صورة للهجمات المعاكسة المقررة (في القطاع الأوسط)، وذلك بسبب أنني لم يتح لي الإطلاع على ذلك في باقي القطاعات، ثم الهجمات المعاكسة المقررة لتقوم بها وحدات على مستوى قيادة الجبهة وقيادة الجيش.
ففي القطاع الأوسط: تضمنت خطة العمليات الهجمات المعاكسة الآتية:
1ـ هجوم معاكس رئيسي بسرية مشاة في اتجاه الجمرك ـ مرتفع 217 ينطلق من مرتفع نذير وجيار وتقوم به سرية النسق الثاني للكتيبة الرابعة.
2ـ هجوم معاكس ثانوي بسرية مشاة في اتجاه جليبينة، الدردارة ينطلق من مرتفع نذير وجيار وتقوم به السرية نفسها.
3ـ هجوم معاكس ثانوي باتجاه الدورة ـ أبو فولة ـ ينطلق من السنابر الشمالية وتقوم به سرية النسق الثاني للكتيبة 13.
4ـ هجوم معاكس رئيسي باتجاه أشرف حمدي ينطلق من السنابر الشمالية وتقوم به السرية نفسها.
5ـ هجوم معاكس رئيسي باتجاه الجمرك ـ 217 ينطلق من نعران وتقوم به ك 43 + كتيبة الدبابات + سرية م ـ د + مفرزة السدود المتحركة للواء.
6ـ هجوم معاكس ثانوي باتجاه السنابر ـ الدورة ينطلق من نعران وتقوم به القوة نفسها أو جزء منها (حسب أوضاع المعركة).
أما قيادة الجبهة فلقد كان مقرراً أن تقوم بالهجمات المعاكسة الآتية:
1ـ هجوم معاكس رئيسي أول باتجاه كفر نفاخ ـ العليقة ـ الجمرك ينفذه لواء مشاة معززاً بالدبابات والمدفعية ومفارز السدود المتحركة. وينطلق من السفوح الغربية لحرش عين زوان.
2ـ هجوم معاكس رئيسي ثانوي باتجاه قنيطرة ـ منصورة ـ واسط تقوم به القوة نفسها وينطلق من خان أرينبة.
3ـ هجوم معاكس ثانوي باتجاه الرفيد ـ العال وتقوم به القوة نفسها وينطلق من الرفيد.
وأما قيادة الجيش فلقد كان مقرراً أن تقوم بالهجمات المعاكسة الآتية:
1ـ هجوم معاكس رئيسي باتجاه سعسع ـ القنيطرة تقوم به مجموعة الألوية 29 من اللواء 18، واللواء 72، ولواء احتياطي مع اللواء 70 المدرع بالإضافة إلى وحدات كبيرة من المدفعية والهندسة وباقي الصنوف.
ثم تقوم هذه بعد تنفيذ الهجوم بملاحقة وحدات العدو حتى يتم تدميرها أو أسرها أو ضمان تراجعها عن الحدود، وتعيد احتلال الجبهة وإعادة التنظيم بينما تتراجع قوات الجبهة السابقة لتتجمع في منطقة دمشق وتعيد تنظيمها.
2ـ هجوم معاكس ثانوي باتجاه درعا يؤدي المهمة نفسها وتؤديه القوات التي ذكرت أو جزء منها وذلك حسب ضخامة القوة المهاجمة وحسب أحوال المعركة.
هذا بالإضافة إلى الهجمات المعاكسة المقرر أن تقوم بها وحدات القطاعات الأخرى، ومن أهمها هجوم معاكس مقرر أن تقوم به وحدات الدبابات من الجوخدار والخشنية معززة بكتيبة مشاة من القطاع الجنوبي، وذلك باتجاه القنيطرة، لطرد العدو منها في حال وصوله إليها، حتى لا يتمكن من تطويق القطاعين الأوسط والجنوبي. ومن هنا يبرز لدينا أن جميع الاحتمالات القائمة لحدوث الاختراق والتوغل المعادي في أرضنا، كانت مغطاة بالهجمات المعاكسة وعلى مختلف المستويات، بالإضافة إلى ما ذكرنا من التركيز في النيران والموانع والتحصينات... إلخ، فكيف إذن يمكن لهذه الجبهة أن تسقط وبمثل هذه السهولة ؟؟
دور المقاومة الشعبية في الجولان:
شملت الجبهة تنظيماً جيداً لعناصر المقاومة الشعبية، كان شبيهاً بتنظيم القوات النظامية.. حيث قسمت المنطقة إلى أربعة قطاعات للمقاومة الشعبية يضم كل منها عدداً من كتائب المقاومة:
1ـ الشمال وقيادته في مسعدة.
2ـ الأوسط وقيادته في العليقة.
3ـ الجنوبي وقيادته في العال (على ما أذكر).
4ـ قطاع القنيطرة وقيادته في القنيطرة كما كان أيضاً في هذه المدينة القيادة العامة لقوات المقاومة الشعبية في الجبهة. وقد شملت المقاومة الشعبية تسليح كل قادر على القتال حتى أصحاب الأعمار الكبيرة ، وقد وزعت على هذه الوحدات أسلحة مختلفة من البنادق والرشاشات المتوسطة والثقيلة. والأسلحة الخفيفة المتوسطة المضادة للدبابات بالإضافة إلى كميات كبيرة هائلة من الذخيرة وكميات كبيرة من الأسلاك الشائكة والألغام والمتفجرات وأجهزة الهاتف وأجهزة اللاسلكي والإشارات الضوئية والمناظير والخرائط المختلفة، كلها لتساعد في إسهام السكان في الدفاع وتغطية كل حبة من تراب المنطقة بالنار القاتلة التي كان مفروضاً أن توجه إلى صدور الغزاة المجرمين... في ساعة عصيبة كالتي وقعت يوم المسرحية.
الدفاع ضد أسلحة التدمير الجماعي: أسلحة التدمير الجماعي، تشمل في عرف القوات السورية ما يلي:
1ـ الأسلحة الذرية بشقيها الأساسيين، المتفجر، والمشع.
ويتمثل المتفجر خير تمثيل بالقنابل الذرية، بمختلف أحجامها وقدراتها التدميرية.
كما يتمثل بالغبار الذري، الذي ينتج عقب الانفجارات الذرية، أو الممكن رشه بوسائل مختلفة على شكل مساحيق تنشر في جو وأرض المعارك، فتنشر الإشعاعات الخطرة والقاتلة على حد سواء.
2ـ الأسلحة الكيميائية: وهي المواد السامة التي جهزت للاستعمال في الحروب، لتنشر الغازات القاتلة أو المشوهة أو المخدرة... والتي يمكن بها تلويث مناطق الأهداف، بوسائل مختلفة، (قنابل المدفعية، قنابل الطيران الرش بالطائرات... إلخ). والتي تتفاوت مدة تأثيرها وبقائها في الجو أو على الأرض، من بضع دقائق إلى بضعة أيام.
3ـ الأسلحة الجرثومية: وهي أنواع من الأسلحة التي تنشر بواسطتها الأوبئة والأمراض المختلفة، في مناطق الأهداف، وهي عبارة عن الحشرات المشحونة بالجراثيم، أو الجراثيم نفسها، لمرض ما، ويمكن إيصالها إلى الأهداف بالوسائل المختلفة (المدفعية ـ الطيران ـ المخربون (العملاء).. إلخ). ولقد سبق للقيادة العامة أن اتخذت وسائل متعددة، لحماية القوات من هذه الأسلحة، والتخفيف من أضرارها إلى أدنى حد ممكن، للحفاظ على أفضل مستوى قتالي لها، في حال نشوب الصراع.
1ـ ففيما يخص الأسلحة الذرية المتفجرة (القنابل)، كانت هناك الملاجئ التي أقيمت ـ بإشراف الخبراء السوفييت ـ والتي بنيت لتقدم، حسب تقديرات الخبراء، حماية ضد الانفجارات النووية الصغيرة (التعبوية) وذلك على الشكل التالي:
ـ بالنسبة للمناطق التي تقع ضمن قطر دائرة مركز الانفجار ، والتي يبلغ نصف قطرها 500 متر، فالحماية تكون نسبية، ضد الأثر الحراري والتدميري للانفجار.
بالنسبة للمناطق التي تبعد عن مركز الانفجار أكثر من المسافة المذكورة (500) متر، فالحماية كاملة، ضد الأثر التدميري، وتزداد نسبة الحماية ضد الأثر الحراري تصاعداً كلما بعد الملجأ عن مركز الانفجار.
وأما بالنسبة للإشعاعات الذرية، سواء أكانت ناتجة من الانفجار، أو من الغبار الذري أو أي مصدر آخر، فلقد وزعت القيادة على جميع العسكريين ـ بدون استثناء ـ الأردية الواقية (على شكل المشمعات الواقية من المطر)، وهي تقدم حماية جيدة ضد الإشعاعات (ألفا ، بيتا)، وضعيفة جداً ضد إشعاعات (غاما)، ولكنها تساهم مساهمة فعالة في الحفاظ على مستوى الوحدات مرتفعاً. وكذلك جهزت مراكز التطهير (الثابتة، والمتنقلة)، والتي سيأتي بحثها قريباً.
2ـ وأما بالنسبة للأسلحة الكيميائية، فلقد كانت هناك إجراءات واقية وهي:
ـ على المستوى الفردي: وزعت الكمامات الواقية، وهي تقدم حماية كاملة ضد جميع أنواع القصف الكيماوي للوجه وجهاز التنفس، والجهاز الهضمي للإنسان.
وأما حماية باقي الجسم، فتساهم فيها الملابس العادية، وكذلك الأردية الواقية التي تكلمنا عنها قبل قليل.
ـ وأما على المستوى الجماعي للوحدات، فلقد كان مقرراً تزويد الملاجئ بمضخات خاصة تقوم بضخ الهواء الملوث المستقر فيها، وإبدال الهواء النقي به، للإبقاء على حياة الأفراد وسلامتهم طيلة لجوئهم إلى الملاجئ، ولكن هذه المضخات لم تصل إلا إلى مستوى القيادات الكبيرة فقط (قيادات الألوية وقيادة الجبهة) ووضعت في المقرات القتالية لتعمل عند الحاجة إليها. أما وصولها إلى الملاجئ المنتشرة في كل مكان، والمخصصة للوحدات كلها، فإن هذا لم يتم أبداً، وبقيت الملاجئ محرومة منها.
هذا من جانب، وأما من الجانب الآخر، فلقد كانت هناك إجراءات الوقاية والتطهير، وهي إجراءات خاصة فنية، تقوم بها الوحدات الكيميائية (فصائل الكيمياء في الألوية، والسرية الكيمائية في الجبهة) الخاصة بقوات الجبهة، أو المعينة لديها ـ مؤقتاً ـ من قبل القيادة العامة.
هذه الإجراءات، سبق لها أن درست وأجريت لها تجارب وتمارين مختلفة، وجهزت مقرات التطهير الثابتة في القنيطرة وهيئت وحدات التطهير المتنقلة في القطاعات ودخل كل هذا في صلب خطة عمليات الجبهة، تحسباً لساعة حاسمة، يقوم العدو فيها بالضرب على القوات، بسلاح كيميائي، أو بآخر.
3ـ وأما الأسلحة الجرثومية، فلقد كان البحث حولها ضعيفاً، ولم يحسب لها أي حساب، ولم يتجاوز الوقاية منها، مستوى الأعمال الوقائية الصحية العادية، في طول الجبهة وعرضها.




















تنظيم الدفاع على أرض الجولان
(5)
الاتصالات في الجبهة:
وكما في أي دفاع ثابت، اعتمد نظام الاتصالات السلكية، ومددت على الأرض (أو على الأعمدة) خطوط الهاتف الميدانية منذ قيام الوضع الدفاعي، ولم تفكر قيادة ما، طيلة ثلاثة عشر عاماً، بإدخال التعديل أو التغيير على نظام الاتصالات هذا.
ولكن مع بداية عام 1960، قررت القيادة العامة إجراء تعديلات هامة على وسائل الاتصال، فقامت بتمديد خط جديد، يصل بين القنيطرة ودمشق، وبين القنيطرة وكل من مسعدة، والعليقة، والبطيحة، والعال.
وقد مدد هذا الخط تحت إشراف خبراء أجانب، وعلى عمق 50 سنتيمتراً، وسمي (الخط الرباعي).
أما استعمال اللاسلكي فقد كان ممنوعاً إلا في حالات خاصة سنفصلها
1ـ الاتصال السلكي: أقيم نظام الاتصال هذا معتمداً على الخطوط والمقاسم.
أولاً: الخطوط: كان في الجبهة نوعان من الخطوط:
أولهما: الخطوط المرفوعة على أعمدة، وقد كانت بنسبة قليلة في منطقة الجبهة، نظراً لصعوبة تغطية كل احتياج القوات بها بسبب صعوبة تمديدها في الأماكن المتقدمة نحو العدو، ولكلفتها الغالية واستهلاكها وقتاً كبيراً في إقامتها، وكذلك بسبب عدم إمكانية نقلها من مكان لآخر.
ولكنها مع ذلك تمتاز عن الأسلاك الميدانية الأرضية بعدم التعرض للتشويش أو السرقة من قبل العدو إلا بنسبة ضئيلة جداً وعدم التعرض للتلف السريع بسبب الأمطار والعوامل الأخرى.
وثانيهما: الخطوط الميدانية، وهي تمدد على الأرض، هكذا على المكشوف، وهذه أسلاك تصلح لقتال متحرك ومن الخطأ استعمالها لدفاع ثابت كل تلك السنين.
من مميزات هذه الخطوط: سرعة تمديدها، وإمكانية رفعها ونقلها من مكان لآخر بمنتهى السهولة.
ومن سيئاتها: تعرضها للتلف بفعل عوامل مختلفة (سيارات، المواشي، الاحتكاك بالصخور، العوامل الجوية..)، وتعرضها للسرقة من قبل العدو.
ومن المشاكل التي كانت تعانيها القوات، ما يلي:
ـ احتراق قسم من الأسلاك خلال حرق الأعشاب أو أي حريق آخر يشب في المزروعات أو الأعشاب.
ـ تقطيع الأسلاك، إما خلال الحراثة، أو حركة الآليات المختلفة، أو بيد عابث أو مخرب، أو بيد سارق من أهل المنطقة، يقطع منها احتياجه ويترك الوحدات خلفه محرومة من الاتصال ريثما يتم إعادة وصلها.
ـ التآكل بفعل المطر والرياح ثم الشمس، مما يسبب أعطالاً خفية في الأسلاك، يصعب تحديد أماكنها بسهولة، مما يضطر الوحدات إلى تسيير دوريات من الاختصاصيين لفحص الخطوط قطعة فأخرى، حتى تتمكن من كشف العطل وإصلاحه.
ـ التداخل بين الخطوط، بسبب خطأ في وصلها بعد إصلاحها أو بسبب تآكل العازل وانكشاف السلك الناقل في أجزاء متقاربة من الخطوط العائدة لأكثر من وحدة، وهذا كان يسبب كثيراً من المشاكل والتشويش تضطر الوحدات إزاءها إلى فحص الخطوط، وفصلها ثم إصلاحها.
ولقد كان الحل الوحيد للتخفيف من هذه المساوئ، هو تسيير الدوريات المستمرة ـ إن على مستوى الكتائب أو الأعلى ـ للتفتيش على الخطوط، وإصلاح ما فسد منها، ولذلك كنا نرى يومياً، الجند يروحون ويغدون على طول الخطوط، ممسكين بها يتفحصونها ويجربونها بين مسافة وأخرى، وكل منهم يحمل عدة الإصلاح بيمناه، وبندقيته على كتفه أو بيسراه.
ثانياً: المقاسم:
المقاسم هي مراكز تحويل المخابرات (سنترال)، وقد أقيمت كلها ـ تقريباً ـ على الأسلوب الميداني القابل للحركة وحسب المعدلات الآتية:
ـ في قيادة كل كتيبة مقسم أو اثنان، لتأمين الاتصالات بين قيادة الكتيبة ووحداتها من جهة، وبين قيادة الكتيبة وقيادة اللواء من جهة ثانية، وبين قيادة الكتيبة والوحدات المجاورة من جهة ثالثة.
ـ في قيادة كل لواء عدد من المقاسم ـ مجمعة أو موزعة ـ لتأمين الاتصالات مع الجهات الثلاث (الوحدات ـ القيادة الأعلى ـ الجوار).
ـ في قيادة الجبهة مجموعة كبيرة من المقاسم لتأمين هذه الاتصالات مع الجهات المختلفة.
وإضافة لذلك، فلقد وجدت كثير من المواقع الدفاعية والمخافر، التي هي دون مستوى الكتيبة، (سرية أو فصيلة منعزلة، أو جماعة متقدمة)..، اقتضى وضعها القتالي وجود قسم لديها، ولذا فقد تم تأمين هذه المقاسم بنسبة كافية.
ولقد كانت خدمة هذه المقاسم تقع على عاتق وحدات الإشارة الداخلة في صلب تشكيل الوحدات (فصيلة إشارة الكتيبة، سرية إشارة اللواء.. إلخ) وأما حين يوجد مقسم ما، لدى وحدة صغيرة فرعية (سرية أو فصيلة مشاة..) فكانت خدمة هذه المقاسم تؤمن من قبل عناصر تعينها لهذه الغاية وحدات الإشارة التابعة للقيادات الأعلى، أو يعين عليها أفراد من الوحدة الصغيرة نفسها بعد إلحاقهم بدورة محلية مدتها لا تتجاوز الأسبوع، ليتم تعليمهم على هذه المقاسم، ثم ... يقومون بخدمتها.
وأما أماكن إقامة هذه المقاسم، فغالباً ما تكون في الملاجئ الحصينة، قريباً من القادة ـ ما أمكن ـ وأحياناً، اضطرت الوحدات لتأمين إقامة المقاسم في الخيام، أو البيوت العائدة للقرى النموذجية، أو البيوت المستأجرة من المدنيين.
2ـ الاتصال اللاسلكي:
هذا النوع من الاتصال محرم في منطقة الجولان طيلة فترة حياة الجيش فيها. ولم يسمح به إلا في حالات نادرة جداً. وقد حددتها الأوامر الدائمة، وكانت تصدر أوامر خاصة تسمح باستعمال الأجهزة اللاسلكية في فترة خاصة وضمن شروط وأحوال تفصلها الأوامر.
هذه الحالات التي يسمح بها استخدام الاتصال اللاسلكي، هي:
(أ) حالات القتال، وبعد فقدان الاتصال السلكي، وفقدان إمكانية إعادته خلال فترة لا تؤثر سلبياً في سير القتال.
(ب) حالات التدريب سواء أكان تدريب العناصر الفنية أو تدريب الضباط، أو تدريب القوات، وكانت لذلك تصدر أوامر تفصيلية دقيقة، تحدد الوقت وأنواع الأجهزة الممكن استخدامها، والرموز الواجب استعمالها خلال التخاطب لاسلكياً.
(ج) حالات ***** الأجهزة وإصلاحها، وذلك أيضاً ضمن شروط وأوقات ورموز محددة مفصلاً بالأوامر.
(د) حالات خاصة، وضمن فترات معينة، لتجريب الأجهزة، والتأكد من صلاحها للعمل وقت الحاجة، وذلك أيضاً ضمن منهاج خاص بذلك، يحدد أنواع الأجهزة، والرموز، وفترات الاستخدام وغيرها من الأمور التي تفرض سرية استخدام الأجهزة.
3ـ وسائل أخرى في تأمين الاتصال:
إضافة إلى الاتصال بوسيلتيه الرئيسيتين، كانت هناك وسائل أخرى تبادلية، تم استخدامها في حالات مختلفة، وضمن برامج خاصة لبعضها وأهم هذه الوسائل:
(أ) الاتصال الشخصي: بين القادة لتبليغ أوامر أو الإبلاغ عن أمور ذات أهمية خاصة.
(ب) المراسلون: الذين يكلفون بنقل أمر ما ـ شفهياً أو كتابياً ـ لقائد ما، من سلطة أعلى أو من سلطة أدنى، وسواء أكانوا راجلين أو راكبين.
(د) شهب الإشارة: وهي وسائل ضوئية نارية، ذات رموز خاصة معروفة للقوات، وموزعة على الوحدات حسب ملاك معين، ومع أوامر خاصة باستخدامها تحدد أوقات الاستخدام، وحالاته، وأنواع الشهب الخاصة بكل حالة منها.
الاستطلاع :
اعتمدت في منطقة الجبهة أعمال الاستطلاع، بصورة محدودة، وبوسائل بدائية إذا قيست بطرق ووسائل الاستطلاع الحديثة المستخدمة في جيوش العالم اليوم.
ولسنا بصدد التعرض للبحث في تفصيلات عن طرق الاستطلاع، ووسائله، وإنما يهمنا عرض موجز لما اعتمد واستخدم وطبق في الجبهة، خلال فترة حياة القوات فيها وما أعد للاستخدام في حالات الاشتباك.
1ـ الرصد: كان من أكثر طرق الاستطلاع استعمالاً وشيوعاً في الجبهة، ويعتمد على إقامة مراصد يخدمها أفراد يراقبون العدو ليل نهار، وينقلون مشاهداتهم إلى القيادات المسئولة فتقوم هي باستنتاج ما يهمها من هذه المعلومات وسنتكلم عنه مفصلاً جداً في كتابنا القادم إن شاء الله.
2ـ رصد الضباط: كان يتم في حالات خاصة من أجل التأكد من مشاهدات ذات طابع خاص، ويؤديه غالباً، القائد المسؤول، يرافقه ضباط الاستطلاع، وضباط ذوي الاختصاص الذي تقع في دائرته المشاهدات التي تستدعي مثل هذا الاستطلاع.
3ـ الاستماع اللاسلكي: ويتم بواسطة أجهزة خاصة يعمل عليها اختصاصيون، للتفتيش عن شبكات العدو والاستماع إلى مخاطباتها، ونقلها إلى المراجع المتخصصة في شعبة المخابرات، وقد أقيمت ثلاثة مراكز، في كل قطاع واحد منها، يضم مجموعة من أجهزة الاتصالات ذات الحساسية العالية، ويقوم على خدمتها عدد من ضباط الصف المدربين تدريباً عالياً ويتقنون استعمال الأجهزة كما يتقنون اللغة العبرية، وترفع التقارير يومياً إلى القيادة العامة عن نشاط شبكات العدو وتبادل البرقيات فيما بينها.
ولقد ساهمت هذه الأجهزة إلى حد كبير في الحصول على معلومات عن العدو، وكان من أبرز ما حققته من فائدة، ما التقطته من برقيات متبادلة بين وحدات العدو في الاشتباكات 3/12/1958 ، والتوافيق 1960، وتل النيرب 16/3/1962.
ولا يخفى أن كثيراً من البرقيات التي كانت تتبادلها أجهزة العدو ـ خصوصاً أوقات الهدوء ـ كانت للتضليل والتشويش أو بغاية تجريب الأجهزة، أو تدريب وحداته وعناصره. وقد كان بإمكان سدنة الأجهزة في مراكز الاتصالات ـ إلى حد كبير ـ أن يحددوا نوعية البرقيات وأهميتها وما إذا كانت حقيقة أو للتضليل.
4ـ الاستطلاع بالدوريات: وقد مارس الجيش هذا النوع من العمل على نطاق محدود جداً، وذلك تمشياً مع سياسة الدولة التي سادت كل تلك السنوات، والتي انعدمت فيها لدى المسؤولين ـ عسكريين وسياسيين ـ فكرة الهجوم.. بل وحتى فكرة الدفاع المتحرك الفعال.
ومن أبرز أعمال الاستطلاع بالدوريات، التي نفذت:
(أ) سلسلة طويلة من أعمال الدوريات، نفذها فوج المغاوير عام 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر، وبعدة فترة وجيزة، وقد استغرق تنفيذها ما يقارب شهراً ونصف الشهر. وذلك من أجل التعرف على أهداف حددت لهذا الفوج داخل الأرض المحتلة، وتمهيداً لمقاتلتها ـ حين تصدر الأوامر بذلك ـ ولكن الأمر اقتصر على أعمال الاستطلاع، وعاد الفوج بعد مدة وجيزة إلى معسكراته، بعد انتهاء حالة التوتر.
(ب) سلسلة طويلة جداً، ومستمرة من أعمال الدوريات الخاصة، التي مارسها الفدائيون من أبناء فلسطين، والتي كانت تنفذ بدقة، وتحت إشراف شعبة المخابرات في القيادة العامة، والفروع التابعة لها في الجبهة.
(ج) أعمال استطلاعية محدودة جداً، وخاصة، وبدون علم القيادات، أو إذن منها، نفذها عدد ضئيل من الضباط، بغية الحصول على معلومات أوفى وأدق، عن بعض أعمال العدو في الطرف المقابل لقواتنا، وكان من أبرز ما تم من هذا النوع، هو دخول بعض الضباط إلى الأرض التي تضم المرحلة الأولى من مشروع تحويل نهر الأردن، بغية استكمال دراسة هذا المشروع بصورة دقيقة.
5ـ الاستطلاع الجوي: وكثيراً ما كان يكلف سلاح الطيران بطلعات استطلاعية فوق الأرض المحتلة، ومن أبرز هذه الطلعات ما كان لصالح قوات الجبهة بصورة مباشرة، ومن أبرز الحالات التي نفذت فيها مثل هذه الطلعات ـ لصالح الجبهة ـ هي الاستطلاعات الجوية التي نفذتها عقب معركة التوافيق (عام 1960)، وعقب معركة تل النيرب (عام 1961)، وذلك من أجل الكشف عن طبيعة التحركات الضخمة التي مارسها العدو خلال هاتين الفترتين، وغيرهما كثير.
6ـ التصوير الأرضي: استعمل هذا النوع من الاستطلاع في حدود ضيقة، وحين كان الأمر يقتضي بمراقبة دقيقة ومستمرة لتغيرات الأرض في الطرف المقابل لقواتنا، وذلك بغية مقارنة سلسلة من الصور لمنطقة واحدة من الأرض، فتظهر عندها جلياً أية تغييرات قد طرأت، وبدراستها مع مصادر المعلومات الأخرى، يمكن الخروج بمعلومات صحيحة ما أمكن عن طبيعة الأعمال التي يقوم بها العدو في المنطقة المقصودة بمثل هذه الدراسة.
وكذلك استخدم التصوير الأرضي لتقديم صور إيضاحية للقيادة عن أنواع من الزوارق وجدت في بحيرة طبريا، وعن بعض الأعمال الإنشائية التي استأثرت باهتمام القيادة، مثل الأعمال التي نفذت بين جسر بنات يعقوب وجسر بستان الخوري، وكذلك قناة التحويل (المرحلة الأولى من تحويل نهر الأردن)، وكذلك حفريات العدو جنوب تل المطلة على حدود الأرض المجردة (سيرد تفصيل واف لهذه الأمور في كتابنا القادم).
7ـ التصوير الجوي: ولم يستخدم هذا النوع من الأعمال الاستطلاعية إلا لصالح القيادة العامة، وأحياناً قليلة جداً نفذ لصالح قوات الجبهة، وقد نفذ منها ما هو ليلي وما هو نهاري، ومن أهم الطلعات التصويرية التي نفذها الطيران لصالح الجبهة، كانت:
ـ طلعات ليلية تصويرية، فوق منطقة صفد ـ الجاعونة ـ الخالصة. وذلك في شباط عام 1960، عقب معركة التوافيق.
ـ طلعات نهارية للتصوير، فوق منطقة كفر شامير، للتأكد من صحة الخبر الذي أدلى به أحد أعضاء لجنة الرقابة الدولية، عن وجود عدد كبير من الدبابات في تلك المنطقة وكان ذاك في عام 1962.
هذه الأنواع من طرق الاستطلاع، نفذت قبل الحرب، واعتمدت مع طرق أخرى أهم وأكثر، في خطة الاستطلاع، وهي عبارة عن أمور عسكرية معقدة ليس لنا أن نفصل فيها لأنها من الأمور التي تهم العسكريين أكثر مما تهم القارئ الآخر.
وأخيراً: لقد كانت الصفحات السابقة موجزاً لما بذل من جهود ووقت وأموال، وتصويراً سريعاً لضخامة الإمكانات ـ البشرية والمادية الأخرى ـ التي حشدت في منطقة الجولان، تحسباً لساعة خطر، كالتي جاءت يوم حزيران العار.
ولعل الذي شرحناه، ليس إلا جزءاً من جهد أكبرـ استهلك الكثير جداً من الوقت، والجهد والمال، استعداداً لمثل هذه الساعة.
هذا الجهد، هو خطة عمليات الجبهة. ولقد استعرضت في صفحات سابقة، بصورة موجزة جداً، وواضحة، لمحات مما ورد في خطة العمليات هذه لأن من غير الممكن كشف ذلك كله للقارئ، والحرية بعد ذلك للعقل المتبصر، لينطلق من المستوى الذي تمكنا من شرحه، فيتصور ضخامة الجهد الذي بذل حتى أصبحت الجبهة ـ ومن ورائها الجيش ـ جاهزة لتأدية واجبها، وسداد الدين الذي عليها، فتحمي البلاد من عدو غاز طماع، وترد عار النكبة إلى جباه الذي سعوا إليه وساهموا في صنعه، وتحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي المتغطرس.
ولكي نسهم أكثر في تسهيل مهمة المخلصين الذين يريدون الوقوف على الأبعاد الحقيقية للجريمة.. سأضع لهم على الطريق بعض الصوى، علها تعينهم في الوصول إلى فسحة التصور الحقيقي، لفداحة الخيانة التي ارتكبت بحق هذه الأمة.
فخطة عمليات الجبهة، هذه التي نتحدث عنها، لم تكن مجموعة من الأوامر والمخططات، ضمها مجلد أو أكثر..
إن هذه الوثائق هي فعلاً جهد ضخم جبار، استغرق إعداده وقتاً طويلاً، واستهلك الكثير من الجهد والمال، حتى أصبحت هذه الوثائق جاهزة.
ولكن الأضخم والأكبر بكثير هو:
(أ) ما يعتبر من مقدمات لتحقيق هذه الخطة من: تدريب للضباط بمختلف اختصاصاتهم ـ استقدام الخبراء الأجانب ـ استطلاعات الأرض حتى غطت كل شبر لدراسة إمكاناته وفاعليته، الدراسة النظرية للفرضيات القتالية المتعددة، والخروج بالأكثر احتمالاً للوقوع، والتخطيط لقتال ناجح يتناسب معها، الجهود الجبارة المبذولة من قبل كافة الأجهزة (السياسية والعسكرية) للحصول على أدق المعلومات عن العدو، ثم التعرف عن نواياه، والتحسب لكل نية من هذه النوايا.. إلخ
(ب) ما يعتبر نتائج طبيعية لهذه الخطة من:
ـ إجراء التعديلات في أوضاع التمركز (تقوية أو تخفيفاً ـ إضافة أو إلغاء).
ـ تدريب القوات على فرضيات الخطة والحلول التابعة لها ليكون القتال (عند وقوعه) أمراً مألوفاً لدى القوات ـ وما يلحق لذلك من تفصيلات تخص الرجال والتسليح والعتاد، ووسائل حفظ الوثائق و... إلخ.
هذه الجهود التي قد لا يتمكن عقل ما، من حصرها جميعاً في دائرة تصوره، والتي حاولت أن ألقي عليها الأضواء من زوايا متعددة، في دائرة ما مضى من صفحات، قد تكون قصرت في مهمة التوضيح هذه، لصورة الحقيقية الواضحة لتبرز بعد ذلك لكل مخلص، الأبعاد الواضحة والعمق الحقيقي للخيانة التي أقدم عليها أهل السلطة والمسؤولون في حزب البعث في سورية، إذ أقدموا على إلغاء ذلك كله، وتعطيله عن تحقيق فعاليته التي جهز لها خلال عشرين عاماً، وقدموا الجبهة الحصينة، هدية سهلة لينة لقوات العدو، دونما أي جهد بذلته سوى ما اقتضته ضرورة التمثيل وغير ما لاقت من الضراوة بسبب المقاومات الفردية التي مارسها بعض القادة (غير البعثيين) وبعض أفراد الشعب حين تجاهلوا أوامر قيادة البعث التي طالبتهم بالانسحاب، ثم عززت مطالبتها تلك، بيانها الفاجر الذي أذاعته معلنة سقوط القنيطرة، قبل سقوطها بسبع عشرة ساعة على الأقل. ولكن كيف حدث ذاك ؟؟








القسم الثاني
المؤامرة يوم التنفيذ











الفصل الأول
الوجه الكالح

(... إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الإجراءات الكفيلة بتنفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل تردها إلى صوابها...
إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان...
إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات السورية المسلحة أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان الإسرائيلي، وإنما للمبادرة لعملية التحرير بالذات ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي...
إننا نأخذ بعين الاعتبار تدخل الأسطول الأمريكي السادس...
إن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة. وهناك إجماع في الجيش السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية...)

من تصريح رسمي للواء حافظ الأسد وزير الدفاع السوري نشرته جريدة (الثورة) شبه الرسمية في عددها الصادر في 20 أيار 1967.


ـ 1 ـ
سير الحوادث
إن الذي حصل يكاد يكون كالخيال، فالذين يتصورون أن قتالاً ناجحاً قد نفذ، وأن معركة نموذجية قد أديرت، فالحقائق التالية ستخيب ظنونهم، وتريهم أن مجال دراساتهم التاريخية العسكرية، ليس هنا... فلم يدر قتال صحيح على أي مستوى كان.
ولكن الذي حصل، هو مجال جيد لدارسي تاريخ المؤامرات والباحثين عن أسباب انهزام الأمم وانهيارها، ويشكل معيناً قد لا ينضب، لكاتبي قصص التجسس، والمولعين بالكشف عن خفايا أعمال الخيانة الكبرى في تاريخ الشعوب.
وما لنا وللتعليق الطويل، ها هي الأحداث كما حصلت:
(أ) منذ الساعات الأولى لبدء إسرائيل القتال، أخذت القوات السورية وضع الترقب دونما تحريك لساكن على الجبهة، بل اكتفت بالبلاغات (كاذبها أو صادقها.. الله يعلم) ودامت الحال هكذا طيلة يوم 5 حزيران 1967.
(ب) ومنذ صباح 6 حزيران قامت المدفعية السورية بقصف مركز منهك، استمر أيام 6 ، 7 ، 8 حزيران، وأنزلت خلال هذا القصف آلاف الأطنان من القذائف من كل عيار وكل نوع.. حتى بدا للناظرين أن شريط المستعمرات المقابل للجبهة السورية قد غطيت أرضه بالقنابل... لكل ذراع قنبلة، وقد شوهدت الحرائق تتصاعد مدة خمسة أيام.
(ج) تم حشد ألوية الاحتياط للقيام بالهجوم من قطاع بانياس ـ البطيحة، وذلك على الشكل التالي:
1ـ اللواء 123 احتياط، أعطى أوامر الهجوم، وحددت له منطقة تجمع في منطقة عين الحمراء، وعينت له قاعدة الانطلاق، على الخط: (جليبينة ـ الدريجات الجمرك ـ أشرف حمدي) وبذلك بلغ عرض جبهة هجوم هذا اللواء 5 ـ 6 كيلومترات.
2ـ اللواء 80 احتياط، تم حشده في منطقة تجمع في (وادي حواء قرب الفاخورة ـ السنابر)، وحددت له قاعدة الانطلاق على الخط: (علمين ـ تل المشنوق ـ مخافر المخيمات حتى الدكة ، تل الأعور) وبذلك بلغ عرض جبهة هجوم اللواء (9 ـ 10 كم). أي أن هذا اللواء كلف الهجوم على جبهة واسعة. وبذلك يكون قد حدد في أوامر الهجوم هذه أن قطاع الخرق الرئيسي هو قطاع (جليبينة ـ أشرف حمدي)، ويقابله في الأرض المحتلة قطاع بستان الخوري ـ طوبا. وأن محور الهجوم الرئيسي هو محور: قنيطرة، عليقة، جسر بنات يعقوب ـ روشبينا ـ صفد.
3ـ هذان اللواءان يشكلان النسق الأول لمجموعة ألوية، يفترض فيها أن تضم لواء ثالثاً من المشاة مع لواء مدرع، ولواء مدفعية وكتيبة هندسة، وكتيبة إشارة وأكثر من كتيبة مدفعية م ـ ط وكتيبة مدفعية م ـ د مع باقي الوحدات المساعدة كسرايا الكيمياء وسرايا الشرطة العسكرية، وكتائب النقل والشؤون الإدارية... إلخ.
هذه الوحدات والقطعات الأخرى، لم يعرف حتى الآن إن كانت قد حشدت ضمن نطاق مجموعة الألوية ـ المفترضة هذه ـ أم لا… وأن كل ما استطعنا الوقوف عليه، هو حشد لواءي المشاة الاحتياط المذكورين في المناطق التي ذكرت وأعطيت واجب اليوم، احتلال مدينة صفد .
(د) قامت وحدات الهندسة ليل 5 ـ 6 حزيران بتركيب الجسور العسكرية فوق نهر الأردن وعلى المخاضات بالذات، وكان عملاً، من الناحية الفنية البحتة، ممتازاً. وقد كانت من أبرز المخاضات التي ركبت الجسور عليها: (مخاضة قصر عطرة ـ مخاضة الغوراني ـ مخاضة السمردل ـ مخاضة الدكة، مخاضة الشمالنة… إلخ).
(هـ) تم احتلال كتائب الهجوم لقاعدة الانطلاق، في الساعة السادسة من صباح الثلاثاء 6 حزيران، مما أدى إلى أن يقوم الطيران المعادي بالقصف المنهك على هذه القوات ـ وهي في العراء ـ مدة أربع عشرة ساعة. فكان من نتائج ذلك القصف فشل الهجوم على صفد قبل بدئه، وتحولت مهمة هذه القوات إلى الدفاع، بعد إلغاء خطة الهجوم الكاذبة.
(و) صباح الثلاثاء 6 حزيران، نفذت مجموعة ـ تركيبة (تشمل سريتي حرس وطني وسرية دبابات، ك (فصيلة التصوير للتليفزيون، هجوماً تمثيلياً، انطلق من هضبة المغاوير ـ تل العزيزات)، واستهدف مستعمرة شرياشوف، وحين وصلت هذه المجموعة ـ التركيبة ـ إلى الهدف السخيف، وجدته قاعاً صفصفاً، وقد أخلي من السكان، وأحرق تماماً بسبب القصف المدفعي الهائل ـ مع باقي المستعمرات.
(ز) بغية (تسهيل مهمة ألوية (الهجوم) أعطيت الأوامر للقوات المتمركزة سابقاً في المواقع التي شملتها قاعدة الانطلاق، بالانسحاب على الشكل التالي:
1ـ القوات الموجودة في منطقة السنابر، والقادرية، أمرت بالانسحاب (عرضانياً) إلى واسط.
2ـ القوات المتمركزة في جليبينة وتل 62، والبطيحة قوات حرس وطني أمرت بالانسحاب ـ طولانياً ـ لتتجمع في نقاط تجمع خلفية بعيداً عن مجال تحرك الألوية المهاجمة.
هذان التحركان، اللذان نفذا أصلاً لتسهيل حركة ومهمة القوات المكلفة (تنفيذ الهجوم) شكلا أكبر عقبة في وجه هذه القوات، فاختلط الحابل بالنابل، وعجت الطرق بالآليات والقوات المسلحة المقطورة، فكان ذلك كله هدفاً (لقطة)، للطيران الإسرائيلي، فأخذ يتسلى بضرب هذه القوات، بالرشاشات، والقنابل وصواريخ النابالم، وكانت كارثة حطمت (الهجوم)، أفرغت المواقع الدفاعية من حماتها، وتركت الأرض عراء أمام العدو، تغطيها الجثث وهياكل الآليات، وحطام الأسلحة، بدلاً من أن تغطيها النيران، لتدفع عنها شره، وترده خائباً يجر الخزي والانكسار.
(ح) عملت المدفعية المضادة للطائرات ـ بعياراتها المختلفة ـ عملاً رائعاً، ونموذجياً، وساهمت إلى حد كبير في إسقاط أو إعطاب عدد من طائرات العدو، والتخفيف من وطأتها على القوات الصديقة.
(ط) الطيران السوري ـ لم يظهر في سماء المعركة أبداً. وكل ما قام به هو طلعات متفرقة نفذتها مجموعات تتألف كل منها من أربع إلى ست طائرات اتجهت نحو فلسطين المحتلة يوم 5 حزيران، وأذاعت إذاعة دمشق، أنها قامت بضرب أهداف في داخل الأرض المحتلة.
وبعد هذا، وطيلة أيام المسرحية، اختفى اسم الطيران، ولم يظهر إلا بعد انتهاء الحرب.
(ي) الانسحاب ـ أو الهروب ـ الكبير:
منذ مساء الخميس 8 حزيران، بدأت الشائعات تسري سريان النار في الهشيم، عن أوامر صدرت بالانسحاب.
وبدلاً من أن يملك القادة أمرهم، ويضبطوا أعصابهم، ويبقوا في أماكنهم ينفذون واجبهم، الذي على أمل أن يؤدوه احتمل الشعب إساءاتهم التي لا تحصى، بدأ قسم من الضباط وحتى القادة، الانسحاب، ولكي تشيع الجريمة، ساهموا بنشر تلك الشائعات عن أوامر صدرت من القيادة العامة، تنص على الانسحاب ـ كيفياً ـ
ويا لهول ذاك الذي حدث...
1ـ فقائد الجيش... (اللواء) أحمد سويداني، انهزم عن طريق (نوى) إلى دمشق تاركاً وحدات الجبهة ووحدات احتياط الجيش دون قيادة، واقعة في حيرة من أمرها، وقادتها لا يدرون ماذا يفعلون.
2ـ وقائد الجبهة... العقيد أ.ح أحمد المير ، غادر الجبهة فاراً على ظهر حمار لأنه لم يجرؤ على الفرار بواسطة آلية عسكرية، فالطيران المعادي كان يقضي على كل آلية يراها مهما صغر شأنها، ولكن الحمار عجز عن متابعة رحلة الهروب فتخلى عنه أحمد المير وأكمل الرحلة إلى دمشق على قدميه فلم يصلها إلا وقت تورمت قدماه وخارت قواه، وألقى بنفسه بين يدي أول صاحب مروءة لينقذه من حاله التي هو عليها.. وكان في حالة من الزراية يثير الضحك حقاً.
3ـ اتصل عدد من الضباط بقائد الجبهة قبل فراره فرفض التصرف، وقال لهم بالحرف الواحد: (أنا لست قائد الجبهة، اتصلوا بوزير الدفاع) فأقيم الاتصال مع وزير الدفاع، بواسطة الأجهزة اللاسلكية، وجرت الاتصالات بين (قمر1 وقمر2) فأجاب وزير الدفاع: (أنه قد أخذ علماً بالوضع، وأنه قد اتخذ الإجراءات اللازمة.) ؟
4ـ لجأ بعض الضباط من وحدات اللواء (80) احتياط إلى قيادة موقع القنيطرة بعد فقدانهم الاتصال بقائد اللواء وأي مسئول في قيادة اللواء.. فوجدوا المقدم (وجيه بدر) ماكثاً في القنيطرة يترقب الأخبار، ولما حاولوا أن يفهموا منه صورة حقيقية عن الوضع، تبين أنه لا يفقه شيئاً، وحاول الجميع الاتصال بقيادة الجبهة، فوجدوها خلواً من أي مسئول، عندها دب الفزع في قلوب عدد كبير منهم، واتخذوا وجهتهم نحو دمشق، طالبين النجاة بأرواحهم، تاركين جنودهم كتلاً لحمية تتدافع على الطرقات، يدوس القوي منها على الضعيف، وأنين الجرحى والمشوهين، يملأ سهول القنيطرة، وترجع أصداءه سفوح التلال المتباعدة المتناثرة هنا وهناك، لا يشوه هذا الأصداء، إلا أزيز الطائرات المعادية، وأصوات المكبرات المنبعثة من طائرات الهليكوبتر، ينادي بواسطتها الإسرائيليون جنودنا الفارين.. أن ألقوا أسلحتكم، تنجوا بأرواحكم، فيستجيب الفارون للنداء ويتخلصون من هذا السلاح، الذي أصبح اليوم مبعث تهديد لهم بالموت.. بدل أن يكون مستقراً للطمأنينة، ومبعثاً للثقة بالنفس، وعاملاً مشجعاً على الوقوف برجولة في وجه العدو الغازي.
5ـ عند فقدان كل الاتصالات، وانفراط عقد السيطرة القيادية الذي كان ينظم الوحدات كلها، أخذ كل من القادة الصغار يتصرف حسب هواه، أو حسب بداهته.
فالكثيرون هربوا.. نعم هربوا.. وأعطوا الأوامر لجنودهم بالهروب، والقلائل جداً ـ وهم من غير البعثيين ـ صمدوا وقاتلوا وظهرت بطولات فردية، سنتكلم عنها بعد قليل.
المهم.. أن الهرب من القتال، وتولية الدبر للعدو، قد بدأ مساء الخميس 8 حزيران، وبدأ يستشري ويتسع ويمتد، حتى بلغ ذروة تفاقمه يوم السبت، 10 حزيران بعد إذاعة البيان الفاجر، الذي أعلن سقوط القنيطرة، ولم يك جند العار قد رأوها بأعينهم بعد، بله أن تكون أقدامهم وطئت أرضها.
ومنذ صباح الجمعة، وحتى صباح الأحد 11 حزيران، شهدت أرض الجولان، وما حولها من أراض وطرقات مؤدية إلى دمشق أو إلى الأراضي اللبنانية، أو إلى منطقة حوران، أو إلى منطقة إربد شهدت هذه المناطق، منظراً، لو أتيح لعدسة تصوير أو ريشة رسام أن تحيط به كله مرة واحدة، لكانت لقطة من أندر ما عرف في تاريخ التصوير أو الرسم، ولبقيت صورة حية ناطقة شاهدة على ما أصاب هذه الأمة من عار وخزي، ولكانت أقوى حجة أمام محكمة التاريخ، تقودها إلى إدانة الحزب بالجريمة الكبرى، التي لم يعرف لها تاريخ المنطقة مثيلاً في العمق والدقة والإحكام... والفجور.
هذه الصورة المحزنة، التي اقل ما يمكن أن يقال عنها، أنها تقطع نياط القلوب، وتجرح كل كريم من هذه الأمة بجرح ينز دماً وألماً وحسرة، كيف يمكن للوصف أن يحيط بها، حتى يعطى للقارئ وللأجيال المقبلة، فكرة واضحة عن الذي حدث، وعن درجة الانهيار التي بلغتها هذه الأمة، في أسوأ طور من أطوار تخلفها وانحطاطها ؟
إننا لو حاولنا أن نتصور الطرق المعبدة (المفروشة بالإسفلت)، لرأيناها تغص بالحفر التي أحدثتها قنابل الطائرات المعادية، وقد نقشت أمامها أو خلفها وعلى جوانبها، بقع صغيرة من البياض الموسخ أحدثتها رشات الرشاشات المنبعثة من طائرات العدو، خلال انقضاضاتها المتتابعة المتكاثرة، على الأرتال والآليات الفرادى.
إن تلك الطرق.. قد أصبحت تشبه عقداً مشوهاً طويلاً متلوياً، تتابعت حباته بغير نظام، وهي آليات محروقة، أو حفر مسودة بتأثير النابالم أو عربات انقلبت خلال محاولتها الفرار من الطائرات المنقضة، والجثث المحترقة قد تناثرت هنا وهناك، والأسلحة تلمع في أشعة الشمس بعد أن أفلتت من أيدي حملتها وهم يهربون، أو بعد مقتلهم أو جرحهم، والإطارات قد تناثرت، وترى هنا وهناك، بقعاً من الزيت مشتعلاً أو مدخناً وأكواماً من الحديد، هي كل ما تبقى من العربات بعد احتراقها، وأبراجاً حديدية مزقتها القنابل، هي الدبابات والآليات المصفحة، بعد أن هجرها سدنتها للهروب، أو لتفادي الإصابات بنيران الطائرات.
هذه المناظر كنت تراها على الطرق المعبدة أو الممهدة، أما الأراضي الأخرى خارج الطرقات في السهول والمنحنيات، والأماكن التي ظن سالكوها أنها تغني عنهم شيئاً من غضب الطائرات المغيرة، فلقد كانت الصورة فيها أوسع وأكثر شمولاً وأبلغ تعبيراً عن المأساة الفاجعة.
فلقد غصت الأرض بأسراب الجراد البشري الزاحف (عسكريين ومدنيين)، يتحركون جميعاً كل إلى مأمنه لا يلوون على شيء، الضعيف يسقط وما من قوي يحمله أو يعينه على معاودة النهوض، وستشهد الأرض أمام باريها، عن هول ما قاسى الكثيرون من الناس (وخاصة المدنيون)، من جوع، وعطش، حتى اضطر الكثيرون ـ وخاصة الجنود ـ إلى الاقتيات بالأعشاب (أخضرها وجافها)، أو السطو على ما يصادفون من مزروعات تفادياً للموت في تلك المخمصة.
والدواب حملت ما خف من المتاع، وفوق كل كومة من ذاك المتاع، كنت ترى طفلاً أو أكثر، أو امرأة أو شيخاً وأفراد العائلة الآخرون، يمشون متهالكين خلف الدواب، والعيون قد تسمرت نحو هدف واحد، هو الوصول إلى دمشق أو إربد، أو إحدى القرى اللبنانية ـ أو درعا ـ.
إن الهول الذي صادفه (المنسحبون) الفارون، من كثرة الرؤى الفاجعة وأصوات، الأنين والاستغاثة والتنادي وعويل الثكالى والفاقدات أهلهن أو بكاء الأطفال الذين شردوا، وهاموا في الأرض لا أب يحنو، ولا أم تضم إلى صدرها ابنها ذا أو ذاك، والموج البشري يتتابع، وأرتال الجراد الزاحف تتلوى مع كل انحناءة أرض، أو نحو أي مصدر للطعام أو الماء، لتعب منه ثم تغذ السير حتى تصل إلى حيث تعتقد أنها نجت من الخطر.
إن هذا الهول الذي صادفه المنسحبون (الفارون)، قد أنساهم هول القصف الذي أنزلته على رؤوسهم طائرات العدو حين كانوا في مواقعهم.. وودوا لو يعودوا إليها، يحتمون بها ويردون عن الأرض أعداءها ولكن قد فات الأوان، ولم يبق أمامهم إلا الانسياح بين أمواج الفارين.. (حط رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس) .
نعم.. هكذا كان الانسحاب الذي نصر على تسميته بالهروب الكبير، أما الانسحاب المنظم (تحرفاً للقتال.. أو تحيزاً إلى فئة).. وكما تعلمناه وعلمناه الكثير من جنودنا وضباط الصف، الانسحاب، الذي نفهمه وتعلمناه على أنه حالة من حالات القتال.. لها أسسها وأساليبها وطرق حمايتها بالنيران والمناورة..
الانسحاب الذي نعلمه قتالاً منظماً مدروساً متتابعاً، يتم بضراوة وعنف يعرض لقوات العدو المتقدمة، ويحاول تأخيرها أو صدها عن متابعة التقدم، وينزل بها الخسائر كلما سنحت الفرصة لذلك، الانسحاب الذي نعلمه أسلوباً من أساليب المناورة والخداع، بغاية استعادة القوى وإعادة تجميعها والقذف بها مجدداً في وجه العدو الانسحاب الذي سبق أن مارسته جيوش محترمة، ونفذه قادة هم عباقرة الحرب.. أمثال خالد بن الوليد في تاريخنا القديم، وأمثال رومل في تاريخ العالم الحديث.
الانسحاب المشرف الشجاع.. الذي تمارسه القوات وهي في حالة معنوية ممتازة لا تقل عنها وهي مهاجمة أو مدافعة على خطوط الدفاع.
هذا الانسحاب.. لم تعرفه القوات السورية يوم عار حزيران، ولم تشهده الأرض السورية يوم مسرحية العار، بل كان الهروب الكبير والهزيمة الذليلة، والفرار الجبان، الذي دونه فرار الأرنب. كنت ترى خلاله موجات متلاحقة من الجند والسكان، تميل يمنة ويسرة من جوع ونصب ورعب، حتى ليخيل إليك من أن هؤلاء الناس ما هم إلا سكارى.. وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
6ـ ولقد كان القادة أول الفارين.. وأول من تبعتهم وحدات الدبابات (وخاصة اللواء السبعين، بقيادة العقيد عزت جديد) والكتائب التي يقودها كل من المقدم رئيس علواني والنقيب رفعت أسد .. التي تركت ساحة القتال وعادت إلى دمشق (لتحمي الثورة) والضباط الحزبيون على اختلاف رتبهم (الذين تركوا قواتهم وفروا إلى القيادة لحضور اجتماع حزبي هام) ! ثم انفرطت المسبحة على الشكل الذي بيناه.
(ك) ثم.. صدر البلاغ الكاذب، من إذاعة حزب البعث في دمشق (يوم السبت 10 حزيران، الساعة التاسعة والنصف صباحاً) يعلن سقوط القنيطرة بيد قوات العدو، ويحمل توقيع وزير الدفاع ـ اللواء حافظ الأسد ـ ويحمل الرقم 66. وكان هذا البيان، هو طلقة الخلاص .. سددتها يد مجرم إلى رأس كل مقاومة استمرت في وجه العدو رغم كل تلك المخازي، فانهارت القوى، واستسلمت المقاومات الفردية المعزولة، أو استشهد رجالنا.. وعلم الجميع أن لا أمل في متابعة القتال، لأن القيادة البعثية قد أنهت كل شيء، وسلمت للعدو الإسرائيلي مفاتيح أحصن وأمنع قطعة من أرض العرب، بل وتكاد تكون من أكثرها غنى ووفرة بالكنوز الدفينة من آثار ومعادن وخصب تراب، ووفرة مياه.
(ل) وقد يكون من المفيد أن نثبت في خلال سرد الوقائع هذا، تصريحاً لضابط لبناني، شهد المعركة يوم 9 حزيران، ورأى بأم عينه كيف اخترقت القوات الإسرائيلية تحصينات ومواقع القطاع الشمالي (قطاع بانياس) ففيه أضواء هامة على أبعاد النكبة.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن في هذه الرواية بعض الأخطاء، سنبينها بعد سرد الرواية كاملة، ونبين وجوه الصحة في الوقائع، مع ما يلزم من تعليق يأتي في حينه.
يقول الضابط اللبناني:
(بدأت أسراب الطائرات الإسرائيلية ـ وكان كل سرب مؤلفاً من أربع طائرات ـ تتدافع، سرباً أثر سرب، لضرب التحصينات السورية في (تل القاضي).
ومنطقة (تل القاضي) هي الجزء الوحيد من التحصينات السورية، التي لم تبن فيه المواقع الدفاعية بالأسمنت المسلح، لأن هذه المنطقة محصنة بشكل طبيعي، وتعتبر الصخور التي تحميها من أقسى وأقوى المواقع الجبلية في سورية.
ولم ندرك في البداية سر اختيار الإسرائيليين لهذه المنطقة بالذات، التي كانت الفكرة السائدة عنها أنها أصعب نقطة في التحصينات السورية.
واستمر ضرب الطيران الإسرائيلي للمنطقة بالقنابل والصواريخ حوالي الساعة، وعندما خف نشاط الطيران بدأ ضرب المدفعية.
ومع أن تحضير أرض المعركة من قبل المدفعية يستغرق عادة بين الأربع والست دقائق، نظراً للمصروف الباهظ بالذخيرة، الذي يحتاجه ضرب المدفعية، إلا أن الإسرائيليين استمروا في الضرب حوالي 15 دقيقة انتهت بتوجيه كمية من قنابل الدخان الكثيف، دليلاً على بدء المعركة الفعلية على الأرض.
وفي الساعة العاشرة، تحرك لواء مدرع من جرافات البلدوزر الضخمة ـ وهي آليات مدرعة ولها جنزير، وبرج لحماية السدنة فيها ـ وأخذت توجه جرافاتها المسنونة إلى الكتل الصخرية التي تحمي تحصينات موقع (تل القاضي) والتي كانت التقديرات العسكرية تؤكد استحالة اختراقها من قبل أسلحة الدروع.
ووقع ما لم يكن بالحسبان، واستطاعت مدرعات البلدوزر اختراق الصخور، وبعد ذلك أخلت الطريق للدبابات الإسرائيلية التي أخذت تتسلق الطريق في محاولة لتطويق التحصينات السورية وضربها من الخلف. وكانت كل دبابة مزودة بسيارتين مصفحتين، إحداهما للذخيرة والثانية للوقود.
وكان في برج المراقبة المشترك على الحدود السورية ـ اللبنانية ضابط سوري، كان المفروض أن يتصل بمقر قيادة الجيش السوري على الجبهة ليحيطها علماً بأخبار محاولة اختراق الجبهة بمدرعات البلدوزر وتعيين زوايا تحرك الدبابات الإسرائيلية بواسطة المنظار المكبر، لتتمكن المدفعية السورية من توجيه ضربات قاتلة إليها..
ولكن سرعان ما تبين أن الضابط السوري لم يكن يعرف لا استعمال المنظار المكبر ولا تعيين زوايا تحرك الدبابات وإبلاغها إلى سلاح المدفعية.
لقد كان الضابط السوري وطنياً مندفعاً، ومن أشد المتحمسين للنظام القائم، ولكنه كان معلم مدرسة، لم تمض عليه أكثر من ستة أشهر في الجيش وبالتالي لم تكن لديه أية مبادهة عسكرية، أو معرفة في القتال.
ومع ذلك، فلم يكن لذلك أية أهمية، لأن المعركة في الأساس لم تكن معلقة على مقدرة ضابط برج المراقبة بقدر ما كانت متوقعة على مقدرة القيادة السورية على الجبهة، للقيام بهجوم مضاد يقوم به اللواء المدرع الذي لم يصب ـ وهو في تحصيناته ـ بالقذف الجوي. وذلك في الوقت الذي تكون فيه المدرعات الإسرائيلية قد وصلت إلى رأس (تل القاضي) أي في اللحظة التي تعتبر منتهى الإرهاق بالنسبة للمهاجم.
في تلك الدقائق الحاسمة، أخذت الدبابات السورية تخرج من تحصيناتها.. ولكن المفاجأة التي أذهلتنا أن هذه الدبابات بدلاً من القيام بهجوم معاكس مضمون النتائج، اتجهت نحو القنيطرة.
لماذا ؟.. ما هي الحكمة ؟..
إلى الآن، لم أستطع أن أعرف، وبالتالي أن أفهم، ولاسيما أن القنيطرة سقطت بعد ذلك بدون قتال، وبإعلان مسبق بالإذاعة...
وقد وقع أثناء انسحاب اللواء المدرع السوري حادث طارئ، كشف عن مدى الخسائر التي كان يمكن إلحاقها بالمدرعات الإسرائيلية لو قامت الدبابات السورية بالهجوم المعاكس.
لقد تعطلت إحدى الدبابات بالصدفة، بعد تعطل جنزيرها، وكانت هذه الدبابة في أواخر الرتل السوري المنسحب، ولم يكن أمام قائد الدبابة إلا أن يحارب، فأدار مدفعه إلى الخلف، واستطاع عن مكانه، وخلال دقائق معدودة، أن يدمر ست دبابات، ويوقف تقدم الإسرائيليين.
واستنجد العدو بالطائرات، فدمرت الدبابة السورية الشجاعة بصاروخ جوي، ولولا ذلك لاستطاعت تدمير 15 دبابة إسرائيلية على الأقل، قبل أن تصاب وتحترق .
تصويب وشرح:
(أ) إن أول ما يجب لفت النظر إليه وتصويبه، هو أن (التل) الذي يتحدث عنه الضابط اللبناني، ليس (تل القاضي)، لأن هذا التل هو بيد السلطات الإسرائيلية، ويقع ضمن الأرض المحتلة منذ عام 1949، ويشرف على مستعمرة دان، وعليه نفسه تقوم إحدى المستعمرات، ومن سفحه الجنوبي الغربي، تنبع مجموعة ينابيع تشكل نهر (اللداني) وهو أكبر الروافد الرئيسية التي تشكل في مجموعها نهر الأردن ويبلغ تصريفه السنوي من المياه 258 مليون م3.
ولكن التل المقصود حقيقة في رواية الضابط اللبناني، هو ما يلي:
أولاً: هضبة المغاوير، وهي هضبة ذات جرف صخري وعر جداً، ولم يكن في تقدير أية قيادة احتمال اخترقاها من قبل الآليات المعادية، ورغم ذلك ، فقد زرع فيها حقل ألغام استراتيجي مختلط (مضاد للأشخاص ومضاد للآليات، وبعض ألغامه مفخخة).
وثانياً: تل العزيزات، وهو من أمنع وأحصن المواقع الدفاعية السورية طبيعة وإعداداً، ولكن القيادة البعثية أخلته من قواته لتشترك مع وحدات أخرى في الهجوم (التمثيلية) على شرياشوف .
(ب) يقول الضابط اللبناني أن الطائرات الإسرائيلية كانت تغير على المواقع السورية في تشكيلات مؤلفة من أسراب يضم كل سرب أربع طائرات. والصواب أن تشكيلة الأربع طائرات تسمى (رفاً) وليس سرباً، ويضم السرب عدداً من (الرفوف) يتراوح بين (3 ـ 5).
(ج) ليس غريباً أن تلجأ القوات الإسرائيلية إلى القيام بأعمال وحركات غير مألوفة في القتال الكلاسيكي، ومن ابرز الأعمال (غير المألوفة) في قتال القوات الإسرائيلية ضدنا، رحلتها صباح 5 حزيران لضرب الطيران المصري، فقد تميزت هذه الرحلة بأمور عديدة أهمها:
أولاً: انطلاق الطائرات من على الأوتوستراد وليس من على مهابط المطارات.
ثانياً: قطع الرحلة كلها تقريباً على ارتفاع منخفض، وعلى سطح البحر، تفادياً لخطر كشف أمرها من قبل أجهزة الرادار.
ثالثاً: تجاوز الطائرات الإسرائيلية حدود مصر، نحو الغرب، ثم انكفاؤها لتهاجم الطائرات الجاثمة على أرض المطارات مثل مجموعات الأوز السمين.
وقد اعترف بهذا الرئيس جمال عبد الناصر نفسه في خطابه التاريخي يوم الجمعة 9 حزيران، فقال: (كنا نتوقع مجيء الطائرات من الشرق، فجاءتنا من الغرب).
والعدو يهدف في عمله الذي قام فيه بقصف هضبة المغاوير (الخالية من القوات) إلى أمور هامة جداً:
أولاً: إيهام المراقبين السوريين بجهله وخطأ معلوماته عن قواتنا ومواقعنا حين يرى الرصاد والقادة، أن القصف مركز على أرض خلو من القوات والتحصينات.
ثانياً: إحداث المفاجأة وهو يعتمد كثيراً على مبدأ المفاجأة في عملياته.
ثالثاً: إيقاع القادة السوريين في حيرة مما يرون، والحيرة هذه كفيلة مع ما يرافق العملية من قصف ونيران شديدة مركز، بشل تفكير القادة فترة من الزمن، تجعلهم عاجزين عن اتخاذ قرار معين حاسم، ويفيد هو من هذه الحيرة فيعمل بحرية على تحقيق خطته.
رابعاً: تفادي خطر الصدام مع الأسلحة المضادة للآليات، فيما لو هاجم في اتجاه مواقع مشغولة بالقوات، وخاصة أن المواقع الأمامية ـ مثل تل العزيزات ـ مزودة بأسلحة فعالة، من بينها بعض دبابات البانزر، وهي ذات مدفع يتمتع بفاعلية هائلة ضد الدبابات.
ولكن.. ما حيلة هذه الأمة المنكوبة بقيادة من أمثال ـ الضابط السوري القابع في برج المراقبة المشترك ـ جهلة وعديمي الخبرة، إن لم نقل إن من بينهم خونه من أمثال أحمد المير، وسويداني وباقي السلسلة من الحزبيين ؟!
(د) سبق للقوات الإسرائيلية أن استخدمت الجرافات (البلدوزر) في عملياتها ضد قواتنا، وكان من أبرز الوقائع التي قدم فيها العدو مثل هذه الجرافات (معركة تل النيرب عام 1962)، ولكن ما حيلتنا مع جيش غر، سرح حزب البعث جميع قادته وضباطه القدامى المخلصين، أصحاب التجارب والخبرات، والمعرفة الدقيقة بأساليب قتال العدو، تمهيداً ليوم هزيمة متفق عليها.. ؟!
(هـ) لم يكن في المنطقة المقصودة من شرح الضابط اللبناني، لواء مدرع، لأن طبيعة الأرض لا تتسع لقتال لواء مدرع ـ مع القوات الأخرى ولكن لعل الدبابات المعنية، والتي قامت بالانسحاب في لحظة الحاجة إليها هي إحدى كتائب الدبابات التي ألحقتها قيادة حزب البعث على القطاع الشمالي أو هي كتيبته الأصلية..؟ وفي أية حالة، ينكشف لنا هنا موقف من أخطر مواقف الخيانة التي ارتكبها القادة البعثيون، إذ انهزموا مع دباباتهم ـ من وجه القوات الغازية، متحركين باتجاه دمشق، بغية (حماية الثورة) كما أعلن قادتها، المقدم (رئيف علواني).
وفي هذا.. يكمن تفسير التساؤل الذي يطلقه الضابط اللبناني الذي يشرح المعركة.. فالدبابات والأسلحة الفعالة في جيوش الدولة الثورية هي لحماية (المكاسب الاشتراكية، ومسيرة الثورات في صراع الطبقات) وليس للاستخدام في وجه قوات الغزو الإسرائيلية، أو لحماية حدود البلاد وترابها الكريم من أن تدنسه أقدام الغزاة.
وهذا ليس من عندياتنا.. وإنما هو سياسية الاتحاد السوفياتي الذي يزود الدول الثورية بهذه الأسلحة، وسياسة هذه الدول نفسها.
لنقرأ معاً، ونتمعن:
(... ونحن واثقون من صدق التأكيدات السوفييتية الرسمية لحكومة إسرائيل التي تقول بأنه ليس في علاقات الاتحاد السوفييتي مع مصر، أو غيرها من الدول العربية الأخرى في مسألة بيع السلاح وتقديم القروض المالية والتعاون العقائدي ما يؤذي إسرائيل في المرحلة النهائية...) .
(... نحن مستعدون لحظر السلاح عن المنطقة العربية، لكن حركات التحرر اليسارية في العالم العربي، تحتاج إلى السلاح لتكافح الرجعية العربية، وتقضي عليها وعلى من يساعدها من قوى الاستعمار).
(وأن القضاء على الرجعية العربية سيزيل خطر العدوان العربي على إسرائيل) .
(م) ورواية أخرى، أتت على وصف موجز لسقوط الجولان، نشرتها صحيفة النهار، في عدد خاص بالحرب اسمه (النكسة)، لا بد لنا من ذكرها في هذا الكتاب، وإعطائها ما تستحق من شرح أو تعليق أو تصحيح .
تقول النهار:
(... لم تبدأ سورية الحرب إلا صباح 6/6/1967، رغم أن سورية هي سبب الحرب، وهي الداعية إليها).
(... الهجمات السورية اقتصرت على (دان، تل دان، شرياشوف) ، ولم تخرج القوات الإسرائيلية للرد بسبب انشغالها بالقتال على باقي الجبهات).
(... وتلخص خطة الهجوم السورية، كما يلي:
1ـ جعل الهجوم على مستعمرة مشمارهايردين هدفاً رئيسياً تنتقل منه وحدة سورية إلى ضرب حيفا في الغرب بينما تتمكن وحدة أخرى من التوغل باتجاه الناصرة.
2ـ التقدم نحو تل القصر في الطرف الجنوبي من بحيرة طبريا عن طريق وادي الأردن ثم الالتفاف إلى الجهة الشمالية الشرقية نحو العفولة.
3ـ دخول الأراضي اللبنانية ومهاجمة المواقع الإسرائيلية منها...)
(... ولم يدخل الإسرائيليون المعارك الفعلية ضد سورية إلا يوم الخميس 8 ـ6 حيث تفرغوا لجبهتها، ورغم أن السوريين كانوا يتعرضون لغارات جوية مستمرة، وأن طائراتهم تغير على مدينة ناتانيا الساحلية والمدن الإسرائيلية الأخرى، وأن مدافعهم المضادة أسقطت عدداً كبيراً من الطائرات الإسرائيلية، رغم هذا كله لا يمكن الحديث عن معارك فعلية قبل يوم الخميس.
ويصف قائد الطيران الإسرائيلي، الهجوم على المواقع السورية بقوله: (استعملنا مع سورية قنابل موقوتة بحيث تنفجر مباشرة فوق قواعد المدفعية المضادة للطائرات).
(... وحفلت الحرب بكثير من الأخبار المضللة، ففيما الطائرات الإسرائيلية تغير على الجبهة السورية وتلقي فوقها قنابل النابالم المحرقة، كانت القوات الإسرائيلية تستمع عبر الترانزيستور إلى أنباء القصف السورية للمستعمرات..)
(... ويقال أن سورية وضعت في الجبهة 3 ألوية عادية (11،8،19) ، كما وضعت في المؤخرة لواءي مشاة: (التسعين إلى شمالي القنيطرة، واللواء الثاني والثلاثين إلى الجنوب منها. ومع كل منها فرقة دبابات ت 34، وس يو 100، إلى جانب حوالي 30 دبابة عادية... ).
(... وعند ظهر الجمعة، شن الإسرائيليون هجوماً شاملاً على المواقع السورية فوق كفر زولد ، وهي أضعف النقاط في الجبهة السورية المنيعة التحصين، وأرسلت وحدة أيضاً إلى عين فيت والزورة وسارت الجرارات في المقدمة فاتحة طريقاً للمدرعات والآليات عبر المرتفعات.
وفجأة وجدت نفسها عرضة لنيران مدافع المدرعات السورية، التي كانت جاثمة في الخنادق لا يظهر منها غير المدافع ، وقد ألحقت بالقوات الإسرائيلية خسائر جسيمة اضطرتها إلى الانحدار حيث كانت.
وكرر القائد الإسرائيلي المحاولة على غير طائل، عندئذ، لم يجد مخرجاً للخطة غير تعطيل مدفعية الدبابات فأرسل وحدة من رجاله تسلقت المرتفعات، وألقت قنابل يدوية داخل الدبابات، فقتلت من فيها ، وبعد ما أمن خطر الدبابات ومدافعها، أمر (لعازر) الجرارات باستئناف فتح الطريق، تحت النار السورية المعقولة، ثم وجه فرقة مشاة إلى منطقة تل العزيزيات حيث دارت معارك بالسلاح الأبيض: بالقبضات والسكاكين والأسنان وأعقاب البنادق، واستمرت هذه حتى سقطت المواقع في تلك الناحية .

وبدل أن تقصف المدفعية السورية، القوات الإسرائيلية المهاجمة، تابعت ضرب المستعمرات وإضرام النار فيها .
وليل الجمعة ، توغل الإسرائيليون داخل الأراضي السورية في الجنوب، ووصلوا إلى راوية (قطاع واسط)، تدعيماً لتقدمهم، وفي خلال الليل، جمع لعازر قواته، ولما طلع الصباح، طلب تغطية جوية لتنفيذ المرحلة الثانية من الخطة، أي السير نحو القنيطرة، بعدما نفذت المرحلة الأولى بتسلق المرتفعات واحتلالها.
وعند الفجر، دخلت وحدة مدرعة إسرائيلية جديدة المعركة، فأخذت طريق تل تمرا ، داعمة فرقة الجولان لاحتلال مدينة بانياس .
والساعة الأولى من بعد ظهر السبت، طوقت القوات الإسرائيلية مدنية القنيطرة، فقاومهم سكانها ، وظلوا حتى سقوط المدينة، الساعة الثانية والنصف (بعد ساعة ونصف الساعة).
وسلم من القوات السورية على الجبهة ما يقارب لواءين، واحد مدرع وآخر آلي، انسحبا إلى دمشق من أجل تعزيز الدفاع عنها.
وقالت السلطات الإسرائيلية، إنها فقدت في الجبهة مع سورية (115) قتيلاً، وأصيب 306 بجراح. وصباح السبت الباكر، دخلت الأراضي السورية وحدات من المشاة الإسرائيليين، بقيادة الجنرال (ألاد بليد)، من الطرف الجنوبي لبحيرة طبريا، متسلقة مرتفعات التوافيق، كما دخلت وحدة مدرعة عبر وادي اليرموك ، بينما حلقت طائرات هليكوبتر فوق منطقة الجبهة، وأنزلت مظليين قاموا بمهاجمة السوريين من الخلف ، وقطعوا عليهم خطوط التموين.
ثم دخلت وحدة عن طريق ديرباشية ، والتقت رجال بليد في البطمية .



توضيحات هامة:
(أ) إن هذه الرواية الموجزة جداً، والمترجمة ـ كما قالت النهار ـ عن مجموعة صحف نشرت في العالم الغربي، تؤكد لنا أموراً هامة نوجزها فيما يلي:
1ـ كذب خطة الهجوم التي اخترعتها القيادة البعثية، واتخاذها حجة وذريعة لسحب القوات المدافعة التي كانت تتمركز في المواقع الدفاعية والتي كانت قادرة فعلاً على إجراء القتال الدفاعي بشكل فعال، كان قادراً على إعطاء نتائج ـ لو تم فعلاً ـ هي أفضل من النتائج التي نراها اليوم والتي تشكل في مجموعها جزءاً هاماً جداً من نكبة الأمة.
ولو كانت القيادة صادقة في خطتها، فلماذا لم تنفذ تلك الخطة ؟
إن المصادر الإسرائيلية وكذلك البلاغات السورية الصادرة بصورة رسمية، تؤكد أن الهجمات السورية لم تستهدف أكثر من جزء صغير جداً من الأرض المحتلة، هو مثلث (دان، تل القاضي، شرياشوف)، بينما كانت الخطة الهجومية الموضوعة تستهدف الوصول إلى حيفا، أي ما يمكن أن يسمى فعلاً احتلال إسرائيل وتدميرها.
إننا نستطيع أن نؤكد أن تلك الخطة الهجومية لم تكن سوى مبرر ظاهري لأمر يحمل معنى واحد، هو التواطؤ لإخلاء المنطقة الدفاعية من القوات.. ونحن كنا نستطيع أن نصدق أن القيادة كانت صادقة في خططها الهجومية، لو أنها نفذت تلك الخطط.. وسواء عندنا أخفق الهجوم أم نجح ولكن المهم أن ينفذ، ولا يضير الجيش السوري بعده أن يخفق هجومه، لأن كثيراً من جيوش العالم تنجح أو تخفق في هجماتها (الكبيرة والصغيرة). ولكنها على كل حال، تنفذ الهجوم الذي تخطط له.
وإن الذي يؤكد للقارئ ما نذهب إليه، هو أن شيئاً مماثلاً لهذا الذي نطلبه من القيادة السورية، قد حدث فعلاً على الأرض، وفي خلال حزيران بالذات، ونقصد به هجوم اللواء الستين المدرع الأردني باتجاه الخليل ـ بئر السبع، لتطويق تجمعات الدبابات الإسرائيلية وتحقيق الاتصال مع القوات المصرية على مشارف المواقع الأمامية بين إسرائيل ومصر.
صحيح أن الهجوم لم ينجح، ولأسباب عسكرية محضة ولكنه نفذ فعلاً.. وأثبتت القيادة الأردنية صدق دعواها، في تخطيط الهجوم على الأرض الإسرائيلية، ولكن القيادة السورية لم تثبت ذلك.. بل اكتفت بأعمال تمثيلية، رافقها مصورو التلفزيون.. من أجل المزايدة على حساب الأنظمة العربية الأخرى، وبالتالي المزايدة على مصير الأمة بأكملها.
2ـ ومما يؤكد أن الموضوع كان تمثيلية، هو أن الخطة الهجومية السورية قد وضعت في حسابها دخول جزء من القوات السورية، إلى الأرض اللبنانية، والانطلاق منها لمهاجمة الأرض المحتلة في الجليل الأعلى، ولو كانت الخطة صحيحة، وهناك عزم جاد على تنفيذها، فهل نسي القادة السوريون أن دخول قسم من قواتهم إلى الأرض اللبنانية، سيثير مشاكل دولية هم غير قادرين على مجابهتها ؟ أم أن اللواء سويداني كان يعتبر نفسه فوهرر ألمانيا، حتى يعبر للهجوم على إسرائيل أرض دولة أخرى بصورة مفاجئة.. ؟! ألا يشكل هذا في عرف القانون الدولي الذي يؤمن به القادة البعثيون، إعلاناً للحرب على دولة شقيقة مجاورة ؟ وهل كان اللواء السويداني.. ومن خططوا له خطة الهجوم تلك، قادرين على مجابهة الوضع الخطير الذي سينشأ ـ لو تم هذا العمل ـ ومضاعفاته ؟!
كل هذا يؤكد أن خطة الهجوم لم تكن إلا مسرحية لتبرير سحب القوات المدافعة من مواقعها.. !
3ـ لقد ثبت لدينا أن سورية لم تمارس العمل الحربي ضد إسرائيل، إلا بعد مرور 22 ساعة على بدء الحرب فعلاً بين العرب وإسرائيل.. وهذه الـ 22 ساعة كانت حاسمة فعلاً في تاريخ هذه الأمة، فلماذا لم تبادر القوات السورية مباشرة إلى بدء الهجوم الكاسح ضد شمال إسرائيل فتخفف الضغط على جبهة سيناء، وجبهة الأردن ؟!
أوليست سورية هي الداعية إلى الحرب ؟
فكيف يصح لدولة تدعو إلى الحرب، وتسبب بدعوتها تلك اندلاع الحرب فعلاً.. فكيف يصح أن تتأخر 22 ساعة عن دخولها بصورة فعلية، إن كانت جادة في دعواها ؟!
قد يقول قائل: إنه لو قامت القوات السورية بالهجوم، لتم تدميرها كلها على الأرض الإسرائيلية. حسناً.. ولكن القوات السورية دمرت وشردت فعلاً.. ولكن على الأرض السورية، وليس على الأرض المحتلة.
ومادام التدمير قد حصل.. ألم يكن أجدى من الناحية المعنوية.. بل وحتى من الناحية العسكرية، أن يتم التدمير ذاك للقوات وهي في هجوم فعلي ضد العدو، بدل أن يتم التدمير، خلال هروب جبان ذليل ؟
4ـ وتثبت هذه الرواية للقارئ، صحة ما أثبتناه، من أن الوثائق والخرائط قد تركت سليمة، واستولى عليها العدو، ولو أن العدو لم يتمكن من الاستيلاء عليها، فمن أين له أن يزود الكتاب والصحفيين الغربيين الموالين بتفاصيل خطة الهجوم السورية، وأسماء الألوية التي حشدتها القيادة، وأنواع كتائب الدبابات وتسليحها، والقانصات.. وإلخ من تلك المعلومات ؟!
(ب) ومن هذه الرواية، وكل الروايات التي قيلت عن الحرب، ومن المعلومات التي حصلت عليها من الذين اطلعوا على حقيقة الأحداث، ومن منطوق البلاغات العسكرية السورية التي صدرت خلال فترة الحرب يتبين لنا ما يلي:
1ـ إن القوات السورية الأساسية، لم تقاتل، وإن كل ما برز في وجه الغزاة والأعداء، لم يخرج عن كونها مقاومة بطولية من عسكريين، عز عليهم أن يروا أقدام الغزاة تدنس أرضهم، فمارسوا رجولتهم، وحققوا بطولاتهم المعجزة، التي جعلت العدو يعترف بعجزه عن مجابهتها، فاضطر لإخمادها بالكثافة النارية الهائلة، من الطيران والمدفعية ونيران الدبابات.. وما حيلة الأبطال القلائل في وجه جموع زاحفة وإمكانيات نارية مخيفة، خلا الجو لها، فصبت كل حقدها على الأسود الذي وقفوا بعزة ورجولة لحماية الأرض ؟
2ـ وقد ثبت حتى الآن أيضاً، أن أول ما تمكنت القوات الغازية من اختراق الدفاع السوري، كان في قطاع واسط، ثم القطاع الشمالي.. ثم الأعمال السريعة التي نفذتها القوات العدوة لإجراء الالتفاف، وحتى التطويق ضد المقاومات التي اعترضتها، وهذا ما توقعه القادة المتعاقبون على الجبهة.. وما حسب له الخبراء الذين كان لهم دور في رسم خطة تحصينها وأسلوب قتالها، ولكن المرسوم لم ينفذ، فلم يبق أمام قوات الغزو إلا أن تتقدم، مستفيدة من كل الفرص التي سنحت لها. وهي والله فرص تاريخية نادرة في تاريخ الحروب.. !
3ـ اعتمدت القوات الإسرائيلية (وخاصة وحدات الدبابات) اعتماداً كبيراً على الجرارات، (البلدوزر) لفتح الطرق في أرض وعرة عديمة الطرق تقريباً، وهذا أمر منطقي، وطبيعي يلجأ العدو لمثل هذا الأسلوب ولكن هذا الأسلوب هو بحد ذاته يشكل نقطة ضعف كان في وسع المدافعين أن يستفيدوا منها، لو أن القوات صمدت حقاً، وقاتلت كما كان عليها أن تقاتل.
فالجرارات هذه، هي في الحقيقة تشكل هدفاً (لذيذاً) لنيران المدفعية، والمدفعية م ـ د، وحتى لرشاشات المشاة، وذلك لأن هذه الجرارات، عديمة التصفيح أو ضعيفته ولو أن القوات كانت واعية لتحركات العدو، لكان بإمكانها تدمير الجرارات، فتشكل هذه عقبات كبيرة في وجه الدبابات التي تتحرك وراءها، وبذلك كان يمكن إحباط هذه المحاولة التي نفذها العدو وهو يعتقد أنه حقق عملاً (ذكياً).. وكان يمكن بعد ذلك، تركيز نيران المدفعية وحتى الهجمات المعاكسة على دبابات العدو، وتكون مجزرة له.
ولكن.. يا حسرتا على ما فرط الجيش في حق بلاده التي ائتمنته فما كان للأمانة أهلا.. !
(ج) الملاحظ أن كل الروايات التي صدرت من القادة الإسرائيليين، أو التي سردها صحفيون أجانب قالوا إنهم رأوا الحرب.. أن روح الغطرسة والعجرفة التي تفوح من كل أقوالهم.. وغايتهم في ذلك ادعاء ( الشجاعة والذكاء) في الجيش العدو وقادته.
وهذا أمر طبيعي أن يصدر من عدو حصل على نتائج مذهلة بأقل ما يمكن من التضحيات.. وبفضل العون الأجنبي والتآمر.
ولكن غير الطبيعي.. والمرفوض رفضاً مطلقاً، أن لا يتصدى العسكريون العرب، والكتاب العرب، لتفنيد تلك المزاعم، وتحطيم تلك الحرب النفسية ضد شعوبنا، والمغلوبة على أمرها.
إن من واجب حملة الأقلام، وأصحاب الخبرات، أن يتصدوا لتلك التبجحات، ويكشفوا زيفها، فإن ترك العدو يمارس تلك الكبرياء في ادعاءاته، لهو والله تقصير في الواجب الذي على مفكري هذه الأمة أن يقوموا به، وإن هذا التقصير أن استمر أكثر من هذا، فهو قد يبلغ حدود الصمت المتواطئ، فهلا تحرك المفكرون المخلصون لممارسة هذا العبء الكبير !!
(م) وفي نهاية هذا الشرح المفصل للأحداث، أرى من الضرورة أن أضع أمام القارئ، صورة لتسلسل الحوادث والتصريحات والأقوال، كما جاءت على لسان أصحابها أو كما نشرت، وفي تواريخها حسب التسلسل اليومي للأيام العصيبة، فلعل ذلك يفيد في المقارنة بين الأقوال والتبجحات والتهويشات التي ملأنا سمع الدنيا بها، وبين حقيقة الأفعال التي صدرت منا، فجعلتنا في عيون العالم، أذلاء مهانين.











*** فترة التوتر التي سبقت الحرب:
الجمعة 12/5/1967:
كان هذا اليوم بداية التطور الحقيقي في تسارع الحوادث نحو الحرب، ونقطة الانعطاف الخطرة، للأحداث نحو الاتجاه المحتوم الذي سارت فيه باتجاه الحرب.
ففي هذا اليوم، أعلنت وكالة (يونايتد برس) للأنباء، أن مصدراً إسرائيلياً رفيعاً قال:
(إنه إذا ما استمرت سورية في دعم عمليات التخريب داخل إسرائيل فإن ذلك سيستتبع بالضرورة بعمل عسكري لقلب نظام الحكم في سورية).
وأعلنت وكالة (أسوشيتد برس)، أن مصدراً عسكرياً إسرائيلياً هدد باستعمال القوة ضد سورية لوقف غارات الفدائيين المنطلقة من سورية، وقال:
(إن أمام إسرائيل عدداً من الاحتمالات يتراوح بين شن حرب عصابات على سورية، وبين غزو سورية واحتلال دمشق).
السبت 13/5/1967:
ناطق رسمي في وزارة الخارجية السورية، صرح بأن الوزارة استدعت ممثل الدول الأعضاء لدى مجلس الأمن الدولي في الجمهورية العربية السورية، وأوضحت لهم (المؤامرة التي تحيكها الدوائر الاستعمارية والصهيونية ضد القطر العربي السوري).
وأوضحت لهم الأمور التالية:
1ـ أن التهديدات الإسرائيلية المتعاقبة (ليست إلا تحضيراً جديداً للرأي العام الدولي من أجل تغطية العدوان الصهيوني المقبل وعملاً استفزازياً ضد سورية).
2ـ إن محاولة إسرائيل (استغلال المنظمات الدولية لستر عدوانها المقبل، ستبوء بالفشل الأكيد، لأننا أبلغنا سفراءنا في جميع الدول وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها حقيقة موقف إسرائيل كأداة بيد الاستعمار، وكوجود يقوم على الاغتصاب والغزو، ويتمرد على جميع قرارات المنظمة الدولية).
3ـ (حجة إسرائيل بأعمال الفدائيين الفلسطينيين وتحميل مسئولية ذلك للجمهورية العربية السورية أمر مرفوض دولياً) لأن الشعب الفلسطيني يرفض الوصاية.
4ـ (إن الانطلاق من النضال العربي الفلسطيني للعدوان على سورية، لا يمكن أن يخفي المؤامرة الاستعمارية الصهيونية الرجعية، التي ترتكز على عدوان إسرائيلي كبير يتذرع بمختلف الحجج الواهية، يتلوه عدوان من مرتزقة وعملاء المخابرات في الأردن.. مع تحركات الرجعية وفلول العملاء المتضررين بالثورة، كل ذلك بحراسة الإمبريالية العالمية وتخطيطها..)
5ـ (إن التهديد الوقح بالقيام بعمليات عسكرية واسعة، وبخوض الحرب ضد سورية لن يرهب أحداً)، لأنه (لن يسقط النظام الثوري في سورية، بل سيزيده مناعة وقوة، وسيسقط الأنظمة الرجعية العميلة، ويحرك الجماهير العربية في ثورة عارمة).
6ـ (إن الأعمال العدائية الموجهة ضد سورية تهدف فيما تهدف إلى صرف الأنظار عما يجري في عدن والجنوب العربي، وتخفيف ضغط الحرب الشعبية على الاستعمار والرجعية) ولكن ذلك كله سيفشل.
7ـ إن الجمهورية العربية السورية (تحمل إسرائيل وحماتها مسئولية ما سيحدث في المنطقة وأنها تؤكد استعداد الحكومة والشعب لمواجهة أي عدوان.. وستوضع اتفاقات الدفاع المشترك موضع التنفيذ، كما أن العدوان سيجابه بحرب التحرير الشعبية التي ستخوضها كل الجماهير العربية).
وفي اليوم نفسه، صرح ليفي أشكول، رئيس الحكومة الإسرائيلية، في خلال كلمة ألقاها من الإذاعة الإسرائيلية بمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لإقامة الدولة.
(.. أنه من الواضح أن سورية هي مركز الأعمال التخريبية، غير أن إسرائيل تحتفظ لنفسها باختيار المكان والزمان والوسائل اللازمة للرد على المعتدي).
وقام وفد عمالي سوري برئاسة خالد الجندي رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال السورية، بزيارة الجبهة السورية (الجولان)، فألقى العقيد أحمد المير قائد الجبهة يومذاك، خطاباً في الوفد جاء فيه: (أن معنويات جنوده عالية)، و(أن هذه المعنويات مستمدة من إيمانهم بشعبهم الكادح) وحذر من أن الاستعمار (قد يجتاح سورية) ودعا في هذه الحالة إلى (شن حرب عصابات عليه في داخل سورية وخارجها) على اعتبار أن (المشكلات مع الاستعمار لا تحل إلا بالحرب الشعبية). قائد الجبهة أكد أن الطيران له تأثير معنوي أكثر من تأثيره المادي إلا أنه أهاب بالمواطنين أن يتخذوا كافة الإجراءات الواقية منه.
الأحد 14/5/1967:
ـ ناطق رسمي سوري أدلى بتصريح قال فيه: أن الفريق أول محمد فوزي رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة في ج . ع . م عقد فور وصوله إلى دمشق عدداً من الاجتماعات مع كل من اللواء حافظ أسد وزير الدفاع السوي، واللواء أحمد سويداني رئيس أركان الجيش السوري. وأضاف الناطق (.. أن كل من ج. ع. م وسورية تواجهان بجد واجبهما القومي التاريخي إزاء قضية فلسطين خاصة وقضية الشعب العربي عامة).
ـ الميجر جنرال إسحق رابين، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، قال في مقالة نشرت في تل أبيب اليوم:
(إن إسرائيل تعلم جيداً أن سورية تقف وراء نشاط التخريب).
وأضاف يقول: (إن أي عمل تقوم بها إسرائيل ضد سورية سيكون مختلفاً عن أية أعمال انتقامية قامت بها القوات الإسرائيلية في الماضي، ذلك لأن المشكلة مع سورية مختلفة لأن السلطات هي التي تقوم بدعم نشاط المخربين وبالتالي فإن هدف القيام بعملية ضد سورية سيكون مختلفاً).
ـ الأنباء الواردة من الأرض المحتلة ذكرت أن تحشدات عسكرية وتحركات غير طبيعية بدأت تظهر على الحدود السورية الإسرائيلية.
الاثنين 15/5/1967
ـ الدكتور جورج طعمة، مندوب سورية لدى الأمم المتحدة، بعث برسالة إلى رئيس مجلس الأمن لهذا الشهر، لفت فيها أنظار المجلس إلى الوضع (القابل للانفجار).. وحذر من (سويس ثانية).. وأنحى باللائمة على وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (لإعدادها وتمويلها مؤامرة لإسقاط نظام الحكم في سورية). وقال: (إن من المستحيل على سورية السيطرة على نشاط هؤلاء الإرهابيين ـ يقصد الفدائيين ـ أو حماية خط الهدنة الذي يمتد على حدود عدة دول).
ـ غالب كيالي القائم بأعمال السفارة السورية في واشنطن، صرح بعد اجتماع تم بينه وبين مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدنى (لوشيوس باتل) قال فيه: (إن باتل قرأ أمامه مذكرة تعبر عن قلق حكومة الولايات المتحدة إزاء الحالة على خطوط الهدنة) وأضاف كيالي يقول: (إنني أبلغت مساعد وزير الخارجية الأمريكية أن سورية تتوقع عدواناً صهيونياً قريباً، وتعتقد أن هذا العدوان يحظى بتأييد الولايات المتحدة.. وقد أبلغته أيضاً أن سورية لا تستطيع منع شعب فلسطين من مواصلة كفاحه من أجل استعادة وطنه المغتصب) وأعلن كيالي أن سورية سترد على أي عدوان صهيوني بكل ما تملك من قوة، وقال: (إن أحداً لا يستطيع أن يحدد منع الانفجار أو أن يمنع اشتعال منطقة الشرق الأوسط بأسرها) في حال تجدد القتال بين سورية وإسرائيل.
ـ الوكالة السورية للأنباء، أوردت نبأ يفيد أن هناك تنسيقاً كاملاً بين المخابرات الأردنية والمخابرات الإسرائيلية لقمع أعمال الفدائيين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، وأضاف الوكالة تقول أن رجال المخابرات الإسرائيلية وحرس الحدود الإسرائيلي تسلموا بطاقات خاصة تخولهم دخول الأراضي الأردنية لمسافة ثلاثة كيلومترات بتتبع الفدائيين، وبالمقابل تسلم رجال المخابرات الأردنية بطاقات إسرائيلية مماثلة تخولهم دخول الأرض المحتلة لمسافة ثلاثة كيلومترات للغرض نفسه.
ـ جريدة المحرر البيروتية، نشرت تصريحاً أدلى به وزير الإعلام السوري محمد الزعبي جاء فيه: (.. أن المعركة ليست قطرية، وإنما هي معركة الشعب كله، وستجعل هذه المعركة لقاء القوى القومية والتقدمية أمراً محتماً ولا بد أن تعجل هذه اللقاءات في الوحدة).
الدكتور عدنان الباجه جي استدعى سفراء بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي والقائم بأعمال السفارة الأمريكية في بغداد، وبحث معهم الحشود والتهديدات الإسرائيلية ضد سورية، وأبلغهم أن العراق (لن يقف مكتوف الأيدي في وجه أي اعتداء على سورية وأنه سيساهم مساهمة فعالة في رد مثل هذا العدوان).
وكالة أنباء (نوفوستي) السوفييتية الرسمية قالت: (أن الاتحاد السوفييتي أعلن عن استعداده لتقديم المساعدة الضرورية للجمهورية السورية التي تدافع عن استقلالها وحقها في البناء السلمي لمجتمع مزدهر).
الأربعاء 17/5/1967
ـ جريدتا (البعث) و(الثورة) الدمشقيتان قالتا: أنهما قد علمتا أن القوات المسلحة في الجمهورية العربية السورية أصبحت في كامل استعدادها تدعمها قوات الجيش الشعبي التي احتلت مكانها وفق المخططات الدفاعية.
ـ خلال زيارة لبعض وحدات الجبهة (الجولان) قام بها رئيس وزراء سورية (الدكتور يوسف زعين)، و(اللواء أحمد سويداني) رئيس أركان الجيش، و(العقيد أحمد المير) قائد الجبهة (الجولان)، ألقى الزعين كلمة في الضباط قال فيها: (... إن بعض أنظمة الحكم العربية، تتظاهر بأنها تساند قضية الشعب العربي في فلسطين، ولكن المعركة كفيلة بكشف كل الحقائق)، وأضاف: (أن شعار لقاء القوى التقدمية من خلال المعركة ثبتت أصالته)، وأكد أن المعركة (لن تنتهي في شهر أو شهرين بل يجب أن تمضي إلى نهاية الشوط حتى تصبح الأرض العربية حرة في كل مكان).
ـ جريدة (ازفستيا) السوفييتية قالت: (إن اليمين في إسرائيل يريد الزحف على دمشق)، وأضافت: (أن الدوائر المتطرفة في إسرائيل تستمر في سياسة إثارة الصدام مع الأقطار العربية المجاورة) وقالت: (إن إسرائيل تسير على طريق العدوان لتدفع ثمن المعونات الأمريكية السخية).
الخميس 18/5/1967
الدكتور إبراهيم ماخوس، أدلى بتصريح إلى وكالة الأنباء العربية السورية عقب عودته من زيارة للقاهرة استغرقت ثلاثين ساعة اجتمع خلالها بجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعدد من القادة الكبار في ج. ع . م وقد جاء في التصريح:
(... إن زيارتي للقاهرة كانت لوضع اللمسات الأخيرة على الوضع السياسي العربي والدولي)، (إن مخططات الرجعية الاستعمارية والصحف الصفراء التي دأبت على التشكيك بلقاء القوى التقدمية قد دحرت)، (... إن سحب قوات الطوارئ بالشكل الذي تم به يبرهن على أن لا شيء يقف في طريق الثورة، وأن تشكيك الرجعية حول وجود هذه القوات قد رد إلى نحرها).
وهاجم الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ملك السعودية والحسين بن طلال ملك الأردن بأقوال لا يليق أن نذكرها، ويمكن للراغب الرجوع إليها في المجلدين الرابع والخامس من اليوميات الفلسطينية ص460، إصدار مركز الأبحاث ـ منظمة التحرير الفلسطينية ـ بيروت.
ـ المشير عبد الله السلال رئيس الجمهورية اليمنية، أعلن في تصريح له لوكالة أنباء الشرق الأوسط، أن: (الجمهورية العربية اليمنية شعباً وحكومة تقف بكل إمكانياتها وطاقاتها بجانب سورية الشقيقة ضد مؤامرة الاستعمار والرجعية والصهيونية).
الجمعة 19/5/1967
ـ الرائد محمد إبراهيم العلي قائد الجيش الشعبي في سورية، أكد أن عشرات الألوف من جنود الجيش أصبحوا في حالة تأهب واستعداد تام للقتال.
السبت 20/5/1967
ـ الدكتور إبراهيم ماخوس، صرح لجريدة أخبار اليوم: (أن جميع مطارات سورية مفتوحة للطيران المصري، وأن كل ما يقرره العسكريون سينفذ في الحال ولا دخل للسياسيين في ذلك، ولتثق إسرائيل ومن يشفقون على إسرائيل أنها ستواجه ضربات مصرية ـ سورية من جميع الجهات).
ـ محمد الزعبي وزير الإعلام السوري، أدلى بتصريح إلى وكالة أنباء الشرق الأوسط قال فيه:
إن أهم الدلالات التي يشير إليها الوضع الراهن في المنطقة هي:
1ـ لقد أثبت الوقفة الجبارة للقوى الثورية والتقدمية العربية، أن قوة دولة العصابات، ليس إلا أقل من نمر من الورق الهش القمىء المهترىء.
2ـ هناك علاقة جدلية بين المناخ الثوري ولقاء القوى التقدمية بحيث يتعزز كل منهما بالآخر يدفع به ويندفع معه.
3ـ هناك علاقة أخرى مضادة بين قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية.
4ـ إن رفع شعار حرب التحرير الشعبية، وتبني الجماهير له، ومباشرة العمل الفدائي واتباع سياسة ضرب مواقع العدوان داخل الأرض المحتلة.. أسقط القناع عن وجه دولة العصابات الجبانة، وكشف زيف تفوقها المزعوم.
5ـ لم يعد بإمكان إسرائيل أن تشكك بحق أبناء فلسطين في العمل الفدائي داخل أرضهم المحتلة.
إن إسرائيل اليوم محصورة بين فكي كماشة: الجيوش العربية المستنفرة من جهة، وأعمال الفدائيين من جهة أخرى، وهيهات لها أن تفلت من تلك الكماشة).
الاثنين 22/5/1967
ـ الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الدولة السورية: ألقى في حفل افتتاح الدورة الطارئة للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب في دمشق، خطاباً قال فيه: (إن سورية و ج . ع. م اتخذتا ما يلزم، لا لإحباط المؤامرات الاستعمارية والرجعية والعدوان الصهيوني فحسب، بل ولخوض معركة تحرير فلسطين عند أول تحرك عدواني).. وجاء في خطابه: (إن أصوات التهديدات الإسرائيلية قد خفتت بعد أن أصبحت إسرائيل بين فكي ج. ع. م وسورية).
ثم حمل حملة عنيفة على الملك فيصل والملك حسين، واتهمهما بالتآمر لاستغلال الشعور الديني و... إلخ. (انظر التفاصيل في ص474 من المرجع نفسه).
ـ جريدة (برافدا) السوفييتية: (... إن هناك مؤامرة جديدة تعدها الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل والرجعية لضرب نظام الحكم التقدمي في سورية).
الثلاثاء 23/5/1967
ـ الدكتور يوسف زعين واللواء أحمد سويداني وصلا فجأة إلى القاهرة. قال زعين: (ليس هناك أي داع للحديث، فنحن قادمون لحرب).
ـ العقيد أحمد المير، قائد الجبهة السورية: صرح بأن الجبهة أصبحت معبأة بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وقال (إن العرب لم يهزموا في معركة 1948 على أيدي الإسرائيليين، بل من قبل حكامنا الخونة، وهذه المرة لن نسمح لهم أن يفعلوا ذلك).
ـ على أثر حادث انفجار لغم في سيارة في مركز الرمثا الأردني على الحدود الأردنية، الذي نتج عنه مقتل 15 شخصاً وإصابة 26 آخرين بجروح، تأزمت العلاقات بين سورية والأردن، وأمرت السلطات الأردنية سفير سورية ونائب قنصلها بمغادرة الأردن .
ـ محمد الزعبي وزير الإعلام السوري صرح لوكالة أنباء الشرق الأوسط: (.. أن الحكومة العميلة في عمان إنما افتعلت هذا الحادث لتبرير قطع العلاقات، ولأن الملك حسين بحاجة دائماً لأن يعمل في الظلام، وخاصة في هذه الأيام، لينفذ مخططات الاستخبارات الأنجلو ـ أمريكية، دون رقيب أو حسيب).
ـ القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، أصدرت في دمشق بياناً دعت فيه: (جميع التقدميين والمنظمات الشعبية) في الوطن العربي إلى (الانقضاض ساعة الصفر على الجيوب الرجعية والاستعمارية وإلى تدمير قواعد الاستعمار واحتكاراته النفطية وخطوط مواصلاته وتموينه أينما وجدت).
ـ الحكومة السوفييتية أصدرت بياناً أعلنت فيه دعمها للدول العربية، جاء في البيان: (إن من يغامر بشن عدوان في الشرق الأدنى سوف يجابه لا بالقوة الموحدة للشعوب العربية وحسب بل وبالمقاومة الحازمة من قبل الاتحاد السوفييتي والدول المحبة للسلام).
الخميس 25/5/1967
ـ الدكتور نور الدين الأتاسي، تحدث إلى أعضاء المجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب الذي زاروه بعد انتهاء مؤتمرهم الطارئ في دمشق.. قال محذراً: (إن الأحداث تصاعدت بشكل ينذر بحرب شاملة في الشرق الأوسط، وإن الشعب السوري مصمم على خوض معركة الثأر من المستعمرين والمستغلين ومعركة الثأر للجماهير الكادحة التي عانت كثيراً من الاستعمار والاستغلال).
الجمعة 26/5/1967
ـ إذاعة دمشق أذاعت تعليقاً سياسياً قالت فيه: (إن سورية ترفض اقتراح الجنرال شارل ديجول، بعقد مؤتمر ذروة للدول الأربع الكبرى، إذ أن العرب لم يعودوا يقبلون وصاية أي كان على الشرق الأوسط).
ـ إذاعة بغداد أعلنت أن وحدات عسكرية عراقية من المشاة والمدفعية والمدرعات غادرت أربيل في شمال العراق للالتحاق بالقطعات العراقية التي تتحرك نحو الجبهة السورية مع إسرائيل.
السبت 27/5/1967
ـ وكالة (أسوشيتد برس) قالت: إنه لم يعلن رسمياً حتى الآن في دمشق عن تحركات القوات العراقية.
الأحد 28/5/1967
ـ اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري، وجهت رسالة إلى جميع الأحزاب الشيوعية في العالم تلفت فيها نظرها (إلى الوضع المتوتر الذي يحيط بسورية ويشعل منطقة الشرق الأوسط بأسرها)، وأضافت: (إن منشأ هذا الوضع هو أن الإمبريالية الأمريكية تنظر بعين الغضب والحقد إلى نظام الحكم التقدمي في سورية.. وقد فشلت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مساعيها لقلب الأوضاع في سورية عن طريق الرجعية الداخلية فأخذت تلجأ إلى أساليب الضغط والعدوان على سورية من الخارج)، وأهابت الرسالة (بالرفاق الشيوعيين) أن يمدوا لشعب سورية يد التضامن لإحباط العدوان الإسرائيلي الذي يسيره ويوجهه الاستعمار الأمريكي.
ـ التوقيع على اتفاق العمل بين الجيشين السوري والعراقي تم في دمشق. وقد وقع الاتفاق عن الجانب العراقي العميد محمود عريم، ووقعه عن الجانب السوري اللواء عادل شيخ أمين .
ـ صرح وزير الإعلام السوري، محمد الزعبي: بأن قوات من الجيش العراقي قد دخلت الأراضي السورية واتخذت مواقعها المحددة .
الاثنين 29/5/1967
ـ وصل فجأة إلى موسكو الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الدولة السورية مع وفد يضم الدكتور إبراهيم ماخوس، ومحمد الزعبي، وأجرى الوفد مباحثات مع المسؤولين هناك...
في اجتماع طارئ لاتحاد المحامين العرب عقد في دمشق ألقى يوسف زعين رئيس الحكومة السورية كلمة في جلسة الافتتاح قال فيها:
(إن انحناء إسرائيل أمام الرد العربي الحاسم الآن، يجب أن لا يفسر بأنه انتصار نهائي عليها، فهو ليس إلا بداية الطريق لتحرير فلسطين، وتدمير إسرائيل... وإن الظروف اليوم هي أفضل من أي وقت مضى لخوض معركة المصير العربي).
وقال: (إن الشعوب العربية ستحاسب كل من يتخاذل عن الواجب). وقال: (إن المسيرة إلى فلسطين، هي المسيرة إلى إسقاط الرجعية العربية والاستعمار والصهيونية إلى الأبد).
ثم أشاد باستعداد سورية لخوض المعركة.
ـ وكالة الأنباء العربية السورية كشفت النقاب عن أن سفير الولايات المتحدة في دمشق، قدم مذكرة شفوية تتعلق بالوضع الراهن في الشرق الأوسط إلى الدكتور إبراهيم ماخوس. علم أن المذكرة تضمنت النقاط التالية:
1ـ إن حدة التوتر بين الدول العربية وإسرائيل ارتفعت في الفترة الأخيرة.
2ـ إن الولايات المتحدة لا تعتقد بوجود نوايا عدوانية لدى إسرائيل.
3ـ إن الحكومة الأمريكية تشعر بقلق خاص تجاه ما أسمته أعمال الإرهاب (العمل الفدائي الفلسطيني) وتعتبرها مغايرة لاتفاقات الهدنة.
4ـ إن الحكومة الأمريكية قلقة من انسحاب قوات الطوارئ الدولية وتعمل على إعادة وجود الأمم المتحدة على خط الهدنة بين ج .ع . م وإسرائيل بأية صورة من الصور.
5ـ الحكومة الأمريكية تعتقد بأن حشد القوات يزيد من حدة التوتر.
6ـ الحكومة الأمريكية تتمسك (بحرية المرور في خليج العقبة للسفن الإسرائيلية وسفن جميع الدول الأخرى).
7ـ الحكومة الأمريكية تؤكد عزمها على التدخل بالمقاومة الشديدة لكل اعتداء في المنطقة.
الدكتور ماخوس رد على المذكرة الأمريكية فوراً مؤكداً انحياز أمريكا إلى جانب إسرائيل وموضحاً النقاط التالية:
1ـ ليس للولايات المتحدة ما يميزها عن غيرها من الدول الأعضاء حسب ميثاق الأمم المتحدة ولا تملك حق التدخل في شئون المنطقة أو فرض وصايتها عليها.
2ـ لم يرتفع التوتر خلال الأيام القليلة الماضية فقط، وإنما لازم المنطقة العربية منذ فرض الاحتلال الإسرائيلي. ووزارة الخارجية السورية تؤكد النوايا العدوانية لإسرائيل، وتهديدات المسئولين الإسرائيليين أبلغ دليل على ذلك.
3ـ تؤكد سورية أنها ليست مسئولة عما يقوم به الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه طبقاً لحق تقرير المصير، كما أن هذا الشعب ليبس طرفاً في اتفاقيات الهدنة.
4ـ الحكومة السورية تؤكد حق ج .ع . م في سحب قوات الطوارئ الدولية في ممارستها لسيادتها على خليج العقبة.
الثلاثاء 30/5/1967
ـ الدكتور نور الدين الأتاسي والوفد المرافق له عادوا من موسكو بعد زيارته لها.
ـ محمد الزعبي وزير الإعلام السوري صرح بأن الاتحاد السوفييتي أكد تأييده (للخط الثوري التقدمي) الذي تنتهجه سورية. كما أكد وقوفه (بحزم ضد أي عمل عدواني قد يتعرض له الشعب العربي من جانب إسرائيل ومن وراءها) ووصف محادثات الوفد مع المسئولين السوفييت بأنها (صريحة) وقال: (إن الدكتور الأتاسي أكد للزعماء السوفييتيين أن التهديدات والحشود العدوانية الصهيونية ليست إلا جزءاً من مخطط استعماري عام لضرب حركة التحرير في الشرق الأوسط).
الجمعة 2 حزيران 1967
ـ إذاعة بغداد قالت أن قوة كبيرة من المشاة توجهت بالقطارات من أربيل في شمال العراق إلى حيث تأخذ مواقعها على الجبهة. كذلك فعلت وحدة الآليات التي وصفت بأنها على درجة عالية من التدريب في القتال السريع، وأنها مزودة بآليات ثقيلة حديثة.
ـ ناطق عسكري زعم أن جنديين إسرائيليين وجندياً سورياً قتلوا في اشتباك بين دورية إسرائيلية وفريق من الفدائيين على بعد كيلومتر واحد من الحدود السورية.
ـ البريجادير جنرال حاييم هيرتسوج: كتب في المحلق الأسبوعي في جريدة (جيروساليم بوست) محللاً وضع الجيشين المصري والسوري، وقد جاء في هذا المقال: (... أما الجيش السوري البالغ عدده 65 ألفا فهو ضئيل بالنسبة لمساحة سورية. وأضاف إن الانقلابات التي تعاني منها سورية وينتج عنها تغيير دائم في صفوف الضباط وترفيعات مفاجئة لا تستند على أساس الخبرة بل على أساس الانتماء السياسي، كل هذا أضعف الجيش السوري كثيراً).
السبت 3 حزيران 1967
ـ مصدر رسمي سوري صرح بأنه قد تم وضع الترتيبات الكفيلة بحماية مدينة دمشق من جميع الأخطار. وتم دهن مصابيح الساحات العامة باللون الأزرق الداكن تنفيذاً لتعليمات مديرية الدفاع المدني. وأعلن المجلس البلدي في دمشق أنه قرر التبرع بمبلغ 200 ألف ليرة سورية للجيش السوري، وقرر أعضاء هيئة التدريس في جامعة دمشق التبرع بنسبة 10 بالمائة من مرتباتهم للجيش.
ـ الجنرال بيغال آلون، وزير العمل الإسرائيلي، قال في اجتماع الليلة البارحة: أن تحقيق ثلاثة أمور سيجنب المنطقة الحرب وهذه هي: إعادة فتح خليج العقبة، وتخفيض القوات المحتشدة على الحدود، والتعهد بوقف أعمال التخريب.
ـ الميجر جنرال موشىه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي عقد مؤتمراً صحفياً اليوم قال فيه: (إنه قد فات الوقت لردة فعل عسكرية فورية على إغلاق ج . ع . م لمناطق تيران)...
... إذا حاول أحد تحقيق حرية المرور من مضائق تيران بالوسائل الدبلوماسية فليعط الفرصة لذلك..
... إذا وقع صدام فسيكون غالي الثمن..
... إن الدول العربية لديها من الجيوش والأعتدة أكثر بكثير مما لدى إسرائيل ولكن الأمر يعتمد على مكان المعركة. مثل ذلك أنه سيكون من الصعب جداً على الجيش الإسرائيلي بعدده الحالي أن يذهب للقتال في بغداد أو القاهرة، وآمل أن يكون صعباً جداً عليهم بأعدادهم المتفوقة أن يهاجموا تل أبيب، لأن عليهم أن يسيروا من قواعدهم إلى إسرائيل.
الأحد 4 حزيران 1967
ـ القيادتان القطرية والقومية لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سورية بحثتا في اجتماع اليوم تقريراً مفصلاً عن نتائج مباحثات الدكتور إبراهيم ماخوس وزير الخارجية ونائب رئيس الحكومة في روما وباريس والجزائر وكان ماخوس قد عاد من رحلته الرسمية لتلك البلدان.
وذكرت أنباء أن اللاجئين السوريين في العراق طلبوا من حكومتهم السماح لهم بالعودة لاستغلال كفاءاتهم في المعركة.




*** فترة الحرب:
الاثنين 5 حزيران 1967
ـ راديو القاهرة قطع إذاعته حوالي الساعة 9.5 بتوقيت القاهرة ليعلن أن قوات إسرائيل بدأت تهاجم ج. ع . م.
ـ راديو دمشق قطع برامجه العادية ليعلن أن إسرائيل هاجمت ج. ع. م صباح اليوم. وهذه أهم ما صدر عن هذا الراديو.
ـ بلاغ صادر من وزير الداخلية يطلب من جميع عناصر الدفاع المدني الالتحاق بمراكزهم.
ـ نداء إلى الشعب أعلن (بدء معركة التحرير الشعبية، حيث سيكون اللقاء في تل أبيب). وقال: (سحقاً للصهاينة وسحقاً لأمريكا).
ـ دعا الراديو القوات السورية إلى (مسح إسرائيل من الخريطة).
ـ أعلن أن أفراد الجيش الشعبي تسلموا أسلحتهم الكاملة ونزلوا إلى الشوارع واتخذوا مواقعهم المحددة لهم في دمشق والمدن والقرى السورية.
ـ قال راديو دمشق أن القيادتين السورية والمصرية على اتصال دائم.
ـ أذاع الراديو بلاغاً من القائد الأعلى للقوات السورية المسلحة في الساعة 12 ظهراً بتوقيت دمشق ، أعلن فيه دخول القوات السورية المعركة إلى جانب مصر. وقال: (إن الطائرات السورية: (بدأت تقصف مدن العدو ومواقعه ومنشآته). ومضى يقول: (إن سورية تلتحم مع العدو الآن.. ولن تتراجع قبل إبادة الوجود الصهيوني إبادة كاملة).
ـ أذاع الراديو بياناً إلى الإسرائيليين باللغتين العربية والعبرية طلب فيه منهم أن يستمعوا إلى الإذاعات العربية وينتظروا الأوامر والتعليمات منها.
ـ شركة الأنباء الإقليمية ذكرت في نبأ من دمشق أن أصوات المدافع المضادة للطائرات دوت في المدينة أثناء غارة شنتها الطائرات الإسرائيلية على المدينة.
الأتاسي أعلن أن بلاده قررت أن تكون المعركة الحالية معركة التحرير النهائية لفلسطين، وقال في إذاعة موجهة إلى الشعب:
(لقد دقت ساعة النصر على أعداء العروبة وقد حفر الصهاينة الغزاة المتآمرون مع الاستعمار العالمي قبورهم بأيديهم عندما أغاروا اليوم على ج. ع . م إن الهجوم الإسرائيلي لم يتم إلا بتخطيط من الاستعمار العالمي الذي جعل من إسرائيل أداة للتنفيذ). وقال: (لقد ألقى الشعب العربي بثقله في المعركة الفاصلة ووضع الجيش السوري كل قواه الضاربة في لهيب المعركة وإن نسورنا البواسل يدمرون منشآت العدو ومدنه وهم في طريقهم لتحرير الأرض المغتصبة).
وأما البلاغات التي أصدرتها سورية فقد كانت كما يلي وحسب الترتيب:
1ـ قامت طائراتنا بقصف شديد لمطارات العدو في المنطقة الشمالية وقد دمرت القسم الأكبر من المجهود الجوي للعدو. وقد شوهدت الطائرات العدوة وهي تحترق على الأرض. وعادت طائراتنا إلى قواعدها سالمة.
2ـ إن طائراتنا الآن تقصف مطارات العدو ومواقعه الاستراتيجية وأرتاله البرية وقد اختفى طيران العدو من أرض المعركة. وقد اندلعت النار في مصفاة البترول في حيفا بعد أن ضربتها طائراتنا.
3ـ تسللت طائرات معادية في أراضينا وقامت طائراتنا الساهرة على حماية الجو بالتعرض لها فاشتبكت معها وأسقطت ثلاث طائرات إسرائيلية سقطت اثنتان منا فوق الأردن ولم تصب طائراتنا بأذى.
4ـ حاول العدو أن يقوم بغارة جوية داخل أرضنا فتصدت له طائراتنا وجرى اشتباك جوي سقطت نتيجة له طائرة ميراج معادية.
5ـ حاول طيران العدو ضرب مطار المزة فتصدت له مدفعيتنا المضادة للطائرات وأسقطت طائرة ميراج معادية. هذا وقد شوهدت طائرة معادية تحترق وهي متجهة باتجاه الديماس (ميسلون) غربي دمشق وقد سقطت الطائرة في الجبال.
6ـ اشتبكت مدفعيتنا المضادة للطائرات مع ثماني طائرات إسرائيلية وأسقطت اثنتين منها وأسر أحد الطيارين الإسرائيليين.
7ـ نتيجة اشتباك جوي بين طائراتنا وطيران العدو أسقطت طائرتا ميراج في الأراضي اللبنانية وأسر طيار إسرائيلي .
8 ـ نتيجة مهاجمة طيران العدو لأحد مطاراتنا أسقط طيراننا الباسل ثلاث طائرات ميراج للعدو وأسر طيار إسرائيلي وهو رهن التحقيق.
9ـ على كافة الإخوة المواطنين إلقاء القبض فوراً على أي طيار معاد يسقط في أرضنا وإرساله حياً إلى أقرب مركز للجيش أو الشرطة.
10ـ نتيجة مهاجمة طيران العدو لأحد مطاراتنا أسقطت مدفعيتنا المضادة للطائرات طائرة ميراج إسرائيلية.
11ـ هاجمت طائرات العدو أحد مطاراتنا وحطمت مدفعيتنا المضادة طائرتين ميراج.
12ـ هاجم طيران العدو مواقعنا في الجبهة فأسقطت مدفعيتنا المضادة للطيران طائرة ميراج للعدو قرب خسفين.
13ـ حاولت طائرات العدو قصف إحدى قواعدنا الجوية فأسقطت للعدو ثلاث طائرات وهكذا أصبح عدد الطائرات المعادية التي أسقطت فوق هذه القاعدة 6 طائرات.
14ـ نتيجة الاشتباكات الجوية التي جرت فوق أرضنا، أسقطنا للعدو 30 طائرة. هذا عدا عن الطائرات التي أسقطها سلاحنا الجوي ضمن أراضي العدو. يضاف إلى ذلك ما دمره سلاحنا الجوي أثناء الغارات التي قام بها فجأة على مطارات العدو الشمالية بكاملها منزلاً بها تدميراً محققاً.
15ـ هاجمت طائرات العدو مواقعنا في الجبهة فتصدت لها مدفعيتنا المضادة وأسقطت للعدو طائرتين فوق تل يوسف.
16ـ هاجمت طائرات العدو أحد مطاراتنا فتصدت لها مدفعيتنا المضادة وأسقطت ثلاث طائرات ميراج.
17ـ هاجمت طائرات العدو أحد مطاراتنا وتصدت لها مدفعيتنا المضادة فأسقطت طائرتي ميراج.
18ـ هاجمت طائرات العدو أحد مطاراتنا، فتصدت لها مدفعيتنا المضادة للطائرات وأسقطت طائرة ميراج.
19ـ هاجمت طائرات العدو أحد مطاراتنا فتصدت لها مدفعيتنا المضادة وأسقطت طائرة ميراج أخرى.
20ـ تحاول طائرات العدو بدون جدوى عرقلة قواعدنا الجوية، وقد أسقطت الآن طائرة ميراج فوق أحد مطاراتنا.
21ـ عدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطت في الأراضي السورية خلال الاشتباكات التي جرت فوق الأراضي السورية وبواسطة المدفعية المضادة للطائرات بلغ حتى الآن (الساعة الخامسة بعد الظهر بتوقيت عمان وبيروت) 50 طائرة وقال ناطق عسكري إن هذا الرقم لا يشمل الطائرات المعادية التي دمرت في إسرائيل نفسها نتيجة الاشتباكات الجوية بعد ضرب المطارات الإسرائيلية.
22ـ حاولت طائرات العدو الهجوم على بعض القواعد الجوية فتصدت لها مدفعيتنا وأسقطت منها طائرتين.
23ـ أسقطت طائرة معادية قرب إحدى القواعد العسكرية السورية وذلك أثناء اشتباك جوي مع العدو.
24ـ هاجمت طائرات العدو إحدى القواعد الجوية السورية فتصدت لها القوات السورية وأسقطت إحدى الطائرات المعادية. وقال مصدر عسكري سوري أنه بلغ عدد الطائرات التي أسقطها سلاح الطيران السوري للعدو 54 طائرة.
25ـ عثر على الطائرات الميراج الثلاث التي أسقطتها سورية فوق الأراضي اللبنانية قرب بلدة راشيا.
ـ التلفزيون السوري والإذاعة أجريا مقابلة مع طيار إسرائيلي أسير، اسمه: إبراهان زيلان، رتبته ملازم أول، من مواليد 1945، فلسطيني. وقد جاء في المقابلة قوله: (.. إن الأهداف التي كلف بضربها في سورية هي مطار الضمير ودمشق فقط...)
ـ هبطت طائرة سورية اضطرارياً على ساحل الرشيدية قرب صور لنفاد وقودها. وكان يقودها الملازم الأول الطيار غسان إسماعيل، وعمره 28 سنة. وكانت هذه الطائرة تقوم بغارة على حيفا ثم نفد وقودها فاضطرت إلى الهبوط على الساحل اللبناني.
ـ أذاع راديو إسرائيل:
(... إن طائرات عربية هاجمت بلدة ناتانيا الساحلية).
(... إن طائرتين سوريتين من نوع ميج أسقطتا في منطقة بلدة ارمجدون القديمة). وقال البلاغ: (إن ثلاث طائرات سورية اشتركت في العملية).
الثلاثاء6 حزيران 1967
البلاغات العسكرية السورية:
1ـ هاجمت صباح اليوم أربع طائرات معادية مواقعنا في الجبهة وتم إسقاط طائرتين منها.
2ـ في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من فجر يوم السادس من حزيران (يونيو) لعام 1967، بدأت قواتنا بالاشتباك مع العدو وقصف مواقعه على طول الخطوط الأمامية، وإن هذه الاشتباكات التي تجري اليوم هي منطلق لبدء عملية التحرير.
التوقيع وزير الدفاع
3ـ في الساعة التاسعة والربع أسقطت مدفعيتنا المضادة ثلاث طائرات إسرائيلية فوق القنيطرة وذلك أثناء تصديها لغارة جوية معادية.
4ـ احتلت قواتنا الزاحفة مستعمرة شرياشوف شمال سهل الحولة وقد تكبد العدو فيها خسائر كبيرة وتجري حالياً معركة حامية مع قوات معادية تقاوم تقدم قواتنا داخل الأرض المحتلة.
5ـ في الساعة السادسة عشرة أسقطت مدفعيتنا المضادة في منطقة الجبهة إحدى طائرات العدو وشوهد الطيار يقفز بالمظلة في سهل الحولة داخل الأرض المحتلة.
6ـ في الساعة السابعة عشرة والدقيقة 32 حاولت بعض طائرات العدو الإغارة على مواقعنا في الجبهة ولكنها ردت على أعقابها بعد أن أسقطت منها قاذفة قنابل من طراز (فوتور).
7ـ قام طيران العدو بعد ظهر أمس بقصف الرقابة الدولية في منطقة البطيحة ثلاث مرات متتالية، وقد قدمت هيئة الرقابة احتجاجاً على ذلك، إن الذين قصفوا المنطقة، إما إسرائيليون تعمدوا الاعتداء على هيئة الأمم المتحدة، أو إنهم طيارون غرباء عن المنطقة وذلك يشكل دليلاً آخر على العدوان الاستعماري الغاشم.
ـ بيان سوري رسمي تكلم عن: (أبعاد المؤامرة الأنجلو ـ أمريكية الصهيونية على الحق العربي) فقال:
(... أظهرت المعلومات التي وردت من جزيرة قبرص في أول حزيران أن الطائرات البريطانية في قاعدة أكروتيري كانت في حالة تأهب وحركة دائمة. وكذلك لوحظت حركة شديدة للسيارات العسكرية في قاعدة أكروتيري وديكيليه. وكانت هذه السيارات العسكرية من القاعدتين البريطانيتين، تقوم بنقل القنابل والصواريخ من المخازن تحت الأرض إلى المطار، وأكثرها صواريخ بطول مترين.
كما أثبتت المعلومات أن حوالي 3000 جندي بريطاني بكامل عتادهم الحربي قد غادروا قاعدة أكروتيري إلى المنطقة المحتلة من فلسطين بتاريخ 28 أيار الماضي. وكذلك أثبتت المعلومات الموثوقة إنه بتاريخ 27 أيار الماضي وصل إلى القواعد البريطانية في قبرص قائد الأسطول السادس الأمريكي بطريق الجو وبصورة سرية للغاية، واجتمع فور وصوله بقائد القواعد البريطانية في الجزيرة.
وقال البيان السوري: (إن الأسلحة التي ترسلها أمريكيا وبريطانيا عن طريق البحر تنتقل إلى إسرائيل في صناديق رسمت عليها إشارة الصليب الأحمر تمويهاً وتضليلاً كي لا يجري تفتيشها... وإمعاناً في التضليل يجري نقل هذه الصناديق بواسطة بواخر تجارية غير أمريكية أو بريطانية).
وقال البيان: (إنه تم التقاط لاسلكي للعدو يطلب تدخل قوات أجنبية من حاملات الطائرات الموجودة في شرق البحر الأبيض المتوسط لمساعدته في عملياته الجوية ضد العرب... وقال: (إن الطيار الإسرائيلي إبراهام زيلان الذي أسرته القوات السورية، اعترف أن 17 طائرة من قاذفات القنابل الإنجليزية وصلت مع طياريها من قبل العدوان إلى المنطقة المحتلة من فلسطين واشتركت بضرب الأهداف داخل ج. ع. م وسورية. وعلم أن حاملة طائرات بريطانية تحركت إلى أحد المرافئ الإسرائيلية من قبرص صباح الثلاثاء مع أربع قطع حربية بريطانية ).
الدكتور إبراهيم ماخوس جمع رؤساء البعثات الديبلوماسية في سورية باستثناء سفيري أمريكا وبريطانيا، وشرح لهم الوضع الراهن، وكان من جملة ما قاله ماخوس:
(إن دولاً صديقة عديدة نصحت الدول العربية بأن لا يبدأ العرب العدوان، كما أن كثيرين من السفراء وعلى رأسهم السفير الأمريكي أكدوا أن إسرائيل لا تنوي العدوان، وأن العرب قبلوا النصيحة إلا أن الشعب العربي دفع الثمن باهظاً..).
(... ولو أننا بدأنا الهجوم لسحقنا العدوان وأنهينا العملية في يوم واحد.. ولكنا فوجئنا أمس بهجوم شامل على جميع المطارات في البلاد العربية بكثافة لا يمكن معها أن تكون إسرائيل وحدها في المعركة). وقال: (لقد أسقطنا أمس أكثر من 150 طائرة وكان الطيران الإسرائيلي مستمراً وكأننا لم نسقط طائرة واحدة.. إلخ).
الميجر جنرال حاييم هيرتسوج، المتحدث العسكري الإسرائيلي، والقائد السابق للاسخبارات الإسرائيلية قال: (إن لمصر 350 طائرة على الجبهة، ولسورية مائة طائرة خسرت منها 50 طائرة في اليوم الأول للقتال...).
قال تقرير إسرائيلي: (إن طائرات سورية قد قصفت عدة أهداف داخل إسرائيل منها بعض القرى والمطارات الحربية في وسط وشمال إسرائيل..).
ـ وقال بلاغ إسرائيلي آخر: إن القوات الإسرائيلية ردت قوة آلية مدعومة بالمدفعية حاولت التقدم إلى تل دان (تل القاضي) من الجبهة السورية.
ـ ادعى بلاغ إسرائيلي: أن إسرائيل أصبحت سيدة الجو في الشرق الأوسط وأن القوة الجوية العربية الضاربة قد أبيدت.
ـ وقالت المصادر الإسرائيلية: أن قواتها الجوية والبرية كانت تقصف المواقع الجبلية السورية طوال النهار بينما كانت المواقع السورية تقصف المستعمرات في الجليل. وقالت هذه المصادر إن القصف من الطرفين كان متواصلاً على طول من الجبهة من دان في الشمال إلى بحيرة طبرية في الجنوب.


الأربعاء 7 حزيران 1967
البلاغات العسكرية السورية:
1ـ في الساعة 8.47 أسقطنا للعدو طائرتين من طراز ميراج أثناء اشتباك فوق منطقة القنيطرة. قفز أحد الطيارين الأعداء بالمظلة قرب خان أرينبة وأسر.
2ـ اشتركت القوات الجوية البريطانية هذا اليوم بشكل فعال بقصف مواقعنا الأمامية محاولة بذلك القيام بالمهمة التي فشل طيران إسرائيل بالقيام بها بعد أن أسقطنا للعدو معظم طائراته التي حلقت في أجوائنا.
إننا نؤكد أن الغارات التي جرت اليوم على مواقعنا الأمامية قد قامت بها طائرات من نوع كامبيرا، وهي قاذفة إنجليزية معروفة، وبهذه المناسبة، لقد أسفر الاستعمار عن وجهه بكل لؤم وغدر، فإننا نطمئن الأخوة المواطنين إلى أن المعارك تسير لصالحنا وأن تشكيلاتنا العسكرية تكيل للعدو ضربات قاسية في كل مكان .
3ـ في الساعة 11.20 حاولت طائرات معادية الإغارة على مواقعنا الأمامية وتصدت لها مدفعيتنا المضادة للطائرات وكانت النتيجة إسقاط قاذفتين من نوع فوتور وسقطت الأولى في بستان الرمان وشوهدت الثانية تسقط باتجاه جبال الجليل وهي تحترق.
4ـ تستمر الاشتباكات والمعارك مع العدو على طول الجبهة العربية السورية منذ أن بدأت قواتنا باقتحام مواقع العدو في الأرض المحتلة وحاول العدو طيلة هذا اليوم إعادة تجميع قواته في بعض نقاط الجبهة للاقتراب من خطوط قواتنا ولكن قواتنا لم تمكنه من ذلك واستمرت في الاشتباك معه كما قصفته مدفعيتنا الميدانية وخصوصاً في مناطق تجمعه، ونتيجة لذلك تكبد العدو الخسائر التالية:
(أ) دمرنا أربع دبابات وثلاث ناقلات جنود ومدرعة في القطاع الشمالي من الجبهة وأحدثت مدفعيتنا خسائر جسيمة في تجمعات العدو.
(ب) دمرنا سرية مشاة وخمس دبابات في هاغوشريم.
(ج) دمرنا كافة تحصينات مستعمرة تل القصر (بيت كاتسير) وأسكتنا الأسلحة الموجودة فيها ومازالت النيران تشتعل في هذا الموقع.
5ـ في تمام الساعة 16.30 تصدت طائراتنا المقاتلة لسرب معاد من الطائرات القاذفة الثقيلة واشتبكت معه في معركة جوية حامية فوق منطقة الشيخ مسكين. تمكن طيارونا البواسل من إسقاط ثلاث طائرات للعدو هوت وتحطمت في منطقة أزرع ونوى وطفس. وعادت طائراتنا إلى قواعدها سالمة.
هذا وقد بلغ مجموع الطائرات التي أسقطناها للعدو منذ صباح اليوم خمس قاذفات قنابل وطائرتين مقاتلتين.
6ـ تستمر قواتنا الباسلة في تدمير العدو على طول الجبهة، وتدور الآن رحى معركة عنيفة أمام تل العزيزيات وقد دمرنا للعدو حتى الآن قاعدة للصواريخ المضادة للدبابات وسريتين من مدافع الهاون وعدد من الآليات المدرعة وتم تدمير بعض الجسور مقابل تل العزيزات ولا يزال القتال مستمراً .
7ـ في حوالي الساعة 12.20 أبادت مدفعيتنا المضادة للطائرات طائرة إسرائيلية في المنطقة الجنوبية وسقطت شظايا الطائرة وتناثرت فوق بعض قرى محافظة درعا.
8 ـ تم إسقاط طائرة معادية في الساعة 19.25 من مساء هذا اليوم فوق الجاعونة في القطاع الأوسط في الجبهة أثناء اشتباك مع مدفعيتنا المضادة للطائرات.
9ـ أسقطنا الآن طائرة معادية فوق الصنمين بواسطة المدفعية المضادة للطائرات وقذف الطيار بنفسه بالمظلة من الطائرة وتحركت فوراً مفرزة خفيفة من إحدى نقاطنا العسكرية للقبض عليه.
10ـ في الساعة 19.30 اكتشفت مراصدنا تحركات قوات معادية في القطاع الشمالي من الجبهة أمام تل العزيزات، وكانت قوات العدو تحاول التجمع وهي من 50 دبابة تقريباً ومعها وحدات من المدفعية والمشاة، بادرت مدفعية الميدان العربية السورية تساندها أنواع أخرى من الأسلحة إلى قصف هذه التجمعات بعنف وشتتتها وألحقت بها خسائر جسيمة.
11ـ خلال الاشتباكات التي جرت أمس في الجبهة أسرت قواتنا عدداً من جنود العدو بينهم ضابط برتبة ملازم أول.
ـ راديو دمشق اتهم الاستعماريين الأمريكيين والبريطانيين بالاستمرار في مساعدة إسرائيل لإنقاذها من الدمار).
ـ أعلن الراديو في وقت لاحق استيلاء القوات السورية على سهل الحولة وقال إنها تطارد الإسرائيليين بطريقها إلى الناصرة.
وقال أحد المعلقين: إن الجيش السوري بطريقه الآن إلى صفد وعكا بالإضافة إلى الناصرة ...

الخميس 8 حزيران 1967
ـ راديو دمشق أذاع في الساعة الثالثة من الصباح أنه يتوقع أن تصل القوات السورية إلى صفد لتلتقي بالقوات الأردنية الزاحفة.
الراديو أذاع البلاغات العسكرية التالية:
1ـ تشتبك مدفعيتنا المضادة للطائرات الآن في القطاع الشمالي والقطاع الأوسط من الجبهة وتصد طائرات العدو المغيرة على مواقعنا.
2ـ في الساعة 9.50 تصدت مدفعيتنا المضادة لغارات العدو التي هاجمت مواقعنا، فأسقطت ثلاث طائرات اثنتان منها في القطاع الأوسط، تفجرت الأولى في الجو وهوت الثانية محترقة إلى الأرض، وأسقطت الثالثة في القطاع الشمالي، وبهذا الانتصار على طيران العدو تفتتح مدفعيتنا المضادة، اليوم الرابع من المعركة التي سنخوضها حتى النصر.
3ـ في الساعة 10.10 جرى اشتباك فوق الجبهة أسقطنا على أثره قاذفتي قنابل للعدو، وهكذا أسقط للعدو خمس طائرات خلال نصف الساعة الماضية.
4ـ في الساعة 10.55 تم إسقاط طائرة إسرائيلية بمدفعيتنا المضادة للطائرات في القطاع الشمالي من الجبهة وقد هوت الطائرة باتجاه مواقع العدو وانفجرت قرب النبي يوشع.
5ـ جرى اشتباك جوي في الساعة 11.00 وتم إسقاط طائرة معادية انفجرت على السفح الشرقي من جبل الشيخ. وقد دمرنا للعدو خلال الساعات المنصرمة سبع طائرات.
6ـ أسقطنا للعدو طائرة في الساعة 11.45 وقعت في دغانيا.
7ـ أسقطنا للعدو في الساعة 14.30 طائرتين فوق الجبهة سقطت الأولى في الخالصة والثانية في هافر شيريم. بلغ عدد الطائرات التي دمرناها للعدو حتى الساعة 14.00 من هذا اليوم عشر طائرات.
8 ـ في الساعة 14.30 أسقطنا طائرة معادية في ناؤوت مردخاي.
9ـ أسقطنا للعدو طائرتين في الساعة 15.00 إحداهما من طراز كانبيرا والثانية من طراز فوتور وذلك فوق منطقة الجليل الشمالي، ومجموع خسائر العدو حتى الآن 13 طائرة.
10ـ أسقطت مدفعيتنا المضادة للطائرات الساعة 16.50 طائرة معادية فوق القطاع الأوسط من الجبهة.
11ـ في الساعة 17.20 أسقطنا للعدو طائرتين وقعتا في بحيرة طبرية إلى الغرب من مستعمرة عين غيف. وبهذا نكون قد دمرنا حتى ساعة إذاعة هذا البلاغ 16 طائرة للعدو.
12ـ دمرت قواتنا البرية العاملة في القطاع الشمالي من الجبهة سرية كاملة من مدفعية العدو في مستعمرة ساديا نحاميا كما دمرنا مستودعاً للذخائر.
13ـ أسقطنا للعدو في الساعة 17.45 طائرتين إحداهما من نوع أوراجان والأخرى من نوع ميستير سقطت غرب القلع.
14ـ شوهدت في الساعة 20.40 تجمعات معادية من المدرعات والمشاة أمام القطاع الأوسط من الجبهة، بين يسود هامعالا وكعوش فقصفتها مدفعيتنا بشدة وأوقعت فيها خسائر فادحة.
راديو دمشق أعلن أن سورية لن توقف القتال وستواصل الحرب ضد إسرائيل وقال: (إن الحرب مازالت في بدايتها، وسوف تستمر، والنصر لمن يصمد، ولمن يرمي في المعركة كل يوم قوى جديدة.. إن أسلوب الحرب الصاعقة لفرض الهدنة لن يكتب له النجاح، وإن الغلبة في النهاية ستكون للحق العربي).
ـ بلاغ صدر عن السلطة العسكرية العليا في لبنان مساء هذا اليوم، قال: إن مواقع الجبهة العربية الشمالية في منطقة الجليل الأعلى توالي منذ الساعة العاشرة صباحاً قصف مستعمرة هاغوشريم والمستعمرات المحيطة بها. وقال البلاغ: إن العدو يقوم بغارات متواصلة محاولاً إسكات هذه المواقع إلا أن المدفعية اللبنانية والسورية المضادة للطائرات تصدت لها وجعلت طائرات العدو تفر بعد إخفاقها في تحقيق أهدافها. وأضاف البيان يقول: إن المدفعية السورية تواصل قصفها بقوة، محرقة هذه المستعمرات بنيرانها.
ـ متحدث رسمي إسرائيلي أعلن في مؤتمر صحفي وفي معرض حديثه عن أوضاع القوات الإسرائيلية مقابل القوات العربية (... أما على الجبهة السورية فإن معظم القوات السورية تنسحب الآن باتجاه دمشق، ويواصل الطيران الإسرائيلي قصف القوات المنسحبة حسب تقارير إسرائيلية غير رسمية.
أما التقارير الرسمية فقالت إن المدفعية السورية واصلت قصف المستعمرات الإسرائيلية في سهل الحولة اليوم، وقد نفى الناطق الإسرائيلي أن تكون القوات الإسرائيلية قد دخلت الأراضي السورية.
ـ أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل قال: إن القتال سيستمر إلى أن يحذو العراق وسورية حذو الأردن وج. ع. م في الموافقة على وقف النار. وأبلغ إيبان المجلس أن إسرائيل لا تزال مشتركة في قتال عنيف مع القوات السورية.
الجمعة 9 حزيران 1967
راديو دمشق أذاع في الساعة الرابعة والدقيقة العشرين بالتوقيت المحلي أن سورية وافقت على وقف إطلاق النار شريطة التزام الجانب الآخر بوقف القتال. وقال: (إن الجمهورية العربية السورية، تقديراً منها للظرف الراهن أبلغت الأمين العام للأمم المتحدة أنها قررت قبول دعوة مجلس الأمن إلى وقف إطلاق النار شريطة التزام الجانب الآخر بوقف إطلاق النار ).
وأذاعت القيادة العسكرية السورية البلاغات التالية:
1ـ بالرغم من أن قواتنا توقفت عن إطلاق النار حسب قرار مجلس الأمن، فقد بدأ العدو في الساعة 9.15 من صباح اليوم يشن هجوماً على مواقعنا الأمامية مستخدماً نيران المدفعية والدبابات، وكذلك قامت عدة تشكيلات معادية باختراق الأجواء السورية وقصفت مواقعنا في الجبهة ولكن قواتنا الباسلة تصدت للعدو وأسقطت طائرة ميراج معادية في الداخل وتقوم الآن قواتنا الصامدة بالرد على هجوم العدو بنيران غزيرة تقصف مستعمراته وتجمعاته.
2ـ القوات السورية دمرت طابورين للعدو عندما حاول التقدم تجاه المواقع السورية، الطابور الأول حاول التقدم من موقع أم جنزير تجاه البحر إلا أنه دمر. أما الطابور الثاني فقد حاول التقدم من تل قصر (بيت كاتسير) تجاه الناصرية (التوافيق) إلا أنه دمر أيضاً، وقامت المدفعية السورية بضرب مواقع مدفعية العدو.
3ـ القوات السورية دمرت طلائع العدو و9 دبابات شمال الجبهة. كما دمرت كافة دبابات العدو التي حاولت التسرب في القطاع الأوسط. وقد أسقطنا طائرة للعدو في بحيرة طبرية. ويقاتل جنودنا ببسالة خارقة ومعنويات عالية.
4ـ القوات السورية دمرت 13 دبابة للعدو شمال الجبهة، وأسقطت طائرة ثالثة فوق منطقة الكسوة.
5ـ الساعة 4.30 إن القتال مازال مستمراً على الخطوط الأمامية وإن القوات السورية تقاتل ببسالة نادرة وتكيل للعدو ضربات قاسية وتلحق به خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.
6ـ الساعة 5.10 المدفعية السورية أسقطت طائرة للعدو حاولت التحليق في سماء دمشق.
7ـ تعرضت مدينة اللاذقية لغارات إسرائيلية جوية وقد ردت طائرات العدو على أعقابها.
8 ـ تعرضت بعض المدن السورية لغارات جوية إسرائيلية واسعة النطاق يتراوح عددها بين 550 و600 غارة. وتكشف هذه الغارات الأبعاد الكاملة للعدوان الاستعماري الصهيوني بغية النيل من معنويات الشعب السوري ولكن النصر يكون دائماً في النهاية للشعوب.
9ـ على الرغم من تقيد سورية بقرار مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار، فإن العدو استمر منذ الصباح في شن هجمات بالمدفعية والدبابات ولكن القوات السورية تصدت له وكبدته خسائر فادحة وأوقفت تقدمه.
وفي القطاع الشمالي من الجبهة تسللت قوات معادية من الدبابات فنشبت معركة شديدة وضارية وعززت قواتنا بوحدات مدرعة ودبابات وقد تمكنت


قواتنا من احتلال مواقع دفاعية في القطاع الشمالي . وعلى الرغم من كثافة التغطية الجوية لقوات العدو الإسرائيلي فقد أسقطت قواتنا أربع طائرات معادية في الجبهة.
ـ الدكتور نور الدين الأتاسي، وجه كلمة من راديو دمشق، جاء فيها:
(... إننا نواجه اليوم أكبر مؤامرة دنيئة خسيسة في العالم الحديث، وإن الخطة تستهدف بعد كل المؤامرات المتلاحقة إلغاء مكاسب شعبنا مرة واحدة وإعادة وطننا إلى منطقة النفوذ الاستعماري الجائر على غرار القرن التاسع عشر... وكما يكافح شعب فيتنام وكما كافح الجزائريون، سنحول الدنيا إلى جحيم في وجه الغزاة وسننتصر ).
(انظر النص كاملاً في اليوميات الفلسطينية، المجلدان الرابع والخامس من 1/7/66 إلى 30/6/67).
ـ القيادتان القطرية والقومية لحزب البعث، قررتا الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين (كيما تتيح لهم جميعاً أن يسهموا في شرف الدفاع عن وطنهم).
ـ راديو دمشق أذاع أن أحد الطيارين الإسرائيليين اللذين وقعا في يد العراق أمس، صرح بأنه أقلع مع عدد من الطيارين الإسرائيليين الآخرين في طائرة هيلوكوبتر إلى حاملة طائرات أمريكية قادوا الطائرات منها مباشرة واتجهوا إلى سماء المعركة.
ـ إسرائيل أعلنت صباح اليوم أن قواتها قد بدأت الهجوم على مواقع الجبهة السورية التي كانت تقصف المستعمرات الإسرائيلية في الجليل باستمرار في اليومين الماضيين.
وقال بيان إسرائيلي آخر ظهر اليوم أن الهجوم على الجبهة السورية مازال مستمراً وأن المواقع السورية قامت بقصف المستعمرات في الجليل هذا الصباح. وقال بيان إن المواقع السورية على طول خط الجبهة قامت بقصف متواصل للأراضي الإسرائيلية.
وقال إن المدفعية السورية لم تهدأ في قصفها للمواقع الإسرائيلية خلال الأيام القليلة الماضية، وقال إن بعض أهدافها كانت على مسافة بعيدة داخل إسرائيل كبلدة روشبينا وقريات شمونه وهاتسور.
وقال إن الطائرات السورية أغارت على مدينة طبريا وأن المشاة السوريين المدعومين بالمدفعية قاموا بعدة غارات على المستعمرات الإسرائيلية.
ـ مجلس الأمن الدولي عقد جلسة طارئة بطلب من سورية التي ناشدت المجلس وقف العدوان الإسرائيلي على أراضيها.. وجاء في برقية من وزارة الخارجية السورية: (... إن العدوان الإسرائيلي استمر على الجبهة السورية، التي تتعرض حتى هذه اللحظات لغزو إسرائيلي شامل من جميع صنوف الأسلحة من دبابات ومدافع وطيارات). وقالت البرقية: (إن سورية تحمل مجلس الأمن والضمير العالمي، مسئولية هذا العدوان المجرم).
ـ الدكتور جورج طعمة مندوب سورية في مجلس الأمن (إنه ليس هناك من شك في أن هدف إسرائيل هو غزو شامل لسورية، وفيما أنا أتكلم اليوم تقوم الطائرات الإسرائيلية دون تمييز بقصف الأهداف العسكرية والمدن والقرى والمدنيين. إن طوابير من الدروع الثقيلة تقضي على كل أثر للحياة والممتلكات ووحشية المعتدين تكاد لا توصف...)
أكد الدكتور جورج طعمة بعد 90 دقيقة من توجيه نداء مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، قبول سورية مجدداً بوقف إطلاق النار، ولكنه قال:
(... إن القوات الإسرائيلية مازالت مستمرة بالتقدم داخل أراضي بلاده على الرغم من القرار الجديد، وإن الطائرات الإسرائيلية هاجمت دمشق. وأضاف يقول: إنه علم بينما كان المجلس لا يزال مجتمعاً، إن القوات الإسرائيلية دخلت الأراضي السورية وأنها تتجمع حول بلدة مسعدة (قيادة القطاع الشمالي).
السبت 10 حزيران 1967
ـ بلاغ صادر من راديو دمشق صباح اليوم: (بالرغم من تأكيد إسرائيل لمجلس الأمن الدولي إنها أوقفت القتال فإنها لم تنفذ ما تعهدت به وبدأت قوات العدو صباح اليوم الضرب بكثافة من الجو وبنيران المدفعية والدبابات ومازالت قواتنا تقاتل العدو بكل ضراوة في جميع الجبهات).
ـ الساعة 9.30 أعلن بلاغ عسكري: (إن القوات الإسرائيلية استولت على مدينة القنيطرة بعد قتال عنيف دار منذ الصباح الباكر في منطقة القنيطرة ضمن ظروف غير متكافئة، وكان العدو يغطي سماء المعركة بإمكانات لا تملكها غير دولة كبرى، وقد قذف العدو في المعركة بأعداد كبيرة من الدبابات واستولى على مدينة القنيطرة على الرغم من صمود جنودنا البواسل. إن الجيش لا يزال يخوض معركة قاسية للدفاع عن كل شبر من أرض الوطن كما إن وحدات لم تشترك في القتال بعد قد أخذت مراكزها).
ـ راديو دمشق، يردد الشعارات الوطنية، ويدعو إلى الاستبسال، ويقول: (سنقضي على العدو بالسلاح العربي وحده، وبالسلاح العربي وحده ودون الاعتماد على طيران صديق سننتصر ).
ـ الساعة 12.05 صدر بلاغ عسكري يقول: (إن قتالاً عنيفاً لا يزال يدور داخل مدينة القنيطرة وعلى مشارفها). وقال البلاغ: (إن القوات السورية مازالت حتى الآن تقاتل داخل المدينة وعلى مشارفها جنباً إلى جنب مع قوات الجيش الشعبي بكل ضراوة وصمود بحيث لم يتمكن العدو من السيطرة الكاملة على مدينة القنيطرة ). وأضاف: (إن القوات السورية دمرت أعداداً كبيرة من دبابات العدو بالقنابل المحرقة).
الساعة 12.34 بلاغ عسكري أعلن إسقاط 3 طائرات للعدو فوق دمشق.
الساعة 14.02 بلاغ عسكري أعلن إسقاط طائرة معادية شمال غربي دمشق.
الساعة 19.5 أي بعد الموعد المحدد لوقف إطلاق النار، كان راديو دمشق لا يزال يردد نداءات الصمود إلى الجنود السوريين.
ثم أعلن وزير الدفاع بعد ذلك بلاغاً أعلن إن طائرات إسرائيلية حاولت التسلل إلى سماء دمشق في الساعة 19.35 أي بعد الموعد المحدد لوقف إطلاق النار في 5 دقائق. وقال البلاغ: إن المدفعية المضادة تصدت لها وأسقطت اثنتين وقعتا في التلال الواقعة جنوب الكسوة على بعد 25 كيلومتراً من دمشق.
وقال البلاغ أيضاً: إن الطائرات الإسرائيلية التي حلقت فوق مدينة حماة ليلة الجمعة أسقطت منها طائرة في الساعة 7.55 وإنه عثر على حطامها قرب قرية الوراقة التي تبعد مسافة 2 كيلومتر عن مصياف.
وقال البلاغ: إن المدفعية المضادة للطائرات أسقطت الساعة 9.30 من الصباح أيضاً قاذفة قنابل من نوع فوتور سقطت في الجبهة قرب تل أبي الندى وقد أسر طيارها.
وقال: (وبهذا تكون مدفعيتنا المضادة للطائرات قد أسقطت اليوم 7 طائرات للعدو).
ـ تقارير من تل أبيب تقول إن القتال على الجبهة السورية يبدو قد انتهى. ونفت مصادر إسرائيلية أي نية في التوجه نحو دمشق وقالت: إن إسرائيل تنوي فقط احتلال تلال الجبهة السورية المحصنة والمزروعة بالمدفعية التي كانت موجهة نحو المستعمرات الإسرائيلية في سهل الجليل.
وقالت التقارير: إن المدفعية السورية كانت قد أحدثت خراباً كثيراً وفوضى هائلة في الأراضي الإسرائيلية في اليومين الماضيين.
أما عن القتال فقالت تقارير واردة إلى تل أبيب من الجبهة السورية إن القتال في هذه الجبهة كان الأكثر دموية في الحرب كلها.
وتقول التقارير: إن القوات الإسرائيلية تسيطر الآن على المرتفعات الهامة على الجبهة بعد أن دخلت مئات من المدرعات من نقطة في القسم الشمالي من الجبهة وهاجمت القوات السورية من الخلف وكانت القذائف الإسرائيلية قد حاولت إسكات المواقع السورية بدون جدوى وبقيت هذه المواقع تقصف الأهداف داخل إسرائيل حتى صباح اليوم.
وتقول التقارير الواردة من الجبهة: إن إسرائيل استعملت عدداً كبيراً من الدبابات التي أسرتها من الجبهة الأردنية في هجومها على سورية.
وتقول التقارير: إن السوريين استعملوا ثلاثة ألوية على الجبهة بما فيها المدرعات والمدفعية.
ـ بيير لامبرت مراسل جريدة (صنداي تايمز) البريطانية الأسبوعية، قال: إنه كان في إحدى الدبابات الإسرائيلية التي هاجمت سورية، وإنه شاهد ستة من الأسرى العرب يقودهم الإسرائيليون..
وقال المراسل: إن أحد الجنود الذين كانوا يحرسون الأسرى أبلغه (إننا أسرناهم في خندق، كانوا 12 رجلاُ وحاربوا كالأسود، وقد قتلنا الستة الآخرين).
مراسل جريدة (جيروزاليم بوست) الحربي، ذكر (أن المواقع الأمامية في الجبهة السورية، التي اخترقتها إسرائيل، كانت تحميها وحدات من الحرس القومي ، بينما كانت وحدات تتمركز في المواقع الخلفية في منطقة أعلى التلال). وقال المراسل: (إن السوريين أبدوا مقاومة عنيفة، وأنهم تخلوا بعد قصف عنيف من المدفعية والطائرات وهجوم بالمدرعات ذي ثلاثة رؤوس تساندها وحدات من المشاة آلية تتقدم من الجنوب).
ـ الدكتور جورج طعمة مندوب سورية في مجلس الأمن أعلن (إن معركة عنيفة تدور (في هذه اللحظة) بين القوات السورية و(القوات المجرمة) القادمة من تل أبيب والتي تحاول الوصول إلى دمشق في أقرب وقت ممكن...)
ـ أوثانت (الأمين العام للأمم المتحدة) أبلغ مجلس الأمن أنه تلقى رسالة أخرى من الجنرال أودبول جاء فيها أن رئيس لجنة الهدنة السورية الإسرائيلية المشتركة قد أعلمه أن هجوماً جوياً على دمشق كان ولا يزال مستمراً في الساعة 12.23 من ظهر اليوم بتوقيت دمشق.
ـ أوثانت أبلغ مجلس الأمن أن رئيس لجنة الهدنة السورية ـ الإسرائيلية المشتركة أكد في الساعة 13.25 على حدوث هجوم جوي في الساعة 9.35 على منطقة مطار دمشق، وهجوم آخر إلى الجنوب من دمشق الساعة 10.55 وهجوم ثالث إلى الشمال والشمال الشرقي من دمشق في الساعة 11.19 وأن كل الضربات كانت موجهة إلى خارج دمشق.
ـ في ساعة متأخرة من ليلة 10ـ11/6/1967، عاد مجلس الأمن للاجتماع، وجاء في تقرير لأوثانت: (.. إن فريق طليعة من المراقبين وصل مع ثلاثة ضباط ارتباط سوريين إلى سعسع الواقعة على بعد 40 كيلومتراً من القنيطرة وهناك علموا أن القوات الإسرائيلية احتلت البلدة).
وجاء في التقرير، نقلاً عن تقرير الجنرال أودبول (.. إن مما يزيد في الصعوبات، توغل القوات المسلحة لأحد الجانبين كثيراً في أراضي الجانب الآخر).
وذكر أوثانت أن مراقبي الأمم المتحدة شاهدوا في الساعة 7.47 من مساء اليوم، بتوقيت دمشق، (أي بعد 17 دقيقة من موعد وقف القتال)، طائرات مجهولة الهوية ذات أجنحة على شكل دلتا تهاجم دمشق.
(ج) بعد الحرب:
الأحد 11 حزيران 1967
ـ وزير الدفاع السوري أصدر بلاغاً جاء فيه: (... خلال المعارك القاسية التي جرت بين قواتنا الباسلة وقوات العدوان الاستعماري الثلاثي، حاول العدوان اختراق خطوط دفاعنا الأولى أكثر من مرة، بكل ما يملك من أسلحة وطيران متفوق، وكانت قواتنا تصد تلك الهجمات المتكررة وتقصف مواقع العدو منزلة بها الدمار).
(... لقد قاتل جنودنا الأشاوس بضراوة نادرة، وصمدوا أمام تفوق العدو الآلي وغارات طيرانه الكثيف المتلاحق دون انقطاع الذي تأكد بشكل قاطع أنه لدول العدوان الثلاثي وليس لإسرائيل فقط).
(... لقد دافع جنودنا الأشاوس عن كل قطعة من أرض الوطن ببسالة منذ بدأ العدوان، ولكن القوى غير المتكافئة بيننا وبين العدو الثلاثي وخاصة الطيران الغزير ، مكن العدو من اختراق خط دفاعنا الأول في القطاع الشمالي في محاولة لتطويق قواتنا. ولقد قاومت قطعاتنا هذه الخطة بوعي وأحبطتها، ولم تمكن العدو من تنفيذ خطته. وقاتل جنودنا قوات العدوان الثلاثي المتفوقة ببسالة لم يشهد لها مثيل، وهم يتمركزون الآن في خط الدفاع الثاني متحفزين لاستعادة كل شبر من أرض الوطن ).
ـ ناطق عسكري إسرائيلي قال اليوم إن القوات الإسرائيلية قد استولت على منطقة واسعة من الأراضي السورية خلف الجبهة.
ـ مجلس الأمن الدولي عقد اجتماعاً ليلياً بناء على دعوة مستعجلة من سورية التي قالت إن القوات الإسرائيلية مازالت تتقدم في سورية.
ـ الدكتور جورج طعمة مندوب سورية قال: إن القوات الإسرائيلية تحركت إلى الشرق والجنوب من روافد (صوابها رفيد) وقال إن هدفها كان الاستيلاء على منابع اليرموك.
ـ نفت إسرائيل الشكوى وقالت إن تحركات الآليات تمت في خطوط وقف إطلاق النار وليس وراءه (لقد حددت إسرائيل خط وقف القتال على هواها).
ـ استمع المجلس إلى تقرير من الجنرال أودبول. جاء فيه (... إن دبابات إسرائيلية شوهدت تتحرك إلى الشرق ثم إلى الجنوب من قرية الجوخدار التي تقع إلى الجنوب الغربي من رافد (رفيد).
وقال الجنرال أودبول أيضاً: (... إن إسرائيل قد أسرت عدداً من ضباط الاتصال السوريين، ولكنها قالت فيما بعد إن ستة من هؤلاء الأسرى قد أعيدوا إلى سورية).
أندرو ويلسون المراسل الحربي لجريدة (الأوبزرفر) كتب يصف الحرب، في مقال طويل جاء فيه: (... إن النصر الإسرائيلي كان النصر المخطط الأكثر دقة منذ اجتياح جنود هتلر لفرنسا عام 1940، وقال إن الإسرائيليين اعتمدوا في ذلك على أن القوات العربية ليست تحت قيادة موحدة، وإن الأحداث أكدت صحة هذا الاعتقاد).
وقال: (... وعلى الجبهة الشمالية مع سورية، تحققت نبوءة المخططين الإسرائيليين، وكانت عمليات القوات السورية محدودة جداً، فلم يقم السوريون بأية عمليات جدية، لمساعدة المصريين في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه، وانحصرت مساعيهم في هجومات محلية على مستعمرتي حدود إسرائيليتين).
الاثنين 12 حزيران 1967
ـ جريدة (الثورة السورية): (... كان يمكن أن تكون نتائج المعركة أعظم بكثير لو توافر تنسيق أوسع للاستراتيجية العربية ورافق ذلك توزيع أدق للقوات).
(... كان من المفروض أن تعمل في الصحراء قوى خفيفة وسريعة مهمتها الضرب والانسحاب، على أن يركز العمل الهجومي من الحدود الأردنية وتبقى المهمة الرئيسية في الصحراء وعلى الجبهة السورية هي الدفاع واشغال العدو).
(... إن الوطن العربي كله يجب أن يتحول إلى ثكنة مدربة بأقصى سرعة..)
(... إن القتال الذي دار في القنيطرة بين القوات السورية المعززة بقوات الجيش الشعبي وبين القوات الإسرائيلية، يفوق قتال ستالينجراد وبور سعيد) . ووصفت ذلك القتال جريدتا البعث والثورة، بأنه أشرف قتال عرفه التاريخ الحديث.
ـ إسرائيل منعت الدخول إلى منطقة المرتفعات السورية (الجولان) إلا بإذن خاص. وقال ناطق بلسان الجيش الإسرائيلي أن من يدخل المنطقة يعرض حياته للخطر لأنها زرعت بالألغام.
الثلاثاء 13 حزيران 1967
ـ جريدة الثورة السورية الناطقة بلسان الحكومة البعثية قالت: (... إن أهم نصر حصل عليه العرب في حربهم مع إسرائيل، هو تلك الاندفاعية الثورية التي امتدت من المحيط إلى الخليج) .
الأربعاء 14 حزيران 1967
ـ الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الدولة السورية، أذاع بيناً باسم القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم دعا فيه إلى: (... استئصال الوجود السياسي والاقتصادي لبريطانيا والولايات المتحدة والدول الأخرى التي ساندت إسرائيل في العالم العربي). وجاء في البيان: (... وقد استجابت سورية للقرار بعد وقف القتال في سيناء ـ يقصد قرار وقف إطلاق النيران ـ نتيجة لذات الظروف القاسية). وقال: (إنه اتضح بما لا يقبل الشك أن الطيران الأمريكي والبريطاني دخل المعركة مع الطيران الإسرائيلي ضد سورية).
البريجادير صموئيل ايال، رئيس دائرة أسرى الحرب في الجيش الإسرائيلي، قال: إن إسرائيل تأمل تبادل 5499 أسيراً عربياً مقابل 16 جندياً إسرائيلياً أسروا خلال الحرب الأخيرة.
وادعى أن في المعسكرات الإسرائيلية 4500 أسير مصري و487 أردني و333 سوري بالإضافة إلى 179 من الأسرى الجرحى الذين يعالجون في المستشفيات الإسرائيلية. وادعى أيضاً أن بين الأسرى المصريين 300 ضابط بينهم تسعة برتبة جنرال. أما عن الأسرى الإسرائيليين فقال إن تسعة منهم في أيدي المصريين واثنين في كل من العراق وسورية والأردن وواحداً منهم في لبنان.
الاثنين 19 حزيران 1967
باتريك بروجان، مراسل جريدة (التايمز) البريطانية زار مع مجموعة من الإسرائيليين مرتفعات الجولان السورية التي احتلتها إسرائيل وقال: (إن الإسرائيليين تغلبوا على خطوط الدفاع السورية التي تبدو غير قابلة للاختراق، بالدوران حولها، وأخذها من الخلف، وقال إنهم استخدموا الطريق التي كان الجميع يظن أنه لا يمكن اجتيازها، وهي الوادي الضيق الذي يمر شرقاً من مستعمرة دان الذي يمر فيه نهر بانياس وقال إن الوادي لم يكن محمياً سوى من قبل لواء واحد وقليل من المدفعية وقد اجتاحها الإسرائيليون خلال الليل ثم استولوا على مواقع المدفعية على مهل.
السبت 24 حزيران 1967
محمد الزعبي وزير الإعلام السوري، صرح في مؤتمر صحفي رفض سورية الصلح مع إسرائيل، وقال: (... إن سورية خسرت في المعركة 20 ضابطاً و125 جندياً. وقد جرح 98 ضابطاً و500 جندي بالإضافة إلى 300 من المدنيين والعسكريين أصيبوا بحروق من قنابل النابالم.
وأضاف أن حوالي 45 ألف سوري نزحوا عن المنطقة المحتلة. أما عن الأسرى فقال إنه لا يمكن إحصاؤهم لأن إسرائيل مازالت تعتقل المواطنين..
وقال إن الجيش السوري صمد ثلاثة أيام حين هاجمته إسرائيل، إلى أن صدرت له الأوامر بالانسحاب حين رأت القيادة أن خطة إسرائيل كانت تطويق قطعات الجيش السوري )..
الجمعة 30 حزيران 1967
البريجادير جنرال مردخاي هود، قائد سلاح الطيران الإسرائيلي، قال في حديث له عن أعمال الطيران الإسرائيلي ضد الطيران العربي: (... إن ثلثي سلاح الطيران السوري دمر خلال ساعة واحدة.. وعندئذ انتقل الثلث الباقي إلى مطارات تقع خارج نطاق القتال).












لمحات متنوعة
من صور الجريمة
1ـ سبق أن أشرنا في فصل سابق إلى موضوع الملاغم... ولقد ثبت لدينا أن الملاغم هذه لم تنسف، ولو أنها نسفت لكان اليوم للجولان وضع آخر.. لأن نسفها كفيل بإيقاف العدو عن التقدم ساعات طويلة.. قد تكون وقتها كافية ليستعيد القادة المخلصون أنفاسهم ـ إن وجدوا ـ ويستجمعوا قواهم، ويتخلصوا من عناصر الخيانة.. ويسيطروا على قوات الجبهة فيديروا من جديد، قتالاً صحيحاً ضارياً، ربما كانت له آثار كبرى، في إحباط الصفقة المعقودة بين إسرائيل وحزب البعث.. والتي بموجبها بيع الجولان للعدو.
2ـ بعد البطولات التي قام بها سدنة الأسلحة المضادة للطائرات.. بدأت المأساة تمتد إليهم أيضاً، فبدأت الذخيرة تصل إليهم مطلية بالشحم، ولهذا أكبر الأثر في تأخير هذه الأسلحة عن تحقيق فعالياتها في الوقت المطلوب.. وذلك بسبب النقص الهائل في سدنة مستودعات الذخيرة، بسبب إهمال كبير ارتكبه قسم من إدارة وحدات المدفعية هذه، لأن واجب تنظيف الذخيرة من الشحم وإيصالها نظيفة صالحة إلى المدافع هو من مسئولية أجهزة الإدارة في هذه الوحدات.
3ـ في منطقة الجبهة، وفي القطاع الأوسط بين كفر نفاخ، والقنيطرة توجد مستودعات ضخمة جداً للذخيرة من العيارات والأنواع المختلفة.. محفورة في تل خنزير المرتفع (977).. وهذه المستودعات مخصصة لتزويد وحدات القطاع الأوسط بكاملها وأية قطعات أخرى تلحق على القطاع.. باحتياجها من الذخيرة.
ولقد كان مشهد استلام الذخيرة من هذه المستودعات، من أسوأ صور الإهمال والفوضى.. فلقد تزاحم مندوبو الوحدات لاستلام احتياجها من الذخائر، بينما لم يوجد في هذه المستودعات من المسئولين عن التسليم سوى مساعدين اثنين، وهذا ما سبب في تأخير وصول الذخيرة إلى المدفعية والمدفعية المضادة للطائرات.. كان له أثر كبير السوء في معنويات الوحدات.. وسرعة تدخلها ضد قوات العدو وطيرانه.
4ـ في ألوية الاحتياط، التي حشدت للزج بها في المعركة.. والتي كلفت بالهجوم على أحصن منطقة دفاعية في إسرائيل كلها، (منطقة الجليل حتى صفد ـ الناصرة). في هذه الألوية.. كان أكثر من 90% من ضباط وحدات هذه الألوية، من غير المدربين مطلقاً على المهمات التي أوكلت إليهم..
فهناك ضباط احتياط لم يدربوا على أكثر من قيادة فصيلة مشاة، عبئوا في وظائف رؤساء عمليات كتائب ، ورؤساء أقسام عمليات في قيادات الألوية. وهناك ضباط كلفوا قيادة وحدات الهاون أو المدفعية مع أن تدريبهم في كلية ضباط الاحتياط، كان على أعمال المشاة، أو كان منهم من درب ـ منذ عشر أو خمس عشرة سنة ـ على الهاون القديم ـ الإفرنسي ـ ثم جيء به ليقود قتال وحدات هاون أو مدفعية من النوع الروسي حديث الصنع. ومن الضباط من كلف قيادة وحدات المدفعية م ـ ط ، وهم لا يعرفون عن هذا النوع من السلاح إلا اسمه فقط. ومن الضباط أيضاً من كلف قيادة سرايا أو فصائل مدفعية م ـ د ، بينما كان اختصاصه السابق هو الإشارة (أجهزة وطرق إقامة الاتصالات العسكرية).
هذا غيض من فيض.. من الذي يمكن أن يقال عن سوء تعبئة الاحتياطيين حسب الاختصاصات، وهذا مثال بسيط، اتخذنا فيه الضباط نموذجاً لنشرح بواسطتهم تلك الجريمة البشعة، وما يقال عن الضباط، يقال أضعاف أضعافه عن ضباط الصف والجنود.. فضاربوا الآلة الكاتبة عينوا رماة على مدافع الـ م ـ د أو الـ م ـ ط ، والذين قضوا خدماتهم السابقة حجاباً أو خداماً في بيوت الضباط، عينوا ممرضين أو نقالى جرحى، أو حتى سائقي شاحنات. والذي دربوا في خلال خدمتهم على الأسلحة الفنية والدقيقة والفعالة، أعفوا هذه المرة من خدمة الاحتياط. وهكذا… كانت الألوية الاحتياطية ـ كما شاءت لها قيادة حزب البعث ـ عبارة عن حشد بشري متلاطم متنافر، جمعته الملابس، وفرقته النعرات والعداوات وسوء التدريب، وانعدام الاختصاصات.. فانفرط عقد تلك الكيانات ـ الصورية ـ عند أول تحليق قامت به طائرات العدو، وقصفت خلاله حممها على رؤوس هذه القوات.
5ـ لم تلجأ القيادة ـ رغم تهدد البلاد بالحرب ـ إلى إعلان التعبئة العامة، وخاضت الحرب ـ المسرحية ـ بقوات هزيلة مهلهلة، وباحتياط ضعيف غير مدرب وسيء التعبئة، اعتمدت في تعبئته على المقاييس الطائفية والطبقية، ووضعت هذه القوات في مقدمة الميدان، بينما تركت الوحدات والعسكريين (الموثوقين)، والمأمون جانبهم، في داخل البلاد، لتبقى قوة ضاربة بيد الحزب، يضرب بها أي تحرك قد يصدر من الشعب، لإزاحته وتطهير الأرض من مفاسده.
ولو أجرينا مقارنة بسيطة في وقفة قصيرة، بين الحزب الحاكم في سورية.. وحكام إسرائيل، لبدا لنا واضحاً البون المخيف في مفهوم الغيرة على البلاد، وإعطاء أمنها المحل الأول، قبل مصلحة وأمن الحزب أو الحكام.
فعلى الرغم من العداوة المستعرة بين ليفي إشكول ـ رئيس وزراء إسرائيل تلك الأيام ـ وبين موشى دايان.. فلقد كلف هذا الأخير، مهام وزارة الدفاع، وأعطي الصلاحيات الكاملة لقيادة الحرب ضد العرب، أي وضع موشى دايان ـ وقت الحاجة إليه ـ في موضعه الذي منه يستطيع أن يقدم أفضل خدمة لدولته وشعبه.
أما الحزب.. فقد أبعد ـ حتى أيام الحرب ـ أهل الاختصاص والخبرة، وأصحاب المصلحة الحقيقية في الحفاظ على تراب البلاد وصون أمنها والفئة الأكثر استعداداً للبذل والفداء لحمايتها، استبعدوا، وشردوا ولوحقوا وسجنوا، وحوكموا، وصدرت بحقهم أحكام شتى.
كل ذلك.. لصون أمن الحزب، وسلامة الحكام.. على حساب أمن البلاد، وسلامة أرضها وأهلها.
6ـ وأسوأ من ذلك، ورغم دعوة الاحتياط بالشكل السيء الذي شرحناه.. ورغم وضعه مشلولاً في مواجهة عدو مدرب خير تدريب، ويملك أحدث وأفتك الأسلحة، رغم كل ذلك، فقد كانت القيادة الحزبية الحاكمة، تمارس أبشع صور عدم الثقة بهذا الشعب، والخوف من أبنائه، فلم توزع الأسلحة والذخائر على الألوية الاحتياط المكلفة تنفيذ الهجوم على إسرائيل، إلا قريباً من قواعد الانطلاق.. في منطقة وادي حواء، وسنابر، والجمرك.. أي قريباً من العدو (1ـ 2) كم وحين أصبحت تحت رحمة طيرانه وضمن مدى رماياته بالمدفعية ـ وحتى الهاون ـ.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد.. بل قامت قيادة الحزب المناضل بتطويق هذه الألوية بواسطة كتائب الدبابات، الجاهزة للتدخل ضدها ـ لا ضد العدو ـ خوفاً من تحرك مفاجئ، قد تقوم به هذه الألوية أو جزء منها لـ (ضرب الثورة وإعادة حركة التاريخ إلى الوراء) .
ولما حان وقت تسلم العدو للأرض التي باعها إياها الحزب الحاكم.. عادت كتائب الدبابات هذه لتحمي (الثورة) وتركت ألوية الاحتياط ـ فريسة سهلة ـ أمام العدو، فكانت إحدى صور الكارثة.
7ـ وحتى أوامر الانسحاب (المزعومة)... فلم تصدر بشكل رسمي ولم تبلغ بصورتها العسكرية الصحيحة إلى الوحدات... وإنما تم إبلاغها بصورة هامسة إلى الضباط الحزبيين، والقادة الكبار للتوجه إلى دمشق، وحضور اجتماعات حزبية،، الذين ما عتموا أن أداروا ظهورهم إلى وحداتهم، وولوا دبرهم للعدو، واتخذوا وجهة الهروب إلى دمشق، ومنها إلى حمص، لأن قيادة الحزب كانت قد عملت حسابها أن دمشق ستسقط بيد العدو الإسرائيلي.
وأما الوحدات.. وخاصة الأمامية أو المعزولة، أو المطوقة، فلم تبلغ شيئاً من أوامر الانسحاب هذه.. ومكثت أكثرها في أماكنهم حتى يوم الجمعة 9 حزيران.. فوجدوا أنفسهم وقد أصبحوا معزولين عن باقي الوحدات.. وأخذت أجهزة الهاتف تمارس البكم القاتل، وشعر الذين بقوا حتى ذاك التاريخ، أنهم قد أصبحوا مثل بقايا قافلة تخلى عنها قادتها وحادوها وأدلاؤها، بعد أن تسللوا ليلاً إلى واحات مجاورة. وتركوها مشتتة في مواجهة الإعصار المحرق.. فابتدأ الهروب الكبير.. بالشكل الذي شرحناه.
8 ـ والحديث عن الهجمات المعاكسة... حديث ذو شجون.. يجرح القلب، ويشحن النفس بالآلام المزمنة.
الهجوم المعاكس.. أو سلسلة الهجمات المعاكسة التي كان مقرراً تنفيذها، لسد الخرق، ورد العدو واستعادة السيطرة على الأرض. تلك السلسلة من الأعمال التي سبق أن قررت ودربت عليها الوحدات. سلسلة الهجمات المعاكسة تلك بقيت حلماً في مخيلة أمثالي من الذين يشكل الجيش والجولان جزءاً عزيزاً من حياتهم. وبقيت صوراً باهتة عن فرضيات رسمها قادة سابقون. ولكنها لم تنفذ على الأرض حقائق حية تبرز حيوية هذا الشعب المعطلة، وتشكل وفاء لدين كبير في عنق الجيش، يؤديه راضياً مختاراً.. إلى الشعب الذي وثق به وضحى من أجله بلقمة العيش، وخبز اليوم.
الهجمات المعاكسة، تلك الأعمال القتالية التي تمثل أعنف صور الإصرار على الاحتفاظ بالأرض ورد المهاجم إلى حيث جاء غازياً غريباً لم ينفذ منها شيء.. وإليك أخي.. الخفايا الغريبة التي تتعلق بموضوعها.
إنك لو عدت معي إلى صفحات سابقة.. لوجدت أنني قد شرحت أن من جملة ما تضمنته خطة عمليات الجبهة والجيش.. سلسلة من الهجمات المعاكسة تنفذها الوحدات ابتداء من سرايا النسق الثاني من كتائب النسق الأول، المحتلة الموضع الدفاعي الأول، ومروراً باحتياطات الألوية فاحتياطات قيادة الجبهة، وانتهاء باحتياطي الجيش.
ولكن هل نفذ منها شيء... ؟
إن الحديث عن الهجمات المقررة على مستوى احتياطات كتائب النسق الأول، واحتياطات ألوية النسق الأول، هو ضرب من ضروب العبث وإضاعة للوقت دون أية فائدة، فلقد بينا أن هذه القوات، لم تقاتل مطلقاً، ولم تنفذ واجبها الأول في إجراء وإدارة القتال الدفاعي الثابت.. بله تنفيذ ما سبق أن كلفت به.. من تنفيذ الهجمات المعاكسة، التي هي مرحلة من أكثر مراحل القتال تعرضاً للأخطار المختلفة.. وفي مقدمتها، الالتحام حتى بالسلاح الأبيض.
مثل هذا القتال، تنفذه وحدات مدربة، ذات عقيدة تقاتل عنها، وتحمل إصراراً عنيداً على طرد العدو ومنعه من السيطرة على الأرض، وتدمير قواه وشل فعالياته.
إذن فالألوية لم تقاتل، ولم تنفذ هجماتها المعاكسة المقررة، وأسوأ من ذلك قيادة الجبهة.
إن أسئلة ضخمة تتجمع الآن، لتطلق في وجه المجرمين الذين كانوا يقودون الجبهة.
ـ ماذا فعلت بالقوات التي سبق لها أن سحبتها من مواضع القتال المتقدمة. بحجة إخلاء الأرض لأولية الهجوم (على صفد)..، لاحتلالها قواعد انطلاقها ؟
ـ ماذا فعلت قيادة الجبهة.. هذه، بالألوية التي ألحقت على الجبهة. وفي مقدمتها لواء السويداء، وكتائب الصواريخ، وكتائب المدفعية الطويلة 122 ـ مم، وكتائب الهندسة و.. و.. إلخ ؟؟
ـ بل ماذا فعلت تلك القيادة.. بالوحدات التي هي أصلاً من ملاكها مثل كتائب مدفعية الهاوتزر (122) مم وكتائب المدفعية الطويلة (122) مم ذات المدى الأقصى الذي يبلغ (21) كيلومترا.. وكتائب الهاون 120 مم وكتيبة الهندسة، وسرية قاذفات اللهب، وكتيبة المغاوير، و.. إلخ ؟؟
إني لأجد من العبث، محاولة الاستمرار في هذه التساؤلات.. لأن الجواب واضح مسبقاً، إذ كيف لقيادة أن تمارس سيطرتها على تلك القوات الضخمة، وفي وقت تجد فيها كبار قادتها.. قد ولوا دبرهم للعدو، وتركوا تلك الوحدات مشلولة عاجزة ؟
.. يبقى الحديث عن قيادة الجيش، واحتياطي الجيش.
ولقد سبق أن بينت كذلك، أن في خطة عمليات الجيش.. وفيما يتعلق بالجولان، هجمات معاكسة تنفذها مجموعة الألوية (29)، والتي تضم الألوية (72 المشاة المحمول، و18 المشاة، و90 الاحتياط، و70 المدرع، و37 المدفعية) ، بمعاونة كتائب كثيرة من الهندسة، والمدرعات.. والمدفعية، والإشارة وقاذفات اللهب وبمعاونة الطيران.
مثل هذا الهجوم المعاكس.. سبق أن دربت عليه الوحدات أكثر من مرة. ووضعت فرضياته في صلب خطة عمليات الجيش الخاصة بالجولان وكان يجب تنفيذه.
ولكن ما الذي حدث..؟
لست أدري إن كانت القيادة قد حشدت قوات مجموعة الألوية المذكورة كلها أو قسماً منها، أو أكثر، ولكن الذي وصل إلى علمي يقيناً أن اللواء السبعين المدرع ، كان قد حشد لهذه الغاية وتمركز في حرش بريقة ـ بير عجم قرب القنيطرة، في وضع الترقب لأداء واجباته.
وقبيل الاختراق الإسرائيلي للجبهة، الذي تم ظهر الجمعة 9 حزيران..
وفي صباح يوم الجمعة المذكور نفسه أصدر (اللواء) أحمد سويداني أمره إلى شعبة العمليات بوجوب تحريك اللواء السبعين وكتائب المدفعية والصواريخ لتنفيذ الهجوم المعاكس باتجاه (قنيطرة ـ واسط ـ القلع) ولكن رئيس شعبة العمليات اللواء عواد باغ، عارض الأمر، وفند خطأه، وأوضح للسويداني إن تحريك اللواء في وضح النهار، وفي أحوال انعدام الحماية الجوية الصديقة لتحركه.. وتحت سيطرة العدو الجوية التامة المطلقة على سماء الحرب.. أن تحريك هذا اللواء (وأية وحدات أخرى) نهاراً، وبصورة مكشوفة، يشكل جريمة كبرى، يكون من نتائجها إحراق وتدمير هذه الوحدات تدميراً تاماً.
فتراجع السويداني عن أمره، وأخذ عواد باغ على عاتقه تنفيذ الهجوم المعاكس في أحوال قتالية أفضل، ولذا فقد أصدر أمره إلى قائد اللواء السبعين.. (العقيد عزت جديد) وقادة كتائب المدفعية والصواريخ بوجوب التحرك ليلة 9ـ10 حزيران باتجاه (قنيطرة ـ واسط ـ القلع) لتنفيذ الهجوم المعاكس وطرد العدو المتقدم داخل أرض الجبهة.
إلا أن العقيد المذكور رفض تنفيذ هذا الأمر بحجة أنه ليس له أن يتحرك بدون حماية جوية، عندها ناقشه اللواء عواد باغ بأبسط الأسس القتالية الفنية، وأفهمه أنه جاهل بأبسط قواعد واجبه، وبين له أن تحركه ليلاً لا يشكل عليه أي خطر.. حتى إذا ما أتم احتلال خط الانتشار المقرر لإجراء الهجوم المعاكس (كل ذلك ليلاً)... وأصبح قريباً من وحدات العدو فإنه حين ينبلج الصبح، يستطيع تنفيذ الهجوم المعاكس، والالتحام مع العدو ثم مطاردته.. وبذلك يكون قد أصبح في وضع يحميه من ضرب طيران العدو.. لأن هذا الأخير لا يجرؤ على الضرب، لصعوبة تمييزه بين وحدات كل من الطرفين، ولارتفاع نسبة احتمال إصابته لوحداته ارتفاعاً كبيراً.
ولكن صوت العلم والحق والإخلاص الذي علا.. أخمدته رياح التآمر والإجرام، فلجأ العقيد المذكور إلى الاحتماء بوضعه الحزبي، والتطاول على أفضل شخصية عسكرية بقيت في الجيش حتى اليوم، واتصل مع كل من صلاح جديد، وحافظ أسد، وأعلمهما لما تم بينه وبين عواد باغ، أبلغهما مخاوفه من أن يحاول هذا الأخير إحالته أمام القضاء العسكري.. فطمأناه، وبددا مخاوفه وضاعت الجريمة في زحمة الجرائم، التي تلاحقت بصورة تحبس الأنفاس.
ثم ماذا فعل اللواء السبعون ؟
تحرك في الليل نفسه.. ولكن ليس في الاتجاه (قنيطرة ـ واسط) بل في الاتجاه (قنيطرة ـ دمشق)، وذلك لإنقاذ دباباته من التدمير بواسطة الطيران، لأن هذا اللواء، هو الوحيد الذي بقي في يد الحزب، أداة فعالة لإزهاق نفوس الأحرار من أبناء الشعب، ووصل إلى دمشق في الليل نفسه.. وانتشر في بساتين الغوطة وحدائقها، يخرب المزروعات ويدمر المحاصيل كل ذلك من أجل (حماية الثورة).
وأما كتائب المدفعية الصاروخية.. فقد دمرت، وفر سدنتها بعد القادة وفقد الجيش أحد الأسلحة الفعالة، التي كانت إلى ما قبل لحظة تدميرها من خيرة الاحتياطات.. بيد القيادة العامة، تتدخل بها في أي اتجاه مهدد.
9ـ والاستطلاع... ذلك الفرع الهام من فروع العمل القتالي، والذي تتوقف على درجة إتقان عناصره لواجباتهم، وعلى دقة المعلومات التي يقدمها نتائج، وبالتالي نتائج الحروب.
وعند الحديث عن الاستطلاع.. نجد أنفسنا مضطرين للعودة إلى الوراء عدة سنوات لنكشف للقارئ، جانباً من جوانب الجريمة التي ارتكبها حزب البعث، منذ أيام حركتهم التي أسميت 8 آذار.
فمنذ قيام حركة آذار المذكورة، عين في وظيفة رئيس قسم الاستطلاع لقيادة الجبهة، ضابط احتياطي برتبة ملازم أول اسمه نشأت حبش.
ونشأت حبش هذا.. شاب (بعثي)، من قرية جباتا الخشب، وشقيق السيد مروان حبش، عضو القيادة القطرية الحاكمة في سورية.
والاختصاص الأساسي لنشأت الحبش هذا، معلم مدرسة ابتدائية. ثم اتبع دورة كلية ضباط الاحتياط التي تؤهله لقيادة فصيلة مشاة.. وسرح بعد انتهاء خدمته العسكرية، ثم رفع رتبة ملازم أول احتياط.. واستدعى عقب الثامن من آذار، وسلم وظيفة رئيس قسم استطلاع الجبهة، واستمر في هذا العمل كل تلك المدة، حتى يوم تسليم الجبهة في ـ10 حزيران 67ـ.
وبعد هذا الاستطراد الذي كان لابد منه.. نعود إلى عمل الاستطلاع خلال أيام الحرب…
فأما بالنسبة لأقسام استطلاع الألوية فلم يظهر لها مطلق أثر.. وضاع ضباطها وعناصرها في زحمة الفوضى والهرب والانسحابات الكيفية التي وقعت.
وأما ما سبق أن قرر، من خطط الاستطلاع، وردت في خطط عمليات الألوية (القطاعات).. فهذا حدث أحلام.. ورؤساء الاستطلاع المسئولون، لم يكونوا يدرون عنها شيئاً. لأن خطط الاستطلاع هذه كانت قد حفظت في مصنفات الوثائق التي خلفها عهدا (الوحدة، والانفصال)، بينما في عهد الثامن من آذار، لم يعد من ضرورة لمتابعة خطط الاستطلاع، وتحقيقها، وتدريب الوحدات عليها.
إن ذلك قد أصبح من آثار العقلية (الرجعية) السابقة، أما أهل الثامن من آذار.. فقد ارتفعوا فوق ذاك المستوى.. إلى مستوى كوهين.. وشركائه الذين كشفوا والذين لم يكشفوا بعد.
وأما الاستطلاع في الألوية الاحتياط، التي كلفت الهجوم، ثم الدفاع، فلست أدري إن كان قد عين في قيادتها ضباط استطلاع.. ليقوموا بهذا الواجب أم لا.. وأغلب الظن أنه لم يعين لها أحد لهذه الوظائف وإن كان قد عين لها أحد، فهل يمكن أن يكون خيراً، من نشأت حبش الذي عين رئيساً لاستطلاع أخطر وأكبر مجموعة قوات، تحمل أخطر وأكبر عبء في البلاد ؟؟
وأما سرايا استطلاع الألوية.. فلم يك وضعها خيراً من وضع باقي القوات، سوى أنها كانت مزودة بناقلات للجند مدرعة (ب . ت . ر)، وكانت هذه الآليات صالحة لنقل سرايا الاستطلاع هذه إلى مناطق أمينة خارج حدود أرض القتال.. ففرت مع الفارين، ولكن الطيران المعادي أدركها ودمر الآليات وأكمل الفارون زحفهم على الأقدام.
واستطلاع قيادة الجبهة، كان مشلولاً عاجزاً.. قدم سلسلة من التقارير المشوهة الضعيفة في مستوى صحة معلوماتها، وكان أبرز التقارير التي رفعها إلى القيادة تقرير كان تاريخه الجمعة 9 حزيران ويفيد بأن العدو قد حشد في مواجهة القطاع الشمالي حوالي 60 دبابة (لنا عودة لهذا الموضوع في صفحات قادمة).
أما المعلومات عن: (نوايا العدو ـ قطاع الخرق المحتمل ـ الاتجاه الرئيسي المحتمل للهجوم ـ كثافة قوات العدو ـ مناطق تجمعه.. قاعدة انطلاقه.. إلخ)، هذه المعلومات التفصيلية الدقيقة، التي هي من صميم عمل وحدات الاستطلاع، الحصول عليها وتقديمها إلى القائد في الوقت المناسب.. فلقد كانت أشياء يجهلها (الحبش) ذاك.. ولا غرو.. فهو لم يسمع بها كل حياته، فمن أين له أن يناقشها ويحصل عليها ثم يقدمها للقائد ؟
وحتى بعد إجراء القتال، وحين بدأت قوات العدو تدخل أرضنا الطاهرة.. كان من أكبر الواجبات المستمرة على الاستطلاع، أن يحدد بصورة دائمة للقائد، خطوط التماس مع العدو، وأعماله المستمرة، ثم الكشف عن نواياه للمراحل القادمة من القتال..
ولقد كانت القيادة العامة في دمشق.. جاهلة كل الجهل، كل ما يفيدها عن خطوط التماس مع العدو، وعن أعماله وكانت ـ وكأنها قيادة جيش آخر يقع في الصين مثلاًـ تجهل كل شيء، عن الوضع القتالي القائم في الجبهة، رغم تحرك بعض القادة إلى مراصدهم المتقدمة.. ولكن ذلك لم يفد شيئاً، وبقيت قيادة الجيش في دمشق تسمع أخبار تحركات العدو، من الإذاعة السورية .. كل ذلك بفضل ضباط الاستطلاع (النموذجين) أمثال: نشأت حبش في القنيطرة وسهيل الحسن في دمشق.
10ـ ولو عدت معي أخي إلى صفحات سابقة، لوجدت أنني كنت ذكرت أن من جملة ما تضمنته خطة العمليات، وضمن نطاق خطة الدفاع م ـ د هو عمل قاذفات اللهب الثقيلة، ومفارز السدود المتحركة.
فماذا جرى يا ترى...
قاذفات اللهب الثقيلة، تركت في أرضها، واستلمها العدو جاهزة ليحولها إلى صدر أبنائنا، ولم توجد الأيدي التي كانت لديها القدرة على ضغط زنادها، لتقذف حمم النيران (النابالم) فتحرق وتدمر دبابات العدو.. وخاصة في القطاعين الأوسط والجنوبي.
وأما مفارز السدود المتحركة (انظر شرحها في فصل الإعداد المسبق) فلم تعمل ابدأً.. وتركت الآليات (ب . ت . ر) في أماكنها ملأى بالألغام الجاهزة، وهرب السائقون، وكان نصيب الآليات أن دمرت بطيران العدو، أو بقيت سليمة حتى جاءت مفارز جمع الغنائم الإسرائيلية، وأخذتها في جملة ما غنمت من أسلاب.. تركها جيشنا (المظفر).
11ـ أما الوثائق... فيا حسرتا على الجهود والأموال التي بذلت ـ مدة العشرين عاماً قبل النكبة ـ لتجهيزها وتحضيرها.. وضبط أفضل السبل ل***** أمن القوات والأرض بواسطتها.
الوثائق.. التي كنا نعتبر أن كل حرف تضمنته، مهما بلغ من تفاهته وقلة شأنه، سر من أشد الأسرار احتياجاً للحفظ.. نعتبر أن محتوياتها يجب أن تكون خفية حتى على أفراد جيشنا، إلا المسئولين عن تنفيذ ما نصت عليه، وفي حدود حاجتهم للتنفيذ فقط...
الوثائق.. التي تحرص عليها حتى المؤسسات غير العسكرية، وتخفيها وتتكتم عليها بصيانتها إلى أشد موظفيها أمانة وقدرة على الكتمان.
الوثائق.. التي هي من أخطر الأسلحة التي يمكن أن تقع بيد جيش محارب، يستعمله ضد عدوه في ميادين القتال، ومجالات الحرب النفسية والسياسية.
الوثائق.. ويكفي اسمها.. ويكفي أن نعرف أنها تضمنت فيما تضمنته، خطط العمليات لكل من القيادة العامة، وقيادة الجبهة، والألوية وباقي الوحدات.
الوثائق.. التي حوت كل شيء عن الجبهة، منذ تأسيسها وحتى يوم النكبة.
الوثائق التي تعاقب القادة المختلفون على ائتمانها كل شيء عن الجبهة.. (حياتها ـ تدريبها ـ تسليحها ـ تحصينها ، خطة قتالها ـ خطة أمنها ـ مشاكلها اليومية والدائمة..) وكل ما يمكن أن يخطر ببال إنسان عن حياة جيش عاش فيها عشرين عاما يستعد ليوم حرب مثل يوم العار الذي وقع في حزيران.
الوثائق.. التي نصت الأوامر أن على كل مسئول لديه وثائق ـ مهما كان نوعها وحجمها ، أن يقتني إلى جانبها زجاجة مليئة بالبنزين مع واسطة إشعال (كبريت أو قداحة جاهزة) لإتلافها عند الخطر.
الوثائق.. التي كتب على كل مكان احتوته.. وبالخط العريض المحاط باللون الأحمر، لإبرازه لكل عين: (يتلف عند تهديد المقر).
هذه الوثائق التي تعادل حياة الجيش كله.. ماذا جرى بها ؟
(أ) إن الذي تأكد لدينا حتى كتابة هذه الصفحات.. أن مسؤولاً ما من مستوى قيادات الكتائب فما فوق لم يفكر مطلقاً بإتلاف شيء منها.. وتركت في أرضها، غنيمة رائعة للعدو،، يستفيد منا أكثر مما أفادته أجهزة الجاسوسية التابعة له بمئات المرات.
ويمكننا أن نقول.. أن بعض القادة، حاول أن يحمل معه شيئاً من الوثائق الهامة.. التي اعتقد أن وقوعها بيد العدو يشكل خطراً أكبر من وقوع سواها.. ولكن مثل هذا النوع من القادة، قليل جداً.. وكان حمله من هذه الوثائق لا يكاد يذكر نظراً لضخامة التصنيف المتراكم في مراكز القيادات المختلفة .
(ب) وأما الكثيرون من القادة الصغار.. وخاصة (ضباط الصف القدامى في الخدمة)، وفي المستويات العسكرية الصغرى (المتقدمة).. فلقد تمكن أكثرهم من إتلاف الوثائق في حيازته.. وخاصة في القطاعين الأوسط والجنوبي وقطاع القنيطرة.. ولكن هذا الذي أتلف لا يشكل أكثر من أذن الجمل، بالنسبة لأكوام الوثائق (بمختلف درجاتها ومستوياتها وبتنوع موضوعاتها..)، والتي تركت في الجولان، في جملة ما ترك فيه للعدو، من سلاح وعتاد وذخائر ومؤن و... أرض هي أعز وأكرم من كل ما ضاع.
(ج) وأن الذي أكد لنا صحة هذه المعلومات.. هو ما وصل إلى علمنا من أناس كانت لهم صلة بالأسرى الذي عادوا من إسرائيل بعد الحرب.. فلقد أفاد هؤلاء الأسرى أن السلطات الإسرائيلية، عرضت عليهم أكداساً من الوثائق، التي كانت تعتبر من أشد الأسرار دقة وأهمية، وكان الإسرائيليون يقولون لهم في كل مرة (هذه هي وثائقكم.. هذه هي خرائطكم.. هذه كانت نوايا قياداتكم المتعاقبة.. هاهي أمامنا.. موجودة في الوثائق والخرائط.. انظروا فنحن لسنا بحاجة إلى معلومات عنكم وعن جيشكم.. إننا نريد المعلومات عن الفدائيين.. والخبراء الروس فقط).
(د) وهناك أمر آخر.. يؤكد صحة ما نروي.. وهو أكداس المقالات والتصريحات و(صور الخرائط والوثائق) التي ينشرها العدو في كتب متعاقبة وصحف ومجلات كثيرة، توزع بأكثر لغات العام الحية، وتوزع في كل من أمريكا وأوروبا ودول المعسكر الشيوعي وعديد من بلدان آسيا (غير المسلمة) وعديد من بلدان أفريقيا...
هذه المقالات والكتب والتصريحات التي حظر إدخالها إلى البلدان العربية، تؤكد بوضوح أن العدو قد حصل على أكداس من الوثائق التي كانت في الجولان.. تشرح كل شيء عن وضع الجيش ونواياه طيلة العشرين عاماً التي سبقت النكبة.
وفي المناسبة هذه لابد من استطراد بسيط، أرجو أن يحقق ما أرجوه.
.. إن حقائق الحرب (المسرحية)، خفية عن أبناء هذه الأمة بتأثير أجهزة خفية منتشرة هنا وهناك من هذا الوطن.
ولذا فإنني أوجه نداء إلى المخلصين القادرين (أفراداً أو مؤسسات) أن يقوموا بتتبع هذه الأمور التي ينشرها العدو في العالم.. وجمعها ودراستها ومقارنتها واطلاع أهل الاطلاع والخبرة عليها، ليصار إلى تمييز الحق منها، وإزهاق الباطل الكثير فيها.. ثم عرض تلك الحقائق على الأمة العربية والشعوب الإسلامية، صوناً لها من الضياع، والوقوع في شراك الدعايات الصهيونية وشركائها وأجرائها.. المضللة.
12ـ وأما المقاومة الشعبية.. ذلك الرديف الأكبر، والمعين الأوفر الذي كان يجب أن يمد المقاومة الضارية بموج يتبعه موج من أعمال الضرب والكر والفر والهجوم والدفاع، حتى يعود الغازي إلى جحوره، وتتطهر الأرض.
المقاومة الشعبية.. التي كثيراً ما تبجحنا في سنين مضت، كلاماً عن دورها، وأهميتها والإنجازات التي حققناها لها.. (من تسليح، وتدريب، وتهذيب ثقافي، ورفع في مستوى الحياة الاجتماعي وتوعية وطنية صادقة وإقناع بوجوب البقاء في الأرض، والدفاع عنها بإصرار وعناد.. إلخ من تلك الجمل البراقة التي مزقت أجهزة الإعلام بها سماعنا، تطبيلاً وتزميراً لصالح عهود الحكم الاستبدادي المتعاقبة..)
المقاومة الشعبية التي ظن الناس ـ قبل النكبة ـ لكثرة ما سمعوا عن الاهتمام بها.. أنها ستكون خيراً من مقاومات الشعب الفيتنامي، أو خيراً من دفاع أهالي ستالينغراد.
المقاومة الشعبية تلك ماذا حل بها ؟
ماذا أصابها حتى انقلبت فجأة، وبين عشية وضحاها.. من (جيش شعبي) قادر على حماية الثورة، ومستوعب لكل الإطارات الثورية المناضلة)، وقادر على تحقيق (صور من البطولة تعجز عنها جيوش الارتزاق ) إلى مجموعات من
(النازحين) تشردت في بقاع الله الواسعة. تفتش عن مصادر للرزق الذي يقيم الأود، أو تقف صفوفاً يومية أو أسبوعية حتى ينالها ما خصص لها من تافه الزاد وضئيل المعونات ؟؟
.. إننا سبق أن نوهنا عن نقاط الضعف والقوة التي تكمن في بنيان المقاومة الشعبية هذه.. وعن صور الاهتمام والإهمال التي أدركت شعب تلك المنطقة.. ولذا فلم يكن غريباً علينا، أن نسمع أنباء نزح السكان وتخليهم عن واجب حماية الأرض، بعد أن تخلى عنه الجيش، وتركهم وحدهم في مواجهة العدو المتفوق عليهم في كل شيء.
ولكن.. لابد من توضيح جديد، لأحد وجوه الجريمة المحبوكة أدق حبك، والتي نفذها حزب البعث الحاكم في سورية.. منذ صباح الثامن من آذار 1963.
(أ) الشيء الخطير في هذا الموضوع.. هو أن القيادة قامت بتجريد رجال المقاومة الشعبية من أسلحتهم، وسحب كل ما كان بحوزة السكان من سلاح وذخائر.. وخاصة الأسلحة المتوسطة، كالرشاشات والهاونات المتوسطة الـ م ـ د، وباقي العتاد الخاص بالحرب، وتركت في أيدي مجموعات قليلة منهم، أعداداً من البنادق، وكميات محدودة من الذخيرة للتضليل، وذر الرماد في العيون.
(ب) وهناك شيء آخر، يتعلق بالمقاومة الشعبية ودورها الذي كان يجب أن تؤديه.. ولا يقل خطورة وأهمية عن الأمر السابق.. وهو أن قيادة حزب البعث العربي (العنصرية الطائفية) كانت قد صنفت سكان تلك المنطقة (وكذا سكان سورية كلها)، إلى مواطنين من فئات متعددة، وذلك حسب الترتيب التالي:
ـ السكان من أصل عربي، مواطنين من الفئة الأولى.
ـ السكان من أصل غير عربي (كردي، أو شركسي، أو تركماني، أو تركي..) مواطنين من الفئة الثانية.
وكان هذا التصنيف، من أكبر الأسباب التي هدمت بناء المجتمع وهيأت البلاد لتقبل الهزيمة..
13ـ ومن الأمور المخزية التي كان لها دور كبير في تمزيق كرامة الجيش هو الدور السيء الذي كان لسلاح الإشارة.
فلقد صرح لي أحد القادة الذين كان لهم مكان في الحرب، أن أجهزة الإشارة كانت أيام الحرب غير صالحة للعمل بنسبة لا تقل عن (60 ـ70 %) وذلك لأسباب فنية متعددة أهمها إهمال ال***** الدائمة للأجهزة وضعف المستوى التدريبي لسدنة الأجهزة، وتعيين كثيرين من الاحتياطيين، سدنة الأجهزة لم يروها كل حياتهم، وقد نتج عن ذلك أمور خطيرة نجملها بما يلي:
(i) فقد القادة سيطرتهم على وحداتهم بسبب فقدان الاتصال.
(ب) فقد الاتصال بين الوحدات المتجاورة، وكان من أهم نتاج ذلك، فقدان التعاون بين وحدات القتال.
(ج) استطاعت شبكات العدو الدخول على شبكات القوات السورية، وبذلك تمكنت من تحديد مواقع القوات والقيادات، ثم.. تدميرها، وكذلك استطاعت هذه الشبكات المعادية إيقاع الفوضى والبلبلة في صفوف القوات، وإعطاء القادة صوراً زائفة عن الوضع، مما سبب لهم عجزاً مطلقاً عن اتخاذ أية قرارات فعالة.
14ـ الشؤون الإدارية: كانت في أسوأ حال، وكان لها كبير الأثر تدمير معنويات الوحدات، وشل فعالياتها، وفيما يلي نماذج من ذلك الإهمال المدمر:
ـ تركت القوات كلها بدون طعان مدة أربعة أيام متواصلة. ولنا عودة لموضوع الطعام خلال المناقشة.
ـ الماء كان مفقوداً خلال تلك المدة، والتزويد به بواسطة الآليات أو أية واسطة أخرى معدوماً، وشرب الجنود من كثير من برك الماء الآسنة.
ـ أكثر العربات توقفت على الطرقات لفقدان الوقود، فجاء الطيران ودمرها وهي واقفة في العراء، أهدافاً ثابتة.
ـ المواد الطبية.. كان حلماً من الأحلام أن يشم رائحتها أحد من الجنود، وخاصة في الأنساق الأولى، القريبة من حدود التماس مع العدو.
ـ وأما الذخيرة ـ وخاصة ذخيرة المدفعية م ـ ط فلقد سبق أن أشرنا إلى انقطاعها أكثر من مرة عن الأسلحة، وقد اضطرت كثير من بطاريات المدفعية م ـ ط لنقل ذخيرتها على ظهر الدواب، التي استؤجرت من القرى لهذه الغاية بعد تدمير الآليات أو تعطلها..
ـ سيارات الإسعاف، دمرت بواسطة الطيران المعادي.. وكان الإخلاء مفقوداً.. فتركت على الطرق وعلى جوانبها الآليات والدبابات والأسلحة (المعطلة أو المدمرة، وحتى السليمة التي لم تصب بأذى)، وإلى جانب ذلك، ترك الجريح، والقتيل والمبتور، والمحروق، والذي سقط إعياء أو رعباً.. ذلك كله كان يغطي أرض الجولان ـ وخاصة قريباً من الطرق أو عليها ـ وأكثر الطرق التي ازدحمت بذاك الحطام هي الطرق المؤدية إلى دمشق أو درعاً أو اربد أو الأرض اللبنانية.
حدث ذلك كله في الوقت الذي كانت فيه مستودعات التموين المختلفة وخاصة في جباتا الخشب والحميدية، قد غصت بأنواع المؤونة المختلفة، ولكنها تركت للعدو ربحاً وفيراً، دون أن تستفيد منه القوات، فتقوم بواجبها خير قيام.
15ـ ولقد بلغ من سوء حال القوات في تلك الأيام العصيبة وجهلها بالأرض التي تتحرك عليها ـ والتي سبق أن كلفت بالقتال عنها ـ أن حقول الألغام (حقولنا)، كانت مجهولة من القوات التي حشدت في الجولان، لدرجة أن وحدات كاملة من (سرايا)، دخلت ـ خطأ ـ حقول الألغام (حقولنا)، ودفعت ثمناً لتلك الأخطاء، حياة عدد من أفرادها ومعنوياتها كلها، وروحها القتالية.. فكان لذلك دوره الكبير في تنفيذ المأساة التي خططت لوقوعها قوى الصهيونية، ونفذتها أجهزة حزب البعث.
16ـ ومن أكثر أسباب الألم للقلب والأسى للنفس.. الحديث عن أعمال التجسس والتخريب، التي قام بها عملاء العدو خلال تلك الأيام.
ولكن الحديث في هذا الموضوع، هو أيضاً من أكثر شعب الحديث حرجاً ودقة، لانه يفتقر إلى معلومات دقيقة، وأدلة واضحة، ولذا فسنكتفي بالحديث عن بعض ما وقع، دون الدخول في التفاصيل التي تحتاج إلى أدلة وإيضاحات لا نملكها.
ـ فلقد لوحظ أن مقرات القيادة التعبوية في كل من القطاعات وفي القنيطرة، قد قصفت بالطيران المعادي قصفاً بلغ من الدقة والإحكام غايتهما.. مما يدل على أن إشارات قد وضعت فوق هذه المقرات، لتدل الطيران على أماكنها، أو أن معلومات مسبقة قد وصلت لأيدي العدو، وحددت له أماكن تلك المقرات بالدقة الكاملة. وقد بلغ من دقة المعلومات لدى العدو أن الطيران لم يضرب سوى المواقع ومقرات القيادة الحقيقية، أما المواقع الهيكلية، ومقرات القيادة الخالية فلم يتعرض لها الطيران، وهذا وحده من أبلغ الأدلة على انتشار عملاء العدو وتغلغلهم المريع حتى استطاعوا الوصول إلى هذه الدقة.
ـ وكتيبة المدفعية الصاروخية العائدة لاحتياط الجيش: ما إن تحركت لاحتلال مرابضها المقررة، لتقوم بالتمهيد للهجوم المعاكس (على مستوى الجيش)، حتى تناولها الطيران المعادي ودمرها.. وهذه الدقة في الهجوم على وحدة تتحرك.. بعد دقائق من تحركها، تدل بدقة متناهية على أن هناك من أعطى ـ في الوقت المناسب ـ للعدو، التوقيت المقرر للتحرك، فجاء تدخل الطيران المعادي حاسماً ودقيقاً.
ـ فوجئ كثير من الأسرى، وخاصة الضباط، بالسلطات الإسرائيلية تعرض عليهم صوراً لمئات الضباط (سوريين ومصريين)، وتطلب منهم التعرف على أصحابها، وتزويدها بما يعلمونه عن كل منهم. ولقد لاحظ بعض الأسرى، أن على أكثر تلك الصور من وجهها الآخر، مطبوع ختم أحد المصورين المشهورين في القنيطرة .
ولهذه الصور قصة (تبدو الآن محزنة أكثر من أي وقت مضى)، وهي أن أسباب حصول ذاك المصور على العدد الأكبر من صور الضباط هو ما يلي:
(أ) أن ذاك المصور كان من أفضل المصورين في القنيطرة.
(ب) كانت القيادة بين حين وآخر، تطلب من الضباط أن يرسل كل منهم ـ ضمن مهلة قصيرة جداً ـ عدداً من صوره، لوضعها في ملفاتهم وخاصة في مناسبات الترفيع. ونظراً لقصر المهلة، كان يضطر القسم الأكبر من ضباط الجبهة لأن يؤمنوا تلك الصور المطلوبة بواسطة المصورين الموجودين في القنيطرة
(ج) ولقد ثبت بعد الحرب، أن ذاك المصور كان من أكبر من يزود السلطات الإسرائيلية بمعلومات مختلفة، وفي مقدمتها صور العسكريين ـ خصوصاً الضباط ـ وما يعرفه عن كل منهم.
ـ ولقد برز للعيان خلال ليالي تلك الحرب، أن شهباً ضوئية كثيرة انطلقت من أماكن شتى، وخاصة الأماكن الني كانت فيها وحدات أو عتاد أو مجموعات آلية ذات أهمية.. وفي اليوم التالي يأتي الطيران إلى حيث انطلقت الشهب، ويحوم حومات عدة، ثم يحدد أهدافه ويضرب.
والذي نستطيع توضيحه حول هذا الموضوع، أن الشهب لم تكن تطلق ـ بيد الجواسيس ـ لتحديد الأماكن التي يجب ضربها ـ وإنما لإعلام العدو عن وجود أهداف له في هذه المنطقة ـ لأن تحديد هدف ما بدقة كافية، بواسطة الشهب الضوئية، أمر غير ممكن ـ، ثم يتم تحديد المكان بدقة كافية في النهار، بطرق مختلفة، وأهمها الطيران، الذي يحدد أهدافه ـ وخاصة في ظروف سيطرة جوية كاملة له ـ ثم يضرب.
17ـ خلال فترة حشد القوات في الجولان، (لخوض الحرب) كما يزعمون.. حشدت في منطقة وادي الرفيد كتيبة دبابات برمائية (22 دبابة)، وقد أعطيت هذه الكتيبة واجب الهجوم في الاتجاه (الرفيد ـ العال ـ الكرسي ـ جينوسار) وذلك في محاولة لتطويق القوات المعادية التي كان أكبر حشد لها شمالي بحيرة طبرية.
ولكن حين ألغيت خطة الهجوم (المزعومة)، وتحول الأمر إلى دفاع تركت هذه الدبابات معطلة دون أو تعطي أي واجب.. (ولعل القيادة قد نسيتها)، حتى كان يوم الهروب الكبير.
وفر سدنتها والقادة مع الذين فروا من الجبهة، وتركت هدفاً ثميناً للعدو ليستولي عليها جاهزة سليمة.
إلا أن بعض العسكريين، الذين آلمهم ترك هذه الكتيبة دون تدميرها أعلنوا للقيادة تبرعهم بالتسلل للوصول إليها والعودة بها إلى دمشق قبل أن يتمكن العدو من اكتشاف أماكنها ويستولي عليها فرفضت القيادة ذلك، وتركت الكتيبة (البرمائية الثمينة) هدفاً من أثمن الأهداف التي مكنت قيادة حزب البعث، العدو الإسرائيلي من السيطرة عليه والفوز به.
18ـ وبعد احتلال الجولان.. وبعد انتهاء الحرب بفترة غير يسيرة.. قامت بعض الوحدات الفدائية بالتسلل إلى منطقة (جباتا الخشب)، بعد أن وصل إلى علمها أن المستودعات التي هناك، لا تزال سليمة ولم تصل إليها يد العدو، وأخذت تنقل ما قدرت عليه مما في تلك المستودعات وكانت هذه فرصة عظيمة لهذه المنظمات للتزود بالكثير من السلاح والذخيرة.
ولكن ماذا جرى...
وصل إلى علم العقيد عبد الكريم الجندي (مدير مكتب الأمن القومي)، نبأ فعل المنظمات هذه فأخذ يلاحق قادتها ويطاردهم ويضغط عليهم، حتى تمكن من معرفة الأماكن التي خبأوا فيها ما أخذوه، فصادره منهم، ولكن قادة المنظمات لم يسكتوا، فقابله بعضهم وأفهمه أن عمله هذا مرفوض ومستهجن، وقال له (إننا نسرق السلاح من إسرائيل بعد أن تركه جيشكم لها ربحاً ثميناً سالماً من كل عطل، فهلا توجهت أجهزتكم إلى الذين تركوه للعدو بدلاً من ملاحقتكم لنا ؟).
وكانت ردة الفعل ـ طبعاً ـ السجن والتعذيب للفدائيين الذين ناقشوه الحساب، والتهديد بالقتل لكل من تسول له نفسه إزعاج أمن السيدة (إسرائيل)، وإقلاق راحتها بعد أن ضمن لها خط وقف إطلاق النيران حدوداً جديدة.
19ـ وهذه صورة من الجريمة، أخرناها حتى آخر المسلسل، رغم أن تاريخ وقوعها، كان في بداية الأحداث.. وهي قصة ترحيل العائلات، ونقل المتاع.
فأما عائلات العسكريين، وأثاث بيوت الضباط، فقد تم ترحيلها قبيل الحرب، وكلفت بهذه المهمة مئات الشاحنات العسكرية، في الوقت الذي كانت فيه الوحدات تعاني أزمة نقص خطرة في الشاحنات، لنقل القوات والأسلحة والتموين.
وبخصوص العائلات.. هناك أمر كنا نود لو ألا نذكره.. ولكنه يشكل سوءاً في أمانة الشرح لو أغفلناه.. وإخفاء عن القارئ لأبشع صورة من صور التمييز الطائفي الذي مارسته القيادة في سلسلة من جرائمها التي ارتكبتها لتهديم البنيان الاجتماعي للبلاد.. تمهيداً ليوم الهزيمة المتفق عليه.. فالعائلات التي رحلت (خوفاً عليها من أخطار الحرب).. هي عائلات العسكريين والموظفين أبناء الطائفة العلوية فقط، دون غيرها، وقد تم ترحيلها قبل وقوع الحرب بأسبوعين.
ولقد طالب بعض المخلصين، المحافظ السيد (عبد الحليم خدام )، بالعدل في معاملة كل الناس، والعمل على ترحيل كل العائلات.. فرفض بعناد متكبر وقح، وأنقذ عائلات العلويين من التشريد، علناً، وتحت سمع وبصر باقي السكان والعسكريين.. بل وأمر بالإعلان على المآذن وبواسطة مكبرات الصوت أن على السكان أن يصمدوا، وهدد كل من يغادر القنيطرة، أو ينقل منها شيئاً من متاعه، بالقتل علناً أمام جميع السكان ليكون عبرة لغيره.. فاضطر السكان المساكين إلى الرضوخ،، وهم يرون بحسرة وحرقة..
وهكذا.. شاحنات الجيش، في ظل حزب البعث.. تنقل أثاث ومتاع العسكريين البعثيين، وتترك عتاد الجيش وسلاحه ووثائقه وحتى وحداته نهباً لطيران العدو.. وقواته الغازية !
ثم ترك السكان فيما بعد.. وخلال الحرب، تنزح، وتهجر قراها وبيوتها، على نحو يمزق القلوب حزناً.. حاولنا إبراز صورته في صفحات سابقة..
20ـ وحتى أموال البلدية، وفرع البنك (الحكومي) الوحيد في القنيطرة، تركت في أماكنها، ولم تنقل إلى دمشق.. وقيل للعدو ها نحن سلمناك كل شيء.. كما اتفقنا.. حتى الأوراق والأموال والنقد.. و.. كل ما يحقق لك فائدة في الأرض التي قبضنا منك ثمنها..!
21ـ وكانت خاتمة الجرائم.. وأم الكبائر التي اجترحتها أيدي حزب البعث.. هو ذلك البلاغ المشئوم الذي أعلن سقوط القنيطرة، قبل أن تسقط. فما قصة ذلك البلاغ ؟
إن الذي ثبت لدينا حتى الآن.. أن القوات الإسرائيلية لم تطأ أرض القنيطرة (رغم كل تلك المخازي والجرائم التي شرحناها) إلا بعد إعلان سقوطها بما لا يقل عن سبع عشرة ساعة.
فلقد تمكنت قوات العدو الإسرائيلي، من اختراق الجبهة السورية، يوم الجمعة، في 9 حزيران 1967، حوالي الظهر وكان الاختراق في قطاع واسط (قنعبة ـ القلع)، ومن القطاع الشمالي فيما بين تل العزيزيات وتل الأحمر، بقوة تعادل 2 لواء دبابات، معززين بالطيران والمدفعية وكتيبة الأقليات، ودون وجود قوات مشاة رئيسية مع قوات النسق الأول المهاجم.
ورغم كل ما أشرنا إليه من جرائم مدبرة، وخيانات مرتكبة، وهروب كبير في صفوف القوات المدافعة، فإن العدو ـ رغم قوته المخترقة ـ لم يستطع التقدم بحرية تامة، ولاقى من المقاومات الفردية ضراوة وشراسة وعنفاً في المقاومة، ما جعله يتقدم في حذر شديد، ويتوقف عند أول بادرة مقاومة تظهر في وجهه، حتى ولو كانت طلقة من بندقية.
ولقد أذيع البلاغ المجرم، يعلن سقوط القيطرة، بينما كانت أقرب قوات متقدمة إليها تشتبك مع مقاومات بطولية فردية انبعثت من نقطة القلع وتل العزيزيات...
وكان للبلاغ المذكور.. فعل رصاصة الخلاص، فانهارت القوى المعنوية الجبارة التي أظهرت بطولات الرجال الأوفياء لأرضهم وبلدهم ـ وأؤكد أن ليس بينهم بعثي واحد ـ ودخل في روعهم أن مقاومتهم لم تعد تجدي، وبدأ يعتقد كل منهم ـ بفعل انقطاع الاتصالات وهروب القادة المسئولين ـ إنه قد أصبح وحيداً يقاوم في جزيرة غمرتها الأمواج من كل ناحية، فقرروا الانسحاب آملين أن يلتحقوا بوحداتهم الكبرى، لمعاودة القتال.. ولكنهم ما عتموا أن غادروا مواقعهم.. حتى فوجئوا بالخيانة التي ارتكبت ضدهم وضد بلادهم .. ورأوا أن القنيطرة، مازالت سليمة، ومازالت بيد قواتنا، وأن البلاغ الذي أعلن سقوطها كاذب مضلل فأسقط في أيديهم.. وخاصة بعد أن رأوا ذلك المنظر القبيح، منظر الفرار الذي سمي انسحاباً.. زوراً وتضليلاً !
ولنا عودة لموضوع البلاغ، خلال المناقشة المقبلة إن شاء الله.
22ـ وأسدل الستار عن تلك المسرحية، منذ يوم السبت 10 حزيران وبعد إعلان سقوط القنيطرة ـ كذباً وبهتاناً ـ فغادر دمشق أعضاء الحكومة والحزب (بقيادته كلها)، والجيش (بجميع ضباطه البعثيين المجرمين).. وأخذت أرتال الآليات (عسكرية ومدنية)، تتابع وتتدافع على طريق دمشق ـ حمص، حاملة في بطونها النساء، والأطفال، والضباط، والقادة (المسوخ) و.. من رجال حزب البعث تاركين دمشق مفتوحة الأبواب، مكشوفة الصدر والظهر والجوانب.. نهباً لكل غاز، وخلواً من كل حارس، وجانب السيارات تحمل مكبرات الصوت تثقل الأسماع بندائها المشئوم.. (ممنوع التجول .. ممنوع التجول).. وذلك في صورة جديدة من صور التآمر، لتسليم دمشق إلى العدو الغازي.. دون مطلق مقاومة، حتى ولو كانت من طفل أو امرأة..
وفي الوقت نفسه، اهتبل بعض لصوص الحزب الفرصة، ونهبوا ما استطاعوا نهبه من أموال البنك المركزي في دمشق، بحجة أن نقل احتياطي الذهب واجب (قومي) لئلا يقع بيد العدو فتفلس الدولة.. ويا ليتها تفلس !
23ـ (إن المعركة لا تقاس نتائجها بعدد الكيلومترات التي خسرناها... بل بأهدافها وما استطاعت أن تحقق. فقد كان هدف إسرائيل، ليس احتلال بضعة كيلومترات من سورية، بل إسقاط الحكم التقدمي فيها، وهذا ما لم يتم لها، ولذا يجب أن نعتبر أنفسنا الرابحين في هذه المعركة).





















أحمد سويداني
قائد الجيش السوري قبل وخلال وبعد الحرب
(ليس مهماً أن يحتل العدو دمشق، أو حتى حمص وحلب.. فهذه جميعاً أرض يمكن تعويضها، وأبنية يمكن إعادتها، أما إذا قضى على حزب البعث، فكيف يمكن تعويضه وهو أمل الأمة العربية ؟).
(.. لا تنسوا أن الهدف الأول من الهجوم الإسرائيلي، هو إسقاط الحكم التقدمي في سورية، وكل من يطالب بتبديل حزب البعث، عميل لإسرائيل..).
إبراهيم ماخوس
وزير خارجية سورية قبل وخلال وبعد الحرب
ألا لا رعى الله حكماً هؤلاء قادته، والمسئولون فيه، ولا رعى الله حزباً ساهم بتدمير الأمة أكثر مما دمرها أشد الناس عداوة لها (اليهود والذين أشركوا).
ولست أجد في كل ما ارتكبت بحق هذه الأمة من جرائم.. ولا أرى في كل ما لحق بها من إهانات واحتقار لكرامتها وشرفها أوقع من هذه التصريحات تصدر عن مجرمين، باعوا الأرض وشعبها لأكثر الأعداء لؤماً.. ثم وقفوا.. يمنون على ذلك الشعب.. بأن من فضلهم وكرمهم عليه، أنهم استطاعوا أن يثبتوا في وجه العدو الذي ادعوا أنه لم يكن لهجومه من هدف.. إلا إزالتهم عن (الحكم والتحكم برقاب أبنائه ومقدراتهم..).
ولست أجد صورة أستطيع من خلالها إبراز لؤم الجريمة وسوئها، مثل هذه التصريحات وأمثالها.. اختتم بها هذه السلسلة من حلقات التآمر والإهمال والجريمة.. لتكون للقارئ فكرة واضحة عن الذي حدث في حرب حزيران.. تلك التي سموها حرباً، تجنياً على الحروب، وبهتاناً على الجيوش، وما هي والله إلا مسرحية متقنة الإخراج، حدد فيها لكل ممثل دوره، وكان فيها النظارة المخدوعون، هم جماهير الأمة المنكوبة، أمة العرب، والشعوب الإسلامية في كل مكان.
فالأرض التي سلمت للعدو، والجيوش التي دمرت، والخسائر الهائلة التي لحقت بنا، من سلاح، وعتاد، ومؤن، والجهود المضنية التي بذلت، والضحايا التي ذهبت، وكل ذاك، وغيره أكثر منه، من كرامة الأمة، وشرفها الذي لوث، وعقيدتها التي أهينت.. كل ذلك ليس له أهمية، مادام الحكم التقدمي الثوري، مازال قابعاً فوق رقاب الشعب، يسوقه إلى هاوية أخرى، الله وحده يعلم عمقها وخطورة انحدارها.
يا عجباً... !، أفلم يبق في هذه الأمة أحرار، تهز ضمائرهم تلك الإهانات الوقحة ؟
من كانت له عينان فلينظر. ومن له أذنان فليسمع.. ومن كان له قلب فليفقه..
وإلا فنحن كالأنعام، بل أضل سبيلاً.









أعمال العدو .. خلال الحرب
نستطيع أن نؤكد، أن العدو لم يحارب على الجبهة السورية، ولم يدخلها ظافراً إثر قتال حقق فيه التفوق العسكري، أو أبرز فيه البطولة وحسن قيادة القتال، فتمكن من تحقيق ظفر.. يدعيه اليوم لنفسه.. وهو ليس له أهلاً.
إن القوات الإسرائيلية قد دخلت الأرض السورية حسب مخطط تآمري أعد مسبقاً ووضعت مقدماته ونتائجه في بعض السفارات، وأتم إكمال ملامحه وجوانبه في بعض العواصم الغربية.
فالعدو استطاع بدهائه ومغرياته أن يدفع حكام البلاد ليقوموا بتصفية الجيش.. وجعله غير قادر على خوض أية حرب.. وكان له ما أراد، وأكثر.
والعدو استطاع بوسائل الخداع والمكر والتآمر المختلفة، أن يضع الجماهير التي هي رديف الجيش، في حالة من التمزق والتشرذم وانحلال روح المقاومة.. بفضل ما فعل بها شركاؤه وجواسيسه.. خلال حكم حزب البعث العربي الاشتراكي.. وكانت الجماهير يوم الحرب كما خطط لها عدوها وشركاؤه.
والعدو حرص على عزل هذه الجماهير عن المشاركة الفعلية في حرب الحفاظ على الأرض والمقدسات.. فاستطاع عزلها.. وبقيت الجماهير طيلة الحرب.. قابعة في الدور والمقاهي.. مشدودة إلى (الترانزيستور).. تتابع أخبار الهزيمة.. وهي عاجزة كل العجز عن فعل أي شيء.
وهذه وغيرها كثير جداً.. كانت من الأمور التي خطط لها العدو قبل وثبة حزيران العار 1967، بأعوام طويلة.. واستطاع أن يجد من الشركاء من ينفذها له، بأكثر مما توقع، من حرصهم على خدمته وتسليمه ما يريد.
وهذا ليس مجال الحديث الآن.. فلقد أخذنا على عاتقنا الاهتمام بجانب القوات.. ما فعلت، وما فعل بها، وهذا بيت القصيد من شرحنا هذا.
ولذا.. فإن أعمال العدو.. القتالية .. كانت تافهة وتكاد لا تذكر نسبة إلى ما تقوم به القوات في حروب أخرى، يملك فيها المهاجم تصميماً على تحطيم خصمه والفوز بأهدافه.. ويتحلى فيها المدافع بعناد وإصرار على طرد المهاجم وإحباط آماله ومساعيه. و بين هذا وذاك تبرز صور من الملاحم والبطولات بين أخذ ورد، تكون على مر الأيام صفحات متتالية في سفر التاريخ العسكري للشعوب.. كما تصبح في الوقت نفسه معيناً جديداً لخيال الشعراء والأدباء يصور كل منهم جانباً من بطولات شعبه.
... وبهذا، كانت المسرحية يوم حزيران، خالية من عنصر الإثارة، ومقومات الحرب الناجحة.. ولم تعد كونها مؤامرة.. كبرى.. تكمن عناصر الإثارة في دقة حبكها.. ولؤم الذين نفذوها.
ولكن.. لابد رغم ذلك من التعرض بشيء من الإيضاح، إلى الأعمال القتالية، التي قام بها العدو.
1ـ لقد كانت أبرز أعمال العدو، هي أعمال الطيران.
فالطيران الإسرائيلي.. الذي خلت له سماء الحرب، وغاب النسور من وجهه.. قام بتغطية الجبهة برمايات كثيفة منذ صباح الثلاثاء 6 حزيران وحتى مساء السبت 10 حزيران، واستطاع أن يركز كل قواه وإمكاناته ضد هذه الجبهة.. وهو ضامن عجز الطيران السوري عن مجابهته.. فقام بطلعات جوية لا تكاد تحصى، قصف فيها الجولان (التحصينات، والمنشآت وتجمعات القوات، ومرابض الأسلحة، وتحركات الآليات والأرتال)، ودمر الطرق، وقام بغارات متتالية على مطاري المزة، والضمير وبعض المطارات (السرية) الأخرى. فدمر عدداً من الطائرات التي لم تستطع الفرار، وضرب المهابط والمستودعات وكانت له السيطرة الكاملة في الجو، حتى بدأ طياروه يقومون بأعمال للتسلية تخرج عن نطاق المهمات القتالية الجادة، وهم لا يخشون أن يزعجهم عصفور.
ولقد تميزت أعمال الطيران المعادي بنواح متعددة، نشرحها:
أولاً: ضد التحصينات والمنشآت، وخطوط الدفاع، استعمل الطيران القنابل المتفجرة الثقيلة من عيار (250 و500) كلغ بقصد تدميرها وإنهاء فعاليتها.
ثانياً: ضد الخنادق، وتجمعات القوات المكشوفة، والأرتال الآلية أو الراجلة، استعمل الطيران المدفعية الرشاشة من عيار 25 مم، وقذائف النابالم المحرقة، لإخراج الوحدات خارج القتال.
ثالثاً: ضد مرابض المدفعية، وتجمعات الدبابات والآليات المتنوعة، أو أرتالها، ركز الطيران نيران الصواريخ وقذائف النابالم والقذائف الموقوتة المتفجرة (المنثار).
رابعاً: تميزت أعمال الطيران الإسرائيلي ضد الأرتال الآلية المتحركة، بصفة لئيمة تدل على مبلغ حرص العدو على أن لا تفلت آلية واحدة من يده.
فلقد كانت الطائرات تحوم حومتها الأولى، لتحدد حجم الرتل المتحرك واتجاه وسرعة حركته والفواصل بين الآليات والوحدات، ثم تعود في حومتها الثانية، وتقوم بالانقضاض، مبتدئة برأس الرتل، حتى تأتي عليه، فتترك الآليات حطاماً تتصاعد منه ألسنة النيران يشوه احمرارها دخان متدرج السواد، وتترك الأفراد شبه قطيع هاجمته الذئاب، فتركته بين قتيل ومجروح وهائم على غير هدى.
خامساً: تميزت أعمال الطيران الإسرائيلي بسرعة التدخل، وكثافة الرمي، وقد بلغ ذلك مبلغاً لا يكاد يصدق، فعندما كانت تبدو لرتل أو مجموعة من العدو داخل أرضنا، مقاومة ما على ـ غرار ما حدث في حرش الجويزة ـ يلجأ القادة إلى الاستنجاد بالطيران، فتأتي وحداته وتحرق الأرض وتفلحها لكثرة ما تصب عليها من النيران، حتى يتم الاطمئنان في نفوس القادة الجبناء، المحميين بأرتال الدبابات، وأسراب الطائرات، فيتابعون حركتهم دون خوف من أي إزعاج.
سادساً: ومن أعمال الطيران الإسرائيلي ذات الأهمية، هي نقل سدنة الدبابات والأسلحة، لإلحاقهم بوحداتهم بعد إتمام الاختراق على غرار الذي حصل عند الخرق من القطاع الشمالي، كما سنبينه بعد قليل.
سابعاً: ولقد ساهمت طائرات العدو مساهمة كبيرة في الحرب النفسية ضد القوات والسكان، فكانت طائرات الهليوكوبتر تحلق فوق رؤوس الهاربين، وتخاطبهم بالمكبرات، أن القوا أسلحتكم وانجوا بأنفسكم.. فنحن لا نريد إيذاءكم وإنما نريد تدمير العتاد الروسي... !
ثامناً: وكثيراً ما خفت طائرات العدو، وخاصة الهليوكوبتر، لنجدة أفراد أو مجموعات صغيرة من العدو، حين تعرضها لمآزق خطرة، وذلك على غرار ما حدث للطيار الذي أسقطته إحدى كتائب جيش التحرير الفلسطيني في منطقة الرفيد.
تاسعاً: قامت الطائرات الإسرائيلية بأعمال الإخلاء، ونقلت الجرحى وجثث قتلاهم، ولقد كان من أبرز الجرحى السوريين الذين نقلتهم طائرات العدو، ضابط برتبة نقيب، بعد أن أصيب بشظية مزقت بطنه فنقلته الهليوكوبتر، وعولج ثم أعيد بعد الحرب أثناء تبادل الأسرى.
2ـ أعمال القوات الأرضية:
أبرز أعمال هذه القوات، هو الخرق الذي حدث ظهر الجمعة 9 حزيران من قطاع واسط، في اتجاه (القلع ـ القنيطرة) مروراً بواسط ومن القطاع الشمالي (تل العزيزيات ـ هضبة المغاوير ـ تل الأحمر).
ولقد قام العدو بحشد قواته للهجوم على الجبهة السورية، حسب المعدل الآتي:
ـ في مواجهة القطاع الشمالي، قام العدو بحشد ثلاثة ألوية دبابات. هي التي قامت بالاختراق، من القطاع المذكور، معززة بكتيبة الأقليات.
ـ في مواجهة القطاع الأوسط، قام بحشد لواءين مدرعين، دخلت الأرض السورية بعد إعلان سقوط القنيطرة.
ـ في مواجهة القطاع الجنوبي، تم حشد لواء مدرع واحد، دخل الأرض السورية كذلك بعد إعلان سقوط القنيطرة.
ولقد تم الاختراق ظهر الجمعة 9 حزيران، من قطاع واسط (أضعف القطاعات)، وفيما بين كفر شامير وكفر سلط في اتجاه القلع، ومن القطاع الشمالي كما بينا قبل قليل، وباتجاه زعورة ـ مسعدة.
وقامت قوات العدو بأخذ تشكيلات الأنساق المتتابعة، في كل نسق سرية (13 دبابة) حتى إذا أتمت القوات المعادية، تنظيف ما في طريقها من مقاومات، واستطاعت السيطرة على نقطة (القلع)، وأصبحت على طريق مسعدة ـ واسط عادت فتجمعت الدبابات، وانقسمت صباح السبت إلى ثلاث مجموعات:
الأولى: بقوة كتيبة دبابات (40 دبابة)، انطلقت في اتجاه: القلع ـ واسط ـ كفر نفاخ، لتطويق القطاع الأوسط، وقد اصطدمت بمقاومة ضارية في (تل شيبان)، عطلت تقدمها حتى أذيع بلاغ سقوط القنيطرة رغم استنجاد قائد الكتيبة بالطيران، الذي أنهك التل المذكور قصفاً بالنابالم والمدافع الرشاشة.
ـ والثانية: بقوة كتيبة دبابات أيضاً. انطلقت في اتجاه: القلع ـ سكيك ـ كريز الواوي ـ مسعدة لتقوم بتطويق القطاع الشمالي.
ـ والثالثة: هي باقي وحدات اللواء المدرع، مع قيادته، وقد ظلت في وضع الترقب، وقيادة قتال الكتيبتين، ومن ثم متابعة التقدم في الاتجاه الأكثر حظاً في النجاح.
هذه القوة بمجموعها، هي لواء مدرع واحد من الألوية الثلاثة، التي حشدت في القطاع الشمالي، وقد كان لواء المقدمة، وهو الذي حقق الاختراق (دون قتال يذكر، سوى المقاومات المحدودة التي نأتي على ذكرها كل في موضعها).
أما اللواء الثاني من هذه الألوية الثلاثة، فلقد هاجم من قطاع بانياس، في اتجاه: بانياس ـ مسعدة، واستطاع التقدم دون صعوبات، حتى إذا ما وصل إلى مواجهة تل الفخار، اصطدم بمقاومة ضارية، استبسل رجالها في وجه عدو متفوق تفوقاً ساحقاً، وأدت واجبها كأحسن ما يكون الأداء.
وقد رافقت هذا اللواء في هجومه كتيبة الأقليات، وأتم هذا اللواء الوصول إلى مسعدة، بعد أن قضى على مقاومة تل الفخار وبمعونة الكتيبة التي طوقت القطاع الشمالي على محور القلع ـ مسعدة.
أما اللواء الثالث من مجموعة الألوية هذه، فقد أبقاه قائد المجموعة تحت تصرفه ليزج به في عمق الدفاع، لمتابعة تحقيق واجب اليوم لمجموعة الألوية هذه، والذي كان احتلال القنيطرة.
ولكن القيادة البعثية، وفرت على العدو كل تلك الجهود و(التضحيات) وسهلت له احتلال القنيطرة ببلاغ فاجر، استغرقت إذاعته أقل من دقيقة، فألغى جهود وتضحيات عشرين عاماً، وضيع إمكانات تفوق حدود التصور بذلت خلال تلك الأعوام، استعداداً لساعة محنة كهذه.
أما الألوية الثلاثة التي حشدها العدو في مواجهة القطاعين الأوسط والجنوبي، فقد ظلت في وضع انتظار، حتى حان موعد تنفيذ المؤامرة، وإذاعة البلاغ المشؤوم، وإخلاء الأرض من كل الإمكانات والقوى المحشودة فيها، فتقدمت لتقوم بنزهتها العسكرية، مستخدمة المحاور الآتية:
بستان الخوري ـ الجمرك ـ العليقة ـ القنيطرة.
عين غيف ـ الكرسي ـ البطيحة ـ الجمرك ـ العليقة.
عين غيف ـ الكرسي ـ سكوفيا ـ فيق ـ العال ـ الرفيد.
وبهذا، تم للعدو ـ حسبما اتفق عليه مع قيادة البعث ـ إتمام احتلال الجولان، دونما جهود أو قتال حتى صدر قرار وقف إطلاق النيران.. وقبله الطرفان، بعد أن حققت القوات الإسرائيلية سيطرتها على الجولان بأكمله.. حتى الخط:
مجدل شمس ـ سحيتا ـ أوفانية ـ الحميدية ـ عين عيشة ـ الرفيد ـ جسر الرقاد ـ كفر ألما ـ الحمة ـ مروراً بالسفح الشمالي الغربي لوادي الرقاد.
وشوهد رجال هيئة الرقابة الدولية، يقومون بتأكيد هذه الحدود الجديدة، صباح الأحد 11 حزيران بوضع أعلام خاصة على مسافات معينة، (لمنع) الطرفين من (اجتيازها)، أو تسجيل المخالفات على الذين يجتازون.. !
3ـ ولقد لجأ العدو إلى أسلوب يدل على مدى خوفه من المقاومات الضارية التي قد تعترض سبيل قواته ـ رغم الاتفاقات المسبقة مع قيادة حزب البعث، بتسهيل الطريق أمامه ـ فقد ركب في كل دبابة ـ خلال الهجوم ـ سائقها ورامي مدفعها فقط ـ لتقليل الخسائر في الرجال ـ وأما باقي السدنة، فقد ألحقوا بوحداتهم بواسطة الطيران (الهليوكوبتر)، وذلك في سهل المنصورة، بعد إتمام الاختراق، وبعد إذاعة بلاغ سقوط القنيطرة، وبعد أن اطمأن العدو أن مقاومات ما لن تعترضه بفضل دقة حزب البعث في تنفيذ ما اتفق عليه معه.
4ـ لوحظ أن أفراد الجيش الإسرائيلي، كانوا يطلقون النيران بغزارة هائلة لدى اشتباههم بأية حركة. حتى ولو كانت في حقيقتها صادرة عن ابن آوى أو كلب شارد، مما يدل على جبن هذا العدو، وحرصه على تغطية طريقه بكل الإمكانات النارية، وخوفه من عناد الإنسان العربي وبطولته، اللذين قد يظهران في وجهه فجأة، رغم كل الضمانات والاحتياطات التي حققتها للعدو، قيادة حزب البعث.
ولقد وصلت بعض الأنباء من الأسرى الذي عادوا بعد الحرب، تفيد أن كثيراً من العرب (ومنهم بعض العسكريين) الموجودين في إسرائيل، قد أبلغوهم أن القوات الإسرائيلية في خلال هجومها على الجولان، تعرضت أكثر من مرة لنفاد الذخيرة، واضطر قادة المجموعات المكلفة بالهجوم والاحتلال، الاستنجاد وطلب الإمداد بالذخيرة، فاضطرت القيادة الإسرائيلية إلى سحب كميات كبيرة من القوات التي رابطت في سيناء أو في الضفة الغربية لتلبية احتياجات القوات على الجبهة السورية، بعد أن أفرغت هذه الأخيرة، كميات هائلة من النيران، أمامها، لتضمن قدرتها على التقدم، رغم ندرة المقاومات التي اعترضت سبيلها.
5ـ ولقد ذكر قسم من أفراد كتيبة الأقليات (للأسرى)، إن قيادة الجيش الإسرائيلي لا تثق بهم، وقد صدرت إليهم (قبل الهجوم) أوامر بالانسحاب إلى صفد. ثم عاودت القيادة تلك، وأبلغتهم أن المظليين قد احتلوا القنيطرة، وأمرتهم بالعودة إلى العمل نسقاً ثانياً للقوات التي احتلت الجولان.
ولما عادت الكتيبة تلك، لتنفيذ الأوامر، وجدت أن القيادة قد خدعتها، وألفت نفسها وجهاً لوجه ـ في النسق الأول ـ في مواجهة المقاومات الضارية… ولم تعثر على أي أثر للمظليين المزعومين.
6ـ ولقد صرح بعض عناصر هذه الكتيبة (سراً) إلى بعض الأسرى أنهم كانوا على استعداد لضرب القوات الإسرائيلية في مقتلها، لو أن الجولان صمد، ولكن أنباء الهزيمة والفرار والتآمر التي سمعوها وشاهدوا بأعينهم آثارها، أجبرتهم على السكوت على مضض، والاستمرار في التظاهر بالولاء لهذه القوات.. انتظاراً لفرصة قادمة..!
7ـ وقد يكون من المفيد في هذا السرد أن نذكر أن شائعة نقلها الأسرى من إسرائيل، بعد عودتهم، كانت تتردد هناك على نطاق واسع ـ ولا ندري مقدار صحتها ـ وتفيد تلك الشائعة أن (موشى دايان)، رفض إصدار الأوامر بالهجوم على الجبهة السورية، خوفاً من ضياع (الانتصار) الذي تم له في كل من سيناء وضفة الأردن الغربية.
وتتابع الشائعة قولها أن رئيس الأركان الإسرائيلي يومذاك الجنرال (إسحق رابين) هو الذي أخذ على مسئوليته إصدار الهجوم على الجولان.. وبذلك أصيبت سمعة (موشى دايان) العسكرية بلوثة مازالت تفسد عليه نشوة السكرة التي وضعته فيها حرب المسرحية.
8ـ لم تثبت لدينا صحة الشائعات التي روجت عن أن العدو أسقط وحدات من المظليين في الرفيد أو سهل المنصورة.
9ـ ومما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن العدو تسلم الجولان دون قتال، هو روايات أكثر الذي شاهدوا الوحدات المعادية خلال تقدمها في الجولان، إذ كانت هذه الوحدات من الدبابات، تتقدم في تشكيلات المسير، ودونما حماية من المشاة، مما يؤكد اطمئنانها إلى خلو الطريق أمامها من مقاومات قد تعطلها.
خسائر العدو:
لم أستطع الوقوف على رقم مقبول، أو تقدير معقول لخسائر العدو التي أصابته خلال دخوله الجولان، ولكني أستطيع الاستنتاج أن الخسائر عنده كانت قليلة، وأن أية خسائر مني بها إنما كانت من المقاومات الضارية في القلع، وتل العزيزيات، وتل فخار، وتل شيبان، وحرش الجويزة، والرفيد، وقد كانت خسائره في الأرواح قليلة، أما خسائره في السلاح، والعتاد، فلقد كان مجموعها ما يقارب كتيبة دبابات، بسبب المقاومات التي ذكرت.
خسائرنا:
ضخمة جداً.. وتفوق حدود التصور في قيمتها وهولها.
1ـ فأول الخسائر، هو كرامة الشعب، وروحه القتالية، وقدرته على الصمود، وشرفه الذي ديس ولوث.
2ـ وثاني الخسائر، هو الأرض الكريمة الغالية ******ة بكل ما فيها من كنوز وثروات.
3ـ وفيما عدا ذاك فقد كانت الخسائر على الشكل التالي:
ـ في الأرواح، لم يتجاوز عدد القتلى 250 قتيلاً، كما لم يتجاوز عدد الجرحى 300 جريح، بينهم عدد من الضباط ذكرنا بعضهم اسماً، وحوالي سبعة أطباء.
ـ وأما الأسلحة : فحدث ولا حرج، فالمدفعية دمرت بكاملها، والمدافع المضادة للدبابات والطائرات ذهبت كلها بين مدمر أو غنيمة أخذها العدو بعد أن تركتها القوات، والأسلحة الأخرى، تركت كلها في الأرض في العراء، جمع العدو قسماً منها، وجمع الفدائيون قسماً آخر، وجمع المهربون قسماً ثالثاً وباعوه، وقسم رابع وضئيل لا يزال مطموراً أو ملقى على الأرض وقد أكله الصدأ.
والمدفعية الصاروخية أصبحت كتلاً من الحديد الأسود المحروق.
وقاذفات اللهب، تركت سالمة للعدو ليستعملها ضد قواتنا وآلياتنا.
والدبابات.. دمر عدد منها لا يقل بمجموعه عن كتيبتين (40 ـ 50 دبابة) وغنم العدو كتيبة دبابات برمائية تركها الجيش في الرفيد.
وأما الآليات.. فواحسرتا عليها.
الآلاف منها دمر، ابتداء من عربات الجيب.. حتى الشاحنات الكبرى مروراً بعربات الجند المدرعة.. مضافاً إليها عدد كبير من الشاحنات المدنية التي صادرتها السلطة لصالح الحزب، وأضف إلى ذلك، ما لا يقل عن ثلاثمائة صهريج بنزين لا تقل قيمة الواحد منها عن 70 ألف ليرة سورية.
والطائرات.. دمر منها وأعطب عدد لم أستطع الوقوف عليه بدقة، وخربت مدارج الطائرات في كل من مطاري المزة والضمير، وفي عدد من المطارات (السرية) الأخرى.
وأخيراً المستودعات الهائلة الجبارة، بكل محتوياتها، من وقود، أو ذخيرة، أو مواد طبية أو أطعمة جافة أو ألبسة وتجهيزات ومفروشات ومن أبرز هذه المستودعات وأكثرها أهمية، هي مستودعات: تل خنزير، الحميدية، جباتا الخشب، حرش عين زيوان، بقعاتا، خسفين.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-04-2012, 09:05 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي

الفصل الثاني
الوجه المشرق

(... وقد وقع أثناء انسحاب اللواء المدرع السوري حادث طارئ كشف عن مدى الخسائر التي كان يمكن إلحاقها بالمدرعات الإسرائيلية لو قامت الدبابات السورية بالهجوم المعاكس.
لقد تعطلت إحدى هذه الدبابات بالصدفة، بعد تعطيل جنزيرها وكانت هذه الدبابات في أواخر الرتل السوري المنسحب، ولم يكن أمام قائد الدبابة إلا أن يحارب، فأدار مدفعه إلى الخلف واستطاع من مكانه، وخلال دقائق معدودة أن يدمر ست دبابات ويوقف تقدم الإسرائيليين، واستنجد العدو بالطائرات فدمرت الدبابة السورية الشجاعة بصاروخ جوي، لولا ذلك لاستطاعت تدمير 15 دبابة إسرائيلية على الأقل قبل أن تصاب وتحترق..).

(من رواية لضابط لبناني شهد المعركة صباح 9 حزيران نشرتها مجلة الحوادث اللبنانية، العدد 604 تاريخ 7 /6 / 1968).




ـ 1 ـ
وجوه ناصعة للبطولة
وقد يعتقد البعض أن هذا الشعب قد فقد كل مقامات الأصالة والبطولة فيه.. وذلك، بعد الاطلاع على المخازي والجرائم التي حاولنا في صفحات سابقة، إبراز بعضها، والذي لم نستطع الوقوف عليه، أكثر وأدق وأعمق أثراً وأبعد خطراً.
ولكن الأصالة والنبل.. والشجاعة والرجولة، الصادقة غير المفتعلة قادرة على إبراز وجودها، ولفت الأنظار إليها، وتحقيق فعالياتها القادرة على إصابة الباطل بشروخ خطيرة، مهما علا واستكبر، ومهما كان زيفه محبوكاً ودقيقاً.. بحيث خيل إليها أنه قد قضى على كل بذرة من بذور الحق الوضاء، والنور الكامن في النفوس.. القادر على رفع رأسه فوق سحب الظلام المفتعل.
فهل عدمت الجبهة، رغم كل ذلك اللؤم والباطل.. عناصر وقفت بإباء ورجولة تدفع عنها طغيان ذلك السيل من خيانات المجرمين، وأرتال العدو الغازي الغريب ؟
أبداً.. وكما في كل لحظة يأس.. وكما في كل صولة باطل.. يقف الحق، ليبعث البطولة في صور متعددة الأشكال.. وصيغ مختلفة الأحجام هذه منها بعض النماذج:
1ـ لقد كانت في مقدمة تلك البطولات.. التي ستبقى الدهر، مفخرة هذا الشعب.. ورمز كرامة وعزة الجيش هي بطولات وحدات المدفعية م ـ ط.. التي عملت في أسوأ شروط أتيحت لها.. وحققت أعظم مردود كان يمكن لوحدات أفضل منها تدريباً وإعداداً.. أن تحققه، وساهمت مساهمة كبيرة في الحد من خطورة وفعالية طائرات العدو.. بعد أن غاب من الجو نسورنا، وعزلوا عن الحرب، ومنعوا من أداء واجبهم، وتركوا طاقات معطلة تغلي.. وهم يرون طائرات العدو تمرح في سماء البلاد.. وما من نسور تتصدى لها.
فالمدفعية المضادة للطائرات.. رغم حداثة عهدها.. ورغم ضعف تدريبها.. ورغم أن أكثر سدنتها كانوا من الاحتياطيين، ورغم أن أكثر ضباطها كانوا من غير الاختصاصيين.. فقد كان لها دور بطولي رائع واستطاعت أن تمنع الطائرات المغيرة من تحقيق إصابات فعالة، فوق كل هدف دافعت عنه وحداتها، وعملت بدون كلل.. وحققت المدافع أكثر من المردود المطلوب منها في المعدل الزمني الواحد، حتى احمرت سبطانات الكثير من المدافع لكثرة ما رمت وتشوه بعض هذه السبطانات ولم يكن لدى السدنة وقت كاف لتركيب السبطانات الاحتياطية.. وعجز المذخرون عن حسن تلبية احتياجاتها، ووصلت إليهم الذخيرة مطلية بالشحم، ولكن ذلك لم يثن عزم الجميع، وقاموا بواجبهم خير قيام.
2ـ ومن روائع صور البطولة التي برزت، المقاومة الجبارة التي تصدت (للهجوم) المدرع الذي شنه العدو، وذلك حين اصطدم بنقطة استناد القلع.
دافع رجال هذا الموقع، كأفضل ما يمكن لرجال أن يدافعوا.. وكان القائد على رأس هذه القوة الصغيرة الرائد محمد سعيد يونس، واستطاعت هذه المقاومة الباسلة أن تحطم 36 دبابة، ولو نفذ الذي سبق أن قررته خطة العمليات، وقدمت لهذه المقاومة ـ وغيرها ـ الحماية والدعم، بالمدفعية والهجمات المعاكسة وكل أعمال القوات القتالية.. لتحطم الهجوم، وارتد المهاجمون، يلعقون جراحهم كالكلاب، ويلعنون قادتهم الذين زجوا بهم في وجه أولئك المردة من رجال الجيش السوري.
ولكن ما حيلة البطولة إن كانت وحيدة في وجه موجات متلاحقة من قوى الغزو الباغي ؟ وكيف يمكن للرجال الأشاوس أن يستمروا في ممارسة بطولاتهم.. مادام قادتهم يمارسون مختلف صور الخيانة والغدر بهم وبالبلاد ؟
ولقد استشهد الرائد البطل.. ومعه ضابط آخر..
فإلى هذا الرجل.. وكل الرجال الذين أدوا واجبهم.. سنؤدي واجب الشكر الآن.. وفي كل مناسبة ترجع فيها إلينا.. وذكرى صمودهم.. ومرارة الجريمة التي نفذت رغم إصرارهم على منع وقوعها..‍‍ !
3ـ وليس للبطولة أن تقتصر على الضباط.. أو غيرهم من الرتب.. فهي جوهر كريم.. قابع في كيان كل كريم.. يبرز باهراً الأبصار، متى أتيح له البروز.. سواء أكان صاحبه ضابطاً أم جندياً أم مدنياً.. فالبطولة والصمود، هما من نتاج الأصل الكريم.. والتربية البيتية الكريمة الأصيلة.. وليس للاختصاص أو الرتبة إلا تحديد مجال ظهورها، أو تحديد الحجم الذي يمكنه استيعابها.
ففي إحدى نقاط الدفاع، في تل شيبان.. قام مجند واحد.. نعم عسكري واحد، ومجند ـ من أبناء دير الزور ـ بتحطيم سبع دبابات للعدو.. وبماذا ؟ بسلاحه الفردي المضاد للدبابات، المسمى (القاذف ر. ب . ج).
4ـ وفي نقطة تل الفخار.. ذلك الموقع الذي ترك أثراً مريراً في قلوب القادة الإسرائيليين، طفحت به تصريحاتهم التي فاضت على ألسنتهم أمام مراسلي الصحف الأجنبية المختلفة...
في ذلك الموقع.. صمد الرجال.. وليت كل الرجال مثلهم.. أدوا واجبهم بشرف ما فوقه شرف.. وبروا بالقسم الذي سبق أن أدوه لأمتهم يوم أن ارتدوا لباس الجيش..
صمد الرجال.. بقيادة ضابطين، (النقيب نورس طه، وملازم أول لم يصل إلى اسمه)، وقاوموا بعناد لا نظير له ومنعوا قوات العدو المهاجمة من تخطي مجالات الرمي لأسلحتهم.. وقدمت هذه النقطة بفضل رجالها الأبرار.. أكرم وفاء لدين الأمة عليها.. ومات الرجال فيها، شهداء أبراراً، كراماً، ولم يتم للعدو متابعة احتلال الأرض إلا على جثثهم.. وبعد نفاذ ذخيرتهم.. وانعزالهم وتطويقهم، وفقدان الاتصال بأي قائد مسؤول.. فأطبقوا جفونهم على ثرى الأرض ******ة، والأيدي مشدودة إلى الزنادات.. تشكو إلى الله، خيانة الذين أوقفوا رجالها عن متابعة الضرب.. حتى يرتد العدو الدخيل.
5ـ وفي سهل المنصورة، تصدى شابان من رجال المنصورة لرتل الدبابات المتقدم نحو القنيطرة، وأطلقا على عربة القائد، وعلى تجمعات القادة حوله، خلال إصداره أوامر التقدم لدخول القنيطرة.. فماذا كان ؟
دب الذعر في صفوف الجبناء المتقدمين لاحتلال القنيطرة.. وتراجع رتل الدبابات الذي لا يقل عن 50 دبابة مسافة 3كم إلى الوراء، واحتل الخط (باب الهوى ـ عين الحجل)، ثم انتشر بتشكيلة القتال، وأصدر قائده أوامر الهجوم.. (الأكاديمية وكأنه سيهاجم موقعاً حصيناً)، ثم تقدم مستعملاً كل طرق الحذر والترقب والاستعداد للتدخل، وقد شمل خط الفتح المسافة الآتية: يميناً السفح الشمالي الشرقي لتل العرام (وهو شمال غرب تل أبي الندى)، ويساراً طريق الأوتوستراد الواصل ما بين المنصورة ـ الحميدية.. وتابعت قوات العدو زحفها بغاية البطء.. وقد حيرها صمت المقاومة التي انبعثت في وجهها فأجبرتها على التراجع.
ولما عادت وأشرفت على المنصورة.. طوقتها، وأخذ قائد الرتل يخاطب سكانها بمكبرات الصوت، ويطلب منهم الاستسلام.. ولما أعياه أن يجيب أحد، طلب أن يخرج إليه وفد من السكان.. فقابله بعضهم، وسأله عن القوات والجيش، فأخبره أن الجيش انسحب، ولم يبق في المنطقة أحد من القوات.
عندها سأله قائد الرتل الإسرائيلي عن المقاومة التي سببت له أن يتراجع تلك المسافة، فضحك المنصوري وأعلمه أن تلك كانت فورة حماس من شابين، حصلا على بندقيتين من أسلحة الجيش الفار، فأطلقا على الرتل الإسرائيلي وسببا له ذلك الذعر كله، ولم تهدأ أنفاس القائد الغريب إلا حين اطمأن إلى أن هذين الشابين قد تراجعا، وأن البلاد أصبحت خاوية على عروشها، ولم يبق فيها إلا من لم يستطع الفرار، أو الذين تشدهم الأرض لها بارتباطات هي أعمق وأقوى من كل خطر، حتى ولو كان خطر الاحتلال الصهيوني.. بلؤمه وخسته.
كان ذلك الحادث، في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر السبت 10 حزيران.. وقد استغرق تراجع الرتل إلى خط الفتح عشر دقائق، بينما احتمل تقدمه (مجدداً) 5ـ6 ساعات، اجتاز خلالها مسافة لا تزيد عن 3 كيلومترات في حدودها القصوى، وكان ذلك بعد إذاعة بيان سقوط القنيطرة من إذاعة حزب البعث.
وبلغ مجموع الخسائر التي ألحقتها بتلك القوة، رصاصات الشابين المذكورين ما لا يقل عن عشرة رجال بين قتيل وجريح.
6ـ في الساعة الرابعة من مساء الاثنين (بعد الظهر) 12 حزيران.. كانت تتقدم كتيبة دبابات إسرائيلية (40 دبابة)، على طريق (الرفيد ـ الجويزة ـ القنيطرة) وباتجاه القنيطرة.. وما إن وصلت مقدمة الرتل (سيارة القائد) إلى مشارف الحرش المحيطة بقرية (الجويزة)، حتى أصلته نيران المقاومة جحيماً أوقف الرتل بكامله، فتوقف، وانتشرت الدبابات واستنجد القائد بالطيران.. وجاءت طائرات (الهليوكوبتر) وفلحت أرض الحرش كلها برشاشاتها.. حتى اطمأنت إلى إخماد المقاومة.. واستمر ذلك التوقف حتى صباح الثلاثاء 13 حزيران.. عندها عادت إلى قائد كتيبة الدبابات الإسرائيلية أنفاسه، وعاود التقدم لإكمال احتلال القنيطرة.
ولقد قام بعض الذين أعرفهم بسؤال النازحين من أبناء الجويزة، عن تلك المقاومة، التي عطلت إكمال احتلال القنيطرة مدة لا تقل عن 18 ساعة فعلموا أنه شاب من أبناء القرية، أطلق من إحدى البنادق التي وجدها كثيرة في الأرض (بنادق الجيش الهارب)، ولما نفذت الذخيرة التي كانت في البارودة، أكمل تراجعه باتجاه القنيطرة.. ثم دمشق.
7ـ وفي فترة الحرب، حشدت إحدى كتائب جيش التحرير الفلسطيني، في الرفيد، وقد تمكن بعض رجال هذه الكتيبة من إسقاط قاذفة إسرائيلية بأسلحتهم الفردية.. ولكن الطيار تخلى عن طائرته وسقط بالمظلة.
هرع بعض رجال الكتيبة لأسر الطيار.. فجاءت أربع طائرات مطاردة وهاجمت الكتيبة، واضطر الرجال إلى الاحتماء بالأرض تفادياً لنيرانها.. عندها استغلت تلك الفرصة طائرة هليوكوبتر للعدو، وأنقذت الطيار من الأسر أو القتل.
8ـ استطاع أحد ضباط الصف، من قوات المدفعية م ـ ط المتمركزة على تل (أبي الندى)، وهو المساعد عدنان الداغستاني قتل أحد الطيارين خلال هبوطه بمظلته، يعد إسقاط طائرته ثم استشهد المساعد فعليه رحمة الله ورضوانه.
9ـ وفي حرش الجويزة، كان واحد من الأبطال (مساعد لم يصل إلى اسمه) يعمل على مدفعية مضاد للطائرات، استطاع إسقاط أربع طائرات ميستير بمدفعه وحده (عيار 14.5مم رباعي السبطانات)، ثم فاضت روحه الكريمة بعد أن هاجمته أربع طائرات ميراج بصواريخ النابالم فأحرقته ومدفعه.
10ـ لا يفوتنا في حديثنا عن صور البطولة الرائعة التي برزت خلال تلك الأيام العصيبة، أن ننوه بالروح التي كانت من العسكريين المسرحين..
هؤلاء العسكريون، الذين سرحتهم سلطات البعث، في نطاق خطتها التي اتفقت عليها مع الإسرائيليين، تمهيداً لوضع الجيش والشعب والبلاد كلها، في وضع صالح لتقبل الهزيمة.
العسكريون الذين لم ينج أكثرهم خلال حكم سلطة البعث، من العنت والأذى، تسريحاً ثم اتهاماً بالعمالة للأجنبي أو مصادرة الأموال، أو ملاحقة وحرماناً من الراتب، أو سجناً وتعذيباً بلغ حدود التشويه في كثير من الحالات أو حكماً بالسجن أو بالنفي أو بالإعدام..
هؤلاء المسرحون.. الذين دربهم الجيش ذخراً له لساعة من ساعات المحنة كالتي كانت يوم المسرحية التي أسموها حرباً..
هؤلاء العسكريون.. الذي أبعدوا عن حقل فعاليتهم الحقيقي، وعزلوا عن المشاركة في الحرب.. وحملوا فيما بعد ـ مع باقي فئات الشعب ـ أوزار الهزيمة التي لم يكن لهم فيها مطلق دور، ولم يسمح لهم بأي نشاط لمنعها أو وقفها عند حدود أقل مما كانت..
هؤلاء المسرحون لا لشيء، سوى أنهم رفضوا الموافقة على صفقة بيع الجولان، وتحدوا حزب البعث المجرم وحاولوا تنحيته لمنعه عن تأدية ذلك الدور الخطير..
رغم كل هذا وذاك، لم ينسوا بلادهم وجيشهم وجولانهم ******، يوم المحنة.. فتقدم أكثرهم إلى قيادة الجيش، واضعاً نفسه تحت تصرفها للدفاع عن البلاد، ولكن القيادة (شكرتهم) وطلبت منهم البقاء في بيوتهم وكأنهم من ذوات الخدور..
وقد تنوعت صور البطولة خلال المحنة التي أنست هؤلاء كل جراحهم، فجعلتهم يتقدمون للذود عن حياضهم.. رغم خيانة المجرمين.. أهل السلطة.
ـ فمنهم من تطوع في الدفاع المدني، للمساهمة في حماية المواطنين، والتخفيف من خسائر الحرب، وخاصة في المدن الكبيرة.
ـ ومنهم من التحق ببعض المنظمات الفدائية، للمساهمة في العمل على مؤخرات القوات الإسرائيلية، فيما إذا حاولت متابعة التوغل داخل البلاد.
ـ ومنهم من التحق بإحدى وحدات الاحتياط، طائعاً مختاراً. وهؤلاء كانوا قلة، لأن التحاقهم يتوقف على موافقة القيادة، أولاً وأخيرا.. والقيادة لا ولن توافق إلا إذا اطمأنت إلى الذين يطلبون الالتحاق بالخدمة، بأنهم لن يعملوا ضدها.
ـ ومنهم من شكل ـ ببداهته ـ مجموعات للدفاع عن المدن، وخاصة دمشق، بعد أن هجرتها القوات والسلطات البعثية وتخلت عنها، وتركتها مفتوحة في وجه القوات الغازية.
ـ ومنهم من قابل بعض القادة المسئولين في دمشق، وألحوا عليهم بوجوب تناسي الخلافات، ودعوة كل الضباط للخدمة في ذلك الظرف العصيب.. ولكنهم ـ هكذا أرى ـ كانوا يجهلون أنهم يطلبون الدفاع عن البلاد، من مجرمين يملكون كل التصميم والتخطيط المسبق لتسليمها إلى عدوها، مقابل ثمن بخس قبضوه، فاستحقوا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ـ وحتى المشردين خارج البلاد، الملاحقين المحكومين كانوا يتحرقون ويتميزون غيظاً للقيام بواجبهم، فمن سبق منهم كان نصيبه السجن والمحاكمة وكان من أبرز هؤلاء الإخوان (عبد الرحمن، وعلي السعدي)، ومنهم من اتصل بالقيادة العامة، وخاطبوا الضابط المناوب.. وقد سمى نفسه (الرائد شريف)، وأبلغوه أنهم يريدون العودة إلى البلاد، والدفاع عنها، فطلب منهم التريث، ثم عاود الاتصال معهم، وأبلغهم قرار القيادة برفض دخولهم إلى الأرض السورية، الني كانت ـ تلك القيادة ـ تسلم منها جزءاً أغلى من حبة القلب إلى العدو الغريب الدخيل.
11ـ وفي ختام عرضنا لنماذج البطولة الصادقة، التي تأبى إلا أن تجد لها متنفساً في كل لحظة تطبق خلالها سوءات الجريمة، أو تحيق فيها الأخطار من كل جانب.
في ختام لحظات التسامى فوق مستوى الجريمة التي نفذها الفجار، وفي ساعة التجلي هذه، التي تبسط فيها البطولة أجنحتها فتظل المنكوبين، وتتسلل ذكرى الأبطال الذين أدوا ضريبة الرجولة.. فتلمس الجراح لمس الحنو المشبوب بالأمل في أن تعاود هذه الأمة الإنجاب..
في ختام هذا السرد الموجز، الذي استطعت الوقوف عليه من ملامح الأعمال البطولية التي أبرزت الوجه الحقيقي لهذه الأمة رغم ركام الخيانة والجريمة الهائل..
في الختام.. الذي أراه مسك الختام لهذه الصفحات. لست أجد خيراً من المرور بإجلال واحترام، قريباً من ذكرى أخي الأبطال.. وكريم الرجال.. العقيد أركان حرب كمال مقصوصة، مبيناً حقيقة البطولة التي كلفته حياته.
ولم تبرز رجولة هذا الإنسان النبيل في ميدان الحرب، لأنه لم يرسل للحرب.. بل برزت في ميدان قولة الحق، الذي هو ميدان لصولات سادة الشهداء..
العقيد كمال مقصوصة ضابط من الذين عينوا في مراكز التجنيد، والذين تقع دعوة الاحتياط في حدود مسئولياتهم.
ولقد استدعى إلى القيادة العامة (مبنى الأركان العامة في دمشق)، ليشهد اجتماعاً عقده الحزبيون.. ليقرروا سلسلة من الإجراءات والأعمال (للدفاع عن البلاد) وذلك بعد سقوط القنيطرة، وبعد أن أصبحت دمشق مهددة بالغزو الإسرائيلي.
وفي خلال المناقشة، طالبوه بدعوة لوائي احتياط من أبناء (دمشق، حمص، حماة، حلب). فاستغرب العقيد المذكور هذا الطلب.. ونية القائد الذي يطالبه إلى أن دعوة الاحتياط لا يمكن أن تتم على أساس هذا التقسيم (أبناء المدن، ومن الطوائف غير العلوية)، وأن دعوة الاحتياط عادة تتم على أساس مكلفي الأعوام (مثلاً مكلفي الأعوام 1960ـ1965) أو على أساس دعوة المعبأة سابقاً (مثلاً: اللواء 90، اللواء 80، اللواء 60 احتياط.. إلخ).
أما دعوة الاحتياط من أبناء مدن معينة، ومن أبناء طوائف معينة، واستثناء غيرهم من أبناء المناطق والطوائف الأخرى، فهذا أمر فريد من نوعه في تاريخ الجيش، ومستحيل التطبيق لأن أجهزة شعب التجنيد ومكاتب النفير، لا تملك الإحصاءات الجاهزة التي تمكنها من تنفيذ تلك الدعوة المريبة لبعض قوى الاحتياط.
عندها تصدى منطق التعصب والإجرام لمنطق الحق والإخلاص، فأصروا عليه أن ينفذ ما طلب منه وإلا.. ثم ألحقوه ببعض النعوت التي لا تليق بإنسان كريم.
.. وعلم العقيد المذكور ـ رحمه الله ـ أن الأمر مطبوخ مسبقاً، وأن هذه الجريمة الجديدة، معدة مهيأة لوضع صفوة شباب هذه المدن في وجه القوات الإسرائيلية المتفوقة، بغية تركها للعدو فريسة يقضي عليها، وبذلك يتم لهم إذلال تلك المدن، والقضاء على أي أمل لديها بالمقاومة.. وأدرك كذلك أنهم يريدونه لتنفيذ تلك الجريمة.. ليحمل وزرها، وينجوا ـ هم ـ أمام الشعب، فرفض، ورد التحدي، وأفهمهم أن هذه الجريمة لن تتم وهو حي، عندها عالجه أحدهم بإطلاق الرصاص عليه، فقتل على القور، وصعد إلى ربه مظلوماً ؟!
ولكن المجرمين.. بعد أن وجدوا البطل أصبح جثة هامدة، هالهم الأمر وحاروا كيف يغطون جريمتهم، فحمل وألقى من الطابق الثاني لمبنى الأركان وأشاعوا أنه (انتحر)، ونقل إلى المستشفى العسكري.. ثم سلمت جثته إلى ذويه، ومنعوا من تشريحها، كما أجبروا على دفنه سراً دون أن تكون له جنازة أسوة بأي إنسان آخر.. وذلك خشية افتضاح الأمر، وانقلاب الجنازة إلى ثورة ضدهم.
رحم الله كمال مقصوصة.. فقد ذهب إلى ربه الذي نسأله أن يكتبه شهيداً من سادة الشهداء. قال كلمة الحق في وجه سلطان جائر، فمنع باستشهاده تنفيذ جريمة خطط لها البعثيون.. وفوت عليهم ما دبروا.. فجزاه الله عن هذا الشعب كل خير.. وعوضه فسيح جناته، وجعله قدوة لغيره من الذين لم تستيقظ فيهم كوامن البطولة حتى اليوم.
رحم الله الشهيد.. ورحم الله كل الشهداء الذين ماتوا ثابتين صادقين.. ولا رحم الله الذين ماتوا فارين مولين الدبر.. وشلت أيدي المجرمين الذين نفذوا تلك الجريمة الفريدة في تاريخ الشعوب.





الفصل الثالث
نقاش الإثبات

(.. صحيح أننا عملنا حتى الآن على تسهيل الحياة أمام مملكة تعيش بعيدة عن النفوذ السوفييتي، ولكن، في النهاية، تفرض علينا مصالحنا الاختيار..
نجد الآن أنه يوجد في سورية نظام بعثي.. وهو تحت النفوذ السوفييتي.
ولكن الواقع أن هدوءاً كاملاً يسود خطوط وقف إطلاق النار التي تفصل بيننا وبين هذه البلاد. وبتعبير آخر، وبغض النظر عن المفاهيم العقائدية، علينا أن ننظر إلى الأمور نظرة واقعية.

من تصريح آبا إيبان لمجلة (الإكسبرس) 22 نيسان 1968. عن كتاب (المسلمون والحرب الرابعة).






ـ 1 ـ
من الجانب العسكري
قبيل الحرب وخلالها افتعلت أخطاء عسكرية في غاية الأهمية والخطورة، كان لها الأثر الذي نراه اليوم، من فجيعة تكاد تذهب بالعقول.
والأخطاء التي ارتكبت، سوقية (استراتيجية)، أو تعبوية (تكتيكية) ما كان لها أن تقع، لو أن القيادة البعثية كانت حريصة حقاً على صون البلاد، لأن هذه الأخطاء، لا تصدر عن مطلق قائد، مهما بلغ من السذاجة أو السطحية أو الارتجال في ما يتخذ من قرارات. ونحن نناقش الآن أهم هذه الأخطاء وأخطرها، وما كان لها من نتائج سببت النكبة.
1ـ عدم إعلان التعبئة العامة (النفير العام): وذلك يعني أن حزب البعث، لجأ لمواجهة تهديدات بالحرب يطلقها العدو الإسرائيلي، ويعلن خلالها أنه سيزحف لاحتلال دمشق..
مثل هذه التهديدات، وما تلاها من تحركات وأحداث بدأت تتلاحق في تصاعد مستمر، حتى بلغت نقطة (اللاعودة)، وأصبح في حكم المحقق الأكيد، وقوع الحرب، والصدام مع العدو.
رغم ذلك.. بقيت قيادة (السويداني وجديد والأسد وزعين، وماخوس وسادسهم الأتاسي، وكل الشركاء الآخرين في الجريمة).. هذه القيادة ظلت محتفظة (بهدوء أعصابها..!) ولم (تؤثر التهديدات في خط سير الثورة).. تلك التهديدات.. (الصغيرة التافهة) التي يطلقها العدو.. (لتدعيم موقع عملائه من الرجعيين والإمبرياليين ).
أقول: إن قيادة حزب البعث، لجأت لمواجهة ذلك الخطر المحقق، بتظاهرة دعائية مجرمة توهم أن القيادة تقوم بالحشد العسكري المطلوب.. بينما تركت الطاقات والقوى الحقيقية الفعالة، والقادرة فعلاً على مواجهة العدو والتصدي له بأمانة وفعالية.. كل تلك القوى والطاقات، تركتها القيادة (البعثية) معطلة مشلولة، وكأنها دخيلة على الوطن، ولأن البعثيين ينظرون إلى هذه الطاقات، نظرة الريبة، ويرون فيها ـ لو جمعت وأطلقت يدها ـ مصدر خطر على وجودها واستمرارها في السلطة.
إن كل ما قامت سورية (حزب البعث)، باستنفاره من طاقاتها لمواجهة الحرب بعد أن تحقق وقوعها، هو ثلاثة ألوية احتياطية من ألوية المشاة، هي الألوية (80، 123، والثالث لم أقف على اسمه).. وهذا يعني أن كل ما استنفر، لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل.. كان معظمهم من الاحتياطيين بعيدي العهد بالتدريب.. ثم عبئوا في وظائف وأعمال ليست اختصاصاً لهم.. ثم رغم ذلك.. كلفوا الهجوم على (صفد).
لقد استطاعت إسرائيل حشد (11%) من طاقاتها المقاتلة للحرب ضد العرب ، وأن مبادئ النفير السليم تنص أن من واجب أية دولة لمواجهة الحرب، أن تعبئ ما لا يقل عن 10% من طاقاتها البشرية للقتال..
فإذا كان تعداد سورية لا يقل عن خمسة ملايين شخص، فإن من واجب الدولة أن تستنفر نصف مليون مقاتل وتضعهم في ظروف الاستعداد للحرب، ليؤدوا الأمانة المطلوبة.
ولزيادة الإيضاح، نؤكد أن نصف هذه النسبة على الأقل كان في وسع القيادة حشده واستنفاره لأن ما لا يقل عن ربع مليون من الرجال سبق له أن جند ودرب منذ تطبيق نظام التجنيد الإجباري في سورية وحتى يوم المؤامرة.
إذن.. كان في وسع حزب البعث، أن يعبئ ربع مليون من المقاتلين في وجه إسرائيل على الأقل وهذا الـ (ربع مليون) فيه من أهل الاختصاص والخبرة عشرات الألوف من الضباط وضباط الصف والجنود، الذين سرحوا من الجيش خلال العهود السياسية المتعاقبة، فلم تستنفر هذه القوى لتؤدي دورها في الدفاع عن البلاد ؟؟!
هنا.. تقع أول نقاط الاتهام، بحق المجرمين الذين صنعوا هذه النكبة، ويدعم هذه التهمة تصريح خطير لقائد الجيش البعثي، يثبت الجريمة ويدين المجرمين..
فلقد صرح اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان العامة، عشية الحرب وبتاريخ 4/5/1967، خلال زيارته لتفقد القوات في الجبهة، وأمام جمع من ضباط الوحدات قائلاً: (إن القيادة لا تتوقع الصدام مع العدو.. وإن الذي ترونه يجري الآن، ما هو إلا تظاهرة عسكرية بالحشد).
2ـ حشد القوى الاحتياطية غير المدربة، وتعبئة العسكريين في ملاكات ووظائف ليست من اختصاصهم، في الوقت الذي تركت فيه العناصر الاختصاصية معطلة الفعالية، ومعزولة تماماً عن ميدان القتال.. فكانت النتائج المذهلة التي رأينا.
إن أية قيادة، مهما كان رجالها جهلة أو مغفلين، لا يمكن أن تقدم على الذي فعلته قيادة حزب البعث، وإن هذا الرأي الذي فعلته لا نجد له تفسيراً إلا أنه الخيانة المدبرة مسبقاً والمرسوم لها أدق الخطط وأكثر التفصيلات لؤماً وسوء نية.
إن أية مؤسسة (حتى بائع الحمص والفول)، لا تسمح لغير المتخصصين أن يمارس عملاً لا يفقهه أو لا يتقنه.. وهذا أمر طبيعي وبديهي.. فكيف تقدم قيادة جيش، ومن ورائها قيادة دولة على وضع قوات بكاملها، في مواجهة العدو ـ حتى ولو كان ذاك العدو ضعيفاً أو جاهلاً ـ وتكلفها بأخطر الواجبات القتالية.. وهي تعلم أن هذه القوات ليست إلا جمعاً متنافراً من الرجال، كما رسمت لذاك قيادة البعث، فاقداً لأبسط مستوى من التماسك والتعاون اللذين لا ينشآن عادة إلا بنتيجة التدريب المشترك الطويل ؟
كيف يمكن أن تقدم أجهزة دولة، وقيادتها، قوات للحرب عين فيها المتخصص بالهاون، رامياً لمدفع م ـ ط، أو الذي أمضى خدمته السابقة حاجباً أو خادماً في بيت أحد الضباط، رامياً لمدفع مضاد للدبابات ؟
لا.. إن الذي حدث لم يكن أخطاء مبعثها الجهل أبداً.. فأجهزة النفير ومكاتبه التابعة لقيادة الجيش السوري لها من الخبرة والاختصاص ما جعلها تحقق في ـ أوائل الستينات ـ أرفع مستوى في أعمال النفير وتعبئة الوحدات، عرفته دولة عربية على الإطلاق.
والجداول الإحصائية، والسجلات الذاتية لكل من عاش في الجيش تضم من المعلومات ما هو كاف وبدقة كافية، لتعطي من يستعملها أوضح معلومات عن اختصاص كل فرد في الوطن.. وبالتالي ما يمكنه من تعبئة هذه الاختصاصات في ميادين عملها، والوظائف التي تتيح لها أن تقدم أفضل إنتاج. فلم قامت أجهزة النفير خلال عهد حزب البعث بهذا العمل المجرم ؟..
هذه أيضاً، النقطة الثانية من الاتهام ضد الحزب وأجهزته المتسلطة على الحكم.
3ـ حشد الألوية والوحدات المختلفة في حدود ضيقة من الأرض دون توفير الحماية الجوية لها..
إن المعروف ـ بديهياً ـ في الحرب الحديثة، أن القوات الأرضية تكون شبه عاجزة عن تحقيق قتال ناجح ـ إلا في حدود ضيقة وحالات خاصة كالليل والالتحام مع العدو ، إن لم تكن تملك الحماية الجوية الكافية التي تمكنها من إجراء التحركات والمناورة، دون خوف من ضربات جوية خطرة.
ولقد لجأ حزب البعث إلى حشد مجموعة ألوية في قطاع ضيق من أرض الجولان، كان يغص أصلاً بالقوات المدافعة، حتى اختلط الحابل بالنابل، وازدحمت الأرض بالرجال والسلاح والعتاد والآليات.. كل ذلك، أجراه حزب البعث، في غياب الطيران غياباً كاملاً عن سماء المعركة.. فكان ما كان من استنفار الطيران المعادي وتحقيق الفاجعة، التي دمرت العديد من وحدات الجيش، وأذلت رجولته وكرامته وسمعته، وأفقدته أجود أسلحته وعتاده.
والسؤال الذي لابد من طرحه.. لإيضاح الجريمة، هو عما فعلته قيادة البعثيين بالطيران السوري.
إن من حقنا أن نسأل، بل واجبنا أن نصر ونلح في السؤال، أين الطيران السوري في تلك الحرب.
إن كانت قيادة البعثيين لا تملك من الطيارين الذين تثق ببعثيتهم، من هو قادر على امتطاء صهوات الميغ والتصدي للميراج التي يقودها جبناء يهود، فهل من حق تلك القيادة أن تخلي سماء البلاد من الطيران الذي تملكه وتكدسه في العنابر (الهنغارات) وتترك الطيارين القادرين على أداء دورهم مسرحين مشردين، يرون الطائرات الإسرائيلية تحرث أجواء البلاد، وتحرق أرضها، وتدمر قواتها.. وهم معزولون عن التصدي لها، فكأن الواحد منهم مصارع جبار شلت ساقاه وقيدت بالأغلال رجلاه ؟
وأما من الوجهة الأخرى، المقابلة، فكيف تقدم القيادة الفجة على إجراء ذلك الحشد وتحريك القوات في وضح النهار، وهي تعلم تمام العلم أنها عاجزة عن تحقيق حماية جوية لها ؟
أو ليس هذا وحده دليلاً كافياً على أن تلك القيادة لم تكن جادة في كل ما قامت به من إجراءات هزيلة ادعت أنها قامت بها استعداداً للحرب ؟
4ـ الهجوم الكاذب:
وأما فكرة الهجوم، ذلك الذي زعموا أنهم قاموا به أو ينوون فلنا عنده وقفة طويلة.
إن ما نود تأكيده، ولفت الانتباه إليه، أن سياسة الهجوم لم تكن معتمدة في سوقية (استراتيجية) القيادات السورية، منذ قامت الهدنة الدائمة عام 1949، وحتى يوم النكبة. إن سوق القيادات المتعاقبة في سورية ـ مدنية وعسكرية ـ كان كله مبنياً عن الدفاع والتشبث بالأرض، للحيلولة دون وقوع نكبة جديدة، لأن الجيش ـ في تقدير الخبراء العسكريين ـ لم يكن في يوم من الأيام قادراً على تحقيق تفوق يمكنه من خوض هجوم ناجح على الأرض المحتلة، لتصفية الكيان الإسرائيلي الدخيل، إن كل ما بني من سوق للدولة السورية ـ حتى خلال أيام الوحدة ـ كان قائماً على الدفاع وحده، دون التعرض للعدو بأعمال تتسم بالطابع الهجومي، مهما كان حجمها أو مداها.. لأن سياسة السوق السوري بنيت على عقدتين أساسيتين كانتا تحكمان العقلية التي تعاقبت على القيادة السورية منذ نكبة 1948 وحتى حزيران 1967، وهما:
أن الوضع السياسي الدولي لا يسمح ـ في زعمهم ـ بالتعرض للعدو الإسرائيلي بأية أعمال هجومية، محلية محدودة، أو عامة تهدف إزالة الورم الإسرائيلي الخبيث.
وثانياً: أن القدرة القتالية الفنية (في التسليح والمستوى التكنولوجي وأعمال إمدادات القوات بكل احتياجاتها للحرب)، ستبقى دوماً عاجزة عن تحقيق التفوق القادر على دفع الجيش السوري لخوض حرب هجومية ـ خاطفة أو طويلة المدىـ بهدف إزالة إسرائيل. وبتعبير آخر وأوضح أن فكرة إزالة إسرائيل، وتحرير الوطن المسلوب وإعادته إلى أصحابه الشرعيين، لم تكن سوى شعارات تطرح للجماهير بغية الاستهلاك السياسي وكسب الأنصار والأتباع، بينما كانت العقليات التي حكمت البلاد، تؤمن وتردد في مجالسها الخاصة والسرية وحتى في مخاطباتها الرسمية أن إزالة إسرائيل غير ممكن.. وأن هذا مما لا يصح إعلانه للجماهير.. لذلك فإن أفضل قيادة عرفتها البلاد، كانت تركز كل اهتماماتها حول صون الحدود، ورد العدوان إذا ما حاول الزحف لابتلاع أرض جديدة، والتوسع على حساب مزيد من الأرض السورية.
وإننا حين نصر على هذا المفهوم الذي حكم السياسة في سورية العليا، طيلة سنوات ما قبل حزيران العار، لسنا متجنين على أحد، ولا نغمط أحداً حقه أبداً.. بل، وإن الذي يؤكد بشكل قاطع ما ذهبنا إليه، هو إصرار القيادات المتعاقبة على زيادة التحصين، ورفع مستواه، حتى بلغ في عام 1961، مستوى من المنعة والقدرة والفعالية، جعل خبراء الدفاع في العالم، يصفونه بأنه التحصين الذي يستحيل اختراقه. وأنه قادر على الصمود حتى أمام ضربات ذرية صغيرة، أو قصف كيمياوي تستعمل فيه أنواع متعددة من الغازات أو السوائل الكيميائية الفعالة.
ولذلك.. فإننا حين سمعنا ادعاءات إذاعة حزب البعث، إنها قامت بالهجوم، واحتلت ودمرت، وأن قواتها قد وصلت إلى صفد.. كان الانطباع المنطقي لدينا، أنهم كاذبون دجالون.. يفترون على الله وعلى الأمة بمجموعها حتى في أدق ساعات الخطر التي مرت بها خلال تاريخها الحديث..
وقد أكدت الأحداث والأخبار والحقائق التي نشرت أو أذيعت أو تسربت على ألسنة الصادقين المخلصين الذي كانوا هناك أيام تلك الحرب.. صحة تكذيبنا لهم، وأوضح لنا أنهم إنما كانوا يزايدون على الأمة حتى في اللحظة التي كانت جيوش العدو تحتل أرضها، وتشرد مزيداً من أبنائها وتدمر ما يعجز الحصر من عدتها وعتادها وتسليحها.
وفيما اتخذته القيادة السورية البعثية من أعمال وأجرته من تحركات، من أجل (الهجوم الكاذب) تكمن أخطر نقطة في المؤامرة التي نفذوها.. وبها سلموه جولاننا الحصين، حبة القلب ونور العين وضياؤها.
هذه الأعمال التي قامت بها القيادة البعثية، تميزت بعملين هما في الحقيقة أهم ما نفذته من إجراءات، ظاهرها ضد العدو، وحقيقتها كانت لصالحه.
فالعمل الأول، هو الهجوم الذي قامت به وحدات هزيلة من الحرس الوطني ـ وما أعد الحرس الوطني في يوم من الأيام إلا للإنذار وقتال التأخير ـ دخلت فيه الأرض المحتلة مسافة 2 ـ3 كيلومترات، وهاجمت مستعمرة شرياشوف، فوجدتها خاوية على عروشها، قد أخلاها العدو منذ عدة أيام سبقت الحرب.
والعمل الثاني، هو تقديم لواءين من الاحتياط، لاحتلال قاعدة الانطلاق ـ انظر تحديدها في فصل سابق ـ بحجة إجراء الهجوم على صفد. فما هي مكامن الخيانة في هذين العملين، وما هي حقيقة الأهداف التي من أجلها نفذتها القيادة البعثية ؟
(أ) إن من المعلوم لكل من خدم في الجبهة (الجولان)، أن أكثر القطاعات احتمالاً أن تتعرض للهجوم المعادي، هما القطاعان واسط، والأوسط وذلك بسبب قرب المسافة ما بين القنيطرة والحدود في كل منهما..!
... ولقد كان قطاع واسط، أضعف قطاعات الجبهة تحصيناً وتدعيماً بالقوات، وذلك بسبب ضآلة المحاور الصالحة لحركة الآليات، ووعورة الأرض وعدم صلاحيتها لإجراء المناورة الهجومية (بالنسبة للعدو المهاجم).
وأما القطاع الأوسط، فلقد كان محور جهد الجبهة والجيش، وكان من أكثر القطاعات كثافة بالقوات والتحصينات، وأفضل القطاعات صلاحية لإجراء قتال دفاعي نموذجي (بالنسبة لنا)، يقدم العدو خلاله خسائر قد تفوق حدود التقديرات التي وضعت قبل إجراء أي قتال هناك..
(ب) ويأتي في الأهمية بعد هذين القطاعين، القطاعين الشمالي، ومحور جهده هو طريق بانياس ـ مسعدة، وقد قام الجيش لذلك بتركيز فعال للمواقع الدفاعية على هذا المحور، والمحاور الأخرى، الصالحة للتقدم ضمن القطاع، بالإضافة إلى الملاغم التي جهزت لتضع العدو في موقف هو غاية في السوء، لا يملك حياله إلا أن يتراجع، أو يخضع فترة طويلة لنيراننا حتى يمكن له إصلاح التخريبات ومعاودة التقدم. أضف إلى ذلك التركيز الشديد بحقول الألغام التي زرعت في كل ثغرة تصلح لتنفذ منها آليات العدو حتى بلغ عمق بعض حقول الألغام أكثر من مائتي متر، وعرضها أكثر من كيلومتر، ومثل هذه المقاييس تعتبر نادرة في حقول الألغام التي تزرع في أرض غير صحراوية.
(ج) ويأتي في النهاية، القطاع الجنوبي، وفيه محوران هامان، أولهما هو محور الكرسي ـ (تل ـ69) ـ سكوفيا ـ فيق العال. وثانيهما هو محور الحمة ـ كفر حارب ـ فيق العال.
ولو أن عدواً ما، حاول إجراء الهجوم ـ بقواه الرئيسية ـ على أي من هذين المحورين، لاعتبر مجنوناً أو أحمق أو جاهلاً، لأن أية قوات تحاول التقدم مستعملة أحد هذين المحورين أو كليهما، ستخضع لنيران من المدفعية ـ وحدها ـ كافية لتجعل من الأرض التي تقف عليها مقبرة لها، لأن المحورين المذكورين هما في غاية الوعورة والانحدار والتعرج، أضف إلى ذلك ما حضر عليهما من ملاغم وتخريبات، عدا المواقع الدفاعية الحصينة وحقول الألغام، ثم.. النيران المحضرة لكل وحدات المدفعية والهاون والطيران.
ورغم كل هذا، وبما أن العدو لا يملك إمكانية تحقيق الكثافة البشرية التي تمكنه من تغطية القطاعات كلها في الامتدادات الطويلة للجبهة، فلقد توقع القادة المتعاقبون الذين أشرفوا على رسم السياسة الدفاعية للجولان، توقعوا أن يركز العدو كل همه على تحقيق خرق خاطف في أحد القطاعات، ومن ثم ينطلق من قطاع الخرق هذا إلى عمليات التطويق، ليشل القدرات الدفاعية للوحدات المتمركزة في باقي القطاعات، ويمنع عنها طرق إمدادها بالنجدات والمؤن.
ولتلافي حدوث مثل ذلك.. فقد حسبت القيادات المتعاقبة حساب عمليات التطويق هذه فأقامت مجموعة من المواقع والتجمعات القتالية لتتحكم بالطرق التي سيركز العدو جهده للوصول إليها واستعمالها في عمليات الالتفاف والتطويق، لذلك نرى أن كثيراً من النقاط والتجمعات القتالية قد أقيمت لتسيطر على هذه الطرق وإحباط نوايا العدو.
ومن أهم هذه المواقع والتجمعات:
في القطاع الشمالي: حرش مسعدة ـ بقعاتا ـ القلع.
في قطاع واسط: تل شيبان.
في الأوسط: معسكرات كفر نفاخ ـ نقطة استناد العليقة الشمالية (على طريق حفر ـ العليقة)، معسكرات الخشنية وفيها تقيم كتيبة دبابات القطاع الأوسط التي كان لها واجب الدفاع عن الخشنية في حال عدم زجها في المعركة الدفاعية الأساسية.
في الجنوبي: معسكر الجوخدار حيث تقيم فيه كتيبة دبابات القطاع الجنوبي ومنه تنطلق لشن الهجمات المعاكسة في اتجاه القنيطرة، وفي اتجاه الخشنية.
وأما على الخط العرضاني الأقرب إلى الحدود، والواقع معظمه في منطقة الحيطة، فإننا سنجد سلسلة من المواقع الهامة واجبها الدفاع في كل الاتجاهات وإحباط محاولات التطويق أو الالتفاف التي قد يقوم بها العدو. ومن أهم هذه المواقع (من الشمال إلى الجنوب) قنعبة، حفر، في الشمال و217، علمين، تل المشنوق، تل 62، تل الأعور، في الأوسط. وـ69 في الجنوبي.
إذن.. نستطيع أن نقول أن القطاعين الهامين، اللذين (يجب إخلاؤهما من القوات المدافعة ليتمكن العدو من التقدم بحرية وراحة هما القطاع الشمالي، والقطاع الأوسط.
ونظراً لأن العدو، لا يمكن أن يعطي تفصيلات خطته لعملائه ـ مهما بلغوا من الأمانة له والحرص على خدمته ـ لذلك فقد أشار عليهم إخلاء هذين القطاعين، من القوات، فكان له ما أراد، وقامت القيادة البعثية بلعبتها الخطرة، فأخرجت القوات المدافعة عن أخطر مواقع القطاع الشمالي من مواقعها، وزجت بها في معركة هجومية صورية، أنهكتها، وخيبت ظنونها، فلما عادت لتحتل مواقعها، وجدت أن الخيانة قد صفت كل شيء، إذ هرب القادة، وانهزمت القوات، ودمرت مواقعها الدفاعية، فلم يبق شيء أمامها إلا الفرار أو التمزق .. وبذلك خلت المواقع الأمامية الحصينة في القطاع الشمالي من حماتها.. وقيل للعدو الإسرائيلي، أقبل فالأرض مفتوحة أمامك.
وأما في القطاع الأوسط.. فلكي تبلغ اللعبة القذرة غايتها، وتحقق أهدافها، اخترعت القيادة البعثية فكرة الهجوم على صفد، وأوكلت أمر تنفيذها إلى الألوية الاحتياطية الهزيلة، ثم بحجة ذلك الهجوم، سحبت القوات الأصيلة المرابطة للدفاع، من مواقعها التي تعرفها تماماً، وتتقن القتال فيها ـ بحكم التدريب والإقامة الطويلين ـ فكان إخلاء الأرض من حماتها بذلك الأسلوب المموه اللئيم، (أدق) عمل أدته القيادة البعثية، لخدمة أطماع الإسرائيلي.. التي لا تقف عند حد، وحتى وضع هذه القوات الاحتياطية في ذلك الموقف، لم يخل من دقة التآمر، وحرص على تنفيذ الجريمة بأكثر السبل ضمانة لبلوغها غايتها.
فبالإضافة إلى كل المساوئ التي كانت تشل فعالية تلك الألوية الاحتياطية، كانت هناك فكرة خبيثة وخفية في هذا العمل. وملخصها أن القيادة لو أحلت محل القوات المدافعة الأصيلة، قوات نظامية مدربة، فإن هذا يشكل خطراً على مخططاتها المشتركة مع العدو لتسليم الأرض الحصينة.. لأن القوات المدربة جيداً، والمتماسكة في بنيانها، تعرف تماماً أن من الطبيعي أن ينقلب الهجوم بين لحظة وأخرى، إلى دفاع، فيمكنها ـ بحكم التدريب والمعرفة المسبقة ـ أن تدير قتالاً دفاعياً ناجحاً، يرد كيد العدو إلى نحره، ويخرب مخططات القيادة البعثية في التآمر.. فلجأت إلى إحلال القوات الاحتياطية المتنافرة غير المدربة، في ذلك الموقف العصيب، لتضمن عجزها عن خوض قتال دفاعي جيد وفعال في وجه العدو، وبذلك ضمنت للغزاة إخلاء الأرض ومواقعها من كل طاقة ذات فعالية قد تعترض سبيلهم.
ويبقى في هذا الشرح، وضع قطاع واسط، الذي فيه أيضاً حصل الاختراق.
ولقد سبق أن قلنا إن هذا القطاع هو ـ من حيث التحصين ـ أضعف قطاعات الجبهة، ولكن وعورة الأرض، وقلة الطرق الصالحة لتقدم الآليات، كانت البديلة الأفضل لهذا الضعف، ورغم كل ذلك، فإن المقرر له أن يدافع عنه لواء بكامله مع كل أسلحة التعزيز.. فماذا فعلت القيادة البعثية بهذا القطاع ؟
أولاً: إن اللواء المقرر له أن يحتل قطاع واسط، ليدافع عنه لم ينقل إلى مكانه ذاك.. واكتفت القيادة بالقوات الضئيلة المستعارة من الحرس الوطني ومن القطاع الشمالي، لاحتلال نقاطه ومواقعه الدفاعية.
ثانياً: نرجح إنه كان في تقدير القوات الإسرائيلية والقيادة البعثية، أن هذا القطاع لن يصمد طويلاً، فلا يلبث أن تضعف مقاومته وينهار، وخاصة أن الطيران سينهك قواته قصفاً وإحراقاً، مع الضمانات الكلية بأن القيادة البعثية لن تفعل شيئاً لنجدته.. وهذا ما حصل فعلاً، منذ صباح الجمعة 9 حزيران.. فتم الاختراق فيه، وتقدمت القوات لاحتلاله متخذة تشكيلة الأنساق المتتابعة، خوفاً من بطولات تعترض سبيلها فتردها مدحورة مذمومة، رغم كل ضمانات حزب البعث، وأعماله التي كفلت لها تسليمها الجولان بدون قتال.
ونريد الآن أن نسأل: من أين هبطت فكرة الهجوم على القيادة البعثية، وهي تعلم أن جيشها ليس إلا مؤسسة بوليسية قادرة على قمع الشعب والهجوم على المقدسات والحرمات.. وليس لها أن تخوض أي قتال هجومي فعال داخل الأرض المحتلة ؟؟
لماذا قررت القيادة البعثية إجراء الهجوم.. مع أنها لم يكن في سياستها وسوقها أنها قادرة على ذلك ؟
إن الجيش السوري عشية حرب حزيران، كان في أسوأ حال عرفها منذ إعادة تشكيله عام 1955، ولم يك أحسن حالاً منه خلال أعوام الضعف التي سبقت ذلك العام، وكانت القيادة البعثية تعلم ذلك..
أفلا يكفي القيادة السورية البعثية، علماً بأحوال جيشها وعجزه عن خوض قتال ناجح ضد العدو الإسرائيلي، أن يعلن لها ـ منذراً ـ أحد كبار قادة الجيش السوري البعثي، اللواء فهد الشاعر، خلال محاكمته:
(إن جيشاً يشتغل في السياسة ثماني عشرة ساعة، ويأكل وينام خمس ساعات، ويتدرب في ساعة واحدة في اليوم.. إن هذا الجيش لن يرجى منه نفع ساعة المحنة) ؟
القيادة البعثية كانت تعلم أن جيش العدو متفوق على جيشها في مختلف المجالات، وخاصة في حقل الطيران، وهي تعلم أن طيرانها عاجز عن حماية البلاد حتى من سرب جراد، لأنها شردت الطيارين، وخزنت الطائرات في عنابرها.. خوفاً من أن يستخدمها طيارون غير بعثيين ضدها، فتفقد مواقع الحكم التي تدير منها التآمر والخيانة لتسليم الأرض إلى عدو لا تقف له أطماع عند حدود.!
فمن أين جاءتها فكرة الهجوم هذه.. رغم كل علمها بأنها عاجزة عن خوض أي هجوم ؟ هنا سؤال خطير.. ستكشف الأيام تباعاً، جوانب من الإجابة عنه، لأن من غير اليسير لنا كشفها كلها.. ونحن لا نملك الاطلاع على ما يدار ويحاك في دور السفارات والأقبية السرية.. ولكننا لابد من أن نشير إلى مسئولية الخبراء الروس.. في تلك الجريمة.
نحن نقول إن فكرة الهجوم ـ أصلاً ـ كانت مسرحية لتبرير سحب القوات المدافعة الأصيلة، وإخلاء طريق القوات الإسرائيلية من كل مقاومة فعالة.
ولكن.. لماذا أشار الخبراء الروس بوضع ألوية الاحتياط في مقدمة قوات الهجوم.. ذاك المزعوم ؟؟!
نحن لا نستطيع تبرئة الخبراء الروس من تلك الجريمة، لأنهم ليسوا حديثي عهد بالعمل في سورية، وقد مضت عليهم سنوات عشر، يعملون خلالها في الجيش، يدربونه، ويطلعون على كل ما يخصه، حتى أصبحوا على علم بأدق التفصيلات عن سلاحه، وعتاده، وتعداده، والتغيرات التي أصابته، ومستويات تدريبه والقدرات القتالية لوحداته.
وماداموا يعلمون كل تلك التفاصيل، أكثر من كثير من ضباط الجيش، وماداموا يعلمون أن مستوى الوحدات الاحتياطية لا يؤهلها لخوض هجوم فعال ضد دفاع محصن.. فكيف لهم أن يشيروا بوضع هذه الوحدات في المقدمة بحجة أن من الأفضل ترك الوحدات النظامية للعمل في داخل إسرائيل، فتكون مرتاحة متماسكة.. ويمكن عندها لها أن تحقق استغلال الفوز ؟؟!
إن الخبراء الروس الذين دربوا جيشنا.. ليسوا أطفالاً أو حديثي عهد بالخدمة العسكرية. إن أقل رتبة فيها كانت رتبة العقيد.. وإن أقل واحد منهم، كان له اشتراك في الحرب العالمية الثانية عدا مئات المناورات التي خاضها في جيشه اشتراكاً مع جيوش الدول الشيوعية الأخرى.. وهؤلاء لهم من الخبرة والعلم العسكري ما جعلهم أهلاً لتدريب جيش ناشئ كجيشنا.. وهم يعلمون أن جميع جيوش الأرض تضع أقوى وحداتها، وخيرة سلاحها وعتادها، في الهجوم الرئيسي، لتوجيه الضربة الأولى والرئيسية، التي إن تمت بنجاح، ستزلزل دفاع عدوها، وتمهد لتشريد قواه ثم تدميرها.
جميع جيوش العالم.. تزج بخيرة قواها لتحقيق الفوز منذ الضربة الأولى.. فكيف أشار أو قبل الخبراء الروس الذي يعلمون ذلك أن تزج القيادة السورية بقوات قليلة التماسك وهزيلة التدريب.. والمعبأة أسوأ تعبئة عرفها تاريخ جيش ـ ما ـ في مواجهة دفاع حصين متماسك متين.. بحجة ترك الوحدات العاملة، مرتاحة لتتابع التوغل في عمق ـ دفاعات العدو ؟؟
إننا لم نجد تفسيراً لهذا العمل، سوى التواطؤ.. إما لصالح إسرائيل مباشرة وهذا ما لا نملك إثباته فيكفينا إننا ننبه إليه.. وإما التواطؤ المأمورين به من قياداتهم، لترك الألوية (البعثية الاشتراكية)، سليمة لحماية الخط اليساري الثوري، من أية تحركات شعبية عارمة ضده، وخاصة في تلك الساعات التي برز خلالها جبن وضعف وتواطؤ الجيش البعثي ـ ومن ورائه حزبه وأجهزته الحاكمة ـ تجاه العدو الإسرائيلي، وخطره الآتي عبر الحدود.
وإن الذي يؤكد ما ذهبنا إليه هنا ـ هو ما رأيناه من إصرار وسرعة مذهلة، قامت بها دولتهم ـ الاتحاد السوفييتي ـ في تعويض ما خسرت الدول الثورية العربية خلال مسرحية حزيران، وخاصة في حقل الطيران، بسبب فعاليته في شل أية تحركات قد تقوم بها الشعوب المنكوبة لإزالة الذين صنعوا لها النكبة.. بينما بقيت دولة من الدول المنكوبة ـ غير اليسارية ـ تعاني حتى اليوم من النقص الخطير الذي لحق بقواتها عقب النكبة.. ذلك لأنه ليس في مصلحة روسيا نجدة هذه الدولة غير الثورية..!
5ـ البلاغ رقم 66 بسقوط القنيطرة:
ومن الأمور الخطيرة جداً.. التي تميزت بها أيام الحرب (المسرحية)، هو تصرف القوات بعد الإعلان الكاذب عن سقوط القنيطرة.. وهذا ما يحتاج إلى مناقشة وتوضيح.
(أ) لنترك جانباً ـ ولفترة محدودة فقط ـ إصرارنا على أن بلاغ سقوط القنيطرة، قد أذيع قبل سقوطها بزمن غير قليل، فلقد سبق أن بينا ذلك بوضوح وأثبتنا أن القوات الإسرائيلية كانت وماتزال تشتبك بالمقاومات الفردية المعزولة، في تل شيبان، والقلع، وتل الفخار، وفي المنصورة وأماكن متفرقة أخرى.. حين أذيع البلاغ الكاذب ذاك..
ولنفترض جدلاً أن البلاغ كان صحيحاً.. وأن القوات الإسرائيلية قد دخلت القنيطرة وقت البلاغ تماماً أو قبيله بزمن بسيط.. فلماذا تترك الوحدات الباقية مواقعها، وتفر كالفئران ؟؟
إن نظرة واحدة إلى خريطة الجولان.. توضح أن سقوط القنيطرة، لا يشكل خطراً أو تهديداً مباشراً ضد باقي القوات المقيمة في القطاعات الأخرى، وخاصة الأوسط والجنوبي..
إن القنيطرة تبعد عن مواقع القوات الرئيسية في القطاع الأوسط، عشرين كيلومتراً، وعن مواقع القوات الرئيسية في الجنوبي خمسين كيلومتراً.. فهل يمكن أن يسمى احتلال العدو للقنيطرة، التفافاً أو تطويقاً ضد هذه القوات ؟؟
إن التطويق لا يكون تطويقاً، إلا إذا استطاعت القوات عزل الوحدات المطوقة تماماً، والإحاطة بها من كل جانب، وقطع طرق انسحابها أو تموينها ونجدتها.. ومن ثم تبدأ القوات المطوقة زحفها لتدمير القوة المطوقة، أو إجبارها على الاستسلام.
وحتى في هذه الحالة ـ النادرة في الحروب ـ كثيراً ما تقوم القوة المطوقة بأعمال تتسم بطابع العنف والضراوة، بهدف فك الحصار، وفتح الطريق إما لانسحاب أو لتأمين وصول النجدات إليها..
وفي حالتنا هذه التي نناقش، يرى الناظر إلى الخريطة أن قوات الجولان لم يتم تطويقها، وأن نجدة الجولان كانت ممكنة ـ وهذا ما سبق للقيادات أو وضعته في احتمالها ـ إما عن طريق قطنا مزرعة بيت جن ـ مسعدة (من الشمال)، وإما من الطرق المختلفة المؤدية من حوران إلى القطاع الجنوبي ثم الأوسط (من الجنوب)، وإما من الطرق المؤدية من دمشق إلى منطقة القنيطرة مباشرة (من الشرق).
وكذلك يرى الناظر إلى الخريطة، أن مجال المناورة كان واسعاً جداً، فالأرض فسيحة، والطرق متوفرة والليل كفيل بالسماح للقوات السورية بإجراء التحركات اللازمة حتى تتم الالتحام مع العدو، لطرده، أو وقف زحفه على الأقل.. !
إذن.. فليس للقوات أي عذر في تركها لمواقعها، بحجة أنها سمعت بلاغ سقوط القنيطرة.. فظنت أنها طوقت.. أو أصبحت مهددة بالتطويق..
هذا من ناحية.. ومن الناحية الأخرى.. لابد لنا من التذكير بأننا نوهنا في فصل سابق، أن المواقع الدفاعية ـ كل المواقع ـ قد حضرت، لتقوم بالدفاع في كل الاتجاهات (الدفاع الدائري)..
فلو عدت معي أيها القارئ، إلى فصل (الإعداد المسبق)، لوجدت أنه لكل سلاح قد جهزت مواقع رمي تكميلية، وأن الأسلاك الشائكة والألغام قد أحاطت بكل موقع من كل جانب، حماية له من نقطة ضعف.. وتسهيلاً له أن يقوم بالقتال في أي اتجاه يقع منه التهديد.
إذن.. نستطيع القول: إنه حتى ولو قامت القوات الإسرائيلية بالزحف من القنيطرة إلى باقي القطاعات، لقتالها من أحد الجوانب أو الخلف.. فإن تلك القوات كان يجب أن تصمد، وتقاتل.. لأن ذلك من صلب مهماتها.. ولأن أكثر القوات (وخاصة قوات القطاعين الأوسط والجنوبي) قد دربت مسبقاً، وخلال سنوات طويلة، على تلك المهمات القتالية المختلفة.
وأخيراً.. علينا أن نضيف، أن الأوامر المستمرة، الدائمة التي كانت تلقن لكل عسكري يدخل الجبهة (الجولان)، تنص على أن من واجبه الدفاع والقتال حتى الموت.. وأن لا انسحاب مهما كانت النتائج، فكيف استطاعت الشائعات التي راجت عن أوامر انسحاب أصدرتها القيادة.. أن تفعل فعل الساحر في تلك النفوس المتخاذلة.. حتى تركت مواقعها وولت الدبر ؟!
ومن كل ذلك.. نستطيع أن نؤكد أن أسباب الصمود والاحتفاظ بالأرض كانت متوفرة، فالأوامر الدائمة المسبقة بوجوب الدفاع حتى الموت، وإعداد المواقع للقتال في كل الاتجاهات، وتوفر إمكانية المناورة والضرب ضد العدو في كل أرض، وإمكانية إمداد ونجدة القوات عبر الطرق المختلفة.. ومناعة التحصين الذي كان قادراً على تأمين حماية كافية ضد الطيران الإسرائيلي.. ووفرة المواد التموينية من ذخيرة وطعام ومواد علاج، المكدسة في مستودعات القطاعات والوحدات..
كل ذلك.. لم تستفد منه القوات، فما إن سمعت البلاغ المشؤوم.. حتى بادرت إلى ترك مواقعها ـ وحتى أسلحتها ووثائقها ـ ثم أسلمت السيقان للريح.. ميممة شطر اربد وحوران أو دمشق أو لبنان وهي تعتقد أنها لن تبلغ الأمن والسلامة إلا بخروجها من حدود الأرض التي تحمل الصبغة القتالية.. أرض الجولان..
6ـ الهجمات المعاكسة:
ويبدو لي الآن أن الحديث عنها قد أصبح أقل ضرورة مما كنت أعتقد، لأن ذلك لا يعدو كونه جزءاً من الحديث عن أعمال القوات، الذي تعرضنا عنه في الفقرة السابقة..
ولكن ذلك لا يعني أننا نغفل مناقشة هذا الأمر الخطير.. وخاصة فيما يتعلق بالقيادة العامة وأعمالها.. فإن نحن سلمنا أن القوات المدافعة التي كانت تحتل الجولان، قد تخاذلت وجبنت في وجه العدو.. فلماذا لم تقم القيادة العامة بذلك الواجب.. وتبادر هي إلى الزج بالقوى الرئيسية التي تحت قيادتها، لسد الخرق الذي حصل، ورد القوات المعادية، أو إيقافها عند حدود ضيقة على الأقل ؟
قد يتصدى متنطع وقح ليقول إن الطيران الإسرائيلي كان مسيطراً على جو البلاد كلها.. وهذا يمنع تحرك الوحدات لإجراء الهجوم المعاكس المطلوب..
وأفضل رد على مثل هذا الادعاء، هو أن الذي يقوله جاهل، يتحدث بما ليس له به علم.. أو منافق مخادع والغ في الجريمة.. ويريد صرف الناس عن خطورتها..
إن من الأسس العامة لقتال القوات، أن الطيران ـ مطلق الطيران ـ يكون عاجزاً عن التدخل ضد قوات عدوه في حالة الالتحام بين الطرفين..
وإن من أبسط قواعد التحركات العسكرية أن الليل يشكل أكبر عامل مساعد لتحرك القوات خفية عن أعين الرصد المعادي.. كما يقدم حماية كاملة للقوات خلال تحركها على الطرقات.. رغم إمكانية الطيران ـ أي طيران ـ استخدام المشاعل والقنابل المضيئة لكشف أعمال العدو أو تحركاته في منطقة من الأرض.. ولأن ذلك يبقى محدوداً ضمن مساحات معينة، وفي حدود ثوان أو دقائق معدودات.. وهذا لا يعين الطيران على القيام بهجوم ناجح في الليل ضد القوات الأرضية..
ومن المعلوم كذلك أن الطرق المؤدية إلى منطقة واسط ـ القلع (قطاع الخرق)، أكثر من أن تحصى.. والقوات السورية تعلم تلك الطرق خير علم.. كما سبق لها أن مارست عليها مختلف أنواع التحركات والأعمال التدريبية.
كان من الممكن إذن للقيادة ـ لو أنها أخلصت ـ أن تجري التحركات اللازمة، وتدفع بالقوات المكلفة إجراء الهجوم العاكس، في الليل، حتى تصل إلى خطوط الفتح المقررة لها ثم تقوم عند بزوغ أول ضوء، بتنفيذ الهجمات المعاكسة المطلوبة.. وبذلك تكون قد حققت واجبها وبقيت في مأمن من تدخل الطيران ضدها..!
ولقد سبق أن بينا أن شعبة العمليات أصدرت تلك الأوامر، وكان اللواء عواد باغ قد تدخل بنفسه لتحقيق ذلك الواجب الكبير.. ولكن ؟ لا رأي لمن لا يطاع.. فالسلطة الحزبية قد علت على السلطة القانونية العسكرية حتى في أسوأ لحظات المصير.. وتطاولت عليها، ورفض القادة البعثيون تنفيذ تلك الأوامر، مستندين إلى سندهم وحماتهم في الحزب المجرم.. وبذلك كان مثل اللواء عواد باغ، كمثل ضابط عربي يصدر الأوامر لقوات سوفييتية مثلاً.. فهل لها أن تطيع ؟!..
7ـ الطعـام
ثم موضوع الطعام، ما حقيقته، وما هو السر الكامن في اختفائه، وكيف كان له أكبر الأثر في وقوع الكارثة ؟
إننا نعلم أنه منذ بداية التوتر، ومع تصاعد احتمالات الصدام مع العدو، أخذت مظاهر الاستعداد (الكاذب) لذلك الصدام، تتلاحق، وتأخذ صوراً شتى.. حسب كل ميدان من ميادين الاختصاص.
ولقد كان من جملة مظاهر (الاستعداد).. قصة طعام الطوارئ.. قصة سحبه وما كان لذلك من آثار خطيرة.
ولكي يمكن فهم هذه النقطة، ومدى خطورة اللعبة الخائنة التي ارتكبتها قيادة الحزب، لضمان تسليم الجولان، إلى العدو دونما مطلق مقاومة. لكي يكون الأمر واضحاً، نعود قليلاً إلى الوراء.. إلى نظام الطعام في الجولان.. خلال عمره قبل نكبته، ونكبة الأمة بضياعه:
(أ) إن طعام القوات في الجبهة (الجولان)، كان مؤمناً بواسطة المطابخ، التي تؤمن الطعام الطازج في وقته، والتي كانت منتشرة في الجبهة، على مستويات مختلفة ومتعددة، بدءاً من المطابخ الميدانية المتنقلة، ومروراً بالمطابخ الثابتة للوحدات الصغرى المنعزلة.. حتى مستوى المطابخ الكبيرة التابعة للثكنات والمعسكرات، التي تضم وحدة أكبر أو أكثر .
ولكن إلى جانب ذلك.. ومع احتمالات القتال ـ التي ما وجدت القوات في الجولان إلا لمواجهتها ـ المختلفة، والمتعددة الوجوه.. ومع ذلك احتمالات انقطاع التموين ـ لفترات مقدرة ومحسوبة ـ لجأت القيادة إلى نظام توزيع أطعمة الطوارئ.
(ب) وأطعمة الطوارئ.. عبارة عن أنواع من الخبز (المجفف أو البسكويت)، الذي يحتوي على دقيق غنى مركز بالفيتامينات الحيوية الضرورية، مع معلبات من لحم البقر، أو السردين.
هذه الأطعمة خصصت للاستهلاك في حالات انقطاع التموين.. وقد حددت الأوامر الحالات التي يسمح فيه باستهلاك أطعمة الطوارئ هذه أو جزء منها.. ثم علق تنفيذ هذه الأوامر (أي مدى انطباقية حالات تنفيذها، على الواقع اليومي الذي تواجهه القوات) بأوامر خاصة تصدر لهذا الغرض، من قيادة الجبهة.
إذن.. نستطيع أن نفهم أن أطعمة الطوارئ هذه، كانت من مواد التموين التي شدد الحرص عليها حتى أصبحت بمستوى الذخيرة من حيث الأهمية.. وهذا معلوم سببه.. لأن الجندي إذا جاع.. يصبح صعباً عليه أن يقاتل.
(ج) وزيادة في الحيطة، ونظراً لأن وحدة القتال الأساسية التي بنيت عليها مواقع الدفاع في الجولان، هي (نقاط الاستناد) التي تدافع عنها (سرية مشاة) معززة أو مخففة.. وبسبب من طبيعة الأرض التي تفرض على نقاط الاستناد هذه أن تواجه احتمالات العزل أو التطويق، خلال الصدام المحتمل.. تجعل (آلياً) تلك النقاط مطالبة بأن تقاتل اعتماداً على قواها الذاتية، فترة محدودة، ريثما يتم نجدتها وكسر الحصار المفروض عليها.. لذلك.. فقد زودت هذه النقاط، بكل احتياجاتها التموينية.. التي مكنتها من القتال (منعزلة)، فترة من الزمن، كافية لإعطاء فرصة للوحدات الأخرى، لنجدتها.. وقد كان أضعف تقدير لهذه المهلة (48 ساعة).. وكانت أطعمة الطوارئ من جملة المواد التموينية التي زودت بها تلك الوحدات.. بل، وزودت بها حتى المواقع والمخافر الصغرى المنعزلة ـ بغض النظر عن حجم الوحدات المدافعة عنهاـ. وحتى في الكثير من النقاط والمواقع.. وخاصة التي كانت تواجه احتمالات الحصار أكثر من غيرها، بسبب انعزالها أو وعورة الأرض حولها، مما يسبب تأخر نجدتها.. حتى في تلك المواقع.. لم تترك أطعمة الطوارئ لدي قيادات السرايا أو قيادات تلك المواقع.. وإنما وزعت على المستويات الصغرى ضمنها.. حتى بلغ التوزيع في بعض الأمكنة مستوى الفرد.. حيث كنا نجد بعضاً من تلك المخافر والمواقع.. وقد زود الأفراد فيها بكل احتياجاتهم من الذخيرة والطعام (للطوارئ) ليواجه القتال منفرداً.. مع الاحتفاظ بنسبة معينة من هذه المواد التموينية، تحت تصرف القائد ـ على كل المستويات ـ ليتصرف به حيث تدعو الحاجة.
(د) وحرصاً على بقاء هذه الأطعمة دوماً بحالة ممتازة، وخوفاً من فسادها وتلفها.. فقد لجأت القيادات المتعاقبة إلى نظام رائع باستبدالها. وكانت الأوامر الدائمة قد حددت ذاك النظام كما يلي:
1ـ خصصت أياماً معينة من كل شهر، يكون فيها طعام القوات جافاً، وتقوم الوحدات بالحصول عليه من مخزونها من أطعمة الطوارئ (حسب الجعالة القانونية المقررة).
2ـ تقوم أجهزة الشئون الإدارية في الوحدات، بتعويض ما استهلك فوراً (وفي اليوم نفسه وأحياناً بصورة مسبقة)، بغية الحفاظ على مخزون الوحدات من هذه الأطعمة متوازياً مع مخصصاتها القانونية، وحسب التعداد.
ويكون هذا التعويض للوحدات، دوماً من مخزون القيادات في مستودعاتها.
3ـ تقوم القيادات ـ في الوقت نفسه ـ بتعويض ما استهلك من مخزونها، بواسطة وحدات التموين المختلفة، وأحياناً ـ وحال الاضطرار ـ من الأسواق، وذلك لبقاء مخزون المستودعات متوازياً بصورة دائمة.
هذا.. مع لفت الانتباه إلى أنه كان يؤخذ دوماً بعين الاعتبار في عملية الاستهلاك والتعويض، الترتيب الزمني لاستقدام هذه المواد وخزنها.. وأحياناً وقت صنعها ، في بعض المعلبات الني كتب عليها تاريخ التعبئة.
هذا النظام هو الذي سارت عليه الوحدات وقيادتها المتعاقبة، منذ إنشاء الوضع الدفاعي في الجولان، وحتى الأيام الأخيرة التي سبقت النكبة...
ففي تلك الأيام.. وبالتحديد منذ حوالي ثلاثة أسابيع قبل الحرب أصدرت قيادة الجبهة (قيادة أحمد المير.. البعثي)، أمراً بسحب جميع أطعمة الطوارئ.. بحجة استبدال أطعمة جديدة بها.. (وهذا وضع انفردت به قيادة البعث بين جميع القيادات المتعاقبة).. وبذلك مرت الأيام الأخيرة التي سبقت الحرب.. دونما تزويد للقوات المدافعة بأي نوع من أطعمة الطوارئ، واقتصر تزويدها بالطعام على الأسلوب اليومي المعتاد في تأمين الطبخ الطازج.
ومرت الأيام تشعر بقرب الصدام يوماً بعد آخر.. وأطعمة الطوارئ الجديدة ـ التي ادعت قيادة البعثيين إنها ستقدمها بدل الأطعمة السابقة، لم تصل إلى الوحدات.. حتى وقعت الواقعة.. وحصل الصدام.. وقام الطيران الإسرائيلي بقصفه المركز المنهك على قوات الجبهة.. مستهدفاً في جملة أعماله، المستودعات، ومراكز التموين. وأماكن الطبخ، وآليات التموين المتحركة على الطرقات.. فانقطع بذلك مورد الطعام الوحيد عن القوات.. وبقيت طيلة أيام 5،6،7،8،9 حزيران، بلا طعام ولا ماء.. إلا ما استطاع العسكريون فرادى، الحصول عليه، إما من قرى مجاورة، أو من بقايا المخزونات (سابقاً) في مستودعات السرايا والوحدات الأمامية.
هذا عن قوات الوضع الدفاعي.. الموجودة في الجولان، منذ ما قبل الحرب بزمن طال أو قصر...
أما قوات الهجوم المزعوم.. فلقد كان الأمر لا يقل سوءاً إن لم يكن أسوأ...
نحن نعلم... أن من جملة ما يزود به كل مقاتل في الهجوم، طعام جاف يكفيه لمدة 24 ساعة.. على أن تتكفل وحدته بأن تؤمن له بعدها وجبة واحدة على الأقل طازجة (ساخنة) ليستطيع الاستمرار في عمليات القتال المنهكة.
ولكن القيادة البعثية، زجت بالألوية الاحتياطية في واجب هجومي، (مزعوم).. وحركتها لاحتلال قواعد الانطلاق تمهيداً لهجومها ـ (الدجال) ـ دون أن تزودها بأي نوع من أطعمة الطوارئ.. بل استمر تأمين الطعام حتى صباح 5 حزيران، بالأسلوب نفسه الذي كانت به تؤمن أطعمة باقي الوحدات.. ولكن ما أن ابتدأ القتال.. وبدأ القصف الجوي المركز على هذه الوحدات وغيرها.. حتى انقطع التموين.. وأصبح حال القوات كحال أختها السابقة التي شرحنا عنها.. وأصبح الجميع في الجوع والظمأ والتعرض لقصف الطيران الإسرائيلي، سواء.
وهنا.. يمكن أحد الأسرار المذهلة.. التي تعطي تفسيراً عن السهولة التي دخلت بها قوات العدو، أرض الجولان المنيع.. دونما مقاومة تذكر..
ذلك.. أن بقاء القوات في ذلك الوضع الغريب الشاذ، مدة تزيد عن أربعة أيام مع الليالي..، في حال مريع، من الجوع، والظمأ، إضافة إلى سوء التدريب، وسوء التعبئة، وفقدان السيطرة لدى القيادة، وفقدان الاتصالات، إضافة إلى الخسائر التي تنزل بها كل يوم من تلك الأيام، بفعل الطيران المعادي.. والخيانات التي أخذت تصفي جيوب المقاومات الباسلة من خلفها..
إن ذلك كله.. جعل القوات مشلولة عاجزة عن اتخاذ أي موقف جدي حازم ضد قوات العدو، لذلك ما أن بدأت الشائعات تسري عن أوامر الانسحاب.. حتى بدأ الهرب المذهل المخزي.. على نحو ما فصلناه فيما سبق وأعطيناه حقه من الشرح والتوضيح.. ثم ساهم في التعجيل بالكارثة البيان الفاجر.. عن سقوط القنيطرة.. المزعوم.
ولقد رأيت بعض الذين كانوا في تلك الأيام هناك.. وعاشوا المأساة على مسرحها، وكانوا من ضحاياها.. ويا لهول ما وصفوا.. ويا لهول مالاقوا..
ولن أطيل في وصف ذلك الهول.. ولكن يكفي أن أنوه فقط، بأن أكثرهم أكل من أعشاب الأرض وخشاشها.. وأن قسماً منهم سطا (نعم سطا يسطو سطواً) على بعض القرى أو البيوت.. والقسم الآخر كان يطرق الأبواب (حتى في دمشق)، بذل وانكسار، يطلب، رغيفاً من الخبز، يقيم به أوده، في وقت كانت الرتب تحلي الكتف أو الذراع، واللباس العسكري مازال يستر الجسد والرأس.. الذي لم يبرز منه إلا الوجه بعد أن غطت اللحية معظمه، أو شوهته الحروق، وغطاه تراكم الدخان والغبار مجبولين بالعرق والدم..
*** الخسائر:
ونعود مرة أخرى إلى الخسائر ونبدأ بالحديث عن النفس.. لأن الذي ثبت أن الخسائر فيها كانت قليلة لا توازي الربح الذي حصل عليه العدو، باحتلال الجولان.
إن احتلال الجولان، لو تم بعد قتال صحيح، حقق فيه الطرفان أقصى الجهود، لفوز كل منهما بهدفه وإنجاز مهماته.. لكان اليوم كل من حشد من القوات الدفاعية للجيش السوري، بين قتيل وجريح وأسير، ولكانت الخسائر لدى الطرف الآخر ـ العدوـ تبلغ ضعف الخسائر السورية إن لم تقل أكثر..
فالأوامر الصريحة بوجوب التشبث بالأرض، إضافة إلى متانة التحصين، وكثرة الموانع..، يقابلها في الطرف الآخر، إصرار لدى العدو على تحقيق أهدافه، تعززه إمكانات نارية هائلة كان أهمها الطيران الذي عمل بحرية ودقة..!
إن هذا وذاك.. لو أنه جرى فعلاً كما كان يجب أن يجري.. لغطيت أرض الجولان بالجثث، تزيد على ما دمر من سلاح وعتاد، ويا ليت ذاك حصل.. إذن لكانت خسارة الأرض أقل فجيعة منها الآن.. ففي ذلك عزاء كبير، إن العدو لم يحتلها بسبب جبن القوات وتآمر قادتها..!
ولكن هل ذاك يكفي، وهل يريح النفس أن نقول إن القوات قد انهزمت من وجه عدوها، ولم تؤد واجبها ؟
إن ما يلفت النظر، هو أن القوات الإسرائيلية، قد ظفرت أكثر من مرة بتجمعات من القوات الهاربة، أو بأرتال مشوهة متجرجرة تسحب أذيال الخزي والعار في رحلتها هروباً إلى أرض (الأمان).. فلماذا لم تقم بالفتك بهذه القوات الهاربة ؟
هل هذا نبل من العدو.. أن لا يفتك بقوات محطمة مشردة بعد أن ألقت سلاحها وغادرت مواقعها مولية الدبر ؟
إن تصرف هذا العدو هذا.. يثير التساؤل حقاً، ويستحق وقفة فاحصة، للتعرف على الأهداف اللئيمة التي كان العدو يرميها بعمله هذا..
وقبل أن نحاول التعرف على تلك الأهداف.. ومقدمة تقود إلى التعرف المقصود.. نؤكد أن موقف العدو من تلك القوات، لم يكن أصيلاً في طبعه، وإنما كان جزء من مخطط ذي أهداف بعيدة..
ذلك أن العدو.. يقوم كل يوم في داخل الأرض المحتلة بعمليات الإبادة والتهجير، ضد كل الآمنين العزل، ويوقع فيهم اشد أنواع الإرهاب والوحشية.. مما لم تعرف له الإنسانية مثيلاً إلا في سجون حزب البعث العربي الاشتراكي..، شريك العدو.. والمنفذ الأول.
ونحن نرى كل يوم، ونسمع في اليوم مرات كثيرة.. عن الوحشية والعنف اللذين يمارسها العدو، ضد أية وحدات أو أفراد من الفدائيين، حين وقوعهم في قبضته.. كما أننا مازلنا نذكر بأوضح ما تكون الذكرى.. وحشية العدو وحقده في القدس والكرامة وقلقيلية، وإصراره على إنزال أكبر الخسائر بالأرواح، قبل الممتلكات والعتاد..
فلم إذن كان ذاك الموقف العجيب.. الذي وقفته وحدات العدو من القوات السورية الهاربة الهائمة على وجهها في الاتجاهات الأربع وتفرعاتها ؟؟
إننا لا نجد لذلك إلا تفسيراً واحداً، تتفرع عنه أهداف عديدة، قصد إليها كل من العدو الإسرائيلي، والحزب البعثي. إن التفسير الوحيد لذلك الموقف.. هو أن العدو ـ حين وضعت خطة تسليمه القنيطرة ـ قد قام بإعطاء تعهدات والتزامات مؤكدة، بأن قواته (الظافرة) لن تتعرض إلى الأشخاص، شريطة أن تتخذ كل الإجراءات الكفيلة بسوق هؤلاء الأشخاص، (ويشكلون بمجموعهم الوحدات المقاتلة) إلى إلقاء السلاح والفرار من وجه القوات العدوة المهاجمة..
لقد نفذ العدو التزامه كأدق ما يمكن أن ينفذه آخر سواه.. وسلم الأشخاص من حقد القوات اليهودية.. فكانت الخسائر من القلة بحيث لا يليق ذكر عددها، نسبة إلى ضخامة الخسارة التي وقعت في السلاح والعتاد والأرض، ونسبة إلى ما كان يجب أن يدور على تلك الأرض من قتال..!
ولكن العدو المعروف بغدره، ونكثه المواعيد والمواثيق، وخيانة العهود والضرب عبر الحائط بالالتزامات التي يعطيها، ماذا كان يهدف من حفاظه على التزاماته هذه حتى نفذها بدقة وأمانة ؟
هذا ما سنحاول تقصيه من خلال ما نعرف عن حزب البعث وإسرائيل، كعدوين لئيمين يكيدان لهذه الأمة في دينها ومستقبلها..!
(أ) إنه لم يسبق أن جاء حكم إلى سورية، قادر على تخريبها وتحضيرها لتقبل غزو العدو الإسرائيلي مثل حزب البعث، وقد بينا ذلك في كثير من الإشارات العابرة أو المفصلة إلى هذا المعنى وأثبتناه..
(ii) ونتيجة منطقية لهذا.. فإن العدو الإسرائيلي، لا ولم ولن يكون أحد أشد منه حرصاً على تثبيت حزب البعث في مواقع الحكم.. ثم مساعدته للامتداد حتى يشمل خطره كل جزء يشكل تهديداً ـ عاجلاً أو على المدى البعيد ـ للوجود العدواني الإسرائيلي الغريب.
(ج) وإذا ما قام العدو بتدمير القوات، وإلحاق خسائر في الأرواح كبيرة ـ خلافاً لما قدم من التزامات مسبقة ـ فإن لذلك نتائج خطيرة على مخططات العدو للمستقبل، وأهم هذه النتائج الخطيرة تقع في:
أولاً: إن حزب البعث لن يعود يثق بالعدو الإسرائيلي، وفي ذلك خطير كبير على مستقبل العلاقات بينهما، وإذا خسر العدو مثل هذه الهيئة، فإن من الصعب عليه أن يحصل على أخرى مماثلة لها إلا بعد إعداد وجهود مضنية طويلة قد تثمر، وقد لا تعطي إلا النتائج المعكوسة.
وثانياً: إن الخسائر الكبيرة في الأرواح، ستجعل معظم عائلات سورية منكوبة موتورة، بمعدل قتيل أو أكثر في كل عائلة.. وفي ذلك ما يشكل أكبر الخطر على وجود الحزب الحاكم، لأن الجماهير المنكوبة بأبنائها.. لا تستطيع نسيان تلك الجراح بسهولة، فتصبح سهلة الانقياد لكل داع يدعوها إلى إسقاط حزب البعث الذي تعتقد أنه سبب كل نكباتها ومحناتها.. والتي توجت أخيراً بمحنة حزيران العار.
وثالثاً: إذا تم تدمير القوات وتشتيتها، فماذا يبقى لحزب البعث ليحمي نفسه من غضبة الشعوب المنكوبة ؟
إذن، لابد من الإبقاء على الوحدات سليمة، شريطة أن تلقي سلاحها وتفر خارج الأرض التي يريد العدو استلامها.. وليقم بعد ذلك حزب البعث، بإعادة تسليحها ليحمي نفسه ويثبت حكمه..
(د) إن عودة القسم الأكبر من القوات، سالماً، بعد أن رأى فظاعة القصف المعادي، وذاق أهوال الحرب، ثم استمتع بلذة النجاة.. فإن لهذا نتائج تفيد العدو على المستقبل البعيد وتقع في:
أولاً: قدرة هذه القوات الهاربة على إشاعة روح الجبن والذلة والرعب من الحرب بنشرها بين سكان البلاد أخبار الحرب، وأهوال القتال.. ومع ما يرافق ذلك عادة من مبالغات وتهويل، ينسجها خيال الجبان، ليبرر ـ بصورة غير مباشرة ـ أمام سامعيه وناظريه فراره وتركه مكانه مولياً دبره.
وثانياً: استعداد هذه القوات نفسها، لتكرار الفرار والهزيمة في أي صدام مقبل مع العدو على غرار ما حدث في سيناء، خلال عامي 1956، و1967.. وهذا لعمري من أهم ما يحرص العدو عليه.. ويسعى لتحقيقه.
وثالثاً: ستبقى هذه القوات في موقف ضعيف تجاه قيادتها.. التي ستبقى تهددها بالجزاء والعقاب على الفرار.. فتضطر للاستمرار في الخنوع الذليل للقيادة المتآمرة، وتستمر هذه في تنفيذ ما يرسم لها من أدوار ومراحل عمل جديدة..
وأما الأسلحة والعتاد.. فقد كانت الخسائر فيها كبيرة جداً.. ولكن الذي يلفت النظر، أن الخسائر وقعت ضمن حالتين لا ثالث لهما:
1ـ الحالة الأولى: وتشمل الأسلحة التي دمرت نتيجة القتال، سواء ما دمرته الاشتباكات مع قوات العدو، وما دمره قصف الطيران والمدفعية الإسرائيليين.. وفي كل منهما.. كانت الخسائر ذات قيمة خطيرة.. ولكن هذا أمر طبيعي، لا يحزن ولا يستحق منا أن ننفق شيئاً من الوقت وغيره في الأسف عليه...
2ـ الحالة الثانية: وتشمل السلاح والعتاد الذي ترك سليماً على أرض الجبهة.. فاستفاد منه العدو أو سرقه المهربون، أو أكلته عوامل التلف الأخرى..
هذا النوع من الخسائر، هو ما يستحق الوقوف عنده لكشف الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب المسكين المغلوب على أمره.
إن من أهم المبادئ التي يتعلمها كل عسكري حتى تصبح جزءاً من حياته اليومية.. وجزءاً من ردود فعله الطبيعية عند حلول وقتها.. هو أن من واجب القوات ـ أية قوات ـ تدمير كل سلاح وعتاد لا تستطيع إنقاذه، حين تشعر أن الوضع أصبح يقضي بالانسحاب من موقع تتمركز فيه.. وذلك حرصاً على عدم السماح للعدو بالإفادة منها...
ولقد كان أمام القوات التي انهزمت من الجولان متسع من الوقت، لسحب أسلحتها وعتادها.. أو تدميرها إذا هي شعرت أن الطيران الإسرائيلي لن يتيح لها حمل ذلك السلاح والعتاد...
فلماذا تركت الأسلحة والعتاد.. في القسم الأعظم منها، هكذا.. للعدو ليقوم بجمعها وتشكيل وحدات كاملة من جيشه مزودة بأسلحتنا هذه ؟ لابد من إجابة يطالب بها يوماً ما، المسؤولون عن تلك القوات، وخاصة الضباط.. لأن هذا يقع في دائرة واجباتهم خلال أعمال الانسحاب.. ومثل هذا.. يقال عن المستودعات.. وخاصة مستودعات الوقود والذخيرة.
إن تدمير هذه المستودعات، لم يكن يحتاج لأكثر من يد لا ترتعش تقوم بإشعال فتيل معد مسبقاً لمثل هذه الساعة، ثم تنسحب.. فتترك تلك المستودعات خراباً لا يجني منه العدو مطلق ربح.. ولكن تلك اليد، افتقدت في ساعة الحرج. وغابت في اللحظة التي تعين عليها فيها الحضور لأداء الواجب. ويبقى في موضوع نقاشنا للخسائر، الآليات.
الآليات بكل أنواعها، بدءاً من عربات الجيب وانتهاء بالدبابات الثقيلة، مروراً بالشاحنات ذوات الأحجام المختلفة، وعربات نقل الجند المدرعة، وقاطرات المدافع، وحاملات الدبابات...
هذه الآليات، كانت تشكل الثروة الآلية للجيش.. فدمرت.
ولكن لماذا ؟ وما أسباب حرص العدو على أن لا تفلت منه إحداها ؟ وماذا كان على سائقيها وقادتهم أن يفعلوا للحيلولة دون أن يشملها التدمير بكاملها.. ؟
وهل كان يمكن إنقاذ شيء منها، وإفلاته من قبضة الطيران الإسرائيلي ؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه.
ـ إن حرص العدو على تدمير كل القوة الآلية للجيش لا يخرج عن حدود مخططه العام لتدمير الطاقات الفعالة في البلاد العربية.. وشل إمكاناتها، وإلحاق أكبر ما يمكن من خسائر باقتصادها...
إن تدمير تلك الثروة الضخمة من الآليات التي كان يملكها الجيش، يحمل في أحشائه إصراراً لئيماً على إنهاك الشعب بالضرائب والتكاليف..
إن من الطبيعي، أن تلجأ القيادة ـ أية قيادة ـ إلى تعويض ما خسرته في الحرب، وهذا بدوره يحمل الحكومة نفقات هائلة لا مورد قادر على تغطيتها إلا ما في البلاد من موارد، وما في أيدي الشعب من طاقات للبذل، فتفرض الضرائب الجديدة، ويطالب الشعب بمزيد من التضحيات.
ومادامت القيادة المعنية هي حزب البعث ومتسلطيه على الحكم.. فإن ذلك يعني ـ استنتاجاً ـ إن مزيداً من الإذلال والإرهاق سينزل بالشعب كله، وفي هذا ما يحقق المزيد من إلهاء الشعب بقوت يومه.. عن التفكير بقضاياه الكبرى، والمبادرة لممارسة مسئولياته في علاجه.. !
هذا من جانب العدو، وحزب البعث...
ولكن ما الذي كان من جانب القوات نفسها من أساب التدمير ذاك ؟!
إن الفوضى التي دبت في القوات.. وسوء استخدام الطرق والأرض وإصرار القادة على تحريك الأرتال في ظروف سيئة حقق فيها العدو أقصى تفوق في الجو.. ثم روح الهزيمة التي سيطرت على الجميع، والتسابق للخروج من حدود الجولان فراراً من الموت والدمار.. هذا كله كان السبب الأكبر في نزول الخسارة الماحقة تلك..
إن من أهم مبادئ الدفاع السلبي ضد الطيران.. التي تتعلمها كل القوات خلال حياتها..، ويؤكد في تلقينها وتعليمها ـ بصورة خاصة ـ على الضباط والسائقين، والمسئولين عن تنظيم حركات النقل..
إن من أهم هذه المبادئ هو مبدأ انتشار الآليات.
إن انتشار الآليات.. يعني لكل مسئول عن حماية القوات.. وبالنسبة للآليات ما يلي:
1ـ بخصوص الآليات المتوقفة.. فإن ذاك يعني ويوجب نشرها ضمن أكبر مساحة ممكنة من الأرض.. مع الإفادة من كل ما فيها من انحناءات وتضاريس، تقلل من إمكانية انقضاض الطائرات.. وتزيد من فعالية الأسلحة المضادة لها، شريطة أن لا يسبب الانتشار، فقدان سيطرة القادة على تلك الآليات...
2ـ وأما بخصوص الأرتال المتحركة.. فإن واجبها يقضي عليها حين تتعرض للهجمات الجوية، أن تزيد الفواصل بين الآليات والوحدات.. وتزيد سرعتها.. وتحاول استعمال الطرق الفرعية أو الأرض على جانبي الطريق.. كل ذلك من أجل التقليل من تأثير الانقضاضات التي تقوم بها طائرات العدو..
3ـ إضافة إلى ذلك.. فإن علينا أن لا نغفل ما كان على تلك القوات من واجب التمويه والإخفاء وخاصة بالنسبة للآليات المتمركزة..
فهل حصل من ذلك شيء..
إن النتائج التي حققها الطيران الإسرائيلي.. تدل بوضوح ودقة على أن تلك المبادئ لم تطبق أو طبقت ولكن بشكل هزيل سخيف.. حتى بلغت الخسائر ذاك المبلغ الهائل.
واستناداً إلى ما لدينا من معلومات عن الذي وقع، واستناداً إلى ما نعرفه من طبيعة الأرض ـ وخاصة في مناطق الجولان وما حولها من أرض سورية ـ فإننا نؤكد أن تلك المبادئ والأسس كانت بعيدة من المسؤولين عن الوحدات وآلياتها.. بعد السماء من الأرض..
إننا نؤكد أن الأراضي تلك كانت قادرة على إخفاء القسم الأعظم من الآليات، مما تحويه من انحناءات وتلال ومناطق مشجرة.. لو أن المسئولين عن الآليات وقادة الوحدات، استطاعوا أن يملكوا أنفاسهم، ويسيطروا على السائقين..
إن واجب أولئك القادة، كان يقضي عليهم إجراء التحركات كلها في الليل.. بسبب انعدام الحماية الجوية لها، ومن ثم الانتشار والتمركز في النهار.. مستفيدين من كل إمكانية تقدمها الأرض للاختفاء.. ومضيفين إلى ذلك ما يقضيه واجبهم من أعمال التمويه.
إن الذي سجلته عدسات التصوير، وأفلام السينما والتلفزيون، وما نشرته الصحف الإسرائيلية والأجنبية، عن خسائر الجيش السوري في الجولان، يثبت ـ مع أشد الأسف ـ أن كل الخسائر الآلية تلك، قد وقعت على الطرقات المختلفة، ولم يكن على الأرض خارج الطرق، من الخسائر إلا ما يعادل من الجمل أذنه !
فما حيلتنا بعد ذلك كله، مع جيش المراهقين.. جيش الجهلة. الجيش الذي أثبت أنه أسوأ وأجبن المؤسسات التي أنفق عليها الشعب ثلثي موارده خلال عشرين عاماً.. ليحميه من خطر آت عبر الحدود.. فأسلمه لذاك الخطر، وأسلم (شجعانه) السيقان للريح ؟؟



*** الخلاصـة
وبما أن عهد تسليم مفاتيح الملك أو الدول أو البلاد قد ولى. وأصبح من مظاهر الخور في العصور القديمة .. !
وبما أن التآمر والتواطؤ، قد بلغ مستويات رهيبة من الدقة والشمول والإخفاء والتمويه عن أعين الشعوب.. !
وبما أن أجهزة التآمر والغدر، تملك القدرة العجيبة على التضليل، وإخفاء حقائق الأحداث، وكوامن الدوافع إليها، وإلباسها صوراً شتى متقنة الصنع، من الزيف الدعائي المضلل، الذي يهدف تمويه المؤامرات.. وإظهارها للناس على أنها ملاحم بطولات.. !
وبما أن حزب البعث.. قد بلغ مرحلة التفوق بين الأحزاب والهيئات العميلة، في التضليل الوقح، والقدرة على مجابهة الناس العارفين لحقائق الأمور، بوجه صفيق لا يعرف معنى الخجل.. ثم يلح على أن أعماله كانت في غاية البطولة والأمانة ونبل القصد، وسلامة النية.. !
لكل ذلك.. وغيره أكثر منه.. نقول: أن مؤامرة تسليم الجولان، ما كان لها أن تنفذ بشكل فج وقح مفضوح.. بأن تسحب القيادة جيشها سلفاً أو بعد قتال صوري، وهو في كامل عدته وقواه.. ثم تقول للعدو، أقبل واستلم حصتك من الصفقة.. إن هذا لا يمكن أن يحدث، وبهذه الوقاحة..
غير أنه حدث.. وكانت الصورة التي حدث بها.. أكثر لؤماً، وأدق حبكاً.. وأبرع في التضليل والخداع.
ونظراً لهذا كله الذي ذكرنا.. فإننا نقول أن مؤامرة تسليم الجولان قد نفذت بواسطة سلسلة من الإجراءات.. اتخذها حزب البعث، ليضمن وضع البلاد كلها، شعبها وجيشها وكل ما فيها من إمكانيات.. على شفا الهزيمة المحقق.. وبأعمال نفذتها القيادة البعثية.. لتكفل بها عجز الجيش، والشعب من ورائه، عن التصدي للعدو بقوة وضراوة فكان ما كان من هزيمة، وكانت النكبة.
ونستطيع أن نلخص الأعمال التي أقدم عليها حزب البعث ـ متواطئاً ـ ليكفل الهزيمة للأمة كلها، ولسورية خاصة.. بالأعمال التالية:
(أ) أعمال وإجراءات كبيرة على مستوى الأمة العربية:
1ـ السعي بكل طريقة، وبكل وسيلة، وفي دأب لا يعرف الكلل، لتوريط المنطقة العربية كلها، في حرب غير متكافئة مع إسرائيل، تحدد هذه الأخيرة توقيتها وميادينها وحجم الأرباح التي يجب أن تجنيها منها، وكان ذلك.. في حرب المؤامرة (حرب حزيران العار).
2ـ التهرب من كل عمل يهدف إلى توحيد الجهود العربية، لصد خطر العدو، ونسف كل محاولة قامت بها الجامعة العربية، أو بعض دولها.. لإنشاء قوات مشتركة، أو قيادة مشتركة تعطي الصلاحيات والقدرة على التصرف بحرية تامة، بكل ما تحت قيادتها من إمكانات.
3ـ تسميم الجو العربي ـ حتى بين الشعوب العربية ـ بسموم الحقد والخلافات التافهة التي أورثت فقدان الثقة، وعمقت في القلوب أحقاداً لا يغسلها إلا الدم.
4ـ ورغم اندلاع الحرب التي سعى الحزب إليها حتى بأظافره وأنوف قادته.. ورغم مطالبة القيادة الأردنية باشتراك الطيران السوري مع طيران الأردن في قصف المطارات والقواعد الإسرائيلية، خلال عودة الطائرات المعادية من هجومها على مصر (صباح 5 حزيران)، وهي مجهدة، وقد نفد منها الوقود والذخيرة.
هذه المطالبة التي كررتها القيادة الأردنية أكثر من ثلاث مرات.. وفي كل مرة كان الحزب يتهرب ويدعي أعذاراً واهية غريبة.. حتى أتاحت بتلكؤها هذا، لطائرات العدو أن تتزود من جديد بالوقود والذخيرة، وتستعيد سيطرتها المطلقة على سماء الحرب.
5ـ ورغم كل تبجحات المسؤولين في حزب البعث، وخاصة في طبقة الحكام منه.. على قواهم وطاقاتهم وقدراتهم وإمكانياتهم..
ورغم كل ما أطلقوه من تهديدات لإسرائيل، بالتدمير، والطرد، والإذلال و.. إلخ
ورغم اندلاع الحرب، وانشغال القوات الإسرائيلية بكل ثقلها في جبهة سيناء والضفة الغربية.
ورغم بروز الفرصة التاريخية لجيش سورية، بالقيام بخرق سريع للقسم الشمالي من فلسطين، كان ـ لو نفذ ـ قادرا على تحويل وجهة الحرب نحو النصر، أو الإقلال من حجم الكارثة..
رغم كل ذلك.. فإن سورية (حزب البعث)، قد تأخرت عن الاشتراك الفعلي في الاشتباكات مدة 22 ساعة، كانت حاسمة في تاريخ أمتنا الحديث.
6ـ ورغم كل ما أصاب البلاد المنكوبة من بلايا، وخسائر، وهزيمة نكراء، استمرت أجهزة الإعلام البعثية بإذاعة البلاغات الكاذبة عن (انتصاراتها) ـ الدينكيشوتية ـ مما كان له أكبر الأثر في ترك المواطن العربي في كل مكان مشلول التفكير، عاجزاً حتى عن تصور حقيقة الأحداث، حتى ما كاد يتوقف القتال، لتنجلي أنباء الكارثة، فوقع العرب أجمعون في ذهول المفاجأة.. ولولا عناية الله، لكان ممكنا جداً في تلك الأيام أن تحصل إسرائيل على ما تريد من فرض شروط الغالب على المغلوب (نحن).
(ب) أعمال وأجراءات على مستوى الدولة السورية:
1ـ تسريح الجيش، وإبداله بجيش غير اختصاصي، وغير مدرب وغير متماسك ولا متمازج.. كانت فيه السيطرة الحقيقية للانتماء الحزبي، وفي وسطه بؤرة من الانتماء النصيري (الطائفي) المتعصب.
2ـ تدمير الاقتصاد في البلاد، وتشريد رؤوس الأموال والخبرات الاقتصادية والمالية، حتى عادت سورية في اقتصادياتها وسمعتها المالية الدولية عشرات السنين إلى الوراء.. إلى ما قبل عهد الاستقلال.
3ـ تشريد كل الطاقات الفعالة المنتجة، وكل الكفاءات العلمية والفنية (التجارية والصناعية والزراعية) حتى اضطر كل أصحاب هذه الكفاءات إلى الهرب من بلادهم، والتفرق في أرجاء المعمورة، طلباً للأمن (وليس طلباً للربح).. وبذلك وضعت قيادة البعث، البلاد على حافة الحرب.. وهي في شبه إفلاس كامل.
4ـ عدم إعلان التعبئة العامة، ومواجهة الحرب باحتياط جزئي غير مدرب، وترك القوى المدربة ذات الفعالية الممتازة، مشلولة مقيدة، ترى بأعينها الفاجعة، ويذوي شبابها وهي لا تملك الدفاع عن حدود البلاد ومقدساتها.
5ـ تصنيف سكان البلاد إلى مواطنين من فئات متدرجة، مما ساهم في تمزيق أواصر المجتمع، وأشعر الفئات التي عوملت بظلم أنها دخيلة على الوطن، ففقدت حماستها للدفاع عنه.
6ـ شن الحرب الضارية، وبكل وسائلها القذرة، على عقيدة الأمة وإيمانها (وخاصة شعب سورية) وتربية جيش تافه فارغ الفكر والقلب، فكان منه ذلك الموقف المتداعي في وقت يطلب فيه الصمود.
7ـ خنق الحريات، وملاحقة رجال الفكر، وحملة الأقلام، واستئجار طبقة من أشباه الكتبة، وأنصاف المثقفين، يروجون للضلالات والعمايات في حين عزل المفكرون المخلصون عن ميدان الحرب.. فكان وجه من أوجه النكبة.
8ـ إشاعة الفوضى والانحلال في الأخلاق، وتشجيع السفلة على الاجتراء على مقدسات الشعب، ومعتقداته ـ وهذا من طبيعة كل حكم يقوم على الطغيان ـ في ظل حماية الدولة، وفي صور شتى.. تراوحت بين التهتك والفجور في سلوك طبقات معينة يرعاها الحزب، وعلناً على مرأى من كل الشعب.. ومروراً بالبرامج والمقالات والأغاني والحفلات التي ترعاها الدولة وتنشرها أجهزة الإعلامية، الرسمية وشبه الرسمية.. وانتهاء بمفاخرة القادة والحكام والضباط بل وحتى رئيس الدولة.. بسلوكهم الفاجر ولا أخلاقيتهم، التي بها يحكمون (في كل شأن من شئون الحكم)..
وليس أبلغ في الدلالة على هذا من مقالة تبجح بها واحد من رؤساء الدولة (البعثيين) (الفريق أمين الحافظ) أمام مؤتمر صحفي ضم مندوبين عن وكالات الأنباء وعدد من الصحف المنتشرة في العالم كله.. وقف خلالها يدافع عن سلوك ربيب الحزب الماجن سليم حاطوم، وأمثاله من ضباط الحزب، مع (...) أبرزهن الحزب ورعاهن، مثل المغنية (لودي شامية) وغيرها كثيرات ..
9ـ عدم تسليح الشعب، بل محاربة كل محاولة من الشعب للتسلح وتوزيع السلاح بلا حساب على المنظمات التابعة للحزب، مثل منظمة الحرس القومي، الذي أسموه فيما بعد: (الجيش الشعبي)، وهو يضم في صفوفه كل العاطلين عن العمل، والمنبوذين من المجتمع، والذين تربوا في الشوارع أو في أوكار الفساد والرذيلة، فكان هذا (الجيش الشعبي) وسيلة إضافية لإذلال الشعب، وقمع حرياته، ونهب ثرواته، والاعتداء على كل مقدس وعزيز عنده.
(ج) أعمال وإجراءات تتعلق بالجيش وبالوضع العسكري في الجبهة:
1ـ تعبئة الاحتياط بأسوأ صورة من صور الإهمال والفوضى.
2ـ دعوة الاحتياط دعوة جزئية مبنية على الاعتبارات الطائفية أو الطبقية البحتة.
3ـ اختراع فكرة الهجوم، واتخاذ التحضيرات له بشكل تمثيلي، لتبرير سحب القوات الأصيلة من مواقعها الدفاعية وإخلاء المنطقة من كل الطاقات المقاتلة الفعالة.
4ـ وبحجة الهجوم الكاذب.. وضعت الألوية الاحتياطية المهلهلة في الأنساق الأولى، لتتلقى الصدمة الأولى من العدو..
5ـ سوء حال أجهزة الاتصالات اللاسلكية والهاتفية حتى وصلت الحال إلى درجة انعدام الاتصال تقريباً بين القادة ووحداتهم وجوارهم، فكانت تلك الفوضى الرهيبة من العوامل التي عجلت بالكارثة.
6ـ ممارسة أوضح صور عدم الثقة بالقوات، حين لجأت القيادة إلى تطويق الألوية الاحتياطية (التي كلفت الهجوم على صفد)، بكتائب الدبابات (البعثية الموثوقة)، لمنع تلك الألوية من أية محاولة لإسقاط الحكم المنحرف القائم في دمشق.
وكذلك.. حين لم توزع الأسلحة على الألوية الاحتياطية إلا قريباً من قواعد الانطلاق (للهجوم) بـ 1 ـ 2 كم.
7ـ عدم نسف الملاغم.
8ـ سوء التموين بالذخيرة.
9ـ سحب أطعمة الطوارئ بحجة تبديلها.. فكان أن انقطع التموين وجاعت القوات خمسة أيام وعندها حصل الانهيار الرهيب.
10ـ انعدام أعمال الإخلاء، الذي سبب انهيار المعنويات.
11ـ فقدان المواد الطبية والعلاجية، رغم توفرها بكثرة لدى الجيش السوري.
12ـ سحب القوات المدافعة الأصيلة ـ لإخلاء الأرض لقوات الهجوم ـ بشكل فوضوي سبب الزحام على الطرقات.. فكانت كارثة تدمير معظم هذه القوات (وخاصة عتادها وسلاحها).
13ـ عدم تنفيذ الهجمات المعاكسة على مختلف المستويات، العدو يتقدم بحرية وراحة بال. وكأنما هو ذاهب إلى نزهة عسكرية.
14ـ انعدام أعمال الاستطلاع، التي كانت قادرة لو نفذت كما هو مقرر، على إمداد القيادة بأفضل وأحدث المعلومات، لتتيح لها اتخاذ قرارات تحقق أفضل النتائج.
15ـ إجراء معظم التحركات نهاراً، وبدون حماية جوية، فكان لطيران العدو فرصة التسلي بضرب هذه الأرتال من القوى المتخاذلة.
16ـ سحب أسلحة المقاومة الشعبية، وترك سكان منطقة الجولان عزلاً في وجه خصم متفوق.
17ـ وجود أفراد منتشرين في صفوف الحزب والجيش، يعملون باتصال مباشر مع شبكات التجسس ، التي كان لها أثر كبير في إعطاء المعلومات الهامة في أوقاتها مسهلين لذلك للطيران المعادي حسن ضرب الأهداف بدقة عجيبة. ولا غرابة في هذا الأمر، فكوهين وشركاؤه هم خير مثال على ما نقول.
18ـ ترحيل عائلات العسكريين، وهذا كانت له الآثار السيئة التي تميزت به:
(أ) تأجيج نار الحقد والحسد والشعور بالكراهية والتمييز بين العسكريين البعثيين، وبين باقي فئات الشعب.
(ب) إفقاد الجيش قسماً كبيراً من آلياته وقت حاجته إليها بسبب انشغالها بنقل متاع وأثاث البعثيين.
(ج) إفقاد العسكريين، الحافز الأخير للصمود، لأن إبعاد النساء والعائلات عن ميدان القتال، يطمئن المقاتل إلى أن أهله بخير، فلا يعود يشعر بالحرج من الفرار أو التراجع دون مبرر.
إن هذا العمل مخالف لكل أعرافنا وتقاليدنا القتالية، التي مارسناها وأعطت خير النتائج، منذ جاهليتنا الأولى، وفي صدر إسلامنا، وحتى في انسياحنا الفاتح عبر أرجاء العالم القديم.
ففي الجاهلية، كانت أبرز صورة لوضع النساء والأطفال، ضمن إطار الحرب، هي معركة ذي قار.
وفي صدر الإسلام، كانت أبرز صورة تطبيق هذه القاعدة، هي اصطحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعدد من الصحابة، النساء في كل غزوة خرجوا إليها.
وخلال انسياحنا الفاتح، تكثر الصور وتتنوع، ولكن أبرزها كان في القادسية، ومن كرام النماذج الخنساء، وزوجة سعد بن أبي وقاص وغيرهن كثيرات. وفي اليرموك، وكان من كرام النماذج فيها، خولة بنت الأزور وصواحباتها اللائي وقفن خلف الجيش، يرددن الفارين، ويلهبن حماسة الرجال على الصمود، فكانت تلك الملاحم الفريدة في تاريخ الإنسانية.
أما حزب البعث.. الغريب الدخيل حتى على العربية، فقد رحل النساء والأطفال، وأبعدهم عن ميدان الحرب.. ليسهل الفرار على المقاتلين.. !
19ـ إعلان سقوط القنيطرة قبل سقوطها لتفويت الفرصة عن كل محاولة للصمود والمقاومة.
20ـ تحرك وحدات الدبابات هرباً إلى دمشق (لحماية الثورة)، وترك واجبها في دعم وتعزيز القوات المحاربة في الأنساق الأولى.
22ـ إصدار الأوامر الشفهية، بإجراء الانسحاب (كيفياً)، مما كان له أكبر الأثر، في تحقيق الفرار والهروب الكبير، وترك كل الإمكانات التي كانت قادرة على وقف الجريمة عند حدود أقل مما هي الآن.
23ـ عدم سحب الأسلحة والعتاد والوثائق أو تدميرها، وإنما تركت للعدو سليمة ليستفيد منها فوق كل فائدة حققها باستلام الأرض الحصينة.
24ـ وأخيراً.. وما يعتبر أبلغ الأدلة وأوضحها وأكثرها إثباتاً لتواطؤ الحزب ـ كل الحزب ـ هو عدم محاكمة أي واحد من المسئولين عن نكبة الجولان.
الكل يعرف أن في الجيوش التي تحترم نفسها، يحاكم حتى الأبطال الشجعان إذا خالفوا الأوامر، وتفرض بحقهم عقوبات مختلفة، إلى جانب مكافأتهم على بطولاتهم، وذلك ـ فقط ـ لمخالفتهم الأوامر، لأن هذا لو ترك دون محاسبة ـ فإنه يفتح الباب واسعاً أمام كل عسكري، أن يخالف أوامر قادته، أملاً في تحقيق بطولة أو موقف متميز بالشجاعة.. وفي هذا أبلغ الخطر على استمرار حياة الجيوش، وتحقيق مهماتها، وخاصة خلال الحروب.
أما في جيش حزب البعث، فإنه لم يحاكم أحد ـ وليس فقط الذين خالفوا الأوامر ـ بل الذين خانوا، وانهزموا، أو رتبوا نكبة الجيش والبلاد.
وأكثر من ذلك.. هناك من المجرمين من كوفئ وعومل معاملة الأبطال.. وهذا لا يمكن أن يقوم به إلا نظام حكم هو كله متواطئ مع العدو.
إن أحمد سويداني، قائد الجيش.. استمر بعد النكبة قرابة ستة شهور، قائداً للجيش، ثم أزيح، لأن القيادة (الخفية) بدأت ترى فيه منافساً خطيراً على السلطة، ولم ينح، بسبب مسئوليته عن نكبة الجولان..
حتى لو كانت إزاحته عقوبة على مسئولية ثبت أنها قسطه من نكبة الجولان.. فهل يجوز توقيع العقاب عليه، دون محاكمة علنية يطلع الشعب كله على جرائمه وجرائم أمثاله من خلالها ؟
أوليس الإعدام عقوبة خفيفة، بالنسبة لما يستحق هذا المجرم وأمثاله من المسئولين عن النكبة ؟
وأحمد المير.. قائد الجبهة .. ماذا حل به ؟
بعد الحرب مباشرة.. عين عضواً في القيادة القومية للحزب، ثم نقل سفيراً لسورية في إحدى العواصم.. فهل هذه عقوبة أم مكافأة ؟
إن الحصول على منصب سفير، في الدولة التي تحترم نفسها ـ لا يتاح لأي كان ـ وله من الشروط والكفاءات والخبرات المطلوبة في الرامي إلى الحصول على هذا المنصب، ما لا يمكن توفره إلا في القلة النادرة من أبناء تلك الدول.. فكيف يلجأ حزب البعث.. إلى تعيين مجرمين متواطئين مع العدو، في سفارات سورية، لدى دول العالم ؟.. أوليس هذا جزءاً من مخطط التخريب والتآمر الذي ينفذه حزب البعث على كل المستويات ؟
ووزير الدفاع.. اللواء حافظ الأسد.. الذي وقع بلاغ سقوط القنيطرة.. ماذا حل به ؟
لقد رقي إلى رتبة فريق.. واستمر في وزارة الدفاع.. وعزز سلطته وسيطرته على الجيش، فهل هذا كله عقوبة على دوره في نكبة الجولان ؟
وعزت جديد، الذي رفض تنفيذ الهجوم المعاكس، وتحرك بلوائه إلى دمشق ليحمي فلول الحزب من غضبة الشعب.. ماذا حل به ؟
لقد نقل من قائد اللواء السبعين، إلى تشكيل فرقي جديد، وهو يمارس الآن عمله في منصبه، ويكتب في مجلة جيش الشعب، والمجلة العسكرية.. ويساهم بدور جديد وكبير في التقييم المضلل لنكبة الأمة، كما يساهم بدور فعال في حماية السلطة البعثية من الشعب.
ورئيف علواني.. نقل إلى قيادة تشكيلات (الصاعقة) التي سموها (منظمة فدائية)، لينتقل بأعماله التخريبية خارج حدود سورية.. وبين الأشقاء العرب..
هذا غيض من فيض.. مما ناله بعض المسئولين عن النكبة، والباقي مما نعرف، قد لا يتسع له مئات الصفحات، عدا عن الذي لا نعرف، ولكن هذا وحده دليل دامغ على سقوط الحزب كله في وحل الجريمة والتواطؤ ضد مصلحة الأمة والبلاد.. وستكشف الأيام تباعاً، ملفات هذا التواطؤ، وإن غداً لناظره قريب.
رأي
إن لنا في كل ما حدث، رأياً واضحاً، سنكشف عنه فيما يلي من سطور.
إن رأينا الجازم، أن الذي حدث لا يمكن أن يكون إهمالاً وراءه نية حسنة، ولا سببه الجهل، أو عدم الخبرات، أو نقص الإمكانيات، أو.. أو.. إلخ.
إن رأينا الجازم في هذا الموضوع، هو أن حزب البعث، بكل أجهزته وأفراده وقادته وأجنحته، حزب متواطئ مع العدو، ويعتبر امتداداً للسلطة الإسرائيلية، داخل الأرض التي لا تحتلها جيوش إسرائيل.
وفيما يلي، سنقدم الأدلة لإثبات هذا الرأي:
1ـ من الملاحظ أن الخيانة والجريمة لم تقتصر على جانب واحد، أو مجال واحد، أو شخص أو أشخاص معدودين، وإنما شملت كل نواحي النشاط العسكري والإعلامي والسياسي والحزبي، والاقتصادي، والاجتماعي.. وفي كل الأعمال التي أقدم عليها حزب البعث، قبل وخلال وبعد الحرب.
ولو كانت الخيانة أو الإهمال أو التواطؤ مقتصراً على جانب واحد، أو شخص واحد أو أشخاص معدودين، لما كانت النكبة بهذه السهولة، وبهذا الاتساع والهول، ولبقيت جوانب أخرى من الجيش والبلاد، في امتناع عن أن تشملها الجريمة المدبرة.
إن هذا الشمول في التواطؤ يجعلنا نجزم أن حزب البعث، قد أعد إطاراته الحزبية والقيادية، نفسياً وسلوكياً وفكرياً، لممارسة هذه الجريمة وأمثالها.. وهذا ما يضطر مفكري هذه الأمة إلى إعادة النظر مجدداً بتقييم الحزب، ودراسة نشأته وتطوره وحياته وسلوكه، وسير قادته، من أول يوم برز فيه هذا الحزب للوجود، وعلى يد مؤسسه ميشيل عفلق، وأضرابه من (مثقفي) الحزب الأوائل، وقادته المختلفين، الذين تلقوا ـ تقريباً كلهم ـ تعليمهم وثقافتهم (العالية) في دول الغرب المستعمر.
2ـ إن سورية، لم تكن تشكو قلة الإمكانات، وقلة ونقصاً في الخبرات.. وإن جيش سورية، لو أتيحت له قيادة مخلصة صادقة، لكان قادراً على الوقوف برجولة في وجه الطغيان الإسرائيلي، ويحطم غرور جيشه، ويذل قادته المتغطرسين، ويكشف جبن تلك القوات، وعجزها عن المجابهة الصادقة المتكافئة.
(أ) فمن حيث التسليح، كان لدى جيش سورية أنواع من الأسلحة، لم تك تحلم إسرائيل بامتلاك مثيلاتها، ومن أهمها: (المدفعية (122مم طويل) ذات المدى الذي يبلغ 21 كيلومتراً، والدبابة (ت 54)، المزودة بجهاز يتيح لها الرمي أثناء المسير، ومزودة بمنظار ليلي يعمل بالأشعة تحت الحمراء، والدبابات البرمائية القادرة على اجتياز مسافات واسعة من المياه، والمدفع المضاد للدبابات (ب ـ10)، الذي يعتبر من أفضل الأسلحة م ـ د في العالم، وقاذفات اللهب الثقيلة المضادة للدبابات، والمدفعية الصاروخية المحمولة على عربات، والتي يتألف كل مدفع منها من 32 سبطانة، والقادرة على أن تدمر برشقة واحدة، مسافة 6 كم2. والمدفعية م ـ ط عيار (100مم) الموجهة بالرادار، وقانصات الدبابات (su 100)… إلخ).
هذه الأسلحة، التي كان حلماً لدى العدو أن يمتلك مثلها، رغم كل ما يدعونه من تفوق هذا العدو، لم تستطع أن تحقق شيئاً، لأنها كانت بأيد غير أمينة.
(ب) ومن حيث القوى البشرية، يكفي أن نعلم أن تعداد سورية يزيد عن ضعف تعداد سكان إسرائيل بما يقارب المليون نسمة.
(ج) ومن حيث الكفاءات، فإن سورية تمتلك رصيداً ضخماً جداً من الضباط وضباط الصف والجنود، المتخصصين والمدربين، وأصحاب الخبرة الطويلة لأمور الجيش.. كل هؤلاء سرحهم الحزب، ووضع الجيش في مواجهة العدو.. بشكل غير متكافئ، ليضمن الهزيمة لجيش البلاد، ويضمن تسليم الأرض المباعة إلى القوات الإسرائيلية.
(د) وأما الخبرات الأجنبية، فلم تكن سورية تشكو نقصاً فيها، فإن سورية منذ عام 1947، استقدمت الأعداد الكبيرة من الخبراء الألمان والروس والتشيكوسلوفاكيين، وهؤلاء يدربون جيشها ـ وخاصة الروس ـ منذ عشر سنوات قبل النكبة، وكان لهم فضل كبير في تدريب القوات السورية في مختلف الاختصاصات والميادين، وكانوا كلهم من أصحاب الخبرات الطويلة، وجلهم من الذين اشتركوا في حرب عالمية أو أكثر.
(هـ) وأما الطاقة المالية، فإن كل من يقول إن سورية كانت فقيرة فهو مغالط.
إن سورية تملك من الإمكانات الاقتصادية مقداراً وافراً، لو أحسن استغلاله وتوجيهه، كان قادراً على مد الجيش بكل احتياجاته لرد عدوان إسرائيلي مهما كان مدعماً ومعززاً وكبيراً.
إن سورية هي البلد الوحيد في العالم، الذي دفع 60 ـ 65 % من موازنته العامة، لأغراض الدفاع وتنمية الجيش، استعدادً لمثل هذه الساعة..
وفوق كل هذا.. فإن الشعب السوري لم يبخل بتضحية، فإنه فوق كل ما يدفع من ضرائب، كان يتقدم بالتبرعات السخية في كل مناسبة، بشكل يستدر دموع الإعجاب والفرح، لأريحية هذا الشعب الطيب واستعداده للبذل والتضحيات.. وخير دليل على ذلك، هو أسبوع التسلح في عام 1956 وحملات معونة الشتاء السنوية، ولكن كل الطاقات والإمكانات، عطلها حزب البعث، وألغاها، ودمر القسم الأعظم منها، وشل الباقي.. فهل يمكن أن يكون هذا غير التواطؤ الجماعي، الذي على أساسه بني الحزب، وربى عناصره.. ووضعت تحت تصرفه كل أجهزة التآمر، لضمان تنفيذ المخطط التآمري الرهيب ؟!
3ـ ما من عهد من العهود المتعاقبة على حكم سورية، إلا وكان له مؤيدون ومعارضون، إلا حزب البعث، فلم يكن له مؤيدون مطلقاً، ومنذ اليوم الأول، الذي برز فيه أن لحزب البعث موقعاً في السلطة التي نشأت عن مؤامرة 8 آذار 1963، وقف الشعب كله في جانب آخر، ضد حزب البعث، ومع مرور الأيام، وتعاقب الأحداث، قام حزب البعث بتعميق الهوة بينه وبين الشعب، وبتأصيل روح العداء ضده في نفوس أبناء الشعب، حتى أصبح موقفه تماماً مثل موقف الكيان الإسرائيلي الدخيل في فلسطين، الذي لم يستطع، (ولن يستطيع أبداً) أن يزيل روح العداء تجاهه من قلوب العرب والمسلمين، مهما طال الزمن وتعاقبت السنون أو القرون.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل إن حزب البعث، ضمن المجموعة العربية (على كل ما فيها من تفسخات وتنافر وأحقاد) كان ـ ولا يزال وسيبقى ـ أشبه بجسم غريب، غرس في جسم إنسان، فما كان من ذلك الجسم إلا أن قوقع الجسم الغريب، وعزله وكون حوله نسيجاً يحميه من سمومه، ثم أخذ يطلق الإفرازات بلا انقطاع، حتى تمكن له طرده والتخلص منه.
أقول إن حزب البعث، كان، ولا يزال، وسيبقى، حزباً كريهاً، ودخيلاً على الأمة بمجموعها، غير قادر على تألف قلوبها نحوه، واستمالة عطفها عليه وحبها له.
إن حزب البعث كان، ولايزال، وسيبقى، عدواً من ألد أعداء الأمة، ومن أكثرهم حظاً في سعيها للتخلص منه ومن شروره وآثامه.
ورغم كل ذلك..
فإن حزب البعث.. استطاع أن يحتفظ بالسلطة ومواقع الحكم، أكثر من أي عهد سياسي عرفته سورية منذ الاستقلال وحتى اليوم.. فلماذا ؟
أوليس هذا وحده، دليلاً عقلياً ـ دونما الحاجة للغوص على الوثائق والمستمسكات ـ على أن هذا الحزب ليس وحده في السلطة، وإنما هو امتداد لكيانات عدوانية متكالبة على هذه الأمة، تمده بكل أسباب البقاء والقوة، لتضمن به تنفيذ مخططاتها الإجرامية ضد هذه الشعوب المسكينة ؟
هذا الحزب رغم كل ما يتمتع به من عداء الشعب، وعداء المجموعة العربية الأخرى له، ورغم كل المحاولات التي بذلت لإسقاطه، عسكرية كانت أو شعبية أو اقتصادية، ورغم دمغه محلياً وعربياً وعالمياً بالتواطؤ وتسليم البلاد إلى العدو، ورغم كل ما أصابه من تشرذم وتمزق، ورغم كل ما سفك من دماء أفراده بيد أفراده الآخرين..
رغم كل ذلك.. فإن هذا الحزب، مازال يحتفظ بالسلطة حتى اليوم، أوليس في هذا وحده دليل كاف على إنه مدعم بكل قوى البغي المتآمرة على أمتنا، وأن إلى جانبه الثقل الأكبر من الإمكانيات التي تملكها أجهزة الدول الاستعمارية، تمده بالتوجيه والخبرات والمعلومات والطاقات والأموال التي تمكنه من البقاء في السلطة، كما تمد إسرائيل بأسباب البقاء والنماء والتأييد بمختلف صوره وطرائقه..؟!
وهل يمكن أن يكون هذا التأييد للحزب، بدون مقابل ؟
إن العقل لا يقبل هذا.. وإن الفطرة السليمة، والتفكير النقي المخلص، يستطيعان فوراً أن يكشفا زيف ادعاءات الحزب، ويبرز لهما بوضوح وجلاء، أن هذه الإمكانات التي تمده بها الأجهزة الصهيونية والاستعمارية.. إنما هي مقابل جهود يبذلها في خدمة تلك المصالح والمطامع.. التي كان من أبرزها، تسليم الجولان..!
هذه الأمور الثلاثة، بما فيها من تفرع، تشكل أدلتنا على ما أطلقنا من اتهام، بأن سقوط الجولان كان أمراً متفقاً عليه بين حزب البعث، والأجهزة الإسرائيلية.. وفي باقي سطور المناقشة (فصل نقاش الإثبات)، توضيحات لجوانب كثيرة من جوانب المؤامرة، والله أعلم بحقائق الأمور، وإياه ندعو أن يعين هذه الأمة على ما حل بها من نكبات ومحن.





***.. ومن الجانب السياسي ..
رؤى متنوعة للمؤامرة..
ويشاء الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. أن يثبت لي وللأمة، صحة ما ذهبت إليه.. ويكشف جانباً من المؤامرة على لسان واحد من كبار المتآمرين..
ففيما أنا منهك في إعداد الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب.. صدر للدكتور سامي الجندي، كتاب جديد بعنوان (كسرة خبز).. يفضح فيه جانباً كبيراً جداً من المؤامرة.. هو جانب الاتصالات واللقاءات مع المسئولين الإسرائيليين.. لإعداد مخطط الجريمة..!
والدكتور سامي الجندي.. حين يصرح بهذا الأمر، فإن خطورة مثل هذا التصريح، تقع في كون الجندي هذا، رجلاً غير عادي، ومطلعاً على كثير من الخفايا والأسرار.. وفي أخطر فترة سبقت تنفيذ المؤامرة، فترة الإعداد لها ورسم خططها والتفاصيل والأدوار فيها.
سامي الجندي ذاك، هو أولاً من الشرذمة الأولى التي أسست حزب البعث العربي الاشتراكي وساهم في كثير من أعماله التنظيمية، وصوغ عقيدته، والدعاية له.. ونشر أفكاره في المجالات التي يعشش فيها الحقد الطائفي، ممتزجاً بالكره والحسد الطبقيين.. وهما أهم مناخين تربى فيهما قادة حزب البعث.. وتكونت مقومات شخصياتهم.
وسامي الجندي.. هو من الأوائل الذين شاركوا في حكم سورية باسم حزب البعث ـ صراحة ـ فكان عضواً في القيادة القطرية.. ثم وزيراً للإعلام.. ثم رشح أكثر من مرة لرئاسة الوزارة.. ولا ندري سبب رفضه.
وسامي الجندي.. شارك في الأعمال والمؤسسات والمؤتمرات التي عقدت على مستوى الجامعة العربية، لمعالجة قضايا الأمة المصيرية.. وكان أبرز عمل له هو مشاركته في لجنة المتابعة التي انبثقت عن مؤتمرات القمة العربية.
وسامي الجندي أخيراً.. سفير سورية في فرنسا.. في باريس.. التي شهدت كثيراً من اللقاءات بين مسئولين أو مبعوثين شخصيين غير رسميين لمسئولين عرب.. وبين جوانب مماثلة من جانب العدو..
سامي الجندي هذا.. وبلهجة الـ (. . .) الذي خانه شركاؤه.. فلبس زيفاً لبوس التقوى، وقرر فضح شركائه تمهيداً لتنصله من المسئولية.. يقول في معرض حديثه عن الجولان:
(لقد نبهت حكومتي منذ 1965 إلى أنها تنوي احتلاله كنت أعارض دائماً الحرب مع إسرائيل أعرف فيها إننا خاسرون ..)
ويتابع الجندي: (آرائي كلها دون استثناء كانت ضد الحرب، لم أخف أبداً أن الحكم يعد لهزيمة، لا لاسترداد فلسطين. (نعم ! نعم..) لم تكن هنالك أية مبادرة للنصر، ولا أعني أنه كان يعد لهزيمة نفسه.. وإنما لهزيمة العرب الآخرين، كي يبقى (الثوري) الوحيد، سيد المناخ الثوري العربي..). ثم يقول: (وكنت مؤمناً ـ ومازلت ـ أن إسرائيل ليست حريصة على الاعتراف بها، ولو شاءت لحصلت عليه، لأنه يفقدها مبرر الدفاع عن نفسها، واحتلال أرض سنة 1970 ).
(لم إذن اختارني الدكتور ماخوس لهذه المهمة، وهو لم يعدم الأشخاص ولا الوسيلة للاتصال بإسرائيل؟ ثارت أقاويل في باريس نفسها عن أمين منظمة الحزب التابعة لدمشق. وأنا ـ وهنا بيت القصيد ـ متأكد من أن اتصالات جرت عن طريق أكثر من دولة (ثالثة) وفي أكثر من عاصمة). ثم يقول: (عندما نتتبع فصول معركة الجولان، نجد أن العسكريين الذين قاوموا، فعلوا دون أوامر، أما الذين صدرت إليهم الأوامر فقد انسحبوا بناء على خطة.. ترى ما هي الخطة ؟
تم إخلاء الجولان من السكان منذ 5 حزيران.. لماذا ؟
لست بحاجة للقول إن إعلان سقوط القنيطرة قبل أن يحصل أمر يحار فيه كل تعليل تبنيه على حسن النية.. إن تداعي الأفكار البسيطة، يربط بين عدم وقف إطلاق النار والحدود سليمة ، والإلحاح بل الاستغاثة لوقفه بعد أن توغل الجيش الإسرائيلي في الجولان، ويخلص إلى الاستنتاج بوجود خطة.
فوجئت لما رأيت على شاشة التلفزيون (في باريس)، مندوب سورية في الأمم المتحدة (الدكتور جورج طعمة) يعلن سقوط القنيطرة، ووصول قوات إسرائيلية إلى مشارف دمشق، والمندوب الإسرائيلي يؤكد أن شيئاً من ذلك لم يحصل .
إذن.. كانت هناك لقاءات مع مسئولين إسرائيليين.. وبوساطة أكثر من دولة ثالثة.. وقبل حرب حزيران التي نفذت فيها المسرحية اللئيمة.. فما الذي دار في تلك الاجتماعات.. ومن الذي نفذ هذه اللقاءات ؟؟
هذا جانب ستكشفه الأيام تباعاً.. وعلى الذين يعون، متابعته وتقصيه.. خشية أن يضيع بين الركام الهائل الذي تقذف به المطابع والإذاعات كل يوم..
2ـ وتتحدث ألسنة الطامعين في أوساط السوريين.. عن أمر لا يقل خطورة عن هذا الذي صرح به الجندي..
يقول الملازم الأول: (. . .) ، عضو الوفد السوري إلى لجنة الهدنة المشتركة.. ما يلي:
(إنه استدعي إلى مكتب الدكتور يوسف زعين، رئيس الوزارة البعثية، بتاريخ 9 حزيران 1967 الساعة العاشرة ليلاً.. فوجد عدداً من أفراد لجنة الرقابة الدولية في مكتب الزعين، برفقة السفير (. . .) في دمشق. فكلف الضابط المذكور بالترجمة بين رئيس الوزارة ومخاطبيه..
قال السفير: إذا لم تسحب القيادة السورية قواتها من الجولان.. فإن القوات الإسرائيلية لن ترضى هدفاً يتوقف زحفها عنده إلا دمشق..
وهنا سأل الزعين: وما هي الحدود التي تريد إسرائيل الوقوف عندها ؟..
أجاب السفير: هل عندكم خريطة ؟..
فأبرز الملازم الأول المذكور خريطته، وهنا وضع السفير عدداً من النقاط التي يجب أن يمر بها خط الحدود الجديد.. وتتوقف عنده القوات الإسرائيلية إذا قامت السلطات البعثية بسحب قواتها خارجاً عنه.
وافق الدكتور زعين (يقول الملازم الأول المترجم).. ووعد السفير بتحقيق ما طلب.. وغادر الجميع مكتب رئاسة الوزراء على هذا الأمل..
وفي الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي.. صدر بلاغ سقوط القنيطرة، على النحو الذي شرحناه وأوضحناه في أكثر من موضع..
وفي الوقت نفسه كذلك ملأت جو الجولان الشائعات الخانقة.. عن أوامر الانسحاب المزعومة.. فكان الهروب الكبير.. ودخلت القوات الإسرائيلية أرضنا الكريمة.. راكبة في نزهة عسكرية.. دونما خوف من صدام حقيقي يشتتها أو يفنيها..!
3ـ ... وتأكيداً وتوضيحاً لهذه اللفتات السريعة نحو جوانب من الوجه السياسي للمؤامرة.. لابد من أن أثبت ما قاله بعض المسئولين البعثيين.. عقب وقوع الجريمة..
(أ) فأول هذه التصريحات اللئيمة.. صدرت من الدكتور إبراهيم ماخوس..وزير الخارجية البعثية، وكان ذاك في أروقة مجلس الأمن.. في دورته التي عقدها عقب حرب حزيران، لمناقشة ما حدث.
كان المندوبون والمسئولون العرب يتحدثون بذهول عن الذي وقع.. إلا ماخوس إياه.. ماخوس هذا.. يقول بلهجة الـ (. . . ) حين تحاول تهوين المصيبة على عذراء فقدت شرفها في ساعة طيش.. طمعاً في جرها إلى وحل العهر لتشاركها العيش فيه.
باللهجة هذه.. يقول ماخوس.. وأمام عدد كبير من المسئولين العرب.. وجواباً على قول أحدهم: (إنها فاجعة كبيرة.. ونحمد الله إن إحدى العواصم لم تمس..) فأجاب ماخوس، بصفاقة عجيب.. (.. وهل في ذاك غرابة لو حصل ؟.. إن الغريب في الأمر أن العواصم لم تسقط.. وإننا من جهتنا ـ يقصد مسؤولي حزب البعث ـ كنا عاملين حسابنا على أن دمشق ستسقط بيد العدو..).
(ب) وفي أحد الاجتماعات الحزبية التي أعقبت الجريمة.. يقول ماخوس أمام (الرفاق) (لا تنسوا أن الهدف الأول من الهجوم الإسرائيلي هو إسقاط الحكم التقدمي في سورية، كل من يطالب بتبديل حزب البعث، عميل لإسرائيل..).
(ج) وكذلك في أحد الاجتماعات البعثية وبعد أن هزت الجريمة ضمائر بعض الحزبيين المغرر بهم.. والذين مازالت فيهم بقية خير.. طلب بعضهم من المسئولين توضيح ملابسات سقوط الجولان.. وأصروا على وجوب تقصي الحقائق حول إذاعة البلاغ الفاجر..
وفي نطاق تلك التساؤلات.. وجه بعضهم سؤالاً حول هذا الموضوع إلى اللواء أحمد سويداني، قائد الجيش السوري يوم المحنة.. فأجاب: (أنا.. كمسؤول لم أستشر في البلاغ الذي أعلن سقوط القنيطرة.. وكمواطن.. سمعته من الإذاعة كغيري..!)
فمن هي اليد الخفية التي وقعت ذلك البيان وأمرت بإذاعته ؟
ستبدي ذلك الأيام.. مهما طال الوقت.. وإن غداً لناظره قريب !
4ـ (.. ظهر الخامس من حزيران ، اتصل سفير دولة كبرى في دمشق بمسئول كبير ودعاه إلى منزله لأمر عاجل وهام !! وتم الاجتماع في الحال، فنقل السفير للمسئول السوري نص برقية عاجلة من حكومته، تؤكد أن سلاح الجو الإسرائيلي قد قضى قضاء مبرماً على سلاح الجو المصري وإن المعركة بين العرب وإسرائيل قد اتضحت نتائجها منذ التاسعة من ذلك الصباح، وإن كل مقاومة أرضية ستورث خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات لا مبرر لها، وأن إسرائيل لا تنوي مهاجمة النظام السوري، بعد أن يستتب لها تأديب جمال عبد الناصر! وبانتهاء الزعيم المصري.. تتفتح الآفاق العربية أمام الثورة البعثية من المحيط إلى الخليج، وأن إسرائيل ـ من قبل ومن بعد ـ بلد اشتراكي يعطف على التجربة الاشتراكية البعثية.. وخاصة البعثية العلوية، ويمكنها أن تتعايش وتتفاعل معها لمصلحة الكادحين في البلدين.. وقد يكون ذلك منطقياً نحو تسوية نهائية على أسس الأخوة الاشتراكية، ولذا فمن مصلحة سورية.. مصلحة الحزب ومكاسب الثورة، أن تكتفي بمناوشات بسيطة لتكفل لنفسها السلامة!
وذهب المسئول السوري ليعرض ما سمعه لتوه على رفاق القيادة القومية والقيادة القطرية.. إلى آخر القيادات ؟ وكانت الطائرات الإسرائيلية في تلك اللحظة تدمر المطارات السورية والطائرات الجاثمة ـ براحة ـ فوقها، مما أضفى على الموقف جو المأساة !
وعاد الرسول السوري، غير بعيد، ليبلغ السفير استجابة الحزب والحكومة والقيادات، لمضمون البرقية العاجلة ! وهكذا !..
غير أن إسرائيل بعد أن أنهت العمليات الحربية في الجهتين الجنوبية والشرقية، اتجهت بثقلها إلى الجبهة الشمالية، بعد أن مهدت لهذه الحركة المفاجئة بحرب نفسية، فسقط خط (ماجينو) السوري، دون قتال، وسحبت القوات الأمامية لحماية مكاسب الثورة.. وبطولات الحاكمين في دمشق !
وقال معلق راديو دمشق ذلك المساء: (الحمد لله لقد استطاعت قواتنا الباسلة حماية مكاسب الثورة أمام الزحف الإسرائيلي ! الحمد لله الذي أفسد خطة العدو وقضى على أهدافه الجهنمية ! .. إن إسرائيل لن تحقق نصراً يذكر، مادام حكام دمشق بخير !!
وليت شعري، ما الذي كان يعيق إسرائيل عن المضي في فسحة إلى دمشق! ولكنها لا تريد، ولن تريد، إذ ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن.
5ـ (.. ولما كنت أعتقد أن المبرر الوحيد لغلطة ترتكب هو الدرس الذي يمكن استخراجه منها، يهمني أن أوضح هنا ـ دون أن أحاول إلقاء مسئولية الفشل المشترك على فريق معين ـ أن عاملين اثنين، أوصلانا ـ والنزاع في مستهله ـ إلى ما انتهينا إليه، وجعلانا ندفع الثمن غالياً.
فمن جهة فوت علينا تأخر الطيران السوري في التدخل فرصة ذهبية، كان يمكن أن ننتهزها لقلب الموقف لمصلحة العرب. فلولا تردد السوريين، لكنا قد بدأنا عمليات القصف الجوي في وقت مبكر، ولاستطعنا اعتراض القاذفات المعادية وهي في طريق عودتها إلى قواعدها، بعد قصفها القواعد المصرية وقد فرغت خزاناتها من الوقود ونفذت ذخيرتها، وكان بإمكاننا حتى مفاجأتها وهي جاثمة في مطاراتها تملأ خزاناتها استعداداً لشن هجمات جديدة، فلو قيض لنا ذلك لتبدل سير المعركة وتبدلت نتائجها..)
(الزمن وحده سيعطي تفسيراً لمسائل عديدة، لكن ما تأكدت منه هو أن الطيران السوري لم يكن مستعداً يوم 5 حزيران للحرب..)
(.. لأننا كنا ننتظر السوريين، فبدون مساعدة طائراتهم الميج لا يمكن أن يسفر قصف قواعد إسرائيل عن نتيجة مهمة، ومنذ الساعة التاسعة ـ من صباح الخامس من حزيران ـ اتصلت قيادة العمليات الجوية بالسوريين، فكان جوابهم أنهم بوغتوا بالأحداث، وأن طائراتهم ليست مستعدة، وأن مطارداتهم تقوم برحلة تدريبية، وطلبوا إمهالهم نصف ساعة، ثم عادوا وطلبوا إمهالهم ساعة، وفي العاشرة والدقيقة الخامسة والأربعين كرروا الطلب نفسه فوافقنا، وفي الحادية عشرة لم يعد بالإمكان الانتظار فأقلعت الطائرات العراقية من قاعدتها لتنضم إلى سلاحنا الجوي وتساهم في القيام بالمهمة المشتركة المنوطة بسلاح الطيران.
وكان من نتيجة الاستمهال المذكور من جانب السوريين، أن عملياتنا الجوية لم تبدأ إلا بعد الحادية عشرة صباحاً..) .
لنقارن بين هذا الكلام.. بل هذه الوقائع المخزية، وبين ما قاله المسئولون البعثيون، قبيل الحرب..
قالوا: (.. إن طائرات سلاح الطيران السوري، قامت بعدة رحلات استطلاعية فوق إسرائيل، كانت آخرها في 14/5/1967 وعند الظهر.. إن طائراتنا توغلت عشرات الكيلومترات في مهمة استطلاعية، وقد انطلقت المدافع المضادة، وصواريخ (هوك) الإسرائيلية على الطائرات السورية التي قامت بمهمتها وعادت إلى قواعدها..
إن سلاح الطيران السوري أصبح في المستوى الذي يمكنه من القيام بواجبه على أكمل وجه، وله مهمات محددة وموسومة بموجب الخطة الموضوعة..
إن سلاح الطيران السوري تطور تطوراً كبيراً بعد ثورة 23 شباط 1966 من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات ، وهي من أحدث الطائرات في العالم وأفضلها تسليحاً، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب) .
كان هذا التصريح قبل الحرب بنصف شهر بالتمام والكمال، فماذا جرى لسلاح الطيران هذا، الجاهز، القوي، المدرب، الـ.. الـ.. إلخ. خلال نصف شهر، فقط، حتى فقد فاعليته وقعد كالأرنب الذي انخلع قلبه لمجرد رؤيته الثعلب متجهاً نحوه يريد افتراسه ؟..
ولكن.. تكفي الإشارات العابرة، التي تصدر من صحافة العالم المطلعة على أكثر مما نستطيع نحن الاطلاع عليه من بواطن الأمور..
ولنستمع مجلة (تايم) وهي تقول:
(.. أنقذ الهجوم الإسرائيلي على سورية، خلال حرب حزيران، النظام البعثي المتطرف فيها..) .
6ـ وفي الختام.. لابد من لفت الانتباه إلى الذي يجري على خطوط وقف إطلاق النار كل يوم..
فبعد أن استعرضنا أكثر من رواية للمؤامرة، وبعد أن نقلناها ـ على ذمة رواتها ـ ودونما التعرض لها بالتفصيل وبالإثبات أو النفي، لأن ذلك غير ممكن بما لدينا من دلائل وحيثيات.. لابد لنا أن نثبت ـ للتاريخ ـ موقف القوات المتحاربة على جبهات القتال، في مواجهة العدو.
ففي الوقت الذي نرى فيه كل يوم تصعيداً متزايداً للصدام، وبالأسلحة المختلفة، وبالمستويات القتالية المتدرجة نحو الاتساع والشمول، على جبهتي مصر والأردن.. مع إسرائيل .
في هذا الوقت نجد الجو هادئاً هدوء عش الزوجية في فترة شهر العسل، بين الإسرائيليين وقوات حزب البعث.. لا يعكره إلا خلافات بسيطة كالخلافات التي تقع بين عروسين حول ما يجب أن يتعشيا، أو حول أفضل مكان يقضيان فيه السهرة.
وفي الوقت الذي نجد اليوم ـ وكل يوم ـ عشرات الرجال ينطلقون من الجبهات المختلفة، لضرب الوجود الإسرائيلي الدخيل في كل جانب على أرضنا.. نرى الحدود (الجديدة) بين سورية وإسرائيل، مغلقة في وجه كل التنظيمات الفدائية.. ومن يتحدث عن تحرير الجولان، أو العمل الفدائي على أرض الجولان.. يلقى مصيره الأسود على أيدي الجلادين من بني النصيرية المتسترين باسم حزب البعث.
وزيادة في التضليل، الذي برع فيه حزب البعث، وتمادى في سلوك سبيله إلى أبعد مما يمكن لأحد أن يمضي.. ناسياً أن تضليله فد عاد عليه بأبشع فضيحة، جعلته يبدو أمام الناس سخيفاً كسخف النعامة حين تدفن في الرغام رأسها لتوهم الصياد بأنها ضللته.
بمثل هذه الصفاقة والقحة.. يلجأ حزب البعث الحاكم.. المجرم إلى التضليل.. وإلى مطالبة غيره بمواقف الرجولة والبطولة التي عجز عنها.. حتى بدا مثل (...) تطالب الناس بأن يكونوا نساكاً.
بمثل هذه الروح التي تنز بالحقد، وتفيض بمعاني الإجرام يطالب حزب البعث غيره من الدول بأن تفتح حدودها لحرية العمل الفدائي.. بل ويرسل مجموعات من مرتزقته، ليؤدوا بعض العمليات التمثيلية عبر حدود الأردن ولبنان، لذر الرماد في العيون، ولتحويل الأنظار عن قصوره وفجوره وصفاء عيشه مع قوات إسرائيل التي احتلت الجولان وتمتعت بخيراته.
بهذه الروح.. يرسل حزب البعث أفراداً من وحداته النظامية متسترة باسم التنظيمات الفدائية (الصاعقة) ليشوهوا معنى الفداء، عبر حدود غيره من الدول.. بينما يغلق حدوده مع العدو في وجه كل تنظيم فدائي مناضل شريف، وكأنه لا يحكم بلاداً احتل العدو جزءاً منها.. وكأن تحرير تلك الأراضي ـ إن كان وارداً لدى حزب البعث كأمنية ليس إلا ـ يقع على كاهل غيره من الدول.. بينما يتمتع هو في الولوغ في الدماء والحرمات..
إن مثل هذه الأفعال.. تقع كل يوم، تحت سمع وبصر الأمة العربية المنكوبة.. ثم يبح دعاة حزب البعث حلوقهم.. يطالبون الأمة العربية بالفداء.. ويدعون أنهم.. أهل الحرب وحدهم، وهم الذين ما حاربوا.. ولن يحاربوا .. بل يسعون لجر الأمة إلى نكبة رابعة تزيدها إذلالاً.. وتضاعف التعداد من أبنائها المشردين.. وتقدم للعدو أرضاً جديدة يثبت عليها وجوده اللقيط.. !
هذا موقف نسجله دونما زيادة في التفاصيل.. فراغب الزيادة قادر عليها، ويجد ضالته في بطون الصحف.. وفيما تنقله كل يوم أجهزة الإعلام عبر إذاعات العالم.
هذا موقف لا نجد فيه إلا الحرص على رعاية الوجود الصهيوني على أرضنا.. تباركه قيادة حزب البعث وتسهر على راحته أجهزته العسكرية والمدنية على السواء.
ولكن هذا ليس هو ـ أبداً ـ موقف المخلصين من أبناء الشعب.. فإلى هؤلاء.. وخاصة الرابضين في المخافر الأمامية والمواقع المتقدمة.. نطير صرخة استغاثة، ونطلق صيحة إنذار.. أن اقتدوا بإخوانكم في الأردن ومصر.. واضربوا الوجود الصهيوني.. افتعلوا الحوادث أنتم.. لتجروه إلى مجزرة عقب مجزرة.. لا تتركوا له راحة أبداً.. فإن سكوتكم هذا.. ليس له تفسير أمام الله والأمة.. إلا أنه التواطؤ.. أو الخنوع الذليل، تفضيلاً لمصلحة الرتبة والراتب.. على كرامة الأمة ومصيرها ومستقبلها.. وفي هذا لعمري من الجريمة ما يعدل التواطؤ.. إن لم نقل إنه يفوقه !










القسم الثالث
أنوار في الطريق

.. وبعد النكبة هذه.. وخشية وقوع ما هو أسوأ.. وبعد أن أثبت الجيش (المفدى) عجزه عن صون الأمانة.. أصبح لزاماً أن تعود إلى صاحبها الحقيقي.. الشعب بمجموعه.
فأمانة الحفاظ على البلاد.. وصون مستقبل الأمة.. ومن ثم الانطلاق في سبيل التحرير لإنهاء الوجود الغازي الدخيل ـ وكل وجود غريب ـ على أرضنا.. أصبح فرضاً على الشعب كله أن يستردها ويمارس بنفسه كل صور القتال، ويبذل كل أنواع التضحيات.. ليزول العار.. وتطوى صفحته في التاريخ، على إنها لحظة من لحظات الضعف الإنساني.. يعذرنا أمام أجيالنا، إننا بادرنا إلى التخلص منها، وعدنا فوراً إلى منطلقات قوانا ومرتكزاتها. لمعاودة مسيرتنا (المفروضة) نحو المساهمة في بناء حضارة الإنسان.. وإسعاده.. !
وإيماناً بحقنا ـ نحن الذين ما كانت لنا يد في نكبتنا، ولا حيلة لدفعها ـ في الإدلاء بكل ما نراه كفيلاً بهداية الصادقين الذين يتلمسون وسائل استعادة الحق، ودفع العار.. وإسهاماً بجزء من الواجب الكبير الملقى على عواتقنا.. والمسئولين عنه أمام الله والأمة.. وإلى الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا استكباراً.. العاملين بصمت صادق مخلص.. القادرين على تجاوز عقد التخلف المسبب لكل نكبة..
إلى هؤلاء جميعاً.. سأحاول أن أضع على الطريق بعض الصوى.. فعسى الله أن ينفع بها.. وتكون معالم واضحة لمشكلتنا، ونهتدي إلى أفضل حل للارتفاع من الهوة التي فيها سقطنا..

ـ 1 ـ
عدونا في العراء

(الصهيونية هي العودة إلى حظيرة اليهودية
قبل أن تصبح العودة إلى أرض الميعاد).
تيودور هرتزل، من خطابه الافتتاحي للمؤتمر
الصهيوني الأول في بال (سويسرا) عام
1897. عن كتاب (المسلمون والحرب الرابعة).
إن أهم ما يجب توضيحه وفهمه، في موقف العدو منا وحقيقة أمره، هو الكشف عن الأسس التي عليها بنيت جميع مواقفه منا، والتي تشكل في مجموعها، الروح الحقيقية التي تحركه في صراعه معنا لإبادتنا والحلول على أرضنا.
فعلى الرغم من كل التأثيرات التي أحدثتها حضارة الغرب العلمانية في الغرباء الذين حلوا بأرضنا لصوصاً غزاة، وأقاموا دولتهم على أنقاض شعبنا في فلسطين وسيناء والجولان..
هؤلاء الدخلاء.. الذين قدم إليها معظمهم من بلدان سبقتنا في الحضارة والازدهار العلمي والمادي.. وعلى الرغم من كل ما خلفت فيهم تلك الحضارة، من آثار في السلوك الخلقي والاجتماعي، أو طراز الحياة اليومي، أو حتى في أساليب التفكير، وعلى الرغم من كل ما يبدو لنا من مظاهر انحلالهم وبعدهم ـ ظاهرياً ـ عن الدين.. إننا على الرغم من ذلك كله.. نرى ونحس بوضوح ودقة، الروح الدينية التعصبية الحاقدة، التي حركتهم ليهجروا مراتع طفولتهم وصباهم ويأتوا إلينا غازين مستنفرين في كل لحظة، ضاربين بالراحة والسعادة والاستقرار عرض الحائط.. مضحين بكل شيء من أجل إقامة دولتهم.. الدينية التي تأمرهم كتبهم المحرفة بإقامتها على أنقاضنا.
وقد لا يبدو هذا واضحاً للمراقب إلا بعد التدقيق في نصوصهم ـ قديمها وحديثها ـ فيجد أن دهاقنة اليهود وراسمي أسس سياستهم ومدبري خططهم الرهيبة لإقامة دولتهم والتحكم في العالم كله.. إنما ينزعون عن قوس واحدة، وينهلون من مورد واحد، ويتحركون في إطار موحد، من الحقد والكراهية التي غرسها في قلوبهم دينهم المحرف، وتوارثوها جيلاً بعد جيل، ساعدهم على ذلك العزلة المطبقة التي فرضوها على أنفسهم والتقوقع الذي مارسوه طيلة الآلاف الماضية من السنين.. رغم تشردهم في بقاع الله الواسعة.
هؤلاء الغرباء إذن، جاؤونا مدفوعين بروح تعصبية غريبة من نوعها، أشاعتها في نفوسهم الفكرة التي أطلقها دهاقنتهم القدماء، بأنهم هم شعب الله المختار، وإن كل من في العالم عبد لهم، يرثون أرضهم وديارهم، ويقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم.. تماماً، كما فعل آل فرعون بهم في مصر في قديم الزمان. وتتمثل هذه الروح التعصبية اللئيمة في النقاط الآتية:
1ـ النقطة الأولى هي الفكرة الخبيثة.. التي بها يؤمنون هي أنهم دون سواهم (شعب الله المختار) وأن شعوب العالم الأخرى ـ ونحن منهم ـ حمير وكلاب وبهائم، وإنه لابد لهذا الشعب (المختار) أن ينال من ملك إلهه (الذي اختاره)، ما تجيزه له هذه (المخترة) من حق السيادة والتحكم والاستغلال، حتى ولو كان ذلك يستوجب الفتك والولوغ في كل محرم.
جاء في التوراة: (لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع شعوب الذين على وجه الأرض).
وتقول نصوص التلمود: (سأل إسرائيل إلهه قائلاً: لماذا خلقت سوى شعبك المختار ؟ فأجابه: لتركبوا ظهورهم، وتمتصوا دماءهم، وتحرقوا أخضرهم، وتلوثوا طاهرهم، وتهدموا عامرهم !!) .
ويقول التلمود أيضاً: (إن الله خلق غير اليهود بالصورة البشرية إكراماً لليهود، لأن غير اليهود وجدوا لخدمة اليهود ليلاً ونهاراً بدون ملل، ولا يوافق أن يكون خادم الأمير حيواناً له الصورة الحيوانية، بل يجب أن يكون حيواناً له الصورة البشرية) ..
ويقول الرباني اليهودي (أباربانيل): (الشعب المختار وحده يستحق الحياة الأبدية. أما الشعوب الباقية فمماثلة للحمير) .
وورد في التلمود أيضاً: (كما أن ربة البيت تعيش من خيرات زوجها، هكذا أبناء إسرائيل، يجب أن يعيشوا من خيرات الأمم دون أن يحتملوا عناء العمل) .
وجاء في العهد القديم: (وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم. منهم تقتنون عبيداً وإماء، وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم، منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم، وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك، تستعبدونهم إلى الدهر، وأما إخوانكم بنو إسرائيل، فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف) .
2ـ والنقطة الثانية الكامنة في الفكرة الخطيرة.. التي يتحركون وراءها وبها يتسترون، أرض الميعاد في بلادنا، مستندين بذلك إلى نصوص هي غاية في التحريف والباطل، ولو وضعت في كل لحظة موضع النقاش العلمي المتزن، لما صمدت، ولبرز فوراً زيفها وسخفها.
وانطلاقاً من هذه الفكرة، وتستراً بهذه النصوص الباطلة، أصر دهاقنة اليهود منذ الصرخات الأولى التي أطلقها رواد الصهيونية الأول.. أصروا على أن تكون دولتهم المنشودة في أرض الميعاد.. (فلسطين).. رافضين كل العروض التي قدمت لهم في أماكن أخرى من العالم.
جاء في العهد القديم: (أما أنا، فقد مسحت ملكي على جبل صهيون ـ جبل قدسي، إني أخبر من جهة قضاء الرب، قل لي أنت يا ابني ـ أنا اليوم ولدتك، اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك، وأقاصي الأرض ملكاً لك، تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزاف تكسرهم) .
ـ (في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام (إبراهيم) ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات) .
ـ (وقال يعقوب ليوسف: الله قادر على كل شيء ظهر لي في نور في أرض كنعان وباركني، وقال لي ها أنا أجعلك مثمراً وأكثرك وأجعلك جمهوراً من الأمم، وأعطي نسلك هذه الأرض من بعدك ملكاً أبدياً) .
ـ (الرب إلهنا كلمنا من حوريب قائلاً: كفاكم قعود في هذا الجبل، تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الآموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر، أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات، انظر قد جعلت أمامكم الأرض ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم) .
ـ (لم نأخذ أرضاً لغريب، ولم نستول على شيء لأجنبي، ولكنه ميراث آبائنا الذي كان أعداؤنا قد استولوا عليه ظلماً) .
وفي العصر الحديث:
ـ (إن دولة إسرائيل قامت فوق جزء من أرض إسرائيل) .
ـ (تتألف كل دولة من الأرض والشعب، وإسرائيل لا تشذ عن هذه القاعدة، غير إنها دولة لم تأت مطابقة لأرضها وشعبها.. وأضيف الآن: إنها قامت فوق جزء من أرض إسرائيل فقط. فالبعض يتردد بصدد استرجاع حدودنا التاريخية التي جرى رسمها وتعيينها منذ بداية الزمان، وحتى هؤلاء لا يسعهم إنكار الشذوذ الذي تمثله الحدود الجديدة) .
ـ (.. لعلك تذكر يا سيدي الجنرال، لقاءنا في يونيو سنة 1960، لقد سألتني حينذاك: ما هي أفكاركم الحقيقية عن الحدود الفعلية لإسرائيل ؟ أخبرني عنها ولن أقول لأحد..! لقد أجبتك عندئذ قائلاً: (لو أنك سألتني هذا السؤال منذ خمس وعشرين سنة، لأجبتك أن الحدود التي نريدها، هي: نهر الليطاني شمالاً، ونهر الأردن شرقاً. أما جوابي على سؤالك الآن، فأقول لك: ليست لنا أية مطامع إقليمية في الوقت الحاضر..) .
ويقول هرتزل: (المساحة من نهر مصر إلى الفرات، لابد من فترة انتقالية لتثبيت مؤسساتنا، يكون فيها الحاكم يهودياً.. وما أن تصل نسبة السكان اليهود إلى الثلثين حتى تفرض الإرادة اليهودية نفسها سياسياً) .
وهم بهذه الفكرة الخبيثة، فكرة أرض الميعاد، إنما يخفون أطماعاً استعمارية رهيبة، موجزها أنهم يحلمون بالسيطرة على مفتاح العالم وعقدة مواصلاته ومنبع ثرواته، ومدفن كنوزه.. هذه القارة العربية الهائلة، التي حلم بها كل طامع عبر القرون، وسعى للفوز بها من فكر بالسيطرة على العالم كله. واليهود اليوم.. لا يختلفون عمن سبقهم من الغزاة ـ من زاوية التفكير والأطماع هذه فقط ـ ولقد بدأوا مطالبتهم بأسلوب خبيث مدروس، فأظهروا أنفسهم بأنهم الشعب المسكين المسالم الذي لا يحلم بغير دويلة صغيرة في أرض فلسطين، ذلك الجزء الصغير من الأرض العربية، التي إن تخلى العرب عنها لهم، فلن يخسروا شيئاً كثيراً بالنسبة لاتساع الأراضي عندهم وامتدادها !!
وما أن ثبتوا أقدامهم على أرض فلسطين، حتى أصموا آذان العالم بصراخهم وعويلهم، يلحون على أسماع الشعوب.. بأنهم لا يريدون أكثر من العيش بهدوء وسلام مع جيرانهم.. هؤلاء المتوحشين حتى الآن، لم يكفوا عن التربص بهم.. وتحين الفرصة لابتلاعهم.
وهكذا كان.. طيلة العشرين عاماً الماضية.. حتى جاء يوم العار، فخلع الذئب عن نفسه جلد الحمل، وكشر عن أنيابه ومخالبه، وهجم على الحملان المتسترة بجلود النمور.. فمزقها وشردها واحتل أرضها وديارها، وداس كرامتها، ومرغ شرفها.. في الوحل (على الأقل).
والآن.. وبعد أن تمكنت أقدام العدو في الأرض، وبعد أن أسكرته خمرة الانتصار الخاطف.. بدأت ترتفع عقيرته بالصياح يعلن أن أرض الميعاد ليست فلسطين وحدها، بل هي من النيل إلى الفرات (راجع النصوص في الصفحات السابقة).
وكشف العدو عن جزء من أطماعه.. وأخذ يعمل بجد ليصل إلى الحدود المقررة للمرحلة القادمة من وثباته. ومن يدري.. لعله في الوثبة القادمة، إن تمكن، سيطالب بجنوب اليمن، ومضيق جبل طارق، وخليج البصرة ومضيق البوسفور ؟
3ـ وتقع النقطة الثالثة في اعتقادهم الذي يكمن وراء كل ما يفعلونه ومن أجلها ينكلون بالعرب القاطنين معهم. هي أن الأرض الني يحتلونها، يجب أن تكون لهم وحدهم، لا يعيش عليها معهم غيرهم، وهم لتحقيق ذلك، يبيدون ويشردون، ويفعلون كل ما يمكن، لتخلو لهم الأرض دون سواهم، يشهد على ذلك ما نسمعه كل يوم، وما تنقله إلى أسماعنا مع كل نشرة أخبار، موجات الأثير، من أنباء الإبادة الجماعية في السجون، أو في أماكن الاعتصام، أو حتى في الشوارع، حين يطلق جند العدو النيران بلا حساب على العزل الآمنين، وعلى النساء اللاتي خرجن يطالبن بعودة أزواجهن وأبنائهن إليهن.. وما تنقله وكالات الأخبار وصحف العالم الغربي بالذات، عن الاستفتاءات التي تنظمها المنظمات والمؤسسات اليهودية في إسرائيل وبعض بلدان أوروبا يسألون اليهود فيها عما يجب فعله بالعرب، فيكون الجواب ـ حتى من الصغار الذي لم يمارسوا الحرب بعد ـ واحداً دوماً، وهو.. اقتلوهم، أبيدوهم، لا يصح أن يبقوا أحياء، هؤلاء المتوحشون، الهنود الحمر .. إلخ.
وإننا حين نقول هذا الكلام.. نحن على ثقة أن اليهودي ـ مطلق يهودي ـ لا يحمل لغيره من شعوب الأرض إلا العداء والحقد، ومن لا يصدق فليقرأ نصوصهم..
جاء في التوراة: (إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولاً، قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوحوا سكان مدينتهم قائلين نذهب ونعبد آلهة أخرى. وفحصت وفتشت وسألت جيداً وإذا الأمر صحيح وأكيد قد عمل ذلك الرجس في وسطك، فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد) .
ـ (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبك فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريماً، الحيثيين والآموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك) .
فهل نستغرب بعد هذا أن نسمع التهديدات يطلقها موشى ديان وأمثاله من متطرفي اليهود بأنهم سيحرقون نابلس أو غزة أو الخليل.. أو تهديمها على رؤوس أهلها ؟
إن المستغرب أن لا يلجأ العدو إلى فعل ذلك.. وما ذاك إلا بناء على مخطط مرحلي لئيم وخاصة وإن العدو قد محا من الوجود قرى عديدة، ومن أهمها قلقيلة في الضفة الغربية وجباتا الزيت في الجولان.. إلخ.
ولقد ورد في تلمودهم: (حطم الصالحين من الأجانب) .
وجاء في التوراة: (ينزلون نقمتهم بالأمم، وتأديباتهم بالشعوب، ويأسرون ملوكهم وأشرافهم بأغلال من حديد، وينفذون فيهم الحكم المكتوب) .
(رنموا للرب الساكن في صهيون ـ أخبروا بين الشعوب بأفعاله لأنه مطالب بالدماء، ذكرهم، لم ينس صراخ المساكين) .
ـ (الأعياد المقدسة لم تجعل للأجانب والكلاب) .
ـ (وقال الرب لموسى وهارون، هذه هي فريضة الفصح، كل ابن غريب لا يأكل منه: النزيل والأجير لا يأكلان منه) .
ـ (احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فحيحاً في وسطك) .
ويقول الحاخام آبربانيل: (ليس من العدل بشيء استعمال الرحمة نحو الأعداء) .
ويقول تلمودهم: (إذا ضرب أمي (غير يهودي) إسرائيلياً، فالأمي يستحق الموت) سنهدرين، ص 2 ، 58 .
ويقول تلمودهم أيضاً: (إن النطفة المخلوق منها باقي الشعوب الخارجين عن الديانة اليهودية، هي نطفة حصان) تلمود أورشليم، ص94 .
ويقول تلمودهم: (.. ومحرم على اليهودي أن ينجي أحداً من باقي الأمم من هلاك..) .
وتبلغ الوحشية في تعاليمهم ونصوصهم التي تسيرهم في علاقاتهم معنا، ذروة الإجرام والحقد الدفين، انظر تلمودهم يقول لهم: (اقتل صغيراً، كبيراً، بقراً، جمالاً، حميراً، اجعل المدينة تلا..) .
أو ليس هذا الذي فعلوه بعينه في دير ياسين، وقبية، ونحالين، والقدس، وغزة، والضفة الغربية.. ؟
وحتى نصوصهم في العصر الحديث.. لا تخرج عن روح اللؤم والحقد والإجرام هذه.
انظر إلى أقوال هرتزل: يجب أن يكون شعارنا: (كل وسائل العنف والخديعة) .
ـ (إن العنف الحقود وحده هو العامل الرئيسي في قوة العدالة، فيجب أن نتمسك بخطة العنف والخديعة، لا من أجل المصلحة وحسب، بل ومن أجل الواجب والنصر أيضاً) .
ـ (حينما نمكن لأنفسنا، ومتى ولجنا أبواب مملكتنا، لا يليق بنا أن يكون فيها دين آخر غير ديننا، أي الدين المعترف بوحدانية الله، الذي ارتبط حظنا باختياره إيانا، كما ارتبط بواسطته مصير العالم بمصيرنا، فيجب علينا لهذا السبب، أن نحطم كل عقائد الإيمان..) .
وحتى موشى ديان.. فقد عبر عن هذه النفسية اللئيمة، في تصريح له لمجلة (لوك) الأمريكية، فقال: (إن معظم الإسرائيليين يفضلون أن يتخلصوا من العرب المقيمين في الأراضي الجديدة المحتلة، مع الاحتفاظ بهذه الأراضي..) .
ولقد سجل الله تعالى منذ أربعة عشر قرناً، شهادة دامغة ضدهم، تصمهم حتى قيام الساعة، فقال جل شأنه:
(ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) .
(أم لهم نصيب من الملك، فإذا لا يؤتون الناس نقيراً) .
وحكى الله تعالى عن لؤمهم وعدم ثقتهم بأحد دون اليهود، فقال يصف حالهم:
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله..) .
صدق الله العظيم.. وقفئت أعين لا ترى.. وصمت آذان لا تسمع، وطبع على أفئدة لا تفقه، إن هي إلا كالأنعام، أو أضل سبيلاً.
4ـ والنقطة الرابعة والأخيرة تقع فيما يحرك حقدهم ضدنا، من خلال حقدهم على الإسلام، وسعيهم الدائب لإنهائه والقضاء عليه.
نعم.. الإسلام الذي كشف كفرهم وحقدهم وكل مخازيهم وسفالاتهم.
الإسلام الذي أخرجهم من الجزيرة أذلة صاغرين، وأفقدهم آخر حصونهم ومواقع عزتهم، في يثرب وخيبر وتيماء.
الإسلام الذي كانوا ينتظرون أن ينزل بينهم، وأن يبعث فيه بنبي من بين ظهرانيهم.. فلما وجدوه بعث من نسل إسماعيل.. حقدوا عليه، وحاربوه.. وتاريخهم معه طويل.
(ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين) .
ونظراً لارتباط العرب بالإسلام، وارتباط الإسلام بالعربية ونظراً لأن أوروبا الصليبية، واليهود الحاقدين، لا يفهمون من العربية إلا أنها الإسلام، ولا يستطيعون أن يتصوروا أن يكون للعرب كيان بغير الإسلام،.. نظراً لأن العرب هم الذين (لطشوا) منهم ـ كما يعتقدون ـ النبوة الأخيرة، وأخرجوهم من مواقع عزتهم، وبسطوا سلطانهم على (أرض الميعاد). نظراً لكل ذلك، فهم إنما يوجهون كل حقدهم على العرب، يبغون إبادتهم، واحتلال أرضهم، وإزالة مقدسات المسلمين منها، وبذلك ـ كما يعتقدون ـ يقضون نهائياً على الإسلام.. ويدكون آخر حصونه ثم يتفرغون للتحكم بالنصرانية وتصفية الحساب معها.
هذه النقاط الأربع التي أتينا على ذكرها، تشكل في مجموعها الكيان الروحي الديني المتعصب الذي يلف الذات الإسرائيلية، ويدفع بقادتها إلى التحرك ضمن هذا الإطار، في عجز فاضح، يشل قواها عن التحرر منه، والتحرك خارجه في رحاب التسامح، والإسهام في رفع حضارة الإنسان صعدا.. وهذه الروح الدينية الحاقدة الدفينة المتأصلة في أعماق الإنسان اليهودي ـ حيثما وجد ـ هي التي حركت منذ البداية، طلائع الحركة الصهيونية للعمل الجاد الدؤوب.. حتى حصلت على حلمها الذهبي.. وتملكت أرضنا المقدسة.. وهي نفسها الروح التي دفعت بجند إسرائيل لاحتلال ما احتلوه في حزيران العار.. وهي نفسها الروح التي تحرك اليوم قادة العدو وجنده للتنكيل والاعتداء.. بغية الحصول منا على فروض الطاعة والذلة والاستسلام..
هذه الروح الدينية المتعصبة الحاقدة.. هي وحدها، التي كانت وراء التفوق العلمي والفني والحضاري.. ثم العسكري، لدولة العدو.. على دولنا وجيوشنا وقادتنا أجمعين.
ولقد حرصت الأجهزة الفاجرة لدولة البعث.. على إخفاء معالم هذه الروح عن الشعب.. وتجهد اليوم لتحجب عن ضمير المواطن كل ما من شأنه أن يذكره بأن العدو يقاتلنا منطلقاً من دينه الذي يؤمن به ـ على فساده وبطلانه، ولكنه يؤمن به مطلق الإيمان ـ بل.. وتكاد تبح الحناجر الناعقة، تصر بفجاجة مرة.. على أن دولة العدو.. إنما هي قاعدة النفوذ الاستعماري الإمبريالي الرجعي الفاشستي النازي الـ.. إلخ، تماماً كما تصر الـ (. . .) بفجورها وتهتكها.. على إقناع الأشراف أنهم هم الفجرة، وأنها هي (الطاهرة البتول).
وطبيعي أن تقف أجهزة التآمر، ومواقع الخيانة مثل هذا الموقف.. ومنطقي أن تنكر هذه الزمرة، كل ما من شأنه أن يجعلها تعترف ـ ولو عفوياً بصورة غير مباشرة ـ بأثر هذه الروح الدينية وأثر الإيمان في صمود القوات والأخذ بيدها إلى طريق النصر، وهي.. هي التي دأبت منذ تعربشت على السلطة فجر الثامن من آذار 1963، على تدمير روح الإيمان.. وإفساد عقيدة الشعب، وإذلال كرامة المواطن، ونسف كل ما من شأنه أن يجعله يعتز بإيمانه وتراثه، ويدفعه للبذل ـ مهما غلا البذل ـ للحفاظ على هذا الإيمان، وحماية هذا التراث.
مثل هذا الموقف.. يسوقنا ـ ولو أطلنا الحديث بعض الشيء ـ إلى الاستطراد والتذكير ـ في موقف المحاسبة هذا ـ بجرائم هذه الزمرة.. وبأعمالها التي أقدمت عليها، انتهاكاً لكل المقدسات، واستهزاء بدين الشعب وعقيدته.
أوليست هذه الزمرة هي نفسها التي قصفت المساجد في حماة وحمص بنيران الدبابات والمدفعية والطيران، في نيسان من عام 1964 ؟ أوليست هذه الزمرة هي نفسها التي أمرت بإهانة المصلين المسلمين والتعرض لهم بالضرب والشتم، في طرطوس عام 1964، ووقفت تحمي زمر التخريب الحاقدة ؟
هل يمكن أن ننسى أن هذه الزمرة هي نفسها التي ضربت بالرشاشات أربعة آلاف من المصلين في المسجد الأموي في دمشق، وهاجمت المسجد بالآليات المصفحة وقتلت على باب الجامع عدداً من المصلين، واعتقلت الألوف منهم لتنكل بهم وتذيقهم آخر ما توصل إليها الفن البعثي الحاقد من أساليب التعذيب والإذلال والتصفية الجسدية؟
أم إننا ننسى أن الزمرة هي هي.. نفسها، التي دفعت (عميل المخابرات المركزية الأمريكية) .. المرشح إبراهيم خلاص، ليكتب مقاله المشهور (المدسوس على مسيرة الثورة) .. والذي يطالب فيه بـ (خلق الإنسان العربي الاشتراكي الجديد)، ويطالب كذلك فيه بـ (وضع الله ، والأديان ـ والمترفين ـ والمتخمين ـ والإقطاع ـ و.. إلخ ـ دمى محنطة في متحف التاريخ) ؟؟
ومتى كان ذلك.. ؟ كان قبيل الحرب.. في الوقت الذي كان يتحرك فيه حاخامو الجيش الإسرائيلي يتلون المواعظ ويذكرون الجند بدورهم (التاريخي) ويردونهم إلى حدود التدين والتوبة إلى إله إسرائيل، في الوقت نفسه.. نتأ إبراهيم خلاص، يعبر عن حقد وعفن النفوس التي تتحكم في رقاب الشعب اليوم، لتكمل دورها (التاريخي أيضاً)، في التخريب وتصفية كل جيوب المقاومة الإيمانية التي قد تقف وقفة الصمود في وجه (الإسرائيليين).. القادمين بعد ما يقارب الشهر ونصف الشهر.. لتسلم (الأمانة) التي احتفظ لهم بها وكلاء كوهينها.. ويذيعوا مسبقاً عن سقوط القنيطرة.. لتفويت فرصة الصمود على كل مخلص بقي عنده شيء من إرادة القتال والمقاومة.





ـ 2 ـ
نحن والقضية
(ولا تهنوا في ابتغاء القوم، إن تكونوا تألمون
فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، وكان الله عليماً حكيماً).
(سورة النساء 104)
(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب،
حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها...).
(سورة محمد 4)
(أ) ونتيجة لموقف العدو منا، ونواياه تجاهنا، واستجابة لأوامر الله الذي يدعونا إلى رحاب العزة والإيمان..
واستقراء لشواهد سوابق من أحداث التاريخ.. في علاقات الشعوب بالأرض.. يتحدد أمامنا بأوضح ما يكون.. ما يجب أن يكون عليه موقفنا، وسلوكنا، اتجاه حركة الأحداث، التي إليها يجب أن نوجه كل طاقاتنا.. لاسترداد ما فقدنا..
هذا الاتجاه.. الوحيد، والمحتوم.. شئنا أو أبينا، هو:
إن هذه الأرض لا تتسع لنا مع الغرباء:
هذه الأرض، لا تحملنا مع أغراب دخلاء، يريدون مقاسمتنا إياها، والاستئثار بخيراتها.. أبداً. هذه الأرض لنا وحدنا.. ونحن أصحابها الشرعيون، ولنا وحدنا مطلق الحق في أن نتقبل عليها من لا يعادينا ولا يشكل خطراً علينا وأن نرفض كل دخيل غريب طامع بالأرض وكنوزها.
هذه الأرض.. هي أرضنا، شاء العدو أم أبى.. وشاء العملاء الاستسلاميون، أو أبوا.. وشاء السادة الكبار الاستعماريون أم أبوا..
هذه حقيقة يجب أن نتمثلها في كل لحظة من لحظات عمرنا.. يجب أن نملأ بها قلوبنا وأعيننا.. وعليها يجب أن تبنى آمالنا ومطامحنا..
هذه الأرض لنا وحدنا.. واليهود والإسرائيليون هم دخلاء.. غرباء.. أعداء.. نعم أعداء.. نقولها بملء أفواهنا، ونصم بها آذان العالم كله. اليهود الإسرائيليون.. هم أعداء أتوا أرضنا غزاة مجرمين.. ويجب أن يخرجوا منها مطرودين أذلاء.. أو نقبرهم في أرضنا جيلاً بعد جيل، أو.. يتمكنوا من إبادتنا جميعاً.. والحلول على حطامنا.. وعندها لن يبقى من يندم على شيء.. إذ نكون قد أدينا واجبنا.. ومتنا كما يموت الكرام.
إن كل غربان الشؤم التي تنعق اليوم، بنغمة الأمر الواقع .. وتقبل ما حدث.. والارتفاع فوق الأحقاد العنصرية و.. كل هذه الأصوات.. هي أصوات المجرمين اليساريين الثوريين.. الذين صنعوا هذه النكبة لنا.. ويريدوننا أن نتقبل ما حدث.. لأن قبولنا إياه، يعني صرف النظر عن محاسبتهم عما اجترحوا من سيئات ويعني إقرارنا بشرعية جرائمهم التي ساقتنا إلى هذه النكبة.
ولقد ثبت لكل ذي بصيرة، أن كل ما أنفقته الدعاية الإسرائيلية خلال السنين الطويلة لإقناعنا وغيرنا، أنها لا تريد إلا السلم والاستقرار معنا.. هو كذب كله. وهو ضحك على ذقون السذج البسطاء..
إسرائيل تريد فناءنا.. فلنرد فناءها.. حتى ولو فنينا عن بكرة أبينا. لنوطد العزم على القتال المرير.. الطويل، حتى تطهر الأرض، وتعود إلينا كما كانت.. صافية حرة حبيبة إلى القلوب.. مفداة بنور العيون، محمية بالمهج والأرواح، وكل غال من المال والأحباب.
إن كل الدعوات التي توصل إلى قبول العيش مع إسرائيل في بلادنا.. مرفوضة، بل هي دعوات مجرمة لئيمة سواء أصدرت من العدو نفسه أو ممن يسانده من دول الاستعمار والظلم، أو دعوات خائنة متآمرة إن هي صدرت عن هيئات أو حكومات أو مؤسسات أو أقلام عربية مهما كان البرقع الذي يلف الدعاة هؤلاء، جميلاً أخاذاً.
يجب على كل منا.. نحن العرب والمسلمين.. أن نفهم، ونؤمن ونتعلم، ونعلم ونربي صغارنا على هذه الحقيقة، ليتابعوا حمل الأمانة إن لم يتح لنا إيصالها إلى مأمنها..
هذه الحقيقة، واضحة، قوية، موجزة، تقول: إسرائيل بكيانها السياسي والاجتماعي والعسكري والاقتصادي هي عدونا.. ولا عيش لها معنا.. ولابد من طردها أو إفنائها حتى تزول نهائياً كل تلك الكيانات الغريبة ونبقى وحدنا على هذه الأرض نفعل بها ما نشاء.
(ب) ويقودنا الاستطراد المنطقي، في هذا البحث، إلى أن نهتدي إلى الطريق الواجب، والوحيد، لحل أزمتنا وإنقاذ مستقبلنا، وشرفنا، ومصير أجيالنا.. وهو الذي ليس أمامنا غيره، وهو الذي نفرضه نحن بعزة ورجولة، فسيفرض علينا ونحن في أسفل دركات الخنوع والذلة.. هذا السبيل الوحيد، هو:
القتـال:
نعم.. ! القتال.. بملء الفم نقولها، وبأعلى صوت ننادي بها.. القتال يا عرب، القتال يا مسلمون، القتال يا رجال.. إن كان قد بقي في دنيانا رجال.
القتال.. بكل وسائله وصوره وأحجامه وأبعاده..
القتال بكل وسيلة وبكل سلاح وعلى كل شبر من الأرض.. حتى تتحرر، وتتطهر الأرض، وتعود إلينا الأرض.. حبيبة إلى كل نفس، وقرة لكل عين.
القتال يجب أن يشن على الأرض المحتلة، وعلى كل أرض قد يحتلها أعداؤنا أو من يساندهم.. القتال بنظاميته وشبه نظاميته وبثوريته.
القتال جماعياً أو افرادياً.. لا فرق.
المهم.. أن نزرع كل شبر من الأرض بالقتال، بالنار، بالموت والدمار. بالرعب والقتال. المهم أن لا ندع لعدونا لحظة يستعيد فيها أنفاسه. عدونا يجب أن يضرب على رأسه ووجهه وظهره وبطنه وكل أجزاء جسمه، بكل سلاح، وبكل ما يمكن أن يؤدي إلى موته والإجهاز عليه..
أو يستسلم صاغراً ذليلاً.. ويتخلى عن كل كياناته التي يتغطرس بها الآن.. وعندها.. نحن الكرام.. نوصله إلى مأمنه، ونعيده من حيث جاء.. ليبدأ مرحلة جديدة من التشرد والذل.. أربعة آلاف سنة أخرى من التاريخ القادم.. لا بأس.
إن بين عدونا وبيننا مراحل طويلة وعميقة من التفوق الحضاري في العلم والقدرة على الإنتاج.. وهذا كله، لن يتسنى لنا اجتيازه واستباق الزمن لوقف تطوره نحو مزيد من التفوق علينا.. إلا بالنار، وبالقتال..
القتال بالبنادق.. وبالرشاشات، بالمدافع والدبابات والطيران..
القتال بالعصي والخناجر، والحجارة..
بالعصيان والاعتصام..
بالزيت المغلي وزجاجات مولوتوف..
الذبح بالسكاكين. وإحراق الممتلكات وتدمير كل إمكاناته الاقتصادية..
إشعال الأرض تحته جحيماً مستعراً..
إملاء الجو عليه بعبق الموت وروائح الرعب حتى يختنق ويستسلم..
قاتلوهم.. يعذبهم الله بأيديكم وينصركم عليهم.
قاتلوهم.. ولا تأخذكم بهم في دين الله رأفة.
.. إن عدونا جبان رعديد..
إن ما نراه اليوم من غطرسة وانتفاش كالديك.. سببه غياب الصقور من الجو.. إن استئساد الكلب.. سببه غياب الأسد عن عرينه.. من ذئب كاسر، إلى أرنب جبان، يرتعد فرقاً.. ويختفي من طريق الصياد تحت كل جبة شوك، أو نتوء صخر.
ولكن.. كيف السبيل إلى القتال ؟
(ج) هذا السؤال يلح على الأذهان.. وينتظر الإجابة الصريحة.
إن القتال.. واقع لا محالة. هذا أمر تسوقنا إليه الأحداث المتسارعة.. ويفرضه منطق الحياة.. وتؤكده سنن الله في هذا الكون.. ويدل عليه الاستقراء الواعي لأحداث التاريخ.
ولكن.. هل نبقى نحن.. ننتظر المصير بذلة ومهانة.. أن نسابق عمرنا إلى ذلك المصير بكرامة وعزة، فنكسب شرف الفداء، ونغرس في أجيالنا القادمة نبل التضحية، وعظمة النضال من أجل عدالة القضية ؟
إن من واجبنا.. نحن جيل النكبات، أن نسارع لاستباق الأحداث، وفرض القتال على العدو الإسرائيلي في الشروط التي نريدها نحن.. لا أن نترك له فرصة الاستعداد والتدبير، حتى ينقض علينا كالذئب الجائع في ليلة باردة ثم يتركنا في ذهول الحملان.. بعد أن أعملت فيها وثبة الذئب تمزيقاً وتشريداً.
والطريق إلى ذلك واضح..
فالخطوة الأولى على الطريق هي في:
1ـ التخفيف من متع الحياة الرخيصة التي غمرتنا بها المنجزات الحضارية المادية، خلال مدها الطاغي على شرقنا المنكوب.
إن مجتمعاتنا بأشكالها ومحتواها كما هي اليوم.. غير مؤهلة لخوض القتال ـ أي قتال ـ فلا بد من تغيير كبير في ملامح مجتمعاتنا.. في طراز حياتنا.. في طرق تعاملنا.. في نوعية أكلنا وشربنا ولباسنا وسكنانا.. في طرق ثقافتنا ومنابع تعلمنا وتعليم أجيالنا..
إن هذا التغيير المطلوب، لابد آت مهما حاولت قوى التأخير إعاقته عن أخذ مجراه.. لإحداق الانقلاب المطلوب في حياتنا..
إننا على أبواب هذا التغيير الحاسم في صورة مجتمعنا ومحتواه، وإننا لنلمس بوادر هذا التحول.. في أمور أخذت تقع، وظواهر تتكرر كل يوم.. تدل أبلغ الدلالة على التغيير الكبير الذي نحن مقبلون عليه.
ولكن واجبنا نحن.. إن كنا مخلصين لأنفسنا وأولادنا ـ على الأقل ـ أن ندفع بعجلة التطور دفعاً حثيثاً إلى الأمام لنتمكن من دخول السباق مع الزمن، ونتعجل صورة المجتمع المطلوب، المهيأ لخوض القتال الفاصل مع قوى العدو المختلفة.
وكيف ذاك.. وماذا يمكننا أن نعمل لتحقيق التغيير المطلوب بأقل مهلة زمنية ممكنة !
الأمر في غاية البساطة..
لابد لذلك من الكف عن الجري وراء المتع الرخيصة من كل جنس ولون.. وتوفير أثمانها لشراء السلاح والإعداد للحرب. إن مقاطعة الكماليات وأدوات الزينة والأزياء ومجالس اللهو العابث وحانات المجون.. شيء فاصل في دأبنا لتحقيق التغيير المطلوب.
يجب أن يتوقف هذا السباق المجنون للحصول على الثروات وتكديسها في البنوك ـ داخل البلاد وخارجها ـ دونما فائدة نجنيها من تكديسها سوى السماح لقوى خصمنا باستغلالها والإفادة منها في مشاريعه للتقوى على حسابنا.
يجب أن يزول من مجالس سمرنا التفاخر بمقدار الثروات، أو عدد البنايات، أو نوع السيارة أو أثاث البيت ومحتوياته من الرياش والفراش.. ليحل محله الحديث عن الحرب.. عن الفداء. عن فلان الفدائي الذي ذهب من عائلتنا واستشهد في مكان كذا.. عن فلانة المجاهدة التي قدمت من أولادها كذا للقتال ضد اليهود.. عن فلان المجاهد الذي عاد مؤخراً وفي جعبته إثبات بأنه قتل عدد كذا.. من يهود إسرائيل.. هكذا التفاخر وهذا ليكن حديثنا كل يوم.. وكل ساعة، وكل ليلة.
ليكن حديثنا عن أفضل أساليب القتال والنضال ضد العدو الإسرائيلي.. بدلاً من مناقشاتنا حول أفضل السبل لتجميع الثروات وكسب الأرباح الأكثر فحشاً.
هذا التهتك والعرى السافر يجب أن يزول ـ بأي أسلوب ـ ويجب أن يحل محله تفاخر البنات والسيدات بلباس القتال.. وعدد الرمايات.. وإتقان أساليب الإسعافات.. وأفضل السبل لتربية الأبناء كي يشبوا مقاتلين رجالاً.
هذه الصور الفاضحة في صحافتنا للفاجرات الساقطات.. يجب أن تختفي وتحل بدلاً عنها، صور المناضلات بلباس القتال.. أثناء التدريب.. أو في أرض القتال ضد الغزاة.. شرح المعارك الفاصلة في تاريخنا.. الكلام عن أفضل السبل لتحطيم القوة العسكرية المتغطرسة للعدو.
وحتى الطعام والشراب.. يجب أن نتخفف منهما، ونحن على ذلك قادرون، بدلاً من أن تفاجئنا المجاعة ونحن لها غير مستعدين، يجب أن نتخلص من هذا التنوع المضيع للوقت والمال والصحة في الأطعمة والأشربة. فالأمم لا تبني حضارتها على بطون الأكلة المتخمين، بل على عقول المفكرين ـ ومنهم من يقضي أياماً ناسياً طعامه وشرابه ـ وعلى سواعد العاملين الجبارين الذين يأكلون ما خف من الطعام.. على الماشي دون إضاعة الوقت.
لقد أثبتت لنا حرب فيتنام أن مجد الأمم، يمكن، بل غالباً ما يبنى على أجساد المناضلين النحيلة، الغائرة عيونها من الجوع.. إن أجدادنا كانوا في معاركهم الفاصلة يقتسمون حبة التمر الواحدة بين اثنين أو أكثر من المقاتلين.. ولم يهزموا ويتوقف زحفهم ومدهم إلا حين أثقلهم المتاع، وملأ بطونهم اللذيذ من الطعام والفاخر من الشراب.
إن بلادنا واسعة.. وخيرة.. ويمكنها أن تنتج لنا من الفول والعدس والقمح والشعير ما يكفي لإطعام الملايين المتعاقبة من المجاهدين الذين يجب أن يتدفقوا على أرضنا للإسهام في شرف تخليص الأرض المقدسة من أعداء الله والإنسان.
مثل هذه الأمور.. لابد أن تحصل، وفي في متناول أيدينا، ليست خيالاً، ولا حلماً في ساعة شرود الذهن، إنها واقع يمكن تحقيقه، ويمكن من خلاله تمحيص نفوسنا وتهيئتها لدورها التاريخي الفاصل.
إن هذه الأمور وأمثالها.. لا تحتاج لجهد حتى يتم تحقيقها.. أمور ممكنة.. تسوق هي بدورها نحو مراحل أعلى وأفضل.. من التغير الجذري الفعال.. حتى تختفي الصورة الحالية الممسوخة لمجتمعاتنا.. وتحل مكانها الصورة المنشودة.. المجتمع الحر، المقاتل.. الذي يجود كل يوم بوجبات تلو الوجبات، يدفعها إلى ميدان القتال.. لتحرير الأرض، وسقيها بالدم الطهور.
إن البداية في طريق التغيير.. لا تحتاج إلى مقدار بسيط من إرادة التغيير.. والقدرة على التضحية بمقدار ممكن، من متع اليوم.. ورفاهية اليوم.. من أجل مستقبل مضمون، إن لم يكن لنا فلأجيالنا.. ويبقى لنا نحن طيب الذكرى.. وحسن المثوبة على مقدار إخلاص النية.
2ـ والخطوة الثانية التي يجب أن نخطوها منذ الآن ـ دونما فارق بينها وبين الأولى ـ هي الحصول على السلاح.
ليبذل كل منا ما عنده.. ليشتري سلاحاً أو أكثر يستعد به لليوم الفاصل.
أيها الناس.. تبينوا مواقع أقدامكم.. واعرفوا أين أنتم سائرون.
في الإسلام.. الخطأ والجريمة أن يترك المؤمن سلاحه.. فالسلاح جزء من جسد المؤمن.. لا ينفصل عنه إلا بالموت.
(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) .
(1).. أما يكفي من تحذير ؟؟
.. نحن في الربع الأخير.. فقدنا روح القتال.. فقدنا حبنا وشوقنا للسلاح.. استمرأنا حياة الذل المرفهة الطرية.. فتنا في السيارة والشقة الفاخرة والأثاث الأنيق والديكور الفاتن..
أضعنا وقتنا في التدريب على الرقص والتزلج واستخدام البيانو والكمان بدلاً من التدريب على القتال وإتقان استخدام السلاح.
حتى الرياضة، ملنا عن الأنواع القاسية العنيفة منها، التي تربي روح الرجولة والإقدام، وزاد اهتمامنا بالرياضات الطرية اللطيفة مثل كرة الطاولة وكرة الريشة والبولنج.. إلخ.
لنعد إلى السلاح.. إلى المصارعة.. إلى القتال الوحشي.. إلى تسلق الجبال، إلى المشي والجري الطويل.. إلى الفروسية ومباريات الرماية.. إلى كل ما من شأنه أن يبعث الرجولة النائمة في النفوس..
ولا نسأل من أين يأتينا السلاح ؟
إن إرادة الحصول عليه.. والإصرار على نيله.. كفيلان بتذليل كل عقبة تعترض ذاك السعي. مصادر السلاح أكثر من أن تحصى..
إن سلاحاً واحداً في يد قادر على استخدامه.. مصمم على الدفاع عن بيته ـ على الأقل ـ ليعدل كل ما الأرض..
.. إن البنايات الفاخرة الضخمة.. المتعالية بأبراجها تطاول السحاب لهي أعجز من أن تدافع عن نفسها ضد رجل واحد يحمل السلاح ويتقن استخدامه.
لن تنفعنا القصور.. ولن تزيدنا الأبنية الكبيرة.. والأثاث الفاخر إلا تثاقلاً إلى الأرض.. وعجزاً عن الهبوب كالبركان للدفاع عنها.. وعما هو أغلى منها وأبهظ أثماناً.
إن الموائد العامرة.. والأطعمة المثقلة بكل أنواع اللذة.. لا تحتفظ برونقها إلا مقدار ساعة أو ساعتين.. ثم تمضي في طريقها.. لتصبح فضلات ترمى في أحط الأماكن وأقذرها.. بينما يعيش السلاح ويحتفظ برونقه وقيمته وجدواه عشرات السنين.. مادامت تمسك به يد بطاشة تحركها قلب مؤمن جسور..
وبعد شراء السلاح.. لنتدرب على إتقان استخدامه.. أينما كان.. وكيفما استطعنا.. في البيت.. في الحقل.. في الجبل والوادي.. في كل مكان.. لابد من إتقان استعماله ليعطينا المردود الأكبر من رؤوس اليهود الغزاة في فلسطين.
ولئن سأل سائل.. ماذا يمكن أن يصنع المسدس أو البارود.. تجاه المدفع أو الطائرة المزودة بالصواريخ.. فنحن نجيب عندها.. أن على السائل أن يعود إلى تاريخ العلاقات بين العرب وإسرائيل منذ عام 1938 وحتى حزيران العار في عام 1967.. ثم لينظر إلى العلاقات بينهما منذ وقف النار عقب الحرب المسرحية وحتى اليوم.. وعندها نحن نسأل:
ماذا وجدت ؟
ماذا فعلت الطائرات لدى العرب مقابل الطائرات لدى العدو ؟
ماذا أجدت الدبابات لدى العرب تجاه الدبابات لدى العدو ؟
لقد كنا نملك أحدث السلاح وأفتكه.. أسرع الطائرات وأكثرها مرونة.. أدق المدفعية وأبعدها مدى.. أثقل الدبابات وأكثرها مرونة وقدرة على المناورة.. حتى الصواريخ.. أدق أجهزة اللاسلكي.. لقد كنا ـ على الأقل ـ نعدل عدونا بالتسليح.. إن لم نكن نفوقه، فماذا فعلنا ؟..
العدو تفوق علينا بما هو وحده الكفيل بكسب الحروب ـ حتى في حالة عدم التكافؤ القوى ـ الإيمان .. والتصميم.
إرادة القتال.. إرادة النصر.. العزيمة الثابتة التي جعلت العدو لا يضيع لحظة من الوقت دون جدوى.. الإخلاص الدقيق لقضية، ما جعله يستفيد من كل إمكانية تحت تصرفه مهما تفهت وصغرت.. لكسب الحرب.. لم يك أحد يتصور أن تنطلق الطائرات في رحلة كسب الحرب منذ ساعتها الأولى من على الطرق (الأوتوستراد) وليس من على مهابطها في المطارات.
لم يك أحد يتصور ـ حتى القادة الكبار وقد اعترفوا بذلك ـ أن تأتي الطائرات من الغرب.. بدل أن تأتي من الشرق.
وبعد حزيران العار.. ؟ وبعد أن قبعت الجيوش (القوية الهادرة.. الأقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط.. إلخ) في مخابئها تلعق جراحها وتعيد لم شعثها.. وتلملم ثوب الهزيمة الذي جاء أكبر منها فبدا فضفاضاً عليها.. برز في الأرض عمالقة حقيقيون.. رجال ولا كل الرجال مجموعات صغيرة ـ وصغيرة جداً إذا قيست إلى الجيوش المهزومة ـ ولكنها زمر من الجن.. برزت وحدها في الميدان.. تقول لجيش الغزو السكران بخمرة الانتصار.. جاء دورنا.. فتعال نناقشك الحساب.
مجموعة بسيطة.. صغيرة.. ضعيفة في السلاح.. لا تملك منه إلا المسدسات والبنادق وبعض الرشاشات.. صفعت الجيش السكران.. وجعلته يصحو مذهولاً لجرأتها.. ويستجمع كل قواه ليستأصلها.. ويعود إلى الخمارة.. يتابع الاستمتاع بنشوة النصر.. فماذا كان ؟
خمسة عشر ألفاً من الجنود.. المدربين.. الخارجين حديثاً من انتصار ساحق فاجع.. المدعمين بكل أنواع السلاح الآلي الثقيل.. تقدموا ليؤدبوا أولئك (المخربين) ـ كما سمتهم دولة البغي ـ فتلقوا الرد المذهل..
بضع مئات فقط من الرجال الذين قرروا أن يموتوا.. فعاشوا وأحيوا شرف هذه الأمة بعد أن كاد يموت تحت أقدام الغزاة.. وردوا الجيش المنتصر.. إلى مواقعه مهزوماً.. مثل كلب ضخم.. مزقت لحمه هرة تنمرت دفاعاً عن صغارها.. فعاد يلعق جراحه.. ويفكر بحيرة.. كيف لها أن تنال منه ؟
هل نحتاج إلى شواهد أخرى مازلنا نعيشها ونتحسس أخبارها مع كل نشرة أخبار؟
هذه فيتنام.. وتلك باكستان بالأمس القريب.. وقبلها كانت الجزائر.. وكلما توغلنا في التاريخ.. عثرنا على أمثولات أكثر.. ونماذج في مثل الروعة ذاتها.. وعلى المستوى نفسه من عظمة التضحية وفعالية التصميم القادر على انتزاع النصر.
3ـ وبعد ذلك.. بعد أن نبدأ في طريق التغيير ونسعى لإحداثه.. وبعد أن نتسلح ونتدرب.. ننتقل إلى المرحلة الأخيرة من رحلة التغيير.. رحلة التاريخ لعبور الهوة التي تفصلنا عن مكاننا الطبيعي تحت الشمس.. بعد ذلك ننتقل إلى القتال.. إلى ميادينه الحقيقية في هضبة الجولان، وعلى ربى القدس الشريف، في بطاح حطين.. في رحاب المسجد الأقصى وعلى ذرى الجليل.. وعلى سواحل عكا وحيفا ويافا وغزة ورفح.. وعلى طول شاطئ قناة السويس، وعند سفوح الطور، وفي متاهات سيناء والنقب.
ننتقل إلى أرض الشرف والفداء.. وحداناً ومجموعات.. نشد أزر الذين سبقونا إلى ذلك الفضل، ونلحق بالركب المتقدم في دروب البطولة.. ونفتح الباب أوسع، ونمهد الطريق لمن سيأتي بعدنا.. ليسهم في دوره، وينال حصته من شرف التحرير.
نعم ‍‍‍!.. إلى هناك.. إلى حيث تقوم في كل شبر من الأرض إمكانية الصدام.. وعلى كل ربوة تبرز فرصة الصمود ومع كل منخفض في الأرض، يتسع المجال للتسلل في كل وقت.. إلى معاقل العدو.. ومواقع قوته، ومراكز تجمع وحداته.. نصليها حامي النيران.. ونزرع الذعر في القلوب الواجفة، ونفقأ الأعين المسمرة من الخوف والرعب.. ونفرض إرادتنا.. على السكارى الغزاة.. وننتزع منهم الأرض والسلاح المال..
ونردهم إلى مواقعهم أذلة خائبين.. أو نقبل ـ بكرم منا وتفضل ـ أن يعيشوا بيننا مسالمين..
عمومية القضية:
وليس من حق أحد أن يعترض سبيل غيره.. الذاهب إلى أرض القتال. وليس أحد أقدر من سواه بالتصدي لمهمة التحرير.. بل هو واجب الجميع.. وعبء على الجميع.. والشرف فيه من حق كل من شارك في إشعال نار الحرب المقدسة أو تأجيجها.
لتتحرك إلى هناك جميع العقائد.. جميع الأفكار والفلسفات.. جميع النظريات والمناهج المتعلقة بمستقبل الأرض وشكل الحكم ونوعية المجتمع الجديد.
لا بأس.. ومن حق كل منا أن يتخذ ميدان الصراع، فرصة لإثبات أفضلية ما يؤدي به.. وقدرته على الصمود وانتزاع النصر..
الجميع يجب أن يتحركوا.. وهناك.. تحت شمس الصيف اللاهبة في وديان فلسطين وصحراء سيناء.. وفي مهب الريح العاصفة وبرد الذرى وثلوج القنيطرة.. وعلى اللهب المتصاعد من فوهات الأسلحة.. وفي حر النيران المنبعثة مع كل صدام.. ستمتحن العقائد.. وتختبر النظريات والفلسفات.. وتبرز قيمة الأفضل والأكثر قدرة على الصمود.. تماماً.. كما يفتن الذهب بالنار.. فكلما ارتفعت حرارة نار الفتنة.. احترقت الأدران والأوساخ التي علقت بالذهب.. حتى يبرز وحده متوهجاً صافياً كصفاء اللهيب الذي أبرزه وأتاح له فرصة التحرر والظهور.
والفئات الوحيدة في مراحل الصراع المتعاقبة.. التي تستحق السحق والتصفية.. هي الفئات المعوقة.. التي لا هم لها إلا أن يكون الجميع جبناء.. ليتساووا معها ويضيع خزيها وعارها بين جموع المتخاذلين.
إن كل صيحة أو صوت أو قلم أو يد تتحرك لتحاول وقف زحف الجموع نحو ميادين القتال.. إن هي إلا جيوب من بقايا التخلف، يجب إزالتها من الطريق.. ليتسنى لمسيرة الحرب أن تتابع تقدمها بتسارع مستمر لا يتوقف إلا عند استسلام المؤسسات السياسية والعسكرية لدولة العدو.. وتصفيتها لحساب عودة الأرض إلينا بلا قيد ولا شرط.. وحماية ذاك النصر عندما نحصل عليه من كل عدو آخر قد تحركه أطماعه ليجرب حظه معنا..
(د) وأمر رابع وأخير.. نحب التأكيد عليه، وإبرازه لكل ذي بصيرة وهو.. عمومية القضية.. وشمولها حتى تحيط المسئولية عنها كل العرب.. وكل المسلمين من ورائهم.
وإننا في هذا المجال، لنعلن بكل وضوح، ونصرخ بأعلى أصواتنا أن القضية ليست مقصورة على أهل فلسطين وحدهم.. وأن كل ما نراه اليوم من خطوات.. أو نسمعه من دعوات تهدف إلى إلقاء العبء كله على الفلسطينيين والتنصل من مسئولية البذل لانتزاع الحق الغصيب.. إنما هي خطوات ودعوات.. على الأقل خاطئة يجب على أصحابها أن يسحبوها بهدوء.. قبل أن تستبقهم تعقيدات القضية المتزايدة.. وموجات القتال المتصاعدة.. فتكشف خبث النوايا إن وجدت ـ وهي موجودة ـ وزيغ هذه الدعوات عن جوهر القضية الحقيقي..
المحاولات التي بدأت منذ الدعوة إلى مؤتمر القمة الأول في 13/1/1963.. للتنصل من مسئولية القضية.. وحصرها في الفلسطينيين وحدهم في محاولة لعزلهم ووضعهم وحيدين في مواجهة العدو.. في ظروف هي أشبه ما تكون بترك الحمل الصغير في مواجهة الذئب الجائع.. هذه المحاولات وكل ما يرافقها من تصريحات وحملات ممسوخة.. يجب أن تتوقف وتختفي إلى الأبد.. ويكسب أصحابها (شرفهم) قبل أن تكشف نيران الحرب.. لؤم المخطط الذي ينفذون.. وعندها لن يجدوا من يصون لهم (شرفهم) أبداً.
.. ولقد دخل اليوم عامل جديد.. واتسعت القضية أكثر فلم تعد فلسطين وحدها.. بل أصبحت قضية التحرير تغطي أجزاء جديدة من الأرض.. أرض سورية والأردن ومصر.. في الجولان والضفة الغربية وسيناء.
فإذا كان العملاء الاستسلاميون.. يريدون سلخ القضية عن إطارها الحقيقي، وحصرها في حدود الشعب الفلسطيني المشرد المنكوب.. فماذا سيفعلون في قضية الجولان والضفة الغربية وسيناء ؟
هل سيعزلون الشعوب السوري والأردني والمصري كلاً على حدة في مواجهة الغرباء المحتلين ؟؟
وحتى إن حدث هذا.. أفلا تقود وحدة الهدف لدى الشعوب الأربعة (.. هذا إن جاز لنا الاعتراف بهذه التجزئة.. ونحن نرفضها ونحاربها أشد الحرب).. إلى توحيد الجهود.. والانطلاق بقوة موحدة لتحقيق الهدف الأكبر.. هدف التحرير؟
ألم تتحد شعوب أوروبا كلها ـ على ما بينها من تناقضات وخلافات.. بل وعداوات.. ضد نابليون حتى أوقفت زحفه وأنهت خطره عليها ؟
ألم تتحد الشعوب نفسها مرتين في النصف الأول من هذا القرن، للوقوف في وجه ألمانيا.. في حربين عالميتين ؟.. كيف يكون ذاك من حق غيرنا.. ولا يكون من حقنا؟
.. أوليست فرصة لنا أن نحقق مجدداً لقاء المصير الواحد.. على أرض القتال.. ليعود الدم مرة أخرى عامل توحيد وربط وثيق.. ماسحاً عار الخلافات والتجزئة المفتعلة.. بعيداً عن لعبة المظاهر من قوانين ودساتير وألوان متغيرة لأنظمة الحكم ؟؟
أولا تكفي هذه الضربات المتعاقبة.. التي يوزعها العدو على الدول المجاورة.. لتقنع الذين لم يحسوا بالخطر بعد أن بدأ هذا الخطر يتهددهم.. أينما وجدوا ؟
إن الخطر واحد.. يواجهه الذين لم يحسوا لفحه بعد.. كما واجهه قبلهم أبناء النكبات..
وإن القضية واحدة.. لكل الذين يواجههم ذلك الخطر.. أحسوا بمره أم لم يحسوا بعد..
إن القضية هي ملك لنا جميعاً.. واجب علينا جميعاً حملها وأداؤها ما تستحق من بذل وتضحيات..
إن فلسطين هي ملك لنا.. كلنا.. نحن العرب.. ونحن المسلمين.
إن فلسطين هي ملك لأبناء القاهرة ودمشق وصنعاء.. والجزائر.. وكل الأرض العربية.. بمقدار ما هي ملك لأبناء حيفا ويافا والقدس وصفد وكل فلسطين.
وإن فلسطين هي قضية كل المسلمين.. أتراكهم وأكرادهم وهنودهم وصينيوهم.. شرقيهم وغربيهم.. شماليهم وجنوبيهم.. بمقدار ما هي قضية العرب.. سوريهم وفلسطينهم، يمنيهم وجزائريهم.. وكل العرب.. من المحيط إلى الخليج.
إن الفلسطينيين هم مليونان من 600 مليون ـ إن لم يكونوا أكثر ـ هم أصحاب القضية الحقيقيون.. وهم المسئولون جميعاً أمام الله عن كل تقصير في حقها.. وكل تأخير في انتزاعها من الغرباء الذين سرقوها.. وردهم إلى حيث جاءوا..
إن ما يميز الفلسطينيين عن باقي حملة مسئولية التحرير.. هو ضخامة العبء الذي وقع على أكتافهم.. في بعث روح الاستشهاد، وتقديم الدفعات الأولى من وقود الحرب.. لتساهم في تسعير نارها.. وإنضاج روح المواجهة لدى المستسلمين الغافلين.
إن الدور الذي يجب أن يلعبه أبناء فلسطين.. إنما هو دور أهل بدر الذين وقفوا في وجه العدو العاتي ووجهوا إليه أول ضربة محكمة أصابت منه مقتلاً.. فزلزلوا كيانه.. ومرغوا كرامته.. وأفقدوه توازنه فارتد من حيث أتى.. كالثور الجريح.. ومهدوا ببطولتهم الطريق أمام الجموع المترددة لتتجمع وتنطلق فيما بعد كالأمواج.. في رحلة النصر الكبرى.. يوم الفتح.
فليهنأ الفلسطينيون بهذا الشرف الكريم الرفيع.. الذي منحهم الله.. تعويضاً لهم عما فقدوه من ضحايا وممتلكات.. وليس لأحد أن يشاركهم فيه.. إلا أن يعيش معهم.. معارك التحرير.. وقتالها المرير.. في مهمة انتزاع النصر.. وإثبات الأحقية في الحياة بين الشعوب.


ـ 3 ـ
الرأي العام العالمي
(.. يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون).
(آل عمران 167)
يحسبون حسابه...
ويخشون غضبه...
ويأملون على يديه الخير ؟!
خداع للنفس، وتضليل فاجر، ومكر السيء،
لصرف أنظار المتلهفين للحرب، عن مواقفهم الجبانة..
وخطواتهم نحو الاستسلام الذليل الخنوع..
ولهؤلاء.. والذين يقتنعون معهم، نقول: ومن هو الرأي العام العالمي ؟ وأية قوة هي الرأي العام هذا.. وماذا حققنا من احترام لأنفسنا عنده لمواقفنا الاستسلامية.. من خلال ادعائنا احترامه ؟؟
هل المقصود بالرأي العام العالمي.. حكومات الدول المنتشرة في بقاع المعمورة.. وممثليها في منظمة الأمم المتحدة وما يتفرع عنها من مكاتب وهيئات ؟
إن كان هذا هو الرأي العام العالمي.. الذي تحترمون، فهل نسيتم أن كل حكومات هذه البلدان، هي ألعوبة بيد اليهود وأن كل منظمة الأمم المتحدة بفروعها ووكالاتها هي في إصبع اليهودية العالمية مثل خاتم سليمان .
ورد في بروتوكولات حكماء صهيون: (وحين تقف حكومة من الحكومات موقف المعارضة لنا في الوقت الحاضر، فإنما ذلك أمر صوري، متخذ بكامل معرفتنا ورضانا) .
(.. وإنني أستطيع في ثقة أن أصرح اليوم، بأننا أصحاب التشريع، وإننا المتسلطون في الحكم، والمقررون للعقوبات، وإننا نقضي بإعدام من نشاء ونعفو عمن نشاء، ونحن ـ كما هو الواقع ـ أولو الأمر الأعلون في كل الجيوش، الراكبون رؤوسها، ونحن نحكم بالقوة القاهرة، لأنه لاتزال بأيدينا الفلول الني كانت الحزب القومي من قبل، وهي الآن خاضعة لسلطاننا) .
أوليس هذا كافياً لأن نقتنع بأن الرأي العام العالمي.. أضحوكة ومهزلة يضحكون بها على عقول الأغبياء ؟ أو.. كما يسمونهم في بروتوكولاتهم: (العميان) ؟؟
وأما إن كان الرأي العام العالمي.. الذي تحترمون وتجلون.. هو شعوب تلك الحكومات.. فالأمر هنا مختلف. وأن الشعوب.. لم تحترمنا طيلة عشرين عاماً من العمل الدعائي والعسكري والسياسي.. لسبب واحد بسيط، إننا مهازيل ضعفاء.
عشرون عاماً مضت.. كنا في نظر الشعوب، عملاقاً من قش، يترنح لأدنى ضربة.. وتعبث في رأسه صغار العصافير.. فتثير عليه سخرية العقبان والنسور.
حتى كانت الحرب.. يوم حزيران العار.. وثبت للرأي العام العالمي هذا.. أننا حقاً عملاق من قش.. فازداد احتقارهم لنا.. وجرحت قلوبنا نظرات الشماتة.. أكثر مما جرحتها أسلحة الاحتلال.
الذين يزورون أوروبا وأمريكا بعد حزيران العار.. شاهدوا كثيراً من الفنادق والمطاعم والمحلات العامة.. كتب عليها لافتات تقول: (لا مكان للعرب والكلاب.. ممنوع دخول العرب واصطحاب الكلاب.. إلخ). وحتى الذين تربطهم ببعض العرب صداقات أو مصالح عميقة يصعب عليهم التخلي عنها دفعة واحدة.. أمثل هؤلاء.. كانوا يسألون الأصدقاء بحرارة فيها روح السخرية والشماتة:
(لم لم تصمدوا أكثر من ـ 72 ـ ساعة.. ؟ إننا نعلم أن لديكم أسلحة كافية للصمود.. كيف يمكن لمليونين أن يتغلبوا عليكم وأنتم مائة مليون.. ؟).
كيف؟ ولماذا؟ وهل؟ وأليس؟ وألم يكن من الممكن.. إلخ من عبارات الحسرة، مشوبة بالسخرية المريرة.. تنطلق بها الحناجر في كل بقاع الأرض.. تعبيراً عن الدهشة، أو الشماتة، أو الحسرة، أو الاستهزاء.. وكل المشاعر التي يمكن أن يحظى بها الضعيف.. من أمثاله الضعفاء أو أعدائه الأقوياء.
.. حتى جاءت قلة من الرجال ـ وما أقل الرجال ـ وصمدت.. ووجهت إلى السكران المخمور ضربات ملؤها العزة والعنف.. فأذهلته.. وأفقدته توازنه.. وطاش صوابه.. واندفع كالكلب المسعور.. يعض هنا وهناك دونما بصيرة وتمييز إن كان يعض خصومه أم نفسه.
وتغير موقف الرأي العام هذا.. وبدأت نظرات الإعجاب.. فعباراته فالمقالات في أكبر صحف أوروبا وأمريكا وعلى لسان مشاهير تلك البلدان.. تشيد بالرجال.. وتدين العدو المخمور..
ومن الذي غير الموقف؟ أجهزة الإعلام الرسمية، أم جهود السفارات الموزعة هناك؟
أبداً.. إن الذي غير الموقف.. هو ممارسة الرجال ورجولتهم في أسمى صورة لها: الفداء.
إن الشعوب.. كل الشعوب.. تحترم الأقوياء، تحب الشجعان البطاشين ـ حتى ولو كانوا ظلمة ـ إن إنسان القرن العشرين.. الذي مسخته الحضارة وأذابته الرفاهية.. ليحترم البطولة حتى ولو تمثلت في شخص مجرم.
شعوب العالم مستعدة للوقوف إلى جانب القوي القادر على انتزاع حقه.. مهما كانت الصورة التي يمارس بها انتزاع هذا الحق.. ومهما بلغت من القسوة والعنف والضراوة.. بل.. كلما ازدادت الضراوة.. ازداد إعجاب الشعوب بها.. وتقديسهم لها..
فهلا كنا أقوياء.. ضواري في استرداد حقنا.. لنحقق لأنفسنا أعمق إعجاب لدى الشعوب.. وأبلغ احترام عندها ؟
وثمة أمر آخر.. نستطيع به كسب احترام الرأي العام العالمي.. ووقوفه معنا.. وتأييده حقنا.. إن نحن أفلحنا في تحقيق هذا الأمر.
إن من المقطوع به أن اليهود يشكلون خطراً على كل شعوب الأرض وأن مؤامرتهم للتحكم في العالم كله أصبحت معروفة لكل ذي بصر.. وعقل.
وأن المقطوع به أن شعوب العالم.. وبالذات أوروبا وأمريكا.. غافلة كل الغفلة عن هذه المؤامرة.. لشدة ما سيطرت الدعاية اليهودية على كل وسائل النشر والإعلام.. في تلك البلدان.
فالوجه الآخر إذن لحربنا مع العدو.. والذي لا يقل أهمية وخطورة عن القتال.. هو في إقناع العالم بهذا الخطر وجعل الشعوب تحس به وتتحرك لوقف زحفه وتقليص امتداده.. حتى يسهل استئصاله.. وإبادته.
المهم في الأمر.. أن نعرف كيف نشرح للمواطن في كل دول العالم.. وخاصة العالم الغربي (رأسماليه وشيوعيه).. الخطر المحدق به.. ماذا يفعل اليهود.. وما ينوون فعله لتمزيق العالم والسيطرة عليه.
يجب أن ندفع الإنسان العادي.. هناك.. للتحرك دفاعاً عن نفسه ودفاعاً عن مستقبل أولاده.. لا دفاعاً عن حقنا نحن..
إننا لو بقينا نصرخ حتى تتجرح حلوقنا وتتورم حناجرنا.. فلن نستطيع تحريك ضمير الإنسان الغربي للدفاع عن حقنا هكذا .. لله فقط.. ودفاعاً عن المظلومين !!
أبداً.. إن هذا غير ممكن.
الممكن فقط.. هو تحويل اتجاه الحرب الإعلامية مع العدو.. وتركيز العمل على نقطة الحساسية لدى كل إنسان.. مطلق إنسان.. الخوف على مستقبله ومستقبل أولاده.. ثم دفعه للدفاع عن ذلك المستقبل.. بكل سلاح ممكن.
والسبيل إلى ذلك.. هو كشف مؤامرات اليهود على العالم.
إلقاء الضوء على دسهم المتواصل.. لإيقاع العداوات بين الدول.. وتوريطها بالحروب لإنهاك قواها وإجبارها على الاستسلام للجلادين.. اليهود.
تبصير المواطن هناك.. بدور اليهود في تحطيم كل القيم التي كان يجب أن تستمر.. لتصون وحدة الشعوب في وجه مؤامراتهم ومكايدهم التي لا تعرف الرحمة.
إقناع الإنسان هناك.. بأن ما ورد في بروتوكولات حكماء العدو.. هو فعلاً ما يقومون بتطبيقه في كل الأرض.
سيطرتهم على المال.. تشويههم للعلم.. تحطيم القيم والروابط المقدسة.. إنهاك الإنسان يومياً في الجري وراء لقمة العيش.. سيطرتهم على الصحافة وتشويههم لواجبها في نشر الحق..
دورهم في نشر المبادئ الهدامة والنظريات العلمية الباطلة، لتحطيم العقل الإنساني.. وشله عن الوصول إلى الحقائق العلمية الثابتة.. ماذا نقول بعد ذلك.. إن الحديث ليطول.. ولكن، الواجب الكبير الآن.. أن تؤلف لجان في الدول العربية.. تضم مختلف الاختصاصات.. وتعكف على دراسة كل ما خططه اليهود.. حسبما ورد في مخططهم الذي أسموه بالبروتوكولات.. ثم نشر ذلك مدعماً بالبيانات والوقائع والوثائق الممكنة.. لإقناع الإنسان هناك.. بحقيقة المؤامرة.. فيشعر بالخطر يتهدده، ومن ثم يتحرك ليضربه ويشل أيديه المخربة..
إننا إذا نجحنا في هذا الاتجاه.. نكون قد خطونا أشواطاً واسعة جداً في مراحل نضالنا ضد عدونا.. ونستطيع بذلك أن نختصر عشرات من سني المجابهة المريرة.. لأننا إذا نجحنا بهذا العمل.. سنكسب قوى جديدة تتحرك في الأجزاء الهامة القوية من العالم.. لتضرب احتياطات عدونا.. وتعزله عن معين امداداته الخطيرة..
وحتى إذا لم ننجح في تحريك القوى الأخرى ضد عدونا.. وأنا أرجح أن النجاح ممكن إن نحن أحسنا العمل وواصلناه بصبر وأمانة، فإننا على الأقل سننجح في شل قدرة العدو على تحريك تلك القوى لتقف معه ضدنا.. وهذا وحده إن حصل، لهو نصر رائع وجهد كبير.
هكذا.. نستطيع كسب احترام الرأي العام العالمي.
بالقتال أولاً.. وتحقيق البطولات التي يتعطش لرؤيتها إنسان القرن العشرين.
وبالعمل الإعلامي الكبير ثانياً.. لإقناع الإنسان الآخر في العالم.. بأن الخطر يتهدده هو.. في بيته وبلده ومستقبله وأولاده.. وإننا بدفاعنا عن أرضنا إنما ندافع عنه أيضاً.. لنحميه ونصون الإنسانية كلها من شرور المؤامرة اليهودية العالمية.. إنه لعبء كبير.. وواجب خطير جداً في حربنا مع العدو.
ولقد تصدى رجال الفداء للشق الأول من هذا العبء..
فهلا تصدت الحكومات والمؤسسات الرسمية للشق الثاني من هذا العمل الكبير.. إن كانت غير قادرة على مبادرة القتال.. وإن كان مازال فيها بقية من خير ؟












ـ 4 ـ
السلام العالمي000
(فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم، وأنتم الأعلون،
والله معكم ولن يتركم أعمالكم).
(سورة محمد 35)
ومسخرة أخرى.. يحاول بها دعاة الاستسلام،
تخدير الشعوب، وتثبيط عزائمها عن الانطلاق إلى
مجالات حيويتها وفاعليتها.. ميادين القتال. وهم
يصوغون حجتهم تلك.. في تسلسل غريب، كالآتي:
1ـ اليهود شعب متغلغل في اكثر دول العالم ومتمكن من السيطرة على أجهزة القيادة وخاصة الدول الكبيرة.
2ـ وتبعاً لذلك.. فإن هذه الدول ـ وتحت تأثير السيطرة اليهودية الخفية ـ لن تسمح بإبادة اليهود.
3ـ .. وإذا تحركت دولة ما لتمارس هذه الإبادة.. فإن القوى الكبيرة أو بعضها ستتدخل ضدها.
ويختمون المناقشة الانهزامية، بالجملة التقليدية.. (وطبعاً.. لسنا قادرين على احتمال تحركات القوى الكبرى ضدنا..)
حجة غريبة في تسلسل أغرب.. يقود إلى نتيجة أكثر غرابة.. يمارسها فكر انهزامي تحركه نفوس عاجزة حتى عن مجرد التفكير بإمكانية المواجهة.
1ـ فمن حيث تغلغل اليهود في مختلف الشعوب، وتسلطهم على مواقع السلطة ومرتكزات القوة في المعسكرات الكبيرة.. هذا صحيح..
ولكن.. لماذا يقولون هذه الحقيقة لنا.. نحن وحدنا الذين نريد انتزاع حقنا.. ولا تقال هذه الحقيقة نفسها.. إلى تلك الشعوب.. لتتبين هي أيضاً جيوب الخطر الكامنة في كيانها.. وتبادر إلى تصفيتها ؟ فتريحنا من شرورها ؟
أوليس من الأجدى لنا.. ولكل الشعوب، أن نقوم بدور المنبه نحو ذاك الخطر ونكشف للشعوب الأخرى، ما نراه خطراً علينا وعليها ؟
ما الذي يشل قدرتنا على التحرك في هذا الاتجاه، سوى عداوتنا لأنفسنا.. من خلال ممارستنا للسلبية المفرطة تجاه كل وضع يشكل خطراً علينا ؟؟
هذه واحدة.. لا نبغي الإطالة فيها.. فلقد حاولنا أن نفيها حقها في صفحات سابقة.
2ـ والثانية.. وهي الأخطر..
فلقد وضعت نتيجة مغلوطة.. لافتراض خاطئ من أساسه..
الدول، وخاصة الكبرى.. لن تسمح بإبادة اليهود في فلسطين.
ولكن من قال إننا نريد إبادة اليهود..فقط لأنهم مجرد يهود ؟
هل نحن بحاجة للتذكير مرة أخرى بإننا نريد استرجاع حقنا.. وأن ذلك لن يتاح لنا إلا بتصفية كل المؤسسات العسكرية والسياسية (وتوابعها) للكيان الإسرائيلي الذي تمركز على أرضنا دخيلاً غريباً.. بعد أن استأصل منها شعبها الأصيل.. واقتلعه من جذوره، بكل ألوان التنكيل الإرهاب.. وحتى الإبادة الجماعية..
الذي نريده.. هو زوال ذلك الكيان الدخيل.. ولهذه الغاية.. علينا أن نبيد ـ نعم نبيد بكل وسائل الإبادة ـ كل من يقف في طريقنا.. مهما كانت صفته أو لونه أو جنسه أو دينه.
وأما اليهود.. الذين يقفون مسالمين.. بعيدين عن الوقوف ضدنا في هذا الصراع.. فهؤلاء مقامهم يبقى كريماً.. وحقهم يبقى مصوناً.. بل، ونحن مسؤولون عن حمايتهم ضد كل من يحاول زجهم في حمأة الصراع هذا..
نعم.. هذا ما يأمرنا به ديننا.. وهذا ما نصر عليه الآن., ونعتبر أن كل دعوة لتغيير هذا المفهوم.. إنما هي لخدمة العدو، والكيد لحركة التحرير.
3ـ والثالثة.. وهي التي لا حل لها إلا بانحلال واضمحلال النفسية المريضة العاجزة التي تنز بذلك الفكر الجبان. فالقتال يجب أن يقع.. ويستمر ويتوسع ويتصاعد حتى يشمل كل شبر تبقى عليه سيطرة لذلك الكيان الغريب الدخيل.. ولترتفع روح المجابهة وإرادة الصدام، حتى في وجه القوى التي ستحاول حماية كيان إسرائيل.. مهما كانت كبرى أو صغرى.. ولنا من تأييد الله لنا وشموخ عقيدتنا.. ومشروعية مطلبنا واتساع أرضنا.. وضخامة الطاقات المختزنة فينا ولدينا.. ما هو كفيل بتحقيق النصر لنا ولنا وحدنا.. مهما طالت الحرب.. ومهما كبرت التضحيات، إن نحن أردنا النصر، وسعينا له سعيه الجاد الدؤوب.
ثم نحن لا نطالب الدول ذات الارتباطات والاتفاقات والمعاهدات الظاهرة والمستترة.. بأن تقدم على هذا العمل.. أبداً.
نحن نطالب الشعوب.. الحرة من كل ارتباطات واتفاقات ومعاهدات ظاهرة أو مستترة.
الشعوب التي لا تعترف بأية ارتباطات تقف ضد سعيها لنيل حقها.. هذه الشعوب هي المطالبة بالتحرك لإزالة الخطر.. ونحن لم نأمل في يوم من الأيام..أن يأتي النصر إلا على أيدي هذه الشعوب.. وبسبب من نضالها وتضحياتها.. بعيداً عن أية ارتباطات سوى ارتباط التحرير.. وانتزاع الحقوق المسروقة في غفلة من غفلات الأيام.. حتى ولو كان ثمن ذلك، جبالاً من الجثث.. وأنهاراً من الدم.
هذا جانب من البحث أردنا أن نرد حجج الانهزاميين.. وتأجيج روح الصدام فتخبو روح الذل والانهزام.
وهناك جانب آخر.. بخصوص السلام العالمي.. هذا الذي يتحدثون عنه. فلئن كانت قوى البغي.. حريصة على صون السلام العالمي.. على حسابنا نحن المستضعفين فكيف نبيح نحن لأنفسنا أن نقبل بذلك ؟
السلام العالمي.. على حسابنا نحن ؟ أعلى حطام شعبنا، ودماء شهدائنا، وبالبغي علينا، وطردنا من أرضنا، وسرقة ممتلكاتنا.. وتشريدنا في بلاد الله الواسعة تحت كل سماء، نصون السلام العالمي ؟
ولماذا لا يصان السلام العالمي بفعل ذلك وممارسته ضد عدونا ؟
إن كان لابد من ضحية تمزق.. ليصان سلام السادة الكبار.. وينعموا بالراحة والأمن وكل أنواع الملذات والفجور، فلماذا نقبل لأنفسنا أن نكون تلك الضحية.. صوناً لسلام الذئاب.. عفواً.. السادة الكبار ؟؟
إن المثل العامي الدارج عندنا يقول: (ألف أم تبكي ولا أمي تبكي).. وهذا صحيح هنا.. نحن مجرمون إن قبلنا أن ينعم الكبار بخيرات الكون.. يتقاسمونها على حساب جوعنا وتشردنا وعرينا.. وهيامنا في كل شظية من الأرض.
إن كان لابد من صون السلام العالمي.. فليس على حسابنا.. وليكن على حساب غيرنا.. أمريكا.. روسيا.. بريطانيا.. إسرائيل.. لا يهم.. المهم، أن لا يكون على حسابنا نحن.
وإن كان أولئك يرفضون.. فعلينا أن لا نسمح لهم بالأمن والسلام.. وإن كان لابد من أن تكون بسببنا حرب.. فيها دمار العالم.. فليكن ذاك.
ولتعم المصيبة كل أعدائنا.. بدلاً من أن تنزل بنا وحدنا.. ويسلموا هم.. !
نحن لا نقبل أبداً أن يباد شعبنا لتصان سلامة ورقة الشعوب المحترمة الأخرى.
أبداً.. لا سلام إلا بسلامنا نحن أولاً.
ولا أمن إلا بأمننا نحن أولاً.
ولا راحة للعالم إن لم يعد إلينا حقنا، وضاء نقياً مثل شمس حزيران الساطعة.. يوم وقعت الجريمة.
ولئن كان السادة الكبار.. حريصين على السلام.. فليتكرموا هم.. بجمع تلك الحثالة.. وإعطائها قسماً من أراضيهم..
نعم ولاية من ولايات أمريكا.. (شوفيها ؟!) أو جزءاً من روسيا البيضاء.. أو استكتلندة.. وما في ذاك ضير ؟
ليتكرم السادة الكبار.. ويمارسوا إنسانيتهم.. ويعطفوا على ذلك الشعب المشرد.. المسكين، ويقدموا له بكرم وأريحية.. جزءاً من أرضهم.. ويريحونا وأنفسهم من شرور الحرب.. ماداموا حريصين على السلام العالمي.. ووجه ثالث للبحث في السلام العالمي.. هذا، ذلك الوهم.. (البعبع) الذي يخوفوننا به كلما بدرت منا بادرة جد لتحرير الأرض.
المجابهة النووية بين العملاقين..
ونريد أن نسأل.. هل صحيح أن مجابهة نووية ستحدث بين العملاقين.. إن نحن أصررنا على حرب التحرير ؟
أولاً: نحن نشك في ذلك.. بل وننفي بإصرار إمكانية حدوثها.. ونؤكد أن ذلك إنما هو وهم خدعونا به وخدعنا أنفسنا بتصديقه.. خدمة لأغراض الغزو الكريه الذي يسعى لتثبيت جذوره على أرضنا.
ونحن حين ننفي إمكانية حدوث المجابهة النووية المزعومة.. إنما نعتمد في ذلك على سوابق في تاريخ العملاقين.. خلال فترة امتلاكهما لوسائل المجابهة النووية.. والهيدروجينية و.. و.. إلخ من أسلحة الدمار الجماعي الرهيب.
فأمريكا حين شعرت أن الخطر يتهدد أمنها المباشر.. وضعت العالم على حافة حرب ثالثة يباد فيها ثلثا الأرض، وكل ذلك على حساب شعب كوبا الصغير.
وأمريكا أيضاً.. تتدخل اليوم بكل وسائل العنف والدمار.. في فيتنام.. فاتحة بذلك المجال في كل لحظة لمجابهة نووية.. كل ذلك لأنها اعتقدت أن أمنها ـ وراء البحارـ قد أصبح معرضاً للخطر.. وعلى حساب الشعب الفيتنامي الصامد.. شمالياً كان أم جنوبياً.
وروسيا كذلك.. حين شعرت أن مصالحها فقط.. ـ لا أمنها ـ أصبحت مهددة.. تدخلت بكل وسائل القمع والوحشية في المجر، واحتلت تشيكوسلوفاكيا بعملية جيمسبوندية.. مغطية أرضها بسلاسل الدبابات، ومستعدة بذلك لمواجهة احتمالات الخطر الذي يخيفوننا به كل يوم (المواجهة النووية).. وعلى حساب الشعبين المغلوبين على أمرهما.. في تشيكوسلوفاكيا والمجر.
هاتين بهاتين.. في خلال (دزينة) من السنين.. وليس (دزينة) من القرون.. فهل حدثت المجابهة النووية ؟
كفانا ضحكاً على أنفسنا.. وكفانا تصديقاً لضحكهم علينا وإعجاباً (بغيرتهم على السلام العالمي).
وثانياً: إن كان حقاً ما يقولون إنه سيقع.. المجابهة النووية.. فلم نحرص نحن على عدم وقوعها.. ؟
إذا وقعت المجابهة المخيفة هذه.. فما الذي نخشى عليه نحن ؟ موسكو.. أو واشنطن.. أو لندن وباريس وروما وأمستردام ؟
لم نحرص على سلامة أوروبا وأمريكا.. متخلين بذلة عن حقنا وأرضنا وكرامتنا وشرفنا.. وهم الذين لم يحرصوا على سلامتنا وأمننا.. وأسلمونا لعدونا يفتك بنا وينكل كما يحلو له ذلك ويطيب ؟
إن كان لابد من الدمار والفناء.. فلماذا نقبل أن نكون نحن وحدنا ذاك الوقود والحطام.. ويسلم أعداؤنا.. ليرقصوا على حطامنا.. ويصونوا (سلام العالم) ؟
هل نحن الآن إلا أغنام ؟ تتقدم للذبح بغباء.. كي يتلذذ الإنسان بلحمها وينعم ويسمن ؟
هل سمعتم يوماً من الأيام أن أسداً أو نمراً.. أو حتى ثعلباً.. قبل مختاراً أن يكون ذبيحة ينعم بلحمها السيد الإنسان ؟ فهلا كنا أُسداً ضواري.. أو نموراً كواسر.. ننتزع حقنا.. ثم نعلم العالم كله معنى الإنسانية الكريم ؟؟
وثالثاً: لم يبق إلا أمر واحد.. وهو احتمال تدخل الدول الكبيرة ـ بعضها أو مجتمعة ضدنا ـ وهذا ما يجعلهم يبللون ثيابهم ـ من تحت ـ خوفاً وفرقاً.. فيسارعون لطلب السلام.. حرصاً على (السلام العالمي.. في هذا الجزء الهام من العالم).
إن التدمير والتشريد ثم الإبادة ضدنا.. مخطط لها من قبل عدونا.. وهو يسعى جاداً لتحقيقها.. ما في ذلك من ريب.
ولكن مادام ذلك عزمه وتصميمه.. فكيف نقبل أن ينفذه فيها.. وحده وهو أقل منا عدداً.. وأحط منا شأناً.. وأجبن منا في حقيقة أمره ؟؟
إن هذا الاحتمال.. الذي يرعب الانهزاميين.. لهو أبعد عن واقع التطبيق.. من احتمال المجابهة النووية المرعبة.. ثم.. وحتى إذا وقع.. أولا يكون أكرم وأشرف.. أن نموت دفاعاً عن حقنا، ضد قوى البغي العالمية الكبرى، مجتمعة كلها أو بعضها.. من أن نموت جوعاً أو مرضاً وذلاً وقهراً.. على أيدي فئة قليلة من الحاقدين، بلغ من قلتهم إننا لو اجتمعت كلمتنا ورجمناهم بالأحجار فقط.. لأحدثنا تغييراً جغرافياً بارزاً في خريطة الأرض.. ودفناهم في جوف ذلك التغيير ؟
هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى.. هل نسينا كلنا.. أن تصميم الشعوب على القتال.. لا تقهره قوة في الأرض، حتى لو كانت قوة هيئة الأمم المتحدة .. بأكثرية دولها، أو قوة حلف الأطلسي بكل جيوشه ، أو حلف جنوبي شرقي آسيا.. بكل ما عنده من أساطيل، وجحافل.. متعاوناً مع أضخم قوة في العالم.. أمريكا الباغية ؟.
لقد أطلنا في الحديث عن هذا.. (السلام العالمي) وما يستحق كل هذا.. ولكن لابد من التوضيح الدقيق، فعسى أن يصحو النائمون.. والسكارى .

















ـ 5 ـ
القـادة..
(فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم،
يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي
بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في
أنفسهم نادمين).
(سورة المائدة 52)
وكلمة حق.. نشعر أن من واجبنا، بل من حقنا أن نقولها لكم.. أيها السادة القادة الزعماء..
إن عهد الصراع على السلطة يجب أن يزول.. لأننا مقبلون ـ بل وبدأنا ـ الصراع على المصير.. مع عدو لا هدف له إلا إزالتنا ـ لا إزالة كياناتنا السياسية ولا إسقاط أنظمتنا الثورية وإقامة بديل لها.. بل إزالة وجودنا البشري من فوق هذه الأرض.
وإن مفهوماً جديداً بدأ يتبلور في ضمائر الناس أيها السادة.. هذا المفهوم هو إن الحب والتلاحم بين الحكم والشعب يتناسب طرداً مع تصدي الزعامة ـ أية زعامة ـ للمسئولية المصيرية الملحة.. مسئولية تحرير الأرض.. كل الأرض.
اعلموا أيها السادة.. أنه لم يعد في ضمير المواطن اليوم أي سبب ليمنح حبه وتقديره لحكامه، إلا أن يرى هؤلاء الزعماء يتحركون فعلاً في الاتجاه الواجب، والوحيد.. نحو تحرير الأرض واستئصال العدو الدخيل.
فهلا بادرتم أيها السادة.. بالتصدي لهذه المسئولية.. وجعلتم ميدانها.. وحده فقط، ميداناً للتسابق نحو اكتساب محبة الشعوب وتأييدها.. ؟
إن الشعوب مستعدة لتغفر كل أخطاء الماضي.. شرط أن ترى بأكثر ما تكون الرؤية وضوحاً وإشراقاً.. إن الذين أخطؤوا في الماضي القريب.. قد اتجهوا فعلاً وجدياً لحشد كل الطاقات تصحيحاً لأخطاء بدرت منهم.. وإعداداً لاستعادة الحق والأرض.
تقدموا أيها السادة.. ولا تخشوا شيئاً.. فالعمر محدود، والرزق مقسوم، والوجاهة والزعامة اليوم هي في قيادة القوى والطاقات كلها.. في حرب التحرير.
المجال مفتوح لكم كأوسع ما يمكن أن يفتح في يوم من الأيام.. هذه فرصتكم لتحقيق الأمجاد.. واكتساب محبة الجماهير.. التي ستفديكم بالمهج والأرواح.. إن أنتم تقدمتم ولو خطوة حقيقية واحدة.. وبعدها سترون أن الجموع والحشود، ستمضي معكم إلى نهاية الشوط.
إن هذا المستوى المطلوب من كل القادة.. القتال، بكل القوى، وبكل الوسائل، وبمختلف طرق وعقائد وشرائع القتال، أما الذين لا يستطيعون ـ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ـ ولا قبل لهم بهذا العبء.. فمطلوب منهم شيء آخر.
إن المطلوب من هذا النفر من الزعماء.. الذين لا يستطيعون.. شيئان اثنان:
أولاهما: ما سبق أن طالبنا به.. وهو حمل مسؤولية الحرب الإعلامية.. ونشرها في كل الدنيا، لإقناع الإنسان هناك.. بأن الخطر لا يتهددنا نحن وحدنا.. بل ويتهدده هو.. في بيته وبلده.. في مستقبله ومستقبل أولاده، وهذه لن نطيل بها.. فلقد تحدثنا عنها كفاية في سطور سبقت.
وثانيهما: وهو الأحد الأدنى.. لصون ماء الوجه، وحفظ الشرف.. وهو أن تتجاهل الحكومات تحركات النشاط الفدائي على أرضها وبين شعوبها.
نعم.. تتجاهله.. تغض الطرف عنه..
اتركوا رجال الفداء.. يصفون الحساب مع الأعداء الغزاة.. خلوا بينهم وبين العدو، فهم قادرون على تسديد الضربات القاتلة إليه.. فتستريحوا أنتم وتأمنوا على مصيركم ومصير أولادكم.
إن هذا الحد من التضحية، مطلوب من كل القادة والزعماء.. غير القادرين على ممارسة المستوى المطلوب من عبء القضية.. فهلا ترينا الأيام القادمة أوجه الخير لدى السادة.. وتطوي صفحات الماضي على ما فيها من خزي وسوء.. وتصبح في ذمة التاريخ.. ليذكرها لأجيالنا القادمة بأنها إنما كانت، اجتهادات خاطئة.. لم يكن وراءها إلا إخلاص النية ونبل القصد ؟















ـ 6 ـ
والفدائيون..
(ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله
ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله
غفوراً رحيماً).
(سورة النساء 100)
ومنذ أمسكت القلم، موطداً العزم على كتابة هذا الكتاب.. لم أشعر لحظة بالتهيب يلف كل كياني.. مثلما أحسست به وأنا مقدم على مخاطبة الرجال.
وذلك حق ومنطقي، لأن توجيه الكلام إلى أهل الفداء.. ورجال البطولة.. ليس كالتحدث لغيرهم.. من عاديي الناس.
إنك حين تقف لمخاطبة واحد من هؤلاء.. تشعر بأنك أمام طراز آخر من الرجال.. نموذج غريب على مجتمعاتنا الممسوخة.. إنسان يواجه الموت كل لحظة من لحظات عمره القصير.. رجل تسامى فوق ارتباطات العائلة والصداقات.. فوق عواطف الأبناء والآباء.. وفوق كل نداء يشده إلى الحياة..
واتجه بكل كيانه نحو ما هو أسمى من الحياة.. وما في سبيل تحقيقه تهون وترخص الحياة.. جهاداً في الله تعالى وإعلاء كلمته.. وإحقاقاً لحق.. وإبطالاً لباطل الأعداء الغزاة.. سالكاً لذلك أوعر الطرق.. وأشدها اكتنافاً بخطر الموت.. أو التشويه.. أو الاعتقال.. مصمماً على طردهم وتصفية باطلهم مهما امتدت به الأيام.
إن مثل هذا الشعور بالهيبة.. المليئة إعجاباً وفخراً.. ليلمس كيانك كله.. وأنت أمام واحد منهم.. فتحس عجزك.. وتجرع الحسرة المريرة.. لأنك لا تستطيع أن تكون مثله.. فإنك لك (أولاد.. وعائلة).
فكيف بك إن جربت أن تخاطبهم جميعاً.. وأنت تشعر أن عيونهم كلها عليك.. يستغربون منك الثرثرة.. وتحس طيف الابتسام على أفواههم.. إشفاقاً على ضعفك.. وسخرية من عجزك ؟
ورغم كل ذلك.. فسأتحدث إليهم.. لعل في ذاك ما يريح النفس ـ على الأقل ـ ولعل الله ينفع بما أقول.
أيها الرجال.. ويطيب لي أن أخاطبكم دوماً بالرجال.. لأن الرجال في دنيانا اليوم قليل. لقد تقدمتم مختارين.. لأصعب مهمة.. وأسمى واجب وأشق عمل.
ولقد أخذتم على عاتقكم العبء بكل ثقله وغرمه.. دونما مطمع بمغنم أو انتصار سريع.. وهذا لعمري.. هو فوق البطولة.. وقمة نكران الذات.
ولست أجد في كل ما أعرف، أفضل ولا أكرم من تذكيركم بمقام أناس سبقوكم وكانوا في مثل ما أنتم فيه الآن، فنزلت بحقهم الآية الشريفة: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلاً وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير) .
وأنتم اليوم تقاتلون في مثل ما قاتلوا.. من قبل الفتح ومن قبل أن تنطلق الجيوش والجموع، تقاتلون وحيدين.. قلة مؤمنة.. وأنكم والله لأضيع من جند طارق على سواحل الأندلس.. وليس لكم إلا الصبر، فالنصر وإنه لآت.. بإذن الله.
ولكن لابد من وقفة معكم.. ولو يسيرة، قبل أن تمضوا صعداً في دروب بطولتكم.. مخلفين وراءكم جموع الكسالى.. تشدهم روابط الحياة إلى مواقعهم على الأرض.. في المكاتب أو المناصب.. أو البيوت والسيارات وبين الأموال والأولاد. في هذه الوقفة البسيطة أقول لكم أمرين هامين:
1ـ أولا.. إنكم تموتون وكلنا سيموت، وهل تدرون ما معنى ذاك ؟ معناه إنكم تخسرون هذه الحياة.. تقدمون على هذه الخسارة بمحض اختياركم.. وأنتم تعلمون بها قبل وقوعها.. فمقابل أي شيء أنتم تفعلون ذاك ؟
إنه والله ما في هذا الكون كله ما يستحق أن يجود الإنسان من أجله بحياته.. بوجوده، بذاته كلها.. إلا الجنة.. والطريق إليها واضحة، مثل شمس الضحى.. وإنه بالنسبة إليكم لفي غاية السهولة، ولا يصعب سلوكها إلا على العتاة الكفرة.. غلاظ القلوب، أو الضعاف العجزة.. صغار النفوس ممن يتعلقون بهذه الحياة، أكثر من تعلق الطفل بأذيال أمه.
الطريق إلى الجنة.. هذا الثمن الكريم.. لحياتكم التي تبذلونها مختارين مسرورين.. هو الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله.
وبمعنى أوضح.. اجعلوا قتالكم الذي تمارسون.. خالصاً لله وحده.. وابتغاء إعلاء كلمته، وهذا لا يحتاج منكم إلى كبير جهد، وقد أقدمتم على الأصعب والأشق والأخطر.. أقدمتم على القتال.. فأقدموا على إخلاص النية وصدقها.. تفوزوا بالجنة ونعيمها.
ولنردد معاً قول واحد من رجالنا وسيد من سادات أبطالنا، عبد الله بن رواحة:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارداً شرابها
2ـ وثانياً.. كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قائد جيشه في العراق، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وصية مطولة جاء فيها:
(أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد، بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة مع العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولا إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله، كفرة المجوس. (.. فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً)، واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم، اسأل ذلك لنا ولكم)..
ولقد أردت سوق هذه الوصية لكم يا رجال.. لعل الله ينفعكم بها.. فإليكم هي.. بدون مطلق تعليق.. هي بغنى عنه.. وهي أقرب إلى قلوب المؤمنين.. من كل شرح مهما عظمت بلاغته ورقت عبارته.
فعليكم أيها الرجال بتقوى الله.. وليكن جهادكم لله تعالى وحده، ومنه تستمدون القوة.. وإليه تكلون أموركم وهو كافل النصر لكم.. وأنكم والله إن صدقتم النية لله وحده واتقيتموه لفائزون بإحدى الحسنيين.. شهادة كريمة.. جزاؤها مقام كريم عند رب كريم، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.. أو نصر عظيم.. وفتح مبين.. فيه تحقيق لكل الآمال العراض.. وفيه شفاء لما في الصدور.
وبعد ذلك.. أخيراً:
لا يهمنكم ماذا سيحل بالزوجة والأولاد.. فذاك أمر ليس في مكنة أي منا أن يوجهه كما يريد.. ولا حتى الذين خلفوا.. بحجة أن لهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم.
.. كنا نتحدث مرة.. ولم يك ـ كالعادة ـ من حديث لنا إلا فلسطين والأعداء، والقتال.. جهاداً في سبيل الله، لرد الأعداء الغزاة.
وتحمس أحد الحاضرين.. فسأل: وما الحل ؟ فأجابه آخر: إن الحل الوحيد هو أن يتحرك كل قادر على القتال منا إلى أرض القتال.. ويباشر القتال.
ولقي الحديث صدى طيباً في نفسه، ولكنه ما لبث أن ارتطم بنداء الحياة الدنيا.. فقال: ولكن.. والأولاد ؟
ولم يجبه الثاني.. بل بادره بالسؤال فوراً.. أوليس ممكنا أن يقبضك الله إليه، الآن في هذه الجلسة وقبل أن تذهب للقتال ؟
فوجئ الرجل بالسؤال.. فأجاب: طبعاً. عندها بادره بالسؤال المفحم: طيب.. والأولاد ؟
فأجاب جواب المؤمن الصدق: (أن لهم الله).
وهنا أحكم عليه الطوق وقال له: (وكيف يكون الله لهم إن أنت مت الآن.. ولا يكون لهم إن أنت مت هناك.. مقاتلاً مجاهداً ؟).
.. بلغ منه التأثر حداً مفرطاً.. وانفض اللقاء. وذهب الشاب.. ليكمل أجازته.. ويعود من جديد.. إلى مجال السعي على الزوجة والأولاد.. إلى إحدى دول الخليج.
هذه أسوقها لكم أنتم.. الذين تساميتم، فوق هذه العواطف والروابط وأجبتم داعي الله.. يدعوكم إلى الحياة.. الحياة الحقة.. التي عرفتم طريقها فسارعتم رغم كل ما في الطريق من محن وآلام. وأما الأولاد.. فدعوهم فعلاً لله.. ولكن علموهم أن ينشدوا كلما ذكروكم:
قل للذي ليحـرر القـدس انبـرى يصلي الغزاة النار في صلي سديـد
يسقي ثراها بالنجيع ومـا ارتضـى عيش الأذلة قد نضى ثوب العبيـد
أنـا لست أبكي إذا فقدتك يـا أبـي بشهـادة قـد نلتـها إنـي سعيـد
سأصيح في الدنيا أسعـر للصـدام وإننـي ماض بقصـدي لن أحيـد
* * *
أماه قومي فالبسـي حسـن الثيـاب فإنـه قـد جاءنـا نـعش الشهيـد
وتزينـي، وتشـددي، لا تجزعـي لا تذرفي الدمع السخين، فلن يفيـد
لا تفسـدي فـرح الرجـال بعـبرة للدمـع قد ولى زمان، لـن يعـود
ودعي البكاء يكـون يـوم فجيعـة فيه انهزمنـا غفلـة، لا يوم عيـد
* * *
عهـد علينـا يـا أبـي، وبقـادر وعد المجاهد جنـة، أو أن يسـود
إناّ على درب الشهـادة سائـرون لحربهم، نشتـد مثـلك، كالأسـود
وغـداً إذا عـاد الضياء لقدسنـا لا تسألي يا أم، أين ثـوي الشهيـد
موت الرجال حياتهم إن هم مضوا يبغون نصر الله من كيـد اليهـود



















وختاماً...
وبعون الله تعالى...
تم هذا الكتاب...
وإليه وحده خالص الشكر.. وعظيم الامتنان..
وإلى الله وحده.. الذي لا غيره يسأل فيعطي بدون حساب..
وإلى القاهر فوق عباده.. سيد الجبارين.. والقادر وحده على إذلال العتاة من عبيده..
أجأر بالدعاء ـ وما أملك اليوم سواه ـ …
أن يجعل كتابي هذا.. سهماً قاتلاً..
يصيب من المجرمين مقاتلهم..
فيكون سقوط الحزب المجرم..
وتكون فرحة أولى وكبيرة..
ثم يكون زوال الكيان الدخيل من أرضنا..
وتكون الفرحة الأكبر..
وبالبشر تهلل الوجوه..
وبالشكر تلهج الألسنة.. وتختلج القلوب..
تمجد الله الذي لا رب غيره..
وتكون مرحلة جديدة من الإشراق في عمر هذه الأمة..




المصادر والمراجع
(أ) الكتب
المرجع المؤلف معلومات أخرى
1ـ القرآن الكريم ـ ـ
2ـ أخبار عمر علي الطنطاوي الطبعة الأولى ـ
ناجي الطنطاوي دار الفكر بدمشق
3ـ المسلمون
والحرب الرابعة زهدي الفاتح الطبعة الأولى.
4ـ الوحدة
العسكرية العربية اللواء الركن الطبعة الثانية ـ
محمود شيت خطاب دار الإرشاد ـ بيروت
5ـ مذكراتي عن الفريق عبد الكريم الطبعة الأولى ـ
فترة الانفصال زهر الدين دار الاتحاد ـ بيروت
في سورية
6ـ السياسة السورية جوردون .هـ. توري الطبعة الثانية ـ
والعسكريون ترجمة محمود فلاحة دار الجماهير
7ـ الصراع على باتريك سيل الطبعة الأولى ـ
سورية ترجمة دار الأنوار ـ بيروت
سمير عبدة ـ محمود فلاحة
8ـ المؤامرة ومعركة سعد جمعة الطبعة الثالثة ـ
المصير دار الأنوار ـ بيروت


المرجع المؤلف معلومات أخرى
9ـ اليوميات منظمة التحرير ـ
الفلسطينية الفلسطينية مركز الأبحاث بيروت
المجلدان الرابع
والخامس من 7ـ 1966
إلى 30ـ6ـ1967
10ـ أعمدة النكبة الدكتور الطبعة الثانية ـ دار
صلاح الدين المنجد الكتاب الجديد ـ بيروت
11ـ هانوي ويلفورد بورشيت الطبعة الأولى ـ دار
تحت القنابل تعريب الإرشاد ـ بيروت
أكرم ديري
والمقدم الهيثم الأيوبي
12ـ الكتاب المقدس ـ جمعيات الكتاب المقدس
(العهد القديم) ساحة النجمة ـ بيروت
13ـ الكنز المرصود ترجمة من اللغة الطبعة الثانية ـ
في قواعد التلمود الفرنسية ـ الدكتور بيروت 1968
يوسف حنا نصر الله
14ـ همجية التعاليم الأب بولس حنا مسعد منشورات المكتب
الصهيونية الإسلامي ـ بيروت
15ـ دفائن النفسية الدكتور محمد علي الطبعة الأولى ـ
اليهودية الزعبي مؤسسة الزعبي
للتأليف والنشرـ بيروت

16ـ الخطر اليهودي حكماء صهيون الطبعة الرابعة ـ دار
أو بروتوكولات ترجمة دار الكتاب العربي ـ
حكماء صهيون محمد خليفة التونسي بيروت
17ـ حربنا مع حديث صحفي الطبعة الأولى ـ دار
إسرائيل مع الملك حسين ملك الأردن النهار ـ بيروت
أجراه صحفيان فرنسيان
18ـ عرب ويهود الدكتور الطبعة الأولى ـ دار
العداء الكبير سامي الجندي النهار ـ بيروت
19ـ كسرة خبز الدكتور الطبعة الثانية ـ دار
إيللي كوهين سامي الجندي النهار ـ بيروت













المرجع المؤلف معلومات أخرى
20ـ جاسوس من يوري دان الطبعة الأولى بيروت ـ
إسرائيل دار العلم للملايين
21ـ الخدمة الجنرال كارل دار الكتاب العربي
العسكرية من فون هورن للطباعة والنشرـ القاهرة
أجل السلام تعريب خيري حماد
22ـ بن غوريون تهاني هلسة من منشورات منظمة
التحرير الفلسطينية ـ
مركز الأبحاث ـ بيروت
23ـ المنطقة الجنوبية نور الدين شهيد رسالة جامعية
الغربية ـ الحرمون الهندي ـ بإشراف العام الجامعي 1966
الدكتور ـ 1967
عبد الرحمن حميدة إصدار الكتب المدرسية
24ـ جغرافية القطر إبراهيم حلمي وزارة التربية في
العربي السوري الغوري ـ أنور الجمهورية العربية
عقاد ـ قسام حجو السوريةـ العام الدراسي
68 ـ 1969






(ب) الصحف
1ـ مجلة البعث الإسلامي العدد العاشر ـ المجلد الثاني ـ 4 ربيع
الثاني سنة 1388هـ أول يوليو سنة 1968م.
2ـ مجلة الحوادث (اللبنانية) العدد 604 تاريخ 7/6/1968ـ بيروت.

3ـ مجلة جيش الشعب العدد 834 تاريخ الثلاثاء 4 حزيران 68
دمشق. العدد 885 تاريخ الثلاثاء 3 حزيران
69ـ دمشق.
4ـ جريدة النهار (البيروتية) عدد خاص صدر باسم (النكسة) ميلاد 1967
ورأس السنة 1968 ـ بيروت.
5ـ جريدة الثورة (السورية) العدد الصادر يوم 20 أيار سنة 1967 ـ
دمشق.
6ـ جريدة الأنباء (اللبنانية) ملحق العدد 864 ـ السبت في 4 كانون
الثاني سنة 1969.
7ـ صحيفة الهدف (اللبنانية) العدد 2 السنة الأولى السبت 2 آب سنة
1969.







فهرس الكتاب
الموضوعات:
الموضوع
الإهداء
أهداف الكتاب
القسم الأول: قبل تنفيذ المؤامرة
القسم الأول: ما لابد من قوله
1ـ توضيحات
2ـ لمحة تاريخية
الفصل الثاني: الجولان
1ـ جغرافية الجولان
2ـ دور الجولان
3ـ لمحة تاريخية عسكرية
4ـ أسباب تكالب العدو على الجولان
الفصل الثالث: قبل سقوطه
1ـ الإعداد المسبق لمنع سقوط الجولان
القسم الثاني: المؤامرة يوم التنفيذ
القسم الأول: الوجه الكالح
1ـ سير الحوادث
2ـ لمحات متنوعة من صور الجريمة
3ـ أعمال العدو.. خلال الحرب

الفصل الثاني: الوجه المشرق
1ـ وجوه ناصعة للبطولة
الفصل الثالث: نقاش الإثبات
1ـ من الجانب العسكري
الخلاصة...
2ـ ومن الجانب السياسي
رؤى متنوعة للمؤامرة
القسم الثالث: أنوار في الطريق
1ـ عدونا في العراء
2ـ نحن.. والقضية
3ـ الرأي العام العالمي
4ـ السلام العالمي
5ـ القادة
6ـ والفدائيون
وختاماً...
ثبت المراجع...







أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم:
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة
أنعي لكم..
أنعي لكم..
نهاية الفِكْرِ الذي قاد إلى الهزيمة.
مالحة في فمنا القصائد
مالحة ضفائر النساء
والليل، والأستار، والمقاعد
مالحة أمامنا الأشياء..
يا وطني الحزين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين
لأن ما نحسه
أكبر من أوراقنا..
لا بد أن نخجل من أشعارنا
إذا خسرنا الحرب، لا غرابه
لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه
لأننا ندخلها
بمنطق الطبل والربابه..
السر في مأساتنا
صراخنا اضخم من أصواتنا
وسيفنا..
أطول من قاماتنا..
خلاصة القضية
توجز في عباره
لقد لبسنا قشرة الحضاره
والروح جاهليَّه..
بالناي والمزمار
لا يحدث انتصار..
كلفنا ارتجالنا
خمسين ألف خيمة جديده
لا تلعنوا السماء
إذا تخلت عنكم
لا تلعنوا الظروف
فالله يؤتي نصره من يشاء
وليس حداداً لديكم..
يصنع السيوف..
يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح
يوجعني..
أن أسمع النباح..
ما دخل اليهود من حدودنا
وإنما..
تسربوا كالنمل من عيوبنا..
خمسة آلاف سنه..
ونحن في السرداب
ذقوننا طويلة
نقودنا مجهولة
عيوننا مرافئ الذباب..
يا أصدقائي:
جربوا أن تكسروا الأبواب
أن تغسلوا أفكاركم
وتغسلوا الثياب
يا أصدقائي:
جربوا أن تقرؤوا كتاب..
أن تكتبوا كتاب..
أن تزرعوا الحروف..
والرمان..
والأعناب..
أن تبحروا إلى بلاد الثلج والضباب
فالناس يجهلونكم..
في خارج السرداب
الناس يحسبونكم
نوعاً من الذئاب..
جلودنا ميتة الإحساس
أرواحنا تشكو من الإفلاس
أيامنا تدور بين الزار..
والشطرنج..
والنعاس..
هل (نحن خير أمة أخرجت للناس) ؟؟
كان بوسع نفطنا الدافق في الصحاري
أن يستحيل خنجراً..
من لهب ونار
لكنه..
واخجلة الأشراف من قريش
وخجلة الأحرار من أوس ومن نزار
يراق تحت أرجل الجواري..
نركض في الشوارع
نحمل تحت إبطنا الحبالا
نمارس السحل بلا تبصر
نحطم الزجاج والأقفالا
نمدح كالضفادع
نشتم كالضفادع
نجعل من أقزامنا أبطالا
نجعل من أشرافنا أنذالا
نرتجل البطولة ارتجالا
نقعد في الجوامع
تنابلاً، كسالى
نشطر الأبيات، أو نؤلف الأمثالا
ونشحذ النصر على عدونا
من عنده تعالى..
لو أحد يمنحني الأمان
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان
قلت له:
يا سيدي السلطان
كلابك المفترسات مزقت ردائي
ومخبروك دائماً ورائي..
عيونهم ورائي..
أنوفهم ورائي..
أقدامهم ورائي..
يستجوبون زوجتي..
ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي..
يا حضرة السلطان
لأنني اقتربت من أسوارك الصماء..
لأنني حاولت أن أكشف عن حزني وعن بلائي
ضربت بالحذاء..
أرغمني جندك أن آكل من حذائي..
يا سيدي.. يا سيدي السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين
لأن نصف شعبنا ليس له لسان
ما قيمة الشعب الذي ليس له لسان ؟
لأن نصف شعبنا محاصر كالنمل والجرذان
في داخل الجدران..
لو أحد يمنحني الأمان
من عسكر السلطان
قلت له: يا حضرة السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين
لأنك انفصلت عن قضية الإنسان
لو أننا لم ندفن الوحدة في التراب
لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب
لو بقيت في داخل العيون والأهداب
لما استباحت لحمنا الكلاب..
نريد جيلاً غاضباً
نريد جيلاً يفلح الآفاق
وينكش التاريخ من جذوره
وينكش الفكر من الأعماق
نريد جيلاً قادماً مختلف الملامح
لا يغفر الأخطاء.. لا يسامح
لا ينحني.. لا يعرف النفاق..
نريد جيلاً، رائداً، عملاق..
يا أيها الأطفال:
من المحيط للخليج، أنتم سنابل الآمال
وأنتم الجيل الذي سيكسر الأغلال
ويقتل الأفيون في رؤوسنا
ويقتل الخيال..
يا أيها الأطفال:
أنتم ـ بعد ـ طيبون
وطاهرون، كالندى والثلج، طاهرون
لا تقرأوا عن جيلنا المهزوم، يا أطفال
فنحن خائبون
ونحن، مثل قشرة البطيخ، تافهون
ونحن منخورون..
منخورون..
منخورون كالنعال..
لا تقرأوا أخبارنا
لا تقبلوا أفكارنا
لا تقتفوا آثارنا
فنحن جيل القيء.. والزُهْريِّ.. والسعال..
ونحن جيل الدجل، والرقص على الحبال
يا أيها الأطفال:
يا مطر الربيع، يا سنابل الآمال
أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمة
وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمة...
ـ حين يصير الفكر في مدينة
مسطحاً كحدوة الحصان
مدوراً كحدوة الحصان
وتستطيع أي بندقية يرفعها جبان
أن تسحق الإنسان
حين تصير بلدة بأسرها
مصيدة.. والناس كالفئران
وتصبح الجرائد الموجهة
أوراق نعي تملأ الحيطان
يموت كل شيء..
يموت كل شيء..
الماء، والنبات، والأصوات، والألوان
تهاجر الأشجار من جذورها
يهرب من مكانه المكان
وينتهي الإنسان
حين يصير الحرف في مدينة
حشيشة يمنعها القانون
ويصبح التفكير
كالبغاء..
واللواط..
والأفيون..
جريمة يطالها القانون..
حين يصير الناس في مدينة
ضفادعاً مفقوءة العيون
فلا يثورون ولا يشكون
ولا يغنُّون ولا يبكون
ولا يموتون ولا يحيون
تحترق الغابات، والأطفال، والأزهار
تحترق الثمار
ويصبح الإنسان في موطنه
أذل من صَرْصار..
حين يصير العدل في مدينة
سفينة يركبها قرصان
ويصبح الإنسان في سريره
محاصراً، بالخوف والأحزان
حين يصير الدمع في مدينة
أكبر من مساحة الأجفان
يسقط كل شيء
الشمس..
والنجوم..
والجبال.
والوديان..
والليل، والنهار، والبحار، والشطآن..
والله..
والإنسان..
حين تصير خوذة
كالرب في السماء
تصنع بالعباد ما تشاء
تمعسهم..
تهرسهم..
تميتهم..
تصنع بالعباد ما تشاء
حين يصير الحكم في مدينة
نوعاً من البغاء
ويصبح التاريخ في مدينة
ممسحة..
والفكر كالحذاء
حين تصير نسمة الهواء
تأتي بمرسوم من السلطان
وحبة القمح التي نأكلها
تأتي بمرسوم من السلطان
وقطرة الماء التي نشربها
تأتي بمرسوم من السلطان
حين تصير أمة بأسرها
ماشية تعلف في زريبة السلطان
يختنق الأطفال في أرحامهم
وتجهض النساء..
وتسقط الشمس على ساحتنا
مشنقة سوداء..
متى سترحلون ؟
المسرح أنهار على رؤوسكم
متى سترحلون ؟
والناس في القاعة يشتمون.. يبصقون..
كانت فلسطين لكم
دجاجة، من بيضها الثمين تأكلون..
كانت فلسطين لكم
قميص عثمان الذي به تتاجرون
طوبى لكم..
على يديْكم أصبحت حدودنا
من ورق..
فألف تشكرون..
على يديكم أصبحت بلادنا
امرأة مباحة..
فألف تشكرون..
حرب حزيران انتهت..
فكل حرب بعدها، ونحن طيبون..
أخبارنا جيدة
وحالنا ـ والحمد لله ـ على أحسن ما يكون..
جمر النراجيل.. على أحسن ما يكون
وطاولات الزهر ـ مازالت ـ
على أحسن ما يكون
والقمر المزروع في سمائنا
مدور الوجه، على أحسن ما يكون..
وصوت فيروز،
من الفردوس يأتي،
(نحن راجعون)..
تغلغل اليهود في ثيابنا
و(نحن راجعون)..
صاروا على مترين من أبوابنا
و(نحن راجعون)..
ناموا على فراشنا..
و(نحن راجعون)..
وكل ما نملك أن نقوله
(إنا إلى الله لراجعون)..
حرب حزيران انتهت..
وحالنا ـ والحمد لله ـ على أحسن ما يكون
كتابنا على رصيف الفكر عاطلون
من مطبخ السلطان يأكلون
بسيفه الطويل يضربون
كتابنا، ما مارسوا التفكير من قرون
لم يُقْتَلوا..
لم يُصْلَبوا..
لم يقفوا على حدود الموت والجنون
كتابنا يحيون في إجازة
وخارج التاريخ يسكنون..
حرب حزيران انتهت
جرائد الصباح، ما تغيرت
الأحرف الكبيرة الحمراء.. ما تغيرت
الصور العارية النكراء.. ما تغيرت
والناس يلهثون..
تحت سياط الجنس يلهثون
تحت سياط الأحرف الكبيرة الحمراء.. يسقطون..
الناس كالثيران في بلادنا..
بالأحمر الفاقع يُؤْخَذون..
حرب حزيران انتهت..
وضاع كل شيء..
الشرف الرفيع،
والقلاع، والحصون
والمال، والبنون..
لكننا.. باقون في محطة الإذاعة..
(فاطمة تهدي والدها سلامها..)
(وخالد يسأل عن أعمامه في غزة..
وأين يقطنون ؟.)
(نفيسة قد ولدت مولودها..)
(وسامر حاز على شهادة الكفاءة..)
(فطمئنونا عنكم..
(عنواننا المخيم التسعون..)
حرب حزيران انتهت..
كأن شيئاً لم يكن..
لم تختلف أمامنا الوجوه والعيون
محاكم التفتيش عادت.. عاد المفتشون..
والدونكشوتيون.. مازالوا يشخصون
والناس من صعوبة البكاء..
يضحكون..
ونحن قانعون..
بالحرب قانعون.. والسلم قانعون..
بالحَرِّ قانعون.. والبرد قانعون..
بالعقم قانعون.. والنسل قانعون
بكل ما في لوحنا المحفوظ في السماء..
قانعون..
وكل ما نملك أن نقوله:
(إنا إلى الله لراجعون)..
احترق المسرح من أركانه
ولم يمت ـ بعد ـ الممثلون..


رمـل سينـاء قبـرنـا المحفـور وعلـى القبـر منكـر ونكيـر
كبرياء الصحـراء مرغهـا الـذل فغاب الضحى وغـار الزئيـر
لا شهيد يرضي الصحارى، وجلى هارب فـي رمالهـا وأسيـر
أيهـا المستعـيـر ألـف عـتـاد لأَعاديـك كـل مـا تستعيـر
هدك الذعر لا الحـديد ولا النار وعبء على الوغى المذعـور
أغرور على الفـرار؟! لقـد ذاب حيـاء من الغـرور الغـرور
القلاع المحصنـات ـ إذا الجبـن حماها ـ خورنق وسديـر !
لم يعان الوغى (لواء) ولا عـانى (فريـق) أهوالهـا و (مشيـر)
رتب صنعة الدواوين.. ما شارك فيهـا قـرُّ الوغـى والهجيـر
وتطيـر النسور في زحمة النجـم، وفي عشـه البغـاث يطيــر
جَـبُـنَ القـادة الكبــار وفـروا وبكـى للفرار جيـش جسـور
تركوه فوضى إلى الـدور، فيحاء، لقـد ضمـت النسـاء الخـدورُ !
هُزِم الحاكمـون، والشعـب في الأصفاد، فالحُكْمُ وحده المكسـور
هُزِم الحاكمون، لم يحزن الشعب عليهـم، ولا انتخـى الجمهـور
يستجيـرون ! والكريم لدى الغمرة يلقــى الـردى ولا يستجيـر !
لا تسل عن نميرها غوطـةَ الشام ألح الصـدى وغـاض النميـر
وانس عطـر الشآم، حيـث يقيـم الظلم تنـأى.. ولا تقيـم العطور
أطبقوا.. لا ترى الضيـاء جفوني فجفوني عـن الضيـاء ستـور
بعض حريتي السماوات والأنجـم والشمس و الضحـى و البـدور
بعض حريتـي الملائـك والجنـة والـراح و الشـذا و الحبـور
بعض حريتـي الجمـال الإلهـي ومنـه المكشـوف و المستـور
بعض حريتـي ويكتحـل العقـل بنـور الإلهـام، و التفـكيـر
بعض حريتـي، ونحن القرابيـن لمحرابهـا، ونحـن النـذور
بعض حريتي، من الصبح أطياب ومن رقـة النسيـم حـريـر
ثم أملى الطغاة أن يبغض النـور علينـا ويعشـق الديجــور
نحن أسرى، ولو شَمَسْنا على القيد لمـا نـالنـا العـدو المغيـر
لاقتحمنـا علـى الغـزاة لهيبـاً وعبـرنا وما استحال العبـور
سألوني عـن الغـزاة فجاوبـت: ريـاح هبـت ونحـن ثبيـر
سألوني عـن الغـزاة فجاوبـت: رمـال تسفى ونحن الصخور
سألوني عـن الغـزاة فجاوبـت: ليال تمضـي ونحن الدهـور !
هل درت عدن أن مسجدها الأقصى مكـان مـن أهلـه مهجـور
أين مسرى البراق، والقدس والمهد وبـيـت مـقـدس معـمـور ؟
لـم يرتـل قـرآن أحمـد فيـه ويـزار المبكى ويتلى الزبـور
طوي المصحف الكريم، وراحـت تتشـاكى آياتـه و السطـور
تستبى المـدن والقـرى هاتفـات أين... أين الرشيد والمنصـور !
يـا لـذل الإسـلام. إرث أبـي حفـص بديـد مضيـع مغمـور
يا لذل الإسلام: لا الجمعة الزهراء نعـمـى، ولا الأذان جهـيـر
كـل دنيـا للمسلميـن مناحـات وويـل لأهـلـها وثـبـــور
لبسـت مكـة السـواد، وابكـت مشهـد المرتضى ودك الطـور
هل درى جعفر؟ فـرف جناحـاه إلى المسجـد الحزيـن يـطيـر
ناجت المسجد الطهـور وحنـت سدرة المنتهـى وظـل طهــور
أين قبر الحسين ؟(1) قبر غريب ! من يضم الغريب أو من يــزور
أين آي القرآن تتلى على الجمـع وأيـن التهـليـل والتكبيــر ؟
أين آي الإنجيل ؟ فاح من الإنجيل عطـر وضـوأ الكـون نــور
أين روما ؟ وجـَلَّ حَبْـرٌ برومـا مهد عيسى يشكو ويشكو البخـور
النصـارى و المسلمـون أسـارى وحبيب إلـى الأسيـر الأسيـر
صلب الروح مرتيـن الطواغيـتُ ! جـراح كمـا يضـوع العبيـر
يا لـذل الإسـلام والقـدس نهـب هتكـت أرضـه فأين الغَيـور
قد تطـول الأعمار لا مجـد فيهـا ويضـم الأمجـاد يـوم قصيـر
من عذولي على الدموع؟ وفي المروة والركـن والصفـا لـي عذيـر
وحـرامٌ علـي أن ينـزل البشـر بقـلبـي وأن يـلـم الحُبــور
كحلت بالثـرى الخضيـب جفـون وهفت للثـرى الحبيـب ثغـور
لا تشق الجيـوب في محنة القـدس ولكنهـا تـشـق الصــدور
حبست أدمع الأبـاة مـن الخـوف ويبكي الشـذا وتبكـي الطيـور
أنـا حزن شخص يـروح ويغـدو ومسائـي مع الأسـى والبكـور
أنـا حزن يمـر فـي كـل بـاب سائل مثقـل الخطـى مقـهـور
طردتني الأكواخ، والبؤس قربـى وتعالت على شقائـي القصـور
يحتويني الهجير حيناً، ولا يرحـم أسمـال فـقـري الزمهـريـر
وعلى الجوع والضنى والرزايــا في دروبـي أسيـر ثـم أسيـر
نقلتني الصحراء حيناً.. وحينــاً نقلتنـي إلى الشعـوب البحـور
حامـلاً محنتـي أجـرر أقدامـي ويومـي سَمـْحُ الغَمـام مطيـر
حامـلاً محنتـي أوزعهـا فــي كـل دنيـا وشـرها مستطيـر
محنتـي الغيـث إن أرادوا وإلا فهديـر البركـان والتدمـيـر
حامـلاً محنـة الخيـام، فَتـَزْوَرُّ وجـوه عنـي وتغلــق دور !
الخيـام الممـزقـات.. وأمّ في الزوايا وكسـرة وحصيـر
وفتـاة أذلـهـا العـري والجـوع ويلهـو بالرمـل طفـل صغيـر
كلمـا أن فــي الخيـام شريـد خجل القصر والفراش الوثيــر
خجـل الحاكمـون شرقـاً وغربـاً ورئيـس مسيـطـر و وزيـر
هيئـة(1) للشعوب تمعن في الذنـب ولا تـوبـةٌ ولا تكفيـر
شـارك القـوم كلهـم فـي أذانـا ومن القـوم غُيَّـبٌ و حضـور
مـن قوانينهـا المـداراة للظلــم ومنـها التغريـب والتهجـيـر
ويقام الدستور، أضحوكة الساخـر منــا ويـوأد الدستــور
كل علـم يغـزو النجـوم ويغـزو بالمنايا الشعـوب علـم حقيـر
والحضـارات بعضهـن بشيــر يتهـادى وبعـضـهـم نذيـر
نعميات الشعوب شتى، فنعمـى حمـدت ربهـا ونعمـى كفـور
لن يعيش الغـازي وفـي الأنفـس الحقد عليه، وفي النفوس السعير
يحرق المـدن، والعـذارى سبايـا وصغيـر لذبحـه وكبيــــر
دينـه الحـرق والإبـادة والحقـد وشتـم الأعـراض و التشهيـر
صورتـه التوراة بالفتـك والتدمير حتــى ليفـزع التـصـويـر
من طبـاع الحـروب كـرٌّ وفـرٌّ والمجلّي هـو الشجاع الصبـور
ليـس يبنـى الفجـاءات فتـــح علمي فـي غـد هـو المنشـور
تنتخـي للوغـى سيـوف معــد ويقوم الموتـى وتمشـي القبـور
عربـي فـلا حمـاي مبـاح ـ عند حقدي ـ ولا دمي مهدور
نحن أسـرى، وحين ضيمَ حمانـا كاد يقضي من حزنه المأسـور
كـل فـرد مـن الـرعيـة عبـد و من الحكـم كـل فـرد أميـر
ومـع الأسر نحن نستشرف الأفلاك والدائـرات كـيـف تـــدور
نحن موتى ! وشر ما ابتدع الطغيان موتـى علــى الدروب تسيـر
نحن موتى ! وإن غدونـا ورحنـا والبيـوت المزوَّقـات قبـــور
نحن موتى ! يسـر جـار لجـارٍ مستريباً: متـى يكـون النشـور
بقيت سبة الزمـان على الطاغـي ويبقـى لنـا العُلـى و الضميـر
سألوا عن ضناي، محـض تشـف هـل يَصِـحُّ المعـذب الموتـور
أمن العدل أيهـا الشاتـم التاريـخ أن تلعـن العصـور العصـور ؟
أمن النبـل أيهـا الشاتـم الآبـاء أن يشتـم الكبيــر الصغيــر
وإذا رفـت الغصـون اخضـراراً فالـذي أبدع الغصـون الجـذور
اشتراكيـة ؟! وكنـز مـن الـدر وزهــو ومنـبـر وسـريـر
اشتراكيـة تعاليمـهـا: الإثـراء والظـلـم والخنـا و الفـجـور
اشتراكيـة ! فـإن مـرّ طـاغ صـف جنـد له ودَوّى نفيــر
كل وغد مصعـر الخـد لا سابـور فـي زهـوه ولا أزدشـيـر
يغضـب القاهـر المسلـح بالنـار إذا أنَّ أو شـكـا المقهــور
ينكـر الطبـع فلسفـات عقـول شأنـهـن التعقيـد والتعسـيـر
كــل شـيء متـمــم لســواه ليـس فينـا مستأجـر و أجيـر
بارك الله فـي الحنيفيـة السمحـاء فيهـا التسهيـل و التيسـيــر
ورقيـب على الخيال.. فهل يسلـم منـه المسـمـوع والمنظــور
عازف عن حقائـق الأمـر لؤمـاً وكفـى أن يـلفـق التـقـريـر
فيجافـي أخ أخـاه ويشقـى بالجواسيـس زائـر ومــزور
لصغار النفوس كانـت صغيـرات الأمانـي وللخطيـر الخطيـر
يندُرُ المجد، والدروب إلـى المجـد صعـاب، ويكـثـر التزويــر
علمـوا أنـه عسـيـر فهـابـوه ولا بـدع فالنفـيـس عسيــر
محنة الحاكميـن جهـل ودعـوى جبـن فاضـح و مجـد عَثـور
نهبوا الشعب، واستباح حمى المـال جنـون النعـيـم والتبـذيــر
كيف يغشى الوغـى ويظفـر فيهـا حاكـم مترف وشعـب فقيــر
مزقوه، ولن يمزق الشعب، فالشعب عليـم بـمـا أرادوا خبيــر
حكمـوه بالنـار فالسيـف مصقول على الشعـب حـده مشهــور
محنـة العُـرْبِ أُمَّـةٌ لـم تهـادن فاتحيـها وحـاكـم مأجــور
هتكـوا حرمة المساجد لا جنكيـر بـاراهــم و لا تيمــور
قحموهـا علـى المصليـن بالنـار فشِلْـوٌ يعلـو وشِلْـوٌ يغـور
أمعنوا فـي مصاحـف الله تمزيقـاً ويبدو علـى الوجـوه السـرور
فقئـت أعيـن المصـليـن تعذيبـاً وديسـت مناكـب و صــدور
ثم سيقوا إلى السجون، ولا تسأل، فسجـانـها عنيـف مـريــر
يشبع السـوط من لحـوم الضحايـا وتأبـى دموعـهـم و الزفيـر
مؤمـن بيـن آلتيـن مـن الفـولاذ دام، ممــزق، معـصــور
هتفوا باسـم أحمـد فعلى الأصوات عطر وفـي الأساريـر نــور
هتفوا باسم أحمـد فالسياط الحمـر نعمـى وجـنـة و حـريــر
طرف أتباع أحمـد في السمـاوات وطرف الطاغي كليـل حسيـر
عبـرة للطغـاة مصـرع طـاغ وانتقام مـن عـادل لا يجـور
المصلـون في حمـى الله يُرديهـم مُـدِل بجـنـده مخـمــور
جامـع شاده علـى النـور فحـل أمـوي مُعـَرِّقٌ منـصــور
لم ترع فيه قبـل حكـم الطواغيـت طيـور ولا استبيحـت وكـور
مطلق النار فيه، في الجمعة الزهراء شِلْـوٌ دام وعـظـم كسيــر
والذي عذب الأبـاة رأى التعذيـب حتـى استجـار من لا يجيـر(1)
قدمـاه لـم تحمـلاه إلـى المـوت فزحف على الثـرى لا مسيـر
وخزتـه الحـراب وهـو مسـوق لـرداه، محطـم مجـرور
ويجيل العينين فـي إخـوة الحكـم وأين الحـاني وأيـن النصيـر؟
كـل فـرد منهـم لقتـل أخيــه يصـدر الـرأيُ منـه والتدبيـر
وغـداً يذبـح الرفيـقَ رفيـــقٌ منهم والعشيـرَ فيهـم عشيــرُ
يأكل الذئب، حين يردى، أخــوه ويعض العقـورَ كلـب عقـورٌ
ارجعـوا للشعـوب يـا حاكميهـا لن يفيـد التهويـل والتغـريـر
صارحوها.. فقـد تبدلـت الدنيـا وجـدت بعـد الأمـور أمـور
لا يقـود الشعـوب ظلـم وفقــر وسبـاب مكــرر مسعــور
والإذاعات! هل تخلعـت العاهـر؟ أم هــل تقـيـأ السكيــر؟!
صارحوها.. ولا يُغَطِّ علـى الصدق ضجـيـج مـزور و هـديـر
واتقوا ساعـة الحسـاب إذا دقـت فيوم الحسـاب يـوم عسيــر
يقـف المتهمـان وجهـاً لـوجـه حاكـم ظالـم وشعب صبـور
كـل حُكْـم لـه ـ وإن طـالـت الأيام ـ يومان: أول و أخـيـر
كل طاغ ـ مهما استبد ـ ضعيف كل شعب ـ مهما استكان ـ قدير
وهــب الله بعــض أسمائــه للشعب، فهو القدير وهو الغفـور
يبغض الظلـم ناصحيـه، وإنـي لملـوم فـي نصحكـم معـذور!
يشهـد الله مـا بقلبـي حقـــد شـفَّ قلبـي كما يشف الغديـر
وجراحي ينطفـن شهـداً وعطـراً أدمعي رحمة وشعـري شعـور
يرشف النـور مـن بيانـي فـإن غنيت فهـو المدلـه المخمـور
وطباعي ـ على ازدحام الزرايا ـ لـم ينلهـا التبديـل والتغيـيـر
مسلم.. كلمـا سجـدت لربـي فاح من سجدتي الهدى و العبيـر
ومـع الشيـب والكهـولة قلبــي ـ كعهود الصبا ـ بريء غريـر
لـي حريتـي وإيمانـي السمــح فحلمـي هـان وجفنـي قريـر!
لـم أهادن ظلمـاً وتدري الليالـي في غـد أيـنـا هـو المدحـور !
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الجـولان, سقـوط, وثائق, وقصائد, كتاب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع كتاب وثائق وقصائد عن سقـوط الجـولان
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حصة الأردن من وثائق “بنما” Eng.Jordan الأردن اليوم 0 04-05-2016 03:15 PM
تحميل كتاب فكر تصبح غنيا وثريا – كتاب عربي Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 1 11-07-2013 03:53 PM
السلسة الذهبية المباركة لشرح كتاب الصيام من كتاب جامع الترمذي رحمه الله تعالى تراتيل شذرات إسلامية 0 07-01-2012 09:11 PM
كتاب الحقائق المطموسة في كتاب هرمجدون Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 03-20-2012 02:53 PM
وثائق الصراع العربى الصهيونى فى أكثر من 200 عام Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-09-2012 12:13 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:32 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59