#1  
قديم 01-29-2012, 11:50 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الآخر وحقوقه من المنظور الإسلامي


الآخر وحقوقه من المنظور الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتفرد بالنعماء والإحسان ، الذي علم القرآن ، وختم الشرائع بشريعة خير الآنام ، فكانت الشريعة المهيمنة على ما قبلها من الشرائع في كل الأزمان.
وصلى الله على السراج المنير ، والبشير النذير الذي كان رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه ، وعلى آله الطاهرين ، وصحابته الطيبين ، وكل من اقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد .. ،
فإن الدين الإسلامي هو كلمة من كلمات الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لبني آدم ، التي وصلت إلى الأرض من السموات ، فحقيقة الدين التسليم ، فهو الدين عند الله سبحانه وتعالى، قال جل شأنه : ] إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْوَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ[([1]).
وحري بهذا الدين أن ينظم علاقة الكائنات على أفضل نسق ، وكيف لا وقد أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ، وأراد له سبحانه وتعالى أن يبقى إلى يوم الدين ، وعلم سبحانه أن من يدينون بهذا الدين سوف يعيشون مع من لا يدينون به ، وعلم سبحانه حاجة الناس لمعرفة منهج التعامل مع كل موجود في هذا الكون، فأخبر سبحانه في شَرْعه بكل شيء، فقد قال سبحانه : ] وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِوَلاَطَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[ ([2]).
وموضوع بحثنا هو " الآخر وحقوقه من المنظور الإسلامي " ، والآخر مفهوم كلي يتسع مدلوله لغويا لكل ما هو غير الذات ، وغير الذات يشمل كل من له وجود باستثناء الذات المعنية ، وعليه فإن الآخر بالنسبة للإسلام هو كل الكون بمن فيه، بدءا من الإنسان الذي يخالف الإسلام ومرورا بسائر المخلوقات كالحيوان وسائر الأحياء والجمادات ، وكذلك خالق الأكوان سبحانه وتعالى.
بيد أن معنى الاستعمال الشائع للفظ " الآخر " يميل إلى حصره في الآخر البشري لشخص معين ، ويتيح مثل هذا المعنى الاستعمالي الشائع تحديد المعنى بعبارة أدق، فيكون الآخر هو الآخر من مختلف فئات البشر ، وربما اختزله البعض أكثر إلى الآخر أي غير المسلم.
ولا شك أن الشرع الإسلامي يتضمن بيانا لموقف الإسلام من الآخر، سواء الآخر بمعناه اللغوي الواسع أو بمعناه الاستعمالي المحدود، بيد أن اهتمام هذا البحث يقتصر على تناول قضية منهج الإسلام في التعامل مع الآخر بالمعنى الاستعمالي المحدود للآخر وهو غير المسلم.
ولا يخفى على كل مسلم واع في هذا الزمان أهمية هذا الموضوع الجلل ، فعدم فهم منهج الإسلام في التعامل مع الآخر كان من أكبر أسباب مصائب المسلمين في أيامنا هذه، ولكن السؤال هل الإسلام ينظر لغير المسلمين تلك النظرة العدائية ؟
والحقيقة أن القرآن الكريم وضع قواعد واضحة للعائلة البشرية، وأعلن الإسلام أن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، وهذا يعني وحدة الأصل الإنساني، فقال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍوَاحِدَةٍوَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَاوَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراًوَنِسَاءًوَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا ًً[([3]) ، والناس جميعاً في نظر الإسلام هم أبناء تلك العائلة الإنسانية، وكلهم له الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، فالإنسان مكرم في نظر القرآن الكريم، دون النظر إلى دينه، أو لونه، أو جنسه، قال تعالى: ] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَوَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّوَالْبَحْرِوَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ً[ ([4]).
وما اختلاف البشرية في ألوانها، وأجناسها، ولغاتها، إلا آية من الآيات الدالة على عظيم قدرة الخالق تعالى، قال عز وجل : ]وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِوَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْوَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ [([5]) ، وهذا الاختلاف لا يجوز أن يكون سبباً في التنافر والعداوة، بل إنه يجب أن يكون سبباً للتعارف والتلاقي على الخير والمصلحة المشتركة، فالله تعالى يقول : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍوَأُنثَىوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباًوَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[([6])، وميزان التفاضل الذي وضعه القرآن الكريم، إنما هو ما يقدمه هذا الإنسان من خير للإنسانية كلها مع الإيمان الحق بالله تعالى، فالله يقول : ] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[([7])، والآخرون الذين لم ينتسبوا إلى مدرسة الإسلام، لم ينظر القرآن الكريم إليهم على أنهم ليسوا بشراً، وإنما نظر إليهم نظرة احترام، فهؤلاء الآخرون عندما يرفضون دعوة الإسلام، لا يحاربهم دين الله عز وجل ولا يقاتلهم، لأنه لا إكراه في الدين، وأما القاعدة التي وضعها القرآن في التعامل، مع هذا الآخر، فتتمثل في قوله تعالى: ] لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِوَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْوَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ[([8])، فالآية واضحة في أننا نحن المسلمين عندما لا يريد الآخرون أن ينضموا إلى مدرسة الإسلام، فلنا الحرية التامة في صلتهم، والعدل معهم، ومعاملتهم المعاملة الطيبة، بناءً على مبدأ الاحترام المتبادل، والعلاقات والمصالح المشتركة.
والإسلام دين يعيش مع الواقع ويقوده إلى فضائل الأخلاق ، ومن خلال نظرة متأنية للواقع نلاحظ أن مفكري العالم ومصلحيه الآن يدعون البشرية إلى التعايش والتقارب، وفي هذا تبدو للإسلام أسبقية في موضوع التعايش ليس على صعيد المجتمعات، بل على صعيد المجتمع الإسلامي الأول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
فما هي الأسباب التي قام عليها التعايش بين المسلمين وغيرهم في المدينة المنورة؟ لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، كان فيها أتباعه من المسلمين، إضافة إلى بعض المشركين العرب، وقبائل يهودية، فأقام حلفاً مبنيّاً على التكافؤ والعدالة بين المسلمين واليهود، فلم يأت النبي صلى الله عليه وسلم ليمحو وجود اليهود من المدينة، وإنما اعترف بدينهم، وترك لهم حرية ممارسة شعائرهم، ولم يتعرض أبداً لها، بل كان يدعوهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
وعندما حارب النبي صلى الله عليه وسلم اليهود لم يحاربهم بسبب الاختلاف معهم في الدين، وإنما كان سبب الحرب معهم هو نقضهم للمعاهدات التي كانت بينهم وبين المسلمين، إضافة إلى سعيهم الدائم لتأليب العرب والمشركين ضد النبي والإسلام، فالحرب كانت دفاعية وقائية بالدرجة الأولى، فكان لهؤلاء ولغيرهم الحرية التامة في التنقل والحركة وممارسة أي نوع من أنواع التجارة والنشاطات الاجتماعية، فهذه هي الأسس التي قام عليها التعايش بين المسلمين الأوائل مع غيرهم.
وينقسم غير المسلم ـ في نظر الفقهاء ـ باعتبارين : الاعتبار الأول : من حيث طبيعة دينه وعقيدته ، وهو من هذا الاعتبار ينقسم إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول : الكتابي كاليهود والنصارى ، والقسم الثاني : المشرك الوثني كعباد الأصنام والبقر ، القسم الثالث : الملحد، وهو من ينكر وجود صانع للكون أو خالق ، وهذا الصنف في هذا العصر أكثر انتشارا من أي عصر آخر.
والاعتبار الثاني : من حيث علاقة الآخر بالمسلمين ، من سلم أو حرب، وهو أيضا ينقسم إلى قسمين : القسم الأول : المعاهد. والمعاهد أيضا نوعان : النوع الأول : المعاهد كدولة أو مجموعة كبيرة منفصلة عن المجتمع الإسلامي ، والنوع الثاني : المعاهد كفرد يعيش داخل المجتمع المسلم. والقسم الثاني : الحربي ، وهو من ناصب المسلمين العداء وأبى أي شكل من أشكال التعايش مع المسلمين، ولم يرتض إلا الحرب سبيلا.
ولعل الاعتبار الأخير هو الذي سوف يتم التعويل عليه هو حق غير المسلم بقسميه ، فسوف نتعامل في هذا البحث إن شاء مع حقوق الآخر كفرد في المجتمع الإسلامي، والآخر باعتباره كيانا منفصلا.
وعلى هذا الأساس فقد قمنا بتقسيم هذا البحث كما يلي :
الفصل الأول : الآخر وحقوقه باعتباره جزءاً من المجتمع المسلم ، وفيه مبحثان :

المبحث الأول : حقوق الآخر باعتباره جزءاً من المجتمع المسلم.

المبحث الثاني : رد بعض الافتراءات التي أثيرت على الإسلام.
الفصل الثاني : الآخر وحقوقه باعتباره كيانا منفصلا عن الدولة الإسلامية.
خاتمة : صور من سماحة الإسلام بالمقارنة مع تعامل الديانات الأخرى مع المسلمين.

&&&
الفصل الأول
الآخر وحقوقه باعتباره جزءاً من المجتمع المسلم



إن غير المسلم في المجتمع المسلم حقيقة واقعية ، وقد حدد الإسلام المنهج القويم في ضبط العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخرى في المجتمع الإسلامي، وسار المسلمون قرونا طويلة يقررون هذه الحقيقة بالتطبيق العملي، ويضربون للعالم بأسره أروع الأمثلة في إمكانية تعايش المسلمين مع غيرهم في سلام وأمان.

وفي هذا الفصل سوف نقوم بتوضيح المنهج الرباني المتمثل في الدين الإسلامي في كيفية كفالة حقوق غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي.

فلابد أن يكون بين المسلمين وغيرهم في المجتمع الإسلامي أساس للمعاملة ، وهذا الأساس يسمى العهدأو الذمة، ولذلكجرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم "أهل الذمة" أو "الذميين".
و"الذمة" كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد الرسول، وعهد جماعة المسلمين: أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناء على "عقد الذمة" بينهم وبين أهل الإسلام . فهذه الذمة تعطي أهلها "من غير المسلمين" ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم.
فالذمي على هذا الأساس من "أهل دار الإسلام" كما يعبر الفقهاء ([9]) أو من حاملي "الجنسية الإسلامية"([10]) كما يعبر المعاصرون.

وعقد الذمة عقد مؤبد([11])، يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها، بشرط بذلهم "الجزية" والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشئون الدينية، وبهذا يصيرون من أهل "دار الإسلام".
فهذا العقد ينشئ حقوقًا متبادلة لكل من الطرفين : المسلمين وغير المسلمين، بإزاء ما عليه من واجبات.
فأما عن حقوق الآخر في المجتمع المسلم فهو موضوع المبحث الأول من هذا الفصل.
&&&
المبح

([1]) سورة آل عمران الآية : 19.

([2]) سورة الأنعام الآية : 38.

([3])سورة النساء الآية : 1.

([4]) سورة الإسراء الآية : 70.

([5])سورة الروم الآية : 22.

([6])سورة الحجرات : جزء من الآية : 13.

([7])سورة الحجرات : جزء من الآية : 13.

([8]) سورة الممتحنة الآية : 8.

([9]) انظر شرح السير الكبير للسرخسي ج ـ 1 ص140 والبدائع للكاساني ج ـ 5 ص 281 والمغني لابن قدامة ج ـ 5 ص 516.

([10]) انظر التشريع الجنائي الإسلامي للشهيد عبد القادر عودة ج ـ 1 ص 307 فقرة 232، وأحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، للدكتور عبد الكريم زيدان ص 63 - 66 فقرة 49 - 51.

([11]) المبسوط للسرخسي، الجزء التاسع، صـ 134 قال ما نصه : " وأبو حنيفة ومحمد ـ رحمهما الله ـ تعالى قالا : المراد الموادعة المؤبدة، وهي عقد الذمة؛ لأنه قد ثبت بالنص وجوب تبليغ المستأمنين مأمنهم.




يتبع............................

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-29-2012, 11:51 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

المبحث الأول : حقوق الآخر باعتباره جزءاً من المجتمع المسلم
القاعدة الأولى في معاملة غير المسلمين في "دار الإسلام" أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، فإن الإسلام قد كفل لغير المسلم حقوقه التي لا يمكن أن يعيش شاعرا بالأمن والحرية والسلام إلا بها، وقد أجملنا هذه الحقوق في العناوين الآتية التي سوف نتكلم عنها تفصيلا :
أولا : حق الآخر في حرية الاعتقاد والعبادة.
ثانيا : حق الآخر في العمل وتكوين الثروة.
ثالثا : حق الآخر في الأمن والرعاية والحفاظ على الممتلكات ، ويندرج تحت هذا الحق ما يأتي :
(1) حق الآخر في الأمن من العدوان الخارجي.
(2) حق الآخر في الأمن داخل المجتمع.
(3) حق الآخر في عصمة دمه.
(4) حق الآخر في عصمة بدنه من الأذى.
(5) حق الآخر في عصمة ماله وممتلكاته الخاصة.
(6) حق الآخر في عصمة عرضه.
(7) حق الآخر في التأمين عند العجز والفقر وكبر السن.
أولا : حق الآخر في حرية الاعتقاد والعبادة :
وأول هذه الحقوق والحريات التي كفلها المنهج الإسلامي القويم هو حق الاعتقاد والتعبد، فالإسلام لا يأمر الناس بالدخول فيه بالقوة أو بالسيف بل بالاقتناع، ولذلك كفل حق غير المسلم في المجتمع المسلم في أن يعتقد ما يعتقد، وأن يتعبد بما يتعبد، طالما أنه لا يؤذي المسلمين ولا يظاهر عليهم، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام، وأساس هذا الحق قوله تعالى: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [([1])، وقوله سبحانه : ]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين [َ([2]).
قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى : أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَه أحد على الدخول فيه.
وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين جانبًا من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة -قليلة النسل- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَه (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية)، فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم : لا ندع أبناءنا (يعنون : لا ندعهم يعتنقون اليهودية)، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [ ([3]). عزاه ابن كثير إلى ابن جرير، قال: "قد رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان في " صحيحه "، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم، أنها نزلت في ذلك . . " ([4]).
وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواوَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُوَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُوَبِيَعٌوَصَلَوَاتٌوَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراًوَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ ([5]).
ولما توسعت رقعة الدولة الإسلامية زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فما كان منه صلى الله عليه وسلم، إلا أن أقام معهم المعاهدات التي تؤمن لهم حرية المعتقد، وممارسة الشعائر، وصون أماكن العبادة، إضافة إلى ضمان حرية الفكر والتعلم، فلقد جاء في معاهدة النبي لأهل نجران : " ولنجران وحاشيتهم جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملّتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وَبِيَعهم، وصلواتهم، لا يغيروا أسقفا عن أسقفيته ولا راهبا عن رهبانيته، ولا واقفا عن وقفانيته. إلى أن قال : " وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا " ([6]).
فقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم.
وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم : "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتهم، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . ." ([7]).
وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" ([8]).
على أن من فقهاء المسلمين مَن أجاز لغير المسلمين إنشاء الكنائس والبِيَع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، أي أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف، إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك، بناء على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم. وقد ذهب إلى ذلك الزيدية والإمام ابن القاسم من أصحاب مالك ([9]).
ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مبكر، فقد بُنِيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل كنيسة "مار مرقص" بالإسكندرية ما بين عامي (39 - 56 هـ) .كما بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم، في ولاية مَسْلمة بن مَخْلَد على مصر بين عامي (47 - 68 هـ ) كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة "حلوان" ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين([10]) .
وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة، أمر لم يُعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم.
يقول العلامة الفرنسي جوستاف لوبون : "رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفًا أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته". وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابين أو المؤمنين القليلين الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب، يقول ـ على سبيل المثال ـ روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن" : "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية"([11]).
وبهذا العرض الموجز تبرز قدرة النظام الإسلامي على حماية حق حرية الاعتقاد والتدين، لقد أبدع النظام الإسلامي هذا التسامح على غير مثال سابق، فلم تعرف البشرية قبل الإسلام هذا التسامح والتعايش بين الشعوب المتعددة الديانات.
وكما كفل الإسلام حق حرية الاعتقاد والعبادة لغير المسلمين، كفل كذلك لهم حق العمل في كل مهن ووظائف الدولة وفيما يلي توضيح لنزاهة الإسلام في كفالة هذا الحق.
&&&

ثانيا : حق الأخر في العمل وتكوين الثروة :
منح التشريع الإسلامي لغير المسلم في المجتمع الإسلامي حق العمل، والتكسب، وتكوين الثروة، فهو فلا يحدد ملكيتهم ولا يمنعهم من مزاولة أي الأعمال شاءوا، وهذا ما يتضح في المنهج العملي الذي شاهده العالم بأسره واقعا.
فلغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.
وكادت بعض المهن تكون مقصورة عليهم كالصيرفة والصيدلة وغيرها . واستمر ذلك إلى وقت قريب في كثير من بلاد الإسلام . وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إلا الجزية، وهي ضريبة على الأشخاص القادرين على حمل السلاح، كما سيأتي، وهي مقدار جد زهيد.
قال آدم ميتز: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهودًا . على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى . وكان رئيس النصارى ببغداد طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده "([12]).
ولم يقتصر ضمان حق التكسب والعمل في المهن المختلفة لغير المسلمين في المجتمع المسلم على هذا الحد، بل إن غير المسلمين شغلوا المناصب الهامة في الدولة الإسلامية، ولم يكن هذا مخالفا للمنهج الإسلامي في تنظيره ولا في تطبيقه.
توليالمناصب الكبرى :
ولغير المسلمين الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين . إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات، ونحو ذلك.
فالإمامة أو الخلافة رئاسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز أن يخلف النبي في ذلك إلا مسلم، ولا يعقل أن ينفذ أحكام الإسلام ويرعاها إلا مسلم.
وقيادة الجيش ليست عملاً مدنيًا صرفًا، بل هي عمل من أعمال العبادة في الإسلام، إذ الجهاد في قمة العبادات الإسلامية.
والقضاء إنما هو حكم بالشريعة الإسلامية، ولا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به، ومثل ذلك الولاية على الصدقات ونحوها من الوظائف الدينية.
واقتصار هذه المناصب على الأكثرية هو ما تجده في كل المجتمعات غير الإسلامية أيضا، فما شهد التاريخ القديم أو الحديث بأن المسلم تولى رئاسة الدولة أو الحكومة أو القضاء أو وزارة المالية في دول غير إسلامية، ولذلك فاعتبار هذا اضطهاداً مسلك بعيد عن الإنصاف.
وما عدا ذلك من وظائف الدولة، يجوز إسناده إلى أهل الذمة إذا تحققت فيهم الشروط التي لا بد منها من الكفاءة والأمانة والإخلاص للدولة.
وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرح فقهاء كبار - مثل الماوردي في "الأحكام السلطانية "بجواز تقليد غير المسلم "وزارة التنفيذ". ووزير التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر الإمام ويقوم بتنفيذها ويمضي ما يصدر عنه من أحكام.
وقد كان سرجون كاتبا لمعاوية بن أبي سفيان وصاحب أمره ، كما أصبح سرجون هذا من أهم مستشاري يزيد بن معاوية([13])، وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى أكثر من مرة، منهم عيسى بن نسطورس سنة 380هـ، كما استُنيب منشا اليهودي بالشام([14]) .
وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا الأمر أحيانًا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين، مما جعل المسلمين في بعض العصور، يشكون من تسلط اليهود والنصارى عليهم بغير حق.
وقد قال المؤرخ الغربي آدم ميتز: "من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال (الولاة وكبار الموظفين) والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية، فكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام والشكوى من تحكيم أهل الذمة في أشعار المسلمين شكوى قديمة"([15]).
يقول أحد الشعراء المصريين
([16]) في يهود عصره وسيطرتهم على حكامه:
يهود هذا الزمان قد بلغــوا
0

غاية آمالهم وقد ملكـوا
0
المجد فيهم والمال عندهمــو
0

ومنهم المستشار و الملك
0
يا أهل مصر، إني نصحتُ لكم
0

تهودوا، قد تهود الفلك
0
ثالثا :حق الآخر في الأمن و الحماية :
إن المجتمع الإسلامي مجتمع الأمن والسلام، ولذلك فإن من يعيش بين المسلمين في هذا المجتمع كان من الضروري أن ينعم بهذا الأمان والسلام.
ولعل الإسلام هو الدين المنفرد الذي عُني عناية فائقة بالدعوة إلى السلام، وجعلها دعامته الأولى.. وقد تناول القرآن الكريم (السلم والسلام) في عشرات من آياته المحكمات. ليس ذلك فحسب، بل إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته، قال سبحانه وتعالى : ] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون َ[ ([17])، وجعله تحيته إلى عباده، وأمرهم بأن يجعلوا السلام تحيتهم، يلقيها بعضهم على بعض، وشعارهم في جميع مجالات الحياة، في المسجد والمعهد والمصنع والمتجر..وسمّيت الجنّة دار السلام، فقد قال الله تعالى : ] لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْوَهُوَوَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون َ[ ([18])والآيات التي ورد فيها ذكر السلام كثيرة.
من هنا كان السلام شعار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ ظهور الإسلام حتى الآن. وهو شعار يُلقيه المسلم على غيره كلما لقيه، وكلما انصرف عنه، فيقول له : " السلام عليكم ".
وأما عن كيفية إقرار الأمن والسلام في المجتمع الإسلامي.
ولقد قرر الإسلام حماية غير المسلمين من الظلم، فطوق حرماتهم بطوق الأمان فحمى أموالهم ودماءهم وأعراضهم، وحماهم من نوائب الزمن، لتحقيق الأمن والسلام المنشود.
ولكي نستوعب حق الآخر في الحماية من المجتمع الإسلامي لابد أن نتناول عناصر هذه الحماية، فهناك حماية من العدوان الخارجي، وهناك حماية من المجتمع الداخلي، وهناك حق للآخر في عصمة دمه وبدنه وماله وعرضه، ونبدأ الآن بأول هذه العناصر :
(1) حق الآخر في الأمن من العدوان الخارجي :
أما حماية غير المسلمين من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى حاكم المسلمين ، بما له من سُلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية، أن يوفر لهم هذه الحماية، كما نص على ذلك الفقهاء بقولهم : "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع مَن يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع مَن قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل كانوا بدارنا، ولو كانوا منفردين ببلد".
وعلل ذلك بأنهم : "جرت عليهم أحكام الإسلام وتأبد عقدهم، فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين"([19]).
وينقل الإمام القرافي المالكي في كتابه قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع"، وهو : "إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة"، وحكى في ذلك إجماع الأمة.
وعلق على ذلك القرافي بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال -صوناً لمقتضاه عن الضياع- إنه لعظيم"([20]).
(2) حق الآخر في الأمن والحماية داخل المجتمع :
للآخر الحق في العيش في أمان وسلام داخل وطن المسلمين فإن حماية الآخر من الظلم الداخلي، أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان، فالله تعالى لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفاً في الآخرة.
وقد تكاثرت الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الظلم وتقبيحه، وبيان آثاره الوخيمة في الآخرة والأولى، وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة.
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
" من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"([21]).
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران أنه: "لا يؤخذ منهم رجل بظلمِ آخر"([22]).
ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قِبَلِهم.
كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له : " ما نعلم إلا وفاءً "([23]) أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاً من الطرفين وفَّى بما عليه.
وعليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا"([24]).
وفقهاء المسلمين من جميع المذاهب الاجتهادية صرَّحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن غير المسلمين والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم العهد قد التزموا بدفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرَّح بعضهم بأن ظلم غير المسلم أشد من ظلم المسلم([25])، وهو مبني على أن الذمي في دار الإسلام أضعف شوكة عادة، وظلم القوي للضعيف أعظم في الإثم.
(3) حق الآخر في عصمة دمه :
إن من أهم واجبات المجتمع المسلم تجاه الآخر هو إقرار حقه في عصمة دمه، فحرص الإسلام على عصمة دماء غير المسلمين كحرصه على عصمة دماء المسلمين تماما ، وفي سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إبراز لهذا المعنى بما لا يحتمل التأويل.
فقد ثبت في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما"([26]).
فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع، ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات لهذا الوعيد الذي جاء في الحديث.
حتى إن كثيرا من فقهاء الإسلام المعتد بهم في الشريعة ، قد أقروا بأن المسلم يقتل إذا قتل غير المسلم المعاهد، فقد قال مالك والليث : إذا قتل المسلم الذمي غيلة يُقتل به ([27]).
وهو الذي فعله أبَان بن عثمان حين كان أميرًا على المدينة، وقتل رجل مسلم رجلاً من القبط، قتله غيلة، فقتله به، وأبَان معدود من فقهاء المدينة([28]).
وذهب الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وعثمان البتي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن المسلم يُقتل بغير المسلم المعاهد مطلقا ، لعموم النصوص الموجبة للقصاص من الكتاب والسنة، ولاستوائهما في عصمة الدم المؤبدة، ولما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد. وقال: " أنا أكرم من وفَّى بذمته"([29]).
وما روي : " أن عليًّا أُتي برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال : إني قد عفوت، قال: فلعلهم هددوك وفرقوك، قال: لا، ولكن قتله لا يرد علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ. قال : أنت أعلم؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا "([30]).
وقد صح عن عمر بن عبد العزيز : " أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميًّا، فأمره أن يدفعه إلى وليه : فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه . . فدُفِعَ إليه فضرب عنقه"([31]).
وهذا هو المذهب الذي اعتمدته الخلافة العثمانية ونفذته في أقاليمها المختلفة منذ عدة قرون.
(4) حق الآخر في عصمة بدنه من الأذى :
وكما حمى الإسلام غير المسلمين من القتل، حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب، فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم، ولو تأخروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات المالية المقررة عليهم كالجزية والخراج، هذا في حين أن الإسلام تشدد كل التشدد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة.
بل كان الإسلام يعتبر أن مجرد انتظار غير المسلم في الشمس تعذيبا له، ويتضح هذا المعنى جليا في قصة حكيم بن هشام أحد الصحابة الكرام رضي الله عنه عندما رأى رجلاً (وهو والٍ على حمص) يشمِّس ناسًا من النبط (أي يوقفهم تحت حر الشمس) في أداء الجزية، فقال : ما هذا! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول : " إن الله عز وجل يُعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا"([32]).
وأشهر الأمثلة على ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر ؛ حيث ضرب ابن عمرو ابن القبطي بالسوط، وقال له: أنا ابن الأكرمين! فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه، وأعطى السوط لابن القبطي، وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطانه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني . ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟
وما يستحق التسجيل في هذه القصة، هو أن الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيتهم في ظل الإسلام، حتى إن لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حق، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يحرك بها أحد رأسًا، ولكن شعور الفرد بحقه وكرامته في كنف الدولة الإسلامية جعل المظلوم يركب المشاق، ويتجشم وعثاء السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقاً بأن حقه لن يضيع، وأن شكاته ستجد أذنًا صاغية.
وكتب عليٌّ رضي الله عنه إلى بعض ولاته على الخراج: " إذا قدمتَ عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرضًا (متاعًا) في شيء من الخراج، فإنما أُمِرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفتَ ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك" . قال الوالي: إذن أرجع إليك كما خرجت من عندك! (يعني أن الناس لا يُدفعون إلا بالشدة) ، قال : وإن رجعتَ كما خرجتَ "([33]).

([1]) سورة البقرة الآية : 256.

([2]) سورة يونس الآية : 99.

([3]) سورة البقرة الآية : 256.

([4]) تفسير ابن كثير ج ـ 1 ص 310.

([5]) سورة الحج الآيتان : 39 – 40.

([6]) الطبقات الكبرى لابن سعد الجزء الأول صـ 287 طـ دار صادر.

([7]) كما رواه الطبري . (تاريخ الطبري ط . دار المعارف بمصر ج ـ 3 ص 609).

([8]) الخراج لأبي يوسف ص 146.

([9]) انظر: أحكام الذميين والمستأمنين ص 96 – 99.

([10]) وهناك أمثلة أخرى كثيرة، وقد ذكر المؤرخ المقريزي في كتابه "الخِطط" أمثلة عديدة، ثم ختم حديثه بقوله: وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة في الإسلام بلا خلاف. انظر : الإسلام وأهل الذمة للدكتور علي حسني الخربوطلي صـ 139، وأيضاً: "الدعوة إلى الإسلام" تأليف توماس . و . أرنولد ص 84 - 86 ط . ثالثة . ترجمة د . حسن إبراهيم وزميليه..


([11])هامش من صفحة 128 من كتاب "حضارة العرب" لجوستاف لوبون.


([12])الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، " للأستاذ آدم ميتز أستاذ اللغات الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا ، ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة، الطبعة الرابعة، فصل: "اليهود والنصارى"، (ج1 / ص86).

([13])تهذيب الكمال الجزء الثالث صـ 423، طبعة مؤسسة الرسالة، وتاريخ الطبري الجزء 3 صـ 464 طبعة دار الكتب العلمية.

([14])سير أعلام النبلاء الجزء 15 صـ 168، طبعة مؤسسة الرسالة.

([15]) في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" (الجزء الأول ص105)

([16])هو الحسن بن خاقان، كما في "حسن المحاضرة" للسيوطي 2 ص117، وانظر الحضارة الإسلامية لآدم ميتز ج1 ص 118

([17]) سورة الحشر الآية : 23.

([18]) سورة الأنعام الآية : 127.

([19]) مطالب أولي النهى ـ في الفقه الحنبلي ـ ج 2 ص 602 - 603.

([20])الفروق ج ـ 3 ص 14 - 15 - الفرق التاسع عشر والمائة.

([21])رواه أبو داود في سننه، الجزء الثالث، صـ 170 والبيهقي في السنن الكبرى، ج ـ 5 ص 205، وكذلك أخرجه الحافظ المنذري في الترهيب والترغيب، الجزء الرابع صـ7.

([22]) مرجع سابق، صـ 287 .

([23])تاريخ الطبري ج ـ 4 ص 218.

([24])المغني ج ـ 8 ص 445، والبدائع ج ـ 7 ص 111.

([25]) ذكر ذلك ابن عابدين في حاشيته، الجزء الرابع، صفحة 171 ، طبعة دار الفكر ، ما نصه : " وتحرم غيبته كالمسلم لأنه بعقد الذمة وجب له مالنا فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته بل قالوا إن ظلم الذمي أشد ".

([26]) أخرجه البخاري في صحيحه، الجزء السادس، صفحة 2533 بطبعة دار ابن كثير ، والترمذي في جامعه، الجزء الرابع، صـ 20 ،طبعة دار إحياء التراث العربي، والنسائي في سننه، الجزء الربع، صـ 221 ، طبعة دار الكتب العلمية. والمعاهد كما قال المناوي : أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب -فيض القدير ج ـ 6 ص 153.

([27]) نيل الأوطار ج ـ 7 ص 154.

([28]) انظر: الجوهر النقي مع السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34.

([29])رواه البيقهي في السنن، ج ـ 8 ص 30، وانظر تعقيب ابن التركماني في "الجوهر النقي" حاشية السنن الكبرى"، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، ج ـ 10 ص 101.

([30]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34 ، وذكره محمد بن الحسن الشيباني في كتابه الحجة، ج 4 صـ 355 ، كما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه الأم ج 7 صـ 321.

([31]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ج ـ 10 ص 101، 102.

([32])أخرجه النسائي في سننه ج ـ 9 ص 205 ، وانظر الخراج لأبي يوسف ص 15 - 16.

([33]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ج ـ 10 ص 101، 102.




























يتبع ..........................
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-29-2012, 11:52 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

حق الآخر في عصمة ماله وممتلكاته الخاصة :
إن الشريعة الإسلامية بنيت على مقاصد سامية، منها عصمة أموال الناس وتأمينهم في ممتلكاتهم، فحماية أموال الناس مقصد رئيسي من مقاصد الشريعة الإسلامية.
وقد اتفق المسلمون في جميع المذاهب، وفي جميع الأقطار، ومختلف العصور، على أن غير المسلمين لهم حق الملكية الخاصة وأموالهم معصومة وهم في حماية المجتمع المسلم بجميع مؤسساته.
والتاريخ الإسلامي من لدن النبي الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وحتى آخر الخلافات الإسلامية " الخلافة العثمانية " ، خير شاهد على أن الإسلام كفل حق عصمة أموال غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، فلقد جاء في معاهدة النبي لأهل نجران : " ولنجران وحاشيتهم جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبِيَعهم، وصلواتهم " ....... إلى أن قال : " وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير" ([1]).
وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أن : "امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها"، وعلى هذا استقر عمل المسلمين طوال العصور.
فمَن سرق مال ذمي قُطعت يده، ومَن غصبه عُزِّر، وأعيد المال إلى صاحبه، ومَن استدان من ذمي فعليه أن يقضي دينه، فإن مطله وهو غني حبسه الحاكم حتى يؤدي ما عليه، شأنه في ذلك شأن المسلم ولا فرق.
وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يعدونه -حسب دينهم- مالاً وإن لم يكن مالاً في نظر المسلمين، فالخمر والخنزير لا يعتبران عند المسلمين مالاً مُتقَوَّمًا، ، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين لا لنفسه ولا ليبيعهما للغير، أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فهما مالان عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفية، فمن أتلفهما على الذمي غُرِّمَ قيمتهما ([2]).
وبهذا يسن الإسلام أعدل القوانين في التعامل مع الآخر، ولم يكن هذا أمرا نظريا لم يطبق على أرض الواقع، كما هي أغلب المواثيق الدولية التي تنادي بحقوق الإنسان ولا تطبق.http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=1304&version=1&templat e_id=93&parent_id=12 - top
(6) حق الآخر في عصمة عرضه :
العرض : هو موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سلفه، أو من يلزمه أمره، وقيل : هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب " ([3]).
وقد غلب استعمال العرض بمعنى البُضع و الحسب في استعمال الفقهاء، وأما ما نحن بصدده فهو العرض بمعناه الواسع لكل ما يقبل المدح والذم في الإنسان، سواء كان بمعنى البضع والحسب أو كل ما يصونه الإنسان من متعلقاته، ويستاء من ذمه فيها.
فالمجتمع المسلم بجميع مؤسساته مطالب بحفظ حق غير المسلم في حماية عرضه، فالتعرض لغير المسلم بكلمة تؤذيه في نفسه أو في أهله أو في حسبه أو في عمله أو في خادمه أو سائقه، يعتبر انتهاكاً لعرضه، ولذلك فإن الإسلام يحمى عِرض غير المسلم وكرامته، كما يحمي عِرض المسلم وكرامته، فلا يجوز لأحد أن يسبه، أو يغتابه، أو يسب متعلقاته من أهله وخادمه حتى جماداته من منزله ودابته أو يذكره بما يكره، في نفسه، أو نسبه، أو خَلْقِه، أو خُلُقه أو غير ذلك مما يتعلق به.
ولم يهتم تشريع سماوي ولا أرضي بحفظ الأعراض كما اهتم شرعنا الحنيف. يقول الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي " فمن اعتدى عليهم ـ أي غير المسلمين ـ ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيَّع ذمة الله، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذمة دين الإسلام" ([4]).
فالإسلام يعتبر أن أذى غير المسلم ولو بكلمة كأذى المسلم تماما، بل قد يكون أشد، وهذا ما قرره الإسلام في فقهه النظري وتطبيقه العملي، كما يقرر هذا أيضا العلامة ابن عابدين ـ من فقهاء الحنفية ـ هذا بقوله : " لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا : إن ظلم الذمي أشد "([5]).
(7) حق الآخر في التأمين عند العجز والفقر وكبر السن :
إن احتياجات المرء تزيد بالضرورة عند عجزه وشيخوخته وفقره، ويكون الإنسان ـ بصرف النظر عن عرفه ودينه ـ في حاجة إلى رعاية وكفالة اجتماعية من مجتمعه الذي يعيش فيه، والإسلام يقوم بمسئوليته تجاه رعيته ويضرب أروع الأمثلة في التكافل الاجتماعي.
فإن الإسلام قد ضمن لغير المسلمين في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع، وهو مسئول عن رعيته "([6]).
ولقد عاش المسلمون الأوائل سنة نبيهم واقعا، فكما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، كان صحابته سنة تمشي على الأرض رضوان الله عليهم أجمعين.
ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى : "وجعلت لهم : أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله" ([7]).
وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى أبي بكرالصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يُعَد إجماعًا.
ورأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًا، ثم نخذله عند الهرم!" ([8]).
وعند مقدمه رضي الله عنهِ "الجابية" من أرض دمشق، مَرَّ في طريقه بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجرى عليهم القوت، أي تتولى الدولة القيام بطعامهم ومؤونتهم بصفة منتظمة ([9]).
وبهذا تقرر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره "مبدأً عامًا" يشمل أبناء المجتمع جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، ولا يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو العلاج، فإن دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلمًا كان أو غير مسلم.
وقد اعتنى فقهاء الشافعية بتحقيق هذه المسالة تحقيقا علميا، يبين المراد من دفع الضرر عن المسلمين وغيرهم.
فقد ذكر الإمام النووي في "المنهاج" أن من فروض الكفاية : دفع ضرر المسلمين ككسوة عار، أو إطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال، ووضح العلامة شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" أن أهل الذمة كالمسلمين في ذلك، فدفع الضرر عنهم واجب.
ثم بحث الإمام الرملي ـ رحمه الله ـ في تحديد معنى دفع الضرر، فقال : "وهل المراد بدفع ضرر مَن ذكر، ما يسد الرمق أو الكفاية؟ قولان، أصحهما ثانيهما ؛ فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناهما، كأجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع .. كما هو واضح"، قال: "ومما يندفع به ضرر المسلمين والذميين فك أسراهم"([10]).
وبهذا العرض السابق نكون قد استعرضنا على أهم الحقوق التي كفلها الإسلام للآخر في المجتمع المسلم، وفي المبحث الذي يليه سوف نتكلم عن رد الشبه التي أثيرت بخصوص إساءة معاملة غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية
&&&
المبحث الثاني
الافتراءات المثارة على الإسلام من الآخر وردها
إن الحسد والغيرة لا يتوجهان إلا لمن علا وسما، فهما علامتان واضحتان على العلو والسمو والنزاهة، وليس هناك أعلى قدرا ولا أكمل منزلة من منزلة كلام الله المنزل على رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والعجيب أنه بعد كل هذا الإحسان، والرفق، نجد أن الآخر ـ سواء في الداخل أو الخارج ـ يعادي الإسلام وليس هناك دافع لهذا ولا مبرر عقلي إلا الحسد والغيرة التي وقعت في قلوب الحاقدين، وقد أخبر القرآن الكريم عن هذا الحسد الواقع في قلوب غير المسلمين من نزاهة الإسلام وعدله وفضله على كل العالمين.
والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة في غير موضع، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، قوله تعالى : ]وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُواوَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[([11])، وكذلك قوله سبحانه وتعالى : ]أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَوَالْحِكْمَةَوَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً[([12])، ومن هذا أيضا قوله جل شأنه : ]وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ[([13]).
ولكن قومًا لبسوا مسوح العلم يريدون أن يُقَوِّلوا التاريخ ما لم يقله، ويحمِّلوه ما لم يحمله، عنوة وافتعالاً، يصطادون في الماء العكر.
وفي سبيل هذه الغاية الفاسدة جَهِدوا جَهْدهم أن يشوهوا تاريخ التسامح الإسلامي الذي لم تعرف له الإنسانية نظيرًا.
ومن هذه الافتراءات التي أثيرت حول الإسلام، فرية اعتبار الجزية امتهانا لغير المسلمين، كذلك شبهة تعرض غير المسلمين للأذى والاضطهاد من المسلمين في المجتمعات المسلمة، وكذلك شبهة فهم بعض النصوص الشرعية بشكل خاطئ.
أولا : فرية مفهوم الجزية :
إن غير المسلم يتمتع بتمام حريته، في مباشرة التجارات والصناعات والحِرَف المختلفة . وهذا ما جرى عليه الأمر، ونطق به تاريخ المسلمين في شَتَّى الأزمان.
ومن الناس من ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، فيحسبون الإسلام متعسفًا في فرضه الجزية على غير المسلمين، ولو أنهم أنصفوا وتأملوا حقيقة الأمر لعلموا أن الإسلام كان منصفًا كل الإنصاف في إيجابه هذه الجزية الزهيدة.
فقد أوجب الإسلام على أبنائه (الخدمة العسكرية) باعتبارها (فرض كفاية) أو (فرض عين) وأناط بهم واجب الدفاع عن الدولة، وأعفى من ذلك غير المسلمين، وإن كانوا يعيشون في ظل دولته.
ذلك أن الدولة الإسلامية دولة (عقائدية) أو بتعبير المعاصرين دولة (أيديولوجية) أي أنها دولة تقوم على مبدأ وفكرة، ومثل هذه الدولة لا يقاتل دفاعًا عنها إلا الذين يؤمنون بصحة مبدئها وسلامة فكرتها . . وليس من المعقول أن يؤخذ شخص ليضع رأسه على كفه، ويسفك دمه من أجل فكرة يعتقد ببطلانها، وفي سبيل دين لا يؤمن به، والغالب أن دين المخالفين ذاته لا يسمح لهم بالدفاع عن دين آخر، والقتال من أجله.
ولهذا قصر الإسلام واجب (الجهاد) على المسلمين؛ لأنه يعد فريضة دينية مقدسة، وعبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، حتى إن ثواب المجاهد ليفضل ثواب العابد القانت الذي يصوم النهار ويقوم الليل . ولهذا قال الفقهاء: إن أفضل ما يتقرب به المسلم من العبادات هو الجهاد.
ولكن الإسلام فرض على هؤلاء المواطنين من غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدفاع والحماية للوطن عن طريق ما عرف في المصطلح الإسلامي باسم (الجزية).
فالجزية -فضلاً عن كونها علامة خضوع للحكم الإسلامي- هي في الحقيقة بدل مالي عن (الخدمة العسكرية) المفروضة على المسلمين.
ولهذا فرضها الإسلام على كل قادر على حمل السلاح من الرجال . فلا تجب على امرأة ولا صبي؛ لأنهما ليسا من أهل القتال. وقد قال عمر: (لا تضربوها على النساء والصبيان)، ولهذا قال الفقهاء : لو أن المرأة بذلت الجزية ليُسمح لها بدخول دار الإسلام، تُمَكَّن من دخولها مجانًا، ويُرَد عليها ما أعطته؛ لأنه أخذ بغير حق، وإن أعطتها تبرعًا مع علمها بأن لا جزية عليها قُبلت منها، وتعتبر هبة من الهبات، ومثل المرأة والصبي : الشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن، والمعتوه، وكل من ليس من أهل السلاح.
ومن سماحة الإسلام أنه قرر : أن لا جزية على الراهب المنقطع للعبادة في صومعته؛ لأنه ليس من أهل القتال([14]).
يقول المؤرخ الغربي آدم ميتز : " كان أهل الذمة -بحكم ما يتمتعون به من تسامح المسلمين معهم، ومن حمايتهم لهم- يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار "([15]).
على أن هناك علة أخرى لإيجاب الجزية على أهل الذمة، وهي العلة التي تبرر فرض الضرائب من أي حكومة في أي عصر على رعاياها، وهي إشراكهم في نفقات المرافق العامة، التي يتمتع الجميع بثمراتها ووجوه نشاطها، كالقضاء والشرطة، وما تقوم به الدولة من إصلاح الطرق وإقامة الجسور، وما يلزمها من كفالة المعيشة الملائمة لكل فرد يستظل بظلها، مسلمًا كان أو غير مسلم.
والمسلمون يسهمون في ذلك بما يدفعونه من زكاة عن نقودهم وتجاراتهم وأنعامهم وزرعهم وثمارهم، فضلاً عن صدقة الفطر وغيرها . فلا عجب أن يطلب من غير المسلمين المساهمة بهذا القدر الزهيد وهو الجزية.
ومن ثم وجدنا كتب الفقه المالكي تضع أحكام الجزية لأهل الذمة في صلب أحكام الزكاة للمسلمين([16]).
إن الجزية كما بينا بدل عن الحماية العسكرية التي تقوم بها الدولة الإسلامية لأهل ذمتها، في المرتبة الأولى . فإذا لم تستطع الدولة أن تقوم بهذه الحماية لم يعد لها حق في هذه الجزية أو هذه الضريبة.
وهذا ما صنعه أبو عبيدة حين أبلغه نوابه عن مدن الشام، بتجمع جحافل الروم، فكتب إليهم أن يردوا الجزية عمن أخذوها منه، وأمرهم أن يعلنوهم بهذا البلاغ: "إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم (أي نحميكم) وإنا لا نقدر على ذلك . وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشروط، وما كتبنا بيننا وبينكم، إن نصرنا الله عليهم" ، وجاء في كثير من العقود التي كتبها قواد المسلمين كخالد وغيره لأهل الذمة مثل هذا النص: "إن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا، حتى نمنعكم"([17]).
وتسقط الجزية أيضًا باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضد أعداء الإسلام . وقد نُصَّ على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أبرمت بين المسلمين وأهل الذمة في عهد عمر رضي الله عنه([18]).
وغير المسلم يدفع هذه الجزية أو الضريبة أو الصدقة([19]) للنظام والدولة الإسلامية كما يدفع المسلم الزكاة، ويطلب من المسلم القتال والتضحية بنفسه في حماية الوطن، وهذا كله يعفى منه غير المسلم، فإن غير المسلم يدفع الجزية مقابل إعفائه من الزكاة والجهاد المفروضين على المسلمين، فهل كان المطلوب من التشريع الإسلامي أن يعفي غير المسلم من أي واجبات تجاه مجتمعه ؟ وتطلب الواجبات من المسلم فقط، حتى لو فعل هذا التشريع الإسلامي لرأيت من خرج علينا يقول : لماذا لا تشعرون غير المسلم بالانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه ؟ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ولكن للأسف فإن الجزية التي غُلِّفت بظلال كئيبة، وتفسيرات سوداء، من قبل المستشرقين والحاقدين جعلت غير المسلمين يفزعون من مجرد ذكر اسمها، فهي في نظرهم ضريبة ذل وهوان، وعقوبة فُرِضت عليهم مقابل الامتناع عن الإسلام.
ولعل أقوى الحجج والبراهين التي تندفع بها هذه الشبهة الهاوية التي تقوى على الصمود أمام أي من الحجج، ما قاله المؤرخ المعروف سير توماس .و.أرونولد : وزيادة في الإيضاح والبيان، ودفعًا لكل شبهة، وردًا لأية فرية، يسرني أن أسجل هنا ما كتبه هذا المؤرخ حيث قال : "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين ـ كما يريدنا بعض الباحثين على الظن ـ لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين. ولما قَدَّمَ أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم دفعوا هذه الجزية على شريطة: "أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم"، كذلك حدث أن سجل خالد بن الوليد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: "فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا"([20]).
ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط، من تلك الحادثة التي وقعت في عهد الخليفة عمر، فإنه لما حشد الإمبراطور هرقل جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزامًا على المسلمين ـ نتيجة لما حدث ـ أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم برد ما جُبى من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". وبذلك ردت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا : "ردكم الله علينا، ونصركم عليهم (أي على الروم).. فلو كانوا هم، لم يردوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي لنا"([21]).
قد فُرِضت الجزية ـ كما ذكرنا ـ على القادرين من الذكور مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بها لو كانوا مسلمين، ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تعفى من أداء هذه الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي، وكانت الحال على هذا النحو مع قبيلة (الجراجمة) وهي قبيلة مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية، سالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عونًا لهم، وأن تقاتل معهم في مغازيهم، على شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى نصيبها من الغنائم ([22]).
ولما وصلت الفتوح الإسلامية إلى شمال فارس سنة 22هـ، أبرم مثل هذا الحلف مع إحدى القبائل التي تقيم على حدود تلك البلاد، وأُعفيت من أداء الجزية مقابل الخدمة العسكرية([23]).
ونجد أمثلة شبيهة بهذه للإعفاء من الجزية في حالة المسيحيين الذين عملوا في الجيش أو الأسطول في ظل الحكم التركي. مثال ذلك ما عومل به أهل ميغاريا (Migaria ) وهم جماعة من مسيحيي ألبانيا الذين أعفوا من أداء هذه الضريبة، شريطة أن يقدموا جماعة من الرجال المسلحين لحراسة الدروب على جبال (Cithaeron) و (Geraned) التي كانت تؤدي إلى خليج كورنته، وكان المسيحيون الذين استخدموا طلائع لمقدمة الجيش التركي، لإصلاح الطرق وإقامة الجسور، قد أعفوا من أداء الخراج، ومُنِحوا هبات من الأرض معفاة من جميع الضرائب.
وكذلك لم يدفع أهالي (Hydra) المسيحيون ضرائب مباشرة للسلطان، وإنما قدموا مقابلها فرقة من مائتين وخمسين من أشداء رجال الأسطول، كان ينفق عليهم من بيت المال في تلك الناحية.
كما أكد هذا المعنى الكاتب الغربي توماس .و. أرنولد حيث ذكر ما نصه : " وقد أعفي أيضًا من الضريبة أهالي رومانيا الجنوبية الذين يطلق عليهم (Armatoli)ه (Lazar, p56) وكانوا يؤلفون عنصرًا هامًا من عناصر القوة في الجيش التركي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، ثم المرديون (Mirdites) وهم قبيلة كاثوليكية ألبانية كانت تحتل الجبال الواقعة شمال إسكدرا (Scutari)، وكان ذلك على شريطة أن يقدموا فرقة مسلحة في زمن الحرب (De Lajanquiere p14).

([1]) مرجع سابق صـ 287.

([2]) هذه مسألة خلافية بين فقهاء الشريعة الإسلامية، وما ذكر هو مذهب الأحناف، وليس مذهب الجمهور، راجع المبسوط ج 9 صـ 154.

([3]) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/208،209)، وفتح الباري (10/464).

([4])مرجع سابق ج3 صـ 14.

([5]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه ج ـ 3 ص 244 - 246 ط . إستانبول.

([6]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج 2 صـ 848 طـ ابن كثير، ومسلم في صحيحه، ج 3 صـ 1459طـ إحياء التراث العربي، وأبو داود في سننه، ج3 صـ 130طـ دار الفكر، والترمذي في سننه ، ج 4 صـ 208 طـ إحياء التراث العربي ، والبيهقي في سننه، ج 6 صـ 287 طـ دار الباز واللفظ للبخاري.

([7])ذكره الإمام أبو يوسف في "الخراج" ص 144.

([8])ذكره أيضا الإمام أبو يوسف في "الخراج" ص 126.

([9])في فتوح البلدان للبلاذري ص 177 ط . بيروت.

([10]) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج ـ 8 ص 46 كتاب "السير".

([11]) سورة البقرة الآية : 109.

([12]) سورة النساء : 54.

([13]) سورة النساء الآية : 89.

([14])انظر : مطالب أولي النهى بشرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة ج ـ 2 ص96.

([15])الحضارة الإسلامية ج ـ 1 ص 69.

([16])انظر: الرسالة لابن أبى زيد مع شرحيها لابن ناجى وزروق ج ـ 1 ص331 وما بعدها، حيث وضعت الجزية في صلب أبواب الزكاة.

([17]) كما يروي ذلك الطبري في تاريخه، الجزء الثاني، صـ 319، طـ دار الكتب العلمية.

([18]) انظر : أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام للدكتور عبد الكريم زيدان ص 155 وما بعدها . وراجع: فتوح البلدان للبلاذري ص 217ط . بيروت، حيث صالح مندوب أبى عبيدة جماعة (الجراجمة) المسيحيين على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا على عدوهم، وإلا يؤخذوا بالجزية . . . إلخ.

([19]) يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة ج 1 صـ 98ـ104 : " وقد أخذ عمر من نصارى بني تغلب الجزية باسم الصدقة تألفًا لهم، واعتبارًا بالمسميات لا بالأسماء " .

([20]) الطبري ج1 ص2055ـ 2050 ، طـ دار الكتب العلمية.

([21]) الخراج للإمام أبو يوسف ص81.

([22]) في فتوح البلدان للبلاذري ص159 -ص217 . 22ط، بيروت.

([23]) الطبري جـ1 ص2665.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-29-2012, 11:53 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

وبتلك الروح ذاتها لم تقرر جزية الرؤوس على نصارى الإغريق الذين أشرفوا على القناطر (هي نوع من القناطر تقام على أعمدة لتوصيل مياه الشرب إلى المدن، وقد كانت شائعة في الدولة الرومانية منذ القرن الأول الميلادي) التي أمدت القسطنطينية بماء الشرب (Thomas Smith, p 324)، ولا على الذين كانوا في حراسة مستودعات البارود في تلك المدينة (Dorostamus, p 326)؛ نظرًا إلى ما قدموه للدولة من خدمات. ومن جهة أخرى أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام، وفرضت عليهم الجزية في نظير ذلك، كما فرضت على المسيحيين. (De Lajanquuiere, P 265 ) ([1]).
فرية تعرض غير المسلمين للأذى والاضطهاد من المسلمين :
رغم أن التقييم الموضوعي لأي نظام أو نظرية، لا يعتبر حدوث حوادث خاصة، في أوقات خاصة، من مجموعة بعينها، في أماكن معينة قدحا في هذا المنهج النظري، ولا حتى في تطبيقه وفهمه، خاصة وهذه الحوادث قليلة لم تسجل في التاريخ بشكل يجعلها طابعا عاما.
إلا إن تاريخ التسامح الإسلامي مع أهل الأديان الأخرى تاريخ ناصع البياض، وقد رأينا كيف عاش هؤلاء في غاية من الأمان والحرية والكرامة باعتراف المؤرخين المنصفين من الغربيين أنفسهم، إلا أنه قد ظهر من اتهم الإسلام بظلم مخالفيه، متذرعين بحوادث جزئية قام بها بعض العوام أو الرعاع في بعض البلاد، وبعض الأزمان، نتيجة لظروف وأسباب خاصة. تحدث في كل بلاد الدنيا إلى يومنا هذا.
وأول هذه الأسباب وأهمها أن غير المسلمين تعمدوا تهييج العامة والرعاع عليهم، في مواقف كان ينتظر فيها المسلمون أن يقوم غير المسلمين بالدفاع معهم عن الوطن والحزن على مصائبهم، بل كانوا هم يفعلون عكس هذا تماما.
فإن بعض النصارى كانوا يُبدون ارتياحًا إذا انتصر الروم النصارى على المسلمين، فيؤدي ذلك إلى هياج العوام عليهم.
بل إن بعض النصارى في دمشق وبلاد الشام أظهروا السرور والشماتة والاستعلاء على مواطنيهم المسلمين، عندما انتصر التتار الوثنيون عليهم، وهم غزاة أجانب مشركون، حتى إنهم رشُّوا بعض المساجد بالخمر ـ التي يعتقد المسلمون نجاستها ـ نكاية لهم، ووقوفًا في صف أعدائهم.
ومن هذه الأسباب أن التسامح الإسلامي هيأ لكثير من غير المسلمين مراكز قوية في النواحي المالية والإدارية، فلم يحسنوا معاملة المسلمين، بل أظهروا التسلط والتعنت والجبروت.
وفي هذا يقول "ميتز": وكانت الحركات التي يُقصد بها مقاومة النصارى موجهة أولاً إلى محاربة تسلط أهل الذمة على المسلمين،ويقول أيضًا : إن أكثر الفتن التي وقعت بين النصارى والمسلمين بمصر ـ يعني في القرون الأولى ـ نشأت عن تجبر المتصرفين الأقباط ([2]).
ومن الأسباب تضخم الثروات لدى كثير من غير المسلمين بصورة أثارت الجماهير المسلمة التي كانت ترى ـ فيما يبدو لنا ـ أن جُلَّ هذه الثروات جُمعت بغير حق، وأُخذت منها بطريق غير مباشر، (فقد كان أكثرها من عطايا الخلفاء والولاة). فمشاعر السخط هنا كانت أقرب إلى المشاعر الطبقية، منها إلى المشاعر الدينية.
ولنأخذ هذا المثال الذي ذكره "أرنولد" : رجل مسيحي من مدينة "الرُّها" يدعى "أثناس"، اختاره عبد الملك بن مروان ـ الخليفة الأموي ـ ليكون مؤدبًا لأخيه عبد العزيز ـ وقد رافق أثناس هذا تلميذه إلى مصر عندما عُيِّن واليًا عليها. ويبدو أنه استغل منزلته لدى الوالي، فجمع ثروة طائلة هناك، قيل: إنه امتلك أربعة آلاف من العبيد، كما ملك كثيرًا من الدور والبساتين، وكان الذهب والفضة عنده "كأنها الحصى" ـ على حد تعبير أرنولد. وكان أولاده يأخذون من كل جندي دينارًا عندما يتسلم راتبه. ولما كان جيش مصر قد بلغ حينذاك (30000) ثلاثين ألف جندي فإنه من الممكن أن تُكَوَّنُ فكرة عن الثروة التي جمعها "أثناس" خلال الإحدى والعشرين سنة التي قضاها في هذه البلاد([3]).
ويقول السير "توماس .و. أرنولد ": "وكثيرًا ما جمع الأطباء المسيحيون بوجه خاص ثروات ضخمة. ولقوا تكريمًا كبيرًا في بيوت العظماء. فجبريل بن بختيشوع الذي اتخذه الخليفة هارون الرشيد طبيبًا خاصًا، كان مسيحيًا نسطوريًا، بلغ إيراده السنوي (800000) ثمانمائة ألف درهم من أملاكه الخاصة، فضلاً عن راتب قدره (280000) درهم في السنة مقابل عنايته بمعالجة الخليفة.. وكان الطبيب الثاني ـ وهو نصراني أيضًا ـ يتقاضى (22000) درهم في السنة.. وكان المسيحيون يجمعون أموالاً وفيرة من احترافهم الصناعة والتجارة.
والواقع أن هذه الثروة هي التي طالما أثارت طمع الدهماء ـ الذي يقوم على الحسد ـ وهو شعور دفع المتعصبين من المسلمين إلى انتهاز هذه الفرصة، لاضطهادهم وإيقاع الظلم بهم([4]).
فرية النصوص التي تدعو إلى امتهان غير المسلمين :
إن الشرع الحنيف بأصليه النظريين " القرآن والسنة "، يجب أن لا يفهم بعيدا عن التطبيق العملي لهذه النصوص، وهو سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، فعلى قلبه أنزل القرآن، وهو صلى الله عليه وسلم الذي تكلم بالسنة، وكان تطبيقه العملي للشرع الحنيف هي سيرته العطرة، وسيرة خلفائه الراشدين.
فيحاول بعض الحاقدين وأنصاف المتعلمين التعرض للنص الشرعي مجردا من جو نزوله، وكيفية فهم الأمة من لدن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا هذا، فيخرج عن الإجماع ويفهم فهما جديدا عجيبا لا ينبغي للنص من أي وجه.
ومن الناس مَن يستند إلى بعض النصوص الدينية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، يفهمها فهمًا سطحيًا مُتعجلاً، مستدلاً بها على تعصب الإسلام ضد المخالفين له من اليهود والنصارى وغيرهم.
ومن الأمثلة البارزة لهذه النصوص : الآيات التي جاءت تنهى عن موالاة غير المؤمنين، وهي كثيرة في القرآن الكريم، وذلك كقوله تعالى في سورة آل عمران : ]لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِين وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةًوَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ[([5])، وقال سبحانه وتعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً[([6])، وقوله تعالى : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّيوَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِوَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَوَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِيوَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِوَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْوَمَا أَعْلَنتُمْوَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ[([7]).
فقد فهم بعض الناس من هذه الآيات وأمثالها أنها تدعو إلى الجفوة والقطيعة والكراهية لغير المسلمين، وإن كانوا من أهل دار الإسلام، والموالين للمسلمين والمخلصين لجماعتهم.
والحق أن الذي يتأمل الآيات المذكورة تأملاً فاحصًا، ويدرس تواريخ نزولها وأسبابه وملابساته، يتبين له ما يأتي :
أولا ً: أن النهي إنما هو عن اتخاذ المخالفين أولياء بوصفهم جماعة متميزة بديانتها وعقائدها وأفكارها وشعائرها، أي بوصفهم يهودًا أو نصارى أو مجوسًا أو نحو ذلك، لا بوصفهم جيرانًا أو زملاء أو مواطنين. والمفروض أن يكون ولاء المسلم للأمة المسلمة وحدها، ومن هنا جاء التحذير في عدد من الآيات من اتخاذهم أولياء: (من دون المؤمنين). أي أنه يتودد إليهم ويتقرب لهم على حساب جماعته.
ولا يرضى نظام ديني ولا وضعي لأحد من أتباعه أن يدع جماعته التي ينتسب إليها، ويعيش بينهما ، ليجعل ولاءه لجماعة أخرى من دونها. وهذا ما يعبر عنه بلغة الوطنية المعاصرة بالخيانة العظمى.
ثانيًا : أن الموادة التي نهت عنها الآيات ليست هي مُوَادة أي مخالف في الدين، ولو كان سلمًا للمسلمين وذمة لهم، إنما هي موادة من آذى المسلمين وحادَّ الله ورسوله. ومما يدل على ذلك:
( أ ) قوله تعالى في سورة المجادلة: ]لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِوَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَوَرَسُولَهُوَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَوَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُوَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْوَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ[([8])، فالذي يتضح من هذه الآية أن هؤلاء القوم لم يكتفوا بالكفر بالله ورسوله بل أظهروا العداوة، فمُحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر بهما، بل محاربته دعوتهما، والوقوف في وجهها، وإيذاء أهلها.
( ب ) قوله تعالى في مستهل سورة الممتحنة : ]أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِوَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَوَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ[([9])، فالآية تعلل تحريم الموالاة أو الإلقاء بالمودة إلى المشركين بأمرين مجتمعين: كفرهم بالإسلام، وإخراجهم للرسول والمؤمنين من ديارهم بغير حق.
( ج ) قوله تعالى في نفس السورة: ]لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِوَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْوَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِوَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْوَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْوَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون َ[([10])،فقسم المخالفين في الدين إلى فريقين :فريق كان سلمًا للمسلمين لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من ديارهم، فهؤلاء لهم حق البر والإقساط إليهم.
وفريق اتخذوا موقف العداوة والمحادة للمسلمين ـ بالقتال أو الإخراج من الديار، أو المظاهرة والمعاونة على ذلك ـ فهؤلاء يحرم موالاتهم. مثل مشركي مكة الذين ذاق المسلمون على أيديهم الويلات. ومفهوم هذا النص أن الفريق الآخر لا تحرم موالاته.
ثالثًا : أن الإسلام أباح للمسلم التزوج من أهل الكتاب، والحياة الزوجية يجب أن تقوم على السكون النفسي والمودة والرحمة، كما دل على ذلك القرآن في قوله سبحانه وتعالى : ]وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَاوَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةًوَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [([11])، وهذا يدل على أن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها، وكيف لا يواد الرجل زوجته إذا كانت كتابية؟ وكيف لا يواد الولد جده وجدته وخاله وخالته إذا كانت أمه ذمية؟
رابعًا : أن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن الإسلام يؤكد إعلاء الرابطة الدينية على كل رابطة سواها، سواء أكانت رابطة نسبية أم إقليمية أم عنصرية أم طبقية، فالمسلم أخو المسلم، والمؤمنون إخوة، والمسلمون أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. والمسلم أقرب إلى المسلم من أي كافر، ولو كان أباه أو ابنه أو أخاه.
وهذا ليس في الإسلام وحده.. بل هي طبيعة كل دين، وكل عقيدة، ومن قرأ الإنجيل وجده يؤكد هذا المعنى في أكثر من موقف.
وإلى هنا نكون قد استعرضنا جملة من الافتراءات، وقمنا بمحاولة الرد عليها في ضوء فهم الأئمة الأعلام من السابقين والمعاصرين للشرع الحنيف، ولعل هذا الكلام يكون سببا في هداية الضالين وتثبيت المؤمنين.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن الآخر أو غير المسلم باعتباره فرداً في المجتمع المسلم، ويتبقى لنا أن نتعرض للآخر باعتباره كيانا منفصلا مجاورا أو بعيدا عن الدولة المسلمة، وهذا ما سنتعرض إليه في الفصل التالي إن شاء الله.
&&&


([1]) الدعوة إلى الإسلام لـ توماس .و. أرنولد ص 79-81 ط. ثالثة ـ مكتبة النهضة ـ ترجمة الدكاترة : حسن إبراهيم حسن، وإسماعيل النحراوي، وعبد المجيد عابدين.


([2]) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري جـ1 صـ 106، 112.

([3]) الدعوة إلى الإسلام ص81، 82 ط . ثالثة.

([4]) الدعوة إلى الإسلام ـ المرجع السابق ص 82، 83.


([5])سورة آل عمران الآية : 28.

([6])سورة النساء الآية : 144.

([7])سورة الممتحنة الآية : 1.

([8])سورة المجادلة الآية : 22.

([9]) سورة الممتحنة الآية : 1.

([10]) سورة الممتحنة الآية : 8 ، 9.

([11]) سورة الروم الآية : 21.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-29-2012, 11:53 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل الثاني
الآخر وحقوقه في الإسلام باعتباره كيانا منفصلا


تناولنا في الفصل السابق حقوق الآخر في الإسلام باعتباره جزءاً وفرداً ومواطناً في المجتمع المسلم، وفي هذا الفصل نتناول الآخر في الإسلام باعتباره جماعة، ودولة، وكيان منفصل للدولة الإسلامية، أي أننا سوف نتكلم عن الآخر بالشخصية الاعتبارية.
فلن نتكلم عن الآخر باعتباره شخصا يأكل ويشرب وينام، بل سنتكلم عن الآخر باعتباره دولة تعاهد وتحارب وتسالم، فهل شرع الإسلام وسن من القوانين الربانية نظاما يحكم علاقة الدولة الإسلامية بجيرانها، وغير جيرانها من الكيانات المنفصلة ؟ وهل للآخر باعتباره كيانا منفصلا، ودولة مستقلة عن الحكم الإسلامي حقوقاً كفلها الإسلام.
هذا ما سنعرفه في هذا الفصل على وجه من الإيجاز، من خلال تعرضنا للمفهوم الإسلامي في إقرار حقوق الآخر من الناحية النظرية، وكذلك لتطبيق هذا المفهوم من الناحية العملية.
لقد بقي العالم منقسماً إلى وحدات دولية على أساس ديني ، أوروبا المسيحية ، والشرق الأوسط الإسلامي ، والهند والصين وما جاورها هندوسية وبوذية وكونفشيوسية . ورغم وجود عدة دول ووحدات سياسية داخل الكيان الديني إلا أن لكن العامل الديني بقي مسيطرا على فكرة التقسيم الدولي.
وبدأ القانون الدولي يتطور حين أقر مبدأ الفصل بين العقائد الدينية وبين العلاقات الخارجية . وقد أدى هذا المبدأ إلى إعادة القضايا الدينية إلى إطارها الداخلي الوطني ، بالخلاف من العقيدة الإسلامية التي تعتبر المسلمين كياناً واحداً أو ما يعرف بالأمة الإسلامية ، رغم وجودهم في دول متعددة جغرافياً وسياسياً . ففي مطلع القرن السادس عشر كان العالم الإسلامي ينقسم إلى ثلاث وحدات سياسية مستقلة، هي الدولة العثمانية في تركيا، والدولة الصفوية في إيران، والدولة المغولية في الهند .
في حين أنه بدأ الاهتمام بالعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم خارج الجزيرة العربية في المرحلة المكية ، عندما نصح الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعض أصحابه من المسلمين الأوائل بالهجرة إلى الحبشة للتخلص من ظلم قريش لهم.
وجاءت سورة الروم تتحدث عن حرب بين دولتين عظيمتين في المنطقة (الروم والفرس) ، وحدد القرآن الموقف الإسلامي من تلك الحرب التي انتصر فيها الفرس ، وبشر المسلمين بانتصار الروم بعد بضع سنين . وحالما استقرت دولة المدينة بادر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بإرسال رسائل إلى الدول الكبرى في المنطقة (بيزنطة وفارس ومصر واليمن والحبشة) يدعو زعماءها وشعوبها إلى الإسلام . وبعد ثمانين عاماً كانت الدولة الإسلامية أكبر إمبراطورية في المنطقة تمتد من الهند شرقاً إلى إسبانيا غرباً . فأصبحت لها حدود مشتركة وطويلة مع العديد من الدول والشعوب غير المسلمة . وكانت علاقات الدولة الإسلامية (الأموية والعباسية) متوترة مع جميع جيرانها عدا الحبشة . وبسبب الحروب والمعارك كانت هناك حاجة ماسة لتنظيم فترات الهدنة والصلح والجزية وتبادل الأسرى وإقرار السلم .
وبدأ الفقهاء المسلمون يتناولون قضايا القانون الدولي في كتب الفقه فيما يعرف بالسِّيَر (جمع سيرة)، والتي يقصد بها طريقة معاملة المسلمين لغير المسلمين خارج (دار الإسلام) . وتتضمن لفظة "السيرة" معنيين ، الأول : والذي كان المؤرخون وأصحاب السير يستعملونه ، يعني قصة أو سيرة حياة الإنسان . والثاني : وكان الفقهاء يستعملونه، ويعني تصرف الدولة في علاقاتها مع الشعوب الأخرى([1]).
يقول السرخسي في شرحه الوافي لكتاب (السير الكبير للشيباني) : اعلم أن السير جمع سيرة ، وبه سمي هذا الكتاب لأنه يبين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة ومع المرتدين الذين هم أخبث من الكفار بالإنكار بعد الإقرار ، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين، وفي التأويل مبطلين([2]).
والحقيقة المقررة هي أن العلاقات الدولية في الإسلام، الأصل فيها "السلم" ، بل البر والإقساط والتعاون والرحمة، بالنسبة للأمم الأخرى، لقوله تعالى:‏ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةًوَلاَتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[([3]).
والأصل أيضاً في العلاقات الدولية في الإسلام تحريم البغي والعدوان، أو التعاون والتحالف على العمل على ارتكابه، لأنه تعاون على الإثم، وهذا محرم بالنص، لقوله تعال ى:‏ ]وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّوَالتَّقْوَىوَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِوَالْعُدْوَانِوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ[([4]).
وقوله سبحانه تعالى : ]وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْوَلاَتَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ[([5]).
والبر كلمة جامعة يندرج في مفهومها الكلي، كافة ضروب "التعاون" في سبيل الخير الإنساني العام، وفي مقدمتها المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات بين الدول، في جميع مجالات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية والعلمية، شريطة ألا تصادم أمراً قاطعاً أو تمس العقيدة أو المقاصد الأساسية لهذا التشريع .
يتبين مما تقدم أن الدولة الإسلامية تحترم الكيان المادي والمركز السياسي للدول الأخرى، كما أنها تحترم مركزها الأدبي، وبالمقابل فإن من حقها أن تطالب الدول الأخرى بمثل هذا الاحترام.‏
هذا ومن مقتضى كون الأصل في العلاقات الدولية -في الإسلام- هو السلم، أن التضامن الدولي واجب، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بالتعارف خطاباً موجهاً للناس كافة، لا إلى المسلمين فحسب، بدليل قوله تعالى :‏ ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍوَأُنثَىوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباًوَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [([6]).
هذا بقطع النظر عن اختلاف الأصل أو الدين، وليس المقصود بالتعارف إلا التعاون، وهذا هو التواصل الحضاري الذي يؤكد تحقيق مبدأ السلم العالمي.
وسوف نتناول فيما يلي واجبات الدولة الإسلامية تجاه الدول الأخرى.
واجبات الدولة الإسلامية تجاه الدول الأخرى :
إن الدول غير الإسلامية لن تنال حقوقها من الدولة الإسلامية في ضوء تعاليم الإسلام السمحة، إلا إذا قامت الدولة المسلمة بواجباتها، فالواجبات المطلوبة من الدولة الإسلامية هي الحقوق التي تنالها الدولة غير المسلمة منها، فلابد إذن أن نعرف ما هي واجبات الدولة الإسلامية تجاه الدول الأخرى ، ولذلك فيمكن القول بأن الواجبات القانونية للدولة الإسلامية تتلخص في عدة أمور :‏
الأول : مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من النصوص القرآنية والسنة النبوية.‏
الثاني : احترام العهود التي ارتبطت بها وتنفيذ تعهداتها بحسن نية.‏
الثالث : احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية.‏
وبعد أن أجملنا هذه النقاط نشرع في تفصيلها على النحو التالي :
الأول : واجب مراعاة دعائم العلاقات الإنسانية المستمدة من القرآن والسنة :‏
اعتبر الإسلام الناس جميعاً أمة واحدة، تجمعها الإنسانية، وإذا كانت الإنسانية واحدة، واختلافها من اختلاف رغبات الناس بحكم الغرائز، والاستجابة لها، فإن الإسلام ينظم العلاقات على أساس من وحدتها الجامعة، لا من مظاهرها المفرقة، وعلى هذا الأساس، قامت النظم الدولية في الإسلام: فلا تفرقة بالعنصرية، ولا بالغنى والفقر، ولا بالعلم والجهل، بل على أساس الحكم العادل بين الناس على سواء، وكل تفرقة بغير الحق تكون باطلة، ولا تصلح لقيام علاقة إنسانية صالحة للبقاء، وإنما يصلح للبقاء ما يكون نابعاً من الوحدة الإنسانية، فهي أساس العلاقات الدولية في الإسلام، قال تعالى:‏ ]] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍوَأُنثَىوَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباًوَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[([7]) .
هذا النص القرآني الكريم هو أساس العلاقات الدولية كما نظمها القرآن وبينتها السنة، وقام عليها عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم من بعده في الحرب والسلم على السواء. وهذا النص يقيم العلاقة على التعاون، وينفي أن يكون اختلاف العِرق أو اللون دالاً على التباين في الحكم، فهم وإن اختلفوا، فإن الأصل واحد، والحقوق والواجبات توجب التعاون والتلاقي عندها، ولا يتحقق هذا التعاون إلا بتحقيق ما بينه الإسلام من مبادئ نسلط عليها بعض الضوء فيما يلي :
أولاً- مبدأ التعاون الإنساني :‏
التعاون في الإسلام مبدأ عام في كل الجماعات الإنسانية كما قرره القرآن، قال الله سبحانه تعالى :‏ ]وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّوَالتَّقْوَىوَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِوَالْعُدْوَانِوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ[([8]).
والتعاون قوام الأسرة وقوام الأمة، وقد جاءت النصوص الدينية الإسلامية بتعميم التعاون في داخل الإقليم الواحد وفي نطاق الإنسانية.‏


ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يمد بالقوة كل من يعاون أخاه الإنسان في أي إقليم وفي أي موطن، فيقول عليه السلام :‏ "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"‏([9]).
ثانياً- مبدأ الكرامة :‏
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ومعه الكرامة، بأصل الفطرة، ولا يمكن أن يتحقق التعارف الذي دعا إليه القرآن الكريم إلا إذا كان كلا المتعارفين كريماً غير مهين، وعزيزاً غير ذليل. ولقد أمر الله بتكريم الإنسان في أصل الخلق والتكوين، ولذلك أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم أبي الخليقة الإنسانية. قال تعالى :‏ ] وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىوَاسْتَكْبَرَوَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ[([10]).
] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَوَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّوَالْبَحْرِوَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ً[ ([11]).. وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان لأنه إنسان، بقطع النظر عن أي اعتبار آخر.‏
ثالثاً- مبدأ التسامح :‏
دعا الإسلام إلى التسامح غير الذليل، فهو يبني العلاقات الإنسانية، سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، على التسامح من غير استسلام للشر أو تمكين للأشرار، قال تعالى :‏ ]وَلاَتَسْتَوِي الحَسَنَةُوَلاَالسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَوَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُوَلِيٌّ حَمِيمًٌ[ ([12])، وقوله تعالى: ]فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ[ ([13]).
والصفح الجميل أبرز ما يكون عند هزيمة الأعداء، فما كانت الحرب للثأر والانتقام بل لإعلاء كلمة الحق ودفع عدوان الباطل.‏
رابعاً- مبدأ الفضيلة :‏
إن التمسك بالفضيلة من أساس العلاقات الإنسانية في الإسلام، سواء أكانت بين الآحاد أم كانت بين الجماعات، وسواء أكانت العلاقة في حال الحرب أم في حال السلم، لأن قانون الأخلاق قانون عام، والفضيلة حق لكل إنسان، يستحقها بمقتضى إنسانيته، وقد تقرر ذلك في المبادئ الإسلامية التي تطبق على جميع أهل الأرض.‏
قال الله تعالى:‏ ] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[([14]).
وأشد ما كان يدعو إليه القرآن في الأمر بالفضيلة هو ما يقترن بالجهاد، خشية أن تندفع النفوس في حال احتدام القتال إلى ما يخالف ذلك المبدأ العام، قال عز وجل:‏ ]الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِوَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْوَاتَّقُوا اللَّهَوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ[([15]).
وإذا كان هذا النص القرآني قد أقرّ رد الاعتداء بمثله، إلا أنه أمر بالتقوى، وهي أن يجعل المؤمن بينه وبين غضب الله وقاية. فإذا انتهك العدو حرمات الفضيلة، فإن المؤمن لا ينتهك. وبعبارة عامة : لا يصح للمسلم أن يجاري الأعداء في مآثمهم، وما يرتكبونه في الحروب ضد الفضيلة الإنسانية العامة.‏
خامساً- مبدأ العدالة :‏
قامت كل علاقة إنسانية في الإسلام على العدالة، فهي الميزان المستقيم الذي يحدد العلاقات بين الناس في حال السلم، وحال الحرب على السواء ففي السلم يكون حسن الجوار قائماً على العدل، وفي الحرب يكون الباعث عليها هو العدل، والعدالة حق للأعداء كما هي حق للأولياء، قال الله تعالى:‏ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِوَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[([16]).
وقد توعد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم الظالمين بسوء المصير يوم القيامة فقد قال صلى الله عليه وسلم :‏" الظلم ظلمات يوم القيامة "([17]).
سادساً- مبدأ المعاملة بالمثل :‏
وهذا المبدأ شعبة من شعب العدالة، قال تعالى:‏ ]الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِوَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم ْ[([18]).
وطلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلم أن يحسن معاملة الناس، حتى تكتمل مروءته وتجب أخوته، وإلا فلا تجب أخوة من خالف هذا المنهج النبوي الكريم الذي قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :‏ " من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته"‏([19]).
وهذا المبدأ ينطبق على الدول كما ينطبق على الآحاد، وقد يقول قائل : إن المعاملة بالمثل تعارض التسامح والعفو، والجواب هو أن العفو حيث لا يمس العدالة، وغمط حقوق الناس، أو رضاء بالعدوان.‏
وموضوع العفو يكون بعد أن يتمكن صاحب الحق من حقه، فيعفو أو يأخذ، وإن العدالة لا تنافي الرحمة، بل إنها تلازمها، فحيث كانت العدالة كانت الرحمة، وهذا يفسر لنا قوله عليه السلام :‏ " أنا نبي المرحمة، وأنا نبي الملحمة "‏([20])، و الملحمة، وهي القتال، لا تكون في الإسلام إلا ببواعث من العدالة والرحمة بالناس.‏
سابعاً- مبدأ المودة :‏
يعتبر الإسلام الناس جميعاً أمة واحدة، ومن هنا فإن الأخوة الإنسانية ثابتة يجب وصلها، ولا يصح قطعها، وقد أمر الله تعالى بأن توصل القلوب بالمودة، والإسلام لا ينهى عن برّ كل من لا يعتدي على المسلمين. فالبر ثابت للمسلم وغير المسلم. قال الله تعالى:‏ ] لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِوَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْوَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ[([21]).
وإن المودة الموصلة لا يقطعها الحرب، ولا الاختلاف، ففي أثناء الحرب تنقطع العلاقات بين المسلمين والمحاربين بالفعل وحكامهم، أما رعايا الأعداء الذين لا يشتركون في القتال فإن مودتهم لا تنقطع، وكان النبي عليه السلام لا يقطع البر حتى عند الاختلاف، وفي الحرب، وعند الهدنة.‏

الثاني : واجب الوفاء بالعهد :‏
المعاهدة هي اتفاق بين طرفين أو أكثر ، تتضمن التزامات متبادلة بينهم ، وتنظيم العلاقة بين أطرافها . وتمثل المعاهدات ، بصورة عامة ، الأهداف والمصالح التي يجب بلوغها وحمايتها بواسطة الاتفاق أو العهد أو الامتياز . وتعكس المعاهدات بوضوح طبيعة الأفكار السائدة والأنظمة السياسية للدول في فترة تاريخية معينة . فالمعاهدات تمثل وثائق هامة تجسد المبادئ والقواعد التي كانت تحكم العلاقات الدولية بين الأمم والحكومات . وما تزال الاتفاقيات تمثل مصدراً رئيساً في القواعد القانونية الدولية ، وتلعب دوراً هاماً في العلاقات الدولية .
وعبر عصور طويلة ، مارست الدول الإسلامية توقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية . وتضمنت تلك الاتفاقيات التزامات وقواعد وشروطاً ومبادئ عديدة ، بشكل يمثل تطوراً في القانون الدولي الإسلامي . ومن خلال التركيز على معاهدات معينة ، يمكن اعتبارها خطوات متقدمة في تطوير القانون الدولي الإسلامي ، وقبول مفاهيم جديدة ، بشكل يجعل الباحث يتصور طبيعة الظروف التاريخية التي جعلت تلك الدول توقّع هذه المعاهدة أو تلك .
ولقد عرف الإسلام المعاهدات السلمية في السنوات الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة ، إذ عقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقيات سلمية مع الجماعات غير الإسلامية. وقد اعتبرت معاهدة الحديبية قدوة ومثالاً لدى الخلفاء والفقهاء عند عقد الاتفاقيات ، وإجراء المفاوضات ، ومدة المعاهدات السلمية مع غير المسلمين . عقدت معاهدة الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي مكة ، قريش ، في عام (6 هـ /627 م) ، وكانت مواد المعاهدة تتضمن ضماناً من كلا الطرفين بعدم مهاجمة الطرف الآخر . فرسخت الأمن والسلام الذي كان الطرفان بحاجة إليه ، بعد أن شهدت الجزيرة العربية صراعاً عنيفاً وحروباً ومعارك ضارية بين المسلمين والمشركين .
وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد عقد معاهدات أخرى مع اليهود والمسيحيين ، سواء المقيمين داخل الجزيرة العربية أو خارجها ، وخارج حدود دولة المدينة . فقد عقد صلى الله عليه وآله وسلم) اتفاقية سلمية مع نصارى نجران عام (10 هـ/ 631م) ، ومع يهود فدك وأيْلة وتيماء ([22])، ومع بني صخر من كنانة([23]) .
وكانت تلك الاتفاقيات تضمن لهم حكماً إدارياً ذاتياً واستقلالا عن دولة المدينة . لقد كان بإمكانهم الاستمرار بتطبيق قوانينهم على أراضيهم . ولم تكن الجزية إلزامية في كل الاتفاقيات والمعاهدات مع أهل الكتاب ، ففي معاهدة المدينة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويهود المدينة وأطرافها ، وهي أول معاهدة سلمية للدولة الإسلامية ، لم تتضمن دفع جزية ، بل يمكن اعتبارها «معاهدة صداقة» ، وبروتوكولاً ينظم العلاقة والصلاحيات والامتيازات الممنوحة لليهود داخل الدولة الإسلامية . وكان من شأنها ترسيخ الأمن والسلام ، إذ لم يسبقها عداء أو حرب مع اليهود ، لولا نكث اليهود لها فيما بعد ([24]).
كما أن المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع بني ضمرة، لم تتضمن دفع جزية ، بل اقتصرت على نصرة الطرفين أحدهما للآخر ، وعدم مهاجمته([25])، وعقدت نفس المعاهدة مع بني غِفار ، وبالشروط نفسها([26]).
أما العلاقات السلمية مع الحبشة ، الدولة المسيحية ، فقد استمرت قروناً دون معاهدة مكتوبة . ففي العهد المبكر للإسلام ، هاجر إلى الحبشة حوالي 80 صحابياً هرباً من تعذيب قريش لهم، وبحثاً عن ملجأ آمن ، حيث أمضوا هناك سنوات . فكان موقف المسلمين هو الشكر والعرفان بالجميل ، حتى إنهم اعتبروا الحبشة مصونة عن الجهاد والفتوحات العسكرية ، فلم يتعرضوا لها ، حتى في أوج قوة الدولة الإسلامية في العصر العباسي، ويعود ذلك إلى موقف الطرفين السلمي ، ففي حين امتنع المسلمون عن مهاجمة الحبشة استجابة لحديث ينسب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مضمونه : " لا تهاجموا الحبشة ما دامت لم تهاجمكم ".
من ناحية أخرى ، اعتمدت الحبشة سياسة سلمية ، فلم تفكر بمهاجمة الدولة الإسلامية ، رغم أنها لديها خبرة في ذلك ، إذ كانت تحتل اليمن لقرون طويلة قبل الإسلام ، وأسست فيها حكومة حبشية مسيحية . وحاول أبرهة الحبشي مهاجمة مكة عام 570 م، سعياً لهدم الكعبة المقدسة . وبقيت تلك الحادثة التاريخية ماثلة في أذهان العرب، حتى سمي ذلك العام بعام الفيل.
وقد عقد الخلفاء المسلمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاهدات سلمية رغم أن القوة التي كان يتمتع بها المسلمون وقتها تسمح لهم باستمرار القتال . فقد عقد حاكم مصر ، عبدالله بن سعد بن أبى سرح ، في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، معاهدة سلمية مع أهل النوبة (السودان) تضمنت إقرار السلم بعد معركة طاحنة «فسألوه الصلح والموادعة ، فأجابهم إلى ذلك على غير جزية ، لكن على هدية ثلاثمائة رأس في كل سنة ، وعلى أن يهدي المسلمون إليهم طعاماً بقدر ذلك([27])، وبقيت تلك المعاهدة سارية المفعول ، يحترمها الطرفان ، لمدة 600 عام ، حتى وصول الحكم الفاطمي في مصر (969 ـ 1172 م). فإذا كان سبب قبولها عجز المسلمين عن فتح بلاد النوبة ، فإن استمرارها رغم وصول المسلمين إلى درجة القوة أكبر دليل على اعتقادهم بمشروعيتها ، وعلى أن السلام يمكن أن يقع بين المسلمين والكافرين بدون اشتراط الجزية، إذا التزم الكافرون بعدم الإعانة ضد المسلمين وبعدم التعرض للدعوة الإسلامية([28]).
وفي عام (28 هـ/ 648 م) عقد المسلمون معاهدة سلمية مع سكان جزيرة قبرص ، والذين لم يدفعوا الجزية ، ولم يعتبروا من أهل الذمة . فكانوا يؤدون خراجاً قدره 7200 دينار سنوياً ، ثم نقضوا العهد لمساعدتهم الروم ضد المسلمين ، فغزاهم معاوية عام (33 هـ/ 654 م) ففتح الجزيرة وأقرهم على الشروط السابقة . ولما تولى عبد الملك بن صالح ولاية قبرص ، قام بعض أهلها بالثورة عليه ، فاستشار عبد الملك الفقهاء في شأن إلغاء معاهدتهم لنكثهم العهد ، فأشار عليه أكثر الفقهاء ـ ومنهم الإمام مالك ـ بالإبقاء على العهد والكف عنهم . وعلل موسى بن عيين ذلك بأن أهل قبرص ليسوا أهل ذمة رغم أنهم كانوا يدفعون خراجاً إلى المسلمين . وهكذا بقيت قبرص على شروط الصلح رغم نقضها العهد ، ولم يلتزم أهلها بعقد الذمة وبدفع الجزية لمصلحة قدرها المسلمون ([29]).
وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، عقد المسلمون معاهدة صلح مع الجراجمة ، وهم قوم غير مسلمين ، كانوا يسكنون جبل اللكام على الحدود بين بيزنطة والدولة الإسلامية . وكانوا يعيشون شبه مستقلين ، مع استعداد مسبق لخدمة الإمبراطورية البيزنطية . وقد نصت الاتفاقية المعقودة معهم «على أن يكونوا أعواناً للمسلمين ، وعيوناً (جواسيس) ومسالح (دوريات عسكرية) في جبل اللكام . وأن لا يؤخذوا بالجزية (لا يدفعوا الجزية) ، وأن ينفلوا (يُعطوا) أسلاب (غنائم) من يقتلون من عدو المسلمين ، إذا حضروا معهم حرباً في مغازيهم» ([30]).
لقد كان الجراجمة يمثلون خطراً جدياً دفع الخليفة الأموي الأول معاوية إلى دفع مقابل لهم لتفادي شرهم([31]).

([1]) مجيد خدوري (القانون الدولي الإسلامي) / ص 53.

([2]) المبسوط للسرخسي المجلد العاشر صـ 2.

([3]) سورة البقرة الآية :208.

([4]) سورة المائدة الآية : 2.

([5]) سورة البقرة الآية : 190‏.

([6]) سورة الحجرات الآية : 13‏.



([7])سورة الحجرات : جزء من الآية : 13.

([8]) سورة المائدة الآية : 2.

([9]) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح ج 10 صـ 450، وذكره ابن قدامة في المغني ج 4 صـ207.

([10]) سورة البقرة الآية : 33.

([11]) سورة فصلت الآية : 34.

([12]) سورة الإسراء الآية : 70.

([13]) سورة الحجرة الآية : 85.

([14])سورة الحجرات : جزء من الآية : 13.

([15])سورة البقرة الآية : 194.

([16])سورة المائدة الآية : 8.

([17])أخرجه البخاري في صحيحه، ج 2 صـ 864 ، ومسلم في صحيحه ج 4 1996.

([18])سورة البقرة الآية : 194.

([19])مسند الشهاب ج 1 صـ 322، وذكره الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب ج 3 صـ 499.

([20])ذكره البيهقي في شعب الإيمان ج2 صـ 145 بلفظ : " أنا نبي التوبة وأنا نبي الملحمة "، وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في أحاديث الرسول ج 3 صـ 152.

([21]) سورة الممتحنة الآية : 8.

([22]) حميد الله ،State", p. 266 of Conduct "Muslim.

([23])سيد قطب ، «في ظلال القرآن» / ج 10 / ص 123.

([24])ورغم أن الكتابات والدراسات تعتبرها مثالاً على الاتفاقيات الخارجية ، إلا أنها ليست كذلك، لأن اليهود لم يكونوا طرفاً دولياً بل هم مواطنون تابعون للدولة الإسلامية.

([25]) علي بن حسين علي الأحمدي ، «مكاتيب الرسول» / ص 385.

([26]) علي بن حسين علي الأحمدي ، «مكاتيب الرسول» / ص 353.

([27]) أبو الحسن البلاذري ، «فتوح البلدان» / ص 238.

([28]) فيصل المولوي ، «الأسس الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين» / ص 86.

([29]) فيصل المولوي / مصدر سابق / ص 86 ـ 87 .

([30]) البلاذري ، «فتوح البلدان» / ص 164.

([31]) طلعت الغنيمي ،p. 44 Law", International of Conception "The Muslim.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 01-29-2012, 11:54 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

وفي سنة (59 هـ/ 679 م) ، خسر معاوية معركة بحرية مع الروم البيزنطيين ، اضطر بعدها للتصالح مع بيزنطة، ودفع مبلغ 3 آلاف قطعة ذهبية سنوياً مع خمسين عبداً وخمسين جواداً([1]).
وفي العصر العباسي عقد المسلمون العديد من المعاهدات السلمية مع الدول المسيحية مثل بيزنطة وفرنسا وروما . وكانت عواصم تلك الإمبراطوريات تشهد حضوراً متواصلاً للمبعوثين والسفراء المسلمين ، كما استقبلت الحواضر الإسلامية كقرطبة والقاهرة وبغداد سفارات مسيحية مماثلة . وقد وصلت العلاقات السلمية مع أوروبا ، أحياناً ، إلى درجة عقد أحلاف سياسية ـ عسكرية مع الأباطرة المسيحيين . ففي عام 197هـ/ 812م ، وقع الخليفة الأموي في إسبانيا ، الحاكم ، اتفاقية مع شارلمان ملك فرنسا . وكان للأخير علاقات وثيقة مع هارون الرشيد.
ويعتبر الوفاء بالعهود أساس التلاقي بين الآحاد والجماعات على بصيرة وهداية وتعاون وثقة متبادلة، ولا تعارف إلا مع الثقة. ويجب تحقق الثقة بين الجماعات كالثقة بين الآحاد على سواء، ولذلك شدد الإسلام على وجوب الوفاء بالعهد، وعده من أسباب القوة لأنه من أسباب الثقة وقوة التعارف، قال الله تعالى:‏ ]وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْوَلاَتَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَاوَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَتَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِوَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[([2]).] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[([3]).
] وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً[([4]).
] فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ[([5]).
] فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ[([6]).
] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِوَلاَيَنقُضُونَ المِيثَاقَ[([7]).] وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [([8]).
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الوفاء بالعهود عامة، وعلى الوفاء بالعهود التي يعقدها رؤساء الأمم في تنظيم العلاقات الدولية خاصة، قال عليه السلام : " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"([9]).‏
وقد كان بينه وبين المشركين عهد، فوفى به، فذكر له بعض المسلمين أنهم على نية الغدر به، فقال عليه السلام :‏ "وفوا لهم، ونستعين بالله عليهم"‏ ، وكان ينهى عن الغدر بمقدار حثه على الوفاء، وكان يعتبر أعظم الغدر غدر الحكام، يقول عليه الصلاة والسلام:‏ "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة"([10]).‏‏
وإذا كانت المعاهدات لا تستمد قوتها من نصوصها، بل من عزيمة عاقديها على الوفاء، فإن الإسلام حث على الوفاء، واعتبر الوفاء بالعهد والميثاق قوة، والنكث فيه أخذاً في أسباب الضعف.‏
وهكذا يكون الإسلام قد وثق أصول القانون الدولي العام الإسلامي أحكم توثيق، وبناها على الوجدان الديني للدولة الإسلامية؛ حيث لا يكون الوفاء للأقوياء، فقط، بل يكون هذا الوفاء للأقوياء والضعفاء على السواء.‏
ولا نعلم ديناً ولا تشريعاً، قد رفع من شأن "العهد" إلى هذا المستوى من القداسة، وقد كان لقاعدة "حرمة المعاهدات وقدسيتها في السلم والحرب" أثرها في العمل على استقرار السلم والأمن الدوليين، من جهة، وعلى تأصيل روح الثقة فيمن يتعامل سياسياً مع الدولة الإسلامية، على الصعيد الدولي من جهة أخرى، مما يعتبر بحق من أهم خصائص سياسة الإسلام الخارجية العادلة.‏
الثالث : واجب احترام العرف الصحيح في نطاق العلاقات الدولية : ‏
يعرَّف " العرف " بأنه :‏ " عادة جمهور قوم في قول أو عمل"‏.
والعرف مصدر تبعي من مصادر الأحكام، ويقوم على أساس الفقه أحكام متشعبة من شتى الأبواب والفصول الفقهية، لا يحصى عددها، ولا ينقضي تجددها، لأن الأحكام التي تخضعها الشريعة الإسلامية للعرف، تتبدل بتبدله، فهي في تجدد مستمر، وهذا من أعظم عوامل القابلية للخلود في مباني الشريعة وفقهها.‏
ويعد العرف في نظر الشريعة الإسلامية مستنداً عظيم الشأن لكثير من الأحكام العملية بين الناس في شتى شعب الفقه وأبوابه، وله سلطان واسع المدى في توليد الأحكام وتحديدها، وتعديلها وتجديدها، وإطلاقها وتقييدها، فهو وليد الحاجات المتجددة المتطورة.‏
وفي اعتبار العرف تسهيل كبير يغني عن كثير من النصوص التفصيلية في الأحكام التشريعية وفي عقود المعاملات، اعتماداً على ما هو معروف ومألوف في شتى الوقائع المحتملة، والعرف لا تغني عنه نصوص التشريع والتقنين، لأنها لا يمكن أن تستوعب جميع التفصيلات والاحتمالات، كما أن الكثير من أحكامها الآمرة نفسها مبني على العرف، ويتبدل الحكم فيه بتبدل العرف.‏
والاعتبار الشرعي للعرف مشروط بشرائط يجب توافرها في العرف لكي يعترف له بهذا السلطان.‏
وتلك الشرائط التي يذكرها الفقهاء والأصوليون في مناسباتها المختلفة تتلخص في أربعة شرائط :‏
ـ أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.‏
ـ أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرف قائماً عند إنشائها.‏
ـ أن لا يعارض العرف تصريح بخلافة.‏
ـ أن لا يعارض العرف نص تشريعي، فإذا عارضه ففي اعتبار العرف تفصيل.
وقد راعى الفقهاء المسلمون العرف في علاقاتهم مع الدول غير الإسلامية، مما يمكن القول معه بأن مراعاة العرف من قواعد القانون الدولي الإسلامي، فمن أقوالهم في هذا الباب ما ذكره الإمام ابن قدامة الحنبلي في " المغني " وهو قوله :‏ " وليس لأهل الحرب دخول دار الإسلام بغير أمان، لأنه لا يؤمن أن يدخل أحدهم جاسوساً أو متلصصاً، فيضر المسلمين، فإن دخل بغير أمان سئل، فإن قال جئت رسولاً فالقول قوله، فإن كان معه متاع يبيعه، قبل قوله أيضاً، وحقن دمه، لأن العادة جارية بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم"([11]).‏‏
ويمكن أن يقاس على ما ذكره الفقهاء في رعاية العرف الصحيح الجاري بين الدول كل عرف آخر بينهم، وقد قعَّدوا قواعد مهمة في مجال العرف ووجوب رعايته، مثل :‏ " المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ، والثابت بالعرف كالثابت بالنص ، والعادة محكمة ، ولا ينكر تغير الأحكام بتغيير الأزمان أي الأحكام المبنية على العرف ".
ويمكن الاستناد إلى هذه القواعد في نطاق العلاقات الدولية، كما نلاحظ ذلك في كتابات الفقيه المشهور محمد بن الحسن الشيباني في كتابه" السير الكبير"، وشرحه للإمام السرخسي.
وهناك مجال واسع للأخذ بقواعد القانون الدولي العام الحاضر القائمة على أساس العرف والمعاهدات، وهذان مصدران واسعان جداً يستقي القانون الدولي العام قواعده وأحكامه منهما، وإن الشريعة الإسلامية تجيز الأخذ بالعرف الصحيح في العلاقات الدولية، كما تجيز عقد المعاهدات مع الدول الأخرى، بشرط ألا تخالف الشريعة وأن تلتزم بالوفاء بمضمونها.
ومن خلال ما سبق نجد أنه قد وضعت الظروف والتغيرات الجديدة الدولة الإسلامية في تحديات جديدة ، حيث أصبحت تتعامل بشكل مباشر مع الدول غير المسلمة ، وخاصة الواقعة على حدود دار الإسلام . وجد المسلمون أن هناك حاجة لصيغة جديدة في التعامل مع الدول غير المسلمة ، بالإضافة إلى سياستها المتسامحة تجاه الأقليات غير الإسلامية داخل الدولة الإسلامية . قام الفقهاء بتطوير فرع من الفقه الإسلامي ، له علاقة بالعلاقات الخارجية ، هو السّيَر ، لتلبية متطلبات الظروف المستجدة والقضايا الطارئة . فهذا يعتبر أساس القانون الدولي الإسلامي.
كما أننا نرى أن العلاقات بين الدولة الإسلامية والدول غير الإسلامية قد لعبت دوراً هاماً في تطوير مفاهيم وآراء جديدة في الفقه الإسلامي.
فالواقع وقضاياه ومشاكله تطرح أسئلة وتطلب حلولاً ، لا بد للفقه أن يبدي رأيه فيها ، سواء كانت القضايا نابعة من داخل المجتمع الإسلامي أو بسبب علاقته واتصاله بالأمم الأخرى . وقد يكون من الصحيح القول بأن القانون الدولي الإسلامي أو السير ، نشأ أولاً لتنظيم قضايا الحرب والقتال وشئون الأسرى وعقد الهدنة أو غيرها ، لكن هناك دوافع وأسباباً أخرى جعلت القانون الدولي الإسلامي يتوسع ليشمل أمراً غير الحرب مع الكفار.
فقد كانت التجارة وانتقال الأفراد والتجار إلى دار الحرب ، والتعاون السياسي مع دار الكفر وغيرها أموراً تدفع الفقهاء إلى المزيد من البحث والاجتهاد لمواجهة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتغيرة . ففي العصر العباسي عقد الخليفة هارون الرشيد حلفاً مع فرنسا المسيحية ، وكلاهما كان ضد بيزنطة.
وإلى هنا نكون قد أبرزنا بإيجاز حق الآخر باعتباره كيانا منفصلا في التشريع الإسلامي، ولكل مسلم أن يفخر بهذا الدين الذي ما ترك شيئاً إلا وبينه أحسن بيان، فلله وحده المنة وعليه التكلان.
&&&
الخاتـــــمة


ونختم هذا البحث بإبراز كلمات عن صور من سماحة الإسلام بالمقارنة مع تعامل الديانات الأخرى مع المسلمين.
فإن من أراد أن يعرف فضل التسامح الإسلامي، ويعرف سماحة المسلمين على بصيرة، فليقرأ ما فعلته الأديان والعقائد والأخرى مع مخالفيها على مدى التاريخ، فالضدُّ يُظهر حسنَه الضدُّ.
وكيف عاملوا ويعاملون مخالفيهم في المذهب والاتجاه؟! بل ماذا صنعوا ويصنعون بزملائهم في الفكرة، ورفقائهم في الكفاح، إذا خالفوا رأيهم، أو فكروا غير تفكيرهم؟!
لينظر إلى المسلمين في الحبشة مثلاً وما يقاسونه من عنت واضطهاد وإهدار للحقوق الإنسانية، مع أنهم يكونون أغلبية السكان، ولهم أقاليم إسلامية خالصة لا يشاركهم فيها غيرهم. (انظر: كتاب "مأساة الإسلام الجريح في الحبشة" وكذلك التقرير الذي كتبه طالبان أزهريان من الحبشة عن وضع المسلمين هناك، ونشره الشيخ محمد الغزالي في كتاب "كفاح دين" تحت عنوان "ذئاب الحبشة تنهش الإسلام". وانظر: كتاب "إريتريا والحبشة" في سلسلة مواطن الشعوب الإسلامية للأستاذ محمود شاكر، نشر مكتبة الأقصى ـ عمان).
ولينظر كذلك إلى المسلمين في روسيا (انظر: فصل "أحوال المسلمين في الاتحاد السوفييتي" من كتاب "الإسلام في وجه الزحف الأحمر" للشيخ محمد الغزالي " أو يوغسلافيا أو الصين أو غيرها من البلاد الاشتراكية الماركسية.
إن المسلمين يكونون في بعض الجمهوريات في روسيا وبعض الأقاليم في يوغوسلافيا والصين أكثرية ساحقة في عدد السكان. ومع هذا فإنهم يمنعون من أداء ما يعتقدون وجوبه كالصلوات الخمس والحج إلى بيت الله الحرام والتفقه في الدين، وإنشاء المساجد التي تقام فيها شعائر الإسلام والمعاهد التي تمد هذه المساجد بالأئمة والمعلمين والخطباء. وأن يحكموا أنفسهم بشريعة ربهم التي يؤمنون بوجوب التحاكم إليها دون غيرها.
إن القسوة والاضطهاد، والتعذيب والتنكيل، والتشريد والتقتيل، والإبادة الجماعية، والإرهاب المستمر، لن يسمح له بالبقاء ـ كل هذا لا يقع شذوذًا أو فلتة، أو نزولاً على حكم الضرورة، بل إن العنف والاضطهاد الوحشي للمخالفين يمثل سياسة ثابتة دائمة، قائمة على فلسفة نظرية لا تكتفي بتبرير العنف فقط، بل توجبه وتحتمه (تقوم فلسفة الثوريين من الشيوعيين وأمثالهم على أن العنف في ذاته ضروري للتثقيف الانقلابي، ولرعاية "الديناميك" الثوري، وحفظ نقاء وصفاء هذا الديناميك و الحركة ـ كما قالوا ـ تعتمد العنف هنا كي تهز أو تحرك الشعب من سباته، وكي تحرضه دائمًا على الحركة، وكي تشحذ وجدانه الثوري. والعنف يعني وضع الثورة أمام الشعب بشكل مستمر، كي لا يغفو الشعب أو تغيب الثورة عن وعيه وضميره، إنه ـ بعبارة أخرى ـ وسيلة لمنع الشعب من اجترار الثروة كجزء من تقليد، وبطريقة غير واعية، إذ يعني ذلك موت الثورة!!.([12])، وتجعله من فرائض الثورة والثورية ولوازمها وزعموا أن هذا العنف من خصائص كل دعوة انقلابية في الماضي والحاضر ـ دينية أو غير دينية، وجهلوا موقف الإسلام المتميز. ولكي يكون العنف عنفًا انقلابيا ناجحًا، يجب أن يستخدم باستمرار وحدة وثبات وقسوة.
ومما قاله أحد الدارسين للأيديولوجية اللادينية الحديثة : "يتخذ العنف عادة قبل الاستيلاء على الدولة شكلاً فرديًا يكون هدفه ـ كما حدده الفوضويون، وفي طليعتهم الفوضوية الروسية ـ التهويل وتفكيك السلطة، عن طريق الخوف، وإعداد الطريق بذلك للخطوة التالية، ألا وهي الاستيلاء على الدولة.
ولكن بعد الاستيلاء على الدولة، يتحول هذا العنف إلى عنف جماعي هدفه ترسيخ السلطة وتثبيتها بدلاً من تفكيكها، فبينما يتجه العنف الفردي إلى أفراد في مراكز رئيسية حساسة، يتجه العنف الجماعي الانقلابي الجديد صوب الشعب ككل، أو صوب جماعة معينة. إن الهدف من العنف الثاني ليس اعتماد الخوف فقط، بل إزالة العدو من الوجود، كي ينسجم المجتمع مع المذهب الجديد"([13]).
والحقيقة المهمة هنا هي: أن دعاة العنف الثوري حديثًا يستندون في تبرير عنفهم وقسوتهم ضد مخالفيهم إلى ما حفل به تاريخ الأديان قديمًا من تنكيل واضطهاد وإبادة ضد من لا يدين بها ويركزون خاصة على تاريخ المسيحية، طوال العصور الوسطى، ومنذ نشأتها.
قالوا : إن العنف الجماعي المنظم الذي لجأ إليه الشيوعيون والنازيون إنما استوحاه "تروتسكي" و"هتلر" وغيرهما من مدارس مسيحية، وفي طليعتها مدرسة اليسوعيين، ومحاكم التفتيش، والحركات الألفية.
إن المسيحية التي تدعو إلى المحبة والسلام، والتي قاست ألوانًا من الاضطهاد والتنكيل إبَّان نشوئها وضعفها، لم تلبث ـ حين ملكت زمام السلطة وقامت لها دولة ـ أن أنزلت بالمخالفين لها من ضروب العنف، وصنوف القسوة والعذاب ما تقشعر لحدوثه الأبدان.
ويذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في كتاب "الإسلام والنصرانية ": أن الكنيسة الأسبانية غضبت لانتشار فلسفة ابن رشد وأفكاره، وخصوصًا بين اليهود، فصبت جام غضبها على اليهود والمسلمين معًا، فحكمت بطرد كل يهودي لا يقبل المعمودية، وأباحت له أن يبيع من العقار والمنقول ما يشاء، بشرط ألا يأخذ معه ذهبًا ولا فضة، وإنما يأخذ الأثمان عروضًا وحوالات. وهكذا خرج اليهود من أسبانيا تاركين أملاكهم لينجوا بأرواحهم، وربما اغتالهم الجوع ومشقة السفر، مع العدم والفقر.
وحكمت الكنيسة كذلك سنة 1052م على المسلمين (أعداء الله !) بطردهم من إشبيلية وما حولها إذا لم يقبلوا المعمودية، بشرط ألا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية، ومن خالف ذلك فجزاؤه القتل([14]).
ولم يكن اضطهادها موجهًا إلى الوثنيين والمخالفين في الدين فحسب، بل كان موجهًا إلى المسيحيين الذين لهم رأي أو مذهب يخالف مذهب الحكام، أو مذهب الكنيسة المعتمدة لديهم.
والذين قرأوا تاريخ المسيحية يعرفون ماذا جرى للعالم المصري "آريوس" وأتباعه الذين عارضوا القول بألوهية المسيح، في "مجمع نيقية" المشهور (325م)، وكيف قرر هذا المجمع ـ بعد أن طرد من أعضائه كل المعارضين ـ وهم الأكثرية ـ إدانة "آريوس" وإحراق كتاباته، وتحريم اقتنائها، وعزل أنصاره من كل الوظائف، ونفيهم، والحكم بالإعدام على كل من أخفى شيئًا من كتابات "آريوس" ومن أيَّد مذهبه.
وباستمرار الاضطهاد للداعين إلى التوحيد اختفوا تمامًا من المجتمعات المسيحية، ولم يبق لدعوتهم أثر.
"إن الاختلافات اللاهوتية بين المسيحية في تفسير بعض أقوال أو مبادئ التوراة، كانت تؤدي إلى قتال يحصدهم حصدًا. أن يشتق الروح القدس من الأب والابن، أومن الابن وحده ! أو أن يكون الخبز والنبيذ جسدًا ودمًا أو لا يكونا ! أو أن يكون المسيح ذا طبيعتين ـ أو لا يكون طبيعة إنسانية وطبيعة إلهية...إلخ ـ كانت كلها مماحكات مات الناس في الدفاع عنها والخصام حولها بعشرات الألوف، وعذب المؤمنون بعضهم بعضًا في سبيلها بأشد أنواع التعذيب([15]).
ولما ظهر مذهب البروتستانت في أوروبا ـ على يد "لوثر" وغيره ـ قاومت الكنيسة الكاثوليكية أتباع هذا المذهب بكل ما أوتيت من قوة، وعرف تاريخ الاضطهاد مذابح بشرية رهيبة، من أهمها مذبحة باريس (في 24 أغسطس عام 1572م، التي دعا فيها الكاثوليك البروتستانت ضيوفًا عليهم في باريس للبحث في تسوية تقرب بين وجهات النظر، فما كان من المضيفين إلا أن سطوا على ضيوفهم تحت جنح الليل، فقتلوهم خيانة وهم نيام ! فلما طلع الصباح على باريس كانت شوارعها تجري بدماء هؤلاء الضحايا ! وانهالت التهاني على "تشارلز التاسع" بغير حساب من البابا، ومن ملوك الكاثوليك وعظمائهم.
والعجيب أن البروتستانت لما قويت شوكتهم، قاموا بدور القسوة نفسه مع الكاثوليك، ولم يكونوا أقل وحشية منهم([16]).
لقد قال "لوثر" لأتباعه: "من استطاع منكم فليقتل، فليخنق، فليذبح، سرًا أو علانية، اقتلوا واخنقوا، واذبحوا، ما طاب لكم، هؤلاء الفلاحين الثائرين"([17]).
ولم يكن من الغريب أن تنطوي الحروب الدينية في أوروبا على الفظائع التي ميزتها. يذكر "فيارك" أن الحرب الدينية الثلاثينية قضت حرفياً في ألمانيا وحدها على أكثرية الشعب الألماني بين قتل وجوع، وحرقت معظم مدنها المزدهرة، وحولتها إلى رماد!!
أما الحملات الصليبية فإن القرن العشرين بتجاربه الانقلابية (على ما فيها من وحشية كالانقلاب الشيوعي والنازي) يعجز أمام فظائعها التي كانت تقترفها ضد المسيحيين أنفسهم، فبعضها كان يحرث الأرض بأجساد ضحاياها من المارقين كطريقة لتسميد الأرض!
ويذكر "فيدهام" أن هذه الحروب كانت مليئة بالفظائع: لأن رجال اللاهوت "الطيبين" كانوا مستعدين دائمًا أن يضعوا الزيت على النار، وأن يحيوا وحشية الجنود عندما يساورهم أي تردد أو ضعف، فقد يكون الجنود قساة، ولكنهم كانوا يميلون في بعض الأحيان إلى الرحمة، أما رجال اللاهوت فاعتبروا الاعتدال والرحمة نوعًا من الخيانة! ([18]).
لقد كان الحرق عقاب جميع الفرق المنشقة، فإن ندم أحدهم فاعترف بخطيئته وتاب، يحكم عليه بالسجن المؤبد، وكان الحجز يصيب جميع أملاك الكافر وأولاده حتى الجيل الثاني، وكانوا لا يعتبرون أهلاً لأي منصب أو مركز إلا إذا وشوا بأبيهم أو بكافر آخر. والعقاب ذاته كان يصيب كل من يساعد الكفار بأي شكل.
لم يكن الموتى أنفسهم في منجى، إذ كانت المحاكم تأمر بنبش وحرق جثث من ترى أنهم كانوا كفرة. وقد بلغ التشجيع على الوشاية بالغير درجة لم يبلغها في الانقلابات الحديثة!
ذكر "لي" في دراسته الكلاسيكية حول محاكم التفتيش في القرون الوسطى : أن جميع المحاكم والقضاة في الحاضر والمستقبل، كانوا ملزمين بأن يُقْسموا على إزالة كل الذين تعتبرهم الكنيسة كفرة، وإلا فإنهم يخسرون مراكزهم، إن أي حاكم زمني يهمل لعام واحد ـ بعد دعوة الكنيسة بأن ينظف الأرض التي يملكها من الكفرة ـ تصبح أرضه من حق كل من يفني الكفرة ويقضي عليهم. وجنَّد "مرسوم الإيمان" ـ الذي اعتمدته محاكم التفتيش في متابعة المارقين ـ الشعب كله في خدمة المحاكم، وفُرِض على كل فرد أن يشي بالغير وأن ينبئها بأي عمل كافر أو مارق([19]).
ويقول الشيخ محمد عبده عن محاكم التفتيش: لقد اشتدت وطأة هذه المحكمة حتى قال أهل ذلك العهد: يقرب من المحال أن يكون الشخص مسيحيًا ويموت على فراشه!
ويقول: لقد حكمتْ هذه المحكمة من يوم نشأتها سنة 1481م حتى سنة 1808م على 340000 نسمة منهم 200000 أحرقوا أحياء. ([20]).
ولم يكن هذا الموقف جديدًا في المسيحية، لأن انتشارها في عصورها الأولى كان يتم عادة عن طريق تخيير الغير بينها وبين السيف.
يذكر (بريفولت) أن تقدير المؤرخين للناس الذين قتلتهم المسيحية في انتشارها ـ أي في أوروبا ـ يتراوح بين سبعة ملايين كحد أدنى، وخمسة عشر مليون كحد أعلى. (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية للإمام محمد عبده).
إن فظاعة هذا العدد تتضح لنا عندما نذكر أن عدد سكان أوروبا آنذاك كان جزءًا ضئيلاً فقط من سكانها اليوم.
كانت الفظائع والمذابح التي قام بها المسيحيون ضد خصومهم تجد لها سندًا في التوراة التي تقول في شأن هؤلاء الخصوم: (اهدموا معابدهم، واقذفوا أعمدتها إلى النار، واحرقوا جميع صورها) .. كما توصى التوراة بتحريق المدن بعد فتحها، وقتل كل من فيها من رجال ونساء وأطفال.
وكان الذين يقومون بتلك العمليات الوحشية يزعمون لأنفسهم أنهم يتقربون إلى الله وينفذون إرادته، ويعجلون لأعدائه بعض النقمة التي تنتظرهم في الآخرة. عبرت عن ذلك ملكة إنجلترا ـ الكاثوليكية ـ في القرن السادس عشر (ماري) حين أعلنت مرة: (بما أن أرواح الكفرة سوف تحرق في جهنم أبدًا، فليس هناك أكثر شرعية من تقليد الانتقام الإلهي بإحراقهم على الأرض([21]).
وبهذا يكون قد تبين أن التسامح الإسلامي مع غير المسلمين من أهل الأديان الأخرى، حقيقة ثابتة، شهدت بها نصوص الوحي، من الكتاب والسنة، وشهد بها التاريخ الناصع منذ عهد الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من الأمويين والعباسيين والعثمانيين والمماليك وغيرهم، في شتى أقطار الإسلام، وشهد بها الواقع الماثل في بلاد العالم الإسلامي كله، حيث تتجاور فيه الجوامع والكنائس، وتسمع صيحات الأذان ودقات النواقيس، وتعيش الأقليات غير المسلمة ناعمة بالأمان والاستقرار والحرية في ممارسة حقوقها الدينية والدنيوية، على حين تعيش الأقليات الإسلامية ـ بل الأكثريات في بعض الأحيان ـ في كثير من دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، مضطهدين مقهورين، لا يُسمح لهم أن يقيموا دينًا، أو يملكوا دنيا.
نحن لا ندعو إلى المعاملة بالمثل، لأن ديننا ينهانا أن نأخذ مواطنينا من غير المسلمين بذنب أبناء ملتهم في بلاد أخرى، ولا ناقة لهم معهم ولا جمل، كيف وقد قال الله سبجانه تعالى: ]وَلاَتَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَاوَلاَتَزِرُوَازِرَةٌوِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون[([22]).
ولا يخفى أن التعصب الديني لم يكن وصفا ملتصقا بالمسيحية فقط، بل إن التاريخ ذكر بعض صور للتعصب الديني لدى بعض المسلمين كما مر، كما أن التاريخ القديم والحديث يصرخ بالتعصب الديني لدى اليهود.
وإنما ذكرنا المسيحية والإسلام ؛ لأنهما غالب أهل الأرض، ثم إن العنف ظاهرة إنسانية ليست مقصورة على قوم دون قوم، وإنما تتحول إلى إرهاب بفعل سيطرتهم الأيديولوجيات وكذلك لدى البوذيين ولدى الهندوس وغيرهم، ولكن لقلة عدد أتباع هذه الديانات، بالنظر لعدد المسلمين والمسيحيين في العالم، كان تركيز بحثنا على تلك الفئات العظيمة من أهل الأرض.
وإلى هنا ينتهي هذا البحث المتواضع، ولا أزعم أنني سددت ، أو قاربت ، ولكن أزعم أنني استفرغت الوسع ، في عرض هذا الموضوع موجزا ، والله من وراء القصد ، وهو حسبي ونعم ال****.
&&&


([1]) طلعت الغنيمي ،p. 44 Law", International of Conception "The Muslim.

([2]) سورة النحل الآيتان : 91 ، 92.

([3]) سورة المائدة الآية : 1.

([4]) سورة الإسراء الآية : 3‏.

([5]) سورة التوبة الآية : 4.

([6]) سورة التوبة الآية : 7.

([7]) سورة الرعد الآية : 20.

([8]) سورة البقرة الآية : 177.

([9]) رواه أحمد في مسنده، ج 3 صـ 135، وابن حبان في صحيحه ج 13 صـ 139، والبيهقي في سننه ج4 صـ97، والطبراني في الأوسط ج 2 صـ 383.

([10]) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه ج 3 صـ 1164، ومسلم في صحيحه ج 3 صـ 136.

([11]) المغني، ج /8/ ص/523/" وبمثل هذا قال الشافعية والمالكية، انظر اختلاف الفقهاء للطبري ص33،وشرح الخرشي ج3 ص123.

([12])"الأيديولوجية الانقلابية" ـ فصل "العنف الانقلابي" ص701.

([13]) الأيديولوجية الانقلابية للدكتور نديم البيطار - منشورات المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر ـ بيروت ص 706 - 707

([14]) الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ص36 - 37 -الطبعة الثامنة.

([15]) الأيديولوجية الانقلابية ص714.

([16]) "المسيحية" للدكتور أحمد شلبي ص51 - 52.

([17]) الأيديولوجية الانقلابية ص710 .

([18]) الأيديولوجية الانقلابية ص716 .

([19]) نفس المرجع السابق ص586 - 588.

([20]) نفس المرجع السابق ص715.

([21]) نفس المرجع السابق 714.

([22])سورة الأنعام الآية : 164.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الآخر, المنظور, الإسلامي, وحقوقه


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الآخر وحقوقه من المنظور الإسلامي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عظم شأن القرآن الكريم وحقوقه عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 04-28-2015 07:43 AM
بحث بعنوان التدخين من المنظور الطبي والشرعي Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 2 02-05-2013 01:58 PM
المنظور الحضاري وإستراتيجيات الترجمة Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 12-11-2012 08:28 PM
مرجع حول المنظور الاسلامي للتنمية الاقتصادية Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 09-09-2012 01:31 PM
المنظور الإسلامي للتنمية الاقتصادية Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 04-04-2012 02:00 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:46 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59