#1  
قديم 08-24-2013, 08:23 PM
ام زهرة غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: العراق
المشاركات: 6,886
افتراضي الشهرة بين الطلب والهرب


لا تكاد تخطئ عين القارئ في سير السلف الصالح ـ رحمة الله عليهم ـ الحديث عن كراهية الشهرة، فنقرأ أمثال هذه العبارات: "لم يكن يمنعني من مجالستكم إلا مخافة الشهرة"، و "كان فلان يتوقى الشهرة" وقال أحد الأئمة يعظ أخاه: "إياك والشهرة , فما أتيت أحدا إلا وقد نهاني عن الشهرة"، وقال آخر: «بث علمك , واحذر الشهرة»، ورويت الجملة هذه عن غير واحد: «لم يصدق الله من أحب الشهرة»، وأمثالها كثير.

ولا ريب أن هؤلاء الأئمة لم تتوارد كلماتهم إلا وهم يدركون أثر الشهرة على القلب، وأن الإنسان كلما زادت شهرته، صارت التبعة على قلبه أكبر، من جهة المجاهدة على الإخلاص، والتجرد لله تعالى، ومكابدة القلب على تخليصه من حظوظه.

وهذا المعنى حقٌّ وظاهر، ولا يأباه من عرف سيرة القوم ومرادهم، إلا أن الذي رأيته في واقع بعضِ طلاب العلم، وبعض مَنْ لديه ما يمكنه الانطلاق به في الدعوة إلى الله تعالى، أنهم يستحضرون أمثال هذه الآثار ـ حقيقةً أو معنى ـ كلما عُرِضَ على أحدهم المشاركة في نشر العلم، أو الدعوة إلى الله تعالى، وكأن هذه الآثار نصوص نبوية قطعيّة محكمة غير منسوخة!
ولو سأل هؤلاء الإخوة ـ الذين يحتجون بمثل هذه الآثار ـ كيف وصلت إلينا هذه الآثار؟ وكيف عرفنا هؤلاء الأئمة؟ بل كيف صاروا أئمة يقتدى بهم، ويشار إليهم بالبنان؟ لم يكونوا كذلك إلا ببذلهم وعطائهم، ولو أنهم آثروا الخمول التام لما انتفع الناس بعلمهم، فهم ـ لعظيم فقههم ـ لم يكن حذرهم من تطلب الشهرة مانعاً لهم من الإنفاق مما وهبهم الله من العلم، وإلا كيف عرفناهم؟!
ولا يخفى على طلاب العلم، أن الشهرة بالعلم وطلب الحديث أحد شروط قبول رواية الراوي، وإلا كان ذلك مما يقدح في صحة ما يرويه؛ لدخوله في عداد المجاهيل ومستوري الحال.

وهذا الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أحد أشهر الأئمة الذين كانوا يكرهون الشهرة، ويهربون منها، حتى قال: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحا ومساء.
وقال مرة: ما أعدل بالفقر شيئا، ولو وجدت السبيل، لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.

وقال لتلميذه المروذي: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك، فإني قد بليت بالشهرة([1]).

هذا الإمام ـ الذي قال عن الشهرة ما قال ـ لم يمنعه ذلك من أداء ما أوجبه الله عليه من بلاغ العلم، ومخالطة الناس، بل والوقوف في وجه السلطان وعلماء السوء حين دعي إلى المقالة البدعية الكفرية: القول بخلق القرآن!!
والنظر في سيرة هذا الإمام ـ وغيره من الأئمة الذين كانوا يكرهون الشهرة كابن سيرين وأيوب السختياني والثوري ـ هو الذي يحدث التوازن في هذه المسألة التي صار فيها كثير من الناس بين طرفي نقيض.
ودونك هذا النص البديع من الإمام النووي ـ رحمه الله ـ حيث قال في كتاب القضاء من "روضة الطالبين" (11/92): وأما من يصلح ـ أي للقضاء ـ فله حالان، أحدهما: أن يتعين للقضاء، فيجب عليه القبول، ويلزمه أن يطلبه ويشهر نفسه عند الإمام إن كان خاملا، ولا يعذر بأن يخاف ميل نفسه وخيانتها، بل يلزمه أن يقبل ويحترز، فإن امتنع، عصا".

وقال بعد ذلك بقليل ـ (11 / 93) ـ: "وأما الطلب، فإن كان خامل الذكر، ولو تولى، اشتهر وانتفع الناس بعلمه، استحب له الطلب على الصحيح" انتهى.

وهذا ـ لعمر الله ـ هو الفقه الذي تجتمع به الأدلة، وقد ازداد جماله أنه صادر من عالم عابد زاهد.

والذي يظهر ويلاحظ في السير، ويُشاهد في أرض الواقع، أن الشهرة كالإمارة، من طلبها وكل إليها، وأصابه من ضررها بحسب ما في قلبه من الطلب، ومن أتته دون طلب وركض، أعين عليها.
إذا تبين هذا، فإن العاقل يحذر من طلب الشهرة، والركض خلف بريقها، أو القيام في بعض المواطن بقصد الذكر والشهرة بين الناس، كما ذُكِرَ في ترجمة أحدهم: "وكان يقرأ في التراويح بالشواذ رغبة في الشهرة"، أو يبلغ به الحال أن يكون كما قيل عن أحدهم: "لَهُ نفْسٌ شغفة بالشهرة، ومُشِفّة للعلو"! فإن مثل هذا أقرب للخذلان، وحرمان بركة العلم، بل وحبوط العمل ـ والعياذ بالله ـ!
والمسألة تحتاج إلى بسط أكثر، تجنبته عمداً، لأن القصد الإشارة، وإلا فهذه المسألة وثيقة الصلة بمسألتين كبيرتين: الإخلاص، ومسألة الخلطة أم العزلة؟ والبحث في تفضيل أحدهما على الآخر مما صنفت فيه المصنفات.
والموفق من تعاهد قلبه، وتفقد نيته، ومن صدق صدقه الله وأعانه، ومن تلبس بما ليس فيه شانه الله. اللهم أعذنا من شرور أنفسنا، ووفقنا لما تحبه وترضاه.


كتبه د. عمر بن عبدالله المقبل
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الزهرة, الطلب, بين, والهرب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الشهرة بين الطلب والهرب
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الطلب على التمويل الإسلامي بلغ أعلى مستوياته Eng.Jordan أخبار اقتصادية 0 02-05-2017 04:15 PM
الزهرة العطره كل يوم جمعة... صباح الورد شذرات إسلامية 0 09-12-2014 10:55 AM
الطلب العالمي على الذهب يسجل أدنى مستوى في 4 سنوات عبدالناصر محمود أخبار اقتصادية 0 08-16-2013 06:52 AM
أثر استخدام الإنترنت في بنية الطلب على الخدمات الفندقية وتوزيعها Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 01-29-2013 08:14 PM
البتراء.. الزهرة الحمراء في صحراء الأردن يقيني بالله يقيني الصور والتصاميم 4 04-27-2012 12:10 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:58 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59