#1  
قديم 02-13-2017, 05:54 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
29 قراءة في بواكير المواجهة مع الغرب (1)


قراءة في بواكير المواجهة مع الغرب (1)
ـــــــــــــــــــــ

(السنوسي محمد السنوسي)
ـــــــــــــ

16 / 5 / 1438 هــ
13 / 2 / 2017 م
ــــــــــــ

المواجهة download-pdf-ebooks.org-wq-7570.jpg








أوَد أن أبدأ بالإشارة إلى ملاحظتين مهمتين:
--------------------

أولاً: ثمَّة نوع من "الكتب" و"الكتابات" لا يكفي أن نقرأه مرة واحدة، ثم نَطويه باحثين عن غيره مما تُخرجه المطابع ونَعجِز عن حصره؛ ذلك أن هذا النوع من "الكتب" و"الكتابات" - الذي يمكن أن نقرأه مَثنى وثُلاث ورُباع وزيادة - هو الذي يمنحنا رؤية أعمق بذاتنا وتاريخنا، ومن ثَمَّ يُبصِّرنا بطريقنا ومستقبلنا، ويكون بمقدوره أن يجعل عقولنا نابضة بالأفكار ذات الصفات التغييرية، وليست الأفكار الميِّتة؛ كما يُسميها المفكر المتميز مالك بن نبي.

كما أن هذا النوع من "الكتب" و"الكتابات" يولِّد عندنا أفكارًا كلية، ونموذجًا معرفيًّا نابعًا من هُويَّتنا وحضارتنا، له خصائصه وسماته الذاتية؛ مما يجعلنا قادرين على التعامل مع الأفكار والمناهج الوافدة من موقع "النِّديَّة"، وليس من موقع "الانسحاق الحضاري" والشعور بالدونيَّة.

وأنا أرى أن كتاب "ودخلت الخيل الأزهر"؛ للأستاذ محمد جلال كشك - رحمه الله - واحد من هذه "الكتب" و"الكتابات" التي يجب أن نستحضرها دائمًا، ونتمثَّلها في وعْينا وحركتنا ونحن في هذا الظرف الدقيق من حاضرنا.

ثانيًا: من الظواهر المؤسفة في حياتنا الفكرية، أن تاريخنا الحديث - سواء في جذوره والعوامل التي شكَّلت روافده وأثَّرت فيه، أو في تجلِّياته في الواقع الذي نعيشه غضًّا طريًّا - لا يزال الجدل حوله ممتدًّا بين طرفي نقيض!

وهذا الجدل والاختلاف حول تاريخنا وهُويَّتنا وثقافتنا - لا يبدو أمرًا سهلاً هيِّنًا، يُمكن تجاوزه أو التغافل عنه؛ لأنه كما يقول الأستاذ جلال كشك في كتابه المهم، فإن "الخلاف حول تفسير التاريخ ليس ظاهرة ترفٍ، ولا هو مجرَّد خلاف حول تفسير الماضي؛ بل هو بالدرجة الأولى خلاف حول الطريق إلى المستقبل، فالأمم دائمًا تُهرَع إلى تاريخها في لحظات مِحنتها، تستمد منه الإلهام والدعم النفسي، بينما يلجأ خصومها دائمًا إلى تزييف التاريخ وتشويهه؛ لتضليل الجماهير، وإفساد الطريق إلى المستقبل".

التأسيس المعرفي لإدارة المواجهة:
-----------------

ينطلق الأستاذ جلال كشك في دراسته لتاريخنا الحديث مما يُسميه "المدرسة الوطنية" في مواجهة "المدرسة الاستعمارية"، ويُبيِّن أن هاتين المدرستين تقفان على طرفي نقيض ٍفيما يتصل بالرؤية العامة لأُسس النهضة، وبتصوُّر العلاقة مع الغرب، وحسب قوله: فبينما ترى "المدرسة الاستعمارية" أن القومية والتقدم والتحديث والتحرُّر، كلها معانٍ ومفاهيم وسلوك، تُكتسب من خلال التعاون مع المحتل وبمعونته وإرشاده، ترى "المدرسة الوطنية" أن هذه المفاهيم لا معنى لها إلا إذا كانت مرتبطة بسلوك وطني مقاوِم للوجود أو النفوذ الأجنبي بجميع أشكالهما.

فالتقدم أو الرجعية ليست موقفًا معلقًا في الهواء، ولا قضية فكرية خارج إطار الزمان والمكان، بل موقف يتحدَّد بأحداث حركة التاريخ ومصلحة الأمة المعينة، فلا يجوز أن نصِف بالرجعية المجاهِدةَ الجزائرية التي كانت تتمسَّك بالحجاب طوال زمن الاحتلال كرمز للمقاومة، وكوسيلة لها في المرحلة الأخيرة.

في كتابه هذا يَفضَح الأستاذ جلال كشك بحقائق التاريخ ووقائعه، أولئك الذين يريدون - أمثال لويس عوض - أن يجعلوا من الاحتلال الفرنسي بداية نَهضتنا وتقدُّمنا في العصر الحديث، وأن يُهيلوا التراب بهذا التحديث المزعوم على حضارتنا التي أضاءت الدنيا طيلة عشرة قرون - كما أكَّد ذلك ول ديورانت في "قصة الحضارة" - حين أرادوا أن يحتفلوا منذ سنوات على مرور مائتي سنة على الاحتلال الفرنسي، أو "التنوير" الفرنسي كما يزعمون!

والرسالة التي نذَر لها كتابه الضخم، هي تأكيد أن "سلوك الحملة الفرنسية لا يختلف كثيرًا عن سلوك سائر الغزاة، إلا فيما أضافته الحضارة الحديثة من وسائل إتقان القتل الجماعي، والتنكيل بالشعوب التي ترفض الاحتلال!".

وهو في سبيله لتقرير هذه الحقيقة لا يَعتسف الحقائق، ولا يُزوِّر التاريخ - شأن أولئك المروِّجين للاحتلال - إنما يكتفي بسرد الشواهد والأحداث مع ربْطها بعضها ببعض، ومع إزالة الغبار الذي وُضِع عمدًا؛ ليَحجب الحقائق الناصعة والمؤلمة أيضًا عن الأجيال اللاحقة؛ حتى يَسهُل بعد ذلك تغريبها، وتزييف وعْيها بماضيها وبمستقبلها معًا!

أهمية الكتاب تتجلى أيضًا في أنه سلَّط أضواءً كاشفة على تركيبة المجتمع المصري إبَّان المواجهة مع الغرب، فأطال الحديث عن شرائحه وطبقاته: (المماليك، العلماء، التُّجار والأعيان، العامة "مساتير الناس")؛ مُبْرِزًا عوامل القوة فيه، وطبيعة (أهل الحل والعَقْد)، وموقع الأزهر وعلمائه في الخريطة الفكرية والسياسية.

إضافة إلى أنه ألقى الضوء على سياسات الاحتلال، والوسائل التي سلكها لإخفاء أطماعه، وللولوج إلى مكامن القوة في المجتمع المصري، وكيف أنه استطاع شقَّ "الصف الوطني" بإثارة التمايُز الديني واستغلاله لبعض الأقباط؛ مثل: "المعلم يعقوب" الذي يُقدَّم باعتباره رائدَ القومية المصرية، بينما هو نموذج للعمالة للمستعمر، وكان منبوذًا من المسلمين والأقباط على السواء، وشق "الوحدة الفكرية"، عن طريق إضعاف الأزهر وبَذْر ما يسمَّى بتحرير المرأة، فقد استقدَم نابليون معه 300 امرأة للترفيه! ثم كانت أول قائمة بما طلَبه من فرنسا أن تُرسل له 100 مومس فرنسية! ولا يخفى على أحد ما يترتب على مخالطة هؤلاء للمجتمع المصري.

لهذا يُعد "ودخلت الخيل الأزهر" مرجعًا مهمًّا في التعرف على بواكير المواجهة بين الشرق والغرب، وفي التأسيس المعرفي لإدارة المواجهة معه على أساس من الثقة بالذات واستيعاب دروس التاريخ، الذي هو - حسب تعبير كشك - الطريق إلى المستقبل؟!

فضلاً عن أنه يقدِّم لنا "مهارة" في كيفية قراءة "ما بين السطور" في كتابات مَن يزوِّرون الحقائق، وضرورة استحضار الجو الفكري والنفسي للتاريخ؛ حتى يُمكننا أن نكتشف زَيف قراءة أمثال لويس عوض، حين يعرض هذا الأخير نصوصًا من "تاريخ الجبرتي"، ويستنتج منها ما يتراءى له، بعد أن يلوي عُنقها، ويَصرفها عن وِجهتها في تعسُّف واضح، وكذِبٍ صريح، وما أكثر ما يلجأ لذلك لويس وأمثاله!

ولذلك لا نبالغ إذا قلنا: إن "ودخلت الخيل الأزهر" يمثل - عن جدارة - إحدى الركائز المهمة التي تؤسِّس للمدرسة التاريخية الإسلامية الوطنية، بعد أن استطاع أن يُبلور رؤية منصفة واضحة المعالم لتاريخنا الحديث.

الأزهر رمز الأمة:
المتأمل في مفردات المشهد الفكري والاجتماعي الذي كان قائمًا بمصر قبل مجيء الحملة الفرنسية، يتأكَّد له بوضوح أن شيوخ الأزهر كان لهم دور قيادي في نهضة المجتمع، وهو دور ينبثق - كما يقول المؤلف - من الفَهم الإسلامي المتميز لدور الدين ورسالته في الحياة، ومن ثَمَّ فلم يكن شيوخ الأزهر رجالَ كهنوت منعزلين عن مجرى الحياة العامة، ولا كانوا كما تُصوِّرهم بعض الأقلام المعاصرة غارقين في ********ات، لا يعلمون شيئًا عن العلوم الوضعية وأحوال المادة، إنما برَع كثير منهم في علوم الطب والفلك والرياضيات.

وبعد سرْده لعدد من المواجهات التي حدَثت بين شيوخ الأزهر والمماليك؛ مثل: احتجاج الشيخ الشرقاوي على زيادة الضرائب والمكوس، وقيادته مظاهرة ضخمة ضد إبراهيم بيك ومراد بيك، حتى أجبَرهما على إبطال تلك الزيادة - يستنتج الكاتب أن هؤلاء الشيوخ - بمساندة طوائف الشعب - لم يكونوا مجرد (قوة رمزية)، بل كانوا يستطيعون دائمًا تحويل كل مظهر سخطٍ إلى إضراب عام، يتطوَّر إلى مواجهة شاملة تُطالب بإصلاحات أوسع من حدود المشكلة التي أثارت الحادث، فكان بإمكانهم مواجهة الأُمراء، وفرْض مطالبهم، وإجبارهم على التراجع والتسليم ولو بنيَّة الغدر!

ثم يذكر الكاتب أنه ما أن سقَطت "الدولة" المصرية في معركة إمبابة، حتى أصبح الغازي المحتل والأزهر وجهًا لوجه، فقاد الأزهر مقاومة الأمة على جميع المستويات؛ من تنفيذ الإضرابات الشاملة، إلى تنظيم حركات سرية تُغذِّي أعمال المقاومة الشعبية، التي وصلت ذِروتها بثورة القاهرة الأولى والثانية، إلى أعمال الاغتيال التي نفَّذها بنجاح طلبة الأزهر "المجاورون".

وبعد سلسلة من الصدامات بين الاحتلال وبين الشعب بقيادة الأزهر، توصَّل الاحتلال إلى قناعة كافية، وهي أنه ما لم تتمَّ تصفية الدور القيادي الذي يقوم به "الأزهر"، فلن يمكن لأي استعمار غربي أن يستقرَّ على ضفاف النيل.

لكن تصفية الأزهر لم تتمَّ عن طريق احتلاله بالخيل فحسب، ولا بتسمير أبوابه ومنْع الدراسة فيه، إنما تمَّت - كما يَلفت الكاتب في أكثر من موضع - بتسمير باب قيادته الفكرية للأمة؛ وذلك بتغريب المجتمع من حوله؛ حتى تُقطع جذوره أو تَذوي، ويبدو نشازًا متخلفًا، ومثارًا للسخرية والتندُّر، ومن هنا كان اهتمام الغرب بترويج فكرة (التغريب) بين صفوفنا، فمنذ الحملة الفرنسية وهناك استثمارات "فكرية" إلى جانب الاستثمارات "المالية" - بل وكجزء منها - تَهدف إلى إقناعنا: أنه لا تحديث إلا بالتغريب!

ويخلص الكاتب في هذا الصدد إلى حقيقة مؤلمة، قائلاً: الحق أن مكانة الأزهر لم يُتطاول عليها ولم تُمتهن إلا على يد نابليون، إلى أن أنجَز المهمة الحُكمُ المتغرِّب الذي بدأه محمد علي وأكمله مَن جاء بعده.

وفيما يتصل بـ "التغريب" وأهدافه، يؤكد الأستاذ جلال كشك أن الاحتلال عمِل على تزييف التاريخ؛ بهدف إجهاض موجة العداء المتزايدة ضد العدو التاريخي والقومي والحضاري، الذي شلَّ تقدُّمنا، وأبقانا في أسْر التخلُّف خلال مائة وخمسين عامًا حاسمة في تاريخ العالم، ثم رمانا بابنته الشرِسة المتوحِّشة المُدجَّجة بتكنولوجيَّته، وبدلاً من تنمية هذا الوعي وتوجيه هذا النفور من الغرب في اتجاه الحرب الوطنية، بدأت محاولات "التحبيب" في الغرب، فهو الذي حضَّرنا، وهو الذي علَّمنا، وهو الذي عرَّفنا لأول مرة معنى كلمة "حرية" و"دولة" و"أمة" و"قومية"، بل هو الذي أخرجنا من القرون الوسطى، وحرَّرنا من الاستعمار التركي، وبعَث فينا الرُّوح القومية، فعلى يديه عرَفنا أننا مصريون أو عرب!

وهنا يلفت الكاتب أنظارنا إلى أن الغرب وهو يدْعونا إلى تقليده والاقتداء به، فهو - أي: الغرب - يقصد تقليده في العادات الاجتماعية والمظاهر السلوكية، دون إكسابنا العلوم العملية التي تقوم عليها النهضة، فالتغريب يبدأ من إقناع الأمة الشرقية بأنها متخلِّفة في جوهرها، متخلفة في تاريخها وصميم تكوينها؛ ومن ثَمَّ لا بد من انسلاخها تمامًا عن كل ما يَربطها بماضيها، ويميِّز ذاتها، وإعادة تشكيل المجتمع على الطراز الغربي من ناحية العادات والمظاهر السلوكية، مع إبقائه متخلفًا عاجزًا عن إنتاج سلع الغرب، عاجزًا عن اكتساب معرفة الغرب، فإذا ما اكتسب بعض أفراده هذه المعرفة، يجدون أنفسهم غرباءَ عاطلين عن العمل في مجتمعهم، فيضطرون إلى النزوح إلى عالم المتفوقين.






ــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-13-2017, 06:04 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
29 قراءة في بواكير المواجهة مع الغرب (2)

قراءة في بواكير المواجهة مع الغرب (2)
ــــــــــــــــــــ

(السنوسي محمد السنوسي)
ـــــــــــــ

16 / 5 / 1438 هــ
13 / 2 / 2017 م
ــــــــــــ







الطبيعة الاستعمارية للغرب
-------------

ثمة إشكالية تستوقف الدارسين لتاريخ الصراع بين الغرب والشرق، تتعلَّق بطبيعة الغرب والدوافع التي كانت من وراء استعماره للشرق ونهْب ثرواته قرونًا متطاولة، فهل كان الغرب يعبِّر في استعماره هذا عن موقف مبدئي ونزعة متأصِّلة فيه؟ أم كان ذلك مجرَّد نزوة منه وعملاً شاذًّا لا يُقاس عليه؟

ويذهب أستاذنا محمد جلال كشك - والتاريخ يؤيده - إلى الرأي الأول، مؤكدًا أن الحملة الفرنسية لم تكن ظاهرة منفصلة عن التاريخ السياسي الاستعماري الفرنسي؛ ذلك أن فرنسا ما قبل الثورة كانت تخطِّط باهتمام بالغٍ لغزو مصر، وقد قام الملكيُّون الفرنسيون بدراسات واتِّصالات حينئذٍ، وفي عهد لويس السادس عشر، طالَب (سان بريست) سفير فرنسا في الأستانة بغزو مصر، وعلى إثر إلحاحه أرسَلت فرنسا البارون (دتوت) إلى مصر؛ لدراسة ثغورها ومواقعها، ووَصَفت مهمَّته بأنها "مهمة سرية لشرقي البحر المتوسط"، وكانت مهمته الحقيقة استطلاعَ إمكانية الاستيلاء على مصر وإحالتها إلى مستعمرة فرنسية؛ لذلك أبحر إلى الإسكندرية في صُحبة العالِم الطبيعي (سونيني) على ظهر الفرقاطة (أطلانط)، وواصَل رحلته إلى رشيد، ثم إلى القاهرة.

ثم كتب هذا البارون في تقريره بعد الزيارة: أن الاستيلاء على مصر لن يكون إلا "احتلالاً سِلْميًّا لبلد أعزلَ"، وأنه يرى ضرورة إذاعة منشور "يُطمئن الأهالي إلى أن الفرنسيين قدِموا بوصفهم أصدقاءَ وحلفاء للسلطان، ومحرِّرين لهم من رِبقة المماليك"، وهذا بالضبط ما فعَله نابليون بعد ذلك.

وهنا يتساءل الكاتب تاركًا الإجابة للقارئ الذكي: فهل كان ثمة فرق بين فرنسا في عهد الملكية "البابوية" وفرنسا في عهد الثورة "التنويرية"؟!

وإيضاحًا للحقائق التي تَحكُم سَيرَ الأمم والحضارات، يُبيِّن الأستاذ جلال كشك أن الثورة لا تُغيِّر مصالح الدول، بل على العكس، فهي في الغالب تعطي دَفعة قوية جديدة لتحقيق هذه المصالح.

إن النظام القديم ينهار عندما يَعجِز عن تحقيق مصالح الدولة، ولكن ما من ثورة حتى الآن - ثورة تَنبع من المجتمع، وليست مؤامرة مفروضة عليه من الخارج - قد تنكَّرت لمصالح الدولة؛ لذلك كانت الثورة البورجوازية الفرنسية استمرارًا للمصالح الفرنسية، التي أصبح النظام الملكي عاجزًا عن تحقيقها؛ إذ كانت مصالح فرنسا تحتل مكان الصدارة بين المصالح الغربية في مصر قبل الحملة الفرنسية، وكان لها قنصل عام في القاهرة وقنصليتان في الإسكندرية ورشيد، والتجار الفرنسيون الذين كانوا في القاهرة منذ العهد الملكي، كانوا أول المُرحبين باستيلاء فرنسا الثورة على مصر.

ويقول "هيرولد" صاحب كتاب "بونابرت في مصر": "إن سَيْلاً من المذكرات عن المسألة الشرقية، ظل يَغمر وزارة الخارجية الفرنسية طول عشرين عامًا (1770 - 1790م).

أما عن مصر، فإن جميع المذكرات تقريبًا أيَّدت الاستيلاء عليها".

المهمة (الحضارية) لنابليون:
----------------

دائمًا ما تحاول القوى الاستعمارية أن تُخفي وجهَها القبيح بشعارات زائفة أمام الشعوب التي تَستنزف ثرواتها، فمثلاً تدَّعي كذبًا أنها جاءت لتُعلِّمهم الحرية والمساواة والديمقراطية، أو لتُخلِّصهم من الحُكام المستبدين - نتذكر دعاوى بوش قبل غزو العراق - كما يؤكِّدون أن لديهم "مهمة حضارية" تُجاه العالم، وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك؛ كما قال نابليون عن نفسه في منشور وزَّعه على المصريين: "ولكن يأتي وقت يرى فيه جميع الناس أنني أهتدي بأوامر السماء"، (بوش أيضًا كان يقول: إن الرب أمره بغزو العراق)!

لكن، هل أفلحت تلك المنشورات في تزييف الوعي كما أراد أصحابُها؟!
يجيب الأستاذ جلال كشك قائلاً: رغم كل البيانات والمنشورات والتحليلات التي صاحبَت وأعقَبت الحملةَ الفرنسية إلى يومنا هذا، فإن نابليون كان صريحًا وواضحًا في تحديد مهمته في مصر، عندما قال: "سأستعمر مصر"!

"سأستعمر مصر، وأستورد الفنَّانين والعُمال من جميع الأنواع والنساء والمُمثلين.

إن ستَّ سنوات تكفيني للذهاب إلى الهند لو سارت الأمور سيرًا طيبًا".

لكن الأمور لم تَسِر سيرًا طيبًا لأسباب عديدة، أهمها وأخطرها: أن الشعب المصري، وأولاد العرب، وأمة الإسلام، رفَضوا "المهمة الحضارية" لنابليون؛ إذ عرَفوا دون جدلٍ ولا لَجاجة أنه قادم "لاستعمار مصر"، فقاوَموا هذا الاستعمار وأفشَلوه.

وحينما نزل نابليون الإسكندرية وأخمَد مقاومة المدينة بالرصاص والسناكي والقتل والحرْق، وزَّع منشورًا على الأهالي يُبشِّرهم فيه أن رب العالمين القادر على كل شيء، قد حكَم على انقضاء دولتهم؛ أي: المماليك.

إنني ما قدِمت إليكم إلا لأُخلِّص حقَّكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك؛ أعبدُ الله - سبحانه وتعالى - وأحترم نبيَّه والقرآن العظيم، وبعونه تعالى من الآن فصاعدًا، لا يَيْئَس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية"!

فهذا الخداع والمكر لم يكن ليَنطليَ على الشعب المصري؛ لأنه - كما يؤكد المؤلف -: "لَم تكن هنالك فرصة لتضليل الجماهير، أو إخفاء طبيعة الصراع، وانفجَرت مع الطلقة الأولى ذكريات وتاريخ الحروب الصليبية بين الغرب والشرق".

ويقدم لنا الأستاذ جلال كشك مفارقة عن تلك "المهمة الحضارية" التي زعمها نابليون، فيقول: "لم يكن لدى المصريين الذين بَقُوا أحياءً من سكان الإسكندرية حاجةٌ إلى قراءة المنشور، حتى لو أُتيحت لهم الفرصة؛ فقد كانوا يرون المهمة التحريرية رأيَ العين، وليس من رأى كمن قرَأ، ولكن يبدو أن بعض حفَدة "التراجمة" أمثال لويس عوض، الذين استأْجَرهم كليبر، والذين صاغوا المنشور بلغة عربية ركيكة - يحاولون الآن - وبعد كل هذه السنين التي عشناها في ظل "الرسالة الحضارية" للغرب الاستعماري - يحاولون اليوم الدفاع عن مهمة أجدادهم بإعطاء أهميَّة خاصة لهذا المنشور، ووصْفه بأنه وثيقة خطيرة تُعلن تحرُّر المصريين وقوميَّتَهم، مع أن نابليون نفسه وصفه في (سانت هيلانة) "بأنه قطعة من الدَّجل، ولكنه دجَلٌ من أعلى طراز"، واعترَف أن "على الإنسان أن يَصطنع الدجل في هذه الدنيا؛ لأنه السبيل الوحيد إلى النجاح".

المقاومة الشعبية الباسلة:
-------------

ويسجِّل الجبرتي في تاريخه - وينقل عنه الأستاذ جلال كشك فقراتٍ مطولةً - مقاومةَ الشعب المصري الباسلة للاحتلال الفرنسي، مبينًا أن هذه المقاومة امتدَّت في أنحاء القطر المصري، وشارَك فيها جميع طوائف الشعب، فبمجرد أن دنَّس نابليون الإسكندرية بجنوده، حتى هبَّ المصريون لمقاومتهم بقيادة البطل محمد كريم، الذي أُعدِم بعد ذلك بالرصاص والأحجار، وأُصيب كليبر ومينو، حتى إن المستشرق "هيرولد" ليَشهد ببسالة هذه المقاومة، فيقول: "من النادر أن يُصاب قائدان هذه الإصابات في الدقائق الخمسة الأولى في أيَّة حملة حربية!".

وقُتِل اللواء "ماس" وخمسة ضباط آخرون، وكتب الجنرال مينو: "إن الأعداء قد دافَعوا عن المدينة بشجاعة كبيرة وثبات عظيمٍ"، وبحسب تقرير بونابرت إلى القيادة، فإن "كل بيت تحوَّل إلى قلعة".

ثم جاء الرد الفرنسي عنيفًا ليَقتل بلا هَوادة - كعادته - دون تَفرقة بين الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، ويَذبح حتى الذين احتموا بالمساجد؛ ليفضح هذا العنف - كما يقول المؤلف - "المهمة الحضارية، والرسالة التحريرية" التي زعم نابليون أنه مكلَّف بها، وجاء إلى الشرق لنشْرها!

ولم يكن أهل القاهرة - حين دنَّسها نابليون بعد ذلك - أقلَّ بَسالة من أهل الإسكندرية، ولا أقل نصيبًا من وحشية الفرنسيين وهمجيَّتهم! وتأتي هنا شهادة المسيو "ريبو" دالة كأعمق ما تكون الدلالة؛ إذ يقول: "كان الجنود يعملون على إخماد الثورة بإطلاق الرصاص على الفلاحين، وفرْض الغرامات على البلاد، لكن الثورة كانت كحيَّة ذات مائة رأس، كلما أخمَدها السيف والنار في ناحية، ظهرت في ناحية أخرى أقوى وأشد مما كانت، فكأنها تَعظُم ويتَّسع مداها كلما ارتحَلت من بلدٍ إلى بلد آخر".

ويلخِّص المؤرخ عبدالرحمن الرافعي - كما ينقل عنه جلال كشك - قوة المقاومة التي اجتاحت الريف المصري في الصعيد والدلتا بقوله: "وصفوة القول: إنه لم يكن لأُمة عَزلاء لا سلاح معها، أن تُدافع عن كِيانها بأكثر مما فعَلت الأمة المصرية في عهد الحملة الفرنسية".

ثم تطوَّرت المقاومة الشعبية إلى كِيان منظم سُمِّي "ديوان الشعب"، يَرأسه الشيخ السادات؛ ليجهِّز المتطوعين للقتال، وكان هذا "الديوان" وراء تفجير ثورتي القاهرة الأولى والثانية؛ ولذلك أعدَم نابليون ثمانين عضوًا من أعضائه مرة واحدة، مبررًا فَعْلته الشنيعة بأنهم "كانوا قومًا ذوي تفكير عنيف متطرِّف"! (هل تغيَّرت الاتهامات بعد قرنين من الزمان؟!).

وبعد ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر 1798م، ثار غضب نابليون، وأمَر مدفعية القلعة بأن تُسدِّد نيرانها إلى الأزهر وما حوله من أحياء هي مركز الثورة، ثم دخلت الخيل الأزهر، وأعمَل الفرنسيون سيوفهم وبنادقهم في طلبته وشيوخه، ونهَبوا الكتب ومزَّقوا المخطوطات، ونهَب بعضَها اليهودُ الذين كانوا في خدمة جيش الاحتلال، ثم اتَّخذوا الأزهر إسطبلاً للخيل! حتى تشفَّع الشيخ الجوهري عند نابليون، طالبًا خروج الخيل من الأزهر، فأمَر بالجلاء، ثم ألقى القبض على عددٍ من المشايخ وقطَع رؤوسهم في سجون القلعة، بل وأعدَم شيخ طائفة العُميان!

ثم جاء (كليبر) بعدما رحَل نابليون إلى غير رجعة، وفي عهده قامت ثورة القاهرة الثانية، فكانت أشدَّ وأعنف من الأولى، واستطاع الطالب الشجاع سليمان (الحلبي) أن يقتل كليبر وأن يَثأر للأمة الإسلامية كلها، فحكَموا عليه بالإعدام على الخازوق، بعد أن تُحرق يده وهو حيٌّ!

وبحرْق الإنسان الحي والقتل على الخازوق، ختَمت الحملة الفرنسية - كما يقول جلال كشك متهكِّمًا - صفحتها (الحضارية!) في مصر، منبِّهة كأعنف ما يكون التنبيه كلَّ الذين خدَعتهم الشكليات، وغرَّرت بهم أبواقُ الاحتلال، نبَّهتهم إلى أن الاستعمار هو الاستعمار، وأن الحكم الوحشي هو وسيلته الوحيدة في مواجهة تطلُّع الشعوب، وحِرمانها من حقها في التحرُّر والاستقلال.

التحدي ما زال قائمًا:
كثيرة هي "الإضاءات" التي استطاع الكتاب أن يُسلِّطها على مناطق "معتمة" في تاريخنا الحديث، بفعْل المكايد التي تُمارَس لتشويهه كما أسلفنا.

فقد بيَّن أبعاد الغزوة الفرنسية، أو اللقاء الأول بيننا وبين الغرب المتقدِّم، وأبعاد المقاومة التي شنَّها الشعب المصري ضد الغُزاة المحتلين، وكيف كانت هذه المقاومة رائعة وخالدة؛ لأنها كانت رفْضَ أُمة سليمة العقيدة، نقيَّة الجوهر، لم يتمَّ بعدُ تغريبها ولا تدجينها، ولأنها كانت بقيادة النُّخبة الشرعية للمجتمع.

وأوضح كيف أن بذور "البعث الحضاري" المنشود، كانت موجودة في طيَّات هذه المقاومة، وفي صفحات هذا الرفض للوجود الحضاري، ففي ثورة القاهرة الأولى وُلِدت "التنظيمات الوطنية"، وفي الثورة الثانية أوشَكنا أن ندخل عصر "الانقلاب الصناعي" عندما صنع أجدادُنا المِدفع والبارود.

وفي معارك الصعيد ودمنهور وُلِدت "الوحدة العربية"، عندما اختلطَت دماء المجاهدين من الحجاز وتونس بدماء المجاهدين المصريين، وبلَغت هذه الوحدة ذِروتها بالبطل الشهيد "سليمان الحلبي" الذي جاء من حلب؛ ليَثأر لمصر من كليبر السفاح.

كما كشف زَيف ما يروَّج عن الدور الحضاري الذي لعبته الحملة الفرنسية، ملقيًا الضوء على أعمال التنكيل الوحشي التي ارتكَبها جيش الاحتلال ضد المواطنين، ثم كيف كان موقف الإدارة الفرنسية استعماريًّا تقليديًّا، عندما رفضَت تشغيل المصريين في مصنع للجوخ؛ خوفًا من أن يتعلَّم المصريون الصنعة!

أما الدرس الأكبر الذي نَستخلصه من هذه الصفحة المؤلمة من صفحات تاريخنا، فهو - كما يؤكد الأستاذ جلال كشك - أن الحملة الفرنسية كانت بداية التحدي الحديث والحاسم الذي واجه الغربُ به الشرقَ الإسلاميَّ، التحدي الذي لم يُجب عليه إلى الآن، سواء بسحْقه، أو الفناء فيه.

غير أن هذا التحدي قد استثار عناصر المقاومة في الأمة، بالرغم من أنه لم يصل بالاستثارة إلى المستوى الذي يُمكِّن الأمة من التغلب على التحدي وقهْره، ومن ثَمَّ تحقيق البعث الحضاري، وتخطِّي حافَة الخطر، كما أن هذا التحدي في المقابل لم ينجح في سحْق مقاومة الأمة نهائيًّا.

ومن أسفٍ أن الأمة العربية والإسلامية ما زالت تواجه هذا التحدي بنوبات من الانفعال، وارتفاع مؤقَّت في حرارة الرفض - كما هو حالها الآن تُجاه فلسطين، وتجاه قضاياها المصيرية الأخرى - دون أن تصلَ الأمة إلى مستوى الرفض الشامل، والمقاومة البنَّاءة ذات النفَس الطويل، ودون أن يتوفَّر عندها الوعيُ العميق بمؤهلات التمكين ومُوجباته.





ـــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
المواجهة, العرب, بواكير, قراءة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع قراءة في بواكير المواجهة مع الغرب (1)
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المواجهة مع إيران.. تقدير موقف عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-21-2015 09:19 AM
شرك الأسلمة؛ وانتكاسة المواجهة عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 04-23-2015 07:24 AM
ربيع العرب .. قراءة في التحولات العربية وتأثيرها على حالة التسامح Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 06-13-2013 11:08 AM
علمانية تركيا .. في المواجهة من جديد عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 06-13-2013 09:52 AM
المواجهة الفاصلة بين الإسلام والنصرانية في إندونيسيا Eng.Jordan شذرات إسلامية 2 04-19-2012 11:49 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:10 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59