#1  
قديم 11-19-2015, 08:26 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة مشاريع العمل الإسلامي


مشاريع العمل الإسلامي ومشكلة التوظيف السياسي
ــــــــــــــــــــــــ

(علي بن محمد آل شاهر)
ـــــــــــــ

7 / 2 / 1437 هــ
19 / 11 / 2015 م
ــــــــــ

الإسلامي 576.jpg?q=2


تمهيد:
----

يتفاعل البشر في مجتمعاتهم تفاعلات شتى، تدفعهم إلى تلك التفاعلات ضرورات الحياة ومتطلباتها، هذه التفاعلات هي مادة العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والتربية والنفس والسياسة والاقتصاد وغيرها. كثير من تلك التفاعلات تمت دراسته وتم تفسيره والتنظير له، ولكن الكثير أيضًا بانتظار الاكتشاف والدراسة والتفسير والتنظير، خصوصًا التفاعلات السياسية، وذلك بسبب حداثة نشأة العلوم السياسية وعدم نضوجها في العالم المتقدم فضلًا عن غيره. وفي هذا النقاش سأسلط الضوء على نوع من أنواع التفاعل السياسي في بلداننا العربية وهو تفاعل أطياف العمل الإسلامي مع السياسي، وسنخص بالذكر لونًا واحدًا من ألوان ذلك التفاعل يعد أكثرها غموضًا والتباسًا ألا وهو موضوع «التوظيف السياسي».

إن هذا اللون من ألوان التفاعل عادة ما يتم بطريقة غير مباشرة وغير مشاهدة وغير واعية أحيانًا، وقد تترتب عليه نتائج خطيرة وغير مرغوبة، وكل ما يكتب عن آثار هذا التفاعل بعيد عن جوهر العلاقة وعن حقيقتها إلا ما ندر. إن هذا النوع الخطير من أنواع التفاعل بحاجة ماسة إلى الدراسة والترشيد، وإن ضعف الخبرة بهذه العلاقة وعدم ترشيدها كان سببًا في الكثير من النتائج الكارثية والأخطاء الفادحة، ومن هنا أتت فكرة هذا البحث الذي سيركز على طبيعة توظيف السياسي لمشاريع العمل الإسلامي لخدمة مصالحه وأجندته السياسية أو العكس، كما سيركز على المعايير التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند تقييم هذه العملية.

إن هذا الموضوع الحساس يشبه جرحًا مفتوحًا يزيده العلاج والتنظيف ألمًا وحرارة، لذا فقد يتضجر القارئ الكريم من ربط العمل الإسلامي بموضوع هذا النقاش ظانًا أن الحكم بقابلية العمل الإسلامي للتوظيف السياسي من قبيل التجني وإلقاء التهم جزافًا، ولكن انطباعه هذا سيزول إذا قررنا الآتي:
- أن التوظيف السياسي ليس تهمةً في أصله أو مذمومًا عند الإطلاق، فهو وإن كانت أغلب حالاته سلبية إلا أن منها حالات إيجابية، ومنها ما هو مقبول وما هو مذموم مرفوض، كما أن الطرف الإسلامي قد يكون في موقع الفاعل المبادر المستفيد من هذه العملية موظِّفًا للأطراف السياسية من حوله لخدمة مشروعه الدعوي الرامي إلى هداية الخلق وتمسيكهم بكتاب الله وصراطه المستقيم. ومن هنا جاء هذا النقاش ليحدد معايير الإيجابية والسلبية والقبول والرفض، وذلك لمساعدة صانعي قرارات العمل الإسلامي في إصدار أحكام موضوعية مبنية على معايير رشيدة تحقق الصالح العام لمشاريع العمل الإسلامي وتدفع الضرر عنها.

- أن التوظيف السياسي هو نوع من التفاعل البشري الطبيعي الذي يحدث لكافة مكونات المجتمعات البشرية ولا يختص بالعمل الإسلامي وحده، بل هو عملية تشمل كل المكونات البشرية التي تتفاعل مع محيطها البشري بما في ذلك الجهات والأطراف السياسية المختلفة وقلَّ أن يسلم منه بشر. غير أنني أزعم أن أكثر المكونات البشرية رشدًا وانضباطًا وانحيازًا لحماية المبادئ والقيم بعيدًا عن الانتهازية والمطامع الشخصية في التعامل مع عملية التوظيف السياسي هو جماعات وأفراد العمل الإسلامي برغم كل الأخطاء والتجارب الفاشلة والسلبيات والخسائر.

- لماذا الحديث عن التوظيف السياسي للعمل الإسلامي؟

ليس القصد من هذا النقاش استجلاء المفهوم وتأصيله والبحث في تاريخه واستقصاء صوره وتطبيقاته وتتبع الاستشهادات وحشد النقولات، ولكن القصد هو محاولة تسليط الضوء على هذا المفهوم وإثارة التساؤلات والنقاشات حوله وتنشيط الاهتمام البحثي به.
- استلهام العبر والعظات من عملية خطيرة تتم بشكل يومي منذ أن قامت الدولة القُطرية الحديثة في عالمنا العربي إلى يومنا هذا دون أن تنال حقها من الاهتمام والبحث والترشيد والتنظيم.
- تقييم تجارب العمل الإسلامي مع عمليات التوظيف السياسي والتعرف على أبرز أخطاء الماضي ونجاحاته .
- ترشيد عملية تفاعل أطراف العمل الإسلامي مع الجهات السياسية من خلال وضع ضوابط ومعايير واشتراطات يتم استيفاؤها قبل الدخول الاختياري أو الاضطراري في عمليات من ذلك النوع، أما في حالات التفاعل الاضطراري فإن من شأن تلك الضوابط أن تحقق أفضل قدر من مكاسب الصالح العام والخروج بأقل الأضرار.

تحديد المصطلحات:

مصطلح التوظيف السياسي:

يمكن أن يعرف التوظيف بشكل عام على أنه: استعمال طرف لطرفٍ آخر من أجل تحقيق أهدافه. أما التوظيف السياسي فسوف نستخدمه للتعبير عن: كل توظيفٍ يكون طرف أو أكثر من أطرافه سياسيًّا يسعى لتحقيق أهداف سياسية.

ويمكن إيضاح مفردات هذا التعريف كما يلي :

طرفا علاقة التوظيف السياسي:

- الطرف السياسي: نعني به كل فرد أو جماعة أو مؤسسة ذات أهداف أو مهمة سياسية تشتغل بها وهذا يشمل ما يلي:

- الأفراد: كالحاكم بمسمياته المختلفة (رئيس، ملك، رئيس وزراء) أو أحد منافسيه، أو أحد معاونيه، سواء كان يعمل لحساب من يعاون أو يعمل لحسابه السياسي الخاص.
- العوائل: كالعوائل الحاكمة، أو العوائل القريبة منها ذات النفوذ والتأثير على القرارات السياسية أو الإدارية المهمة، أو العوائل التجارية ذات التأثير أيضًا والنفوذ المؤثر.
- الأنظمة السياسية الحاكمة وأجهزتها المختلفة: وخصوصًا مؤسسات الرئاسة، ووزارات الدفاع والداخلية والإعلام، والمخابرات الداخلية، ومخابرات الدولة الخارجية، وغيرها.
- أجهزة المخابرات الدولية والدول التي تمثلها.
- القنوات الفضائية والصحف ذات الأجندة الفكرية والسياسية.
- الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ذات النشاط السياسي.
- الطرف غير السياسي: وهو كل فرد أو جماعة ليس له صفة سياسية وليس له مهمة سياسية رسمية معلنة في نظام سياسي حتى وإن كان مرتبطًا بعلاقة توظيف سياسي مثل:
- المثقفون، والدعاة، والعلماء، ومشايخ القبائل، والإعلاميون، والتجار، والفنانون، والرياضيون.
- الجماعات المنظمة، السرية والمرخصة.
-التيارات الثقافية، والفكرية، والسياسية، والدينية.
- المؤسسات الخيرية، والإعلامية، والاجتماعية، والسياسية المستقلة، والعلمية، والرياضية.
- العشائر والقبائل.
- الطوائف والأقليات الدينية.

المقصود بمشاريع العمل الإسلامي:

أعني بالمشروع كل عمل ذي أهداف يقوم عليه فرد أو جماعة. أما مشروع العمل الإسلامي فأقصد به كل عمل يهدف إلى خدمة الإسلام والدعوة إليه ونشره والدفاع عنه وحماية أتباعه.
وهذا التوصيف يشمل أبرز مشاريع العمل الإسلامي الثلاثة: الدعوية والسياسية والجهادية، سواء أكان القائم على أي منها: فرد أم مؤسسة أم جماعة منظمة أو غير منظمة.

أدوار التوظيف السياسي:

من هو الطرف الموظِّف عادةً، ومن الطرف الموظَّف؟ من الفاعل ومن المفعول به في هذه العملية؟ هل يمكن للأطراف غير السياسية أن تكون أطرافًا موظِّفة بمعنى أنها قد تنجح في توظيف الطرف السياسي من أجل تحقيق أهدافها؟
يتبادر إلى الذهن في العادة أن الطرف السياسي هو الطرف الموظِّف وأن الأطراف غير السياسية هي الأطراف الموظَّفة ولكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة فهناك أشكال وصور أخرى ولها نماذج وأمثلة في الواقع والتاريخ، وهي:

- توظيف طرف سياسي لطرف غير سياسي، وهذه هي الحالة السائدة.
- توظيف طرف سياسي لطرف سياسي آخر، وهذه عادة ما تحدث في المنافسات السياسية على الحكم أو في المنافسات الانتخابية، وهذه الحالة تعنينا هنا إذا كان أحد الطرفين يمثل مشروعًا إسلاميًّا سياسيًّا سواء أكان ذلك بشكل معلن ورسمي كالأحزاب السياسية الإسلامية المرخصة أم غير مصرح بها كجماعات الإسلام السياسي التي تنشط في المجال السياسي وتشارك فيه بفعالية. أما علاقة توظيف أطراف سياسية لأخرى غير ذات خلفية إسلامية فلن نناقشها هنا لأننا مهتمون هنا بمشاريع العمل الإسلامي فقط.
- توظيف طرف غير سياسي لطرف سياسي، كأن يسعى طرف إسلامي مثلًا غير ذي صفة سياسية لتوظيف طرف سياسي من أجل تحقيق أهداف مشروعه الإسلامي.
- توظيف طرف غير سياسي لطرف غير سياسي، وهذا النوع من عمليات التوظيف ليس داخلًا ضمن نقاشنا إذ هو ضمن التفاعلات والعلاقات الاجتماعية، ونقاشنا هنا محصور بالجانب السياسي فقط.

صور الاستعمال والتوظيف:

- توظيف سياسي مباشر، قد يتم التوظيف السياسي بشكل مباشر وفق صفقة تعقد بين الطرفين الموظِّف والموظَّف، بحيث يتفق كلٌ من الطرفين على بنودها وعلى تقاسم وتبادل المكاسب والمصالح.
- توظيف سياسي غير مباشر، وتلك الصورة يجريها الطرف الموظِّف من خلال قيامه بإجراءات وعمليات وسن قوانين وعمليات تغاضٍ وتجاهل تعمل كلها على توجيه الطرف المستهدف بشكل غير مباشر ودفعه لاتخاذ قرارات معينة تحقق أهداف الطرف الموظِّف وأجندته.
- توظيف سياسي غير مباشر واعٍ، وهو توظيف سياسي غير مباشر لم تتم فيه صفقة مباشرة ولكنه يتم بوعي وإرادة كل من الطرفين وبعلم الطرف الموظَّف ومعرفته وإدراكه .
- توظيف سياسي غير مباشر وغير واعٍ، وهو الذي يتم بغير وعي الطرف الموظَّف ودون أن يشعر. وسيتم ذكر الأمثلة في الجزء التطبيقي من هذه المناقشة.

الفرق بين التعامل السياسي والتوظيف السياسي:

قد يختلف معي القارئ الكريم ويسمي هذا النمط من التفاعل بين السياسي وبين غيره تعاملًا سياسيًّا وليس توظيفًا سياسيًّا، ولكن هناك فروق عملية بين مفهوم التوظيف السياسي ومفهوم التعامل السياسي، منها:
- أن المعادلة بين الطرفين (الموظِّف والموظَّف) عادةً ما تكون غير متكافئة، فيكون أحدهما أقوى وأكثر تنظيمًا ووعيًا بطبيعة العلاقة من الآخر. ولذا يستفيد الطرف الأقوى عادةً من هذه العلاقة أكثر من استفادة الطرف الأضعف. وهذا لا ينفي وجود حالات تتساوى فيها الفائدة والمكاسب بين الطرفين بل قد تميل لصالح الطرف الأضعف ولكن العبرة بمدى حجم وقوة وتنظيم كلٍ من الطرفين وليس بنتائج عملية التوظيف.
- أن الطلب والمبادرة يبدأهما عادةً الطرف الأقوى ونادرًا ما يطلب الطرف الأضعف خدمة الطرف الأقوى وتحقيق أهدافه مقابل مطالب معينة، ولذلك سمينا استعمال الطرف الأقوى للطرف الأضعف «توظيفًا».
- أن التعامل السياسي يتصف بخصائص وسمات تميزه عن التوظيف السياسي، حيث يتميز بما يلي:
• تكافؤ طرفي المعادلة من ناحية الحجم والتنظيم والقدرة والتأثير، كتعامل حزب مع حزب مكافئ له في الحجم أو القوة أو التأثير، ولذلك فإن تعامل حزب سياسي قوي مع حزب صغير أو مجموعة أفراد لا يبلغ مدى حجمهم أو تأثيرهم أو وزنهم القدر الذي يتمتع به ذلك الحزب أو قريبًا منه فإن ذلك التعامل يعد استعمالًا وتوظيفًا وليس تعاملًا وخصوصًا إذا مالت المكاسب لصالح الأقوى.

• تشابه طرفي المعادلة في الصفات والسمات والملامح مثل أن يتعامل حزب مع حزب، أو جماعة مع جماعة، أو حزب مع مؤسسة، أو مؤسسة مع جماعة، أو فرد مع فرد. أما تعامل دولة مع جماعة أو فرد أو حزب أو مؤسسة فإنه توظيف سياسي وذلك لغياب الندية والتوازن بين الطرفين.
الفرق بين التوظيف السياسي والاختراق السياسي (العمالة السياسية):
الاختراق السياسي هو كل توظيف سياسي مباشر لعناصر الطرف المستهدف بهدف تحقيق مصالح وأهداف سياسية تضر بمشروع العمل الذي تشارك به تلك العناصر، وذلك مقابل عوائد خاصة تعود لصالحها دون عوائد تعود على الصالح العام للعمل الإسلامي تفوق تلك الأضرار.
إذنْ الاختراق السياسي هو توظيف سياسي منحرف يتميز عن صور التوظيف السياسي العام السلبية والإيجابية بما يلي:

- أنه يتم وفق صفقات مباشرة بين العناصر المخترقة وبين الطرف الموظِّف والذي عادةً ما يكون أجهزة أمنية أو مخابراتية.
- أن الطرف السياسي الموظِّف يهدف من هذه العملية إلى تدمير مشروع العمل المستهدف أو إلى مشاريع مرادفة له وأهم وأعظم شأنًا منه.
- عدم وجود مصلحة أو مكاسب أو منافع حقيقية تعود على الصالح العام لذلك المشروع المخترق وإنما توجد مصالح وعوائد خاصة تعود على العناصر المخترقة.
مما سبق يتضح أن التوظيف السياسي هو طيف من التفاعل يقع بين طيف التعامل السياسي الندي وبين طيف العمالة السياسية أو ما سميناه الاختراق السياسي.

أغراض قوى العمل الإسلامي من قبول صفقات التوظيف السياسي:

أ- أغراض إيجابية :

قبل الحديث عن هذه الأغراض أنبه إلى أن قبول قوى العمل الإسلامي لمهام التوظيف السياسي بسبب هذه الأغراض المقبولة لا يعني بالضرورة أن النتائج ستكون إيجابية، بل قد تكون النتائج سلبية حتى وإن كانت الأغراض إيجابية والنوايا حسنة. وقد تكون النتائج في بعض الأحيان إيجابية ويتحقق الغرض والدافع والمصلحة التي من أجلها قبلت تلك القوى مهام ذلك التوظيف السياسي، ومن الأغراض المقبولة:
- الحفاظ على الحياة والسلامة الشخصية، كأن يتعرض الإسلاميون، سياسيين كانوا أو جهاديين أو دعاة... لخطر تهديد حياتهم وحريتهم الشخصية أو أن يتعرضوا للسجن والتعذيب أو الإيذاء النفسي والبدني لهم أو لأبنائهم أو أقاربهم للضغط عليهم كي يقبلوا أداء المهام التي تمليها عليهم الأنظمة التسلطية الطاغية، وقد يلبي الإسلاميون هذه المهام ليس من أجل حياتهم وسلامتهم فحسب وإنما على أمل أن تزول هذه المحنة وتتغير الأوضاع ليمارسوا بعد ذلك مشروعهم الإسلامي فيما تبقى من حياتهم.
- محاولة التواجد وإظهار العمل الإسلامي، فقد يقبل الإسلاميون القيام ببعض مهام التوظيف السياسي في بلد ما من أجل محاولة إخراج مشروعهم إلى الحياة وإلى الوجود في ذلك البلد والبدء في النشاط وإقامة المشروع سواء بترخيص رسمي أو بدونه.
- الحفاظ على بقاء العمل واستمراره، فقد تتاح فرصة التواجد لمشروعٍ إسلاميٍ ما حتى إذا ما قام واستوى على سوقه وأينعت ثماره قطع الطريق عليه وأوقف ولا يتاح له البقاء والاستمرار إلا باشتراطات معينة والقيام بمهام محددة.

- تحقيق أهداف العمل الإسلامي وتعظيم مكاسبه، قد يغالب مشروع عملٍ إسلامي الطغيان السياسي المفروض عليه وقد ينتزع هامشًا ضيقًا للعمل والتحرك، ولذا فقد يغير من أسلوبه وقد يتنازل ويتصالح مع ذلك الطغيان ويلبي بعض طلباته بغية توسيع ذلك الهامش وتعظيم مكاسبه ومضاعفة نشاطه.
- تقليل الشر، والتعامل مع الأقل سوءًا وشرًا في مواجهة من هو أشر منه وأكثر سوءًا بهدف تقليل الشر وتخفيف المفاسد ودفع المضار، وقد رأينا هذا في قبول علماء ودعاة الأقطار العربية التعامل مع عملاء الاستعمار وخلفائه من بني جلدتهم ممن ظنوا أن التعامل معهم أقل شرًا وسوءًا من التعامل قوى الاستعمار نفسها. وقل مثل هذا في تعاملهم مع من يعترف بالدين من الساسة والرؤساء وأثره في الحياة ليستخدمه في خدمة مصالحه السياسية في مواجهة من لا يعترف بالدين ولا يتعامل معه إلا بالاستئصال والإقصاء.

ب- أغراض سيئة وسلبية :

وهذه الأغراض قد تنحدر بالأمر من درجة التوظيف السياسي إلى الاختراق والعمالة السياسية وحرف مشروع العمل عن مساره وجعله خادمًا لأجندة الطغاة وأعداء الأمة، ولن نفصل فيها كثيرًا لأن الصور الواضحة من هذه الأغراض والأشد قتامة وسوداوية تخص الحديث عن موضوع اختراق العمل الإسلامي وعمالة بعض منتسبيه، ولكن الحالات الخفية من هذه الأغراض أو المتأول فيها بتأويلٍ مستند على نصوص من التراث الشرعي قد يكون داخلًا في نطاق حديثنا، ولذا سنقتصر على الحديث عن الأغراض المشتبهة والتي يمكن فيها التأول، فإن كانت ملابسات هذا التوظيف مما يمكن أن يلتمس فيه العذر ويتأول فيه وله سلف وغلب على ظنه أن في نتائج ذلك التوظيف عوائد إيجابية على الصالح العام لمشروعه الإسلامي تكون أكثر من أضراره السلبية فإن هذه الصورة تبقى ضمن دائرة التوظيف السياسي حتى وإن كانت النتائج على غير المتوقع، أما إن كان العكس فإن ذلك التوظيف يعتبر اختراقًا وليس توظيفًا. ومن تلك الأغراض:

- متطلبات العيش، قد يضايق العالم أو الداعية في رزقه وعيشه ويحرم من أبسط حقوقه فيضطر لتلبية بعض مطالب السياسي كي يعول نفسه وأسرته، أو قد يغريه السياسي بالمال فيرضى به مقابل بعض المهام التي قد يتأولها ويرى أن فيها نفعًا للإسلام والمسلمين أو أنها تحقق مصلحة دعوية ويرى أن له فيها سلف، أو قد يسابق على بعض الوظائف الدينية المقولبة بما يخدم مصلحة السياسي بحجة أن أهل الحق أولى بسد تلك الوظائف من أهل الباطل في نظره.
- منافسة مشاريع العمل الإسلامي الأخرى، وهذا الغرض السيئ نلحظه عادةً بين من لم ينضج من المنتسبين لمشاريع العمل الإسلامي الثلاثة: الدعوية والسياسية والجهادية، إذ نجد أن هناك من يرى من أنصار كل مشروع أن نجاة الأمة وصلاحها محتكر في مشروعه وأن هلاكها وفسادها كامن في المشاريع الأخرى، حتى وإن كان يدعي خلاف ذلك بلسانه إلا أن هذا لسان حاله ومقتضى عمله، ولذا فلا نحصى تلك الحالات التي وقعت من بعض من لم ينضج من أنصار المشروع السياسي والدعوي في استعداء دولهم أو نظمهم السياسية على أنصار المشروع الجهادي بتهمة الخروج والتطرف وتشويه صورة الإسلام والاختراق وغير ذلك من التهم، أو تلك الحالات التي يستحل فيها من لم ينضج من التيار الجهادي دماء أولئك بتهمة الردة والخيانة وموالاة الطواغيت، وقد يقبل الارتباط بأجهزة استخباراتية معادية لأمته في سبيل مواجهة إخوانه الذين عادوه من رفاق العمل الإسلامي العام. ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قد رأينا تلك المشاحنات والخصومات التي بلغت حد استعداء النظم السياسية على إخوان الدعوة بل وإلى حد التصفية والإقصاء حتى من الحياة، وخصوصًا بين بعض أتباع ومنتسبي الدعوة السلفية من جهة وجماعات الإسلام السياسي من جهة. وكثيرًا ما يفضل الطغاة ووكلاء الغرب في حكم المنطقة التعامل مع هذه العينات التي سهلت عليهم مهام الاختراق وتدمير العمل الإسلامي من داخله دون مقابل يذكر!

المقبول والمرفوض من التوظيف السياسي:

ذكرنا أن التوظيف السياسي قد لا يكون عيبًا أو منقصةً للعمل الإسلامي أو للقائمين عليه لأنه في حالات كثيرة قد يحقق مصالح دعوية مهمة أو قد يكون خيارًا اضطراريًّا يضطر إليه القائمون على ذلك العمل في سبيل الحفاظ على البقاء ومقاومة الفناء. ولكنه قد يكون مرفوضًا في العديد من الحالات لأنه قد تترتب عليه نتائج ضارة جدًا سواء بالعمل نفسه أو بأعمال مرادفة له في الساحة لا تقل أهمية عنه بل قد تكون أهم منه وأكثر رعايةً للصالح العام للأمة. ولذلك فإننا بحاجة إلى وضع معايير وضوابط مقترحة تساعد القائمين على مشاريع العمل الإسلامي في اجتهاداتهم واتخاذ قراراتهم بشكل سليم إذا ما اضطروا لقبول توظيف سياسي ما، ومن تلك الضوابط ما يلي:

- أن تكون الجهة الموظَّفة مضطرة لقبول التوظيف اضطرارًا، وذلك في الحالات التي يتعرض فيها العمل للإفناء أو في الحالات التي يستحيل فيها أن يخرج العمل للنور والحياة دون اللجوء إلى قبول شيء من عمليات التوظيف.

- أن يعود التوظيف السياسي على الجهة الموظَّفة بمكاسب حقيقية وذات قيمة مقبولة.
- أن لا يكون للمصالح الشخصية لأطراف الجهة الموظَّفة أي دور أو تأثير على دوافع صفقة التوظيف وبنودها وترتيباتها ونتائجها .
- أن تستهدف الجهة الموظَّفة الصالح العام للأمة والدعوة والمجتمع الذي تتحرك فيه.
- أن لا يترتب على صفقة التوظيف ضرر مادي أو معنوي أو دعوي على أي طرف من أطراف رفاق الدعوة والعمل الإسلامي السليم المنضوي تحت منهج أهل السنة والجماعة، فضلًا عن أن لا يترتب عليه احتمال إقصاء ذلك الطرف أو القضاء عليه.
- أن لا يترتب على عملية التوظيف ضرر اقتصادي أو سياسي على المجتمع الذي تتحرك فيه الجهة الموظَّفة بشكل يفوق المكاسب الدعوية التي تستهدف تحقيقها.
أغراض الجهات السياسية من توظيف قوى العمل الإسلامي :
تلجأ النظم السياسية لتوظيف بعض قوى العمل الإسلامي من أجل بعض الأغراض، منها:
- تعويض نقص الشرعية السياسية أو الدينية، ونعني بالشرعية الدينية مدى التزام النظام السياسي بالحكم بالشريعة الإسلامية، أما الشرعية السياسية فهي مدى قبول الشعب لحكم النظام السياسي الحاكم ورضاه عنه، حيث إن مختلف النظم السياسية في عالمنا المعاصر تلجأ لهذا الغرض بحسب اختلافها، فمنها ما هو:
- منقوص الشرعية بالمعنى الديني وشرعي بالمعنى السياسي، كالنظم التي تضم دساتيرها موادًا تعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع ولديها قصور في تطبيق تلك المواد مع تمتعها بشرعية وقبول عالٍ لدى شعوبها.
- منقوص الشرعية بالمعنى الديني وبالمعنى السياسي، وهي النظم منقوصة الشرعية الدينية والتي لا تحظى بقبول من النسبة الأكبر من شعوبها.
- غير شرعي بالمعنى الديني وشرعي بالمعنى السياسي، وهي النظم التي لا تنص دساتيرها على مركزية الشريعة في تشريعها وإصدار قوانينها مع تمتعها بشرعية سياسية عالية.
- غير شرعي بالمعنى الديني وغير شرعي بالمعنى السياسي: وهي النظم غير الشرعية بالمعنى الديني التي لا تحظى بقبول شعبها.
فكل صنف من أصناف هذه النظم يلجأ لتوظيف الإسلامين والتعامل معهم بغرض تعويض ما نقص من شرعيته الدينية أو السياسية.
ومن أغراض الجهات السياسية أيضًا في توظيفها للإسلاميين:
- التغطية على الفساد المالي.
- تبرير الاستبداد السياسي والانفراد بالسلطة.
ومن ذلك مثلًا الترويج لقنوات فضائية تحقق مصالح تلك الجهات وتنفذ أجندتها السياسية والفكرية.
- حصار وإقصاء رمز أو رموز من رموز العمل الإسلامي.
- حصار وإقصاء مشروع عمل إسلامي.
إرشادات وقائية لترشيد التعامل مع مشكلة التوظيف السياسي :
- الخبرة النظرية الكافية والوعي السياسي التخصصي، والقراءة في تجارب العمل الإسلامي وخصوصًا المتعلقة بهذا الشأن والعيش النظري معها والتأمل فيها.
- إناطة دراسة التعامل مشكلة التوظيف السياسي ومراجعتها بالمؤهلين الذين خاضوا التجارب العملية الناضجة.
- التنظيم ثم التنظيم ثم التنظيم.
- التربية الإيمانية والمبادئية التي تترفع بقادة العمل الإسلامي عن الاستجابة للمطامع والإغراءات المادية والمعنوية والاجتماعية، وتصحيح النيات وتزكية النفوس.
- مد جسور التواصل والتناصح والتعاون والتكامل بين مختلف جماعات وتيارات وأفراد العمل الإسلامي، وإحلال هذا السلوك محل سلوكيات التنافس والتنازع والشقاق والخلاف.
- الابتعاد عن صفقات التوظيف السياسي مهما كانت مكاسبها وعدم اللجوء إليها إلا في حالات الاضطرار التي تصبح فيها حالة بقاء العمل في خطر مع مراعاة تحقق شروط القبول السابقة.
- مراعاة القواعد الشرعية في التعامل مع النوازل السياسية، وأهم تلك القواعد قاعدة: «درء المفاسد مقدم على *** المصالح»، وقاعدة: «لا ضرر ولا ضرار»، فإذا كانت تنطوي صفقات التوظيف على مفاسد فدرء المفاسد مقدم على *** المصالح، والأولى التضحية بمصلحة مشروع العمل دون التسبب في الإضرار بمشاريع رفاق العمل الإسلامي وتعطيلها حتى وإن كان أصحاب ذلك المشروع يرون أن مشروعهم أهم من مشروع من سيتضرر أو يتعطل بدخولهم في صفقة توظيفٍ ما.
- التحكيم، واللجوء إليه لحل بوادر الخلاف قبل استفحاله بين رفاق العمل الإسلامي حيث يتوجب أن يناط بجهات وشخصيات لها وزنها واعتبارها واحترامها عند كل من أطراف الخلاف ومستقلة عنها .

------------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مشاريع, العلم, الإسلامي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مشاريع العمل الإسلامي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
العمل الإسلامي ونزاع النخبة عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 03-28-2015 08:03 AM
العمل الإسلامي ونزاع النخبة عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 03-28-2015 08:03 AM
الخلافات تتفجر بين قيادات العمل الإسلامي والإخوان المسلمين في الأردن Eng.Jordan الأردن اليوم 0 08-18-2014 08:58 AM
العولمة وتأثيرها على العمل المصرفي الإسلامي عبدالناصر محمود بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 05-07-2014 07:41 AM
معوقات العمل الإغاثي الإسلامي في ميدان الكوارث عبدالناصر محمود المسلمون حول العالم 0 04-20-2013 10:56 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 12:13 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59