#1  
قديم 03-12-2017, 10:43 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة دارسو الفكر .. وجمع الطوابع!


دارسو الفكر .. وجمع الطوابع!
ــــــــــــــــ

(مشاري الشثري)
ـــــــــ

13 / 6 / 1438 هــ
12 / 3 / 2017 م
ـــــــــــ

الطوابع! 166931370.jpg





من الظواهر المعرفية الجديرة بالمعالجة في المجتمع المعرفي الإسلامي: حالة تشظِّي المشاريع والأهداف التي يعانيها دارسو الفكر، حتى صار واحدُهُم يسير في تحصيله الفكري إلى حيثُ لا يدري، ولو باحثتَه عن هدفه المعرفي الذي يريد بلوغَه لم تجد أزيدَ من عباراتٍ واسعةِ الألفاظ ضيِّقَةِ المعاني، بل لو ساءلته عن حقيقة ما يظنه متخصِّصًا فيه من دراساتٍ وحقولٍ فكريةٍ لوجدته من جنس الكلام الذي يَسَعُ كل متخصص في كل علم أن يتلفظ به، لكنَّ فرقَ ما بينه وبينهم امتلاكُهم لبراهينَ معنويَّةٍ تشهد لصحة كلامهم، أما هو فبراهينُه ألفاظُه!

وهذا التشظِّي وإن كان يمكن تبريره موضوعيًّا بسيولةِ المادة الفكرية نفسِها وتَنَازُعِها شريحةً عريضةً من التخصصات، إلا أن من الضرورة الملحِّة السعي في الحدِّ من هذه الظاهرة لئلَّا يكون الفكرُ في آخر المطاف مجردَ متعة ثقافية، ولئلا تكون الإحالةُ إلى الفكر وكتبه إحالةً تائهة.
وتزداد هذه الظاهرة تفشيًّا مع حالة الإقبال الشبابي على الفكر ومقرراته قبل استلام رخصة (التخصُّص) والتي من شأنها تمكينُ دارس الفكر من تحديدِ نوع المادة الفكرية التي يعالجها وبناءِ مشروعه الفكري على حدودها.

*****

لستُ هنا بطبيعة الحال أنقد الفكرَ والاشتغالَ بكتبه، فهذا أمرٌ ينبغي تجاوزه، لكنَّ الذي أؤكد عليه أن مخرجات الفكر في مجتمعنا المعرفي أضحت لا تتجاوز قراءةَ ما كُتِبَ من دراساتٍ ونُقُودٍ للمشاريع الفكرية الناجزة -غربيةً كانت أو عربيةً- دون أن تشتغل بإنتاجٍ فكريٍّ واضحِ المعالم بيّنِ الاتجاهات، ودون أن تلك القراءة الفكرية مرتهنةً لمنهجٍ واضحٍ في معالمه مدرَّجٍ في ترقيه على نحو ما نراه في كل العلوم والتخصصات.

والمطالع لكثير من الخطابات الفكرية من ذوي الخلفيات الإسلامية، المحليَّة منه والعربيَّة، لا يجدها سوى تعاليق على أحداث متفرقة وأفكار متنوعة، وهي في كثيرٍ من تجلياتها انطباعاتٌ وأذواقٌ حُلِّيَت بعبارات ومصطلحات فكرية لتروج بجاهها، وهذا هو المآل الطبيعي للخطاب الفكري التائه الذي لا يرتهن لشروط التخصصات الصارمة.
بل زاد من طغيان هذا التيه أنِ استطال كثيرٌ من دارسي الفكر على أصحاب التخصصات، فالمتخصصون في نظرهم لايرون المعلومةَ في بنائها ولا الحادثةَ في سياقها، بخلافهم هم ممن يرى المعلومة والحادثة في إطار نظرية معرفية ناظمة، وواقع الأمر عند كثيرٍ منهم لا يعدو أن يكون لعبةً لفظية.

صار من السهل لذلك أن ترى دارسًا للفكر، أو بعبارةٍ أدقَّ: قارئًا للفكر، يستطيل ببعض مصطلحات الفكر ليتندَّر بفتيا فقيه في إحدى نوازل المعاملات المالية بحجة أنه في غفلة عن فهم حقيقة الاقتصاديات الحاكمة للنظام الدولي، وآخر يزهِّد من طرح متخصص في السياسة الشرعية بحجة أنه لم يطالعْ ما كتبه نُقَّاد الحداثة ولم يفقه طبيعة المتغيرات التي تعجّ بها الدولة الحديثة، وهلم جرًّا.
ولست بذلك أبرِّئُ المتخصصين مما يعتري كثيرًا منهم من الأغاليط الناتجة عن جهل حقيقي بطبيعة المتغيرات المعرفية والواقعية المحيطة بهم، ولكن النقد لمثل ذلك لا يكون إلا باقتدار معرفي منهجي يتجاوز ما يمكن تسميته بالشتائم الفكرية!

*****

وكم يحلو للبعض أن يخلق بانتشاءٍ تباينًا موهومًا بين الفكر وسائر العلوم ليحقق بذلك شرعيَّةً لمعارفه -وشرعيَّةُ المعرفة بامتيازها- وذلك من خلال زعمه بأن الفكر قراءة تجريديَّةٌ نظرية، بخلاف غيره من العلوم التي ترتهن القراءات فيها إلى أوعيةٍ معرفيةٍ معَبَّأَةٍ بأحكام عملية محددة، أو أنَّ العلمَ المعيَّنَ قراءةٌ من الداخل لجنسٍ من المعارف، وأما الفكر فقراءة له من خارجه، فالفكر بذلك بمثابة المقوِّم للعلوم، الحاكمِ عليها .. ولكن واقع الأمر أن هذا التمييز لا يعدو أن يكون رسمًا لحدودٍ موهومةٍ تفضحُها الأمثلة.
فليس للفكر حدودٌ تجعل منه مباينًا للعلوم، ولا يمكنُ -ولو بتكلُّفٍ- أن يُجعَلَ تخصُّصًا معزولًا، فإنَّما تُستنبَتُ بذوره في أراضي العلوم، وإماتةُ الفكر وإحالتُه إلى تخصُّصٍ فارغٍ إنما تتحقق بعزله عن مواقع المعارف المختلفة.

ومن هنا فالذي أراه حتميًّا للخلاص من حالة التشظِّي والتَّيهان التي تطوِّق كثيرًا من دارسي الفكر: أن يكون الدَّرْسُ الفكريُّ مبنيًّا على تخصُّصٍ سابقٍ لدارس الفكر، أيًّا كان ذلك التخصص، وذلك لتَحُلَّ أرواحُ المفاهيم والنظريات السابحة في فضاء التجريد بجسد التخصِّص الذي جعله الدارسُ أصلًا لبنائه المعرفي.

وحرفُ ما أريد التأكيد عليه في هذه الخاطرة هو ما قدمته في صدرها، وغايتُه التنبيهُ على أن دارس الفكر إن لم يقيِّدْ دراسته هذه بصرامة المعايير العلمية فسيجد نفسه في آخر المطاف مجردَ عارفٍ بالمنجَز الفكري دون أن ينجِز، مجردَ هاوٍ جعل همَّه ومشروعَه الأكبرَ متمثِّلًا في جمع طوابع المدارس الفكرية!








ــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الفكر, الطوابع!, دارسو, نجمع


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع دارسو الفكر .. وجمع الطوابع!
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كيف نجمع عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 1 11-02-2015 10:46 PM
مراكز الفكر الأمريكي...قراءة في خرائط مراكز الفكر الأمريكية Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 08-29-2014 08:27 PM
دارسو اللغة العربية في ولاية لاغوس بين الواقع والوهم Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-30-2013 11:36 AM
تحديات الفكر والثقافة العربية في الفكر والأدب Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 02-19-2012 09:36 AM
تحديات الفكر والثقافة العربية في الفكر والأدب الدكتور سليمان الأزرعي مهند دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-09-2012 06:47 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:07 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59