#1  
قديم 02-19-2012, 12:03 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الإغواء بالعولمة .. ألكسندر بانارين


ألكسندر بانارين




الإغواء بالعولمة


ترجمة
عياد عيد




الكتاب في المرفقات
منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق 2005






العنوان الأصلي










Александр Панарин

ИСКУШЕНИЕ ГЛОБАЛИЗМОМ

ЭКСМО

"Алгоритм "

Москва 2003


--------------------------





ألكسندر بانارين


في 25 أيلول من عام 2003 رحل عن هذه الدنيا ألكسندر سيرغييفيتش بانارين الفيلسوف الروسي البارز وعالم السياسة ورئيس قسم العلوم السياسية النظرية في كلية الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية الشهيرة.
ولد ألكسندر بانارين في 26 كانون الأول من عام 1940 في منطقة دونيتسك (أوكرانيا), وأنهى عام 1966 كلية الفلسفة في جامعة موسكو, ثم الدراسات العليا في الاختصاص نفسه عام 1971. رأس منذ عام 1984 قسم الفلسفة الاجتماعية في معهد الفلسفة في أكاديمية العلوم الروسية, ثم صار منذ عام 1992 بروفسوراً في كلية الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية, ومن ثم صار رئيساً لقسم العلوم السياسية في الكلية ابتداءً من عام 1993. لقد بقي ألكسندر بانارين زمناً طويلاً محروماً من إمكان العمل بكامل طاقته في الحقل العلمي, ولم تتكشف موهبته كعالم وكاتب إلا في التسعينات, حين وضع سلسلة من البحوث العلمية (المونوغراف) التي كرسها لدراسة العمليات الحضارية العولمية ودراسة التماثل الحضاري الروسي. من بين هذه الأعمال: كتاب فلسفة السياسة (1996), وكتاب ثأر التاريخ: المبادرة الروسية الإستراتيجية للقرن الواحد والعشرين (1998), الذي منح جائزة لومونوسوف من الدرجة الثانية؛ وكتاب المثقفون الروس في الحربين العالميتين وفي ثورات القرن العشرين
(1998)؛ وكتاب التنبؤ السياسي العولمي في ظروف عدم الاستقرار الإستراتيجي (1999), وكتاب روسيا في دورات التاريخ العالمي (1999)؛ وكتاب البديل الروسي (2000)؛ وكتاب الإغواء بالعولمة (2000)؛ وكتاب الحضارة الأرثوذوكسية في العالم العولمي (2001).

منح بانارين عام 2002 جائزة سولجينيتسين, واختير عضواً فاعلاً في أكاديمية العلوم الإنسانية, وأكاديمية العلوم السياسية, وعضواً في أكاديمية العلوم في نيويورك.


المقدمة


محتالو «الأممية الجديدة» ونصَّابوها.


"العولمة" حالياً هي الكلمة الأكثر حداثة في الفكر الليبرالي المتقدم. مع أننا سنذهل من ابتذالها إذا ما محصنا محتواها الموضوعي الذي ترمز إليه. في الواقع, كتب الباحثون منذ بداية القرن التاسع عشر عن الفضاء العالمي الواحد, المتكوِّن بفضل حضارة السوق التبادلية. لقد انقلب ظهور آلة النسيج الميكانيكية في إنكلترا إفلاساً على ملايين النساجين في الهند, وصار بزوغ الفكرة الجمهورية في فرنسا يقوّض عروش الممالك الشرقية, أما في روسيا فألهم بزوغها حركة الديسمبريين([1]).
فما الذي أضافته الحقبة المعاصرة من وجهة النظر هذه؟ بضعة معايير كمية وحسب: ازدادت على نحو غير مسبوق سرعة التواصل واتسع نطاقه, شاملاً المجال المعلوماتي. مهما أذهلت مخيلتنا ثورة المعلوماتية المعاصرة فإنها لم تضف سوى القليل إلى جوهر مفهوم حضارة التبادل العالمية. لقد تبين عند الاختبار أن الإثارة العلمية النابعة من إنجازات الثورة العلمية التقنية المعاصرة تافهة جداً مقارنة بذلك الإحساس بالانقلاب الجذري الذي خالج متتبعي الحداثة الأوروبية الوليدة.
سوف نحصل على نتيجة مغايرة تماماً إذا ما حاولنا تقويم جديدِ العولمةِ من الجانب الذاتي([2]) الآخر, الذي يمس الأركان الثقافية والأخلاقية والسياسية في حضارتنا. سيتكشف لنا هنا أننا نتعامل, باسم العولمة المعاصرة, مع شكل جديد من العدمية يبحث لنفسه عن تبرئات في ما يسمى نظريات موضوعية.
الأمر المكتوم هو أن جانب العولمة الحميمي ينحصر في موقف التخلي المنهجي عن المصالح والمعايير والتقاليد المحلية كلها. وإذا كان فضاء الدولة – القومية ما فوق الإثني الموحَّد قد وقف في فجر الحداثة في وجه المصالح الإقطاعية الضيقة في مرحلة تشكل القوميات الأوروبية الكبرى, فإن هذه الدولة نفسها قد انحطت الآن لتصير حاملة للمصالح الضيقة.
من الذي جعلها تنحط؟ إنها النخب المعاصرة – الاقتصادية والسياسية والفكرية. أن تكون من النخبة اليوم, وأن تحقق ذاتك على أنك منها فهذا معناه أن تجعل نفسك في حلٍّ من المصالح والآمال الوطنية. إن الأمر يستحق أن نتمعن في معنى النخبة الجديد هذا. كانت الشعوب من قبل تضع أفضل آمالها على نخبها الوطنية. كانت النخبة خلاصة التجربة الشعبية, والمعبرة عن إرادة الأمة وسعيها نحو المستقبل الأفضل. لقد تجسد كل ما وعدوا الشعوب به من تقدم وتنوير في نشاط النخب الوطنية. أما الآن, في عصر العولمة, فأن تكون نخبة فهذا معناه, في الحقيقة, العضوية في أممية سرّية ما غير مرتبطة قط بالمصالح الوطنية المحلية.
إن النخب المعاصرة هي عبارة عن شيء شبيه بنادٍ دولي مغلق ذي أخلاق فئوية لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالأخلاق السياسية والأهلية العادية, التي تلزم الفرد بخدمة بلده وشعبه ودولته. وبما أن هذا من المستبعد أن يعجب الشعوب, فإن إيديولوجية العولمة المعاصرة تضم, حتماً, مفاهيم مستورة, وتتصف بباطنية تعيد إلى الذاكرة في بعض جوانبها تعاليم الطوائف الغنوصية([3]) الغابرة. وللغنوصية العولمية وجهان. يعكس جانبها الخارجي كليشيهات عصر الحداثة السابقة كلها - أي التقدم والرخاء العام وحقوق الإنسان, أما الجانب الداخلي المعبَّر عنه بلغة النخبة السرية, والمفهومة من قبل المتنورين فقط, والتي ستنكشف لاحقاً, فهو قادر على التسبب بتشويش حقيقي للوعي.
في الواقع, ومع أول نظرة يتبين أن غالبية المكتسبات الجماهيرية في عصر الحداثة العظيم لا تتفق مع منطق العولمة. هذا يخص في المقام الأول مفهوم الديمقراطية المقدس, أو سيادة الشعب السياسية. تعني الديمقراطية أن ينفِّذ وظيفةَ السلطة أولئك الذين انتخبهم الشعب في أثناء تعبيره الحر عن إرادته. والمنتخَبون من قبله ملزمون بأن ينفِّذوا إرادته وأن يخضعوا لرقابته خضوعاً كلياً. وعلم سياسة العولمة لا يمت إلى هذا بأية صلة. فهو يفترض أن مراكز السلطة ومراكز اتخاذ القرار الحالية لا تقيم وزناً لتوصيات الناخبين المحليين وتعبر عن الاستراتيجيات المتوافق عليها بين التروستات([4]) الدولية - الاقتصادية والسياسية.
لقد وضع عصرُ العولمة النخبَ الوطنية في منتصف المسافة بين شعوبها ومراكز السلطة العالمية. مع التأكيد على أن منحى التبدلات محدد تماماً: فبقدر ما تنمو نظريات العولمة يقل أكثر فأكثر إنصات النخب الوطنية السياسية والاقتصادية إلى صوت ناخبيها, وتربط نفسها أكثر فأكثر بقرارات الأممية الجديدة المتخذة من وراء ظهر الشعوب. يخيل لنا أن الأخلاق والمنطق المعتاد يفرضان أن تشرح النخب هذا الأمر للناخب, معلنةً إعلاناً مباشراً أنها ما عادت تحتاج إلى خدماته, لكنها, عوضاً عن ذلك, تستمر في التزلف إليه كما من قبل, مسمية إياه صاحب السيادة السياسية, ومنبع المشروعية الديمقراطية للسلطة.
على هذا النحو, تتكون أخلاق مزدوجة, ولغة مزدوجة. قسم من المصطلحات الموروثة عن المرحلة الليبرالية الكلاسيكية, ليس له الآن عملياً سوى أن يلعب دوراً احتيالياً لتنويم يقظة الشعوب الأهلية, والقسم الآخر يُنظَّم في صف مواز للقسم الأول, ويعبر عن الواقع الجديد, الذي يعتبرون أن من المفيد إخفاؤه عنا. يكفي أن نقابل بين هذين الصفين حتى ينكشف على الفور عدم توافقهما المشئوم.
امتاز عهد التنوير الكلاسيكي بوعي مختلف تماماً, فلم يكن يعرف المعايير المزدوجة, والأخلاق المزدوجة, ولم يخف اكتشافاته عن الجماهير. بل على العكس, كانت جهود ذلك العصر كلها, وحماسته كلها, موجهة كي تكون منجزات النخبة المتنورة في متناول الجميع بأسرع وقت ممكن. لقد دُفن في أيامنا هذه الانفتاح النبيل لعصر التنوير على يد كهنة العولمة, الذين شيدوا غنوصيتهم الباطنية, مموهين إياها جيداً عن أعين غير المتنورين. لقد قدم العصر الكلاسيكي منوِّرين عظماء, بينما ينجب عصرنا محتالين ونصابين عظماء. والاحتيال على الأغبياء وغير المتنورين أسهل؛ لهذا تطوى في عصر العولمة برامج التنوير الجماهيري بحجة أنها "ليست مربحة" اقتصادياً.
وكما ينتج مما قلناه أعلاه فإن عصر العولمة من الناحية السياسية هو عصر الإقطاعية الجديدة: إنه يدفن الديمقراطية بمعناها المباشر كتعبير عن السيادة السياسية للشعب, الذي ينتخب سلطته ويراقبها, ويستبدل بهذه الديمقراطية سلطة وجهاء دوليين.
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/user/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image002.gif[/IMG]
غير أن منطق العولمة الاقتصادي غير مختلف أيضاً في نكوصه عن الحداثة باتجاه السلفية القروسطية.
تعني الحداثة في المجال الاقتصادي الانتقال من اقتصاد إعادة التوزيع الإقطاعي (الشهير بـ "الربح بالانتزاع") إلى الاقتصاد الإنتاجي لمستثمري السوق. وواضح أن النظريات الاقتصادية التقليدية لا تولي المقدمات السياسية والسوسيوثقافية لهذا التحول الإيجابي الاهتمام الكافي. فالاقتصاد القروسطي بالمعنى المعروف لم يكن قومياً, وإنما "عولمياً": لقد قام من جهة على التوزيع العسكري - الإقطاعي للثروات بين الأقوياء والضعفاء, بين المنتصرين والمهزومين؛ وقام من جهة أخرى على مهنة ديسبورة([5]) المرابين الجشعة, التي تتعامل بعدمية مع المصالح والتقاليد والأخلاق المحلية.
لم تستبدل النقلة البروتستانتية, التي قال عنها ويبر([6]) وأتباعه الكثير, بالنزعات التلذذية([7]) لدى ثقاة الإقطاعيين, الذين اختلسوا غصباً وعلى نحو لا مسؤول الثروات المكتسبة, نمطَ التقشف والتوفير والمراكمة وحسب, وهي لم تؤمم الدين وحسب ("من يملك الأرض يسود دينه") – بل أممت الاقتصاد أيضاً, منتزعة إياه من أيدي المرابين عديمي الوطن, والذين انتهكوا المصالح المحلية. إن ما سمي في ما بعد علاقات الشراكة, كانت مقدماته هي احترام الذات القومية والمسئولية الوطنية التي اتصف بها أصحاب رؤوس الأموال.
لم يكن من الجائز الاستخفاف بأبناء الوطن على أنهم "هذا " الشعب المستباح, لقد وَلَّد احترام أولئك المواطنين, باعتبارهم حاملين للكرامة الوطنية العامة, أخلاقاً اقتصادية واستثمارية جديدة, مرتبطة بعلاقات الشراكة متبادلة المنفعة, ووَلَّد شعارَ "المستهلك على حق دوماً". إن السيادة الاقتصادية للمستهلك, الذي يقرر في السوق الحرة لأي سلعة يعطي الأفضلية, تشبه بشيء ما السيادة السياسية للناخب الذي يعبر عن خياره في السوق السياسية الحرة. لقد ولِد رجالات الاقتصاد الوطنيون المنتجون من الجذور ذاتها التي ولد منها الديمقراطيون الوطنيون العظام - من الأخلاق الوطنية, التي تستوجب احترام أبناء البلد, وتحرم الاستخفاف بهم باعتبارهم "أناساً غيرَ مكتملي الإنسانية".
فما الذي نراه اليوم؟ إننا نرى كيف تترافق أخلاق العولمة الجديدة, التي ولَّدت اغتراب النُخَبْ الاقتصادية المنهجي عن المصالح القومية المحلية, مع نهوض المراباة الجديدة. وكما في عهد المراباة السابق يجري اليوم فصل رأس المال المموِّل عن الاقتصاد المنتج. لقد طغى ربح المضاربات والمراباة على الربح الاستثماري السابق, والدليل على هذا سيادة البنك على المؤسسة, وسيادة ديسبورة المضاربين الماليين الدولية على الأمم, التي فقدت استقلالها الاقتصادي.
هل يمكن اعتبار هذه النظريات عفوية تماماً و"موضوعية", وأنها موجودة بغض النظر عن إرادة البشر ووعيهم؟
لو كان الأمر كذلك حقاً, لفقدت أي معنى كل هذه الدعاية الجنونية من قبل العولميين ضد الدولة الوطنية وسيادتها. يسعى "العولميون" بكل ما في وسعهم إلى إضعاف الدولة الوطنية والتشهير بها – تحديداً, لأنها تقف عائقاً في وجه جشعهم العولمي. وكل الإجراءات المرتبطة بفصل الربح الإنتاجي عن ربح المضاربات المعاد توزيعه, مع منع الإخراج الحر لرأس المال المتكون محلياً إلى الخارج مدانة من قبلهم باسم المبادئ الليبرالية العظيمة التي تنص على عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
في أثناء ذلك تغيب عن أذهاننا حقيقة أن الليبرالية الكلاسيكية كانت تطلب عدم التدخل هذا لأن الدول الخارجة من عهود القرون الوسطى عكست في العلاقات الاقتصادية مبدأ القوة الإقطاعي غير المنسجم مع مبدأ الشراكة المتساوية. لقد حمت البيروقراطية الإقطاعية اقتصادياً غير الموهوبين, لكن المتمتعين بالقوة العسكرية والسياسية, ووقفت عائقاً في وجه الإبداع الاقتصادي الحر لطبقة المستثمرين. لقد رفع كلاسيكيو الليبرالية أصواتهم المستاءة ضد هذه البيروقراطية.
أما "ليبراليو" العولمة المعاصرون, فعلى العكس. إنهم لا يحمون المستثمرين, بل المضاربين بالأموال, وينسفون مواقع المنتجين الحقيقيين بناة الثروة الوطنية. إنهم يحمون امتيازات حيتان الاقتصاد الدوليين المدعومين من مراكز سلطة العولمة السياسية والاقتصادية الحالمة بالسيادة المطلقة على العالم والمسماة اليوم عالم القطب الواحد.
حان الوقت كي نعرف أن المباراة الدولية الاقتصادية الطبيعية وعلاقات الشراكة تنمو انطلاقاً من الاقتصاد المنتج ذي الطابع الوطني. إذا صار العالم على هيئة مجموعة من الاقتصاديات الوطنية ذات السيادة فإنه سيكون أقرب كثيراً إلى المثُل الليبرالية – مثُل علاقات المنافسة الحرة والشراكة, منه إذا ما خنق العولميون فيه أجنة الاقتصاديات الوطنية الجديدة عبر حرية إخراج رؤوس الأموال وتفكيك الصناعات المحلية.
يجري بجهود العولميين, وخلافاً لخطابياتهم الليبرالية, تركيب عالم الاحتكار الاقتصادي والسياسي, الذي يستبدل فيه بعملية التنافس الطبيعي والشراكة الفصلُ بين عرق السادة وعرق المنبوذين, بين "المليار الذهبي" والأطراف فاقدة الحقوق.
يمكننا اليوم على قاعدة السيادة الوطنية وحدها تشكيل الاقتصاد المنتج, المؤسَّس على الربح الاستثماري الطبيعي. إن تقويض دعائم الدولة الوطنية باعتبارها ذاتاً تدافع عن الاقتصاد المحلي ضد الأطماع المالية الدولية, سيؤدي حتماً إلى الأولغرشية والاحتكار على النطاق العالمي, وإلى الاستعاضة عن نظام التعددية الاقتصادية والسياسية بالشمولية العولمية لقطب العالم الأوحد.
ليست المشكلة, بالتالي, في إن كنا نعترف بواقعية العالم المعاصر المترابط, الذي يستحيل الانعزال فيه؛ بل تكمن المشكلة في أننا كيف نريد أن نرى هذا العالم العولمي المتشابك بمصائره بكثافة, وذا المشاكل الواحدة: هل نريد أن نراه متعدداً حقاً, ومرتكزاً على شراكة بين أصحاب سيادة يحترمون أنفسهم, أم خاضعاً لأصحاب السلطة العالمية الجشعين, وغير الخاضعين لرقابة, والذين يفرضون إرادتهم على الشعوب.
الأمر الأهم هو أن إستراتيجية هؤلاء الأخيرين العولمية تنضوي على حقيقة لا حداثاوية كامنة وغير متوقعة, ومرتبطة بالسعي إلى تدمير براعم الحداثة والتنوير في البلدان غير المنتمية إلى عداد الدول النُخَبْ.


معايير «المجتمع المتحضر» المزدوجة


تهدد العولمة, المرتكزة على ديسبورة الحيتان المالية الدولية التي لا وطن لها, العالمَ بالتراجع: في الاقتصاد – عن المبدأ الإنتاجي نحو مبدأ المضاربة وإعادة التوزيع, ومبدأ المراباة؛ وفي السياسة عن منظومة التوازن الدولي التعددية, المرتكزة على مبدأ السيادة الوطنية, نحو الإملاءات الوقحة من قبل أصحاب "القطبية الأحادية".
مع الاقتراب من تحليل النظريات المعاصرة للعولمة, ينبغي علينا أن ننجز جهوداً منهجية, تتعارض في بعض النواحي مع وصايا العلم في الفترة الكلاسيكية. تتلخص العقيدة المنهجية الكلاسيكية في أن علينا أن نكشف عن الموضوعي وراء الذاتي, وعن القوانين والنظريات القطعية وراء نزوات الإرادات المختلفة. على هذا الأساس تحديداً ترعرعت جبرية الزمن الحديث العلمية, التي أعلنت أن كل ما هو واقعي هو عقلاني, وكل ما يحدث هو مقدر ومبرم.
مهمتنا اليوم هي أن نجرد النوايا الشريرة للبربرية العولمية الجديدة من "أدلة براءتها" الموضوعية والقطعية, والكشف عن الهوائية الذاتية والنفعية هناك, حيث يدعوننا إلى أن نرى القدرية وحدها. للنظام العولمي, كما لكل شيء في العالم, أشكال وسيناريوهات بديلة؛ وتفرض هيبتنا الإنسانية علينا أن ندافع قدر المستطاع عن أكثرها إنسانية وأعدلها, وتفرض مواجهةَ حرص البربرية الجديدة, الساعية إلى امتلاك زمام العالم تحت شعار "لا قدر آخر".
الأهم من وجهة النظر الإيديولوجية هو إظهار العلاقة الحقيقية بين إيديولوجيا العولمة المتكونة وقيم الحداثة الكلاسيكية - أي الديمقراطية والمساواة والتقدم. لا زال العولميون المعاصرون يقسمون بهذه القيم, لكن لغتهم السرية الموجهة لجماعتهم, ترمز منذ زمن إلى شيء آخر: إنها ترمز إلى تمييز عنصري جديد وشامل بين الشعوب المقسومة إلى شعوب مختارة وشعوب منبوذة, إلى مركز قوي وأطراف لا حقوق لها. لقد غدا الإنجاز الأعظم للمذهب الإنساني المسيحي التنويري – أي مبدأ المصير الإنساني الواحد والمستقبل الواحد - مرفوضاً من قِبل العولميين المعاصرين, الذين, احتكاماً إلى كل شيء, يملؤهم الحزم على بناء المستقبل من أجل المختارين (من أجل "المليار الذهبي") من وراء ظهر الغالبية العالمثالثية المخدوعة والمحرومة.
وبما أن روسيا تدخل اليوم, وبكل وضوح, في عداد هذه الأغلبية مع كامل الفضاء ما بعد السوفييتي, فأمام من غيرنا, نحن الروس, تنتصب مهمة التفكير ببدائل تلك العولمة, التي تشاد اليوم على حسابنا وضدنا. لقد حرم العولميون دول العالم الثالث التقليدية من كل الآفاق التي هي, من حيث المبدأ, من حق كل إنسان على الأرض.
أما ما يخص "العالم الثاني" السابق, فإنهم لا يحرمونه فقط من كل ما هو ممكن من حيث المبدأ, بل ومن كل ما تم إنجازه على أرض الواقع عبر التحديث والتصنيع والتنوير الجماهيري. إنهم لا يحرموننا فقط من آفاق التحديث اللاحق, بل من كل ما أحرزناه في المراحل السابقة. ويعلنون لنا في أثناء ذلك أن تحولنا إلى طرف عالمي لا حقوق له ومستغَل ومهمته خدمة المختارين المحظوظين بالتقدم, محتوم بقوانين العولمة القطعية, ولا بديل عن ذلك. إننا بكشفنا, خلافاً لكل ما يقال, عن تلك البدائل المتلاشية في الواقع, لا ندافع وحسب عن كرامتنا الإنسانية وحقنا بالمستقبل, بل ندافع بذلك أيضاً عن المنجزات العظيمة لعصر الحداثة الرائع, من غير أن نسمح للعنصرية الجديدة, التي تعتنق منذ الآن المبدأ المريب "التقدم من أجل القلة", بأن تسلبها.
لا يمكن أن يبقى لدى أحد أدنى شك في أن التقدم إذا ما تحول فعلاً إلى احتكار الأقلية المختارة, سيُدفن عاجلاً أم آجلاً من قبل الأغلبية الساخطة. وسيكون على الحداثة إما أن تؤكد في الظروف الجديدة طابعها العمومي المتاح فعلاً لشعوب الأرض قاطبةً, أو أن تُدفن تحت أمواج البربرية الجديدة وصراع الكل مع الكل.
لزاماً علينا الاعتراف بأننا نتعامل اليوم مع أحابيل العولمة غير النزيهة والزاحفة نحونا بمعاييرها المزدوجة. كان العولميون الأصلاء ورثةَ الكلاسيكية الإنسانية الذين تحدثوا عن مشروع التنوير الواحد للجميع, أو عن المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي الواحد, وباختصار – عن الأفق التاريخي الواحد للإنسانية جمعاء, مترقية معاً من مرتبةٍ من مراتب التطور إلى مرتبةٍ جديدة. إن أفق الإنسانية التاريخي الواحد هذا هو تحديداً ما يشجبه العولميون المعاصرون بصراحة متزايدة أكثر فأكثر. يستعمل بعضهم في أثناء ذلك الحجج البيئية: موارد الأرض لا تكفي الجميع, وإذا ما اتبعت فعلاً أغلبية الكوكب المتخلفة معايير حياة الأقلية المتطورة جداً فإن هذا الكوكب سينفجر من فرط الإجهاد البيئي.
ويتسلح الآخرون باستقصاءات الأنثروبولوجيا الثقافية, ويُصرّون على تميُّز العقلية الأوربية النوعي عن العقليات الأخرى مجتمعة؛ ويبدو التقدم من وجهة النظر هذه لا كنتاج للتطور الإنساني العام بل كاحتكار أزلي للحضارة الغربية, التي ولَّدت مثل هذه الظاهرة الفذة والفريدة وغير المتاحة للآخرين. عند ذلك, تتكشف لنا على شكل جرعات العنصرية الباطنية, التي أخفت وجهها حتى وقت قريب. إنهم يقنعوننا بأن الإنسانية لا تستطيع السير عبر طرق عديدة نحو المستقبل الواحد - لا تقود إليه سوى تلك الطريق المرسومة من أجل الحضارة الغربية. أما ممثلو الحضارات والثقافات الأخرى فما هم, في أحسن الأحوال, سوى مقلدين للتطور الغربي, وليسوا مبدعين له. مع العلم أن هذا التقليد, كما يؤكدون, يعطي نتائج أسوأ فأسوأ, وفي النهاية لا مفر من أن تتكشف تلك الحقيقة المثبطة, وهي أن الشذوذ الطبيعي للعقليات غير الغربية (وجميع العقليات غير الغربية تعتبر شاذة) لا يمكن علاجه بالتنوير. مهما نورت أولئك "السكان الأصليين([8])" فإن الموروث سيطغى, وستذهب جهود المبشرين هباء.
سيقول القارئ: رحماكم, فما الذي بقي إذن من فلسفة عالم العولمة؟ وهنا بيت القصيد, إذ ينتج من هذا أن "العولمة" أحادية الجانب ومتحيزة على نحو يثير الشك. إن العولميين الغربيين ووكالاتهم الكومبرادورية في الأماكن مهتمون بأمر وحيد: أن تصير موارد العالم كلها "عولمية" في أسرع وقت, أي متاحة "للمليار الذهبي". وما يسمونه "المجتمع المفتوح" العولمي أو السوق العولمية, يعني تحريم "إخفاء" الموارد الوطنية عن المنافسة العولمية, التي تهدف في النهاية إلى نقل هذه الموارد من أيدي أولئك الذين يستغلونها استغلالاً سيئاً إلى أيدي من هم أكثر مهارة. طبعاً, إن نطاق أولئك المهرة اليوم محدد بالمنتصرين في المباراة الاقتصادية العالمية (إنهم, هم أنفسهم, المنتصرون في "الحرب الباردة").
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/user/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image002.gif[/IMG]
أما عولميونا فيُبرِزون من كل محتوى العولمة المدرَك جانباً واحداً هو وضع موارد الكوكب في متناول المتوجين في المباراة العالمية. إنهم يتحدثون, بهذا الخصوص, عن ما يسمى منظومة التعاملات أو منظومة التحويل الحر. وهذا كله يعني وضع إجراءات تؤمن, أولاً, الحد الأقصى من القدرة على تحريك موارد الأرض, وثانياً تأمين نقلها من غير عوائق من حوزة "غير المؤهلين" نحو السوق العالمية – إلى "المؤهلين", ومن حوزة "غير المهرة" إلى "المهرة".
يجري أولاً فصل رأس المال الممول عن رأس المال الصناعي, الذي يرون خصوصيته السلفية في بقائه مرتبطاً بالمحلية وبالفضاء القومي. وثانياً - إضعاف السيادات الوطنية الشامل, فتفقد المقدرة على حماية مواردها من نهب الحيتان الدوليين, وحماية اقتصادها الوطني من الدمار من قبل العولميين المضاربين بالأموال. لقد أطلق العولميون حالياً دعاية لم يسبق لها مثيل من حيث القوة في سعيهم إلى التشهير بالسيادات الوطنية, التي تعيق إعادة توزيع الموارد العولمي لصالح الأقلية "الماهرة", وأحد أهم اتجاهات هذه الدعاية هو فضح عدم الفاعلية الاقتصادية الجوهرية والمخاطر البيئية لبرامج التنمية الوطنية في المناطق غير الواقعة ضمن نطاق "المليار الذهبي". لقد وضعت موضوعة التبذير البيئي المدمر وتبديد المواد الأولية والطاقة من قبل الاقتصاديات الوطنية اللاغربية في مركز الاهتمام باعتبارها بدهية من بدهيات العولمة المعاصرة, التي لا يمكن أن يشكك بها أحد سوى الرجعيين الظلاميين وسيئي النية.
الاتجاه الثاني مرتبط في الواقع بعدم الأهلية السياسية للسيادات الوطنية. إذ يجري الترويج لموضوعة عدم المقدرة الجوهرية للحكومات الوطنية, التي لا تبحث لها عن غطاء لدى أصحاب منظومة القطبية الأحادية, على معالجة الفوضى السياسية - الإرهاب والحروب الإثنية والأصولية الدينية المتطرفة والتطرف القومي. كلما كان تعداد أولئك المتطرفين جميعاً أوضح ازداد استياء "المجتمع العولمي" من كل أولئك غير القادرين على فرض النظام المتحضر لديهم, ويمنعون غيرهم, من فعل ذلك.
صار يتضح أن من مصلحة "العولميين", وبغض النظر عن خطابيتهم, تقويض النظام في فضاء الدول الوطنية. ومن هنا تنبع متناقضات "المجتمع المتحضر" المدهشة ومعاييره المزدوجة, التي نشهدها اليوم. ونتساءل ما الذي يمكن أن يكون أشد ذمامة من السلفية العشائرية لزعامة "الاستقلاليين" الطموحة, التي حطمت الفضاءات القومية الضخمة الموحدة – وهي الشرط المختبَر من أجل التقدم - واستبدلت بها سيادات إثنية ممسوخة؟
بهذا تصير مفهومة غرائب العولميين الذين لا يقفون أمام شيء في سبيل تحطيم منجزات الحداثة نهائياً على صعيد الأمم الكبيرة لصالح الانفصالية القبلية والتطرف, هذا التحطيم الذي نلحظه في الفضاء ما بعد السوفييتي وفي يوغسلافيا, والذي سرعان ما سنلحظه, على الأرجح, في الصين و الهند. يتلخص الأمر في أن الأمم الموحدة الضخمة قادرة على أن تصير عائقاً في وجه الساعين إلى السلطة العولمية على العالم؛ لهذا تحديداً يتحالفون مع ناشطي الانفصاليين الإثنيين ويمولونهم.
وهكذا, نقترب من فهم جوهر العولمة الحالية الحقيقي. إن أصحابها في الغرب - هم في الحقيقة أولئك الريفيون الإثنيون, الذين يرفضون مستقبل البشرية؛ وعولمتهم لا تسير أبعد من الاستحواذ على موارد الأرض من قبل الأقلية "المختارة" الجشعة, التي تعتبر سواها من البشر غير جديرين بهذه الثروة.
الموارد العولمية من أجل مصالح الأقلية الأنانية الضيقة – هذه هي العقيدة الحقيقية لـ " العولمة", التي يدور الحديث عنها هنا.

[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/user/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image004.gif[/IMG]



(1) - الديسمبريون هم ثوار روس نبلاء, أعلنوا في ديسمبر (كانون الأول) من عام 1825 انتفاضة ضد الحكم القيصري المطلق وضد نظام القنانة, وكانوا أساساً من الضباط الذين شاركوا في الحرب الوطنية عام 1812 وفي غزوات الجيش الروسي الخارجية بين عامي 1813 و1815 (المترجم).

([2]( - التمييز بالخط الغامق والمائل هنا ولاحقاً كما ورد في الأصل (المترجم).

([3]( - الغنوصية تيار ديني فلسفي في المسيحية المبكرة في القرنين الأول والثاني, وهي مزيج من العقائد الدينية والفلسفة اليونانية المثالية والديانات الشرقية, كما أنها اتجاه باطني لا يكشف إلا على أتباعه (المترجم).

([4]( - التروست شكل من الاحتكارات الرأسمالية, وهو اتحاد بين مستثمرين يتميز بأن المؤسسات المنضمة إليه تفقد كلياً استقلالها الإنتاجي والتجاري والحقوقي, وتخضع لإدارة واحدة (المترجم).

([5]( - الديسبورة معناها اليهود المشتتون في أرجاء العالم بعد السبي البابلي, وتستخدم في اللغات المعاصرة بمعنى الجالية, أو ذلك الجزء من الشعب الذي يعيش خارج وطنه, وقد ارتأينا الإبقاء على مصطلح الديسبورة لما يحمله من دلالة رمزية أصلية في سياق هذا الكتاب (المترجم).

([6]( - ماكس ويبر (1864 - 1920) عالم اجتماع ومؤرخ واقتصادي ومحام ألماني. استند منهجه المتأثر بالغنوصية الكانتية الجديدة, إلى فكرة رسم حدود المعرفة الخبيرة والقيم, وإلى مقولة "المفاهيم" التي يفسَّر بها الفعل الاجتماعي من خلال تأويل الدوافع الذاتية, وإلى نظرية الأنماط المثالية – الهياكل التجريدية والعشوائية للعملية التاريخية. عارض الماركسية وأرجع العامل الحاسم في نشوء الرأسمالية الأوربية الغربية إلى البروتستانتية. مؤلفاته الأساسية: "التاريخ الزراعي للعالم القديم", الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية", "الاقتصاد والمجتمع" (المترجم).

([7]( - نسبة إلى مذهب اللذة (المترجم).

([8]( - يستخدم المؤلف مصطلح السكان الأصليين هنا ولاحقاً للدلالة على النظرة الفوقية التي تنظر بها النخب إلى شعوبها, كما كان ينظر مكتشفو القارة الأمريكية إلى سكانها الأصليين (المترجم).






المصدر: ملتقى شذرات

الملفات المرفقة
نوع الملف: zip 260-a-a.zip‏ (420.8 كيلوبايت, المشاهدات 13)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-19-2012, 12:05 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

«منظمو العالم» السِّريون


يتعلق الجديد الجوهري الآخر لما بعد الحداثة بمسألة وحدة الزمن التاريخي. لقد مسَّ انقلابُ المسيحية الأنتولوجي المرتبط بوضع لوحة جديدة للعالم, فهمَ الزمن التاريخي بالدرجة الأولى. كان فهم الوثنية للعالم يمتاز بالتصورات الطبيعاوية([1]), حول دورات الزمن, التي تذكر بتبدل أوقات السنة أو أطوار الحياة (الولادة ثم النضج ثم الشيخوخة ثم الموت).
ارتبط الانقلاب التوحيدي بالإيمان بأن أهداف الكون محددة بالإله الواحد. عندئذ يكتسب التاريخ اتجاهاً صارماً: ينشأ شعاع([2]) الزمن الممتد من نقطة الانطلاق باتجاه أفق ما منشود – هو النهاية المولدة للفكر.
لقد جادل التنوير المسيحية في كل شيء, لكنه حافظ على أحكامها المتعلقة بفكرة الزمن التاريخي السائر في الاتجاه المعطى. لقد آبت مشاريع التنوير الإيديولوجية كلها, على هذا النحو أو ذاك, إلى المشروع المسيحي الوحيد – إلى امتلاك البشرية لأرض الميعاد, التي هي منتهى الترحال التاريخي المستمر منذ آلاف السنين.
ويشاء القدر أن يمحص, بالدرجة الأولى, الفلاسفة الفرنسيون مسألة شرعية نهاية التاريخ في عصرنا ما بعد الديني. إن هذا التوجه سرعان ما صار محدداً بحوار الثقافة الفرنسية مع الثقافة الروسية. وتفسِّر إلى حد كبير الجديةُ المأساوية لهذه الأخيرة, التي لا تسمح بتحويل الأفكار الكبيرة إلى لعبة أو محض تقليد, حقيقةً أن الروس تحديداً هم أول من جرّب حقاً تحويل أكثر مشاريع الحداثة الأوربية إغراءً إلى واقع. وإذا كانت الفلسفة الأنكلو – أمريكية, بحكم بعدها النسبي عن الحماسات القارية, لا تزال قادرة على وصف "الاشتراكية الواقعية" بالطرق المصلحية الثقافاوية على أنها ظاهرة إثنية روسية غريبة, فما بال الفرنسيين, الذين لمسوا جيداً قَرَابة مقاصد التنوير العامة, يفعلون ذلك.


وبالأخص, لم يحاول جان بول سارتر أن يفسر دراما الاشتراكية الواقعية إثنياً – باعتبارها دراما روسية, بل أنتولوجياً – باعتبارها صراع أفكار جوهري مع الواقع الخامل, الذي يشوه نقاء المعنى الابتدائي. فمع "موت الله" يحدث لدى سارتر أيضاً موت العالم المادي الخارجي: لن يلوح فيه منذ الآن المعنى السامي, لن تكون فيه أي ضمانات أنتولوجية. يصير العالم الخارجي عديم المعنى, لكن هذا لا يعد تبرئة لنا على تقاعسنا عن الفعل. إن واجب الإنسان هو أن ينفذ مشروعه في تنظيم الحياة بغض النظر عن فقدان الضمانات الميتافيزيقية السامية, المرتبطة بمشاركة النظام الحياتي ذاته في آمالنا المضيئة.
إن تبرير أفكارنا ليس محدداً أنتولوجياً, بل أنثروبولوجيا: إننا نظل أوفياء لمشروعنا ليس لأن بنية الحياة ذاتها تعدنا بإمكان تنفيذه, بل لكي ننقذ أرواحنا في العالم الذي لا معنى له. إن سارتر يلقي بهذا تحديداً الضوء على مرض "الأصولية الإيديولوجية" الغامض, والمميز للفرنسيين والروس معاً, والذي يصاب به الملحدون أكثر من المؤمنين. فالمؤمن يستطيع الاتكال على الله, ولا يستعجل سير التاريخ, لكن الملحد لم يوهب هذه السكينة - من هنا قلقه الذي يميزه, و"قلة صبر قلبه".
المرة الأخيرة التي شعر بها الفرنسيون بـ "قلة صبر القلب" الثورية هذه كانت في أيار – حزيران من عام 1968 - في أثناء العصيان الشبابي الشهير. حينذاك قرر الطلاب العصاة, بالطريقة السارترية الخالصة, أن لا يقيموا وزناً للواقعية طبقاً لمقولة "كونوا واقعيين وطالبوا بالمستحيل!". لقد أعرضوا عن الاقتصاد السياسي كنظرية ثورية, فهو يستند إلى المقدمات الموضوعية للثورة, وبذلك يعتدي على حرية إبداعنا في التاريخ.
في مقدورنا أن نشجب قدر ما نشاء طوباوية الطلبة السوربونيين المنتفضين وتطرفهم, لكن يبدو اليوم واضحاً أن هذه كانت آخر محاولة للحفاظ على عموميات الحداثة بضم "اليساريين الجدد" في العالم كله في وحدة اندفاع ما بعد شيوعي وما بعد رأسمالي. لقد رأى "اليساريون الجدد" في الشرق والغرب عالماً واحداً قابعاً في الشر, عالماَ يعاني من العيوب ذاتها, عالماً شمولياً وتنكيلياً. وقد اختلفت أشكال هذا التنكيل في الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي كما يختلف الإرهاب المباشر عن غسيل الأدمغة الاحتيالي. لكن الهدف نفسه: نزع التوق إلى المشاريع التحررية العظيمة منا, وإجبارنا على احترام الوضع الراهن.
حين كان الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي يخوضان "الحرب الباردة" في ما بينهما, كان "اليساريون الجدد" ممتلئين عزماً على فض هذا النزال المزيف بين شكلي "المجتمع الشمولي الواحد" والاستعاضة عنه بمشروع جديد واحد ما بعد شمولي. كان في سعي "اليساريين الجدد" هذا طاقة ذلك النبض التحرري السابق, الذي ميز ولادة الحداثة.
في تلك اللحظة ذاتها جاءت ردة الفعل ما بعد الحداثوية. لقد وضعت من جهة إستراتيجية التفسير الثقافي الأنثروبولوجي أو الإثنوغرافي لـ "الشيوعية الروسية". وقرر التضامن المتبادل المناهض للاستبداد بين محبي الحرية في الغرب والشرق تغيير ذلك الاحتقار المتكبر من قِبل الغرب الموفق نحو الشرق الشيوعي الغريب و"المنحوس على نحو عجيب". ولهذا كانوا يحتاجون إلى الإعلان عن شمولية المرض القومي الروسي.
من جهة أخرى قامت الإستراتيجية على وجوب تبريد, مرة وإلى الأبد, الخيال الثوري عموماً لواضعي أي مشاريع تحررية كانت, وذلك بالإعلان عن تقادم التخطيط التاريخي من حيث المبدأ. إذا كنا تحدثنا سابقاً عن التدمير ما بعد الحداثوي للفضاء الكبير الواحد, المستبدل بـ "موزاييك الثقافات" فإن حديثنا هنا يدور عن تحطيم الزمن التاريخي الكبير, الذي يربط بداية الدراما الإنسانية ونهايتها على الأرض.
لقد أبقت الوجودية الملحدة, وهي آخر تعبير للحداثة عن الذات, على فرصة لمحبي الحرية العنيدين الخارجين من التنوير, حتى بعد إعلانها أن العالم الخارجي لا معنى له. لقد طلبت منهم الإخلاص لمشروعهم بغض النظر عن صمت العالم الخارجي بعد موت الله الذي ما عاد يزرع الأمل فينا.
صار أتباع ما بعد الحداثة يعلنون الآن أن أي مشروع تاريخي هو حقد معاصر واعتداد بالنفس. وها نحن نحصل, عوضاً عن التاريخ المطعون بمخطط عام هو مشروع التحرر الواحد, على عدد لا حصر له من "التواريخ" ذات الاتجاهات المختلفة, والتي تعتبر في الواقع بنت يومها وتنتهي بانتهائه. منذ الآن صار من حق الإنسان أن يعيش لحظته من غير أن يثقل كاهله بالأهداف الكبيرة. هنا, خصوصاً, تكمن الليبرالية الجديدة, التي تحرر الإنسان من عبء المسؤولية التاريخية وما يرتبط بها من تضحية. يؤكد ليبراليو ما بعد الحداثة على تساوي أي فترات زمنية, ويقترحون علينا أن نغرق في موزاييكهم, تاركين جانباً كل اهتمام بمعنى الزمن الاجتماعي واتجاهه.
لقد تبين أن محاولة تحطيم الشعاع التاريخي في الثقافة هذه غير بريئة قط. في الواقع: ينبغي في هذه الحال الاعتراف بأن الممارسات كلها متساوية في القيمة ومتساوية في احتمال الوقوع. وتصير مفاهيم المنحط والسامي, المتحضر والبربري, المنتخب والبدائي غير ملائمة.
لقد حافظ شعاع الزمن التقدمي على نحو مخفي, كما تبين, على شفرته الأخلاقية التقليدية: تموضع المشكوك به اجتماعياً وأخلاقياً "في الأسفل", في الماضي, و بمقدار التقدم إلى الأعلى أُفسح المجال أكثر فأكثر للأعدل والأكثر كمالاً. أما بعد الوقاية ما بعد الحداثوية فيختفي في الثقافة الأسفل والأعلى. وسرعان ما سينعكس هذا في ممارساتنا العملية الاجتماعية والثقافية اليومية.
ليس مصادفة أن أتباع ما بعد الحداثة يثيرون اشمئزازنا على نحو منهجي من الخطاب الأخلاقي, ومن المحاكمات التقويمية. من هنا تأتي المتناقضات المُغِمَّة للعصر الليبرالي الجديد: - الحكام الليبراليون يتعاونون مع المافيات؛ المفكرون الليبراليون المستخفون بـ "تعاليم ماركس المتوحشة", الذي انتمى, في نهاية الأمر, إلى رعيل مفكري الحداثة العظام, يقبلون من غير أن يرف لهم جفن المسلسلات التلفزيونية الأشد وحشية وأفلام الرعب والأفلام السوداء والإباحية معبودة الجماهير. كنا حتى أمس أكثر تسلحاً بالمعايير التي تسمح لنا بالتفريق بين بضائع الاستهلاك الواسع والكلاسيكية السامية, بين القيم الأصيلة والمزيَّفات متدنية الجودة, بين الإلهام الإبداعي و"نشوة" المخدرات. وما بعد الحداثة تحطم هذه المعايير.
إن إحدى أكثر مفارقات ما بعد الحداثة إثارة للانطباعات هي أن النخبة العالمية "مواطني العالم" تتمتع بنفسية السّرية الطائفية, المنتزعة من المجتمع الطبيعي وكل نظراته الطبيعية وأخلاقه وفكره السليم. إن طائفيي ما بعد الحداثة يشعرون بأنفسهم مجرِّبين حرين في المجال الثقافي والأخلاقي, وغير مقيدين بقواعد "معيدي بناء" العالم. إنهم "سريون حقيقيون في المجال الأخلاقي, ويستمتعون بحريتهم من الأخلاق الإنسانية العادية. وقد وصف دوستويفسكي([3]) نفسية هذه السرية في "الشياطين": " قال شاتوف لستافروغين: - هل حقاً أنك أكدت أنك لا تعرف الفرق في الجمال بين أي شيء شهواني ووحشي وبين مأثرة ما حتى لو كانت التضحية بالحياة من أجل البشرية؟"([4])
ويكشف لنا دوستويفسكي بكلمات شاتوف سر هذه النسبية المعرفية الحدية: "لقد أضعتَ الفرق بين الشر والخير, لهذا ما عدت تعرف شعبك"([5]).
إننا نتلمس هنا, كما أظن, إحدى النقاط المؤلمة لما بعد الحداثة العولمية, وإحدى عقدها العصبية. تعكس ما بعد الحداثة انقلاباً حقيقياً في الوضع السوسيوثقافي لفئة المثقفين (الإنتلجنسيا) وانقلاباً في صورة العالم لديها. لعبت فئة المثقفين في عصر الحداثة الكلاسيكية دور الكنيسة في العالم ما بعد الديني: كانت إلى جانب "الفقراء بالروح" ضد أسياد ذلك العالم, وكان إبداعها يحضِّر أرض ميعاد جديدة لأولئك الذين حرمهم الواقع اليومي من الأمل. في هذا تنعكس البينية الخاصة لعصر الحداثة, التي انتفضت ضد المسيحية لكنها ورثت حماسة الانبعاث لدى أتقيائها.
تعبِّر ما بعد الحداثة عن الطور الختامي التالي للتحول من الدين إلى الدنيا: الإبداع الذهني المحروم من أرض الميعاد, والذي لا يقيم وزناً إلا لمنطق الظروف الحاضرة وللحال الاجتماعية. صارت الإنتلجنسيا تنظر منذ الآن إلى واجباتها الاجتماعية والأخلاقية تجاه "الفقراء بالروح" على أنها نير أخلاقي لا يطاق, شبيه تماماً بالنير الإكليريكي في فجر الحداثة. لقد انتهى جدل المفكرين مع الأغنياء الذي استمر مائتي عام؛ وبدأ جدلهم مع الفقراء.
إن هذا الحقد, الذي يبدو ببساطة مَرَضياً, وهذا الاحتقار للفقراء والمظلومين وغير القابلين للتكيف يدخل في الواقع ضمن منطق التحول من الدين إلى الدنيا: إن خدمة المعوزين هي الدين الأخير الذي يقف على طريق تكوُّن الثقافة البراغماتية العلمانية الخالصة. لكن في لحظة هذا "التحرر من الخدمة" ذاتها تكتشف ثقافة النخبة الجديدة بطلانها التام, وتكتشف "مقصديتها". في الحقيقة إن جوهر هذا التفكيك ما بعد الحداثوي كله, وهذا الإنكار للكليات العضوية كله وهذا السعي إلى التفكيك واللصق والموزاييكية المخدرة كله ليس سوى إستراتيجية للتحرر من كل ما هو "محلي" لصالح كل ما هو "عولمي". النظرة التقنية باعتبارها منهجاً لتفكيك كل ما هو كلٌّ عضوي, والعولمة باعتبارها ابتعاداً منهجياً عن "المحلي", واللاأخلاق باعتبارها تحرراً من الواجب والخدمة الاجتماعيين هي ما ينتج عن القفزة ما بعد الحداثوية الحالية.
يرتبط بهذا أيضاً إنكار التاريخ والمذهب التاريخي. الخطاب الحداثوي عن المستقبل هو الشكل المعلمن لعدم قبول بَرَد الأرض بكل ما فيه من خطايا ونقائص. بالتضاد مع هذا يرفض ما بعد الحداثويين باحتقار كل "طوباويات المستقبل", مفضلين الانحلال في الحاضر. وإذا كان مختارو المستقبل هم "الفقراء بالروح" والمذلون والمهانون, فإن مختاري الحاضر هم, من غير شك, الأكثر قدرة على التكيُّف. إن مواجهة الحاضر بالمستقبل, والواقعية البراغماتية بالطوباويات, والقادرين على التكيف بغير القادرين على التكيف وبسيئي الطالع هي تحديداً مقصد الوعي ما بعد الحداثوي. تبرز العولمة على شكل مواجهة بين الأقلية المتمتعة بأعلى درجات سهولة الحركة, والأغلبية الخاملة, المقيدة بـ "حدود المكان". أن تكون نخبة اليوم فهذا معناه أن تكون رحالة لا يعترف بالتقييدات والقوانين المحلية.
باختصار, يتكشف عالم العولمة كعالم امتيازات ونخب. العولمة هي الامتياز, الذي تم عقد العزم على الدفاع عنه, بغض النظر عن أي حواجز. أما الحواجز فهي: الدولة الوطنية وأخلاق المسؤولية والخدمة الاجتماعية السابقة, وأخيراً, الشعب نفسه, الذي ليس لديه سوى بلد واحد هو بلده.
على هذا النحو تبدلت العلاقات بين الشعب والتقدم في أفق ما بعد الحداثة تبدلاً حاسماً. في السابق كانت خدمة التقدم تعني خدمة الشعب؛ أما الآن فيتعارض التقدم في "تجليه العولمي" مع الشعوب. وها نحن نصل إلى التعريف الجديد للعولمة: إنها عملية التحول إلى أممية النخب من وراء ظهر الشعوب, التي ما عادت تستطيع الاتكال على هذه النخب. كان التقدم يقاس في إطار الحداثة الكلاسيكية بمعايير الفضاء الكبير والزمن التاريخي الكبير - لقد مس مصائر الجماهير. أما العولمة الحالية فتعتبر طفيلية: إنها تسير على حساب تحطيم هذا الفضاء والزمن الكبيرين. تستحوذ النخب على العالم كله - متحررة من الروابط الوطنية والواجبات التي تقيدها. إنهم لا يستطيعون فعل ذلك إلا بالتدمير المنهجي للفضاءات والسيادات الوطنية. لكن تفكيك الدول الوطنية الكبيرة الواحدة يحرم الشعوب من الوطن الكبير الواحد, ويستبدل به مناطق محلية اسمية وإقليمية.
وهكذا فإن ثمن شراء فضاء النخبة العولمي هو تحطيم فضاءات الجماهير القومية الكبيرة. وكلما تعولمت النخب, "تجزَّأت" الجماهير, غارقةً في الانعزالية السلفية المحلية البدائية وفي العشائرية والاقتصاد العيني. لكن إذا كانت العولمة لعبةً ذات محصلة معدومة, وامتيازاً جديداً للأقلية النخبوية ثمنه تخلف الأغلبية وإرجاعها إلى قروسطية جديدة وإلى الانعزالية والبربرية, فإن من الضروري التفكير بالبدائل.
والبدائل تظهر حين نكشف من وراء النزعات التي تبدو "مبرمة" و"موضوعية" الإدعاءات الذاتية – الذاتية جداً - لأولئك الذين يستعجلون "خصخصة" التقدم, محولين إياه إلى امتياز. من غير فضح هذا الجانب الذاتي أي من غير الكشف عن "الأفكار" النفعية من وراء القوانين القطعية – يستحيل التأكيد على حقنا في خلق واقع أفضل من ذلك الذي يفرضونه علينا الآن.
هذا لا يعني أننا نقر "بنظرية المؤامرة". فهذه النظرية في التفسير العادي تقود إلى تأكيد المآرب الجاهزة نسبياً لأقليات تسعى إلى فرض سيناريوهاتها على العالم. أما في حقيقة الأمر فإن مجموعات مختلفة من هذه الأقلية تكشف تدريجاً أيضاً عن إمكاناتها و "تحررها" من الوسط المحيط – ويتم هذا في كثير من الأحيان بأشكال تذهلها هي ذاتها. لقد صارت العولمة كذلك محصلةً للانكشافات التدريجية لمجموعات المجتمع المختلفة صاحبة الامتيازات ومحصلة أيضاً لكشفها عن ذاتها؛ إن الأثر الإجمالي لهذه الانكشافات هو وحده الذي أعطانا بالمحصلة ظاهرة العولمة المتطفلة, المحفوفة بتخلف المجتمع المعاصر.
الصفة العامة لهذه المجموعات كلها, التي تفتح العالم العولمي من أجل نفسها في المقام الأول - هي نفسية الابتعاد عن وسطها القومي الخاص, والانقطاع عن تقاليده ومعاييره وقوانينه. بنتيجة ذلك صارت هذه المجموعات تتناسخ في ما بينها مشكلة مجمل العولمة الأممية. وكلما صار التعاون في ما بينها أوثق اكتسبت عملية العولمة طابعاً أشد تغلغلاً وصارت حظوظ الإبقاء على الرقابة الديمقراطية من الأسفل أقل. تعتبر عولمة الامتيازات هذه, التي تقوم على حساب تخلف الشعوب وتسطيح حياتها, التحدي الرئيسي في القرن الحادي والعشرين.
الرد المناسب على هذا التحدي يرتبط بالرقابة الديمقراطية على عملية العولمة. لقد تكونت ديمقراطيات الزمن الجديد على المستوى القومي؛ وهي تؤكد على الأشكال المختلفة للرقابة الشعبية على نشاط النخب صاحبة الامتيازات. اليوم, تبتعد النخب عن أشكال الرقابة الموجودة, "مهاجرة" إلى الأوساط فوق القومية. الرد على هذا ينبغي أن يكون بعولمة الديمقراطية ذاتها. إن على المنظومة الديمقراطية الجديدة أن تركز على مسائل الرقابة والاتصال المعاكس المتعلقة بالممارسات التي تقوم بها وتطورها النخب المعاصرة الأشد أمميةً. فالديمقراطية ليست بناءً تأملياً بل هي رد محدد على مشاكل محددة.
[IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/user/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image002.gif[/IMG]
سنعالج هذا التحديد الجديد للديمقراطية المرتبط بتحديات العولمة في القسم الثاني من هذا العمل. أما القسم الأول فمخصص للتطور العولمي للمجموعات المختلفة في المجتمع المعاصر, الساعية إلى إضفاء الشكل المواتي لها على عملية العولمة. وكلما صارت جهود هذه المجموعات أشد نفعية وغير مسئولة اجتماعياً اكتسب رد الفعل الجماهيري على العولمة شكلاً أكثر حدةً وصار أبعد عن التوقع. أما أن رد الفعل هذا قادم لا محالة فهذا أمر لا شك فيه, بغض النظر عن جهود ما بعد الحداثويين كلها الهادفة إلى القضاء حتى على القدرة على تكوين مشاريع بديلة مناهضة للاستبداد.
تنحصر المشكلة في أي هيئة ستكون لردة الفعل - ولا يستبعد أن تتخذ شكل العصيان على عملية العولمة بحد ذاتها. إن هذا يتهدد البشرية بالعودة إلى البربرية. ينبغي ربط البديل العملي بالجهود الموجهة إلى دمقرطة عملية العولمة أي إلى تحويلها من لعبة ذات حصيلة معدومة, تصب في مصلحة أصحاب الامتيازات, إلى لعبة ذات حصيلة إيجابية, تكون الأغلبية فيها هي الرابحة.
يمكن التنبؤ بتقلبات الصراع المقبل فقط إذا ما بينّا لأنفسنا طبيعة وإمكانات النخب الساعية اليوم إلى "خصخصة " عملية العولمة. إن هذه النخب تشعر اليوم بأنها عميلة سرية للعولمة, ترتب أمورها من وراء ظهر الشعوب. إن نفسية هذه السرية تذكر بالشيطنة, الموصوفة من قبل دوستويفسكي في روايته الشهيرة. قد لا تكون البراغماتية الصفيقة والنفعية الصفتين الأشد خطراً في الشيطنة العولمية الحالية. بل إن ما يدعو إلى القلق الأكبر هو التكبر الشيطاني لأولئك السريين, الذين يتوهمون أنهم فوق البشر ولهم الحق في إقامة الاختبارات على الشعوب, وحتى على العالم كله.

بمقدار ازدياد " تباعدهم" عن الوسط الوطني, ينمو إحساسهم بـ "التبخر الحر" فوق العالم, فوق كل الذين "يعجون" في الأسفل. يحطم العولميون كل أشكال التنظيم القومي الذاتي المتكونة كي يبنوا من جديد في "المكان الفارغ" نظامهم العولمي. إن الثمن الذي يشترون به حريتهم هو التفكيك الشامل وزعزعة الأسس, وإقامة الفوضى العالمية كرمى لـ "نظامهم" الأوحد الذي يرونه هم.
"النظام من الفوضى", "إدارة الفوضى" – هذه أحدث المفردات اللغوية النخبوية ما بعد الحداثوية. لقد كشف دوستويفسكي عن خطر جدلية "منظمي العالم" السّريين الخطرة هذه. "... لأي هدف ارتُكب هذا الكم من القتل والمشاجرات والسفالات؟.. من أجل تفكيك المجتمع والبدايات كلها تفكيكاً منظماً؛ من أجل إحباط الجميع وطهي عصيدة من كل شيء, ثم توضع الأيدي فجاءة على المجتمع المضعضع بذلك, والمريض والمترهل, والمستهتر والكافر, لكن المتعطش أبداً إلى فكرة قائدة ما وإلى الحفاظ على ذاته..."([6])
زعزعة الاستقرار الشاملة هي اللعبة الإستراتيجية ما بعد الحداثوية لعملاء العولمة, الذين قرروا بالاتكال على أنفسهم إدارة الفوضى. بيد أن حضارتنا, لا بل كوكبنا كله, هشان جداً أمام مثل هذه الألعاب غير المسئولة. إن "التفكيك" الشامل قد لا ينتهي بإعادة بناء ناجحة. يفسَّر الحزم الأولي "لأنصار التفكيك", على ما بدا, برِهاناتهم على حرية الهجرة من الأماكن الخطرة إلى أماكن أكثر أمناً. لكن ليس للشعوب مكان تهاجر إليه. حتى أن العالم المعاصر يستحق أن يسمى عولمياً, لأنه صار ضيقاً على نحو غير عادي و مترابطاً في ما بينه على نحو غير مسبوق.
من خصائص وجودنا المؤسفة أن قدرة الفوضى على الانتشار العولمي تفوق بكثير قدرة النظام المبني عقلانياً على الانتشار. لهذا تعتبر حماية الأغلبية من التجارب العولمية غير المسئولة للنخب العالمية الجديدة المهمة الأكثر إلحاحاً في القريب العاجل.
إن مفهوم "التطور الراسخ", الذي لاقى صدى عالمياً بعد مؤتمر هيئة الأمم المتحدة حول البيئة والتطور (ريو دو جانيرو, 1992), يكتشف اليوم منحى غير متوقع. لقد تبين أن أحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار العولمي مرتبط بازدياد "تباعد" مراكز القرارات الدولية عن كل ما يسمى اليوم "الأغلبية الصامتة".
كلما اختبرَت النخبُ الدوليةُ الجديدةُ, "المبتعدةُ" عن الأغلبية وعن آمالها ومصالحها, بجرأة أكبر في مجالات الحياة المعاصرة المختلفة زاد عدم استقرار العالم المعاصر. ينبغي إقناع هؤلاء "المفككين" بالحجج الدامغة. تكفي في بعض الأحوال مساعدة النخب الجديدة على إدراكٍ أفضل لمصالحها الخاصة بعيدة المدى, وفي أحوال أخرى ينبغي مواجهتها بإرادة الأغلبية المنظمة في أشكال ديمقراطية. ويحاول كاتب هذه السطور الإشارة إلى الأشكال الممكنة لهذه الحال أو تلك.





([1]( - نسبة إلى مذهب الطبيعية (الناتوراليزم) (المترجم).

([2]( - بالمعنى الفيزيائي (المترجم).

([3]( - فيودور دوستويفسكي (1822 – 1881) الكاتب الروسي الكبير, الذي أنهى المدرسة الهندسية المتوسطة, ثم التحق بالجيش, وبعد أن تخرج برتبة ضابط استقال وتفرغ للعمل الأدبي. استهوته في بادئ الأمر الفكرة الاشتراكية, وانخرط في إحدى حلقات الاشتراكيين, فقبض عليه وحكم عليه بالإعدام, لكن العفو القيصري أدركه وهو على المقصلة, واستبدل الحكم بالنفي. تحول في ما بعد حتى صار يعتبر أن منبع العدمية والليبرالية والإجرام والإدمان هو الإشتراكية لأنها تنكر وجود الله. أشهر أعماله "الجريمة والعقاب" , الأخوة كرامازوف", "الأبله" (المترجم).

([4]( - فيودور دوستويفسكي. الأعمال الكاملة. في اثني عشر جزءاً. الجزء الثامن. موسكو 1982 ص 248.

([5]( - المرجع السابق. ص 249.

([6]( - ميخائيل دوستويفسكي, الأعمال الكاملة. الجزء 9, ص 207.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-19-2012, 12:06 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي


القسم الأول: عملاء العولمة



... لكن ذلك الذي حرك البلدان
كلها مديراً العرائس
ومرسلاً الضباب الإنساني
هو الذي عرف ما فعل

ألكسندر بلوك.

الفصل الأول :


السلطة الخامسة أو عولمة الدوائر الخاصة


الحزب "الداخلي" والحزب "الخارجي"

فلنكن دقيقين منذ البداية: إننا نقصد هنا العولمة بتجليها الذاتي – كسياسة ونفسية, وباعتبارها أحد أحكام الإرادة والوعي, المتعارضين تعارضاً موجَّهاً مع أساليب الناس المعتادة في تقرير مصائرهم. يتولد هذا الحكم على أرضية التباعد الفكري والسوسيوثقافي لمجموعات اجتماعية محددة عن وسط السكان الأصليين المحيط بها. بالتالي, لا ينبغي البحث عن جذور العولمة بين طليعيي التقدم, الذين يرثون أحكام التنوير العمومية, المرتبطة باختراقات البشرية الاقتصادية والتقنية العلمية والسوسيوثقافية نحو المستقبل. الوعي التنويري مفتوح للعالم, وهو قريب نوعاً ما إلى الوعي التبشيري, الذي يميزه السعي بأسرع وقت ممكن إلى إشراك الأغلبية غير المتنورة بإيحاءات الديانة الجديدة. تتسم التقاليد التنويرية بالطابع التشجيعي – التفاؤلي للعلاقة مع الأغلبية, التي ستنهل غداً من تراث التقدم وتغنيه باعتبارها صاحبة حق فيه.
لقد عانت فكرة التقدم في أحيان غير نادرة من عدم التسامح وحتى من التعصب, وكانت مستعدة لاستخدام العنف بحق "مخربي" التقدم. أما ما كان متنافياً معها تنافياً مطلقاً فهو العنجهية العنصرية, والإحساس بالذات كطائفة مختارين, يفترق مصيرهم افتراقاً حاسماً عن مصير الأغلبية. لقد تطورت الحضارة متخطية مطبات الانقسام والطائفية, التي سقطت فيها, دورياً, بضع مجموعات من المجتمع صاحبة الامتيازات.
المعايير هنا أحادية البعد: فحيث نتحدث عن عموميات التقدم, المؤهلة كي تصير ملكية عامة, تسود روح الانفتاح والوضوح التنويري والتفاؤل. أما حيث يدور الكلام على الاحتكار, الذي تتمنى الأقلية الحفاظ عليه سراً عن "هذا" البلد و"هذا" الشعب فتسود أخلاق المجتمعات السرية بمقاييسها وحساباتها الغامضة.
إن مأساة التقدم الأوربي التاريخية نابعة من أن الكثير من مقاصده وآماله المتعلقة بغالبية السكان تفقد انفتاحها التنويري ما إن تتخطى حدود المنطقة الأوربية. لقد تعرضت الحركة الاشتراكية الديمقراطية لهذه المأساة تحديداً حين صدرت إلى روسيا. لقد توجهت الاشتراكية الديمقراطية الأوربية, بكل شطحاتها الطوباوية, إلى غالبية السكان البروليتارية. أما في روسيا فتحولت إلى أحكام الأقلية المتعارضة مع غالبية البلاد الفلاحية.
حين يصفون الحركة السرية الاشتراكية الديمقراطية (حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي), ثم الشيوعية البلشفية في روسيا فإنهم, عادة, يفسرون وضعها السري بغياب الحقوق والحريات السياسية في النظام القيصري. لكن هذه السرية في روسيا لم تبرز كمعيار رقابي – بوليسي خصوصي, استدعاه وضع المنع والتنكيل وحسب. بل اتخذت طابع المعيار السوسيوثقافي, المتجلّي كحاجز بين "الأممية البروليتارية" في روسيا وجماهير السكان الأصليين الفلاحية, الغريبة عنها بروحها وأهدافها وتقاليدها.
على هذا الأساس نشأت ظاهرة البلشفية – حزب الأقلية, المستعدة لمحاربة شعبها, باعتباره "حثالة" التقدم العالمي, والبحث عن الخلفاء ليس في بلادها, بل على الأغلب وسط "الأخوان بالطبقة" في أوربا.
حين استولى البلاشفة على السلطة في روسيا, تكون في الحال, في إطار النظام الجديد, وبطريقة كيستلرية([1]) خالصة, حزبان, داخلي وخارجي. ضم الحزب "الخارجي" من يسمون سيور نقل الحركة (المنظمات ذات الطابع "الوسيط", التي وصلت بين الحزب والسكان غير الحزبيين) وجهاز الدعاية الهائل, الذي يمزج باطنية التعاليم البلشفية بالشعارات المفهومة من قِبل الجميع, والمتعلقة بأحكام الأخلاق التنويرية الإنجازية. أما الحزب "الداخلي" فضم فئة المتنورين الضيقة, الذين اتخذوا قرارهم وراء الكواليس, والذين حافظوا بالكامل على نفسية (سيكولوجية) السرية الطائفية, التي اعتادت عدم الثقة ببلادها المقطونة, لسوء الحظ, بشعب " ليس ذاك الشعب", بشعب غير بروليتاري.
لقد شكلت ما تسمى "الدوائر" العمودَ الفقري لهذا الحزب "الداخلي". وكان التناقض, الذي ميز هذه الدوائر, في المزج بين السلطة غير المحدودة عملياً والمحافظة الشاملة على السرية خوفاً من بلادها التي تنتمي إليها. والخوف طبقاً لقوانين علم النفس يتحول, لا محالة, إلى حقد وانتقام. كلما ازدادت المسافة الفاصلة بين عمل الحزب "الداخلي " السري عن حياة الشعب الطبيعية وعن عاداته الطبيعية اشتد الخوف, واشتدت رفيقة دربه – القسوة. لقد أرادت الأغلبية غير البروليتارية أن تمتلك أرضها وتعمل فيها باستقلالية, وكما ينبغي - غير أن كهنة التعاليم السامية اعتبروا ذلك تفاهة تجديفية من قبل أناس, نشأوا على "الماضي الملعون", وغير قادرين على السمو نحو حقائق الماركسية العليا. أراد الناس حياة طبيعية وأفراحاً طبيعية - لكن السرية الكهنوتية راقبت مقطبةً تفتح هذه الحياة, وهي على ثقة مسبقة بأنها ستثمر عساليج ستضطر إلى اقتلاعها بغير رحمة.
وكما كتب فلاديمير إيليتش لينين([2]), فإن الصراع البلشفي في روسيا يمر بمرحلتين: الأولى, وهي الأسهل بغض النظر عن قسوتها كلها, مرتبطة بـ "قمع مقاومة المستغِلين" – أي الإقطاعيين والبرجوازيين. والمرحلة الثانية, الأصعب كثيراً والأوسع نطاقاً مرتبطة بالصراع مع طبقة الفلاحين, التي تشكل غالبية الشعب. كان القادة البلشفيون في المرحلة الأولى لا يزالون يفكرون بالمعايير الكلاسيكية للماركسية. أما في المرحلة الثانية فاستوعبوا شيئاً فشيئاً المعايير الحضارية, المتعلقة بمسائل الحاجز السوسيوثقافي بين المشروع البروليتاري – الشيوعي المأخوذ عن أوربا وخصوصية روسيا باعتبارها قارّة حضارية متخلفة.
كان لعملية التصنيع البلشفية للبلاد, إضافة إلى الأهداف البراغماتية المعلنة, والموصفة بلغة التنوير المفهومة للجميع – التطور, الرفاهية, القدرة الدفاعية للبلاد, وما شابه – هدفاً رئيسياً خفياً آخر, هو إعادة طحن الحضارة المحلية في الأرحاء الحديدية لإعادة الهيكلة الصناعية, وتحطيم عضوية الحياة السابقة لصالح الميكانيكا الشاملة المنظمة عقلانياً. على هذا النحو لم يدرك الحزب "الداخلي" الفرق بين الأهداف السرية للطائفة صاحبة السلطة وآمال الأغلبية العادية, المرتبطة بالحياة اليومية المبتذلة وحسب, بل أدرك أيضاً وجود الحاجز الحضاري بين عضوية الحضارة الفلاحية والمجتمع "المنظم مثل معمل صناعي واحد" (فلاديمير إيليتش لينين).
فقط حين نستوضح هذا سنستطيع أن نفهم خلفية الإبادة الجماعية البلشفية وأبعادها غير المسبوقة. سيتضح الخطل البيِّن في المقولة الستالينية عن تسريع الصراع الطبقي بمقدار التقدم نحو الاشتراكية ما إن نفهم خلفية التحدي البلشفي الحضارية: لم يدر الحديث عن الحرب الطبقية ضد "حفنة المستغِلين" وحسب, بل عن الحرب ضد الحضارة المحليةأيضاً, ومع حاملة الذهنية القومية - طبقة الفلاحين, والمثقفين وكل الناس الذين وهِبوا ذاكرة ثقافية تاريخية قوية. لم يقلصوا الأغلبية الفلاحية في البلاد بالطرق المعتادة – التمدين والتصنيع - وحسب, بل وبطريقة الخلاص من المادة البشرية المشكوك بها عبر آلة الـ "غولاغ([3])".
لن نستطيع تقويم التطرف الحقيقي كله في فكر "السِّرية" البلشفية الحاكمة وفي سلوكها, وخصوصاً حزبها "الداخلي", ما لم ندرك انسلاخها عن روسيا على اعتبار أنها أرخبيل حضاري عتيق. يكفي أن نحلل المعايير التي تم وفاقاً لها تحديداً التخلص من إرث روسيا القديمة الثقافي عبر هيئات الرقابة البلشفية, كي نفهم أن الحديث لم يكن يدور عن الصراع الطبقي بقدر ما كان يدور عن تدمير نواة روسيا السوسيوثقافية باعتبارها حضارة خاصة. لقد أحس البلاشفة بأنفسهم أول الأمر, حين لم يكونوا قد فقدوا بعد الأمل بالثورة البروليتارية العالمية, "طابوراً خامساً" للبروليتاريا الغربية في روسيا, ثم " طابوراً خامساً" للاشتراكية في بلد فلاحيّ.
إذ نقوِّم آفاق هذه الأقلية الطائفية, يستحيل علينا الهروب من خيارين لا ثالث لهما: كان على الأقلية إما أن تتطبع في "هذا" البلد – أي التليُّن التدريجي في التعاليم الدوغمائية المتطرفة لصالح الظروف والخصوصيات المحلية, وإما البحث عن حليف قوي من الخارج, يمكن بمساعدته موازنة قوى الطليعة الحاكمة مع قوى المقاومة الحضارية المحلية.
ظلت الحكومة البلشفية, طوال الفترة التي اعتبِر فيها الغرب حلفاً ليبرالياً يسارياً, تمزج بين نقد الغرب البرجوازي والأحكام القديمة للأممية الاشتراكية والشيوعية. وكانت الموازنة دقيقة جداً: إذ كان يعوض انعدام الثقة بأغلبية سكان البلاد بالدعم الممنوح من قِبل الأوساط الاجتماعية الغربية الطليعية؛ بينما يعوّض النقص في ذلك الدعم نفسه بمحاولات نيل دعم إضافي من الأغلبية.
لكن الانقلاب الفاشي في أوربا غيَّر الوضع بحدة. واشتدت محاولات النظام البلشفي التطبع مع الوسط المحلي القومي (والأدق – الحضاري) على خلفية التحدي القادم من الجانب.
لقد استرجِعت فوراً, تقريباً, الكلمات التي كان يعتبرها الأمميون البروليتاريون الحانقون في الأمس كلمات فاحشة, وتجليات لعقيدة "الحرس الأبيض" كـ "الوطن", "الوطنية", "إرث الأجداد العظيم", "التقاليد الروسية القومية", وأدخلت في مخزون الإيديولوجية الرسمية. لكن بمقدار تطبع النظام الماركسي هذا في باطن الوسط القومي والتقاليد القومية صار المراقبون في الغرب ميالين أكثر فأكثر إلى مطابقة الشيوعية السوفييتية بالإمبريالية الروسية. لقد انقلب حلف النظام مع شعبه إلى ابتعاد جديد عن "الأوساط الاجتماعية الطليعية" الغربية.
ربما كان مصير النظام الشيوعي في روسيا سيسير على نحو مغاير لو قدر له, حقاً, أن يتشرعن – أي أن يتأقلم مع التقاليد القومية الثقافية ويرتقي معها ارتقاءً طبيعياً. لكن لن ننسى أن الأقلية البلشفية جاءت إلى السلطة نتيجة انقلاب غير شرعي, وعن طريق استخدامها المخادع لشعارات الآخرين (الإيسيريين – الاشتراكيين الثوريين), ومن ثم بنتيجة الحرب الأهلية الدموية. لقد حدد ذلك كله مسبقاً ارتيابها القاتل بشعبها, الذي لم تساو نفسها به قط.

لو كان هذا ابتعاداً عادياً للأغلبية صاحبة الامتياز - الحال الأنموذجية لأي مجتمع متمايز اجتماعياً - لما كان الوضع بهذه الصعوبة. لكن الحديث دار عن ميزة أشد إهلاكاً - عن نفسية (سيكولوجية) الأقلية الطائفية, التي لا تعيش حياة قومية عادية, بل وفاقاً "لكتاب" مكتوب في الخارج, ووفاقاً لتعاليم مستعارة. لم تكن تفصل مثل هذه الأقلية عن الأغلبية القومية حواجز الملكية وحدها - كانت تعاديها ذهنية الأغلبية وتقاليدها الثقافية, وكانت تخاف من يقظة ذاكرتها وكرامتها الوطنيتين. كانت هذه الأقلية تحتاج إلى تضامن حضاري من الغرب؛ وحين كانت تفقده كان الأفق يزداد ضبابية ويشتد الخوف من الوحدة. ينبغي القول إن السلطة, في ظروف "الحرب الباردة" التي قامت منذ نهاية الأربعينيات, صارت في الغرب الرأسمالي وفي الشرق الشيوعي مرتبطة أكثر فأكثر بوضع دولي معين. وهذا الوضع لم يكن اقتصادياً قط, بل مسَّ مسألة الثقة السياسية بالسكان.
مفارقات الديمقراطية

لقد مثل فعلياً أنموذجُ الديمقراطية الأمريكي, المتكوِّن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, ديمقراطيةَ الأقلية, التي كان حاملها الأنموذجي هو البروتستانتي الأبيض, صاحب الدار. كان على ما يسمى المشاركة السياسية
– أي أن تكون مسموع الرأي في عملية اتخاذ القرارات الاجتماعية الأهم -
أن تظل من نصيب الأقلية الميسورة حتى تظل الديمقراطية مستقرة.

اختصاراً, مفارقة الديمقراطية هي أنها تأسست على المشاركة السياسية من قبل أولئك الذين في مقدورهم أن لا يشاركوا بها, وأولئك الذين يناسبهم تماماً الوضع الراهن المتكون. وحين صار غير المحظوظين اجتماعياً, والمتذمرين يتقدمون لهذه المشاركة بدأ الاستقرار السياسي يتأرجح.
وجاءت "الحرب الباردة" في وقتها: ففي ظروفها حاذت الفئات الحاكمة على إخلاص المواطنين ليس بجعلهم يفتتنون بمثالها, بقدر ما حاذت عليه بإخافتهم من مثال الجانب الآخر. كانت عملية تحويل الجانب المعادي, الواقع في الطرف الآخر من "الستار الحديدي", إلى شيطان ضرورية ليس من أجل تبرير سباق التسلح فقط, بل من أجل استعراض كل أمام جماهيره أفضلية وضع هذه الجماهير مقارناً بأهوال الحكم الآخر. لقد أدار الجهاز الدعائي والأجهزة الأمنية في البلدان التي شاركت في "الحرب الباردة" لعبة إستراتيجية كبيرة, بأن أنشأت في آن معاً فزاعات دعائية لشعوبها.
ففي المعسكر الأول حاولوا نيل إخلاص الشعب باستثمار أسطورة "الفقر المطلق والنسبي" في الرأسمالية, وفي المعسكر الآخر باستثمار أسطورة العبودية الشيوعية. احتكاماً إلى معايير التنوير السامية ينبغي تقويم هذا على أنه تطاول على عموميات التقدم, التي آمن بها أناس الحقبة السابقة. لقد فقد التقدم أمام أعين الجميع ملامح الإله المسيحي, الذي منح وعده للشعوب كلها, وصار يكتسب أكثر فأكثر ملامح إله إسرائيل الغيور, الذي لم ينعم إلا على "أقربائه الإيديولوجيين", المنتمين إلى معسكره, والذي هدد بالطرد التام كل من ينتمي إلى المعسكر الآخر.
لقد جرت أمام أعين المعاصرين, الذين يذكرون الأزمنة الأكثر ليبراليةً, عملية تحويل مذهلة للفكر السياسي الاجتماعي إلى فكر سلفي في البلدان التي شاركت في هذه المواجهة العالمية. إذا كانت التقاليد الديمقراطية قد علمتنا الاشتغال أكثر بنقد حكوماتنا المحلية واجتثاث النقائص في ديارنا, فإن التقاليد الجديدة, المرتبطة بـ "الحرب الباردة" قد أوجبت البحث عن العيوب في معسكر العدو, وأوجبت استعراض الإخلاص التام كل في دياره. لقد قلبت عسكرة هذه الذهنية المتسلحة بالشك بالآخرين رأساً على عقب أغلب المبادئ والأحكام الديمقراطية. وبمقدار ما كانت الديمقراطية تصير جماهيرية, كانوا يفرضون عليها أن تصير عسكرية ومجندة لمواجهة العدو الخارجي. وقد خصَّ هذا في الغرب في المقام الأول الجمهورية الأمريكية, بعد أن صارت جمهورية إمبراطورية – وبعد أن صارت روما الجديدة المتحاربة مع قرطاجة.
استُخدم مبدأ التجنيد الخارجي هذا في الشرق على نحو لا يقل منهجية. لقد لعبت الجهتان معاً لعبة المواجهة المانوية([4]) المثيرة, التي تسمح بالتشهير بالمنتقدين الداخليين باعتبارهم "طابوراً خامساً" للطرف الآخر. وكلما طال زمن "الحرب الباردة" اكتسبت أكثر فأكثر طابع تواطؤ اللاعبين, المستخدمين عن قصد رهاب الوعي الدفاعي من أجل أن يضمن كلٌ استقرار نظامه.
لقد تكونت, فعلياً, على جانبي "الستار الحديدي" معاً, بالإضافة إلى الحزب "الخارجي" الذي يخوض الحوار مع الرأي العام, أحزاب "داخلية" مطلعة اطلاعاً أفضل على مكنون النزاع العولمي, وعلى الفوائد السياسية الداخلية المتأتية منه. مع مرور الزمن صارت لغتا الحزبين "الخارجي" و"الداخلي" أقل قابلية للترجمة المتبادلة. فالحزب "الخارجي" المنشغل بالتأثيرات الاستعراضية, يوبخ العدو الخارجي ويتملق لجمهوره الساذج موحياً له بالتصورات عن وضعه الذي يحسد عليه مقارناً بوضع السكان في الطرف الآخر. أما الحزب "الداخلي" فيزداد بعداً عن سذجه, مكتشفاً أكثر فأكثر الشبه بين هموم خصمه الرسمي السياسية وهمومه هو.
صارت الأحزاب "الداخلية" تتفهم أكثر فأكثر مقدمات الاستقرار السياسي الداخلي الخارجية العولمية, المرتبطة بعسكرة الحياة الاجتماعية والتفكير الصدامي, في الوقت الذي كانت فيه أحزاب العامة "الخارجية" تفكر ببدائية أكبر وبطريقة تقليدية أكثر. لقد أدت روح الابتكار المزيف لدى الأحزاب "الداخلية" و"فطنتها" إلى قيام تعارض متزايد بين هذه الأحزاب وأوسع الأوساط الاجتماعية في بلدانها, وقربتها على نحو ما غير ملحوظ ولا إرادي من عدوها – الحزب "الداخلي" في المعسكر المقابل. لقد شعر الشركاء في أثناء الحوار المتبادل في ما بينهم بأنهم محترفون حقيقيون في مواجهة سياسيي العامة الهواة.
من المسلّم به طبعاً أن ملاك الأحزاب "الداخلية" تشكَّل أساساً من المراكز الدماغية للأجهزة الأمنية. لقد كانت الأجهزة الأمنية في البلدان المشاركة في "الحرب الباردة" متجابهة في ما بينها, لكن ما كان لها إلا أن تلحظ أن الشبه في ما بينها من حيث "الحسبة الاحترافية" أكبر من الشبه بينها وبين الأوساط الاجتماعية في بلادها, هذه الأوساط الساذجة والمثقلة بحمل الأنماط الصارمة والأوهام. وصرنا نلحظ أكثر فأكثر حوادث يكون فيها إخفاء هذا الفعل الحساس أو ذاك عن الرأي العام المحلي أهم من إخفائه عن العدو, الذي كانت لديه مصاعبه الخاصة غير الهينة أيضاً مع محيطه الجاهل.
هكذا راحت تمتلئ حصَّالة الأسرار الاحترافية المشتركة غير المعلنة للأوساط الاجتماعية بناءً على اتفاق جنتلماني مشترك. لقد شيدت "الطليعة" في الأجهزة الأمنية مسرح اللامعقول الجديد الخاص بها. فما كان يعتبر سراً على أجهزة العدو الأمنية, كانوا يخفونه سراً عن مواطنيهم. وما كان مدمراً من وجهة نظر الأهداف العادية للسياسة الطبيعية, كان يمكن أن يستخدم كأداة نافعة على المستوى الباطني للسلطة السرية. ربما كان من المريح أكثر أن نسميها "السلطة الخامسة" – للتفريق بينها وبين السلطات الأربع المعروفة (التنفيذية والتشريعية والقضائية ووسائل الإعلام), ولشبهها التنظيمي والفكري بـ "الطابور الخامس".
إن لكل فرع من فروع السلطة المشار إليها أحكامه الخصوصية, وكذلك موضوعه ومحيطه الإشكالي. فالضد الخاص بالسلطة التنفيذية هو اللاإدارة, والضد الخاص بالسلطتين التشريعية والقضائية هو اللاشرعية, والضد الخاص بوسائل الإعلام كـ "معمل للآراء" هو عشوائية الاستيعاب الجماهيري, التي ينبغي تنظيمها وتوجيهها.
فما الذي تواجهه "السلطة الخامسة", وأين ترى ضدها؟

إن التعريف الاحترافي لهذه السلطة, التي حصلت على اسم الأجهزة السرية أو الأجهزة الأمنية, ينبني على الأضداد: الخاص – المتاح للجميع, السري - العلني. هنا يمكن الحديث عن شيء ما ضديٍّ بطريقة خاصة لأخلاق المجتمع المفتوح الديمقراطية, التي تُعتبر المنافسة الطبيعية والعلنية من بين قيمها. تبدأ سلطة الخبراء السرية تواجه "جمهورية النواب" الانتخابية, وتبدأ المعرفة الباطنية للمحترفين المختبئين وراء الكواليس, والمرتبطة بالنوابض السرية للسياسة وبالجهات المظلمة منها, والتي لا تخضع من حيث المبدأ للعلنية, تواجه سياسيي العامة الهواة.
"السلطة الخامسة" ليست غير متوافقة وحسب مع مبادئ الديمقراطية المعلنة: الرقابة من الأسفل والطاعة وسيادة القانون, بل إنها غير متوافقة أيضاً مع مبادئ التنوير الأكثر عمومية: التسليم بالثقة بعقل المواطن العادي, باعتباره صاحب كمون ذهني عمومي.
انطلاقاُ من مواقف الباطنية الجديدة التي تدين "السلطة الخامسة" بها يصير جائزاً توسيع ممارسات الظل, البعيدة عن العقلانية التقليدية وعن الشرعية, و يصير جائزاً, عوضاً عن المعيار التنويري الواحد, فرض معيارٍ مزدوج: للاستخدام الاجتماعي الخارجي, ومن أجل الاستخدام الاحترافي الخاص البعيد عن متناول الباقين.
لقد صارت هنا الحدود بين المسموح وغير المسموح, التي أقامها منطق التنوير كي تكون مؤقتة نسبية, غير قابلة للعبور. وبذلك يرجع المجتمع إلى سلفية الطوائف المغلقة ما قبل التنويرية, وإلى كهنوت ***** التجديفي غير الشرعي لكن المتسلط, والحائز على حق تضليل الجماهير واستغفالها. إن وضع الأجهزة الأمنية هذا يُقوّض مبدأً آخر شديد الأهمية من مبادئ المجتمع الديمقراطي المعاصر, وهو مبدأ السيادة السياسية للأغلبية.
كلما اتسعت صلاحيات الأجهزة الأمنية صارت أكثر سرابيةً ومجازيةً السيادة السياسية للأغلبية, التي يخفون عنها أهم أسرار السلطة ونوابضها. هذا الوضع يصير تدريجاً مهيناً ليس للمجتمع الديمقراطي وحسب, بل ولسياسيي العامة, الذين يزداد شعورهم أكثر فأكثر بأنهم دمى في مسرح العرائس.
تواطؤ "المحترفين"

انتمى إلى عداد أمثال هؤلاء السياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية جون كينيدي. لقد عبَّر عن مزاج الجيل الجديد في الظروف الجديدة, التي تمت فيها المقارنة بين مشروع التنوير العظيم بوعوده الديمقراطية و"الواقع المزري". منذ الموجة التنويرية الأولى في القرن الثامن عشر راح نبض التنوير يضعف تارة, مصطدما بمقاومة الظروف وبكآبات العوام, وتارة يشتد ملهماً القلوب. كانت الفترة ما بين الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حاسمة للشعوب على جانبي "الستار الحديدي" معاً. لقد انتظر الجيل الجديد ترميم الحياة والسياسة. وقد قدِّر لجون كينيدي أن يكون معبود هذا الجيل.
لقد حلم في الظروف الجديدة بأن يؤكد على عموميات التنوير في الولايات المتحدة الأمريكية, وبأن يشكِّل على أساسها أمة سياسية واحدة, حرة من الحواجز العنصرية والإثنية. لقد واجه الحساسية الإثنية التقززية لدى الطبقة المتسيدة – البيض والأنكلوساكسونيين والبروتستانت – بإيمانه بالإنسان وبأن أمريكا, تحديداً, يمكن أن تصير أرضه الموعودة. إلى ذلك الزمن لم يكن الأمريكيون قد صاروا, يا للغرابة, أمة متمدنة حقاً, ولم يكونوا قد تمكنوا تماماً بعد من ثقافة المدينة, التي تسوّى فيها الفروق المرتبطة بمنشأ الناس الإثني والإقليمي. لقد ظلت أمريكا ريفية, متكبرة, تنظر بريبة إلى "الغرباء", وأسيرة للأوهام والمخاوف. وقد شكلت نفسية "اليقظة" الريفية هذه تجاه كل ما هو مختلف وغير معتاد ركيزة الولاء السياسي, التي دعمتها السلطات بشتى الوسائل.
لقد ناهض جون كينيدي هذا كله. فواجه وعيَ "المجتمعات الصغيرة" البروتستانتية المفعم بالغيرة والشك, بالتفكير الجديد للمجتمع الواحد الكبير, الذي يحقق المواطن الأمريكي ذاته فيه بغض النظر عن لون جلده ودينه والمؤهلات الأخرى. على شعاع التنوير الساطع في مثل هذا المجتمع أن ينير الأركان المتعفنة كلها, وأن يطرد شياطين العتمة, وأن ينحي جانباً باطنيةَ الحلولِ المعادية للديمقراطية, التي تقررها القلة من أجل القلة.
ينبغي أن نقول إن الكثيرين من "المحترفين" في أمريكا خافوا على أسرارهم الاحترافية وعلى امتيازاتهم, وكان في مقدمهم محترفو الأجهزة الأمنية. لقد جسَّد كينيدي في نظرهم شخصية الهاوي الخطر والمهذار الذي تبنى جاداً مبدأ "السياسة العمومية" وتطاول على نحو غير قانوني على "الجزء الغارق من جبل الجليد", الذي ينبغي أن يبقى تحت إشراف "رجال الضفادع الأمهر" في مهنتهم.
صرنا منذ ذلك الوقت, في بداية الستينيات, نصادف الصدام العَرَضيّ بين العولمة الباطنية وعموميات التنوير, لقد آمن كينيدي بالمجتمع المفتوح - بالمجتمع الخالي من الحواجز الطبقية والأسرار, والذي لا يمكن فيه أن تكون للفروق في الأصل وفي شروط البداية الأهمية الحاسمة.
أما نظراؤه من معسكر عولمة الأجهزة الأمنية الباطنية فآمنوا بـ "مواطن العالم" - بأممية أصحاب العالم السريين, رعاة القطعان الشعبية الساذجة والهوائية. لقد وحدت أصحاب الدار أولئك المعرفة الاحترافية السرية, والهموم المتشابهة, والقانون الكهنوتي المشترك. أكدت الأحداث الدراماتيكية التي سرعان ما توالت, أن الحواجز التي تفصل محترفي المعطف المطري والخنجر عن الموطنين العاديين في بلدانهم أعلى وأمنع على نحو لا يقاس من ذلك الحاجز القومي – الدولتي, الذي من المفترض, كما يملي العقل السليم, أن يفصل بين هؤلاء المحترفين المتبارزين.
يعبر شاب أمريكي, باسم لي هارفي أوسفالد, "الستار الحديدي" المنيع عبوراً طبيعياً, ويسكن في الاتحاد السوفييتي, ويتزوج هناك, ثم يعود بعد مضي فترة من الزمن إلى الولايات المتحدة الأمريكية, كي يرتكب "جريمة العصر" – قتل الرئيس الأمريكي. المميز في الأمر أن أجهزة البلدين الأمنية قد حافظت في أوج هذه الأحداث الدراماتيكية على الصمت المتأدب بخصوص الغياب الغريب لقاتل الرئيس في الاتحاد السوفييتي. في ذلك الوقت على ما يبدو وقعت أول سابقة في التعاون العملي بين "محترفي الأمن" من وراء ظهر الأوساط الاجتماعية. لقد أفزع كينيدي "المحترفين" على جانبي الستار بحماسته الديمقراطية التنويرية - وباستعداده لأن يحقق في الحياة مبادئ المجتمع المدني صاحب السيادة, الذي لا يتتبعه أحد سراً ولا يدعي الوصاية عليه.
إنه, طبعاً, لم يشأ إلغاء الأجهزة الأمنية - فهو لم يكن متوهماً اللا دولتية. بل أراد أن يزيل العقد والخوف والحواجز من المجتمع العنصري في أمريكا, الذي لم يجرؤ على أن يكون, حقاً, أمة سياسية واحدة, خالية من المنبوذين الداخليين. لقد أراد أن يعرف المجتمعُ, حتى وهو يتألم من القرارات غير العصرية والخاطئة, أنها قراراته المتخذة علناً, وليست مؤامرة من قبل "المحترفين" المختبئين وراء الكواليس.
على هذا النحو, ظهر في أمريكا قبل عشرين عاماً من الاتحاد السوفييتي صاحب المبادرة إلى إعادة البناء والتفكير الجديد "من أجل بلده والعالم كله" – وتم إقصاؤه من قبل أجهزة بلده الأمنية, و, كما يبدو, ليس من غير مشاركة ودية احترافية من قبل الزملاء في معسكر العدو الرسمي.
ما الذي وحد "المحترفين" من الجانبين؟

هنا كان ثمة وجودٌ لـ "الواقعية التشاؤمية" العامة, المناهضة لرومانسية التنوير وشعاراته عن الحرية والمساواة والأخوة, ووجود لغيرة المحترفين المدافعين عن صلاحياتهم من تدخل هواة السياسة العمومية, والأهم, أنه كان ثمة حضور للسعي إلى الحفاظ على ما يُعتبر القاعدة الاجتماعية النفسية لتسيُّد الأجهزة الأمنية في المجتمع – أي مناخ الشك وانعدام الثقة العام.
كانت عملية اغتيال كينيدي واحدة من أول العمليات العولمية للأممية العولمية المتكونة, والتي صارت أمميةُ الأجهزة الأمنية النسق الأول فيها.
كان أوائل العولميين ممتلئين عزماً على إعادة تجميد التربة التي بدأ الجليد يذوب عنها في الخمسينيات والستينيات. لقد صد العولميون الباطنيون هجوم التنوير الجديد, المرتبط بمسألة طويلة الأجل هي تحويل المجتمع الجماهيري إلى مجتمع مفتوح ديمقراطياً حقاً, وإلى مجتمع خلاق وصاحب سيادة.
طبعاً, لم يكن محترفو الأجهزة الأمنية عولميين وحسب: فبالإضافة إلى الهموم المشتركة ظلَّت لديهم مهماتهم التقليدية, التي كان دافع الضرائب يمول عملية تنفيذها, وهي مهمات دعم الأمن القومي الذاتي وإضعاف قدرة العدو الكامنة على القيام بالشيء ذاته. وبهذا الصدد لا زال المحللون الأمريكيون يذكرون الخوف الذي عانوا منه مع زملائهم السوفييت من مبادرات "معيد البناء" الأمريكي الشهير.
ما دامت إعادة البناء خطرة إلى هذا الحد في الوطن, أفليس من المستحسن تصديرها إلى معسكر العدو كعامل مزعزع للاستقرار؟
انغرس الكثير حينذاك, في بداية الستينيات, في ذاكرة الأجهزة الأمنية السيبرنيتيكية, وسقط الكثير في حصالة وصفات هذه الشعوذة الخصوصية. وربما كان أكثر ما حفظ في الذاكرة هو تلك الحادثة التي جرت لأرملة قاتل كينيدي - مارينا, المرأة الروسية, التي تأقلمت, يا للعجب, سريعاً وبسهولة في الولايات المتحدة الأمريكية, لا بل عقدت أواصر الصداقة مع فيميدا الأمريكية. فحين أطلق النار على لي هارفي أوسفالد الموضوع تحت الحراسة (وهذا ما كان متوقعاً), لم تعثر الأرملة, فاقدة السلوان, بين أغراض زوجها الشخصية المعادة لها على أغلى شيء – لم تعثر على بنطلون زوجها. وقد عوضت المحكمة الأرملةَ الرقيقة على هذا الضرر المعنوي الذي لحق بها بمبلغ معتبر يكفيها للعيش بغير عوز أعواماً كثيرة.
اكتسبت "التجربة" التي أجرتها الأجهزة الأمنية على جون كينيدي أهمية أثرية. فكك عملاء هذه الأجهزة شفرة الكثير من مفاصل هذه الدراما باعتبارها وصفات لتقنيات محتملة يمكن استخدامها في العمل مع العدو. هكذا تحديداً فُسِّرت الرومانسية البيريسترويكية لدى هذا المصلح جميل الروح, الذي كان مستعداً لأن يهز بيديه التحصينات الدفاعية, المشادة عبر زمن طويل, وهكذا فُسِّرت أيضاً المقدرة على ذلك التأقلم السريع في التربة الغريبة, الذي أبدته أرملة أوسفالد, وهكذا فسر الكثير غير ذلك.
قد تصير المخاطرة في الاختبار الإصلاحي مقبولة إذا ما وجد لنفسه مكاناًَ أملٌ خفيٌ بالهجرة الناجحة إذا ما رفضت "التربةُ" الاختبارَ بفظاظة. صار فكر "المحترفين" المعنيين يعمل بالاتجاهين التاليين – تشجيع الاختبار الاجتماعي في معسكر العدو وإيجاد ضمانات إضافية من أجل من يقدم عليه.
تبدُّلات الوعي الثقافي

عام 1968 قُدمت للعالم زاوية الرؤية الجديدة للمزاوجة بين العولمة والتنوير والصدام بينهما. كان "ربيع براغ" انتفاضةَ التنوير ضد المنظومة الشمولية ضيقة الأفق على النمط السوفييتي. وجد الجيل المحب للحرية, الذي تربى في مناخ الآمال الخصوصية في مرحلة الستينيات العالمية, طليعته في تشيكوسلوفاكيا. لقد جسد ألكسندر دوبتشيك التنوير, الموضوع في خدمة الأهداف الوطنية التحررية. وقد راقبه بقلق متزايد عولميو الدولة العظمى الغيورة, القلقة على صلاحياتها في ترتيب العالم.
من المهم أن نفهم منذ البداية,أنهم لم يحللوا الوضع من موقع مصالح بلادهم الوطنية, بل من المواقع العولمية تحديداً, فالاشتراكية لم تكن تجسد بالمقاييس الكبرى بلداً, وإنما منظومةً من المنظومات العولمية الفرعية. الرابطة القومية مطلقة, فهي تستند إلى حصون الطبيعة والتاريخ التي لم تبدعها يد الإنسان؛ التراكبية المنظوماتية نسبية دوماً, ومتحركة, وتفترض مستوى كبيراً من حرية المبدعين التقنية تجاه المنتج, الذي يستطيعون تعديله كما يرغبون.
كان ممثلو الحزب "الداخلي" في الاتحاد السوفييتي بمثابة تلك التقنيات العولمية, التي تنظر إلى بلدها والبلدان الواقعة تحت سلطتها باعتبارها "مادة". لقد وجهوا الحزب "الخارجي" الخاضع لهم - الجهاز السياسي الدعائي كله بالإضافة إلى الجهاز العسكري - ضد عصاة براغ وأحرار الفكر فيها, مستخدمين مفردات "الواجب الأممي", والدفاع عن المنجزات الاشتراكية والتضامن مع الشعب التشيكوسلوفاكي.
لكن وعي الحزب "الداخلي" حلل الأحداث من موقع المعرفة الخاصة بطائفة الكهنة, غير المرتبطين بأي واجبات أو "أوهام" محلية. لُحِظت بالدرجة الأولى شعبية الإصلاحيين غير العادية, ولُحظت كذلك تلك السهولة غير العادية التي حطموا بها حصون "النظام الأكثر طليعيةً". وزاد في الحصالة عدد أهم أسرار النظام السوفييتي الحكومية سراً آخر: المعرفة السرية بهشاشة الاشتراكية غير العادية بعد افتراقها النهائي عن نبض التنوير التحرري. انبلج لديهم شك بوجوب تسليم هذا "النظام الأكثر طليعية" عاجلاً أم آجلاً كي لا يُدفنوا تحت أنقاضه.
وبما أن موردي التجربة الاشتراكية في روسيا لم يضعوا أنفسهم منذ البداية في موضع الشخصيات الوطنية, التي تحل المهام الوطنية, بل في موضع عولميي الأممية الشيوعية, الذين لا يعتبرون بلدهم إلا كحقل رمي وكرأس جسر من أجل التوسع العالمي اللاحق, فمن الواضح أنهم حافظوا على حرية أيديهم أيضاً في ما يخص الاشتراكية ذاتها.
حدثت عملية مثيرة للفضول: بمقدار ما تطبعت الاشتراكية في روسيا, بعد أن استوعبها الشعب تدريجاً وبعد أن اكتسبت ملامح وطنية, ازداد بُعد المختبِرين العولميين عن طفلهم, وقد أغرتهم التعاليم الجديدة. لكن, طبعاً, كانت حرية الرؤية وحرية اتخاذ القرارات من صلاحيات نطاق ضيق, وضيق جداً في البداية, من الحزب "الداخلي. لقد وقعت على عاتق الحزب "الخارجي" مهمة غير محمودة, وهي تشذيب الهيئة المكفهرة والدفاع عن المواقف المقضي بها. منذ ذلك الوقت الذي فهم فيه العولميون السريون من الحزب "الداخلي" بطريقتهم الخاصة دروس "ربيع براغ" صار مصيرا الاشتراكية والاتحاد السوفييتي مرتبطين بالإجابة عن سؤال واحد: هل يمكن التصرف على نحو يستمر معه المتآمرون الحاكمون السابقون عند إزاحة النظام المترنِّح واستبداله من قبل أصحاب الحياة الجدد؟
لم يكن قد أعطي جواب ذو معنى واحد بعد في المرحلة الممتدة بين 1968
و1985 - ومن هنا التأرجحات المعروفة والتطوح في الجوانب, والمعايير المزدوجة والمسارات الاحتياطية عوضاً عن الصرامة المبدئية والمنهجية والحزم.

كان معيار السلطة الشيوعية المزدوج تجاه المعارضين هو الأجمل خصوصاً. فقد حظيت المعارضة ذات التوجه الغربي, التي كانت تبحث لنفسها عن ملجأ خارج الوطن بمعاملة أكثر تساهلاً. وإذا كان العولميون الشيوعيون قد صفوا المعارضين القوميين جسدياً عن طريق "الحوادث المؤسفة" المدبرة, أو بجعلهم يتعفنون في سيبيريا, فإنهم أبعدوا المعارضين الغرباويين إلى الغرب.
ألم يتكون على هذا النحو مسار خاص احتياطي ورأس جسر من أجل السلطة المتأرجحة؟ إن ابتعاد السلطة العولمي عن شعبها, الذي تبنى تقريباً النظام الباطني الاشتراكي, قد تلقى دفعاً بفضل نبض مغاير حصل عليه من المثقفين.
قبل عام 1968 كانت طليعة مثقفينا, المتتبعة على نحو حثيث تبدلات الموضة الإيديولوجية, متفقة بالكامل مع الأحكام التنويرية بخصوص شعبها. لقد عدته عملاقاً مستعبَداً ومخدوعاً, ينبغي تنويره وإيقاظه من أجل تحرره الديمقراطي. لكن حين اكتُشف أن الشعب لم ينهض مع ذلك ليشجب قمع "ربيع براغ" بالجيوش السوفييتية تغيرت العلاقة من جانب المثقفين الطليعيين نحوه تغيراً قطعياً: صاروا يعتبرونه الدعامة الأخيرة للنظام الشمولي بعد أن كان ضحيته. وهكذا قامت فئة المثقفين "باكتشاف" ثقافي علمي مثير للشك, متعلق بأسس النظام الشمولي"الذهنية", المرتبطة بخصائص الشعب الروسي وتقاليده.
غدر "الشركاء"


منذ ذلك الحين تلقت نظرية عولمة النخبتين السوفييتيتين دفعاً جديداً, بغض النظر عن الخلاف الذي كان لا يزال مستمراً بينهما: النخبة السلطوية السياسية من جهة, والنخبة الفكرية المعارضة من الجهة الأخرى. لقد راحتا تتحولان معاً أكثر فأكثر عن مسائل الحياة الوطنية والثقافة باتجاه مسائل أخرى, مرتبطة بالبحث عن دعائم وضمانات من الخارج... لقد غدا العولميون – الباطنيون من الحزب "الداخلي" مدينين بالكثير لنظرائهم – الفكريين. إذ زودهم هؤلاء الأخيرون بلغة وشعارات جديدة كان من المستبعد أن تبتلع الأمة من غيرها الخدعة العظيمة المقبلة, خدعة الخصخصة الوظيفية.
بيد أننا إذا لم نكن نقصد الغطاء الدعائي, بل الرأسمال السياسي الحقيقي ونوابض انقلاب آب القادم, فعلينا أن نقول مباشرة: إن من أقام النظام ما بعد السوفييتي لم يكن المعارضة الديمقراطية ولا المعارضين الغرباويين بل السلك الوظيفي الشيوعي الحاكم, الذي حوَّل السلطة القديمة إلى ملكية جديدة له. فكيف تشكلت في حقيقة الأمر الملكية الأولغرشية الجديدة؟
تكمن واقعية العصر الأحدث المثبطة في أن "المستجدات المنظوماتية" في المخطط الاقتصادي الاجتماعي السياسي لا تمر إلا إذا ناسبت النخبة السلطوية المتكونة, ومنحتها أشكالاً جديدة من ترسيخ الذات. ويبدو أن رومانسية التنوير السابقة، التي ارتبطت بشعار "من لم يكن شيئاً يصير كل شيء" وبالهجوم على الباستيل من قِبل الشعب المنتفض وبقدوم من مثَّل الضمير المهان وقوة الأمة الجديدة إلى السلطة, قد غابت من الوجود. صار البناء الجديد يستند منذ الآن إلى الاتفاق مع القوى القديمة - أي مع أصحاب السلطة؛ لذلك ليس ثمة أمل لأحد بأن يصير شيئاً ما إلا إذا ضمه رفاق الحزب القدماء إلى صفوفهم.
حصل العولميون من الأجهزة الأمنية بنتيجة الخصخصة عام 1992, وفاقاً لبعض المعطيات, على قرابة 65% من ملكية الدولة السابقة كلها. لقد فعل فعله المبدأ القائل: كلما كانت هذه المجموعة أو تلك من الفئة الحاكمة متمتعة بصلاحيات وظيفية ومسؤوليات أعلى حصلت بنتيجة الخصخصة الجديدة على نصيب أكبر من الملكية. تفسر أعجوبة أصحاب الملايين والمليارات الجدد ببساطة: لقد حصلوا على نصيبهم من الملكية طبقاً لوضعهم الوظيفي السابق. إذا كانت السلطة في الشركات المساهمة تقسم وفاقاً لرأس المال, فإن الرأسمال في تلك الشركة المساهمة المهولة, التي تحولت إليها روسيا ما بعد السوفييتية, يقسم وفاقاً للسلطة - أي طبقاً للمكان المشغول في التراتبية الوظيفية السابقة.
يمكن أن نتوقع اعتراضات, مرتبطة بأمثلة معروفة وواضحة على أن شخصيات لم تكن تنتمي سابقاً إلى الوكالة الأمنية, وصارت من "الأولغرشيات " المشهورة. والجواب عن هذا واحد فقط: هذا معناه أنهم انتموا وسينتمون إلى الوكالة الخاصة في الجهة الأخرى, التي اشترطت منذ البداية المشاركة في "الإصلاحات" والتي تعهدت بحماية الإصلاحيين في حال انهيارهم في وطنهم "الأم". لم يتجلَّ الطابع العولمي الجديد للعملية السياسية الجديدة بهذا المستوى في أي شيء كما تجلى في تعاون الأجهزة الأمنية في الدول العظمى على تفكيك الاتحاد السوفييتي و ما سمي "الاشتراكية الواقعية".
حين قرر أعضاء الحزب "الداخلي" الأكثر اطلاعاً والأكثر تحرراً من القيود التخلي عن فرس الاشتراكية المحتضرة والجلوس على سرج جديد لم يكن في مقدورهم القيام بذلك من غير تواطؤ شراكةٍ سري مع الزملاء, الذين كانوا يمثلون عدو الأمس الرسمي. بدا الزملاء الأمريكيون قلقين أيضاً, وبدوا عولميين يفتشون عن أشكال جديدة, ولديهم أيضاً ادعاءات ليست بالقليلة بحق شعبهم, الذي راح يفقد باطراد في المجتمع الجماهيري تماثله الأنكلوسكسوني والبروتستانتي. باختصار, راح "الزملاء" الأمريكيون يقنعون الإصلاحيين الروس بشتى الوسائل بأن "انسلاخهم" عن شعبهم لا يقل قط عن انسلاخ هؤلاء الأخيرين, وأن فكرة إقامة اتحاد سياسي فوق قومي بين النخبتين الحاكمتين, المدعوتين معاً إلى البلوغ بالنظام العالمي والقومي حد الكمال, قد نضجت.
لقد استخدمت بإلحاح أساليب "سلخ" عولمي مماثلة في العمل مع مبدع فكرة البيريسترويكا السوفييتية نفسه. فلعبوا من جهة على طموحه السياسي, إذ جعلوه يعتقد بأن مبادرته الإصلاحية تتعدى تعدياً واضحاً الأطر الوطنية الخالصة, ولذلك فإن قدره أن تصير زعامته عالميةً حقاً, أي الدخول ضمن النطاق الضيق جداً لما فوق النخبة العالمية, المتسلحة بمعايير من الواضح أن جماهير السكان الأصليين لم ترْقَ إليها بعد. ومن جهة أخرى استُغلت أحكام التنوير القريبة من نفس الزعيم السوفييتي, والتي تقود في الواقع مستقبل البشرية العام نحو آفاق وطنية. من الواضح أن مثل هذا العمل يكتسب درجة من الإقناع والموثوقية إذا ألزمت بدورها الجهة القائمة به نفسها بالسمو فوق الأنانية القومية وبخدمة النظام العالمي الجديد بنية سليمة.
دلت الأحداث التي توالت بعد ذلك أن الجهة الأمريكية أخلَّت بقانون "العولمة حسنة النية", مخفيةً وراء خطابيتها عن تنظيم العالم مخططات قومية ضيقة والأدق – مخططات إمبراطورية. لقد استدرجوا النخبة البيريسترويكية, ومن ثم ما بعد البيريسترويكية, بالشراكة الإستراتيجية المرتكزة على الابتعاد المتساوي عن التعاطي "المحلي" والأطماع القومية الخاصة. لكن تبين بوضوح أن درجة هذا "الانسلاخ" عن المصالح القومية لم تكن في الواقع واحدة. تبين أن الأمريكيين هم أشباح عولميين يتبعون مصالح دولتهم العظمى وميالين إلى استعمال المعايير المزدوجة.
لم يؤمن بالنظام العالمي الديمقراطي الجديد, الذي لن يكون فيه أعداء, والذي سيصير فيه مخزون الأسلحة المتراكم فائضاً عن الحاجة تماماً, سوى العولميين الروس كما تبين. أما الأمريكيون ففسَّروا النظام العالمي العولمي والسلطة العولمية (الحكومة العالمية) بأنه نظامهم وسلطتهم على العالم. وفي هذا السياق خيل لهم أنهم "زرعوا" في معسكر الأعداء أخيراً جون كينيدي بيريسترويكياً طوباوياً جديداً, بينما ظلوا هم واقعيين حاذقين, وفي حلٍّ من الآمال الرومانسية الخرقاء.
قُتل جون كينيدي حيث كان يفترض فيه أن يموت, لكنه ولد مجدداً هناك, حيث خُطط لـه ذلك ضمن الإستراتيجية العولمية الهادفة إلى تمكين الأيدي الأمريكية من الإمساك بزمام العالم المجرد من سلاحه. ينتج أن العولميين الأمريكيين, الذين أجروا حواراً سرياً مع زملائهم الروس, أخفوا "أرضيتهم" غير المستأصلة, وحافظوا على رباطهم القومي في الوقت الذي كانوا يسخرون فيه من قومية الآخرين السلفية ومن وطنيتهم.
إننا, على هذا النحو, نستطيع أن نجري تصنيفاً لأنواع العولمة, التي تعطينا بتداخلها لوحة للعالم مبرقشةً ومتقلقلةً وخادعةً بعمومها.
تُنسب إلى النوع الأول عولمة التنوير – التي أرسيت فكرتها منذ نبعت الحداثة الأوربية, والتي تقود إلى تكوين فضاء عالمي واحد مؤسس على عموميات التقدم الموضوعة في متناول الكل بالتساوي.
وتنسب إلى النوع الثاني العولمة الباطنية للنخب الحاكمة, التي تواطأت في ما بينها من وراء ظهر الشعوب. إن الأخلاق الخاصة بمثل هكذا عولمة تقضي بأن لا يضلل الشركاء بعضهم بعض, وأن يشكلوا إتحاد الأقلية العالمية الحاكمة مبتعدين بالتساوي عن "الأنانية القومية" وعن المصالح المحلية. يعمل الممثلون القوميون المنتدبون, على هذا النحو, إلى النخبة العالمية العولمية على تشكيل النظام العالمي, الذي, وإن كان بعيداً عن آمال الشعوب الجاهلة, إلا أنه شفاف من أجل المشاركين جميعاً في نادي الامتيازات هذا.
أخيراً, نوع العولمة الثالث هو العولمة المرتكزة على الإجراءات التقليدية لتحول دولة عظمى, بمحدوديتها المحلية والقومية كلهاإلى حامل احتكاري للسلطة العالمية – أي إلى حامل احتكاري لمنظومة العولمة أحادية القطب.
لقد استثمر كل نوع من أنواع العولمة الثلاثة هذه في أثناء الانتقال من العالم ثنائي القطب إلى العالم أحاديه, لكن بدرجات متفاوتة من الأصالة. فلخداع الرأي العام الواسع, الذي توجهه فئة المثقفين(الإنتلجنسيا) الديمقراطية, استخدم الشكل الدعائي للعولمة التنويرية, التي تؤمن بعموميات التقدم وبوحدة مصائر شعوب العالم. كلما كانت جهود الدعاة إلى النظام العالمي الجديد أشد إخلاصاً, فقدت اعتبارها وتحطمت بسرعة أكبر وسائل الحماية الذاتية القومية التقليدية, التي صاروا يتبرؤون منها كما يتبرؤون من شيء مقيت وشائخ.
ولخداع وعي النخبة ما بعد الشيوعية, التي كان عليها أن تسلم بلادها "للمنتصرين" في "الحرب الباردة", استخدم النوع الثاني من العولمة – العولمة الباطنية, المتميزة بتحول النخب القومية المتنازعة سابقاً في ما بينها إلى وسط عالمي واحد يضم أسياد العالم المختارين, الذين يقررون مصائره "ديمقراطياً" في ما بينهم.
أما في الواقع فقد "سارت العملية" باتجاه الشكل الثالث, وحينذاك حكم على المرشحين غير المحظوظين إلى عضوية النخبة العالمية الحاكمة, والذين وَهبوا من أجل الحصول عليها كل ما وسعهم أن يهبوه, بأن يعرفوا في نهاية الأمر أنهم استغفلوا ببساطة. طبعاً, هذا لا يعني أنهم لم يحصلوا على شيء. فأهم ما حصلوا عليه كان الضمانات المتعلقة بملكيتهم الجديدة.
إذ لم يجد المخصخصون الوظيفيون أنفسهم واثقين من أن "هذا" الشعب سينظر لاحقاً بلا اكتراث إلى خراب بلاده ودمار شروط وجوده الحضارية, حصلوا على ضمانات من الخارج على شكل إمكان إنشاء بنية تحتية في الخارج الهدف منها تأمين حياة لائقة لهم في حال هجرتهم القسرية.

لقد رأوا "أرض ميعادهم" الخاصة, وهم يستخدمون بلادهم كخزان موارد مجانية مباحة, في الغرب, وإليه حولوا كل الثروات المنتزعة من الشعب.
بيد أن سريي عولمتنا أخطأوا الحساب في أمرين كما دل على ذلك مجرى الأحداث اللاحق. أولاً, لم تبرَّر حسبتهم حين لم يعترف "الشركاء" بحقهم الاحتكاري باعتبارهم مالكين لثروات روسيا القومية أو حتى ثروات الفضاء ما بعد السوفييتي. لقد تمكن الشركاء الأجانب من دور "المنتصرين " أكثر فأكثر, وصاروا يطالبون بلا مواربة بحقهم بالاشتراك في تقسيم الثروات وإعادة توزيعها ليس في التخوم القريبة فقط, وإنما في روسيا أيضاً. وثانياً, لم تتحقق آمالهم بالبنية التحتية, التي تؤمن عملياً الجنسية المزدوجة والضمانات في حال الهجرة القسرية.
هبت موجة الفضائح المتعلقة بإيداعات "الأسرة" وحاشيتها في الخارج, وراحت تتدحرج لا تلوي على شيء. لقد أُخِلَّ بسرية اتفاقات "السلطة الخامسة" الأممية, لأن قضية الإيداعات الروسية قدمت إلى لجنة الكونغرس في الولايات المتحدة الأمريكية, الذي ليس من عادته الاكتفاء بأنصاف التدابير. إن الحملة القائمة تهدد المؤسسات "الليبرالية " الروسية بالتغييب التام عن الأسرة العولمية والتحول إلى مؤسسات منبوذة ومرفوضة ومحتقرة.
عدا ذلك, فإن هذا يمس التزامات الحلفاء المعروفة بخصوص الضمانات الموعودة للنخبة الروسية في حال قطعت "الأغلبية الروسية الصامتة" والمضطهدة والمخدوعة صمتها فجاءة, وأظهرت فاتورة الحساب. واضح أن النخبة الروسية اليوم تتجاوز بصعوبة الخيانة الأمريكية, وهي ذاهلة بخصوص ما حدث. يبدو أنها قد نفذت التزاماتها تجاه شركائها وراء المحيط بإخلاص تام. لقد ابتلعت بصمت تخفيض مرتبة روسيا ما بعد السوفييتية, حين حولوا بلادنا من شريك إستراتيجي إلى دولة مهزومة, مجبرة على تقديم التنازلات من غير قيد أو شرط. لقد رمى "البراغماتيون" الروس جانباً المفاهيم "السلفية" مثل "السيادة", و"الكرامة", و"المصالح القومية", وقبلوا التحرك الخياني لحلف الناتو نحو الشرق. فهو يبدو خيانياً فقط من موقع عولمة "علّية القوم" الليبرالية ذات الروح الجميلة والمؤمنة بقيام النظام العالمي الجديد.
أما ما يخص شكل العولمة الثاني, الذي يمثل أممية الأجهزة الأمنية السرية, فإن تسليم روسيا مواقعها الجيوسياسية في القسم الغربي من الفضاء ما بعد الاشتراكي وما بعد السوفييتي كان, على الأرجح, محسوباً منذ البداية. وكانت الأعمال الرسمية الطائشة التي قامت بها وزارة الخارجية بخصوص تحرك الناتو شرقاً مخصصة استثنائياً للاستعمال الداخلي كما أفهم الأمريكيون سراً - لرمي عظمة لـ "وطنيينا – القوميين".
وسرعان ما صارت أممية العملية الإصلاحية الروسية تمس أيضاً منظومة خصخصة ملكية الدولة. فعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يشترط في البداية, إلا أن الجانب الأمريكي مع مرور الوقت صار يمتلك بوضوح حق التصويت عند تشكيل لوائح المرشحين لعداد الأولغرشية الروسية المقبلة. لقد ظهر كثيرون جداً من الأولغرشيين الذين لم يشغلوا مناصب مرموقة في النظام السابق, وبالتالي لم يتماشوا مع مبدأ تحويل السلطة إلى ملكية. ظهر قسم كبير من الأولغرشية كـ "طابور خامس" أمريكي, اشتُرِطت حقوقه مقابل ضمانات الإيداعات الخارجية وغيرها من التسهيلات. أخيراً, حصل الرأسمال الأمريكي على سلسلة من المواقع المفصلية في الاقتصاد الروسي مشخصاً باسمه مباشرة. إن هذا يخص فروعاً إستراتيجية هامة, بما فيها فروع منتمية إلى المجمع الصناعي العسكري مباشرة.
بماذا تفسَّر في مثل هذه الحال الخيانة الأمريكية وهذه الفضائح الحديثة حول إيداعات "الأسرة" وحاشيتها المقربة الخارجية؟
من النوايا الليبرالية الحسنة إلى التوسع الجيوسياسي


من يراقب العمليات المعاصرة في العالم بعد "الحرب الباردة" سيصل إلى نتيجة مفادها أن ثمة قانون من نوع خاص يفعل فعله فيه: كلما كانت هذه القرارات الإستراتيجية أو تلك أكثر باطنية ومخفية عن الأوساط الاجتماعية, ازداد اندراجها ضمن الاتجاه الساعي إلى تحويل الحداثة عامةً إلى سلفية.
ما الذي يمكن أن يكون أكثر سلفيةً من مُثُل النظام العالمي الجديد التنويرية, وأكثر تعارضاً معها كالحرب العالمية الجديدة؟ فكما هو واضح اليوم أنها هي, تحديداً, التي تندرج ضمن منظومة أسرار الباطنية العولمية. إن العالم أحادي القطب, الذي استبدل به العالم متعدد المراكز الموعود, المؤسس على التوازن العادل في المصالح بين الشرق والغرب, يسير حتماً نحو حرب عالمية جديدة. إن القطبية الأحادية المنهجية, التي تحتكر فيها الولايات المتحدة الأمريكية إدارة العالم, غير متوافقة مع وجود دول ضخمة ذات سيادة, أينما وقعت هذه الدول. وواضح أن التفكيك المنهجي لهذه الدول هو مأرب مهندسي العالم أحادي القطب.
والقرار كما هو واضح هو البدء بروسيا. هذا ما تمليه إلى حد كبير عطالة "الحرب الباردة" - هيئة العدو الجاهز المسقطة الآن من الاتحاد السوفييتي السابق على روسيا. تجري تزكية عطالة الحرب الباردة أيضاً بطبيعة البنية التحتية المتكونة في عصر المجابهة مع الاتحاد السوفييتي, وباتجاه الأسلحة, وبخصوصية التأمين المعلوماتي للحرب. والعامل الآخر الأكثر أهمية هو أن روسيا تمتلك ثروات فائقة الغنى تزداد اليوم ندرة أكثر فأكثر. إن آلة الحضارة الغربية التقنية تقف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التوجه إلى "النمو الصفري"بسبب من محدودية البيئة والطاقة والمواد الأولية على الكوكب, وإما تحقيق إعادة تقسيم المساحات العالمية والحصول بذلك على موارد جديدة.
من شأن الشكل الأول, الذي دافعت عنه الحركة البيئية وغيرها من معارضي الحضارة التقنية, أن يفرض إعادة بناء أسس الوجود ذاتها, وواضح أنه لا النخب السلطوية ولا المستهلك العادي مستعدون لهذا اليوم. يبقى إذن الشكل الثاني - أي توسع الغرب الجيوسياسي باسم إزالة "حدود النمو" المعروفة. وقد تحدد الاتجاه الأساسي لهذا التوسع احتكاماً لكل شيء - يدور الحديث عن روسيا. تغري روسيا المعتدي بتزاوج سعة الثروة فيها مع ضعف الدولة الظاهري. وتعمل ضدها اليوم النظرية الداروينية الاجتماعية الجديدة في المجتمع العولمي, التي تعلن مبدأ الاصطفاء الطبيعي للشعوب الملزمة بإثبات قدرتها على الحياة في ظروف السوق العولمية أي غير المقيدة بأية حواجز حماية.
تعني "السوق العولمية" إعادة التوزيع الحر لكافة الموارد, بما في ذلك المساحات المحصنة خلف الدول, لصالح أولئك الذين أبدوا فاعلية اقتصادية وبيئية أعلى. ينبغي, بنتيجة سقوط الحدود وغيرها من الحواجز في "المجتمع المفتوح" العولمي, أن تنتقل الأرض والموارد من أيدي الأقل مهارة والأقل قدرة على التكيف إلى أيدي من هم أجدر وأيدي من سيشكلون في المستقبل جنس سادة العالم. إننا نرى في مثال النظرية الأحدث عن المجتمع العولمي المفتوح أي تبدلات تتعرض لها أهم مثل التنوير حين تُستخدم من قبل باطنية العولمة.
أمس فقط كان مفهوم "المجتمع المفتوح" يضم في جنباته مجمل النوايا الليبرالية الطيبة - من الرفض المسالم للنزاعات حتى رفض الرقابات وأي أسرار حكومية وطبقية. أما اليوم فتشوبه مسحة اجتماعية دارونية واضحة, تدل على انقطاعه الحاسم عن موروث الإنسانية المسيحية والتنويرية, وعلى خياره لصالح الأقوياء والقادرين على التكيف ضد الضعفاء و "الفقراء بالروح".
لكن هذه المراجعة للمبادئ الإنسانية لا تشكل سوى مقدمة عامة لعسكرة وعي الغرب المنتصر ومقدمة لتضلع ممثلي "المليار الذهبي" في لغة عرق السادة. التخلي الإستراتيجي عن الموروث التنويري هو عامل نظام طويل الأمد. بيد أن المنتصرين في "الحرب الباردة" يريدون لو يستخدمون بالكامل الأفضليات التكتيكية المرتبطة بضعف روسيا الحالي الشديد وبالتحلل الأخلاقي الشامل لدى أنداد الغرب الرئيسيين في العالم.
لذلك يتطلب الأمر, إضافةً إلى الأسطورة الإستراتيجية, المرتبطة بتقسيم البشرية الجديد إلى قادرين على التكيف وغير قادرين عليه, أسطورةً عملياتية مخصصة تحديداً لخدمة سياسة النزاع مع روسيا. وما موجة الفضائح حول المافيا الروسية ومافيوية "الأسرة" الحاكمة ذاتها وحول إيداعاتها السرية في الخارج إلا هذه الأسطورة عينها.
إن بنية هذه الأسطورة معروفة لمواطن روسيا العادي, فبوساطتها تعلل عمليات الجيوش الروسية الحالية في الشيشان. الُمسلَّمة الأولى: الشيشان منبع للإرهاب الذي يهدد باجتياح الفضاء الروسي كله. المسلمة الثانية: الرئيس ماسخادوف لا يتحكم فعلياً بالوضع في الشيشان لذلك فإن حل مشكلة الإرهاب عن طريق المفاوضات معه خال مقدماً من أي أفق. النتيجة: وجوب التدخل العسكري المباشر من أجل إرساء النظام الحقوقي وإعادة بناء أسس الوجود الحضاري في هذه المساحة. إننا نرى بنية المحاكمات هذه تحديداً وقد أعيد إنتاجها على مستوى الإستراتيجية الأمريكية العولمية الهادفة إلى الاستحواذ على السيادة العالمية.
القضية الأولى: تعتبر روسيا اليوم مركز الفوضى العالمية, ومنبع انتشار البنى المافيوية في العالم كله. القضية الثانية: السلطة في روسيا, عداكم عن أنها هي نفسها خاضعة لضغط الحاشية المافيوية, لا تراقب الوضع فعلياً في البلاد, التي لُزِّمت لعشائر المافيات. النتيجة: من الضروري التدخل المباشر لقوى الغرب المتحدة برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية من أجل القضاء على وكر الثورة الإجرامية العالمية هذا, ووضع الحماية على البلاد التي ترسل دورياً تحديات للحضارة تارة على شكل تهديد شمولي عالمي وتارة أخرى على شكل تهديد مافيوي – إجرامي عالمي.
على هذا النحو ما عاد العالم مقسوماً منذ الآن إلى قادرين على التكيف مع السوق وغير قادرين على التكيف معها باعتبارها آلية لاصطفاء الأفضل طبيعياً فقط. إنه مقسوم كذلك إلى أولئك القادرين بمفردهم على إرساء النظام الحضاري لديهم وأولئك غير المؤهلين لفعل ذلك من حيث المبدأ, ويحتاجون إلى فرض الحماية الخارجية عليهم. إنهم يقولون ذلك منذ زمن عن أفريقيا, التي نضجت, كما يبدو, من أجل "إعادة استعمارها". يقولون اليوم هذا أيضاً عن روسيا على نحو مكشوف إلى حد ما.
لحظة حقيقة من أجل ليبراليي الوطن

أي مصير في هذه الحال ينتظر الأولغرشية الروسية الحاكمة, التي تخيلت نفسها منذ وقت ليس بالبعيد في دور الشريك الإستراتيجي لأمريكا؟ أدليت بهذا الصدد بتصوري قبل خمس سنوات مستخدماً أسلوب القياس التاريخي([5]).
في زمنهم باشر البلاشفة مغامرة الانقلاب الاشتراكي في أوج الحرب العالمية, مراهنين بقوة على قيام الثورة البروليتارية العالمية. لم يجدوا في وضع هجوم العدو الخارجي على روسيا شيئاً أفضل من الإعلان أن العدو الرئيسي موجودٌ في بلدهم, وحولوا "الحرب الإمبريالية" إلى حرب أهلية. لقد برروا كل هذا بأن " ليس للبروليتاريا وطن", وأن الوطنية والدفاع عن الوطن هما شعاران زائفان من شعارات الحرس الأبيض.
لكن حين وقعت "الخيانة" المعروفة من قبل الاشتراكية الديمقراطية الغربية, ولم تقم الثورة البروليتارية العالمية في الغرب, وقف البلاشفة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرحيل مسربلين بالعار, ومعترفين بمسؤوليتهم عن صلح بريست الجائر والمذل, وعن إشعال الحرب الأهلية, وعن التجارة بالمصالح الحكومية الروسية, وإما القيام بمنعطف حاد في السياسة والتحول إلى وطنيين سوفييت حانقين, ومناضلين يقظين ضد الإمبريالية الغربية.
اختارت القيادة العليا البلشفية الحاكمة الطريق الثانية كما هو معروف. واضطرت من أجل ذلك إلى إجراء تنظيف داخلي دموي, متخلصة من الأمميين البروليتاريين, الذين ظلوا يشعرون كالسابق بالنفور من وطنهم الروسي, وظلوا ينتظرون بعناد الثورة البروليتارية في الغرب. لقد نفي تروتسكي باعتباره نصير الثورة العالمية الدوغمائي إلى الغرب, حيث نظم هناك "الأممية الرابعة" الضعيفة والشكلية, وأبيد مؤيدوه في الرأي في روسيا على يد ستالين.
واليوم يتكرر التاريخ. إذ أبدى سريو الليبرالية الذين استولوا على السلطة استعدادهم لتحويل "الحرب الباردة" الخارجية إلى حرب باردة داخلية, وإلى حرب ساخنة إذا تطلب الأمر, معلنين هذه المرة أيضاً أن العدو الرئيسي موجود في بلدهم. وللانتهاء سريعاً من هذا العدو وقع ليبراليونا "صلح بريست" الخاص بهم مستغلين دعم الغرب, لكنه كان هذه المرة أشد إجحافاً وتدميراً من الناحية الإستراتيجية. وجرى كل ذلك على أمل قيام النظام العالمي الجديد واندلاع الثورة الليبرالية في الغرب, المدعوة للانتهاء إلى الأبد من مفاهيم الحرب والوطن والمنافسة القومية والنزاعات.
وها هي لحظة الحقيقة تدرك ليبراليينا اليوم. تبين أن الثورة الليبرالية العالمية في الغرب لم تقم, وعوضاً عن نزع السلاح الشامل باسم السلام الشامل, والنظام العالمي الديمقراطي استمر الغرب في التسلح مستعرضاً على نحو مكشوف أكثر فأكثر استعداده لإخضاع الكوكب لسيطرته. أما ما يخص مدبري الانقلاب الليبرالي في روسيا, فإن بانتظارهم مصير المنبوذين والمدانين عوضاً عن الشكر المستحق من الغرب. إننا هنا لا نتكلم على الجواسيس والنصابين "البسطاء", فهؤلاء اليوم وحينذاك, عام 1917, نالوا أجرهم "القانوني" من أصحابهم الأجانب.
إننا نتحدث عن أولئك الذين استسلموا للطوباوية الأحدث من غير أن يلووا على شيء, وساروا باسمها نحو تدمير بلدهم. طبعاً, جرى تدعيم الطوباوية في هذه الحال بخيرات حقيقية, مرتبطة بتقاسم ملكية الدولة والحمايات والتشجيع من جانب المراكز وصناديق المال الغربية. لكن الحديث اليوم يدور عن آخر الضمانات العليا لفئة الحكام والمالكين الجديدة - ويبدو أن الغرب اليوم قد رفضها نهائياً. إن موجة العسكرة الجديدة واللاتنوير التي اجتاحت الغرب بعد الانتصار في "الحرب الباردة" تعني انهيار الحزب الليبرالي في روسيا, الذي راهن بكل شيء على أمريكا وانخدع بها.
أمام هذه الحقيقة لا مفر من التحولات في الحزب الليبرالي, على غرار التحولات البلشفية. من غير الجائز أن يرحل ليبراليونا – الملكية المكتسبة "معلقة" برقابهم, وهم غير مستعدين لفقدانها, كما لا يوجد أيضاً مكان يذهبون إليه كما بدأ يصير واضحاً بعد خيانة الأمريكيين, الذين شرعوا يفضحون الأولغرشية الروسية ويبدون استعدادهم لإغلاق الأبواب في وجهها. يشير هذا كله إلى أفق وحيد: أفق تحول حزب الكومبرادوريين الليبراليين إلى حزب الوطنيين, العازمين على عدم الصبر بعد الآن على "تدخل الغرب في شؤننا الداخلية". بتنا نلحظ إشهارَ هذه العملية اليوم. كان في مقدور حزب الرئيس المضي قدماً على الطريق الدستورية, التي كانت ستؤدي به إلى الهزيمة في الانتخابات وترك السلطة.
احتكاماً إلى كل شيء, ما كان هذا مخرجاً سيئاً: فمنظومة المعارضة الحالية مستعدة لتأمين تعاقب كاف للعملية الإصلاحية بتشذيب أطرافها الفظة والخطرة. بيد أن حزب السلطة الحالي غير مؤهل للحلول الوسط على ما يبدو ويقر بمبدأ "المنتصر يحصل على كل شيء". لكن من ليس مستعداً لإفساح الطريق أمام المعارضة معرض لمواجهة المعارضة في معسكره ذاته. والأدق, لا لمواجهة معارضة عادية بل نهج جديد ينتج وفاقاً لقوانين التحول. إذا كان زمن الليبرالية الكومبرادورية قد ولى, فإننا أمام أحد الخيارين التاليين: إما أن يستبدل بالكومبرادوريين المعارضة الحالية, أو أنهم سينجبون في صفوفهم حفار قبورهم في المستقبل.
كان ستالين هو حفار قبور التروتسكيين – الكومبرادوريين الثوريين. لقد حُكم على البلاشفة, الذين حطموا التعددية الحزبية الديمقراطية في روسيا, بقيام تيرميدورهم([6]) الخاص في صفوفهم. واليوم تبدو "الأسرة" الغيورة غيرةً مَرَضية وغير المؤهلة لاحتمال المعارضة الأصيلة والتعددية الأصيلة, محكومةً بظهور حفار قبرها من حاشيتها ذاتها. ويبدو أن ذلك الذي أعلن رسمياً "خليفة الرئيس" مؤهل للعب هذا الدور. فعدا عن أنه حر تماماً من "العواطف", التي أعاقت سلفه من أن يأخذ على عاتقه مهمة تنفيذ مخططات "الأسرة" المتطرفة, التي أملاها الخوف المميت, كما أنه يتميز أيضاً بالعناد المتحذلق, الذي يدين لـه التاريخ السياسي بالكثير من المفاجآت الكبرى. إنني على استعداد لأن أصدق بأن "الخليفة" سيصير حفار قبور, وعلى نحو لا يمكن توقعه, حتى بذلك الشكل الذي ما كان الرئيس السابق لينتظره من المعارضة البغيضة, وحتى الشيوعية منها.
لقد بدأ "الخليفة" المسيرة من أجل الوطنية التي أضاعها الليبراليون على شكل حملة في الشيشان. ومقدر لـه إما أن يرحل من هناك إلى اللاوجود السياسي, وإما أن يعود ديكتاتوراً.
لكن ديكتاتوراً على النمط الأمريكي اللاتيني مستحيل في روسيا. إنه يحتاج لدينا إلى نظرية عالمية عولمية – أي إلى فكرة عظيمة. وليس اليوم ما يثير الشك لدى أي كان في أن هذه الفكرة لن تكون إلا معادية لليبرالية ومعادية للغرب. يبدو اليوم أن الليبرالية قد فقدت في كل مكان - في الغرب وفي روسيا - خيط التنوير الموجه, وهي ليست قادرة إلا على توليد مؤثرات مضادة للحداثة ومضادة للتنوير. يتحدد مصير الإيديولوجية بالناس الذين تكون قادرة على جذبهم. علينا أن نقول إن الليبرالية الأحدث ذات التركيب المنحط غير قادرة على جذب غير الشخصيات المثيرة للشك. لم تقدم ولا شخصية سياسية ساطعة واحدة, ولا موقفاً واضحاً وشريفاً حتى اليوم. بالتالي فإن نبض التنوير التحرري العظيم, إذا ما قدر له أن لا يتلاشى في عصرنا المظلم, سيجد لنفسه تجسيداً فكرياً مغايراً وراية مغايرة.
نتائج أولية

الخصوصية الأكثر تمييزاً للعولمة في مرحلتها الراهنة هي اللاتناظر الاجتماعي الفاقع. إن الإمكانات المتغنى بها كلها موجهة للنخب, التي تسنى لها الاستفادة منها. أما ماذا في مقدور العولمة أن تقدم للشعوب فهذا ما لا يزال إلى الآن لغز المستقبل. تولد العولمة اليوم الكثير من المغريات للنخب معيدة فعلاً تشكيل وعيها وسلوكها.
تخضع للتبدل غير المتنبأ بمجراه المفاهيم السياسية الأساسية للكلاسيكية الأوربية الحديثة. إن هذا يمس, كما أشرنا, حتى قضية تغيير البناء الاجتماعي. يبرز في المعتقدات الأولية هذا التغيير باعتباره نتيجة لضغط الجماهير الشعبية, الموجهة والمنظمة من قبل النخب المضادة. يبدو أن البناء الاجتماعي هنا لا يبرز كنتاج للاختيار الذاتي بل كنتاج للتاريخ ذاته, الخاضع لا للمؤامرة بل للتقدم الموضوعي القانوني.
يتم تغيير البناء في العالم العولمي المعاصر على أساس آخر. ليس التاريخ هنا ما يلعب دور القدر المسلط على النخب المرتبكة والملتحمة بالنظام القديم, بل جور هذه النخب المرتكب بحق التاريخ ذاته. قد يصير البناء سلعة للتبادل العالمي: فالنخبة قادرة على تغييره تحت تأثير المثال أو بتحريض من قِبل النخب الأجنبية, التي تقدم لها الضمانات. ولا يلعب الاستياء الشعبي من البناء السابق هنا دور المقدمة الأولية للانقلاب, بل شرطاً مواتياً لا أكثر.
تُكسب العولمة على هذا النحو المفاهيمَ السابقة لمذهب "الطبيعة" التاريخي, الذي يماثل بين العمليات الاجتماعية وقوانين الطبيعة المبرمة, حالَ القيم الانتقائية والقابلة للتلاعب والقابلة للتبادل.
يدور الحديث حول مستوى الحرية غير المسبوق, الممنوح للنخب الحاكمة, والبعيد عن أشكال الرقابة الشعبية المعتادة.
بهذا المعنى ينبغي أن يقوَّم النظام ما بعد السوفييتي في روسيا كجديدٍ للعولمة قد يأتي على مثاله كثير غيره. لقد ساد شعور منذ البداية بوجود من يحمي الإصلاحيين الروس من الخارج, ولم تكن هذه الحماية لوجه الله كما تبين في ما بعد. كما حملت تلك التحركات بخصوص السلطة التنفيذية والتشريعية الكثير من المعاني, التي ميزت انقلاب أكتوبر (عام 1993) في روسيا.
التقوية غير المحدودة لسلطة الرئيس المتعارضة مع صلاحيات البرلمان (مجلس الدوما الحكومي) ينبغي تقويمها وفاقاً للمقاييس السابقة على أنها تجل للديكتاتورية, وللنزعات القيصرية. إن هذه النزعات اليوم ينبغي أن لا تقوَّم ببساطة على أنها نزعات ديكتاتورية, بل باعتبارها تعبيراً عن ديكتاتورية العولمة.
سيبرزفي واقع الأمر المجلس التشريعي ضمن هذا السياق بصفته سلطة محلية بدائية, متكونة من ممثلي "هذا" الشعب. يُنظر وفاقاً لمعايير العولمة إلى مطالب الناخبين وضغطهم الاجتماعي على أنها سلفية سياسية تقيد حرية حركة أيدي العولميين, الملزمين لا بالتعاطي مع المصالح البدائية لـ "هذه" البلاد و"هذا" الشعب, بل مع القرارات فائقة التقدم المتخذة من قبل الأسرة العولمية, التي ستفتح عهداً تاريخياً جديداً.
من هنا جاء خداع مجلس الدوما الحكومي باعتباره ملجأ للنماذج الرجعية – أي لممثلي "الأغلبية الحمراء – البنية".
هل تعتبر هذه النزعة خصوصيةً "غير مألوفة" في روسيا؟ البتة. والأحداث الأخيرة المرتبطة بعدوان حلف الناتو على يوغسلافيا تؤكد ذلك. كان واضحاً للجميع منذ البداية أن تحرك الناتو كان قاتلاً لأوربا ولا يلبي سوى مآرب الولايات المتحدة الأمريكية التزعمية. في الحقيقة وجِّه هذا التحرك قبل كل شيء (لديه أهداف أبعد من ذلك) ضد أوربا الغربية تحديداً, باعتبارها منافسة للولايات المتحدة الأمريكية, وضد عملة اليورو, وضد هيبة القارة العجوز باعتبارها مركزاً عالمياً مستقلاً. بالتالي, لو كانت النخب الحاكمة في أوربا تعبر حقاً عن مصالح بلدانها وقارتها وتدافع عنها لكانت سعت إلى إبقاء أمريكا وحيدة وإلى مقاطعة المغامرة البلقانية. لكنها سلكت سلوك العولميين أصحاب المصالح الخاصة المختلفة عن المصالح الوطنية للشعوب التي يمثلونها. والحديث يدور هنا عن العولمة المركزية الأمريكية تحديداً, وإن شئتم, عن سفسطة العولمة حين تتطابق الأهداف العولمية مع الأهداف الأمريكية.
تكمن خصوصية روسيا فقط في أن هذا "الانسلاخ " العولمي للنخبة الحاكمة عن المصالح الوطنية يتجلى على نحو أوضح وأكثر صراحة. فمن جهة هذا متعلق بتاريخ النخبة الروسية الحاكمة, التي تتألف غالبيتها لا من السياسيين العموميين الملزمين بالاتفاق مع الناخبين, بل من مندوبي الأجهزة الأمنية؛ ومتعلق من جهة أخرى بتبعية النخبة ما بعد السوفييتية للدعم من الخارج تبعيةً غير عادية. كلما كانت هذه النخبة مرفوضة من شعبها ومكروهة من قبله اشتدت تبعيتها لحماتها الخارجيين وصارت على استعداد للإقدام على تنازلات أكبر لهم.
هكذا يدور لولب العولمة. إن قانون "الانسلاخ" العولمي عن المصالح المحلية يغير جذرياً أيضاً الآفاق المعتادة في السياسة الداخلية. تصور لنا اللوحة الكلاسيكية فعل النخب المرتبطة إلى هذا الحد أو ذاك بشعوبها, والمتعلقة بها والتي تحسب حساباً لمطالبها. تبدو السياسة الاجتماعية للنخبة الحالية من وجهة النظر هذه أشبه بمسرح اللامعقول. يتم كل عام إخراج عشرات المليارات من الدولارات من بلدنا المفلسة, في الوقت الذي لا تسدد فيه للمعلمين رواتبهم أعواماً, وفي الوقت الذي يتعرض الأطفال فيه إلى الإغماء في الصفوف, ونصف السكان يملكون مداخيل لا ترقى إلى مرتبة الحد الأدنى اللازم للعيش (المخفض عمداً ثلاث مرات على أقل تقدير).
ويتضح على الفور اللامعقول في هذه "الإصلاحات" ما إن نتبيَّن أن الذي يحكم هذه البلاد هو نخبة عولمية أنجزت فراقها السري عن أمتها ولا تعتبر "هذا" الشعب شعبها. وإذا ما اتخذ في أحد المنتديات العولمية المغلقة قرار يقضي بتخفيض القدرات الاقتصادية والعسكرية وحتى الديمغرافية تخفيضاً حاداً في بلدنا, فإن عولميينا المطيعين سينفذونه - هذا ما يمليه عليهم وعيهم العولمي الذاتي ومصالحهم.
واضح أن مثل هذه العولمة السياسية ليست سوى مرض. ينبغي إدراك العمليات العولمية المقبلة من وجهة نظر إمكانات تحويلها نحو المصالح الجماهيرية والمراقبة الديمقراطية على نشاط النخب الجشعة المنسلخة عن الأوساط الاجتماعية. لقد قرئ كتاب الديمقراطية الأوربية الجديدة العظيم إلى الآن على المستوى القومي. وينبغي الآن أن يقرأ على المستوى العولمي - من موقع سيادة الأغلبية المستعادة, هذه الأغلبية المدعوة إلى فرض المراقبة الديمقراطية على نشاط النخب الممارَس على المستوى العالمي.
أما ما يخص الأجهزة الأمنية الروسية (وحتى غيرها) فإن التجربة العولمية التي أخضعت لها في أثناء "الحرب الباردة" تحمل أيضاً الكثير من العبر. لقد تغلب "اللاعبون" الأمريكيون على شركائهم بالعولمة غير المحظوظين لأنهم حافظوا تحديداً على ولائهم لبلادهم. تبين أن من يلعب بثقة أكبر في الألعاب العولمية هو ذلك الذي يستخدم بمهارة المعايير المزدوجة: يقترح على الشركاء اللعب استثنائياً وفاقاً لقواعد "العولمة المنهجية", بينما يبيح لنفسه سلفية خدمة الوطن. في حقيقة الأمر, إن أولئك الذين يستندون إلى الرصيد الحي من كمون الدولة العظمى والرصيد الحي من المهابة سيحوزون من غير أدنى شك على الأفضلية مقارنين بالذين لا يوجد وراء ظهورهم غير ضبابيات العولمة. إن أولئك الأخيرين, "بانسلاخهم" عن وطنهم الأم, سيتحولون حتماً في نهاية الأمر إلى "ديسبورة خاصة" ليس لها وطن, وتعيش على بيع الأسرار الحكومية المتقادمة. قدرهم أن يتشردوا في الأرض بحثاً عن أسياد مختلفين, حاملين جواز سفر نازحين غير مؤتمنين على نطاق الكوكب كله.
إن مثل هذه الديسبورة لا تشكل خطراً على البلاد, التي خانها أولئك المنافقون, بقدر ما تشكل خطراً على الحضارة كلها. فخدماتها الاحترافية وطباعها تصير غالباً ملكاً لشتى أنواع العشائر الإرهابية والمافيوية, التي ينمو بسبب من ذلك "احترافها" الإجرامي إلى درجة لا يمكن تصورها.
لقد بلغت موجة معاداة الحداثة التي يغذيها أولئك النازحون إلى درجة من القوة ما كان ممكناً من قبل حتى التفكير بها.

([1]( - كيستلر. الظلمة المضاءة. موسكو, 1990

([2]( - فلاديمير لينين (1870 -1924) سياسي ومُنظِّر روسي, زعيم حزب البلاشفة وقائد ثورة أكتوبر التي أسست الدولة الاشتراكية الأولى في التاريخ. ارتبط اسم لينين بالنظرية الماركسية, واعتبرت أعماله ومؤلفاته تطويراً لها. لديه الكثير من المؤلفات من أهمها "ما العمل" (1902), "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء" (1904), "مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية" (1920). (المترجم).

([3]( - الإدارة الرئيسية للمعتقلات (المترجم).

([4]( - نسبة إلى المذهب المانوي القائل بالصراع بين النور والظلام (المترجم).

([5]( - انظر بانارين ألكسندر سيرغييقيتش. بعد اليوبيل // مجلة العالم الجديد (نوفي مير), 1995, العدد 9.

([6]( - التيرميدور أصلاً هو الشهر العاشر (من 19 - 20 تموز حتى 17 - 18 آب) من التقويم الجمهوري الفرنسي, الذي سرى مفعوله بين عامي 1793 و 1805؛ وقد أطلق هذا الاسم على الانقلاب المضاد للثورة في 9 تيرميدور عام 2 (27 تموز 1794) الذي قضي بنتيجته على الدكتاتورية اليعاقبية وبذلك وُضِع حد للثورة الفرنسية 1789 – 1794. (المترجم).
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-19-2012, 12:07 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

«بند العولمة الخامس»:

اليهود في عالم القطب الواحد


المسألة اليهودية محظورة اليوم؛ إن كل الذين ترهبهم حساسية هذا الموضوع يزجون به, عن قصد أو بغير قصد, في غياهب معاداة السامية. تفضل الأسرة السياسية والعلمية الصمت. كان في الإمكان قبول هذا الأمر لو أن التاريخ قدّر لهذه المسألة أن تظل لاحقاً أيضاً في حال "السبات".
إنني أنطلق من مقدمة مغايرة: إن بانتظار حضارتنا في بداية الألف الثالث هزات وتطورات أخرى غير مرئية. وسيُطرح في سياقها الكثير من المسائل المصيرية, ومن بينها المسألة اليهودية, في صيغ جديدة, وربما غير متوقعة. لذلك من الخطر الشديد إبقاء هذه المسائل غير مطروقة, ومحافظةً على شكل عقد ومخاوف في اللاوعي. وفاقاً للنظرية النفسية التحليلية يعطي التلفظ بالعقد المخفية ضمانات إضافية بعدم اقتحامها المفاجئ منظومة قراراتنا, وتضفي على سلوكنا علنية أكبر ولياقة عقلية أكبر. ويخيل أن المسألة اليهودية بالذات هي المسألة الأكثر رزوحاً تحت ثقل المخاوف والعقد. إن التلفظ بغير المطروق والمخفي في هذه المسألة يعطينا إمكانات إضافية من أجل الحفاظ عليه في جو واقعيتنا ورقابتنا الحضارية.
"نهاية التاريخ" بالأمريكية


يبدو أن القدر قد حكم على اليهود أن يكونوا "عولميين". فوضعهم مزدوج المعنى ذاته باعتبارهم شخصيات وقفت منذ القدم على تخوم الثقافات من غير أن تتطبع حتى النهاية في الوسط الذي أقامت فيه, ومن غير أن تتقبله حتى النهاية, يكوِّن نفسية ذلك الانسلاخ ذاته, الذي عرَّفناه سابقاً على أنها مقدمة ذاتية رئيسية للعولمة.
إن الوعي اليهودي المعاصر ينظم تراتيبية خاصة من ثلاثة أنواع للعولمة - العولمة الغرائبية المرتبطة بالأوهام حسنة النية حول النظام العالمي الجديد, والعولمة الباطنية المرتبطة بالإحساس العالمي للنخب الكوسموبوليتية غير المدرك من "جماهير السكان الأصليين", وأخيراً عولمة الدولة العظمى الإمبريالية, المرتبطة بادعاءات الولايات المتحدة الأمريكية العولمية.
يحب اليهود اليوم أمريكا حباً متعصباً. وينتهي الحديث مع المفكرين اليهود المعاصرين دائماً تقريباً بإطراء الرسالة الأمريكية في العالم وبالنعوت المزدرية بحق الوطنيين السلفيين, المقاومين لمشيئة عصرنا العولمية, التي تجسدها هذه الرسالة. إن أي تشكيك بالحق الأمريكي في تنظيم كوكبنا يلاقى بردة فعل الإحساس بالإهانة, حتى يكاد يخيل أن الولايات المتحدة الأمريكية هي "أرض ميعاد" اليهودية. بماذا يمكن تفسير هذا الموقف البعيد عن التعددية (البليورالية), والمرتبط بالاستعداد لوضع البيض كله في سلة واحدة أو, بكلمات أخرى, بالاستعداد لتقاسم الخطر الناجم عن المغامرة الأمريكية الناظمة للعالم؟
المرجح أن الأمر يتلخص في أن اليهود صدّقوا أمريكا مرتين. أولاً, صدّقوا أنها تجسد فعلاً مُثُل "المجتمع المفتوح" الكلاسيكية, هذا المجتمع الخالي من حواجز التمييز العنصري والأوهام التي تعيق تطبع الغرباء تطبعاً ناجحاً. وثانياً, صدّقوا أن المخططات الأمريكية لإدارة العالم هي واقعية حقاً وليس ثمة أي بديل حقيقي لها – وكل السيناريوهات الأخرى تقود البشرية إلى الفوضى أو إلى الديكتاتوريات العسكرية. في هذا القسم من الرأي يختلف الفرقاء. يفترض بعضهم أن اليهودية العالمية تستخدم الولايات المتحدة من أجل تحقيق أهدافها, وبعضهم الآخر – وأنا من بينهم - يفترض أن أمريكا في هذه الحال تستغل آمال اليهود وتخدع وعيهم.
إنني لا أتحدث عن من يصنفون كمساعدين للمسيحيانيين الأمريكيين سعياً وراء الأجر الجيد - هنا لا يجوز الحديث عن تلاعب, وإنما عن صفقة. إنني أتحدث عن الأوهام حسنة النية, التي تولد المتعصبين.
احتكاماً إلى بضع مؤشرات ثمة الكثيرون من اليهود ينتظرون مرة أخرى "نهاية التاريخ", وينتظرون معها الحل "النهائي" للمسألة اليهودية. ارتبط هذا الحل النهائي في بداية القرن بالأممية الشيوعية, التي ستزيل, لا الحدود والحواجز القومية وحدها, بل والقوميات ذاتها أيضاً مع اللغات القومية - وبذلك تحوِّل البشرية كلها إلى ديسبورة سعيدة, لا تعرف وطناً. يرتبط حل المسألة اليهودية الآن بـ "المجتمع المفتوح" العولمي. أمس كانت لا تزال ملحوظة في خطوط كفاف هذا المجتمع المفتوح بضعة ملامح من المشروع التنويري, المؤسس على فرضيات العمومية والتعددية والديمقراطية. اليوم صار يبرز على نحو مكشوف أكثر المحتوى الإمبراطوري.
يبدو الأمر وكأن العالم اللاغربي كله تقريباً غارق في الشر, وتحويله إلى أرض المعياد مستحيل. ليس ثمة لزوم أيضاً لوضع الآمال على قوى التقدم المُغْفلة, التي تنقل آلياً الإنسانية السعيدة نحو المستقبل المشرق. ويبقى مخرج وحيد: الاتكال على أمريكا في تنفيذ رسالة الرقابة الديمقراطية على غالبية الكوكب غير الديمقراطية. الضمانات لليهود في هذا العالم المليء بالشك مرتبطة بالحضور العولمي الأمريكي. بالتالي ينبغي أن تضعف إلى أقصى حد كل السيادات الذاتية القومية القادرة على معارضة هذا الحضور, وينبغي أن تفرض الرقابة العالمية الأمريكية في كل مكان, وينبغي أن تَنْفَذ إلى كل شيء.
واضح أن الحديث في أثناء ذلك ما عاد يدور عن ذلك الوعي, الذي ينتظر بدماثة تطور النزعات الموضوعية التي تقود باتجاه محدد مسبقاً. يدور الحديث عن اختيار الموقف المرتبط بالمخاطرة والصراع والضراوة. في الواقع إذا عُلِّقت الآمال كلها على الحماية الأمريكية العولمية فإن من الضروري قدر الإمكان تقويض موقف الدول القومية في العالم كله وتقويض الموقف الوطني "الدفاعي" القابع خلفها. صار الناس المحتفظون بهذا الموقف يُعتبرون أعداء أمريكا وأعداء اليهود بآن معاً, إنهم الغالبية الحمراء – البنية الشريرة التي تعيق الحل النهائي لمسائل بناء العالم بالطريقة الصحيحة الوحيدة.
لنسأل أنفسنا السؤال التالي: ألسنا نتعاطى مع إصدار حكم نهائي جديد على التاريخ الإنساني قبل الأوان؟ ألا ندفع الإنسانية هنا باستعجال نحو النهاية, التي لا تناسبه, والتي لا تعتبر في حقيقة الأمر نهاية؟
هل يمكن التأكيد بأن أميركا ستنجح في مهمة وضع اليد نهائياً على العالم؟ فعبر تاريخ الإنسانية الممتد منذ آلاف السنين وحتى الآن لم يشهد أحد مثالاً لهذا. لقد نشأت الإمبراطوريات العالمية وظهرت مشاريع الاحتلال التي هزت العالم, لكن كان يمر بعض الوقت وتتناثر "الدول الألفية" مثل منزل من ورق اللعب. وكان يخيَّل لحاملي هذه المشاريع في كل مرة أن كل شيء قد حسم نهائياً "ولا قدر آخر".
إذاً فلنتخيل أن اليهود في أغلب البلدان التي لا زالت تقاوم الادعاءات الإمبراطورية العولمية الأمريكية قد اكتسبوا في نظر السكان المحليين سمعة راسخة بأنهم "طابور خامس" أمريكي, ثم انهار المشروع الأمريكي: ألن تفوح من هذا رائحة المجازفة الكبيرة جداً لكل من ربط مصيره بهذا المشروع قبل الأوان وبغير تبصر؟
وحتى إذا تخيلنا أن الاحتلال الأمريكي للعالم قادم فعلاً فهل تبدو السيطرة الأمريكية كافية للتدخل السريع والفاعل في جميع "أطراف العالم " المحتلة بهدف الحؤول دون الأعمال المعادية للسامية وضمان الرفاهية والاستقرار لليهود؟ ألن يكون لدى الإدارة العالمية الكثير من الهموم الأخرى, حتى تركز قواها كلها من أجل حل المسألة اليهودية وحدها؟
أخيراً, من غير الممكن استثناء الخطر الآخر: ألن تتغير شعارات فاتح العالم ذاته ومبادئه حين تتكلل خططه بالنجاح؟ وإذا ما بدا للمحتل مفيداً استخدام ديماغوجية معاداة السامية من أجل توطيد السلطة في المواقع وخداع جماهير السكان الأصليين, فهل سيقدر على التغلب على هذا الإغراء؟ باختصار, ووفاقاً للعديد من الاعتبارات, يبدو الحل الحالي "الأحادي" للمسألة اليهودية المرتبط بالتوجه الاستثنائي نحو الولايات المتحدة الأمريكية ورسالتها العالمية, أقل إيثاراً من الحل التعددي التقليدي, المرتبط بتطبيع اليهود في بلدان إقامتهم وبعلاقتهم الوفية بالسكان المحليين.
لنتناول الآن المسألة من جانب مغاير. حين يدار الحديث عن ذلك الشعب ذي التقاليد القديمة مثل هذا القدم, والذي سطر صفحات ناصعة في تاريخ البشرية الوجداني, وفي مسيرة تشكيل وعيها التاريخي لذاتها, فإن اعتبارات التوفيق والأمن البراغماتية هي غير كافية على نحو جلي. يخيَّل لي أن "صيغة خلاص" اليهود الأمريكية أكثر إثارة للشك في الحسابات الكبرى من الحسبة التي تبدر عن الوعي الاستهلاكي المعاصر المتعطش إلى التوفيق المادي والراحة والأمن فقط.
تدخَّل اليهود في تاريخ إمبراطورية عالمية رائعة وغريبة عنهم – هي الإمبراطورية الرومانية, وقد أوقع هذا التدخل أحد أعظم انقلابات الإنسانية الروحية المتعلقة بحل مسألة التناسب بين الجسدي والروحي, بين القوة والأخلاق, بين المفيد والعادل, حلاً جديداً. وبعد ذلك, وحتى قيام ثورات العصر الحديث العظيمة وقف اليهود إلى جانب المستائين والمظلومين, ورموا معهم القفاز في وجه القوة المتسيدة غير المعتادة على مواجهة المقاومة. كان الطبع اليهودي منذ قديم الزمان مناهضا للاستبداد وملهماً في المواقف التي تطلبت إهانة القوة المتغطرسة وتقديم الوعد للضعفاء الذين يفتحون أفقاً تاريخياً جديداً نوعياً.
هل نستطيع القول إن التوجه "المركزي الأمريكاني" الحالي لعدد كبير من اليهود يتماشى مع هذا التقليد العظيم؟ ليس مرجحاً أن أشياع "الرسالة العولمية" الأمريكية الحاليين بسيطون إلى هذا الحد ليصدقوا أن الدافع الحقيقي للتوسع الأمريكي الجيوسياسي هو الاهتمام فعلاً بحقوق الإنسان. سيبدو تمظهر الرقة الساذجة أمام سياسة عالم القطب الواحد الأمريكية غير مقنع ومزيف إلى درجة أن عزة النفس البسيطة لا تسمح بالتعبير عنه. إن المركزية الأمريكية اليهودية الحالية لا تعبر عن الحماسة والحنين العاطفيين بقدر ما تعبر عن الاتكال على القوة والسلطة.
إن المنهج التوحيدي اليهودي الذي ناهض عبر القرون التجارب الوثنية لخلق الأصنام والإغراءات بالنجاح اللحظي, يكاد أول مرة في التاريخ يسلم مواقعه لشياطين الغرور الاستهلاكي التافه والخنوع المتباهي برعاية القوة العالمية.
نفسياً, يمكن تفسير هذه التبدلات في الوعي, المرتبطة بتحول الخنوع والخوف إلى فخر وتحول الضعف إلى "قوة حديدية" عديمة المشاعر. لنتذكر أن المفوضين البلاشفة كانوا يؤكدون دائماً على "الأناس الحديديين" الجدد الذين يدوسون الأخلاق القديمة. لكن "إنسان البلشفية الحديدي" انتفض في وجه الأقوياء, مدافعاًً عن الضعفاء, وبذلك كان مخلصاً لتعاليم الإرث الروحي اليهودي – المسيحي.
يتحدث الوثنيون الجدد الحاليون بلغة مغايرة. إنهم يظهِرون أول مرة بعد الانقلابات الفاشية في أوربا احتقارهم للعرق الدوني, عرق المنحوسين وغير القادرين على التكيف. وليس مهماً أن العنصرية في هذه الحال لا تستخدم معايير أنثربولوجية يثبتها علم الجينات بل تستخدم, أساساً, معايير السوق والمعايير الاقتصادية. لقد أُكسِبت نظرية السوق اليوم ملامح الاصطفاء الطبيعي العنصري الذي لا يرحم غير القادرين على التكيف - حتى لو تبين أن الحديث يدور عن غالبية البشرية.

بعث أم انحطاط

هيا بنا نمعن الفكر في الآفاق المختلفة في الحالين: حين يدور الحديث عن اتحاد الأقلية اليهودية مع الأغلبية المظلومة وحين يدور الحديث عن الحال المعاكسة – عن اتحادها مع الأقوياء, ومع سادة العالم اليوم ضد الأغلبية المنحوسة و"السلفية".
واضح أن ما ينتظرنا هنا ليس فقط العواقب السياسية الخاصة التي ما زالت غير متكهن بها كثيراً. يدور الحديث عن التحدي الحقيقي للتقاليد الإنسانية العالمية كلها, التي اعتُبِرت نقطة انطلاقها انقلابات "الزمن المحوري" العظيم التوحيدية. وعلينا في المقام الأول أن نقرر النتائج الأخلاقية. تفترض العولمة المركزية الأمريكية "ثورة أخلاقية" حقيقية, محفوفة بالتشكيك بأحكام الوعي الكلاسيكية جميعها, المتعلقة بالتضامن مع المحرومين وبروح الرأفة والحساسية الأخلاقية.
ليس من قبيل المصادفة أن تجد كلماتٌ مثل "العدالة الاجتماعية", "المساواة", التضامن", "التعاطف" مكاناً لها بين عداد الكلمات التجديفية في اللغة العولمية الحديثة, إلى جانب "الوطنية" و"خدمة الوطن" و"الإخلاص للتقاليد الشعبية". إننا نرى هنا, من جهة, تحدياً لأخلاق التنوير السياسية, المُسخّرة لخدمة الفقراء وغير المتنورين. ومن جهة أخرى تحدياً للأخلاق الإنسانية العامة بمجملها, فحيث يدور الحديث عن وجوب نزع أي حواجز تَعوق اصطفاء السوق الطبيعي يصير المستهدف هو الإحساس الأخلاقي ذاته. لم يشهد تاريخ البشرية بعد مثل هذا القدر من الاتكال الصريح على القوة والنجاح المتحولين إلى مؤشرين مطلقين وقيمين للجودة, وإلى معيارين نهائيين لكل من هو جدير بالعيش على الأرض, ولكل من هو غير جدير بذلك. أليس في مثل هذا الموقف – والكثيرون من المنظرين والمؤلفين اليهود لا يأنفون من لعب دور طلائع مؤيدي هذا الموقف - مغامرة مزدوجة؟
أولاً - تؤكد هذه المغامرة أسوأ مخاوف "السكان الأصليين" من اليهود ومن "أخلاقهم الطائفية تجاه جماعتهم", إنها, بكلمات أخرى, تؤكد أسوأ فرضيات معاداة السامية.
وثانياً - هذه مغامرة داخلية, تمس تحديداً الآفاق الروحية وسمعة اليهودية في العالم. يدور الحديث في هذه الحال عن دوافع الإبداع الروحي ومنابعه. بدا التاريخ اليهودي على مر الكثير من القرون وكأنه انشطر مخلفاً أنموذجين متطرفين. نجد في الجهة الأولى أنموذج المرابي والصيرفي والتاجر, الذين يتحدد نجاحهم بمقياس الابتعاد عن الأخلاق العامة وبعلاقتهم غير العاطفية مع محيطهم الاجتماعي. ونرى في الجهة الأخرى أنموذجات ساطعة ومتوهجة على نحو غير عادي وتصبو إلى تقاليد القداسة والنبوة العظيمة, ولا تسمح للنار المقدسة بأن تنطفئ في عالمنا البارد. ليس ثمة أي شك في أن أنصار العولمة لن يسمحوا بانقطاع التقاليد التجارية - الرِبوية, وما يسمونه اليوم اقتصاد السوق يذكرنا أكثر ما يذكر بالمراباة القديمة عديمة الخجل المرتبطة بالديسبورة المترحلة لكهنة العجل الذهبي, وليس بأخلاق ويبر البروتسانتية.
في هذا السياق يبدو مغايراً تماماً أفق التقليد الآخر, الذي تدين لـه اليهودية بمتناقضات مصيرها التاريخي العظيمة وسمعتها الوجدانية. والمخاطرة بأن يختفي التناقض اليهودي العظيم اليوم من العالم, وبأن نحصل على نمطية أحادية عوضاً عن الازدواجية الغامضة في المصير والوعي اليهوديين, كبيرة جداً. لكن هل سترضى الأنفة اليهودية بمثل هذا الحل لمصيرها, وهل يكفيها أن تُعتَبر تجسيداً لأخلاق النجاح التجارية الاستهلاكية؟
إنني أتبنى موقف "نقد القدرة على الفكر" الكانطي([1]), حيث يجري التفريق بين أفقي الموهبة والعبقرية في الثقافة. الموهبة لدى كانط واقعية جداً وتمتاز بمقدرتها على تجنيد جميع المقدمات المتوافرة, ونَظْمها في إطار منطق واحد يقود إلى نتيجة ناجحة. أما العبقرية لدى كانط فهي على الأرجح رومانسية أكثر منها واقعية, وتحمل تجلياتها طابعاً صوفياً - إنها ليست من هذا العالم, إنها تحتوي استجابة لعالم جبلي آخر, ونور نجوم أخرى.
ونسأل أنفسنا إذ نترجم هذا إلى اللغة المعاصرة: هل ثمة علاقة بالإلهام الإبداعي الكبير لنشوات الوعي الأخلاقية – الدينية المنطلقة إلى ما وراء أفق هذا العالم, الذي لا تكتسب فيه الأهميةَ الحاسمةَ إلا الثمار الناضجة وشروط البداية فقط؟
ألا يكون نفاد الأفكار التأسيسية الكبرى, التي يتحدث عنها اليوم الكثيرون من محللي الثقافة والعلم, متعلقاً, تحديداً, بالفتور الكبير الذي أصاب الوعي الأخلاقي – الديني, وبما فعله بالثقافة جيل العصر ما بعد الديني الثاني؟ لقد برز الملحدون الأوائل, كما حزر دوستويفسكي, كمتعصبين للإيمان - وإلا لماذا كانوا سيتعصبون؟ لقد آمن الثوريون الحانقون ومناهضو الاستبداد وبناة الجنة على الأرض بأعجوبة التحول والميعاد والمتناقضات, التي أوصت بها المسيحية: عن النعيم النهائي للفقراء بالروح, الذين سيرثون الأرض, وعن نعيم المطرودين بسبب من الحقيقة, ونعيم الحزانى والودعاء. إن داروينييّ العولمة الاجتماعيين الجدد يُقومون الأفق أمام الفقراء والحزانى والودعاء على نحو مغاير. إنهم غير ميالين لأن يروا في الواقع المحيط وفي التاريخ الإنساني مؤشرات "البعد الآخر", التي لا تقود قط إلى حيث يشير منطق الاصطفاء الطبيعي, والتحليل البراغماتي كله. هل الوعي العقلاني تماماً والبراغماتي قادر على القيام بفتوحات عظيمة في الثقافة؟ ألا يتهددنا فقدان البعد الثاني المتسامي نحو الصوفية اليهودية - المسيحية, نحو الذرى الجبلية, بأن نفقد في الوقت نفسه الإلهام الإبداعي الكبير وبتحويل فروع الثقافة كلها إلى خدمة المنفعة؟
لمن الثقافة والعلم مدينان بالإضاءات والاختراقات الأعمق: ألأولئك الذين يوجههم الطلب الاجتماعي المصاغ بدقة, وحال السوق, أم لأولئك الذين لا يتبعون المنفعة بل الإلهام السامي؟ حتى قواعد العلم الاجتماعية البعيدة عن النشوات الروحية الصوفية تشير إلى الفرق الواضح بين دوافع المعرفة التطبيقية والتأسيسية, فالأخيرة مرتبطة بتجنيد منابع الروح الإبداعية غير النفعية.
لنعد إلى المسألة اليهودية. هل سيوافق اليهود, في حال معرفتهم الدقيقة لا للعواقب السياسية وحدها, بل الروحية أيضاً, على تجاوز الازدواجية في مصيرهم ووعيهم نهائياً لصالح الاتجاه الواحد والمعنى الواحد, الذي يروج له براغماتيو العولمة, أي لصالح الثقة التامة بهذا العالم الذي تحددت فيه تراتبية المنتصرين والمهزومين, القادرين على التكيف وغير القادرين عليه, المختارين والمنبوذين؟
إن القطيعة مع غالبية الكوكب غير القادرة على التكيف لصالح حلف المنتصرين وسادة هذا العالم ليست محفوفة بالمخاطرة السياسية وحدها.

هذه القطيعة محفوفة بفقدان تلك البكرية الروحية, وبفقدان فتوحات الوعي النبوي المنتشي, التي ارتبط بها ذلك القدر من المرات الكثيرة التي دان بها العالم بالقيادة الروحية لليهود.
يعني هذا في حقيقة الأمر فقدان التماثل المتسامي نحو التقاليد التوراتية, ونحو نص العهد القديم الذي تنبأ بالظفر النهائي, لا لذلك الذين انتسب إلى أسياد هذا العالم ليقاسمهم نجاحاتهم, بل لذلك الذي لم يفزع غير مرة من نبذه, ولذلك الذي يحسن الانتظار.
يجازف اليهود المتكيفون مع وضع السيادة الأمريكية في العالم بما هو أكبر من المخاطرة البراغماتية - إنهم يجازفون بتسخيف التاريخ اليهودي كله, ويغامرون بموت الأسطورة اليهودية في الثقافة. لقد بلغت معضلة التاريخ اليهودي الأزلية اليوم حدتها القصوى. إما التطبع النهائي الذي لا عودة عنه في معسكر المنتصرين, معسكر أسياد هذا العالم, وإما الحفاظ على التماثل غير المرتبط بمؤشرات اللغة والعرق التجريبية بقدر ما هو مرتبط بالحل المحدد لمسألة الرسالة. إذا تبين أن سيادة أمريكا في العالم عولمية حقاً ونافذة إلى كل مكان فإن على اليهود, الذين جعلوا خيارهم لصالحها, أن يذوبوا وسط المنتصرين. إن أي انتكاسةِ عزلةٍ, وأي تباعد سيكونان خطرين إلى أقصى حد بسبب من استياء جماهير الأطراف المحتلة من ممارسات "الطابور الخامس" الشهير. ما كان "البند الخامس" سيئ الصيت, الذي يُشبَّه منذ اليوم بممارسات "الطابور الخامس", ليبقي لليهود أي خيار آخر غير الذوبان كلياً بين المنتصرين, وغير التأمرك الخارجي والداخلي. وقد بتنا نلحظ اليوم بعض أعراض هذا التقمص اليهودي لـ "عرق الأسياد" الأمريكي. يبدو هذا لبعضهم انبعاثاً, لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الشريحة التي ولدتها التقاليد اليهودية النبوية الكبيرة فإن الأنسب هو الحديث عن خطر الانحلال.
لكن علينا أن نقول إن لهذا القدر من "تأمرك" الوعي اليهودي الجماعي مقدماته ذات الطابع ما فوق الفردي أو ذات الطابع البنيوي. يتلخص الأمر في أن لدينا اليوم تطابقاً مذهلاً في عمليات ازدواج بنى الوعي التي تشمل أمريكا الرسمية و"الطليعة الليبرالية" اليهودية في بلدان العالم المختلفة. وتبرز هذه الازدواجية في اللحظة ذاتها التي يجري فيها تقرير مصير الإرث الأعظم من موروث البشرية – أي إرث التنوير (الحداثة).

ربط التنوير مصيره, من بين مستويات دينامية الارتقاء الإنسانية الثلاث الممكنة - العولمي (الكوكبي), والقومي (ما فوق الإثني), والقبلي (الإثني), بالمستوى الثاني. صارت حقبة التنوير حقبة تشكيل الأمم الموحدة الكبرى عن طريق صهر الإثنيات المتجاورة والثقافات الفرعية في جماعات اجتماعية تاريخية كبيرة, تكتسب فضاءً اقتصادياً وسياسياً – حقوقياً وتعليمياً – إعلامياً كبيراً موحداً. إذا رمزنا إلى توافقية المستويات العولمي والقومي والمحلي بالأحرف ع – ق – م فإن صيغة التنوير ستبدو خصوصاً بعبارتها الفرنسية الكلاسيكية على النحو التالي: 0 - ق – 0 (يسحب المستويان العولمي والمحلي إلى خارج القوسين, وتكتسب العبارة المستوى الأوسط – القومي).
أنتج التاريخ الثقافي والسياسي الألماني صيغته المغايرة بعض الشيء:
0 -ق - م (يسحب المستوى العولمي إلى خارج القوس باعتباره تجريداً, وتصير العبارة العملية مؤلفة من تزاوج المستويين القومي والمحلي الإثني الإقليمي مع سيادة القومي غير المشروطة). نضيف على الفور أنه حتى هذا التنازل الخاص للبداية المحلية والإثنية القومية قد لعب دوره الدراماتيكي في تاريخ الشعب الألماني السياسي والوجداني.

وها نحن نلحظ اليوم محاولة إعادة تشكيل بنية الحداثة ذاتها عن طريق تحريك جهود التقدم كلها من المستوى القومي الأوسط إلى المستوى العولمي. والذي ينشِّط هذه المحاولة هو المجمع الإمبراطوري الأمريكي والديسبورة اليهودية المؤيدة لـه في المناطق. يدك الأمريكيون حصون الدول المستقلة الكبيرة القومية بآلتهم الصناعية - العسكرية والمالية والدبلوماسية, أما الديسبورة اليهودية فتنخرها بـ "تهكمها" الذي يطال كل شيء ويفتته. لقد خدم هذا التهكم اليهودي قضية التنوير في وقت ما خدمة أمينة على الرغم من أن الدافع إليه ربما لم يكن تنويرياً بقدر ما كان مرتبطاً بفرضية الشعب المختار القديمة. كانت قضية التنوير في زمنها في حاجة إلى رجالات ينتفضون بقوة ضد الأصنام القديمة وكذلك ضد كل ما هو فاسد وبدائي ومحلي. لقد نظف "التهكم" التنويري المكان لعموميات التقدم – الفضاءات الموحدة الكبيرة, المخصصة من أجل تحقيق ذات الإنسان الجديد, الذي ما عاد يمثل خصوصيةً إثنية إقليمية ومحلية, بل أمةً سياسيةً موحدة, في أسسها, ودينامية وناظرة لا إلى الماضي بل إلى المستقبل.

صار رجال الفكر اليهود, غير المقيدين من حيث التعريف بالوسط الإثني المحلي وعاداته, معاوني التنوير الأنشط في عملية التنظيف هذه. يحرم إله إسرائيل الغيور تحريما تاماً عبادة الآلهة الأخرى وخلق الأصنام. لذلك تغذى التهكم اليهودي, الموجَّه منذ قديم الأزل ضد الأصنام الوثنية الغريبة عن اليهودية, بعقدتي العهد القديم التفوق والشعب المختار. لم يشعر اليهود بالأسف على أصنام الآخرين؛ لكنهم شعروا بالوقت نفسه بالغيرة منها باعتبارهم أناساً مرشحين تقليدياً للاحتكار ككهنة إيديولوجيين ومرشدين للبشرية – ورثة طائفة اللاويين.
كان من الصعب على عمل التنوير التنظيفي الموجه ضد الأصنام القديمة كلها أن يكون نافذاً وغير مهادن إلى هذا الحد لولا طباع الطليعة اليهودية, التي أضفت على كل جديد في الحداثة شكلاً راديكالياً أعظمياً. لكن كمن في هذا أيضاً خطر مرتبط بازدواجية بنية الوعي اليهودي ذاتها. كان صعباً جداً على الطليعة التقدمية اليهودية الالتزام عند وسط التنوير الذهبي - على مستوى الدولة – الأمة. لقد راحت تنجذب, باعتبارها ديسبورة كوسموبوليتية غير مرتبطة بأطر الإخلاص الوطني, نحو"العولمة", نحو مستوى "مواطني العالم" غير المقيدين بأي قوانين قومية. وكانت لا تفعل شيئاً, باعتبارها مجموعة إثنية خاصة مجروحة ويحركها الإحساس بالتكافل والتضامن تجاه أفرادها, غير الانزلاق نحو مستوى الباطنية القبلية والغمز التآمري لأقرانهم في القبيلة. مع العلم أن مفهومي الباطني والقبلي هذين قد تضافرا على نحو عجيب وغامض حتى أن إجراءات معرفتهما وفصلهما كانت صعبة جداً ليس فقط على المراقبين من الخارج بل على الطليعة اليهودية نفسها.

المُلْك والقداسة


تلخص التناقض الدراماتيكي في أن المحاولات اليهودية لجعل الحداثة راديكاليةً, وإكسابها شكل ثورات سياسية وثقافية لا تقبل الحلول الوسط قد انقلبت في أحيان كثيرة إلى سقوط في سلفية العهد القديم القبلية. بهذا المعنى يبدو ذا دلالة كبيرة جداً مصير الفكرة الاشتراكية التي استحوذ عليها المفوضون البلشفيون واحتكروها.
بدأت الاشتراكية, على غرار غالبية الحركات العظيمة في عصر الحداثة, تتطور في مستوى الدولة – الأمة الأوسط (غير العولمي). لقد أكسبها هذا رسوخَ العمليةِ التاريخيةِ الطبيعية, المرتبط بتحقيق الذات من قبل الأمم العظمى الخارجة من التنوير والتي تحل مشاكل مستقبلها على شكل إبداع ذاتي مستقل. كان في مقدور كل شعب من الشعوب أن يحقق بطرقه الخاصة مُثُل الاشتراكية الملهمة والمُعْدية, التي تؤلف خلاصة إرث أوربا التنويري العام. كمنت خصوصية التنوير الأكثر نفعاً في فطرية نبضه: لم تكن أهدافه ومقاييسه ومثله مصوغة بطريقة مذهبية متشددة ما ومفروضة على الأغلبية, بل عكست أفضل آمال هذه الأغلبية ذاتها, التي اجتاحتها روح الحداثة من غير أن تلحظ هي نفسها ذلك. ليس مصادفة أن المنورين كانوا يتوجهون على الدوام إلى الإنسان الطبيعي وإلى "طبيعته" – كانوا يشمئزون من العلاقة الوصائية - المتعالية بالجماهير, التي وثقوا بـ "عقليتها" وثوقاً كاملاً. فكيف كانت ستبدو الاشتراكية المتماشية مع أحكام الطبيعة التنويرية هذه؟
واضح أنها لا يمكن أن تكون شيئاً يتنافى مع تجسيد مطلب الشعوب الاجتماعي الناضج, ومع التعبير عن آمالها. لنتذكر شعارات البلشفية الأولى, التي سرقتها من حزب الأغلبية – حزب الاشتراكيين الثوريين (الإسير): "السلم للشعوب", "الأرض للفلاحين", "المصانع للعمال". هذه الشعارات, التي عكست المرحلة الديمقراطية العامة من الثورة الاجتماعية الناضجة, لم تكن تحتوي في ذاتها على أي شيء دوغمائي – فئوي, ولا على أي باطنية مصطنعة غريبة عن الفكر الشعبي السليم. لم تغتصب مثل هذه الاشتراكية ولو قليلاً "طبيعة" الإنسان اليهودي الجديد وتطابقت مع المبدأ المعبر عن كرامته: "أن يكون سيد نفسه" – أن يكون شخصية مستقلة غير خاضعة لوصاية, وتلتزم بأسمى مثل العدالة.
كان مبدأ وحدة العمل والملكية هو التعبير الأسمى عن هذه "العدالة الطبيعية". ينبغي أن تعود الأرض لأولئك الذين يعملون بها – أي للفلاحين؛ والمنشآت الصناعية لأولئك الذين يكدحون فيها – أي للتعاونيات العمالية. وفي حال تحقيق روسيا ذلك كانت ستحصل على مجتمع الاشتراكية التعاونية, الخالي من المذهبيات المتطرفة الضيقة مثل رفض السوق والمال, ومن الإنتاج وفاقاً لخطة واحدة مصوغة من قِبل بيروقراطية الرقابة القوميسارية المتكوِّنة والعارفة بكل شيء.
كان ينبغي أن يبرز المنتجون التعاونيون والأفراد في المدن والأرياف كمنتجي بضائع لا يملكون أي امتيازات خاصة من خارج السوق, وكمتحررين من ضغط المجموعات السابقة صاحبة الامتيازات. إن الشخصية المركزية لمثل هذه الاشتراكية الشعبية ليست ما يسمى البروليتاريا, بل المستثمر الكادح المستقل. وهذا يمكن أن يكون إما مستثمراً فردياً (أسرياً) مزارعاً أو حرفياً, وإما مستثمراً تعاونياً في المؤسسات التعاونية في المدن. يدل نطاق الحركة التعاونية ذاته في روسيا, التي شملت عشية الانقلاب البلشفي عشرات الملايين من السكان ذوي المبادرة الذاتية, على الطابع التاريخي الطبيعي الناضج لهذه الثورة الاجتماعية الاقتصادية. فما الذي يفعله في هذه الظروف المفوضون البلشفيون الذين استولوا على السلطة؟
إنهم يراقبون تفتح الحياة العفوي هذا كله بغيرة كهنة التعاليم الأممية العظيمة, المهددة بأن تبقى من غير عمل. لقد جابهوا اشتراكية الفلاحين والعمال الروس العفوية والمحرومة من أي نوع من أنواع الصرامة المذهبية بالمذهب الاشتراكي العولمي, الناضج في عقول موسى الجديد - مرشد الجماهير العمياء والعنيدة وغير العارفة "بمصالحها الحقيقية".
عموماً, فيما يخص موسى هذا – والحديث يدور عن ماركس, فإن من الضروري أن ندقق مشيرين إلى أنه كان في الوقت نفسه وريثاً لفكرة العهد القديم حول الشعب المختار وابن التنوير المؤمن بأن التقدم إجمالاً يتطابق مع تحقيق ذات الإنسان اليهودي الجديد. لقد تجلت الميول السلفية لدى ماركس إلى فكرة الشعب المختار, التي تجبرنا على تذكر الأصل القديم ما قبل المسيحي, في أن المكان في المجتمع الاشتراكي المقبل لديه لن يكون مخصصاً للجميع بل استثناءً للبروليتاريا التي سينبغي عليها أن تكون حفارة قبر الطبقات الأخرى.
لكن ماركس على الأقل, واحتكاماً لكل شيء, وثق تنويرياً بالمبادرة التاريخية الحرة لهذه الطبقة. يستعرض مؤسس البلشفية الخطوة الجديدة على طريق انسلاخ التعاليم الفئوي عن الاختبار التجريبي وعن مصالح الجماهير اليومية. فحتى الطليعة البروليتارية, كما هو معروف, لم تكن تستحق ثقته الحقيقية, لأن "الوعي الاشتراكي "الصحيح", كما يعلن في مؤلفه "ما العمل؟", لا تستطيع تكوينه حتى البروليتاريا بقواها الخاصة: من يكوِّنه هم كهنة ماركسيون خاصون, يبثون في الجماهير البروليتارية ما لا تحتويه في ذاتها وهو – الوعي الاشتراكي الصارم. تنتج عن هذه الصرامة المذهبية اشتراكية مختلفة تماماً, ليس فيها ما هو مشترك مع العلنية والبساطة التنويريتين, - تنتج اشتراكية المفوضين الفريسيين – الأوصياء على "العقيدة" وحماتها.
خيل للمفوضين البلاشفة أول الأمر أنهم يقدمون, عوضاً عن نسخة الاشتراكية الوسطية والمتهاودة والاشتراكية الديمقراطية والمذنبة بالتنازلات لـ "الفوضوية البرجوازية الصغيرة", الأنموذج الصحيح الوحيد, والمنطقي الجريء والذي لا تشوبه شائبة مذهبياً. صار التنوير ذاته عندهم موضع شك لبساطته تحديداً – أي تطابقه مع نبض التحرر العفوي وتحقيق الذات الذي تمَلَّك جماهير البشر في عصر الحداثة. لقد شهرّوا بكل المساعي الديمقراطية العامة والشعارات باعتبارها متهاودة وغير كافية ومشوبة بروح الحلول الوسط مع البرجوازية البغيضة.
إلغاء الرقابة غير كاف من أجل حرية الكلمة الأصيلة, والدساتير الديمقراطية غير كافية من أجل حرية الإبداع السياسي, والتشريعات المتعلقة بالمسألة العمالية غير كافية من أجل حل هذه الأخيرة حلاً فعلياً, إلخ...
وها هم نقاد "الديمقراطية البرجوازية" المحدودة أولئك يمسكون بزمام السلطة ويشكلون بسرعة كبيرة وعلى نحو لم يلحظوه هم أنفسهم مجتمعاً مفصلاً وفاقاً لأنموذج فوق سلفي, خيل أن التاريخ قد دفن أمثاله نهائياً.
وهنا تباغتنا التناقضات الأكثر إثارة للغم في تلك الاشتراكية غير الراغبة في أن تكون شعبية وقومية, وإنما عولميةً موحَّدةً, وغير أمينةً لمشيئة الحياة بقدر ما هي أمينة للنص المقدس. ويسقط على نحو مفاجئ مغالو الحداثة البلشفيون في سلفية العهد القديم القبلية وفي اللاحداثة المنهجية وفاقاً للقانون الغامض القاضي بتحول العولمي إلى قبلي ما إن يتحطم المصطلح الوسط – القومي العام.
لنأخذ أحد أحجار الزاوية في هذا المذهب, وهو مبدأ التخطيط البيروقراطي الشامل. تكتشف الثورة الاقتصادية البلشفية هنا تحديداً ملامح اللاحداثة المنتهية. هل يمكن في الواقع تصور أن حياة هذا المجتمع الكبير الاقتصادية, بعلاقاتها ومبادراتها ووسائطها التي لا تحصى كلها, يمكن أن تضبط بمجموعة أوامر مركزية مقرة مسبقاً؟ واضح في الواقع أن أنموذج المجتمع الصغير ينبعث هنا – أي أنموذج مشاعات أفراد القبيلة, الذين بعضهم يعرف بعضاً معرفة شخصية ويديرون اقتصاداً عينياً. لقد قدمت الطوباوية البلشفية اللاسوقية, تحديداً, الشكل المحول لهذا الاقتصاد العيني, الخارج من أطر معايير المجتمع الصغير الطبيعية والمتطلب, لهذا السبب, إقامة بيروقراطية شاملة.
يعتبر جديدُ البلشفية في البناء الدولتي السياسي والإيديولوجي شكلاً آخر أشد إثارة للانطباعات من أشكال التحول المعكوس من "ما فوق المعاصَرة " إلى ما فوق السلفية. لا يستطيع أي مراقب أن لا يذهل من القدر الذي تذكِّرنا به المُثل الشيوعية ما فوق الحداثية عن المجتمع اللادولتي بمُثُل إسرائيل في العهد القديم في زمن عصر القضاة. المجتمع الموجَّه والمدار من الكهنة – القضاة, هو, حتى وفاقاُ لمعايير الشرق القديم, عبارة عن أنموذج غير مأنوس للملل التيوقراطية تيوقراطيةً راسخة, حيث لا يراقب السلوك الخارجي فقط وإنما نمط أفكار الملة نفسه.
إن هذه اللهفة على المجتمع, المرتكزة على مبادئ العقائدية النافذة إلى كل شيء وعلى الإلهام المنتشي المستمر, تشير إلى أنموذج الوعي القبلي اليهودي الأقدم. يرى هذا الوعي أن أي دولتية تقصر رقابتها على سلوك الأتباع الخارجي, وغير مبالية بالضرورة بما يكنونه في سرائرهم, هي امتهان لا يطاق لكل ما ينبغي في نهاية الأمر تدبيره على الأرض. لا ينتقد مثل هذا الوعي "عنف الدولة" انطلاقاً من المواقف التنويرية التي تترك للمواطنين حرية تقرير الذات الداخلية الوجدانية, وإنما من مواقف التيوقراطية الكهنوتية مع ما تحمله من رقابة مستبقة على الأفكار والآراء.
يعكس سفر الملوك الأول في العهد القديم المواجهة بين المُلك والقداسة, وبين البيروقراطية الإدارية الدولتية الباردة والوصاية الكهنوتية الدافئة (لا بل الحارَّة),. حين توجه الحاكم صموئيل طالباً النصيحة من الله ذاته للرد على طلب الشعب المتعب من الوصاية الكهنوتية الشاملة والراغب على الأقل في إضفاء شيء من أجواء الحياة الاجتماعية على رقابة الدولة القيمية الحيادية (البيروقراطية العقلانية), أجابه الله بروح الواقعية المتشائمة قائلاً: "اسمع لصوت شعبك في كل ما يقولون لك. فهم لا يرفضونك أنت, بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم". (التوراة, صموئيل الأول 8: 1 - 7). منذ ذلك الحين والوعي اليهودي محتفظ بالحنين إلى المجتمع الأصيل, غير المطلع على أحكام المُلك الخارجية, لكن المذعن لأحكام القداسة الداخلية وحدها.

إن تاريخ الدولتية البلشفية السياسي – العقائدي كله هو عبارة عن تضاد بين الملك والقداسة, تضاد بين العقلانية البيروقراطية الإدارية والعقائدية الحزبية الكهنوتية. ويتوافق ابتلاع الدولة المتنامي من قِبل الحزب توافقاً تاماً مع أنموذج العهد القديم هذا, الذي يرشد إلى التضييق على المُلك بالكهنوت كما يرشد إلى مَثَل اجتماعي وثقافي سامٍ.
سيناريوهات من أجل روسيا

يعاد اليوم من جديد, في العصر ما بعد السوفييتي, إنتاج جدلية ما فوق الحداثة هذه, المنقلبة إلى ما فوق سلفية تحت ضغط أولئك الذين جذبتهم الحمية الإصلاحية الحانقة إلى طريق الليبرالية الراديكالية. عام 1917 قررت الطليعة البلشفية اليهودية جعل الفكرة الاشتراكية راديكاليةً بنقلها من مجال تقرير الذات القومي العفوي ووضعها على سكة الأرثوذوكسية الكهنوتية لعولميي الأممية الثالثة. عام 1991 تقرر الطليعة الديمقراطية اليهودية, التي يساورها شك بالرأسمالية الشعبية العفوية (الاستقلالية الاقتصادية الجماهيرية) لا يقل عن شك البلاشفة بالاشتراكية التعاونية الشعبية, جعل الفكرة الليبرالية الكلاسيكية راديكالية مخضعة إياها لحَرْف التعاليم الجديدة العظيمة الصارم– "مدرسة شيكاغو"([2]). لقد اضطررت غير مرة إلى الكتابة عن أن المقدمات الاجتماعية والاجتماعية الاقتصادية للرأسمالية الشعبية كانت متوافرة في الحقيقة في روسيا مع حلول عام 1991.
اقتربت إيداعات السكان المصرفية منذ بداية الثمانينيات بمجملها من 500 مليار روبل (بأسعار ذلك الوقت). وحُفظ في المستودعات ما يسمى المنسقات (المعدات غير المركبة) بقيمة هذا المبلغ نفسه تقريباً. لو سمح إصلاحيونا لهذين التيارين بالالتقاء عن طريق بيع المنسقات الحر, ولو سمحوا كذلك بأشكال من تشجيع المبادرات الاستثمارية الجماهيرية مثل تأجير المعدات وإتباع سياسة ضريبية – إقراضية تشجيعية, لقامت الثورة الرأسمالية الشعبية الاقتصادية في روسيا. لقد كان الطريق أمامها ممهداً تماماً أيضاً بفضل التطور الحاصل إلى ذلك الوقت في منظومة القيم الجماهيرية. أجاب أغلب المشاركين في الاستفتاء بين عامي 1992 و1993 عن السؤال حول معتقدهم الرئيسي في الحياة بأنهم يريدون أن يكونوا أسياد أنفسهم. بيد أن هذه الثورة الاقتصادية الشعبية لم تحدث في روسيا. وعوضاً عن ذلك اتخذ الرفاق في الحزب في اجتماعهم الحزبي المغلق (عن الشعب) قراراً بالخصخصة الوظيفية, وهذا ما افترض نزع ملكية إيداعات السكان واحتكار النشاط الاستثماري من قِبل الأشخاص الواردة أسماؤهم في اللوائح المعدة سلفاً.
"أطلقوا الأسعار" قبل الإعلان عن الخصخصة؛ وبهذا الشكل أفرغ التضخم المنفلت في أسابيع معدودة مدخرات غالبية الشعب. وقد ساعد في ذلك إلى حد كبير تحويل الحسابات غير النقدية إلى حسابات نقدية تبين أن أصحابها معتمدون مسبقاً من قائمة الأسماء الحزبية – الشبيبية والأمنية.
إنني بعيد عن فكرة نسب هذه الخطة إلى ورثة الباطنية القديمة. لم يكن في أساس هذه الخصخصة الوظيفية أرثوذوكسية مذهبية, بل كانت فيه أسفل أنواع براغماتية طائفة الموظفين. وفي مقابل وضع المالكين الجديد وافقت هذه الطائفة على تسليم البناء القديم.
لكن هنا كان ثمة دور لا غنى عنه لمغالي النص المقدس الجديد (الليبرالي هذه المرة) الأرثوذوكس اليهود. وفي الواقع: كيف كانت ستبدو هذه الخصخصة الوظيفية من غير حجة نظرية عقائدية؟ كانت ستبدو نهباً عادياً لملكية الدولة من قبل أولئك الذين كانت مفاتيح الصوامع الحكومية في أيديهم بحكم الوظيفة.أما الحجب المتعمد لعملية الخصخصة عن "الغرباء" الذين هم أفراد الشعب الروسي نفسه فكان سيبدو غير ليبرالي البتة, ولا يتماشى مع روح "المجتمع المفتوح".
ههنا كانت قد نضجت "التعاليم العظيمة" الجديدة. عموماً, تعتبر استعارة النظريات المنفصلة, بالأخص ذات الطابع الذرائعي, أنموذجية في المراحل التحديثية. لكن ما الذي تفعله في أثناء ذلك فئة المثقفين الوطنيين؟ إنها تسعى أولاً إلى أقلمة التعاليم المستوردة مع الظروف المحلية, من غير أن تخجل من تكييفها؛ وثانياً, تعطي الأفضلية للتجربة الواقعية من غير قيد أو شرط في حال التنافر الحاسم بين النظرية المستعارة والتجربة المحلية.
كان سلوك الأرثوذوكس التلموديين مغايراً تماماً. فعوضاً عن أقلمة النظرية مخففين من حدة حوافها المذهبية, راحوا يشددون بحماسة كبيرة على هذه الحواف, أما الحياة الواقعية المرتبطة بالإرث القومي الثقافي – التاريخي فأعلنوها مرضاً ينبغي استئصاله.
في أثناء ذلك كانت النظريات المستعارة تتغير بما في ذلك إلى معاكساتها مباشرةً, لكن المواجهة المبدئية للأساس وللتجربة الشعبية وحتى للفكر السليم البسيط ظلت تتكرر على الدوام. حين كانت النظرية الماركسية هي الدارجة وضعها مطبقوها البلاشفة في تضاد مع العفوية الوطنية البرجوازية الصغيرة, التي تولد الرأسمال "كل يوم, وكل ساعة, وفي كل مكان وعلى النطاق الجماهيري" (لينين). حين صار رأس المال هو المثال, والفزاعة هي الاشتراكية أعلن أن التربة القومية الروسية تحديداً معادية منذ البدء للرأسمالية وتولد الاشتراكية الأبوية, المرتبطة عضوياً, كما تبين, بتقاليد المشاعية والجماعية الروسية.
لم تظهر هذه التحولات في الوعي اليهودي على هذا النحو الخطير في روسيا وحدها. تعطينا ألمانيا المثال الأقرب نسبياً على هذا. فبعد الاحتلال الأمريكي لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وضع المفكرون اليهود من المدرسة الفرانكفورتية([3]) – أدورنو وفروم وفرانكل برونسيفيك وليفنسون([4]) – على الفور مشروع بحث بعنوان "الشخصية المتسلطة"([5]), حيث برهنوا على العلاقة العضوية غير المنفصمة بين الفاشية والتقاليد والعقلية القومية الألمانية. تبين أن جذور العقلية الفاشية ممتدة إلى عهد الإصلاح, وأن رائد الفاشية الرئيسي هو لوثر([6]). اختصاراً, لا يمكن التغلب على الفاشية في ألمانيا من غير تحطيم نواة التقاليد القومية الألمانية ذاتها - وأنموذجها الأصلي البروتستانتي.
يمر بعض الوقت وتتحول ألمانيا من عدو أمريكا الرئيسي لتصير حليفها وشريكها الرئيسي. وهنا يتذكر المفكرون اليهود نظرية ماكس ويبر عن المقدمات البروتستانتية للرأسمالية, وتتحول حياة التقشف البروتستانتية على هذا النحو من تجسيد للشر النازي إلى ما يكاد يكون المقدمة الرئيسية للفضائل الليبرالية كلها – من اقتصاد السوق إلى دولة القانون.
أما المجسِّد للشر الشمولي منذ الآن فهو الشعب الروسي بعقليته وتقاليده المشاعية. صارت المشاعية الروسية إلى جانب الإرث البيزنطي والجماعية الأرثوذوكسية تُشخِّص دور المهد للشمولية المعاصرة. على هذا النحو تصب مكافحة الشمولية السوفييتية, كما صبت مكافحة النازية في وقت ما, في بوتقة التنظيف الإثني العميق المنفذ بطلب من "المنتصرين" وتحت إشرافهم. استعيض عن التحليل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بأنثربولوجيا عرقية ذات شكل خاص, الهدف منها إماطة اللثام عن إرث السكان الأصليين غير القابل للإصلاح, والذي يضع الشعب الروسي في علاقة صِدام لا يقبل المهادنة مع المعاصَرَة الديمقراطية. تقدَّم الثورة البلشفية على أنها ترميم مشاعي, أما الطبقة الفلاحية الروسية فتقدَّم على أنها أغلبية مشاعيين حنينيين منتفضة ضد المعاصرة, وفارضة على الأقلية الحضرية آسيويتها المرمَّمة.

بمثل هذه الصيغة الإيديولوجية المفبركة تصير الحقائق التاريخية بغير أهمية. أما الحقيقة فهي أن الأغلبية الفلاحية في روسية قد أسقطت بقوة الحزب البلشفي في انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الثاني من عام 1917. سارت الشمولية في روسيا من المدينة إلى القرية, ومن مراكز العواصم إلى الأرياف, ومن النظرية الغربية المستعارة إلى الممارسة السياسية, وليس بالعكس. ارتبط انتصار البلشفية, كانتصار "الليبرالية" الحالية, بأفضلية الأقلية المنظمة في المدن والمتمتعة, بالإضافة إلى ذلك, بالدعم الخارجي القوي أمام الأغلبية الريفية المفككة. وحينذاك لم تكن الغالبية رجعية قط. لم يكن ترميم المشاعة على الإطلاق هو ما شَرَع مغتصبو السلطة البلاشفة, الذين خبأوا ديكتاتوريتهم خلف واجهة "جمهورية السوفييتات", يغرون الأغلبية الفلاحية به. بل أغروا الفلاحين باعتبارهم "مُلاكاً برجوازيين صغاراً", يسعون إلى الحصول على الأرض من أجل الاستعمال الشخصي. لقد تسلح البلاشفة بشعار الاشتراكيين الثوريين (الإسيريين) هذا مؤقتاً بهدف الاحتيال.
حين رسخ المفوضون سلطتهم خاضوا حرباً ضد "البيئة البرجوازية الصغيرة" الفلاحية, متسلحين بمثل المجتمع المنظم عقلانياً, الشبيه بالآلة. وسرعان ما اتخذت هذه الحداثة البلشفية هيئة معسكر اعتقال هائل.
الادعاء, كما يفعل الليبراليون اليوم, بأن عهر الحرب الأهلية الدموي والتحويل القسري إلى التعاونيات نابع عن تعبير"المشاعيين" العفوي عن الذات يعني تزويد الجلادين بأدلة البراءة, والإلقاء بالذنب على الضحية. لكن أدلة البراءة هذه لا تقدم من باب المصادفة. فالتحديث البلشفي, و"اللبرلة " الحالية مؤسسان على رهاب الروس, الذي يغذي طاقتهما الشيطانية. ونظام الأمس ونظام اليوم هما نظاما حرب الأقلية الأهلية ضد الأغلبية, وهذا ما يفسر تقاربهما المعاصر الذي يبدو غامضاً إلى حد كبير.
لماذا إذاً بدت للغرب هذه الوشاية الليبرالية بحق الأغلبية الروسية قريبة من الحقيقة؟ أولاً, لأن من مصلحة الغرب اليوم أن يقدم انتصاره في "الحرب الباردة" لا باعتباره تقسيماً إمبريالياً جديداً للعالم, بل باعتباره تفوقاً للمعاصَرة الديمقراطية على قوى السلفية العدوانية المظلمة. وثانيا, لأن الغرب قد شارك في المؤامرة مع مخصخصي ملكيتنا الموظفين, أملاً في أن يحصل مقابل الدعم الذي يقدمه على تساهلات كومبرادورية في قضية إعادة توزيع الأراضي والثروات ما بعد السوفييتية. لقد دس "صبية شيكاغو" في روسيا يدهم في تدبيج تلك الوشاية بحق الشعب السوفييتي, التي أرسلت بمنتهى الإخلاص إلى أمريكا.
ما إن أوضحوا للرأي العام كله أن الذهنية القومية والتقاليد الروسية هي العائق الرئيسي أمام إصلاحات السوق حتى صارت "واضحة تماماً" سياسة إقصاء الشعب عن الخصخصة. كان الإصلاحيون سيسرون بتقاسم الملكية مع الشعب لولا أنه, أولاً, غير مستعد للحصول عليها بسبب من مشاعيته وجماعيته المتأصلتين, وثانياً لأن ائتمانه عليها يحمل الكثير من المخاطرة لأنه سيبددها ويذروها بالتطابق التام مع روحه "الفوضوية" القومية. باختصار, لم يقدم الإصلاحيون الحاكمون أنفسهم لا في عملية البناء الاقتصادي ولا في عملية البناء السياسي كديمقراطيين يحترمون سيادة الشعب, بل قدموا ذاتهم كعولميين لا ينظرون إلى هذا الشعب إلا من عليائهم العولمي المتاح لهم وحدهم.
وههنا يبدأ القانون المشؤوم يفعل فعله: ما إن يتسلح المحدِّثون بالأفق العولمي الخالص مهملين المستوى القومي حتى تتسم تطبيقاتهم الإصلاحية بغرابات اللاحداثة المنهجية.
بم تميَّز, في حقيقة الأمر, ما يسمى "العلاج بالصدمة"؟ إن النظرية التحديثية تعرف مثل هذه الصدمات: والحديث هنا عن الأزمة المستحكمة بالفروع, والحِرَف المتقادمة, وبالأقاليم الخاملة. تتطور نقاط التقدم الأمامية – أشكال الإنتاج المستوعبة للعلوم و"أقطاب النمو" على حساب الهزات الحساسة في "الأطراف" الاقتصادية. هكذا هي تصورات الحداثة الكلاسيكية. لكن ما الذي نملكه بنتيجة الإصرار المذهبي لدى حداثيينا؟
كانت سياستهم الرئيسية هي تحديداً نقاط الاختراق ما بعد الصناعي الأمامية التي تكونت سابقاً في روسيا. دُمِّرت بأسرع الوتائر الصناعات العلمية الواسعة, وقلصت مخصصات العلم والثقافة والتعليم. وتميز الجو الذي نشره "الإصلاحيون" في المجتمع الروسي بنوع من التحدي المنهجي الغامض للتنوير.
يتطلب التنوير رفع حصة تعليم الشباب في المجتمع وتأخير فترات انخراطهم في الحياة الحرفية؛ أما إصلاحيونا فسعوا إلى سد الطريق الموصل إلى بنية التنوير التحتية أمام الشباب, وعادوا إلى استغلال جهد الأطفال (قانوناً يسمح بذلك ابتداءً من سن الرابعة عشرة), وضيقوا مجال التأهيل النظري العام لصالح ممارسة الحرف. وسارعوا في كل مكان ازدهرت فيه روح الاختبار العلمي التقني, والمطامح التجديدية إلى إخمادها معلنين بطلانها وفاقاً لمعيار الربحية الاقتصادية. إنهم يلصقون بإلحاح بأكثر الأمم قراءةً في العالم ثقافة "الجمل المقتضبة" الأمريكية المستوردة, والبدائية عديمة الحياء, التي تستغل مجال الغرائز الإنسانية. صار أنموذج الراتسيو (العقل) التنويري بكل ما فيه من حب استطلاع سام يخلي المكان لأنموذج أولئك الذين يعيشون على الأفعال المنعكسة البدائية والذين لا يستجيبون إلا للمتعة أو المنفعة الآنيتين.
تكوَّن انطباع جاد بأن قراراً قد اتخذ في مكان ما على المستوى العولمي ينص على أن "هذا البلد" غير جدير بإنجازات التنوير السامية, ونصيبه أن يقدم العبيد الرخيصين للسادة من عداد "المليار الذهبي". إنهم يغرسون, عوضاً عن فضاء الحداثة الكبير الواحد, موزاييكاً من الفضاءات المعزولة التي بعضها لا يتعاطى مع بعض؛ وعوضاً عن عموميات التنوير السامية الغطرسات والنزاعات المحلية والعدوانية العامة والشك المستغل من قِبل الزعماء القبليين الحريصين على الصدقات الأجنبية.
إنهم, عوضاً عن الاقتصاد المعاصر المنتج, الذي يكوِّن ذخراً مديداً للمستقبل على هيئة دراسات علمية وتقنية مبشرة, يغرسون مراباة جشعة لا تبني شيئاً قط, وتبدد الثروة القومية المكونة من قبل, وتسمم بالإضافة إلى ذلك الجو بروح الفساد. إنهم, باختصار, يغرسون لاحداثة منهجية وعدوانية تبرر هجومها على التنوير معتمدة على توصيات "مدرسة شيكاغو", وتوجيهات صندوق النقد الدولي. وتستخدم في أثناء ذلك معايير الربحية الاقتصادية باعتبارها إجراءاً لذم كل ما هو معد للمستقبل, وكل الاستثمارات في "الرأسمال البشري", لصالح ما هو قادر على *** الفائدة العاجلة. يتولد شك في أن "قصر نظر السوق" هذا الذي لا يطيق الاستثمارات طويلة الأمد من أجل المستقبل يخفي وراءه نفسية النهّابين المستعدين للهرب, والذين يحتاجون إلى السيولة حالاً, ولا يخفي حسابات ما من أجل غد البلاد.
قد يكون الأكثر إثارة للفضول كامناً في أن سلفية اللاحداثة لم تشمل السكان الأصليين, المحكوم عليهم بالسقوط نحو المجتمع ما قبل الصناعي وحدهم, بل شملت أيضاً, كما يظهر, نخبة العولميين المحليين المتحكمين بهذه العملية كلها, والذين يضبطون ساعاتهم على نحو حثيث على التوقيت الغربي.
لولا هذه الحقيقة لكان في الإمكان نسب مفارقات العولمة السلفية استثنائياً إلى نوايا معيدي بناء العالم, المقررين من جديد أي الأقاليم على الأرض ينبغي أن تدخل في عداد المتطورة, وأيها ينبغي إرساله نحو الأطراف, حتى لو كان لديها من قبل ذخيرة ما بعد صناعية. لكن قانون التبدل المشؤوم – أي تحول العولمي إلى قبلي, وما فوق الحداثي إلى المتخلف - يبرهن على فاعليته على مثال نخبة العولميين ذاتها.
أولئك الناس, الذين يستخفون بغطرسةٍ بالمفاهيم "البدائية" مثل المصلحة الوطنية, والأهداف والأولويات القومية يظهِرون, انطلاقاً من موقف الواقعية العولمية التي لا يراها أحد سواهم, نفسيةَ الطائفة القبلية المنحلة, المنسلخة عن معايير المجتمع الكبير وأخلاقه, والمليئة بالغمز التآمري الدنيء والتي تخضِع "مبادراتها العولمية" كلها للمصالح العشائرية البحتة. يولِّد الانسلاخ عن الأهداف القومية الكبرى حتماً, وخلافاً للخطاب العولمي كله, الأخلاق العشائرية, الرافضة لكل المعايير والأحكام الإنسانية لصالح الأنانية الطائفية.
يدهش اليوم الجميع من سقوط الحضارة الغامض, التي بدت عاجزة أمام موجة الإجرام الشاملة. إن أحد تفسيرات هذه الظاهرة هو تدمير القوانين الثقافية القومية الكبرى على يد العولميين, المستعجلين لوضع يدهم على العالم كله. وعندئذ يصيرون هم أنفسهم ضحايا هذا التفكيك: ما إن يختل "وسط الحداثة الذهبي" –الأمم السياسية الواحدة - لصالح الادعاءات العولمية حتى ينشط في الحال شياطين عصر ما قبل التنوير اللدودين – البدايات القبلية والعشائرية والمافيوية الربوية. يفسر الدور المشئوم لليهود في هذه العملية بأنهم, نتيجة انسلاخهم الطبيعي عن بدايات السكان الأصليين القومية, ونتيجة للشك والتوجس الذي يشعرون به نحو الدولتية المتينة, يتميزون بحرص خاص على العولمة. لكن هذه الأسبقية في العولمة تتحول إلى أسبقية في أي نوع من أنواع الانحرافات المافيوية, وغيرها من مظاهر "الأخلاق العشائرية من أجل الأتباع".
لقد شوهت أزمة "وسط الحداثة الذهبي" على نحو غامض سِيَر الناس, الذين كان في مقدورهم أن يصيروا في إطار الأفق القومي الكبير السابق شخصيات مرموقة تماماً, وقادرة على خدمة التنوير السامي.
لو لم تحل العولمة مع إغراءاتها باستباحة كل شيء حكومي لكان في مقدور بيريزوفسكي([7]) أن يترك أثره في الرياضيات. لقد حرفته العولمة بإمكانات مختلفة تماماً – وها نحن نرى أمامنا نصاباً محتالاً ذا ميول مافيوية جلية, ولا يأنف من الأعمال الإجرامية بما فيها تهريب رؤوس الأموال أو الاتصال بالشخصيات الشيشانية المجرمة.
في رحاب الفضاء – الزمن القومي الكبير ابتسم أمام تشوبايس([8]) مستقبلُ عالمِ اقتصادٍ ومجرِّبٍ رائع؛ أما في الرحاب التي تشابك فيها العولمي بالعشائري فخرجت شخصية تجمع بين المناصب الحكومية و"الكتبية" الإشكالية, التي تخفي وراءها أبسط أنواع الرشوة. ومن هذه الأمثلة اليوم – الآلاف. بمقدار ما "يتعولم" العنصر اليهودي في روسيا (أقصد, طبعاً, القسم الداخل في عداد النخبة الحاكمة اليوم), مبتعداً عن الأهداف الدولتية – القومية الكبرى, يصير في الوقت نفسه إجرامياً على مرأى الأعين مكتسباً الملامح المافيوية. تشمل هذه العملية اليوم فعلياً النخبة الحاكمة كلها في روسيا, ومفاصلها وتنوعاتها كلها. والخصوصية المميزة للمُرَكِّبة اليهودية هي أنها لا تكتفي بالممارسات الشاذة فعلياً, فطباعها وغطرستها تجبرانها على البحث عن شرعنة هذه الممارسات بوسائل التعاليم الجديدة, التي تستخف بمعايير الأخلاق الخجولة القديمة.
يتميز العولميون, إضافة إلى ذلك, بالخوف الكبير, الذي يكون طبيعياً عند الانسلاخ عن التقاليد القومية الكبيرة وعند الاعتماد الكلي على ضبابية العالم العولمي. ويتجلى هذا الخوف مرة أخرى أحدُّ ما يتجلى لدى اليهود. معروف ذلك الخوف الذي شعر به "الثوريون الذين لا يلينون" حين أذنبوا وأذنبوا بحق الدولتية الروسية بعد أن حولوا "الحرب الإمبريالية" إلى أهلية. لقد أجبرهم هذا الخوف على أن يستعجلوا بشتى الأشكال الثورة البروليتارية العالمية, التي لن تشطب الحساب كله وحسب, وإنما ستبدأ كما كان متوقعاً بتدمير الغول المقيت – أي الدولتية الروسية. إن العولميين المعاصرين, الذين تسنى لهم ارتكاب عدد لا يقل من الذنوب بحق الدولتية الروسية, قادرون على استعجال حرب عالمية. على كل حال إنهم لا يخجلون من استعجال الأمريكيين في تنفيذ مهمتهم بالتحرك نحو الشرق, ولا يخجلون من أن يروا في تحرك الناتو شرقاً الضمانة الوحيدة للديمقراطية الروسية (ك. بوروفوي, س. كوفاليوف, ف. نوفودفورسكايا وغيرهم).
كلما صار العالم أحادي القطب, أي كلما صار خالياً من الأنداد الحقيقيين للسيادة الأمريكية على الكوكب, شعر في روسيا بالأمان "طابور العولمة الخامس", الذي لا يشتكي من المضايقات غير الموجودة أصلاً والتي لا يمكن لها أن توجد اليوم بسبب من الطابع الكومبرادوري للسلطة نفسها, وإنما من عدم وضوح الآفاق أمامه على المدى البعيد في "هذا البلد".
في تلك الأثناء لا ينفك مهندسو عالم القطب الواحد الأمريكيون يعرضون قانون التحول ذاته - أي تحول العولمة إلى مركزية أثنية, وتحول عبادة "ما فوق القومي" إلى تشجيع القومية الضيقة. يشجع العولميون الأمريكيون بكل الوسائل روح الانفصالية والتطرف القبلييين في سعيهم إلى تفكيك الدول المستقلة الضخمة باعتبارها حاملة لمبدأ السيادة القومية "المتقادم". فقد دُبِّرت ضد يوغسلافيا, الدولة ذات السيادة, حرب لحماية انفصاليي كوسوفو. ويجري اليوم دعم الانفصاليين والمتطرفين الشيشان ضد روسيا التي لم تفقد بعد تماماً سيادتها. وفي أثناء ذلك لا يشعر العولميون بالقلق من أن "المناضلين من أجل الاستقلال" الذين يحمونهم هم بكل معنى الكلمة منبوذو الحضارة المتسلحون بأشد الممارسات إجراميةً – بدءاً من الاتجار بالمخدرات وحتى الاتجار بالرقيق.
صارت إيديولوجية حقوق الإنسان العولمية وأخلاق "مواطنو العالم" متلازمتين تماماً مع شياطين السلفية القبلية المندفعين إلى العلن, مستغلين ضعف البنى القومية - التنظيمية للحداثة الكلاسيكية.
الخلاص للمختارين أم للجميع؟

لنتجه ختاماً نحو السؤال عن أي مآل قريب يمكن أن تؤول إليه العولمة اليهودية. بغض النظر عن ارتباطها بـ "الرسالة العالمية" الأمريكية فإن الأمر يستحق أن نفصل مصالح اليهود الحقيقية, وأمنهم عن مغامرة عالم القطب الواحد الأمريكية.
ينبغي اعتبار كل الذين يراهنون عليها وحدها مقامرين مولعين جداً كي يكون في الإمكان ائتمانهم على مصير الشعب اليهودي. منذ أن بدأ تاريخ هذا الشعب واستمر مضت عدة آلاف من السنين؛ وخلال هذا الوقت تناوب عدد عظيم من أدعياء السيادة على العالم. لكن خيط التاريخ اليهودي لم ينقطع. ومن المحتمل أن المخرج من المأزق العولمي الحالي مرتبط بإعادة تشكيل أنموذج العولمة القياسي ذاته المحفوف اليوم بصدامات لا تنتهي بين العولمي والقومي وبالالتقاء غير المتوقع بين العولمة والمركزية الإثنية وغير ذلك من مظاهر اللاحداثة. إن الخيار اليوم لا يبعث على السرور: إما انتصار حاملي العولمة أحادية القطب, القاسمين العالم إلى جنس السادة القادرين على التكيف والأغلبية المنبوذة غير القابلة للتكيف, مما يعني تحول القسم الأكبر من الكوكب إلى أحياء يهودية محاصرة(غيتو)([9]), وإما مقاومة ناجحة من قبل الأغلبية المعبأة من جديد, وملاحقة لا ترحم للعولميين مع كل أعوانهم من السكان الأصليين. وسيعني هذا وذاك ثأر اللاحداثة من الحداثة, وحلول غسق التنوير التام على كوكبنا.
تتلخص المشكلة في كيف نبعث عموميات الحداثة السامية ونؤكد من جديد أفق الإنسانية التاريخي الواحد, الذي يشجبه اليوم العولميون وما بعد الحداثويين.
يعود العالم إلى السؤال الذي طرح على البشرية مع بزوغ فجر الحقبة المسيحية والذي يمس آفاق الخلاص المقبل: هل الخلاص خلاص الشعب المختار وحده أم خلاص الجميع. يلعب اليوم دور "الشعب المختار" "المليار الذهبي", محتكر الحق بدخول المستقبل ما بعد التصنيعي المنقذ. يدفع مبدأ الشعب المختار السلفي, الذي لا يزال يخيم على الوعي اليهودي, إلى محاولات التآمر الانفصالي مع حملة "العولمة الظافرة" الأمريكيين - من خلف ظهور الشعوب الأخرى.
يغامر التاريخ اليهودي ضمن هذا الأفق بالانقطاع. ففي حال نجاح الرسالة العولمية الأمريكية اليهود مهددون بالذوبان في المجتمع الاستهلاكي الأمريكي, الذي تغذيه موارد العالم المحتل كلها. وفي حال الفشل سينتظرهم تسديد حسابات هذه المغامرة المزلزلة للعالم كلها. عموماً, ليست الآفاق واحدة حتى في الحال الأولى. فما إن يتمكن "المركز العالمي" الأمريكي من دور سلطان العالم, حتى يبدأ يهتم بحماية فضاء امتيازاته من غزوات "الأطراف البربرية". سيعطيه التوجه الحالي نحو شَبْكِ العولمة بالمافيا المبررَ المقنع من أجل ذلك.
وتبدو من الأهمية بمكان بهذا الخصوص موجة فضائح المافيا الروسية التي اجتاحت أمريكا. هناك لا تُقلِقُ أحداً حقيقة أن غالبية ممثلي هذه المافيا الذين سلطت عليهم الأضواء هم أشخاص ذوو كنى غير روسية. لذلك فإن وفاء الحامي الأمريكي لـ "شركائه" السابقين ومساعديه يحمل طابعاً متقلباً جداً. ما إن يتغير الوضع حتى يتبدل الدعم حالاً إلى لفظ وملاحقات. إن الأفق الأقرب إلى الواقعية هو الوقوع بين مطرقة أمريكا التي تخوض الحرب العالمية بكامل وعيها "الدفاعي" العسكريتاري المتوطد وسندان الأمم المعاد تعبئتها من جديد, والهابّة من أجل مجابهة سادة العالم. تتماثل عولمة اليوم مع الاشتراكية التي سقطت منذ وقت قريب في دغمائية التناول أحادي الشكل والسعي إلى وضع البيض كله في سلة واحدة.
تبدو الإستراتيجية التعددية, المرتبطة بتعددية الأشكال واستخدام العديد من البدائل, أفضل بكثير. ينبغي الاعتراف بأن تعددية الأمم العظمى المتشكلة, والتي تكوِّن كل واحدة منها قياس النمو الخاص بها فتدلي بذلك بدلوها في حصالة الإنسانية العولمية, هي الإنجاز الأهم لعصر الحداثة, الذي ينبغي صونه من أجل المستقبل. المدرسة الفعلية للتجربة اليهودية في العالم مرتبطة بالاستيعاب الإبداعي لجملة هذه القياسات ووضع إجراءات التناول المقارن. لا ترتبط خصوصية اليهود الإبداعية المنتجة بطرح أحكام دوغمائية مطلقة جديدة عوضاً عن الفائتة, وهذا ما تدّعيه كما يبدو العولمة الأمريكية المركزية الحالية, وإنما بتحويل المطلق إلى نسبي, وأحادي الشكل إلى متعدد الأشكال, والسكوني إلى دينامي.
يحلم اليهود بنهاية الأوديسة التاريخية الطويلة, المرتبطة بالحياة وسط الشعوب الأخرى, وبنهاية الحاجة إلى التطبع الناجمة عن ذلك. إنهم يريدون مواجهة وضعهم كأشخاص على مشارف الثقافات العولمية والجزئية, و"المنسلخة" والمتطبعة في الوقت نفسه بأفق مواطن العالم النهائي - المرتحل غير المرتبط بأي عوائق محلية.
ويرغبون, بطبيعة الحال, في أن يكونوا رحل ذوي امتيازات, على العكس من الجماهير المنبوذة والمحرومة من الحقوق, التي تهدد صفوفها بالتكاثر من غير نهاية بسبب من إعادة التقسيم الجيوسياسي العولمي للعالم. يحارب اليهود الوطنية ومتطلبات المسؤولية الوطنية كما حاربوا من قبل سمة الحضرية. لكن محاربة الحضرية كانت محاربة من أجل المساواة؛ أما محاربة الوطنية وضرورة الخضوع للقوانين المدنية المحلية فهي حملة من أجل الامتيازات.
يهدِّد هذا الفارقُ بتغيير أفق اليهودية الاجتماعي والسياسي, وتحويلها من حليف للحركات الديمقراطية العظمى من أجل المساواة والعدل إلى عدو مكشوف للجميع. ويبقى معروفاً اتكالها على الحماية والرعاية الأمريكية, إلى درجة يبدو معها من غير المرجح أن يزداد الود نحوها من جانب الشعوب المضطهدة على يد سادة العالم الأمريكيين. إن الرهان المغامر على انتصار الولايات المتحدة الأمريكية "الكامل والنهائي" على العالم كله يهدد بإحباط لم يشهد له التاريخ اليهودي مثيلاً.



([1]( - إيمانويل كانط (1724 -1804) فيلسوف ألماني ومؤسس الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. أهم أعماله "نقد العقل الخالص", "نقد العقل التطبيقي". كوَّن الاعتراض على علاقات التبعية للنظام الإقطاعي الخلفية الاجتماعية للتعاليم الأخلاقية الكانطية لذلك فهو يعتبر من وجهة النظر هذه منظِّراً للبرجوازية الناشئة. لم يكن كانط فيلسوفاً وحسب, بل كان عالماً أيضاً, إذ كان من أوائل الذين وضعوا نظرية علمية عن تشكل الشمس والأجرام السماوية (المترجم).

([2]( - مدرسة شيكاغو هي أحد الاتجاهات المعاصرة في الفكر الاقتصادي. تتبنى مواقف الليبرالية الجديدة, وقد تأسست في أواسط الستينات من القرن العشرين. أبرز ممثليها فريدمان, هايت, سايمونس, ستيغلير. (المترجم).

([3]( - المدرسة الفرانكفورتية في الفلسفة وعلم الاجتماع الألمانيين, استمرت من الثلاثينات وحتى السبعينات من القرن العشرين في معهد الأبحاث الاجتماعية في فرانكفورت على الماين (منذ عام 1931). أهم ممثلي هذه المدرسة هم هوركهايمر وأدورنو وماركوزه وفروم وهابيرماس. تمتزج في "نظرية المجتمع النقدية" الفلسفية – الاجتماعية طريقة ماركس النقدية في تناول الثقافة البرجوازية مع أفكار الديالكتيك الهيغلي والتحليل النفسي الفرويدي. (المترجم).

([4]( - تيودور أدورنو (1903 – 1969) فيلسوف وعالم اجتماع وموسيقي ألماني. ممثل المدرسة الفرانكفورتية. تبنى نقد الثقافة والمجتمع ("جدلية التنوير", عام 1948, بالاشتراك مع هوركهايمر), وأفكار "الجدلية السلبية". أنجز أدورنو ومساعدوه في بداية الأربعينيات دراسة "الشخصية المتسلطة" باعتبارها المقدمة الاجتماعية والنفسية للفاشية. إيريكس فروم (1900 -1980) فيلسوف وعالم نفس واجتماع ألماني – أمريكي. الممثل الرئيسي للفرويدية الجديدة. هاجر منذ عام 1933 إلى الولايات المتحدة. استند إلى فكرة التحليل النفسي والوجودية والماركسية, وسعى إلى حلّ تناقضات الوجود الإنساني الأساسية – بين الأنانية والغيرية, وبين الملكية والوجود, وبين "الحرية من" السلبية و"الحرية من أجل" الإيجابية. رأى طريق الخروج من أزمة الحضارة المعاصرة في تكوين "المجتمع الصحي" المؤسس على مبادئ الأخلاق الإنسانية وقيمها السامية, وبإعادة التناغم إلى العلاقة بين الفرد والطبيعة, أهم أعماله "الهروب من الحرية" (1941), "التحليل النفسي والدين" (1950), "ثورة الآمال" (1964). إلزا فرينكل برونسيفيك
(1908 – 1958) ارتبطت شهرتها بمساهمتها الكبيرة في العمل الجماعي "الشخصية المتسلطة" وكذلك بتحديدها التجريبي لمفهوم عدم القدرة على احتمال اللاتحديد. (المترجم).

( ([5] - Adorno T., Frenkel -Brunswik E., Lendinson D. and Sanford R. The Autoritarian Personality. N -4. 1950.
وقد أدلى فروم بدلوه في هذا المشروع بكتابيه "الهروب من الحرية" (1941) "والإنسان من أجل نفسه" (1947).

([6]( - مارتن لوثر (1483 – 1546) – صاحب حركة الإصلاح في ألمانية التي أرسى بدايتها خطابه في فيتينبرغ (1517) الذي تقدم فيه بـ 95 قضية ترفض صكوك الغفران, وترفض العقائد الجامدة الأساسية في الكاثوليكية. مؤسس الحركة اللوثرية. ترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية مؤكداً بذلك على اللغة الألمانية الأدبية العامة. (المترجم).

([7]( - بوريس بيريزوفسكي ( تولد عام 1946) رجل دولة روسي, عضو مراسل في أكاديمية العلوم الروسية (1991), أخصائي في مجال الرياضيات الحاسوبية. شغل منذ عام 1996 منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي. من أشهر الأغنياء في روسيا, وكان على علاقة وثيقة بأسرة الرئيس الروسي السابق يلتسين, ثم اضطر إلى مغادرة روسيا بسبب من الخلافات مع الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. (المترجم).

([8]( - أناتولي تشوبايس (تولد عام 1955) رجل دولة روسي. شغل من 1991 وحتى 1994 منصب رئيس لجنة الدولة في روسيا الاتحادية لإدارة ملكية الدولة. ومن 1994 حتى 1996 منصب النائب الأول لرئيس إدارة الرئيس الروسي, ومن 1996 – حتى 1997 منصب نائب رئيس الحكومة. من أشهر شخصيات الحقبة ما بعد السوفييتية في مجال الإصلاحات والاقتصاد الليبرالي (المترجم).

([9]( -الغيتو قسم من المدن كان يخصص لإقامة اليهود الجبرية في الكثير من مدن القرون الوسطى, وقد اختفت هذه الأحياء في النصف الأول من القرن التاسع عشر, ثم أعادها النازيون في الحرب العالمية الثانية, وهي موجودة في بعض الدول المعاصرة مثل غيتو الزنوج أو حي الزنوج في نيويورك. (المترجم).
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
العولمة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الإغواء بالعولمة .. ألكسندر بانارين
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
طبيبة الأطفال الأوكرانية أولجا ألكسندر: أخلاق أهل زوجي أرشدتني للإسلام حنان الجزائرية المسلمون حول العالم 0 06-18-2015 03:52 PM
الإغواء بالعولمة لـِ ألكسندر بانارين Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-01-2012 09:49 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:20 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59