#1  
قديم 05-13-2013, 06:36 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة علامة الشام جمال الدين القاسمي


علاّمة الشام جمال الدين القاسمي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( أسامه شحادة )
----------


http://albayan.co.uk/Uploads/img/thu...1434102654.jpg

تمهيد
---
هو أبو الفرج محمد جمال الدين القاسمي الكيلاني الحسني الدمشقي، وهو من أحفاد الشيخ عبد القادر الجيلاني من سلالة الحسن السبط، كان إمام الشام في عصره، نشأ مقلداً وصوفياً لكنه تحول لمنهج السلف، فأصبح داعياً للعلم والاجتهاد ومحاربة الجهل والتعصب، وقف حياته على العلم والتعليم، وكان هيناً ليناً في دعوته، وبرغم ما ألحقه به أعداؤه من الجهلة والمتعصبة من أذى إلا أنه لم ينشغل بهم.

كان من رجالات الإصلاح في نهاية عصر الدولة العثمانية وله صلات ومراسلات بعلماء عصره المصلحين في العديد من البلدان، فقد زار لبنان ومصر وفلسطين والأردن والمدينة المنورة، ورغم قصر عمره (49 سنة) ألا أنه ألف ما يزيد عن 100 مؤلف.

لخص العلامة رشيد رضا منهج القاسمي الإصلاحي في التأليف مقارنة مع شيخه وصديقه العلامة طاهر الجزائري فقال: "والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سببين في سعة الاطلاع وحسن الاختيار، إلا أن الجزائري كان أكثر اطلاعا على الكتب وولوعاً بالاستقصاء والبحث، والقاسمي أشد تحريا للإصلاح، وعناية بما ينفع جماهير الناس"[1].

وقد ترك القاسمي بعد وفاته عددا من التلاميذ أصبحوا هم علماء الشام، وعددا آخر أصبحوا هم ساسة الشام وقادته.

ولادته ونشأته العلمية:

ولد جمال الدين القاسمي في دمشق سنة 1282هـ / 1866م، في بيت علم وتقوى[2] ، فقد كان جده عالماً فاضلاً، وكذلك كان أبوه، وهذه ميزة لجمال الدين، فقد درجت العادة في ذلك الزمان أن يتوارث الأبناء وظائف آبائهم الدينية كالإمامة والخطابة والإفتاء والقضاء، فوصل لهذه المناصب الجهلة والحمقى بالوراثة لا بالكفاءة، فانتشر الجهل والتعصب وقلة الدين، حتى كنت لا تجد في مدن وقرى بكاملها من يحسن القراءة والكتابة! بل وصل الحال أن المدارس على ندرتها كانت تدرس اللغة العربية ونحوها بالتركية على شيخ تركي!!

وقد فاقم من انتشار الجهل تواطؤ أصحاب المناصب الشرعية والسياسية على بقاء الجهل مخيماً حفاظاً على مكاسبهم ونفوذهم، ولذلك كانوا دوماً أعداء لكل مصلح ومحب للعلم.

درس القاسمي بداية على والده الشيخ محمد سعيد القاسمي، ثم درس في مكتب بالمدرسة الظاهرية، وحضر دروس الشيخ سليم العطار والشيخ بكرى العطار شيخ الشام، والشيخ محمد الخاني الذي علمه أوراد الطريقة النقشبندية والتي تركها لاحقاً.

كان القاسمي يطالع كثيرا من الصغر ولا ينشغل باللعب مع أقرانه، ولذلك وجد في أوراقه عدة دفاتر فيها ملخصات ومنتخبات من مطالعته في الكتب – طبعاً نقصد المخطوطات – أطلق عليها اسم "سفينة" وعمره 15 سنة!! وقد كان محافظاً على وقته وله همة عالية في القراءة، قال عن نفسه: "وقد اتفق لي بحمده تعالى قراءة صحيح مسلم بتمامه رواية ودراية في أربعين يوماً، وقراءة سنن ابن ماجه كذلك في واحد وعشرين يوماً، وقراءة الموطأ كذلك في تسعة عشر يوماً... فدع عنك الكسل، واحرص على عزيز وقتك بدرس العلم وإحسان العمل".

وقد حبب للقاسمي القراءة حتى قيل إنه قرأ واقتنى غالب ما طبع في عصره من كتب، وبيته يحتوي على مكتبة أسسها جده الشيخ قاسم ووسعها أبوه ونماها القاسمي بعد وفاة والده حتى تركها وفيها 2000 مجلد، وجعل لها غرفة خاصة وصنع فهرساً بكتبها، وتتميز مكتبة آل القاسمي بتنوعها الواسع وعدم اقتصارها على الكتب الشرعية، وأوقفها على ذريته وطلبة العلم ونشر إعلانا بذلك في الصحف، وهي لليوم مفتوحة للباحثين، فجزى الله أحفاد القاسمي على رعايتهم لوصية ووقف جدهم.

ولتميزه في طلب العلم وعدم اكتفائه بمكانة أبيه طلب بعض الطلبة منه أن يشرح لهم بعض مقدمات العلوم وعمره 14 سنة، فكان يدرسهم بعد المغرب قبل موعد درس أبيه، الذي كان يواظب على حضوره.

نشاطه العلمي والدعوي:

بدأ نشاطه الدعوي وعمره 21 سنة حين طلب بعض الفضلاء من والده سنة 1303هـ أن يرسل جمال الدين ليكون إماماً لهم في مسجدهم في الصلوات الخمس ويقيم الدروس لهم، فأذن له والده فأحيى جمال الدين مسجدهم بإمامة الصلوات وبدروسه في الصباح وبين العشائين.

ثم أصبح مدرساً في مدرسة عبد الله باشا العظيم والتي كانت إحدى حصون الدعوة إلى الإصلاح في العاصمة الأموية بحسب وصف العلامة محب الدين الخطيب إذ كان من المستفيدين منها، وكان من المدرسين فيها: العلامتان طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي ولكل واحد منهما غرفة يستقبل فيها تلاميذه .

وبسبب تميزه في التعليم والإصلاح تم اختياره – فيما يبدو - من قبل الوالي ضمن عدد من الفضلاء سنة 1309هـ لإلقاء دروس عامة في شهر رمضان في بعض النواحي من سوريا، فذهب إلى وادي العجم وسجل يوميات تلك الرحلة في كتاب بعنوان "بذل الهمم في موعظة أهل وادي العجم"، وفي السنة التالية اختار أن يذهب إلى قضاء النبك وألف فيها "حُسن السبك في الرحلة إلى قضاء النبك"، وطلب أيضاً في السنة التي تليها فذهب إلى بعلبك، وكرر الذهاب إليها في السنة التي تليها، ثم يبدو أنه طمع في تلك الرحلات بعض الطماعين البطالين الذين لا يهمّهم سوى المكافأة المالية فأبطلت الدولة تلك الرحلات، ويعلق القاسمي على ذلك بقوله: "مع أن بها النفع العام، لمن قام بها حق القيام".

ويبدو أن هذه الرحلات فتحت عيون القاسمي لأحوال البلد ومقدار الجهل والخرافة والظلم الذي يحيق بالناس.

وفي سنة 1317هـ توفي والده فحزن عليه كثيراً، وقد قام العلامة عبدالرزاق البيطار والعلامة طاهر الجزائري بزيارة والي الشام برفقة القاسمي لتنصيبه مقام والده في إمامة وخطابة وتدريس مسجد السنانية وهو المسجد الذي كان يؤمه والده وجده من قبله، فتولى الإمامة والتدريس فيه للطلبة والعامة وألف فيه كثيرا من كتبه وأهمها تفسيره (محاسن التأويل) بين عامي 1317-1329هـ.

تحوله لمنهج السلف وما لقي من مصاعب بسبب ذلك:

نشأ القاسمي مثل أهل عصره على المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية والطريقة النقشبندية، ولكن لكونه طالب علم ذكيا ومتميزا ولأ والده وجده كانا من العلماء ولكونه كثير المطالعة، فقد سهل عليه أن يكتشف خطأ ما هو عليه وأن الحق هو في اتباع القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح، وليس بين أيدينا تصريح له أو لغيره بكيفية أو بتاريخ انتقاله لمنهج السلف على غرار قصة تحول رشيد رضا التي كتبها بنفسه، لكن لدينا بعض الإشارات التي قد تساعد على ذلك.

وقد يكون السبب في عدم تدوين هذه القصة هو طبيعة البيئة التي عاش في ظلها القاسمي، فهو كان في بيئة مقلقة له أمنياً، فالرسائل والكتب مراقبة، وبيته مهدد في أي لحظة بالتفتيش والبحث عن كتب أو رسائل من دعاة الإصلاح، فمثلاً حين كان يتراسل القاسمي مع بعض أصدقائه ويراد الإشارة إلى محمد كرد علي فإنهم يعبرون عنه بقولهم "صاحب اسم مفعول اقتبس"، نسبة لمجلته المقتبس!!

فإذا بحثنا عن سبب تحوله لمنهج السلف سنجد أن القاسمي عاصر الشيخ طاهر الجزائري والذي اشتهر ببعث كتب شيخ الإسلام من خلال نسخها وبيعها بأثمان رخيصة في سوق الوراقين، كما نجد أن القاسمي كان يحضر حلقة الشيخ طاهر الكبرى، بل كان زميلاً له في مدرسة عبدالله باشا وله غرفة يلتقي الطلاب فيها سنة 1311هـ تقريباً، ونجد أن طاهر الجزائري هو الذي سعى في تنصيب القاسمي إماما محل أبيه، وسنجد أن القاسمي رافق الشيخ طاهر الجزائري ليل نهار في سنة 1323هـ قبل هجرة الجزائري لمصر، كما أن الجزائري شارك القاسمي في تنقيح بعض مباحث كتابه قواعد التحديث.

ومن المتفق عليه بين المؤرخين لتلك الفترة أن الشيخ عبد الرزاق البيطار وهو من أجل علماء الشام كان والقاسمي صديقين حميمين برغم أن البيطار أسن من القاسمي بثلاثين سنة!! ومعلوم أن البيطار كان أيضا على خلاف منهج السلف ثم تحول إليه لكنه عرف ذلك متأخراً بخلاف القاسمي، وقد اشتهرت كلمة البيطار للقاسمي بخصوص تحوله لمنهج السلف مبكراً: "يا جمال .. احمد الله على أن انتهيت وأنت في سعة من عمرك، ولحيتك سوداء، فتتمكن من الاستمتاع بعقلك، ويتسع الوقت لنشر فضلك".

ومعلوم أن البيطار أيضاً كان من رواد حلقة طاهر الجزائري، فالراجح عندى أن لطاهر الجزائري دورا مركزيا في تحول البيطار والقاسمي لمنهج السلف، برغم أن القاسمي هو الذي اختص واشتهر بنشر منهج السلف في الشام بعد عصر ابن تيمية وابن القيم، لأن القاسمي كان رجل عامة والجزائري كان رجل خاصة. ولعل هذا هو السبب الذي جعل القاسمي يقول عن طاهر الجزائري "الشيخ المفيد والمرقي الوحيد" !!

أما متى كان ذلك؟ فليس هناك تاريخ مؤكد إلا إشارات عامة أيضاً، ففي سنة 1306هـ ختم القاسمي أحد كتبه بقوله: "تم على يد مختصره الفقير محمد جمال الدين أبي الفرج القاسمي الأشعري الدمشقي النقشبندي الخالدي الشافعي"، وهذا يحدد لنا أن نبحث عن تاريخ تحوله بعد هذا التاريخ.

سنجد أن طاهر الجزائري في سنة 1311هـ تقريباً أمر محب الدين الخطيب وكان عمره 9 سنوات بالتردد على غرفة الأستاذ أحمد النويلاتي وجمال القاسمي بمدرسة عبدالله باشا، ونجد أن القاسمي والبيطار في سنة 1313هـ يتعرضون لمحنة عرفت باسم حادثة المجتهدين، حيث لفق لهم بعض الحاسدين تهمة ادعاء الاجتهاد!! وهي تهمة كانت رائجة في عصر الجمود والتعصب والتخلف، بينما يتهم السلفيون اليوم بالجمود!!

ونجد أن القاسمي يكتب في رسالة منه للعلامة نعمان الآلوسي سنة 1316هـ فيقول: "فإلى الله المشتكى من جماعة نبذوا الآثار ظهريا، وأضحى مذهب السلف بينهم نسياً منسياً، خلا جماعة من أحبابنا الصادقين، فإنهم في مشربهم السلفي عقد الشام الثمين، وقد نالتنا وإياهم محنة سلفت من نحو ثلاثة أعوام"، ويقصد حادثة المجددين.

وهذه الرسالة هي رد على الرسالة التي أجاز فيها الآلوسي القاسمي وأوصاه في آخرها بمنهج السلف فقال له: "وأوصي المجاز – القاسمي- باتباع مذهب السلف، فإنه أسلم بل أعلم وأحكم والسلوك في طريقهم الأقوم" وذلك سنة 1315هـ.

وهذا يدل على أن القاسمي لم يعد سلفياً فحسب بل إن حوله مجموعة سلفية، وأيضاً نجد القاسمي في ترجمته لوالده "بيت القصيد في ترجمة الوالد السعيد" يصرح بأن والده انتهج منهج السلف في آخر حياته، ووالده توفي سنة 1317هـ، وكان والده وأخوه محمد عيد قد انتصروا له حين أوقفه المفتي سنة 1313 من دون بقية زملائه في حادثة المجتهدين، وهذا فيه إشارة لتأييدهم لمذهب جمال خاصة أن والد جمال كان يحضُر هذه المجالس.

ومن هذا كله يمكن أن نقول إن القاسمي بدأ في التحول للسلفية من سنة 1310 تقريبا أو قبلها بقليل، ولكنه بقي يتطور حتى وصل لمرحلة رضي فيها عن نفسه وهي عام 1320، ولذلك نجده يصرح أنه غير راض عن كل ما كتبه قبل ذلك العام.

وبعد أن حاولنا تلمس كيفية وتاريخ تحول القاسمي للسلفية، نعرض للمحن التي تعرض لها بسبب ذلك، وقد لخص القاسمي ما تعرض له من اضطهاد في رسالة شخصية لرشيد رضا:

1- في سنة 1313 اتهم وبعض أصدقائه الذين وصفهم بالسلفيين بالاجتهاد، ولأنه كان أصغرهم سناً فقد أوقف ليلة من دونهم، ويجب أن نلاحظ أن التهمة الأولى للقاسمي ورفاقه وعلى رأسهم الشيخ عبدالرزاق البيطار كانت هي تهمة الاجتهاد ومحاولة قراءة كتب تفسير القرآن والحديث وكتب أصول الفقه، ولم توجه لهم تهمة الوهابية إلا بعد سنوات، كما أنهم في الجلسات التي اتهموا فيها بالاجتهاد كانوا أيضاً يدرسون كتاب "كشف الغمة" للشعراني الصوفي، وهذا يؤكد تطورهم التدريجي للسلفية بترك التعصب والجمود الفقهي بداية.

2- في سنة 1318 تم إيقاف السيد عبدالحميد الزهراوي مما أثار الخوف في نفوس أصدقائه ومنهم القاسمي، والذي جاءه البوليس ليلاً وطلب منه نسخته من كتاب الزهراوي الذي أوقف بسببه، مما يدل على شدة محاربة الأفكار الإصلاحية في ذلك الوقت.

3- وفي سنة 1322 زار دمشق قادما من مصر المحامى أحمد الحسيني وكان القاسمي تعرف به في القاهرة قبلها بسنة وأكرم القاسمي ورحب به، فلما جاء الشام ذهب لزيارته قياما بواجبه، فاستدعي من الوالي وحقق معه حول سبب زيارته له، وأمر القاسمي بقطع الصلة به، حيث اتهم بعض الوشاة الحسيني بأنه معادٍ للحكومة ومن دعاة الاجتهاد!

4- وفي سنة 1324 اتهم الشيخ عبدالرزاق البيطار بأنه وهابي وحقق معه ومع بعض طلابه، مما أثار الخوف والقلق في نفوسهم، واتهم القاسمي معه في ذلك، لكن ما انقذه من التحقيق أنه كان مسافراً مع الشيخ طاهر الجزائري إلى صيدا، وبقي هناك لمدة شهرين قلقا حتى هدأت الأمور وعاد.

5- وفي رمضان من نفس السنة 1324 أقام عليه الجامدون والمتعصبون والذين يسميهم القاسمي بالحشوية – كان يطلق قديماً على أهل السنة، فأصبح اليوم لقب أعدائهم- بسبب كتاب مجموع الأصول، والذي جمع فيه بعض الرسائل حول الاجتهاد ومن ضمنها رسالة لابن عربي الصوفي، لأن منهج القاسمي صدم هؤلاء المتعصبة الصوفية بكلام رموزهم.

فكانوا يجتمعون في المسجد الأموي من العصر وحتى آخر الليل يسبون القاسمي ويتوعدونه لولا تدخل بعض الفضلاء، وقد كان القاسمي في تلك الفترة يعيش فترة صعبة قال عنها: " ولكن كيف كان الصحب والآل، في هذه الليالي؟ حدث ولا حرج".

6- في عام 1326 تم تفتيش منزله ومسجده بحثاً عن كتب ومراسلات ممنوعة، وصادروا ثلاثة أكياس كتب مطبوعة ومخطوطة، بقيت شهرين عندهم، ولما تقرر إرجاعها اعترض بعض الحشوية، فتقرر تحويلها للمحكمة الشرعية لفحصها، فبرأه القاضي، ولكن يقول القاسمي: "فماذا كان حال العائلة والأهل في هذه الأشهر؟".

7- وفي رمضان من عام 1326 يزور محمد رشيد رضا دمشق ويعقد له درس في المسجد الأموي، فقامت قائمة الحشوية وهيجوا الناس عليه واتهموه بالوهابية، حتى اضطر لمغادرة دمشق، ولزم القاسمي بيته ثلاثة شهور أما البيطار فبقي 130 يوما لم يخرج من بيته، وذلك خوفا من أن يتعرضا لاعتداء من أحد في الشارع.

وقد نظم الأمير عادل أرسلان شقيق أمير البيان الأمير شكيب أرسلان قصيدة يسخر بها من هؤلاء الحشوية، وتكشف عن عمق الروابط بين المصلحين في ذلك الزمان قال فيها:

يا أيها الفقهاء أول من درى أن البطاطا شرح متن البامية

إني رأيت الشورباء حزينة أضحت على أذيالكم مترامية

فكلوا المحاشي والمواشي جملة تهتز من فوق بقول نامية

أظننتم الدستور حرم أكلها لا والذي خلق العقول السامية

ما دخل وهابيتي في أمركم ماذا اخترمت لتنكروا إسلاميه

هي شيعة لا تشتم الكوسا فما الداعي لتكفيري ودق عظامية

ماخنتكم في صحبة المحشي ولا أفسدت بالتقليل منه صياميه

هذه الحوادث تعطينا تصورا عن الأحوال التي كان يعيشها القاسمي ورفاقه من قبل الجهلة والمبتدعة، والذين كانوا رافضين لنشر العلم وفتح باب الاجتهاد.

أما ما تعرض له القاسمي ورفاقه من تنكيل من قبل الحكومة في عهد السلطان عبد الحميد وحكومة الاتحاد والترقي فقد كان شديداً، ففي عام 1327 يتهم القاسمي والبيطار بالتحريض على تأسيس جمعية النهضة السورية المناهضة لحكم الاتحاديين والمطالبة بالاستقلال الإداري وقيام حكومة عربية، وأنهم على صلة بأمراء من نجد، فأنكر هذه التهم وبين عدم صلته بجمعية النهضة، والتي كان رئيسها محب الدين الخطيب وسكرتيرها صلاح القاسمي شقيقه الأصغر!

دور القاسمي الإصلاحي:

برغم حياة القاسمي القصيرة حيت عاش 49 سنة فقط وكانت مليئة بالحوادث والمحن، إلا أنه عُدّ علامة الشام، فقد وفقه الله عز وجل مبكراً لطلب العلم والاطلاع الواسع ومنحه الذكاء الحاد، ويسر له معرفة منهج السلف والحق مبكرا وهو شاب.

وهذا كله جعل تأثير القاسمي ممتداً لليوم، فقد تمثل الدور الإصلاحي للقاسمي في ثلاثة محاور:

1- نشر الكتب المهمة لعلماء الأمة، وتأليف الكتب المهمة لحياة الأمة اليوم:

يلخص لنا القاسمي رؤيته لدور الكتاب في نهضة الأمة ونشر منهج الحق في رسالة للشيخ محمد نصيف، من أعيان مدينة جُدة يحثه فيها على طباعة الكتب فيقول: "ولا يخفى فضلكم أن أعظم واسطة لنشر المذهب السلفي هو طبع كتبه، وأن كتاباً واحداً تتناوله الأيدي على طبقاتها خير من مئة داعٍ وخطيب، لأن الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف، وأعرف كثيراً من الجامدين اهتدوا بواسطة ما طبعناه ونشرناه، اهتداء ما كان يظن، والحمد لله على ذلك".

ويبدو أن تحول القاسمي لمنهج السلف أصلاً كان بسبب بعض الكتب التي كان الشيخ طاهر الجزائري ينشرها. ويمكن أن نتحدث عن اهتمام القاسمي بالكتب في النقاط التالية:

أ – حرص القاسمي على نشر الكتب النافعة وخاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وكان هذا غالب موضوعات رسائله للعلامة الآلوسي، وقد نصحه الآلوسي مراسلة الشيخ نصيف بخصوص طباعة آثار ابن تيمية، فكتب له القاسمي سنة 1327هـ: " أخي تعلمون أن شيخ الإسلام توفي بدمشق وأن رسائله بحمد الله معظمها والحمد لله في دمشق، وإن فقد منها شيء أو طار من الشام لغيرها إلا أن في المكتبة العمومية – يقصد المكتبة الظاهرية التي أسسها طاهر الجزائري- عندنا من رسائله وقواعده في كتاب " الكواكب" الذي جمعه الشيخ ابن عروة، وكتب فيه جملة وافرة من تآليف شيخ الإسلام وبها ما يكفي ويشفي ... فإن رأيتم أن نسعى لنسخ كل ما هو عندنا بالشام بحيث لا نبقي له – قدس الله روحه – شيئاً يكون ذلك من أكبر حسناتكم".

ب - كما أن القاسمي كان يحث بعض الأمراء والملوك على طباعة الكتب ونشرها بين العلماء، كما فعل مع سلطان مراكش حين زار دمشق.

ج - وكان القاسمي يحرص على طباعة كتب بعض العلماء المتبوعين من المقلدة والمتعصبة، انظر ماذا كتب القاسمي لأحد أصدقائه في رسالة سنة 1328: "ظفرنا بنسخة ورسالة مهمة للبركوي، انتصر فيها للشيخين فيما ذهب إليه، لا بل زاد عليهما كما ترون من مطالعتها، وقد عانيت كثيراً في تصحيحها، لأن الأصل المطبوع محرف للغاية.

وهذه الرسالة تأثيرها على الجامدين والجهمية أكثر من تأثير مؤلفات الشيخين في الموضوع، لأن الإمام البركوي شهرته عظيمة، ولا يظن الجامدون بمثله أن يصدع بما صدع به، لأنهم يحسبون أن هذا البحث لم ينفرد به إلا الحنابلة، وأما رجل حنفي تركي يوافق على ذلك، فلا يخالونه، إلا أن هذا الرجل - رضي الله عنه- لقد أبان عن فضل عظيم، ودين قويم، وقلب سليم".

د - أما كتب القاسمي نفسه فقد زادت عن مئة كتاب، وغالبها مما يحتاجه الناس ويسد ثغرة عندهم ويقدم بديلاً عن الباطل الذي اعتادوه، ومن أمثلة ذلك:

- كتاباه "منتخب التوسلات" و"الأوراد المأثورة": فحين وجد أن الناس تتمسك بأوراد للقطب الفلاني والولي العلاني، رغب بأن يستبدل لهم ذلك بأدعية من القرآن وأدعية الفرج بعد الشدة، وسماها "منتخب التوسلات" وذلك في سنة 1315. ثم جمع أوراد الصباح والمساء وما يقال في السَّحر مما صحح وثبت، وسماها "الأوراد المأثورة" في سنة 1319، وكتب القاسمي عن ذلك: "وحبذا اليوم الذي نرى فيه لا ينتشر إلا المأثور، ولا يعتقد إلا الحق، وما ذلك على الله بعزيز"، والحمد لله اليوم غالب الفضائيات والإذاعات تنشر ما ورد في السنة الصحيحة مما تقر به عين القاسمي ولعلها تكون في ميزان حسناته إن شاء الله.

- كتابه دلائل التوحيد: وقد كتبه سنة 1326 رداً على مقال في صحيفة المؤيد تتضمن إنكار وجود الله وبعض الشبه عن الإسلام، وذلك حين رفض أحد كبار علماء الشام الرد بمقال على المقال الذى انتشر في آلاف النسخ من الجريدة، واكتفى بالرد عليه في درسه بالمسجد الأموي!! وهذا المنطق الأعوج لا يزال لليوم هناك من يسير عليه! أما القاسمي فقد انتصب للدفاع والرد بكتاب يطبع بالآلاف ويكون بين يدى الناس الذين يحتاجونه وهم المثقفون الذين يقرؤون الجرائد التي تنتشر فيها هذه التفاهات.

- كتابه قواعد التحديث: وقد صنفه عام 1320 وراجعه مع الجزائري سنة 1324 وطبع 1352 سنة، أي بعد وفاته بعشرين سنة. والكتاب يقوم على جمع كلام العلماء السابقين، وهو ما عابه محمد كرد علي على القاسمي، لكن حجة القاسمي أنه أراد أن يجابه المتعصبة الجامدين الحشويين الرافضين للبحث في الأحاديث وتمييز الصحيح من السقيم بأقوال علمائهم المتبوعين والمشهورين.

- شذرة من السيرة النبوية: رسالة صغيرة ألفها وطبعها في مطبعة المنار أثناء زيارته للقاهرة سنة 1321، وكان الغرض منها أن يكون بديلاً لما يقرأ في الموالد من كتب بدعية تحتوي على الكثير من الخرافات والأكاذيب.

وهي من فصلين: إعجاز القرآن، وغرر من الوصايا النبوية، وختمها بأربع فوائد: أصل قصة المولد، التحذير من البدع في تلاوة قصة المولد، حكم القيام عند ذكر الولادة، من أحدث المولد.

- إصلاح المساجد من البدع والعوائد: وذكر القاسمي أن سبب تأليف هذا الكتاب هو كثرة البدع في المساجد، مما جعل إزالتها أولوية لدى المصلحين.

- موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: كان القاسمي لما زار مصر سنة 1321 برفقة الشيخ عبد الرزاق البيطار التقى بالشيخ محمد عبده، وحضر بعض دروسه وزاره في بيته وأصبح بينهما صلة قوية على غرار صلة البيطار بعبده الوثيقة من قبل، ومن الأشياء التي سأل عنها القاسمي عبده: هل هناك كتاب تنصح أن ندرسه للعامة؟ فكان جواب محمد عبده: إن أحسن ما ينفع العامة كتب الغزالي بشرط تجريدها من الواهيات. ويبدو أن هذا صادف قبولا وقناعة سابقة للقاسمي تجاه كتب الغزالي، ولذلك فبعد عودته بسنتين شرع في اختصار كتاب إحياء علوم الدين وأخرج لنا كتابه المتميز "موعظة المؤمنين".

- قاموس الصناعات الشامية: من حرص القاسمي على التأليف ونفع المسلمين ومن بره بأبيه أنه اقترح عليه تأليف كتاب في نهاية حياته حول الصناعات والحرف في الشام، فسأله أبوه كيف أفعل؟ فأجابه: تستأجر دابة وتذهب لمحل الحرفيين وتسجل أسماء الصناعات والحرف ثم تدرسها. وقد فعل والده ذلك، لكنه مات وقد وصل لحرف السين، فأتمه جمال وزوج شقيقته خليل العظم.

وقد أصبح هذا الكتاب فريداً في بابه ولم يعرف له مثيل، وهذا يدل على سعة أفق القاسمي واهتمامه بالحياة والصناعة ونهضتها وعلم التاريخ والاجتماع، وقد قامت دراسات تحليلية كثيرة حول الكتاب عربية وغربية.

- إرشاد الخلق للعمل بخبر البرق: ألفه سنة 1329 لبيان جواز الاعتماد على الوسائل الحديثة للاتصالات في نقل خبر ثبوت شهر رمضان والعيد. وهو مما يدل على معاصرته للقضايا المستجدة ومواكبته للمخترعات الحديثة، وكان طاهر الجزائري قد حثه على تأليفه.

- الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس: وذلك لبيان حقيقة الطلاق بالثلاثة وأنه لا يقع، وإلا لأصبح غالب الناس أولاد زنا، بسبب قلة دينهم.

- محاسن التأويل: وهو تفسير قيم كتبه في أربع عشرة سنة، ولم يطبع إلا بعد وفاته بأكثر من أربعين سنة، وقد كانت عائلة القاسمي تعتبره كنزاً، فلما تعرض حيهم للقصف الفرنسي سنة 1925، لم يحمل أولاد القاسمي من بيتهم إلا تفسير والدهم والذي كان في 12 مجلدا بخط القاسمي نفسه، ولم يكن له نسخة أخرى! والتزم القاسمي أن يضمن تفسيره كل ما يقع عليه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم مما يتعلق بتفسير القرآن في موضعه.

كُتب القاسمي كثيرة ولكن هذه بعضاً منها تدل على سعة أفقه ومعايشته لأحوال أمته، وحرصه على نهضتها ورفعتها من خلال التأليف كوسيلة إصلاحية، لا فائدة دنيوية من ورائها كحالنا اليوم حيث التأليف عند كثيرين وسيلة لمنصب أو ترقية أو مال، يقول القاسمي عن أحد الكتب في رسالة لمحمد نصيف: "ويعلم الحق أني لو أوتيت ما يمكنني القيام بطبعه على نفقتي لما تأخرت في طبع كل ما جمعت، ولكن يكفي (كما يقول الأستاذ طاهر الجزائري) الفقير: أن يجمع ويؤلف..".

هـ - وكان القاسمي يطلب من بعض طلبته نسخ بعض الكتب ويعطيه أجراً، بدلاً من أن يذله بقبول الصدقة والزكاة. وكان يحث ويشجع بعض طلبته على تأليف الكتب، وقد شجع تلميذه بهجة البيطار على تأليف بعض الكتب وأثنى عليه في رسائله الشخصية لبعض أصدقائه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] - مقدمة رشيد رضا لكتاب القاسمي " قواعد التحديث".

[2] - ألف الشيخ محمد ناصر العجمي كتابا في عائلة القاسمي بعنوان "آل القاسمي ونبوغهم في العلم والتحصيل" ترجم فيه لجده وأبيه وأعمامه وأبنائهم وأبناء جمال الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
{م: البيان}
ــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-13-2013, 06:40 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة

دور القاسمي الإصلاحي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2- نشره للعلم ورعايته لطلابه وتنشئتهم ليكونوا قادة ودعاة متميزين:
لقد تميز القاسمي باهتمامه بطلبته ورعايته لهم في مختلف جوانب حياتهم، ولذلك استمروا على الوفاء لمنهج شيخهم بعد وفاته وكانوا قادة الشام وعلماءه. ومن مظاهر اهتمام القاسمي بطلابه ما يلي:
1- كان القاسمي يدرّس في غالب أوقاته وفي كل مكان، في مسجده وبيته وبيوت أصدقائه وفي الرحلات والمتنزهات، وكان بيته يستقبل أفواج الطلاب من الصباح إلى ما بعد العشاء.
رثاه أخوه صلاح الدين فقال:
كان يقضى النهار والليل بالدرس ويحيي الأسحار بالتهليل
قد أذابت حياته لوعة البحـ ـث فناب الضلوع داء النحول
2- كان القاسمي يدرّس جميع الطبقات من العامة والخاصة وطلبة الشريعة وطلاب المدارس العصرية، ولكن كان له عناية خاصة بالأذكياء من طلبته.
3- كان القاسمي يعامل طلابه على أنهم أصحابه وأصدقاؤه، فيقول في إجازة كتبها لتلميذه: "طلب منى مصاحبنا وقريبنا الشيخ حامد التقي الإجازة".
4- كان يحث طلبته على النقاش والحوار معه، فمن ذلك قوله لهم: "عليكم أن تفكروا بتفكير خصوم السلفية وتأتوني بحججهم وشبههم لأرد عليها".
5- كان يعدّ طلابه ليكونوا دعاة وموجهين للمجتمع، فلما اشتكى إليه أحدهم أن الناس لا يتقبلون منه تدريسه ووعظه وأنه يريد العودة للدراسة على الشيخ، كتب إليه يقول: "إنني علمتك السنين الطويلة لترينا خدمتك للعلم وآثارك في مثل هذه البلاد المتعطشة لأمثالك فاثبت في وظيفتك".
6- كان القاسمي يهتم جداً بتحلي طلابه بالأدب والعقل والذكاء، ولكنه يعرف أن هذا يحتاج إلى تفاعل الطالب مع شيخه، ولذلك نبه القاسمي أحد طلابه بقوله: "بقي علم لا أستطيع تعليمك إياه وهو أن تكون ذكياً بحاثاً لبقاً، فكن من نفسك كذلك".
7- كان يحرص على أن يتيح لطلبته الالتقاء بالعلماء والمصلحين الذين يزورونه حتى يرفع من سويّتهم العلمية، وحتى يستفيدوا من أكثر من شيخ ولا يكونوا أسرى لأسلوبه وطريقته.
8 - ضرب القاسمي للناس المثل بنفسه بطلب العلم وتعليمه، فلما جاءه عبدالوهاب الإنكليزي وصادق النقشبندي وهما من خريجي المدارس العصرية لتعلم ما ينقصهم من علوم الدين، طلب منهم القاسمي أن يدرسوه ما ينقصه من علوم الدنيا، فدرس عليهم الجغرافيا والرياضيات، رغم أنهم من جيل طلابه وتلاميذه!!
9- وكانت النتيجة أن طلاب القاسمي أكملوا مسيرة شيخهم بنشر الإصلاح والعلم وإقامة الجمعيات الثقافية ونشر المؤلفات النافعة مما أحدث نهضة إصلاحية في الشام قضى عليها حافظ الأسد ببعثيته الدموية وعلويته الطائفية، هذه النهضة لا يزال يتحسر عليها المخلصون.
10- مما يبين أهمية وجود تلاميذ للمصلحين يحملون دعوتهم ويبرهنون على نجاح مسعاهم، قول القاسمي: "وقد ظهر لي أخيراً شيء آخر: وهو أن حق من يصنف في تراجم الرجال أن لا يُترجم إلا ذوي الأثر أو التأثير، فالأول يدخل فيه من صنف وألف في أي فن كان، بشرط الإجادة لما صنفه أو اخترعه، ما لم يسبق فيه، ويدخل في الثاني كل عالم غير مؤلف، ولكنه أنجب تلامذة، أو وقف نفسه على التعليم في فن أو فنون، وكان سالكاً سبيل السلف في النصح، والصدق، والإخلاص، والأخلاق"، وقد جمع الله عز وجل للقاسمي كل ذلك إن شاء الله.
طلاب القاسمي:
قال الأديب حسني كنعان: "تلاميذ العلامة الكبير المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي في دمشق كثيرون، وهم صفوة علماء البلاد الشامية وفضلائها"، ولذلك أرى أنه يمكن أن نقسم طلاب القاسمي إلى ثلاث مجموعات هي:
أولاً- طلابه الذين أصبحوا من علماء الشام:
1- العلامة محمد بهجة البيطار: وهو حفيد العلامة عبدالرزاق البيطار، رفيق درب القاسمي، كان من أبرز وأكبر طلاب القاسمي، درس عليه أربع سنوات، تولى الخطابة والتدريس في مسجد الدقاق بأمر من جده البيطار، وعمل مدرساً في عدد من المدارس الأهلية والنظامية، فدرس الدين والعربية والفرنسية، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية بدمشق، وكانت باكورة أعماله في المجمع محاضرة عن "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية"، طلب منه الملك عبدالعزيز بن سعود سنة 1344هـ إدارة المعهد العلمي بمكة المكرمة، فأقام بها سنين ودرس بالحرم المكي والمدنى، وأصبح عضوا بمحكمة مكة المكرمة، وسنفصل في سيرته في حلقة خاصة.
قال عنه ظافر ابن العلامة جمال القاسمي: "كان تلميذاً لوالدي جمال الدين القاسمي، لا بل كان من أخص تلاميذه، إن لم يكن أخصهم على الإطلاق".
وقال ولده عاصم البيطار عن علاقة أبيه بشيخه القاسمي: "غرس في نفسه حب السلفية ونقاء العقيدة والبعد عن الزيف والقشور وحسن الانتفاع بالوقت".
قال في شيخه القاسمي: "ولو طال عمره لرأينا من آثاره النافعة أكثر مما رأينا، ومن نفاسة تآليفه فوق ما شاهدنا، فإن الإستاذ كان في تجدد مستمر، استمده من علوم العصر وحقائقه، وانكشف له به عن كثير من أسرار الشريعة وغوامضها". وقال أيضاً: "أستاذنا الإمام، عالم الشام، وعلم الأعلام"، وكان يذكر شيخه القاسمي دوما ويترحم عليه، ولذلك سارع إلى مساعدة تلميذه ظافر القاسمي في نشر تراث أبيه خاصة كتاب (قواعد التحديث)، وتفسير القاسمي (محاسن التأويل).
2- الشيخ حامد التقي: كان من أقارب القاسمي وأسن طلابه، درس عليه ولازمه 17 سنة، ولذلك كان من أعرف الناس بشيخه، واصل حمل رسالة شيخه الإصلاحية في التدريس والخطابة في المساجد والتعليم في المدارس، وكان كثير الثناء والمدح للقاسمي حتى سأله سائل: ألا يوجد عالم في دمشق سوى شيخك القاسمي؟ فأجابه : بلى يوجد في دمشق كثير من العلماء ... ولكن هؤلاء العلماء على كثرتهم لم يقم منهم أحد بجهد علمي مثل الجهود التي قام بها أستاذنا المرحوم، فكان مدرساً وواعظاً، وخطيباً وموجهاً، ومصلحاً ومؤلفاً، ... وكان إلى هذا يدرس بالمسجد للعامة وفي البيت للخاصة، والحلقة التي يعقدها في داره يؤمه فيها كبار الشخصيات السورية الذين لهم صيتهم وشهرتهم بالأقطار العربية والعالم الإسلامي، أمثال السادة المرحومين: الأمير شكيب أرسلان، والشيخ طاهر الجزائري للمشاركة في التوجيه، وعبدالرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي، والشيخ جميل الشطي. أ.هـ
ومن تلاميذ الشيخ حامد: الشيخ علي الصابوني والشيخ محمد مهدى إستانبولي.
3- الشيخ توفيق البرزة: كان من طلاب القاسمي المبرزين والذين كان القاسمي يستشيرهم في المسائل والقضايا، درس أيضاً على الشيخ كامل القصاب رفيق الشيخ عز الدين القسام، واشتهر بالدفاع والمناظرة عن الإسلام ضد شبهات المستشرقين والمنحرفين من أهل البدع.
قال عن القاسمي: "إن من يلازمه ويرى علمه وسيرته، قلّ أن يعجبه كثير من الشيوخ الذين يدعون التربية وهم غلاظ الأكباد، قساة القلوب".
4- الشيخ عبدالفتاح الإمام: لازم القاسمي زماناً وأصبح من حملة منهج وفكر القاسمي الإصلاحي، كان يشبه العلامة طاهر الجزائري في هيئته البسيطة والمتواضعة وترك الزواج، اهتم بالشأن العام وتأسيس الجمعيات وحث الناس كثيراً على ذلك ثم كان من المؤسسين لجمعية "التمدن الإسلامي" وكتب في مجلتها "التمدن الإسلامي" مقالات قوية، وشارك أيضاً في تأسيس جمعية "أنصار الفضيلة"، وجمعية "الشبان المسلمين" وأصبح رئيساً لها، تفرغ للكتابة والتأليف ونشر الكتب، وكان حريصاً على الدفاع عن الإسلام في وجه خصومه في تلك المرحلة التي وفدت فيها الأفكار الغربية للشام.
5- الشيخ محمد جميل الشطي: لازم القاسمي واستفاد منه كثيرا، وأصبح مفتي الحنابلة في زمانه. قال في رثاء شيخه القاسمي:
مهلاً عداة المصلحين عدمتكم إنى لكم والله غير مسالم
ها نحن بالمرصاد أنصار الهدى ندعو إلى الجولان كل مزاحم
إن كان مات القاسمي فإنكم سترون منا كل يوم قاسمي
نحمي طريقته ونرعى عهده في الحق لا نخشى ملامة لائم
ثانيا- تلاميذه الذين أصبحوا علماء في بلادهم:
1- الشيخ محمد بخيت المطيعي: مفتي الديار المصرية، التقي بالقاسمي ودرس عليه العلوم الفلسفية لما زار القاهرة.
2- العلامة أحمد شاكر: محدث الديار المصرية، لازم القاسمي في القاهرة، يقول أحمد شاكر: "أستاذنا القاسمي رحمه الله كنت ممن اتصل به من طلاب العلم، ولزم حضرته، واستفاد من توجيهه إلى الطريق السوي، والسبيل القويم".
3- الشيخ عبد العزيز السناني: من علماء نجد، رحل إلى القاسمي وأخذ عنه واستمرت بينهما المراسلة.
4- الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع: من علماء نجد، زار دمشق ولازم القاسمي فيها مدة ودرس عليه ورغّبه بالعلم.
ثالثاً – من الشخصيات العامة التي تأثرت بدعوته ومؤلفاته:
كان للقاسمي لقاءات وجلسات عامة مع كثير من النخب والشباب الذكي النابه الذين درسوا في المدارس العصرية التابعة للإرساليات التبشيرية أو الدولة والتي لم تكن تهتم بالعلوم الشرعية، أو في الجامعات، كما تأثر الكثير منهم بكتب القاسمي، وذلك أن القاسمي كان يدرك مدى أهمية كسب هؤلاء الشباب الذكي المتعلم لصف الإصلاح الإسلامي في مقاومة الخرافة والجهل في الداخل والغزو الفكري الأوروبي الوافد.
وكانت علاقة القاسمي بهم لا تقتصر على التعليم بل حتى التشجيع على الكتابة ومراجعة ما ينشرون، فيكتب القاسمي في يومياته: "زارنى بعد العشاء سليم أفندي الجزائري ومعه أسعد أفندي بنباشي وبقية رفقتهم، وتم ما صححته له من مقالة (ميزان التعقل)، وفيها عبارات أشرت عليه بحذفها، والاستعاضة عنها. فلا أدري أيمتثل أم لا! نسأله تعالى أن يجعل كُتابنا ونبهاءنا ممن يعضد الدين، ويدعم قواعد اليقين، ويوقف نفسه على محاسن الإسلام، بمنّه وكرمه".
من أبرز هؤلاء الشباب:
1- العلامة محب الدين الخطيب: صاحب المطبعة السلفية ومكتبتها والذي كان له دور بارز في تأسيس مسيرة الصحوة الإسلامية المعاصرة، كان محب الدين صديق شقيق القاسمي الأصغر صلاح الدين، وكان محب الدين مؤسس جمعية النهضة والتي كان صلاح الدين أمين السر فيها، وبسبب مشاركة شقيق القاسمي فيها وصغر سن المؤسسين لها حيث كانوا في العشرين من عمرهم فقد تم اتهام القاسمي واستجوابه من قبل وزارة العدل بدمشق بأنه المحرض والمدبر للجمعية من وراء الكواليس، وهو الأمر الذي نفاه القاسمي، ولكن بالتأكيد أن القاسمي كان راضياً عن الجمعية وأعمالها، وهو ما سيتأكد لاحقاً بدعم القاسمي لمسار أخيه السياسي- الذي تولى رعايته وتنشئته- حين أعلن عودة الدستور سنة 1326هـ وانضمامه لبعض الأحزاب.
وقد كان محب الدين يحضر بعض جلسات حلقة الشيخ طاهر الجزائري والتي يشارك بها القاسمي، وكان يتردد محب الدين على مدرسة عبدالله باشا التي يدرس بها القاسمي، وكان يلتقي به في بيته مع زملائه الشباب في الإجازات التي يقضونها في دمشق بعد سفرهم للدراسة في إسطنبول.
كتب محب الدين لزميله صلاح الدين معزيا له في وفاة القاسمي فقال: "ذاكرين الليالي الجميلة التي جمعتني وإياك بجامعة الصداقة والإخاء بين جدران جامع السنانية، وفي حلقة الدرس الذي كان فقيد دولة الإصلاح جمال الدين يخترق فيه بحكمته سجف أرواحنا، وحجب أفئدتنا، فيبني هناك ما هدمه جهل معلمينا الآخرين من سعادة الإيمان وطمأنينة اليقين، جزاه الله عن الإسلام بأحسن ما يجزي الله به أولياءه".
ويقول عن فضل القاسمي عليه: " لولا أن الله سبحانه تداركنا فقيض لنا آباء روحيين أنقذونا من هذا الجو الخانق، وأقربهم إلى أخي صلاح الدين شقيقه الأكبر علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي وإخوان له في حلقة نورانية كانت تسمى "حلقة الشيخ طاهر الجزائري"".
ويصف الخطيب دور القاسمي فيقول: "والسيد جمال الدين القاسمي رحمه الله مصباح من مصابيح الإصلاح الإسلامي التي ارتفعت فوق دياجير حياتنا الحاضرة في الثلث الأول من القرن الهجري الرابع عشر فنفع الله بعلمه وعمله ما شاء أن ينفعهم، ثم انتقل إلى رحمة الله تاركاً من آثاره العلمية المطبوعة ما لا تكاد تخلو منه مكتبة قائل بالإصلاح في العالم الإسلامي".
2- الأستاذ خير الدين الزركلي: المؤرخ المشهور صاحب كتاب (الأعلام)، تعرف على القاسمي من كتبه وخاصة كتابه "دلائل التوحيد"، ثم التقى به واستفاد منه كثيراً، ترجم له في كتابه الإعلام فقال: "إمام الشام في عصره، علماً بالدين، وتضلعاً من فنون الأدب، كان سلفي العقيدة، اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين سموه: "المذهب الجمالي"، فقبضت عليه الحكومة سنة (1313هـ) وسألته، فرد التهمة، فأخلي سبيله، واعتذر إليه والي دمشق".
وأكتفي بهؤلاء من قائمة طويلة تضم د.عبدالرحمن شهبندر الذي أصبح وزير خارجية سوريا سنة 1920، وشكري العسلي الذي أصبح النائب في مجلس المبعوثان وكان من القادة الذين أعدمهم جمال باشا السفاح في دمشق سنة 1916م، وفارس الخوري المسيحي الذي شارك في تأسيس المجمع العلمي بدمشق وأصبح وزيراً وممثل سوريا في مجلس الأمن وترأسه فترة وتولى رئاسة حكومة سوريا وكان وطنياً فريداً، ومحمد كرد علي العلامة اللغوي المعروف، وغيرهم من المصلحين والأعلام الذين استفادوا من القاسمي ومنهجه وعلمه.
3- فتح باب الاجتهاد والعمل على مواكبة قضايا العصر وتقديم حلول لمشاكله
هذا هو المحور الثالث من محاور الإصلاح الذي قام به القاسمي، فالاجتهاد وكسر الجمود والتقليد ومعالجة المشاكل العصرية كانت هي المهيمنة على مسار القاسمي، فلم يكن يقبل بالانزواء عن حياة الناس وقضاياهم، بل كان يدرك تماماً وظيفة العالم في إرشاد الخلق وهدايتهم ودوره الطليعي في قيادة الجماهير لا الركض خلفها.
وأجمل بعض معالم هذا الدور الإصلاحي في النقاط التالية:
1- مواكبة العلوم والمعارف العصرية، ولذلك كان يحرص على مطالعة المجلات والصحف، ومتابعة أخبار المخترعات العصرية، وكان القاسمي يقول: "أسباب الرقي انتشار هذه الثلاثة: المطابع والجرائد والمدارس إذا وجهت توجيهاً صحيحاً".
ومن ذلك قصته في إدراك فائدة الهاتف حين قام بزيارة لمنزل الشيخ محمد عبده مفتي مصر في مصر (سنة 1321هـ /1904م) دون موعد سابق فلم يجده وكان بعيدا،ً فتأسف على ضياع الوقت – وهو الحريص على وقته – بينما صديق له اتصل بمنزل المفتي وعلم أنه غير موجود فلم يذهب، فعلق القاسمي على ذلك في كتابه عن رحلته لمصر: "فتوفر له الأجرة التي صرفت، والوقت الذي أضعناه، وهذه ثمرة العلوم المكتشفة، والتي عادت على الناس بفوائد لا تحصى".
ويعلق القاسمي على اكتشاف التلغراف فيقول: "ما ظهر من التلغراف هو قطرة من بحر ما سيظهر في العصور التالية من المكتشفات والمخترعات (ويخلق ما لا تعلمون) مما فيه مرتفق للناس، ومنتفع لهم، وخدمة لعامة طبقاتهم"، فيكشف القاسمي بذلك عن بصيرة نورانية ترتبط بالقرآن الكريم وتحلق في سماء العلم والتقدم.
2- كان القاسمي متابعاً للأفكار الجديدة في السياسة والاقتصاد كما كان دارساً للأفكار القديمة لأهل البدع، يقول القاسمي عن نبز الجامدين للمصلحين: "وإن رأوا حثه على البذل والإنفاق في سبيل الله، ودعواه الموسرين للعطف على البؤساء، لقبوه اشتراكياً"، مما يدل على معرفته لمفهوم الاشتراكية في ذلك الزمان المتقدم!!
وعلى نفس المنوال نجد القاسمي في كتابه "جوامع الآداب" يفصل في آداب النائب البرلماني لمجلس المبعوثان العثماني فيقول: "النائب مشرع للقوانين أول ما تجب عليه معرفته أن يحسن علم الحقوق ويعرف حركة المجالس النيابية عند الأمم الراقية ويحسن تاريخ أمته واجتماعها ويعرف ما يدليها ويرفعها ويدرك علائق حكومتنا بحكومات أوروبا وما تم بينا وبينها من المعاهدات وما نالوه منا من الامتيازات ويكون قادراً على الاستخراج من كتب السياسة والإدارة والقضاء بإحدى اللغات الأجنبية". مما يدل على عميق إدراك القاسمي للعملية الديمقراطية وآلياتها مبكراً.
3- كان القاسمي على منهج الأنبياء في إصلاح دين الناس ودنياهم، فلم يكتفِ بتعليم الدين ووعظ المسلمين، بل كان يحرص على إصلاح حال المسلمين بإرشادهم لاستخدام الوسائل العصرية في شؤون دينهم ودنياهم، فها هو القاسمي يؤلف كتاب "إرشاد الخلق للعمل بخبر البرق" وكتاب "فتاوى الأشراف بالعمل بالتلغراف"، لتسخير الوسائل الحديثة للاتصالات في خدمة الإسلام والمسلمين.
وبالمقابل نجد القاسمي يحث الناس على استخدام السماد الكيماوي بأنواعه والآلات الزراعية وضرورة مكافحة الآفات والحشرات المضرة بالزراعة، مما يساعد على نمو الزراعة والعمران في الشام، ومن أجل هذا حث والده على تأليف كتاب قاموس الصناعات الشامية والذي يعد لليوم فريداً في بابه.
ولما زار المدينة المنورة كتب في وصف رحلته يقول: "والمدينة في حاجة كبرى إلى مصلح، وأمير غيور، يسعى في تنوير طرقها، واتساع عمرانها، وتمهيد سبل رقيها المادي والأدبي".
4- كان القاسمي مؤيداً لسنّ دستور للدولة العثمانية يتم من خلاله تحديد المسؤوليات والحقوق للناس والحكومة والسلطان، ولذلك حين أعلن الدستور سنة 1326هـ /1908م أيده القاسمي ونقد الذين عارضوا الدستور العثماني من بعض العلماء المأجورين أتباع أبي الهدي الصيادي والذين روجو أن الدستور يحتوي على مخالفات شرعية فتصدى لهم القاسمي وبين أن الدستور والقانون يشبهان الفروع المدونة في كتب الفقه التي مأخوذها الاجتهاد من المصادر الأربعة: الكتاب والسنة والقياس والإجماع، وأنه قام به علماء بالشرع لهم.
وقد حضر القاسمي حفلاً بمناسبة إعلان الدستور لحزب الأحرار ألقي فيه صلاح القاسمي كلمة بعنوان "منزلة القانون من الدين" ووجد ظافر القاسمي مسودة الخطاب بخط أبيه جمال القاسمي!!
وقد فرح القاسمي بزوال حالة الخوف والكبت وشيوع الحرية للبحث والعلم والدعوة التي تدعم انتشار الإصلاح، وهو حال يشابه حالنا اليوم بازدياد مساحة حرية التعبير والدعوة ونسأل الله تعالى أن يجنبنا حالة الكبت من جديد بسبب المكائد والمؤامرات التي يحيكها بعض الفاسدين في الداخل بحثّ من الأعداء في الخارج والغفلة عن ذلك من قبل المسلمين، كما حدث للشام بعد حكم الاتحاديين حتى ترحم الناس على السلطان عبد الحميد وعرفوا فضله!!
5- حث القاسمي المصلحين على تولي المناصب والمسؤوليات العامة من أجل دعم حركة الإصلاح وعدم ترك المجال للمفسدين، فنراه يكاتب أحد أصدقائه مصبراً إياه على البقاء في منصبه فيقول: "ولا أحب أن تظهروا الاستقالة، أو التأفف .... وهكذا مشربي ونصيحتي لإخواني الذين يستشيروني في الاستقالة من المناصب في الحكومة، مع علمي أن بقاءهم رحمة، وأنه لا يأتي خلف لهم يحاكيهم، ولربما كانت استقالة المصلح أو الخيّر أو التقي بلاء، وثلمة لا تسد.
فوجود الكامل في وظيفة أو منصب يعلم الناس كيف يكون الكمال، كيف يكون الورع، كيف تكون الرحمة بالناس، كيف تكون المعاملة بالحسنى، وهكذا... فالحمد لله الذي أرانا أناساً يقتدى بفعالهم مثلكم"، وهذا الخطاب كأنه موجه اليوم لإخواننا من الإسلاميين الذي وصلوا لسدة الحكم في عدد من البلاد، فعليهم أن يتقوا الله ربهم ويحسنوا إلى عباده فينالوا أجر الإتقان وأداء الأمانة، وأجر الدعوة للخير وتقديم الأسوة الحسنة.
وحدث أن دخل القاسمي على شيخه بكري العطار فرآه مضطرباً، بسبب موظف بالمحكمة الشرعية يعطل معاملة له عنده من شهر من أجل الحصول على رشوة، فإذا كنت أنا شيخ علماء دمشق لا أستطيع تمرير معاملة إلا برشوة، فكيف يصنع عامة الناس.
فعاتبه القاسمي وقال له: "قد عاملك بما تستحق، لأن ديدنك في دروسك العامة والخاصة أنك تنفر الناس من قبول وظائف المحاكم الشرعية وتقول: إن المحاكم "مصاطب" جهنم، فإذا لم يتقدم لطلب أمثال هذه المناصب الأتقياء تقدم الجاهل الفاسد أمثال هذا الرجل الذي تشكو منه.
فقال له شيخه: أصبت، فإننا نحن مقصرون في عدم قبول هذه الوظائف للقيام بحق العباد.
6- تبنى الشيخ القاسمي جواز دفع الزكاة للمصالح العامة للمسلمين وأن ذلك يدخل في مصرف (في سبيل الله)، وقد رد على الشيخ رشيد رضا منعه من ذلك وكتب إليه يقول: " فإذن "سبيل الله" كل أمر فيه تقرب إلى الله، فإذا دفع الإنسان من ماله إعانة لمدرس، أو طريق، أو مشروع خيري، أو طبع كتاباً، أو اشترى شيئاً منها لمحتاج، أو نحوه فكله في سبيل الله يجوز حسبانه من الزكاة المفروضة .... وهذه الفتوى تسهل على كثير من الأغنياء الدفع من أموالهم لبعض المهمات التي يحتاج إليها، ويحسبونه أنه لا يحسب من زكاتهم، فيتوقفون أو يدفعون على كره".
7- في مطلع القرن العشرين أعلنت اليابان أنها ستعيد النظر في وضعها الديني وتبحث عن دين يلبي حاجة اليابانيين الذين اهتزت قناعاتهم بالبوذية والوثنية بسبب تطور الحالة العلمية والعقلية للشعب الياباني المتجه باطراد نحو الصناعة والتقدم والرقي.
وقد شغل ذلك فكر القاسمي وعدد من العلماء، فكتب القاسمي في يومياته يقول: "زرت في الضحوة الشيخ عبدالله الخاني، وكانت المذاكرة أهمها في إسلام اليابان وأن الأولى انتخاب رجال أكفاء حكماء من كل بلدة مهمة من بلاد الدولة، يتعاضدون ويتذاكرون، ويكتبون جداول في مزايا الإسلام، ورفع الشبه الحديثة والقديمة التي يختلقها أعداؤه، وأن يستفيدوا بمبادلة آرائهم ما يعود عليهم بالفائدة، وإلا فوجود جماعة قليلين رسمياً قد لا يجدي. والله العليم"، مما ينبئ عن شعور عالٍ بالمسؤولية عن نشر الإسلام في ربوع الدنيا.
وكتب القاسمي في رسالة لأحد رفاقه يقول: "لما جمعت الهمة للرد على الدهريين في كتابهم المرسل من اليابان، أعياني أن أجد ضالتي في الكتب المتداولة، إذ رأيتها كأنها جمعت لزمن غير هذا الزمان، أو لبلاد غير هذه البلاد، فطفقت أنقب وأبحث عما يرد الشبه تلك الضالة"، فخرج لنا بكتابه الرائع (دلائل التوحيد).
8- ومما تميز به القاسمي مخالطة الناس ومعرفة حاجاتهم والتيسير عليهم بترك الجمود والتعصب الفقهي دون دليل بالفتوى الميسرة المقرونة بالدليل الشرعي، ففي كتابه (المسح على الجوربين) يشير القاسمي لأثر التشدد بدون حق في منع المسح على الخفين على الصغار من تلاميذ المدارس فيقول: "رثى بعض أساتذة المدارس ما يعانيه الأطفال والبنات في الوضوء أيام الشتاء من مشقة غسل الرجلين، وما ينالها من الألم والبرودة ... قيل لو أنهم يعلمون رخصة لتيسر لهم الأمر، وترفع عنهم الإصر، لما وجدوا عذراً في ترك الصلاة التي هي من أعظم دعائم الإيمان وأشهر شعائر الإسلام". وقد لا يفهم البعض أهمية هذا التيسير لأنه لم يعش زمن التعصب المقيت الذي كان يبطل صلاة من مسح على الخفين والجوارب مما جعل الكثير يتفلت من الصلاة هرباً من مشقة الوضوء في البرد!!
9- بمخالطة الناس أدرك القاسمي عجز القضاء الشرعي الجامد على التقليد الرافض للاجتهاد عن حل مشاكل الناس بسبب تمسكه بأقوال الرجال بدلاً من نصوص الوحي، فدعا إلى إصلاح القضاء وألف في ذلك كتابه (أوامر في إصلاح القضاء الشرعي في تنفيذ بعض العقود على مذهب الشافعية وغيرهم"، ولذلك دعا إلى اجتهاد القاضي والاعتماد على الدليل الصحيح وعدم الالتزام بالمذهب فقط، ودعا إلى اعتماد كافة المذاهب في القضاء وعدم قصرها على المذهب الحنفي وهو ما استجابت له حكومة الباب العالي بالدولة العثمانية.
ونكتفي بهذه الملامح من الدور الإصلاحي الاجتهادي الذي قام به جمال الدين القاسمي رحمه الله.
وقفة مع المآخذات على القاسمي:
أخذ على القاسمي في زمنه واليوم أناس من قصيري النظر بعض الاجتهادات والأقوال التي تخالف منهج السلف كدفاعه عن الجهم بن صفوان في كتابه (تاريخ الجهمية)، وكذلك ثنائه على ابن عربي، وميله للتقريب مع الشيعة والتهوين من شأنهم، ومسائل أخرى.
وبداية أقول لا شك أن القاسمي أخطأ في هذه المسائل، ولكن هل هذا يجعله دخيلا على السلفية، والسلفية منه براء!!
لماذا نفترض العصمة والكمال للبشر؟ القاسمي كغيره من العلماء يصيب ويخطئ، ومن المقرر أن الخطأ في المسائل العلمية والعملية مما يغفر للعلماء والمجتهدين، فلماذا التشنيع والنكال؟!
وحال القاسمي تقدم له الكثير من العذر والمسامحة على هذه الزلات، فهو قد نشأ على خلاف منهج السلف ثم تعرف عليه في وقت غربة وشدة، وثانيا مات شاباً لم يمتد به الحياة ليدرك خطأه في تلك المسائل، وكان في وقت لا زالت فيه كثير من المخطوطات التي تبين الصواب والحق غير متوفرة، وأخيراً فإن هذه المسائل لم تكن عمدة منهجه ولا هي مما قام طلابه بنشرها بل طويت ولم تجد من يحملها وينشرها.
وأظن أن نفسية القاسمي التي عانت من الاضطهاد السياسي في الحقبة الحميدية جعلته يتعاطف مع جهم والجعد بوصفه مثقفا مضطهدا كحال القاسمي ضد الوالي خالد القسري الظالم!! وأما تساهله مع الشيعة فكان بسبب طمعه في محاولة جمع كلمة الأمة الإسلامية المشتتة ضد خصومها الذين يقضمون أطرافها كل يوم، ولنتذكر أنه كان يناقش في كتابة "نقد النصائح الكافية" بعض شيعة حضرموت المقيمين في أندونيسيا، وكان هذا مسلك رشيد رضا، ولكن ظهر فيما بعد لرشيد رضا أنه لا أمل من الشيعة وتقريبهم فنبذهم، فيما لم يمتد العمر بالقاسمي!
وفاته:
توفي رحمه الله تعالي في 23 جمادى الأولى 1332هـ الموافق 18/4/1914م، وكان عمره 49 عاماً، وذلك بعد مرض استمر معه عدة أشهر، ودفن في مقبرة الباب الصغير، وكانت جنازته حافلة جداً، ونعاه أهل العلم في دمشق وبيروت ومصر والعراق. وأكتفي بتعزية العلامة السيد محمود شكري الألوسي للسيد رشيد رضا بوفاة القاسمي، والذي كتب إليه يقول: (أما بعد؛ فقد نعت إلينا صحف البلاد الشامية وفاة العلامة السيد جمال الدين القاسمي قدّس الله روحه الزكية، فأمضّ ذلك الخبر قلبي وأفض لبّي، وجرح فؤادي وطرد رقادي.... وحيث كان المشار إليه من أعزة أحبابكم، وخُلّص أصفيائكم، مع ما كان عليه من الفضل الوافر، والأدب الباهر، والورع الظاهر، والنسب الطاهر، والذب عن الشرع المبين، وقوة الإيمان واليقين، ومناضلة الحائدين والملحدين، وأنه حسبما اعترف له الموافق والمخالف: أحيا به الله الشريعة والهدى وأقام فيه شعائر الإسلام ... هذا مع أسفي عليه كل الأسف، وتصاعد أنفاسي بمزيد اللهف، وقد جرت عليه من العيون عيون، فإنّا لله وإنا إليه راجعون).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ

{م: البيان }
ـــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الدين, الشام, القاسمي, جمال, علامة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع علامة الشام جمال الدين القاسمي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
جمال الدين آقوش الشمسي صابرة شذرات إسلامية 0 02-01-2016 02:27 PM
صمت الأغلبية الصامتة في الأردن علامة الرضا أم علامة السخط! // بقلم ** د انيس خصاونة ** ابو الطيب مقالات أردنية 0 11-18-2013 02:08 AM
صوَر إنسانية من الحيَاة اليومية والأسرية في بلاد الشام خلال الألف الأول قبل الميلاد Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 06-05-2013 09:53 AM
جلال الدين محمد الاكبر [عدو الاسلام] Eng.Jordan رواق الثقافة 0 01-11-2013 09:23 PM
المحاصيل الزراعية في بلاد الشام خلال العصر العباسي ومظاهر ازدهارها Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 04-20-2012 09:29 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:53 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59