#1  
قديم 12-31-2012, 11:05 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الصراع في فلسطين قبل نكبة 1948


الصراع في فلسطين قبل نكبة 1948


تطور المجتمع العربي في فلسطين:

اشتغلت الغالبية العظمى من سكان فلسطين بالزراعة. وقد شكل الفلاحون الذين كانوا يشغلون قاعدة الهرم السكاني حوالي 80% من السكان في بداية الحكم البريطاني، وقدر عددهم في عام 1922 بحوالي 478 ألف نسمة؛ ارتفع في عام 1944 إلى 800 ألف قروي مشكلين بذلك 66% من التعداد الكلي للسكان و70% من مجموع السكان العرب بفلسطين. (35) وسيطر عدد ضئيل من العائلات على مساحات شاسعة من الأراضي، فطبقاً للإحصائيات المأخوذة في العشرينيات امتلكت 144 عائلة حوالي 3,1 مليون دونم(1 دونم = ربع فدان) من الأراضي. وامتلك البعض منهم مئات الآلاف من الدونمات. وبلغ مجموع ما تمتلكه 250 عائلة من أراضي ما يساوي حيازات جميع الفلاحين. وبلغ متوسط ما تمتلكه العائلة الفلاحية 0,46 دونم فقط. وبالرغم من امتلاك 65% من عائلات الفلاحين لبعض الرقع الزراعية الصغيرة، إلا أن معظمهم عاش على حد الكفاف. ومن 65% من مجموع الأراضي المؤجرة امتلك ثلثيهما ملاك غائبون مقيمون بالمدن الفلسطينية. (36)
وقد خلق التدخل الاستعماري (البريطاني/الصهيوني) قطاعاً صناعياً حديثاً في فلسطين. واستلزم ذلك تطوير قطاع الخدمات، وتطوير الاقتصاد النقدي، وإعادة توزيع السكان فزاد عدد سكان المدن نظراً لتراجع الزراعة التقليدية أمام الزراعة الرأسمالية المميكنة. وكان نتيجة ذلك أن تعرض الآلاف من الفلسطينيين لفقدان أعمالهم، فقد أدت عملية تركيز الملكية الزراعية إلى تحويل قطاعات من صغار الملاك إلى عمال بالأجر، وأصبح غالبيتهم من العاطلين، مما دفع بالعديد منهم إلى النزوح إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل. أما بالنسبة للحرفيين، فقد نجح عدد قليل من العمال المهرة في الالتحاق بعمل في القطاعات الصناعية الأكثر تطوراً، ووقع الباقي في مستنقع البطالة. ولكن استفاد من هذا التطور قطاعان: الأول: هو البرجوازية العربية التي امتلكت معظم أراضي فلسطين بالرغم من تركزها في المدن. فقد تحكمت في تجارة المحاصيل الزراعية ـ وتلك الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل الزيوت والصابون وآلات الري ـ من خلال القروض التي تمنحها للفلاحين الصغار ومتوسطي الملكية مقابل الالتزام بتوريد المحاصيل الزراعية لهم. هذا بالإضافة إلى تحكم البرجوازية العربية في الصناعات التقليدية مثل الغزل والنسيج، والمواد الغذائية، والأثاث. الثاني: هو المهنيين؛ فقد واكب عملية التحديث تكوين طبقة وسطى حديثة من المهنيون (موظفين، ومدرسين، ومحامين، وأطباء، إلخ)، وذلك من أجل المشاركة في الأعمال الإدارية والخدمية والحكومية. وتكونت هذه الطبقة بالأساس من أبناء أسر كبار ملاك الأراضي الذين تمكنوا من توفير فرص التعليم الحديث لأبنائهم. (37)
وصاحب تطور العلاقات الرأسمالية نشوء طبقة عاملة صناعية، تركز أغلبها في المجتمع اليهودي بحكم حيازة المهاجرين لمستوى أعلى في التدريب والمهارة، وبحكم تدفق رأس المال اليهودي والبريطاني لدعم الصناعات في القطاع اليهود. وقد بلغ عدد العمال اليهود المنظمين بالهستدروت حوالي 154433 عاملاً في عام 1946. (38) وقد بذل الاستعمار البريطاني/الصهيوني أقصى ما في وسعه لعرقلة نمو الصناعة العربية. وبالفعل كانت الصناعات العربية أقل تطوراً من مثيلاتها اليهودية، ولجأت معظمها ـ كما أسلفنا ـ إلى المجالات التقليدية أو تلك المرتبطة بالنقل والمواصلات. وتركز العمال العرب بمدينة حيفا، وبلغ عددهم حوالي 100 ألف عامل بحلول عام 1946. (39)
العائلات وحركة المقاومة:

كانت لطبقة ملاك الأراضي السيطرة المطلقة على الحياة السياسية الفلسطينية. ولم تلعب البرجوازية الفلسطينية دوراً فعالاً في الساحة السياسة يستطيع تقديم بديل لسياسات ملاك الأراضي التقليدية الرجعية، ويرجع ذلك إلى تشابك العلاقات والمصالح بين ملاك الأراضي والبرجوازية الصاعدة، وانحدار الأخيرة من أصول إقطاعية، وتحجيم قدرتها بواسطة رأس المال اليهودي. واتسمت الحياة السياسية بمنافسة حامية بين عائلات كبار ملاك الأراضي. بدأت المنافسة بين آل الحسيني وآل الخالدي في القرن التاسع عشر، ثم تحولت لاحقاً إلى صراع حامي الوطيس بين آل الحسيني وآل النشاشيبي. (40)
لعبت العائلات دوراً رجعياً في حركة المقاومة، إذ حاولت دائماً توجيه مشاعر غضب الجماهير الفلسطينية تجاه اليهود فقط وتفادي الصراع مع قوات الاحتلال البريطاني. وعمدت في معظم الأحوال إلى اتباع أساليب سلبية غير راديكالية اقتصرت على المذكرات والعرائض والاحتجاجات المكتوبة والمؤتمرات التي تعقد بتصريح من حكومة الانتداب التي كانت تخرج في النهاية بقرارات "معتدلة" (41) وفي وقت الأزمات الثورية حرصت العائلات على كبح حركة الجماهير، إذ كانوا في حالة خوف دائمة من احتمالية خروج زمام الأمور من أيديها، وخوف من أن ازدياد راديكالية فلاحينها قد ينقلب عليها بسبب الأوضاع المزرية التي عاشها الفلاح الفلسطيني نتيجة للقهر والاستغلال الذي مورس ضده بواسطة هذه العائلات.
وتسابقت العائلات ـ في ظل المنافسة والصراع بينهما ـ إلى محاولة التقرب من البريطانيين من أجل الحصول على رضا المندوب السامي وتولي مناصب قيادية محلية. واستغلت كل عائلة الحركة الوطنية لتحقيق مكاسب عائلية لها على حساب الآخرين. واستفاد البريطانيون من هذه المنافسة وعملوا على تعميقها لإضعاف وتفريق صفوف الحركة. (42)
بدأت العائلات ـ منذ فبراير 1919 ـ في عقد سلسلة من المؤتمرات السياسية السنوية والنصف سنوية محاولةً خلق آلية تستطيع بها السيطرة على الحركة الجماهيرية. وبالطبع كان معظم أعضاء هذه المؤتمرات من كبار ملاك الأراضي وأبناء البرجوازية الفلسطينية. وقد تم انتخاب "لجنة تنفيذية" للمؤتمر العربي الثالث في نهاية عام 1920، واستمر عملها حتى المؤتمر السابع، وتم إسناد رئاسة المؤتمر إلى موسى كاظم الحسيني الذي بقى حتى وفاته في عام 1934 رئيساً للجنة التنفيذية وجميع المؤتمرات الوطنية. وقد تقدمت بعض العناصر بطلب للمؤتمر بضرورة إنشاء هيئات عمالية وفلاحية، وبالطبع قوبل الطلب بالرفض من النخبة الفلسطينية في المؤتمر. (43) وفي مذكرتها للجنة التنفيذية للمؤتمر طالبت القيادة الفلسطينية البريطانيين بوقف الهجرة اليهودية باسم محاربة البلشفية! (44)
لم تمنع سيطرة العائلات على الحياة السياسية الانتفاضات والثورات العفوية التي كانت تندلع من وقت لآخر بين صفوف الجماهير الفلسطينية. فشهدت الفترة (1919 ـ 1921) اشتباكات عنيفة بين العرب والصهاينة، وهجوم على مستوطنات صهيونية، وأهداف بريطانية. وتعد انتفاضتي القدس 1920 ويافا 1921 أشهر هذه الانتفاضات. وكان موقف العائلات الفلسطينية منهما هو موقف "المتفرج أو المهدئ"! (45)
وفي محاولة لاستمالة بريطانيا قررت اللجنة التنفيذية إرسال وفد للتفاوض مع تشرشل ـ وزير المستعمرات آنذاك ـ في لندن عام 1921. تضمنت مطالب الوفد إقامة حكومة وطنية ووقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولكن
كانت القيادة الفلسطينية مستعدة لتقديم الكثير من التنازلات لبريطانيا مقابل التخلص من سياستها الصهيونية، ففي محادثاته مع الإنجليز في القاهرة 1921 [في طريقه إلى لندن] قال موسى كاظم الحسيني: إن أهداف الوفد العربي تشمل المطالبة بالاستقلال التام، ولكن إذا لم يكن ذلك مستطاعاً فإن الوفد يطالب بأن تكون السلطة الفعلية في يد الإنجليز لا في يد اليهود!(46)
وبالفعل سافر الوفد إلى لندن وأجرى محادثات مع تشرشل باءت جميعها بالفشل الذريع.
شهد عام 1921 إنشاء مؤسسة لعبت لاحقاً دوراً هاماً في الساحة السياسية ألا وهي "المجلس الإسلامي الأعلى" برئاسة الحاج أمين الحسيني. وكان الحاج أمين الحسيني قد نجح في تبوُّء منصب مفتي القدس بمساعدة المندوب السامي البريطاني، فقد "طبخ" المندوب انتخابات الإفتاء وتحايل على القانون كي يتمكن الحاج أمين الحسيني من هزيمة منافسيه من العائلات الأخرى، وذلك لاستبقاء التنافس بين الحسينية والنشاشيبية إذ كان راغب النشاشيبي يشغل رئاسة بلدية القدس، وبالتالي كان وجود الحاج أمين الحسيني في منصب الإفتاء بنفس المدينة سيزيد حتماً من سعار التنافس على الزعامة في القدس ـ وهو ما حدث لاحقاً بالفعل. وفي مقابل تعيينه وعد الحاج أمين بعدم "إثارة الاضطرابات". (47)
انقسمت على إثر ذلك الحركة الوطنية الفلسطينية إلى كتلتين: "المجلسيون" أنصار آل الحسيني وقيادة الحاج أمين للمجلس الإسلامي الأعلى؛ و"المعارضون" أنصار آل النشاشيبي المعارضون للحسينية والمجلس الإسلامي. اشتعل سعار التنافس والعراك على الزعامة السياسية بين الفريقين، وامتد إلى جميع جوانب الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية بفلسطين. ووصل العراك إلى الحد الذي دفع بعض الشخصيات السياسية العربية للتدخل. فعلى سبيل المثال كتب أحد الكتاب العرب في جريدة "الجامعة العربية" الصادرة في القدس:
وإذا كان لكلمتي العربية الصريحة الصادقة ـ التي لم تخرج مرة عن كونها عربية صريحة صادقة ـ شئ من التأثير فجل ما أبغيه أن يكون ذلك في سبيل التوحيد، بل في سبيل القوة الكامنة في التوحيد، أما إذا كان الحسينيون أو النشاشيبيون أو الطوقانيون أو العبدهادون أو غيرهم من السلائل الفلسطينية المعروفة، لا يرون في الأحزاب غير تلك الوطنية التي لا تقوم إلا بهم ولا تعزز إلا باسمهم، ولا يرون في الجامعة العربية غير جامعة بيتية ومصلحة عائلية، فخير لهم أن ينضموا إلى الحزب الصهيوني، وأن يرسلوا أولادهم إلى الجامعة العبرية في جبل الزيتون.
يقول الحسينيون أن النشاشيبيين يمالئون الصهاينة ويساومونهم على حقوق الأمة، ويقول النشاشيبيون هذا القول في الحسينيين، وأنا لا أصدق ـ ولا أحب أن أصدق ـ القولين… أرى من واجب الأمة أن تنبذ الزعامتين وأن تؤلف من الصالح في الحزبين زعامة جديدة. (48)
وفي عام 1925 اضطرت اللجنة التنفيذية تحت ضغط شديد إلى الدعوة لإضراب عام بمناسبة وصول اللورد بلفور لافتتاح الجامعة العبرية، ونجح الإضراب نجاحاً ساحقاً إذ لقي تجاوباً ضخماً من العمال في أرجاء فلسطين. (49) ولكن اتسمت الفترة اللاحقة (1925 ـ 1928) بصراع عائلي حاد حاول خلاله "المجلسيون" استبعاد "المعارضين" من الحركة الوطنية، إلا أنهم فشلوا في مسعاهم، بل ونجح "المعارضون" في مواجهة المجلس الإسلامي، والتأثير على انتخاباته، وفرض مندوبين لهم عن كل مدينة في المؤتمر الوطني السابع عام 1928. وأدى هذا العراك المستمر والتنافس الحاد إلى خمود الحركة الجماهيرية تماماً خلال تلك الفترة، فلم تشهد فلسطين مظاهرات أو إضرابات.
وجاء المؤتمر العربي السابع عام 1928 ليفضح تخاذل العائلات وانشغالهم بالنزاعات العصبية عن النضال من أجل الاستقلال. شارك في المؤتمر عدد ضخم من المندوبين لم يسبق لهم العمل بالسياسة، ولكنهم ـ نتيجة للعصبية الحزبية والعائلية ـ أتوا ترضيةً لهذه العائلة أو تلك. وتواجد "معارض" في المقابل عن كل مدينة مثّلها "مجلسي". وانكب أعضاء المؤتمر يناقشون بعض القضايا الزراعية مثل القروض، والضرائب، وقضية الجنسية، والمهاجرين الفلسطينيين، وقضية امتياز مشروع البحر الميت، وضرورة تشكيل حكومة نيابية وديمقراطية. لم يتعرض المؤتمر لقضية الاستقلال، أو إلغاء الانتداب، أو اتخاذ إجراءات حاسمة ضد التواجد البريطاني/الصهيوني. ورفض المؤتمر تماماً الاقتراح ـ الذي قدمه عضو واحد فقط ـ الداعي لتأسيس جمعيات للعمال العرب. واكتفى المؤتمر في النهاية بإرسال برقية مليئة بالأشواق الحارة والعويل لعصبة الأمم ووزارة المستعمرات البريطانية تطالب بتشكيل حكومة برلمانية في فلسطين بموجب الوعود والعهود المقطوعة للعرب من الحلفاء! (50)
ثورة البُرَاق 1929:

في ظل تخاذل العائلات الفاضح انفجرت الجماهير الفلسطينية بثورة عنيفة في عام 1929، فيما عُرِف ب ـ "ثورة البراق". اندلعت الشرارة الأولى للثورة عندما قام الصهاينة بتنظيم مظاهرة حاشدة في 14 أغسطس بتل أبيب في ذكرى تدمير معبد سليمان. وفي اليوم التالي قاموا بمظاهرة أكبر في شوارع القدس، واتجهوا إلى حائط البراق ـ أو كما يسميه اليهود حائط المبكى ـ مرددين ال ـ "هاتكفاه" (النشيد القومي اليهودي)، وقاموا باستفزاز الفلسطينيين، مما أدى لاندلاع اشتباكات عنيفة بين العرب والصهاينة استمرت لمدة أسبوع استخدم فيها الطرفان الأسلحة البيضاء والنارية. وفتحت القوات البريطانية النار على العرب واقتحمت القدس بالمصفحات لفرض الاستقرار، ولكن الاضطرابات انتشرت في باقي المدن الفلسطينية. ففي الخليل هجم العرب على الحي اليهودي، وقتلوا 60 صهيونياً، وجرحوا أكثر من 50 آخرين. وهاجم العرب أيضاً في نابلس مركزاً للشرطة لانتزاع أسلحة. وفي بيسان ويافا وحيفا اشتعل القتال في الشوارع بين العرب من جهة والصهاينة والبريطانيين من جهة أخرى. وتعرضت بعض المستوطنات الصهيونية لهجمات فدائية أدت لتدمير 6 منها. واحتمى الصهاينة في الصفد بالقوات البريطانية التي فتحت النار على العرب الذين هاجموا حارة اليهود وأحرقوا محالهم التجارية. (51)
أدت الأحداث الثورية المتصاعدة إلى تزايد الرعب في قلوب أعضاء النخبة الفلسطينية الذين تحركوا سريعاً لامتصاص غضبة الجماهير والحد من راديكالية الأحداث، فنشرت العائلات بالقدس بياناً يوم 24 أغسطس داعين فيه الجماهير باسم "مصلحة البلاد" إلى العمل بإخلاص "لحسم الفتنة وحقن الدماء و***** الأرواح"، وصدرت بيانات للتهدئة في المدن الأخرى من الزعماء المحليين. (52) وعقدت الزعامات السياسية في يافا اجتماعاً وطنياً عاماً للسكان العرب بالمنطقة في 3 سبتمبر، واكتفت بالاحتجاج الشديد على بيانات المندوب السامي، والمطالبة بلجنة تحقيق من عصبة الأمم، وشكلت لجنة إدارية لمقابلة المندوب السامي لرفع الاحتجاج! وعقدت اللجنة التنفيذية سيلاً متوالياً من الاجتماعات الوطنية بأنحاء فلسطين مكررة مطالب اجتماع يافا. وفي أكتوبر من نفس العام عُقد في القدس مؤتمر قمة كبير حضره القادة الفلسطينيون ومندوبون من سوريا ولبنان والأردن. وخرجت هذه الكوكبة المتلألئة من الزعماء بقرارات مثل سحب الثقة من المندوب السامي، وإرسال برقية بذلك إلى وزير المستعمرات البريطاني، واستنكار الهجرة اليهودية، والمحافظة على الأرض والصناعة الوطنية، والتهديد بعدم دفع الضرائب! (53) … يا لثورية القرارات!!
أدى القهر البريطاني الوحشي وتخاذل العائلات إلى فشل الثورة وقمعها. وكانت حصيلة الأحداث وقوع 133 قتيلاً من الصهاينة وجرح 239 آخرين، أما العرب فسقط منهم 116 شهيداً وجرح 232 آخرين. وعقب ذلك قامت سلطات الانتداب البريطاني بتقديم ما يزيد عن ألف شخص للمحاكمة منهم أكثر من 900 عربي. وصدر الحكم بإعدام 25 عربياً وشخص صهيوني واحد. (54)
ولاحقاً نفى تقرير لجنة اللورد والتر شو لتقصي الحقائق أية صلة للجنة التنفيذية أو المجلس الأعلى الإسلامي بالأحداث الثورية. وأشارت جميع الوثائق الرسمية إلى أن القيادات لعبت دور المهدئ أو اللامسئول. (55) وقد شهد عام 1929 نفسه تشكيل أول تنظيم عربي مسلح ـ "الكف الخضراء" ـ مكوناً من الشباب الساخط على تخاذل القيادات التقليدية، ولكنه سُحِق خلال عام واحد حيث كان أقرب لكونه مجموعة إرهاب فردي تفتقد لبرنامج سياسي. (56)
قامت العائلات عقب الثورة بتكوين وفد من مختلف القادة السياسيين للسفر إلى لندن لمفاوضة البريطانيين. ولكن على عكس وفد 1921 الذي طالب بالاستقلال وإلغاء وعد بلفور؛ جاءت مطالب وفد 1930 منحصرة في قضايا تتعلق بالشئون الداخلية: بيع الأراضي للصهاينة، واستيلائهم عليها بالإرهاب، والمطالبة بإنشاء حكومة نيابية في ظل الانتداب. لم تُذكر قضية الاستقلال بدعوى "الالتزام بالواقعية انطلاقاً من الأخطار التي تهدد فلسطين." وكالعادة فشل الوفد في انتزاع أي حقوق، فقطع المفاوضات ودعا الفلسطينيين لمقاومة الصهاينة "مقاومة سلمية". (57)
الطريق إلى ثورة 1936:

شهد عام 1931 تطوراً جديداً للمقاومة الفلسطينية، فقد أسس الشيخ عز الدين القسام ـ رئيس جمعية الشبان المسلمين في حيفا ـ منظمة عسكرية سميت "إخوان القسام"، وكان للقساميين أيديولوجية جمعت بين الإسلام والقومية العربية. ونشطوا في أوساط الطلبة والفلاحين المعدمين الذين هاجروا إلى المدن. ثم بدأ القساميون حملة هجمات مسلحة استهدفت المستوطنات الصهيونية ومواقع بريطانية متبعين استراتيجية حرب العصابات. (58)
ودخلت الطبقة العاملة الفلسطينية إلى الساحة السياسية بقوة، وقامت بموجة عاتية من الإضرابات في الفترة (1930 ـ 1935). وبدأت اللجنة التنفيذية تشعر بأن البساط يُسحب من تحت قدميها، وبأن عزلتها عن الجماهير تزداد، وأصبحت موضع سخط الكثيرين. ورأت قيادة اللجنة التنفيذية في مطلع عام 1933 أنها إذا لم تتحرك فستفقد زمام الأمور، فدعت لاجتماع بالقدس في 24 فبراير لمناقشة قضيتي بيع الأراضي والهجرة اليهودية. اتخذ المؤتمر قراراً باتباع سياسة "عدم التعاون" مع المندوب السامي. وعقد مؤتمر آخر بيافا في 26 مارس لتقرير مبدأ "عدم التعاون" وتحديد آليات تنفيذه. ولكن انتهى المؤتمر كما بدأ، فقد اتفق الجميع على المبدأ ولكنهم تعاركوا حول آليات تنفيذه، فتم ترك تحديد الآليات للجنة خاصة! ولم يقتنع الحاج أمين الحسيني بأن فكرة "عدم التعاون" قد آن أوانها! ومرت 6 أشهر ولم يتم الاتفاق على شئ، فالشيء الوحيد الذي قرر "المجلسيون" فعله هو مقاطعة حفلات البريطانيين الاجتماعية!! أما "المعارضون" فقد استمروا في حضور هذه الحفلات!!! (59)
وفي النهاية انهارت اللجنة التنفيذية مع وفاة موسى كاظم الحسيني في عام 1934. ولم يكن مستغرباً أن تنعاه صحيفة "بالستاين بوست" الصادرة عن "الوكالة اليهودية"، وتكيل له المديح حيث أن سياساته "المعتدلة" قد ساهمت في كبح حركة المقاومة الجماهيرية الفلسطينية، ومنعتها من اتخاذ أي منعطف راديكالي. (60) وزاد الطين بلة مجيء انتخابات بلدية القدس ـ التي كان يسيطر عليها راغب النشاشيبي ـ في أواخر عام 1934. فقد أدى تحالف الحاج أمين الحسيني مع مرشح عائلة الخالدي إلى سقوط النشاشيبي في الانتخابات وحصول الخالدي على المنصب، فجن جنون النشاشيبية واشتد سعار المنافسة بينهم وبين الحسينية بطريقة غير مسبوقة. (61)
وفي محاولة لاحتواء الحركة الجماهيرية المتصاعدة عمدت النخبة التقليدية الفلسطينية إلى تكوين أحزابٍ وطنية. ولكن عكست هذه الأحزاب العصبيات العائلية، فأسس آل النشاشيبي "حزب الدفاع الوطني" في عام 1934، وأسس الحاج أمين الحسيني "الحزب العربي الفلسطيني" في عام 1935. وتأسس "حزب الاستقلال" الذي ضم في عضويته عناصر برجوازية وبرجوازية صغيرة. وكان حزب الاستقلال أقرب في تكوينه إلى "حزب الوفد المصري"، إلا أنه لم ينل نفس التأييد الجماهيري، ولم يستطع لعب الدور الذي لعبه حزب الوفد في تلك الفترة. ورغم شعاراته الأكثر راديكالية مقارنة بأحزاب كبار الملاك إلا أنه كان أكثرهم ضعفاً. (62)
ثورة (1936 ـ 1939):

اشتدت حركة الكفاح المسلح التي أطلقها القساميون، واتخذت بحلول عام 1935 شكل عمليات فدائية مسلحة على نطاق واسع. واستمر القساميون في عملياتهم بالرغم من استشهاد زعيمهم الشيخ عز الدين في عام 1935. واشتدت سخونة الأحداث مع زيادة معدل الهجرة اليهودية بسبب صعود الفاشية للحكم في أوروبا. وشهدت الفترة من 15 إلى 19 إبريل 1936 اشتباكات وحوادث عنف فردي بين العرب والصهاينة، ويجئ 20 إبريل لتدخل يافا في إضراب عام أغلق الأسواق والميناء، أعقبها اندلاع اشتباكات عنيفة في شوارع المدينة. وقوبلت تحركات الفلسطينيين على الفور بالقمع الوحشي من القوات البريطانية، فما كان من زعماء الأحزاب السياسية إلا أن قاموا بمقابلة المندوب السامي معبرين له عن أسفهم على أحداث العنف التي وقعت! وفي غضون أيام قليلة ظهرت إلى الوجود "لجان قومية" ـ مكونة من الشباب ومواطنين عاديين ـ في نابلس التي انضمت إلى الإضراب العام وعمتها مظاهرات حاشدة في 24 إبريل. ولم يُسمع أي صوت للقيادة التقليدية خلال الأيام الستة الأولى. واستمر الإضراب في الانتشار والتصاعد، وبدأت اللجان القومية في الظهور بالمدن والقرى في باقي أنحاء فلسطين. وانضم الطلبة وأعضاء النقابات إلى الحركة، فأضرب المحامون عن العمل بالمحاكم، وقرر الأطباء معالجة الجرحى والفقراء الذين يحملون توصيات من لجان الإسعاف مجاناً. (63)
تحت وطأة الأحداث اضطرت العائلات للتحرك سريعاً متخوفين من فقدان السيطرة على مجريات الأمور، فقامت بتشكيل "اللجنة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني. لم يكن هناك مفر أمام القيادات التقليدية من تأييد الإضراب والعدول عن إرسال الوفود المعتادة للندن بسبب الضغط الجماهيري الشديد القادم من الشارع الفلسطيني. واضطرت إلى القيام بتمويل جزئي للإضراب. (64)
وتصاعدت الأحداث بحلول شهر مايو، فتم إعلان العصيان المدني عن دفع الضرائب، وقوبلت المظاهرات الفلسطينية برصاص قوات الاحتلال، وانتشر العصيان في صفوف الشرطة العربية التي انضمت للمتظاهرين، وتم تعطيل الطرق وأسلاك التليفون وخطوط البرق، ونسف أنابيب البترول، وقلب القطارات، ومهاجمة المستوطنات الصهيونية والدوريات البريطانية.(65) وأعلنت سلطات الانتداب الأحكام العرفية، واستخدمت العنف العسكري لقمع الثورة، فاستقدمت إمدادات قوامها 30 ألف جندي بريطاني. (66) وشنت القوات الجوية البريطانية هجمات على القرى والمناطق الجبلية حيث كانت تحارب مجموعات فلسطينية مسلحة. ولكن الثورة استمرت بفضل نجاح العمال والفلاحين في تنظيم ميليشيات مسلحة بعيداً عن سيطرة اللجنة العربية العليا. وزاد الزخم الثوري للحد الذي دفع بالمندوب السامي لأن يصف الأحداث بأنها "بداية ثورة". وفي شمال فلسطين دخلت قوات فدائية من المتطوعين السوريين والعراقيين بقيادة الضابط القومي السوري فوزي القاوقجي للقتال في صفوف الثورة. وجاء رد الفعل البريطاني عنيفاً، فمورست عمليات إبادة كاملة لبعض المدن، ومارست سلطات الانتداب عمليات عقاب جماعي واعتقلت الآلاف. ولكن لم تتوقف الثورة رغم شدة القمع، إلا أن تحقيق الأهداف البريطانية/الصهيونية بوقف الانتفاضة تم تسهيلها بواسطة اللجنة العربية العليا نفسها ـ التي دب الرعب في أوصال قياداتها بسبب نجاح العمال والفلاحين في لعب الدور الأكثر نضالية في المعارك مثبتين قدرة عالية على تنظيم أنفسهم ذاتياً بعيداً عن اللجنة. لقد مثل نهوض الجماهير تهديداً ضخماً لمصالح البرجوازية وملاك الأراضي الفلسطينيين الذين خافوا من فقدان أرباحهم وخسارتهم لموسم الموالح بسبب الإضرابات، وكان رفض اللجنة العربية العليا لخيار الكفاح المسلح انعكاساً لخشيتها من احتمالية أن يوجه السلاح ضدها لاحقاً! (67) ويعلق أحد المسئولين بسلطة الانتداب على تخاذل ومهادنة اللجنة العربية العليا بقوله:
إنه لمن الحماقة تصور أن أعضاء اللجنة ملائكة بدون مصالح. فالعديد منهم على استعداد لبيع الإضراب، وخيانة أتباعهم، والتوصل لحلول وسط مع الحكومة [البريطانية] إذا سنحت لهم الفرصة: وينطبق ذلك أيضاً على العديد من الزعماء المحليين. ولكن لم تسنح لهم الفرصة حتى الآن. إنهم محمولون الآن على ظهور الثوار العرب المصرّين على استمرار النضال حتى الحصول على مطالبهم من الحكومة أو أن يهزموا على يد الحكومة. (68)
في سبتمبر بدأت البرجوازية في الامتناع عن تمويل الإضراب العام كمقدمة للقضاء على الإضراب، وما لبثت اللجنة العربية العليا أن اقترحت على حكام الدول العربية المجاورة أن يصدروا بياناً يطالبون فيه الجماهير الفلسطينية بإنهاء الإضراب لمساعدة اللجنة في السيطرة على الثورة. (69) وكانت اللجنة العربية العليا تحاول جاهدة منذ البداية أن تسيطر على اللجان القومية. وفي الوقت الذي كان يتساقط فيه آلاف الشهداء والجرحى الفلسطينيون برصاص وقنابل القوات البريطانية والعصابات الصهيونية اقتصر نشاط اللجنة على القنوات السياسية "المحترمة" ـ مثل إرسال برقية حارة لملك بريطانيا في 14 يونيو تطالب "جلالته" بالعدل والإنصاف وتنفيذ العهود والوفاء بالوعود! واجتمعت اللجنة عدة مرات بالمندوب السامي لمحاولة التوصل لحل وسط من أجل إيقاف الثورة. بل وقامت بإرسال وفوداً "للتباحث" مع الملوك العرب عملاء الاستعمار لحثهم على الوساطة مع بريطانيا. وكانت تصل أعضاء هذه الوفود برقيات تهديد بالقتل والانتقام إذا خانوا الثورة الشعبية، وذيلت تلك البرقيات بإمضاء "عزرائيلك وجبرائيل الأمة". (70)
وبالفعل أصدر الملوك العرب نداء إلى الجماهير الفلسطينية بإنهاء الإضراب في أكتوبر 1936 لإعطاء "الفرصة للجهود الدبلوماسية"، فهرولت اللجنة العربية العليا لإصدار دعوة لإنهاء الإضراب "امتثالاً لإرادة أصحاب الجلالة والسمو". (71) وتوقف الإضراب أخيراً في 13 أكتوبر بعدما استمر لمدة 176 يوماً. (72)
بعد فك الإضراب وتوقف الثورة تقدمت بريطانيا بمشروع في يوليو 1937 لتقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة. وقامت بنفي بعض قيادات اللجنة العربية العليا، وهرب البعض الآخر خارج فلسطين. وفي ظل غياب القيادة التقليدية الرجعية اندلعت الثورة مرة أخرى. وهبت تنظيمات مسلحة من الفلاحين، وأضرب العمال في المدن. وأدت الإضرابات والاشتباكات المسلحة إلى إغلاق مدن رام الله وبيت لحم ونابلس، وقاتل البريطانيون 5 أيام لاستعادة السيطرة على المدينة القديمة بالقدس. وقام الفلاحون المسلحون بتهديد ملاك الأراضي واغتيال بعض الشخصيات الفلسطينية المرتبطة بالصهاينة والبريطانيين. ونجح النضال الثوري للجماهير الفلسطينية في هز دعائم سلطة الانتداب للحد الذي دفع بأحد الجنرالات البريطانيين للاعتراف بأن "الإدارة المدنية والسيطرة على البلاد… أصبحت معدومة" (73) استمرت الثورة لمدة 3 سنوات ـ بالرغم من القمع البريطاني/الصهيوني الوحشي، وغياب القيادة الثورية، وضعف التسليح، مخلفةً وراءها ما بين 3 إلى 5 آلاف شهيد وآلاف أخرى من الجرحى. (74)
لماذا غابت القيادة الثورية؟

هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه بقوة بعد استعراض أحداث ثورتي 1929 و1936… لماذا كانت الساحة خالية أمام ملاك الأراضي ليهيمنوا على الساحة السياسية في فلسطين؟ بمعنى آخر لماذا لم تتواجد قيادة ثورية قادرة على تعبئة الجماهير العربية بفلسطين ضد الاستعمار والصهيونية، وتطرح بديلاً يخدم مصالح تلك الجماهير لا مصالح النخبة؟ الجواب يكمن في حالة اليسار الفلسطيني ممثلاً في "الحزب الشيوعي الفلسطيني".
إن إدانة لينين والبلاشفة للصهيونية حقيقة واقعية لا تقبل الشك. وقد كان للينين مساجلات عديدة ضد الصهيونية عند تعرضه لقضيتي الإمبريالية والمسألة اليهودية. وتكشف وقائع اجتماعات المؤتمر الثاني ل ـ "الأممية الشيوعية" (الكومنترن) ـ الذي انعقد في صيف 1920 ـ بوضوح عن موقف البلاشفة من الصهيونية، إذ أشارت أطروحات المؤتمر ـ حول المسائل القومية والاستعمارية ـ إلى فلسطين
كمثال صارخ على الخداع الذي يُمارس على طبقة الكادحين في البلدان المضطهَدة، وذلك بالجهود المشتركة لإمبريالية دول الوفاق وبرجوازية هذا البلد أو ذاك… إن الصهيونية، وبحجة إقامة دولة يهودية في هذا البلد، الذي يشكل فيه اليهود أقلية ضئيلة، قد قدمت السكان الأصليين من الكادحين العرب، قرباناً للاستغلال الإنجليزي. (75)
وقبل المؤتمر، نشرت "المفوضية المؤقتة لشئون اليهود" التابعة ل ـ "مفوضية الشعب لشئون القوميات في الاتحاد السوفيتي" في 28 ديسمبر 1919 بياناً يدين الصهيونية، ويشير إلى
أن الصهاينة يحاولون إزاحة العرب من فلسطين ويستعدون لإنشاء دولة يهودية لهم هناك… إن جماهير العمال اليهود ترى في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية وطنها الاشتراكي الذى تدافع عنه في الجبهات مع عمال روسيا وفلاحيها ضد إمبريالية دول الوفاق وجميع عملائها… إننا لسنا بحاجة إلى أية بلدان أخرى، ولا نبدي حقوق قومية لامتلاك فلسطين، ونحن نعترف بهذه الحقوق كاملة لجماهير العرب والبدو الكادحة. (76)
لقد تأسس الحزب الشيوعي الفلسطيني نتيجة لانشقاق يساري عن حزب "بوعالي تسيون" ـ اليساري الصهيوني ـ في عام 1923. وتم قبوله في عضوية الكومنترن في العام التالي ـ في وقت كان الكومنترن قد وقع فيه تحت السيطرة الستالينية. رأت قيادة الحزب أن إمكانية التغيير الثوري في فلسطين تقع على عاتق العمال اليهود وحدهم نظراً لأن التطور الرأسمالي في المناطق الواقعة تحت سيطرة اليهود أسرع من تلك الواقعة تحت سيطرة العرب، ولذا اقتصرت عضوية الحزب على اليهود فقط. لقد أدان الحزب الصهيونية شفهياً ولكنه في الواقع تجاهل موقف الكومنترن ـ إبان الفترة اللينينية ـ تجاه الصهيونية وإصراره على أن "تجربة الاحتلال البريطاني والطابع الاستعماري للصهيونية سيولدان حركة تحرر وطني عربية الطابع." (77) وبالتالي كان يجب على الحزب أن يتوجه بجهوده التنظيمية بالأساس إلى صفوف العمال العرب لا العمال اليهود الغارقين في مستنقع الصهيونية. وظل الحزب بأغلبيته الكاسحة يهودياً بالرغم من الضغوط التي بذلها الكومنترن على الحزب في العشرينيات كي يتحرك خارج نطاق "الجيتو اليهودي"، ولم ينضم إليه سوى حفنة ضئيلة من العرب. بل ورأى الحزب ثورة 1929 أنها مذبحة جماعية حرض عليها القادة العرب الداعون للجهاد ضد اليهود! ولكن الكومنترن أقام الحزب من عثرته وفرض عليه الرؤية بأنها كانت "ثورة فلاحية ضد الإمبريالية." (78)
لقد مثّل الكومنترن ـ بعد انهيار الثورة البلشفية ووفاة لينين ـ أداة للسياسية الخارجية للطبقة الحكمة البيروقراطية في الاتحاد السوفيتي. وسيطر الكومنترن على الأحزاب الشيوعية في العالم ووجهها لخدمة مصالح البيروقراطية، وتذبذبت الاستراتيجية التي فرضت على الأحزاب من فترة لأخرى، فتارة يصدر الكومنترن أوامره للأحزاب الشيوعية بالسعي الجاد لإقامة "حكومة سوفيتية من العمال والفلاحين" ـ فتنكب الأحزاب في العمل على أساس توقعات متضخمة للغاية باحتمالات الثورة؛ وتارة أخرى يصدر أوامره بتأجيل قضية الثورة الاشتراكية، والدخول في "جبهات شعبية" مع أكثر قطاعات البرجوازية المحلية تقدماً لتحقيق "الثورة الوطنية الديمقراطية". وبالتالي تخبط أداء الحزب الشيوعي الفلسطيني. فحتى منتصف الثلاثينيات أخذ الحزب يهاجم اللجنة التنفيذية بصفتها معقل الرجعية، وشجعته موجة إضرابات 1933 على تضخيم احتمالات قيام ثورة. ثم تراجع الحزب عن موقفه ـ بناءً على سياسات الكومنترن ـ واندفع يؤيد حزب الاستقلال بصفته ممثل "البرجوازية التقدمية". واندفع أيضاً ـ أثناء ثورة 1936 ـ لتأييد اللجنة العربية العليا وسياساتها الرجعية حتى خانت الإضراب وأنهته. ولاحقاً انهار الحزب وتفكك إلى حزبين، أحدهما يضم الأعضاء العرب ويتبع خطاً قومياً عربياً، والآخر يضم الأعضاء اليهود ويتبع خطاً صهيونياً ذي صبغة يسارية. (79)
وتكتمل فضيحة الستالينية بموقف الاتحاد السوفيتي المؤيد لقرار تقسيم فلسطين. ففي إطار التنافس الإمبريالي وصراعات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والغرب، رأت البيروقراطية السوفيتية الحاكمة منافع في تأييد الحركة الصهيونية بفلسطين. فقد رأت في قيام دولة إسرائيل وتبني المشروع الصهيوني فرصة سانحة لطرد بريطانيا خارج الشرق الأوسط، (80) مما يخلق فراغاً استراتيجياً في المنطقة يسمح للاتحاد السوفيتي بالتدخل سريعاً لملئه. وحاول السوفيت أن يصبحوا دولة الحماية للمشروع الصهيوني، على أمل توظيف الدولة الصهيونية لمصالحهم في الشرق الأوسط. وهكذا بعث السوفيت نائب وزير خارجيتهم إيفان مايسكي إلى فلسطين في أكتوبر 1943، حيث قام بزيارة المستوطنات الصهيونية، وتحاور مع بن جوريون وجولدا مائير حول مشاكل الاستيطان، ولم يحاول الاتصال بالجانب العربي. (81) وخرج مايسكي بانطباع لا يمكن وصفه سوى بالعنصرية ويكشف نوايا السوفيت الإمبريالية، فقد رأى أن
من الواضح أن اليهود الاشتراكيين والتقدميين في فلسطين سيكونون أكثر فائدة لنا من العرب المتخلفين الذين تسيطر عليهم مجموعات إقطاعية من الباشوات والأفندية! (82)
وبالتالي بدأت السياسة السوفيتية في الاندفاع في تأييد الحركة الصهيونية، فصوت الوفد السوفيتي ـ في مؤتمر النقابات العالمي في فبراير 1945 بلندن ـ لصالح قرار يؤيد إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين، وفي نفس الشهر اتفق ستالين مع تشرشل وروزفلت ـ في مؤتمر يالطا الذي شهد تقسيم العالم مرة أخرى بين دول الحلفاء الإمبريالية ـ حول "حول وجوب إزالة كل معوقات الهجرة اليهودية إلى فلسطين فوراً في مقابل السماح للسوفيت بإقامة مناطق نفوذهم في أوروبا الشرقية". (83) وفي يوليو من نفس العام، قام الاتحاد السوفيتي بالاعتراف بالوكالة اليهودية، وسمح لها بفتح مكتب في العاصمة موسكو. (84)
وتصل المهزلة إلى ذروتها بتأييد الاتحاد السوفيتي لقرار تقسيم فلسطين في 1947، بل وكان أول دولة تعترف بإسرائيل قبل جميع الدول الأخرى بمجلس الأمن! وقام بإمداد القوات الصهيونية بالسلاح خلال حرب 1948 عن طريق تشيكوسلوفاكيا. واندفعت الدعاية السوفيتية في تصوير الدولة الصهيونية بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط! (85) وفرض الاتحاد السوفيتي على الأحزاب الشيوعية العربية قبول قرار التقسيم، تحت دعاوى أن الصهيونية حركة معادية للإمبريالية، (86) وأن التقسيم ضروري "حتى يتم التعايش بين الشعبين العربي واليهودي". (87) وبالتالي وقف الشيوعيون الستالينيون العرب ضد حرب 1948، ودعوا لوحدة العامل اليهودي والعامل العربي بفلسطين ضد البرجوازية اليهودية والعربية، متجاهلين بذلك الموقف الرجعي للطبقة العاملة اليهودية في فلسطين الغارقة في مستنقع الصهيونية والغير مؤهلة للاتحاد مع النضال الثوري للجماهير العربية.
ليس من الصعب إذاً أن نفهم لماذا غاب البديل الثوري؟ ولماذا كانت الساحة السياسية في فلسطين خالية أمام ملاك الأراضي والبرجوازية؟ ولماذا كان من السهل عليهم السيطرة على الحركة الجماهيرية وتدميرها؟ فما كان ذلك ليحدث لو لم يُمنَ الحزب الشيوعي الفلسطيني بهذا الفشل السياسي الذريع نتيجة لطابعه الستاليني ـ الذي جعله ألعوبة بيد موسكو؛ والخلل البنيوي في عضويته ـ الذي جعله يسقط في مستنقع الصهيونية اليسارية. وتجئ نكبة 1948 ليواجه الشعب الفلسطيني القوات الصهيونية ـ ذات التدريب والتسليح الأوروبي الحديث ـ بدون قيادات أو تنظيمات توجه نضاله ومقاومته. واكتملت المهزلة بدخول القوات العربية الهزيلة إلى فلسطين وهزيمتها أمام القوات الصهيونية. وسيأخذ الشعب الفلسطيني وقتاً طويلاً ليشهد عودة حركة جماهيرية تقاوم الاحتلال الصهيوني في فلسطين مرة أخرى.
المصدر:
القضية الفلسطينية.. رؤية ثورية - مركز الدراسات الاشتراكية 2001

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
1948, الصراع, فلسطين, وكتب, قبل


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الصراع في فلسطين قبل نكبة 1948
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كي لا ننسى نكبة فلسطين!! عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-17-2016 08:06 AM
نكبة 1948.. لم يلتق داوود بجالوت عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-21-2015 09:41 AM
كيف هزمت الجيوش العربية في فلسطين عام 1948 م عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 04-27-2013 06:33 AM
نكبة فلسطين .. لا تنساها الذاكرة عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 04-18-2013 07:37 AM
خارطة توضح مناطق وقرى فلسطين التي احتلت عام 1948 Eng.Jordan رواق الثقافة 0 11-18-2012 10:13 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:41 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59