#1  
قديم 02-21-2016, 08:12 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة هَلْ هُوَ غَرَقٌ فِي وَحْلِ الْعَوْلَـمَةِ؟


هَلْ هُوَ غَرَقٌ فِي وَحْلِ الْعَوْلَـمَةِ؟
ـــــــــــــــ

(د. محمد غاني)
ـــــــــ

12 / 5 / 1437 هــ
21 / 2 / 2016 م
ــــــــــــــ

الْعَوْلَـمَةِ؟ 15-2-2016C.jpg





وسط أمواج الهرج والمرج التي يعيشها العالـم الإسلامي اليوم، يكاد الإنسان المسلم أن ينسى التساؤل عن الأسباب التي أدَّت به إلى هذه النتائج الكارثية، وهو الذي بنى الحضارة الإسلامية في وقت من الأوقات، فما الذي حصل يا تُرى لهذا المسلم؟ وما الذي يُمكن أن يركز عليه ويجعله من أولوياته حتى لا يتيه في الاقتراحات التي ترد عليه من كل حدب وصوب، مثل سراب يوهمه بالخروج من الـمأزق؟ مأزق لباس ***اب الإسلام، ***اب ينعت بالإرهاب لا محالة، فيجد نفسه إن لـم يحدد بصر الإيمان ليجد المخرج من معين دينه بنظر ثاقب إلَّا في مزيد من وحل العولـمة، عولـمة كل دنيء من الأخلاق، وخَوْصَصَة كل سني من التِقَانَة والفكر.
لنتأمل جميعًا برويَّة في قضيتنا بمنهجٍ واعٍ ونظرٍ يحاول التدقيق، حتى لا ندعي سبقًا، وإنَّما محاولة متواضعة لإيجاد قشة نتمسك بها حتى لا نغرق في وحل العولمة.

* عروج في البصيرة:
---------------

كلما عرج الإنسان بقدراته الفكرية أو الروحية أو البدنية إلَّا واتضحت له أمور كانت غائبة عنه من قبل، نظرًا لاتساع زاوية نظره للقضية المتفكر فيها من جهة، وللقدرة المتبلورة نتيجة هذا العروج على المقارنة والاستنتاج، ومن ثَمَّ: الخروج بقرارات سليمة، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالحكمة: {ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}([1])؛ ولذلك: قصَّ علينا الوحي الإلهي - بشقَّيه القرآني والنبوي - قصة الإسراء والمعراج، حتى يكون لنا في الرسول الأكرم أسوةٌ حسنةٌ في تحصيل هذا المعراج في كل أبعادنا الإنسانية، الروحية والبدنية والفكرية، عبر الأبحاث العلمية والدراسات المتأنية، لا لشيء غير اتساع وجهات نظرنا؛ لنحدد بصر إيماننا أوَّلًا، ولنتحكم خير تحكم في خيرات الأرض، ونصرفها خير تصريف، ونخلف الحق خير خلافة، تلك الخلافة الوسط التي لا تفريط فيها، كما هو حال الأمة الإسلامية اليوم، ولا إفراط كما هو حال الأمم المتقدمة حاليًّا في طغيانها على الأمم الضعيفة.
شبَّه الحقُّ - سبحانه - نوره المتألق في هذا الوجود البهيج بمصباح في زجاجة([2])، ولا شكَّ أنَّ العقل له زجاجته أيضًا، وذلك لأنَّه نور منبثق من نور الحق، فما هي يا تُرى زجاجته التي تزيد هذا المصباح العقلي تألُّقًا؛ فيهتدي إلى التفكير السليم، ويتحلى بالحكمة المتوخاة؟

* توهُّج زجاجة العقل:
----------------

يرى رائد علم نفس النجاح براين تريسي في كتابه «ارسم مستقبلك بنفسك»: أنَّ سلامة الحكم على الأمور تُعدُّ «عاملًا أساسيًّا من عوامل الحظ، وتُسمَّى كذلك زجاجة العقل، أو التفكير السديد، إنَّك تنمي هذا التفكير السديد عن طريق المقارنة الدائمة لنتائج أفعالك بما توقعت أن تنجز، فمن شأن هذا التأمل المنتظم لأدائك أن يعطيك رؤًى ودروسًا تعينك لأن تصير أكثر نجاحًا وفعالية في المستقبل»([3]).
من خلال تقعيد تريسي لهذه القاعدة التي وصل إليها بنور العقل المحفوظ بزجاجته، واعيًا بالأمر، حتى خرج علينا بكتابه العظيم عن النجاح (Create your own future)، والذي يُعدُّ من أكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة الأمريكية، بل في العالـم بأسره، وقد وجدنا نحن أهل الإسلام هذه المعلومة مجانية منذ بدأ الوحي لنبتدئ منها أبحاثنا ودراساتنا المأمورين بها بقول الإله: «اقرأ»، وبالإشارة إلى دور تحديد بصر العقل عبر حفظه بزجاجة التفكير السديد من خلال توسيع نظرته بالتوسل لذلك بمعراج روحي وفكري وبدني، أو ما أسميه بتحديد مجهر البصيرة([4]). لو كنا فعلنا ذلك لابتدأنا من حقائق لـم يتوصل لها العلم إلَّا حديثًا، ولكن الأمر لا زال ساريًا، والباب لا زال بعد مفتوحًا، فلِمَ لا نلتجئ إلى هذا الكتاب المكنون لنغترف من خزائنه؟ متدبرين متفكرين مستعينين في ذلك بنورِ العقل وزجاجته، كما بنور الكتاب الكوني دون أن ننسى تجارب السابقين تاريخيًّا؟ إنَّ الملاحظة العلمية - عزيزي القارئ - ينبغي أن تكون دومًا موصولة بالماضي، مستشرفة للمستقبل، يضيف تريسي في هذا المضمار: إنَّ التفكير السديد؛ هو القدرة على التعرف على الأنماط والنماذج في المواقف الجديدة المماثلة لتجارب الماضي، فبعد أن تكتسب المزيد من المعارف والخبرات؛ فإنَّك تخزن في ذاكرتك المزيد من الأنماط على مستوى اللَّاوعي، وسرعان ما تصبح قادرًا على اتخاذ قرارات أفضل وأسرع في هذا المجال، حتى مع عدم توفُّر معلومات كاملة، سوف تصبح قادرًا ... على ملأ الفراغات بشكل أسرع»([5]).
إذا تحقق الإنسان ممَّا سبق؛ آنَ له أن يبحث عن ذاته؛ ليعي بمكانه في المتاهة ليستطيع الخروج.

* وسط سراب التقانة:
------------

لا غرو أنَّ الإنسان يحبُّ أن يعرف كُلَّ شيءٍ ممَّا يدور حوله في هذه الحياة، فيسأل عن هذه وتلك، إلَّا سؤالًا واحدًا لا يخطر بباله إلَّا نادرًا، هو: «من أنا؟!». نعم؛ فهل سألت يومًا نفسك عن نفسك: «من أنت؟!»، ولعلَّ أهم الأسباب في إبعاد ذلك وإهماله يرجع في الغالب إلى معطى وهمي؛ إذ نظنُّ أنَّنا نعرف أنفسنا، فلا حاجة إلى السؤال، تغرنا إجابات الانتماء إلى الأنساب والألقاب، وتنحرف بنا عن طلب معرفة النفس الكامنة بين أضلعنا، التي هي حقيقة «من أنا؟!» و«من أنت؟!»، ويتم إجهاض السؤال في عالـم الخواطر، وبذلك يبقى الإنسان أجهل الخلق بنفسه، فليس دون الأرواح إلَّا الأشباح!
أنا وأنتَ: تلك قصة الإنسان منذ بدء الخلق إلى يوم الناس هذا ... إلى آخر مشهد من فصول الحياة في رحلة هذه الأرض، وهي قصة مثيرة وشيقة حقًّا([6]).
في زخم الحياة المعاصرة، وتحت كلكل وطأتها، نسي الإنسان نفسه؛ لأنَّه نسي الله - تعالى -: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم}.
لقد حار الإنسان المعاصر في وصف حاله، وتفنن أحيانًا في رسم لوحة ضلاله بين متاهات إغراءات العروض الاستهلاكية بشتَّى أنواعها، وتمظهراتها بما فيها المتاهات الإلكترونية، والتي تتجاذبه من كُلِّ حدب وصوب والمؤثتة - بدهاء كبير - لنسيجه الحضاري، حيث شهدت العلاقة بين الإنسان والآلة تطوُّرًا مُذهلًا، فلم يسلم من مظاهر هذه العلائقية حتى الأطفال الصغار في طفولتهم المبكرة، حتى قبل سن التمدرس.

فإذا ما كنا نتصور الإنسان كمجرد آلة منفذة، تنحصر وظيفتها في معالجة المعلومة؛ فإنَّنا نحاول اليوم إعادة حقن مشاعره ومخيلته بعناصر جد حساسة لها علاقة بالذاكرة وبالتاريخ وبالمجتمع.
يُبيِّنُ هذا التطور العلمي كيف أنَّ المخترعين قد نسوا التساؤل حول منطق التواصل القائم. منطق تحكمه ديانة تقنية، حيث يقترن النموذج والمثال بفعل الاستغناء عن الكائن البشري، وأبرز مؤشر على ذلك الإدارة الإلكترونية.

ألم تلفظ الأبناك فضاءها الداخلي إلى الأزقة والشوارع، كمكان للمخاطر والمغامرات، حيث أصبحت الآلة وحدها قادرة على جعل المسؤولين يقنعون الزبون بشرعية إجراء عملية شخصية وخاصة في الفضاء العام. كما أنَّها نقلتنا من إطار محمي إلى فضاء خارجي تتهدده جميع أنواع المخاطر والحماقات. وهو الشيء الذي جعل الزبون مجبرًا على تحمُّل كُلِّ أصناف العنفين المادي والرمزي. هكذا كانت الآلة رحيمة تجاه المستخدم، وهي ترفع عنه المسؤولية، إنَّها إحدى الصور الكاشفة عن ظاهرة الاستعمال الوحشي للتقنية.
نعم؛ فقد تحسَّنت الشروط، دون أن تكون وراء ذلك غاية إنسانية ما، فالاعتقاد في أطروحة الإنسان - الآلة كانت له انعكاسات سلبية على الإنسان مبتكر هذه الآلة، حيث أضحت تعامله كشيء من الأشياء، وفي أحسن الأحوال كمجرد رقم من الأرقام([7]).
إنَّ لكل إنسان طبيعي طموحاتٍ وآمالًا وغاياتٍ، وقدراتٍ ومهاراتٍ، وغالبًا ما يحول بينه وبين تحقيقها - ما لـم تكن هناك عوائق خارج إرادته - الهمة الضعيفة، والغفلة، وامتهان الذات. وكلها أعراض أفرزتها فيروسات الحضارة المعاصرة. وإذا نظرنا إلى ما يطمح إليه كثير من الناس في هذه الأيام، من جمع الأموال، وتوسيع التجارات، وشراء أحدث السلع والأثاث. إنَّها طموحات مشروعة، ولكن ينبغي أن لا نقف عند إرضاء رغباتنا ونزواتنا المادية فقط.

هناك العديد من المواهب والمهارات، والملكات والخبرات التي نقوم بدفنها - بأيدينا - تحت ذلك الركام من التفاهات التي نشغل بها أنفسنا كثيرًا من لحظات عمرنا عوض البحث عن الغاية الأسمى من هذا الوجود البحث عن المعنى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، فسرها ابن عباس سيد حكماء الصحابة الكرام بقوله: «إلا ليعبدون، أي: ليعرفون»، فجعل المعرفة بالله الغاية الأسمى من الوجود.

* تناغم مكونات الجسد:
-------------

في سياق موازٍ تشتغل مكونات الجسم الإنساني في تناغم قل نظيره، رغم اختلاف أنواعها، حيث يتكوَّن هذا الجسد من بلايين الخلايا، تُكوِّن البنية العضلية للإنسان: رأس، عنق، جذع، ذراعين، قدمين. يتكوَّن أيضًا من زاوية نظر أخرى حسب موقع المعرفة من ذرات العناصر الكيميائية. والعناصر الأكثر شيوعـًا بالجسم هي: الكربون والهيدروجين والنيتروجين والأكسجين. ويحتوي الجسم أيضـًا على كميات أقل من عناصر أخرى كثيرة، تشمل: الكالسيوم، الحديد، الفوسفور، البوتاسيوم، والصـوديوم. وتتحد العناصر الكيميائية مكونة تركيبات مجهرية تُسمَّى الجزيئات. وأكثر الجزيئات شيوعـًا في جسم الإنسان هو جزيء الماء. ويتكون جزيء الماء من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين([8]).
من ثَمَّ يحقُّ لنا التساؤل: هل مكونات هذا الجسم الإنساني نسيت يومًا دورها في الجسد، وانشغلت عنه باتباع انشغالات أخرى أنستها أنفسها؟ هل يا تُرى تعمل هذه المكونات فقط لإرضاء ذاتها، أم إنَّها تشتغل لهدف أسمى هو الاشتغال في خدمة الإنسان من أجل أن يعيش في صحة سليمة؟ نفس السؤال يُمكن أن يطرحه أيُّ مُفكرٍ: هل تشتغل كُلُّ مكونات جسد البشرية، في نظرة شمولية من موقع أسمى في رُقِيٍّ فكريٍّ وروحيٍّ وماديٍّ، من أجل خدمة هذا الجسد ليحيى كل مكوناته في تسامح وتعايش فيما بينهم، حتى لا يشتكي منه عضو بالسهر والحمى.

إنَّ المقصود من الخلق أن يصل إلى درجة الاستخلاف في الأرض في أرقى تجلِّيَّاته دون سفك للدماء جعل الملائكة تتعجب من خلق الله للإنسان، فأجاب الحقُّ بالنفي، ممَّا يُشير إلى أنَّ خلايا جسد البشرية - ونقصد بالخلية هنا: الإنسان؛ لأنَّه مثل خلية صغيرة ضمن جسد البشرية جمعاء - ستتطور شيئًا فشيئًا، عبر الملاحظة والبحث والتدقيق، حتى يتبيَّن لهم أنَّه الحق، آنذاك يُمكن أن يعي الإنسان بأنَّ دوره في هذا الوجود ليس في جمع الموارد الطاقية التي هي سبب الحروب والويلات، وإنَّما هو وإيَّاها مجرد أداة من أجل تسخير الطبيعة للإنسان ليحيى كجسد واحدٍ على هذه الأرض، جسد وأي جسد، جسد عابد لله مسلم له في الباطن، عابد بجسده سواء في بُعد العبادة الدنيوي أو الأخروي، سواء كان شريعة أو واجبًا دنيويًّا، مسلم باطنيًّا بأن الله حق، وهو مُسيِّرُ الوجود، سواء وافق إرادة العبد، أم لا، وهو معنى الإسلام.

* برد التسليم لسحابة التجلي الإلهي:
-------------------------

إنَّ معنى دين الإسلام في نظرنا ليس أداء الشعائر، وإن كانت مدخلًا لا بُدَّ منه، ووسيلة لا غنى عنها في الترقي في الشعور الذوقي والفكري، والروحي، لبرد التسليم للإرادة الإلهية، سواء وافقت أمر العبد، أم لا؛ ولذلك: كان أمر المؤمن كله خيرًا، إن أصابه خيرٌ شكر، وإن أصابه شرٌّ صبر. يرى العارفون بهذا الأمر أنَّه لن يعرف الله إلَّا مَنِ استوت عنده الأضداد، قال أحد العارفين: «إذا صرت مع ربك؛ استوى عندك الذهب والفضة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، فلا يكدرك شيء؛ لأنَّك علوت على كل شيء، وإيَّاك أن يحجبك الفرح بالنعمة عن الله، حتى تتعرض لزوالها، وإياك أن يحجبك الحزن على شيء عن الله، فتتعرض لنسيان الله لك»([9])، فلينظر معنا القارئ العزيز إلى تناغم الحديث النبوي الشريف مع ذوق العارفين، أليس هذا نوعًا من الغوص في لذَّة الشعور الذوقي والفكري والإيماني بمعاني الحديث النبوي الشريف، بل بكل الشرائع.

إنَّ التصوُّفَ في نظرنا بغض النظر عن تسميته - التي جاءت آنفًا بعد حياة الرسول، كما جاءت تسميات مختلف العلوم التي خُلقت من رحم الإسلام، كعلم أصول الفقه الذي قعَّد له فيما بعدُ الشافعي في «الرسالة»، وعلم النحو الذي جمع مبادئه سيبويه في «الكتاب»، وكذلك الأمر بالنسبة للتصوف الذي عاشه الصحابة الكرام حالًا وذوقًا، وقعد له فيما بعد القُشيري في «الرسالة» - هو : «العلم الذي يهتم بالتقعيد لمبادئ الترقي الذوقي في الإسلام».

يرتقي المسلم في معارج الإسلام بسلوكه ومعاملاته وشرائعه التعبدية، ويرتشف من معينِ حوض النبي الأكرم في الدنيا قبل الآخرة، فتتدفق ينابيع الحكمة من فِيهِ بغضِّ النظر عن مستواه العلمي، وإنَّما بالنظر إلى مستواه الروحي، ودرجة تحديد بصيرته في رؤيته للأمور.
إنَّ الإنسان إن عرج مادِّيًّا ارتقت نظرته للأمور الظاهرة، كما حصل له حين استطاع العروج بالأقمار الصناعية، ففهم كروية الأرض، وبعروجه الفكري استطاع حلَّ الكثير مــــــــــــــــــــــن المعضلات الفكرية التي واجهت الإنسانيَّة، كما حصل للغرب حينما أنصتوا لصوت العلم، فخرجوا من ظُلُمات تحريف دياناتهم، وبالعروج الروحي تكتمل نظرةُ الإنسان لدنياه، كما آخرته، حيث يعلم يقينًا أنَّ دنياه فانيةٌ وإن لزمه العمل لها حتى يتخذها مطية لأخراه، وبذلك تكتمل نظرته للأشياء، كمتسلق لجبل يمكن أن نسميه جبل المعرفة، جبل وأي جبل، جبل ذو أربع واجهات: صخرية، ورملية، وثلجية، وربيعية، كل مقيم بواجهة ما لا يعلم حال الآخر ولنفترض أنَّه دار حوار فيما بينهم؛ فإنَّ الأول سيصف قحولة مكانه، والثاني سيصف حرارة موضعه، أمَّا الثالث فسيهجو البرد القارس الذي يؤلمه، في حين سيثني الرابع على الطقس الجميل الذي يتمتع به. هذا بالضبط ما حصل ويحصل للبشرية في كل وقت وحين، إن ماضيًا أو حاضرًا أو مآلًا، وإنَّما بقدر درجةِ وعيه باختلافِ وجهات النظر بالضرورة بقدر ارتفاع درجة علمه بالآخر الحضاري، ومن ثَمَّ: درجة تسامحه، حيث إنَّ مَن علا بوعيه وعرج سيكون بمثابة مَن كان يحوم بطائرة هيليكوبتر فوق الجبل نفسه، هو فقط من ستتضح له الرؤية، وسيعرف أنَّ كُلًّا منهم كان على حقٍّ عندما وصف واجهته، ولكن مَن لـم يتبيَّن الأمر بالصعود إلى فوق الجبل ليرى الواجهات الأربع، سيكون بمثابة من يتعصب لرأيه في وقتنا الحاضر دون رويَّة في الفكر، ودون جمع معطيات كافية عن الآخر تُبيِّن لِـمَ اتخذ موقفه ذلك، أو تبنَّى نظريته تلك.
يقعد واسيني الأعرج حكمة بالغة في هذا المعنى قائلًا: «لا أدري لـماذا علينا أن نفقد البعض لنعاود النظر لهم بشكلٍ أكثر وُضوحًا، وربما أكثر حُبًّا وتسامحًا»، أمَّا المفكر زياد البصراوي؛ فيصيغ نفس المبدأ في إبداع جميل: الحقيقة موجودة عند الجميع: إنَّ الذي هو غيرُ موجود هو الاتفاق على اختلاف الحقائق.
و يتساءَل دوغلاس آدمز مستغربًا: ألا يكفي النظر لروعة الحديقة وجمالها ... لـماذا علينا الاعتقاد بأنَّ هنالك جنيات خلفها أيضًا؟

لا يختلف اثنان أنَّ الزهر ألوان، والماء واحدٌ، وفي اختلاف الزهور والورود جمالية كبيرة لا تتأتَّى إلَّا لمن يعشق الجمال، فكذلك اختلاف ألواننا وألسنتنا، ينبغي أن يكون سبب جمالية ورونق لا سبب تطاحن وتراشق لشتى ألوان القذف والسب والشتم.
ليتمَّ العروج الإنساني في مدارج المعرفة بكل أبعادها نقول: إنَّ الإنسان في نظرنا نبتة إنسانية، مصداقًا لقوله - عزَّ من قائل -: {والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}، هذه النبتة الإنسانية مدعوةٌ من أجل أن تخضر كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه؛ ليفتخر بها زراعها من أنبياء ووارثيهم من العارفين، وهي محتاجة لتحقيق ذلك إلى ثلاث أنواع من السقيا:

- سُقيا الماء الطبيعي (H2O)؛ ليتغذى الجسد المادي.
- سُقيا الماء الفكري، امتثالًا لقول الإله: «اقرأ»؛ لينمو الجسد الفكري.
- سُقيا ماء التوحيد ذلك الماء المطهر «لا إله إلا الله»؛ ليقتات الجسد الروحي.

فإن تمَّ للإنسان ذلك بورود الواحات المخصصة لذلك، واحات الماء الطبيعي من مياه السدود والأنهار، واحات الفكر من مكتبات وجامعات، ثم من واحات التوحيد التي وصفها الرسول الأكرم برياض الجنة، ومنه اجتهدنا بوصفها واحات التوحيد من مجالس ذكر الله - تعالى - ومساجد ودير رهبان وبيع وصلوات ربيين.
إنَّها واحات للتوحيد الضروري ليستقيم الضروري من أودية حياة عقيدة التوحيد؛ ليعيش الإنسان تحت سقف أيِّ ديانة تُوحِّد الإله الحق، ويسلم برسالة جميع الرسل دون عنصرية فكر أو جنس أو جاه أو دين؛ ولذلك: لـم يرد الحق أبدًا أن تهدم مثل هذه الواحات الروحية، التي وعد الحق زائريها بانتظام؛ لارتواء عطشهم الروحي بفلاحة زرعهم، وانفتاح نبتتهم، فبعد أن يُدعى كلُّ مُؤمنٍ إليها بـ «حيَّ على الفلاح»، يقول له الحق في نهاية طريقه: {قد أفلح المؤمنون}؛ ولذلك قال الحق: {و لولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله}، وفي هذا دليل كافٍ على أنَّ اسم الله خير مياه التوحيد جميعًا.

روضُ قلبي قد تزهَّر


وفُؤادِي قد تنوَّر

مُذ سقي الماء المطهر


ماء التوحيد يا ماحلاه

غُصنُهُ الباهي المُعطَّر:


«لَا إِلَـهَ إِلَّا اللَّهُ»

----------------------------
د. محمد غاني: أكاديمي، وباحث مغربي

-------------------------------------

([1]) سورة البقرة، آية: (269).
([2]) مقتبس من الآية الكريمة: (35)، من سورة النور: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم}.

([3]) انظر براين تريسي: «ارسم مستقبلك بنفسك»، (ص/ 298).

([4]) انظر مقالي: «الحكمة.. تحديد مجهر البصيرة»، على الموقع الإلكتروني الثقافي الفكري: (thewhatnews)، كما على موقع الإسلام في المغرب، وجريدة قريش اللندنية.

([5]) انظر براين تريسي: «ارسم مستقبلك بنفسك»، (ص/ 299).

([6]) http://www.hiramagazine.com

([7]) Médias informatisés et énonciation éditoriale Par: Yves Jeanneret et Emmanuel Souchier.

([8]) «جسم الإنسان»، موقع المعرفة دوت أورغ.

([9]) انظر: موقع رياض الصالحين.


------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الْعَوْلَـمَةِ؟, غَرَقٌ, هَلْ, هُوَ, وَحْلِ


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع هَلْ هُوَ غَرَقٌ فِي وَحْلِ الْعَوْلَـمَةِ؟
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مسيرة البقعة: يا عباس إسمع زين.. ما رح نقبل بالتوطين Eng.Jordan الأردن اليوم 0 11-05-2012 10:20 AM
ما هُوَ الوَطَنُ ؟ جاسم داود الملتقى العام 0 03-20-2012 02:33 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:23 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59