#1  
قديم 01-17-2017, 02:39 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
29 ابن القيِّم.. العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعيُّ (1 - 2)


ابن القيِّم.. العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعيُّ (1 - 2)*
ـــــــــــــــــــــــ

19 / 4 / 1438 هــ
17 / 1 / 2017 م
ـــــــــــــ


القيِّم.. العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعيُّ 1bfeef87cf58a934fcff6618dff35b95-796x427.jpg




عَاشَ المسلِمُونَ في القَرنِ السَّابَعِ الهِجرِي ظُرُوفًا مَأسَاويَّةً جِدًا، وأَحدَاثًا جِسَامًا كان مِن أَبرَزِها اجتِيَاحُ التَتَرِ المغُولِ العَالَمَ الإسلامي، وتَدمِيرُهم مُدُنَه وحَوَاضِرَه بما في ذلك عَاصِمَةُ الخِلافَةِ الإسلامَيَّةِ بَغدَاد. وهذا الوَاقِعُ سَبَقَه انتِشَارٌ وَاسِعٌ لطَوَائِفِ الضَّلالِ والبِدعِ، مِن شِيعَةٍ رَافِضَةٍ وبَاطِنيَّةٍ وحَرَكَاتٍ صُوفِيَّةٍ مُغَالِيَةٍ في عَقَائِدِ الحُلُولِ والاتِّحَادِ والشِّركيَّاتِ البِدعِيَّةِ، حتى تَشَكَّلَت لها دُوَلٌ هنا وهناك. بالإضَافَةِ إلى بُرُوزِ فَلاسِفَةٍ يُظهِرُون الإلحَادَ والزَّندَقَة في ظلَّ تَأثُّرِ كَثَيرٍ مِن المسلِمِين بالفَلسَفَةِ وعِلمِ الكَلامِ. ومع قَتَامَةِ المشهَدِ العَامِ في سَاحَةِ العَالمِ الإسلامي، كَانَت تَبَاشِيرُ انبثَاقِ فَجرٍ جَدِيدٍ تَلُوحُ في الأُفُق، وحَركَةُ بَعثٍ إِسلاميٍّ تتَشكَّلُ في الوَسطِ العِلمِيِّ والاجتِمَاعيِّ والسِّيَاسيِّ والجِهَادِيِّ. وفي ظِلِّ هذه الأَجوَاءِ وُلِدَ ونَشَأَ وعَاشَ شَمسُ الدِّينِ أَبو عَبدِالله محمَّدُ بن أَبي بَكرٍ، الشَّهِيرُ بابنِ قَيِّم الجَوزِيَّةِ، آوَاخِرِ القَرنِ السَّابِعِ الهِجرِي وحتى مُنتَصَفِ القَرنِ الثَّامِن الهِجرِي. وهي حِقبَةٌ تَارِيخيَّةٌ شَهِدَت تَوقُّفَ المدِّ التَتَري المغُولي وانكِسَارَه، وانتِصَارَ المسلِمِين بقِيادَةِ النَّاصِرِ محمد بن قَلاوون على التَتَرِ، في وَقعَةِ شَقحَب بالقُربِ مِن دِمشق، في الثَّانِي مِن رَمضَانٍ سَنَة 702هـ. وهو الانتِصَارُ الذي أَعَادَ للمُسلِمينَ ثِقَتَهم في أَنفُسِهم وقُوَّتِهم، بعد الذي جَرَى في العُقُودِ السَّابِقَةِ مِن تهدِيدِ التَتَرِ لمـُدُنِ وحَوَاضِرِ المسلِمِين في العِراقِ والشَّامِ.
لقَد فَتَحَ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَه الله- مَدَارِكَه على هذا التَّحَوُّلِ الكَبيرِ في الأُمَّةِ، والذي وَاكَبَه بُرُوزُ شَخصيَّةٍ إسلامِيَّةٍ عِلمِيَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ على السَّاحَةِ العَامَّةِ، كان لها تَأثِيرُها على الحَركَةِ العِلمِيَّةِ والمعرِفِيَّةِ والدَّعَويَّةِ والجهَادِيَّةِ، بل وعلى شَخصِيَّةِ ابن القَيمِ نَفسِه؛ ألا وهي شَخصِيَّةُ شَيخِ الإسلامِ ابن تَيمِيَّة –رَحِمَه الله.
وقد كان ابنُ تَيمِيَّة في قَلبِ الانتِصَارِ الذي تَحقَّقَ في مَعرَكَةِ شَقحَب، بفَتَاوَاه في وُجُوبِ قِتَالِ التَّتَر، وكَشفِه لتَلبِيسَاتِهم وتَلبِيسَاتِ مَن يَتَواطَؤُون مَعَهم، وذَهَابِه للسُّلطَانِ النَّاصِرِ قَلاوُون يَدعُوه للقِتالِ ويَستَحثُّه ويُقوِّي عَزِيمَتَه، ودَعوَتِه للمُسلِمِين والأُمرَاءِ والجُنُودِ للاجتِمَاعِ وتَوحِيدِ الصَّفِّ والثَّبَاتِ، وخُرُوجِه للمُشَارَكَةِ في القِتَالِ بنَفسِه وبمَن معه مِن طَلَبَتِه ومُريدِيه وأَتبَاعِه، وتَبشِيرِه المجَاهِدِين بالنَّصرِ وهُم في أَرضِ المعرَكَةِ، قائِلا لهم: إنَّكم لمنصُورُون والله إنَّكم لمنصُورُون! فيُقُولون: قُل إن شَاءَ الله! فيُقول جَازِمًا: إن شَاءَ اللهِ تحقِيقًا لا تَعلِيقًا! يَتَأوَّلُ في ذلك آيَاتِ القُرآنِ الكَريم، وفَتوَاه للنَّاسِ أن يُفطِروا كي يَتقوَّوا على الأَعدَاءِ مُدَّةَ قِتَالهم، وهو يُفطِرُ أمَامَهم.
وكان ابن تَيميَّة عَالمـًا مُوسُوعيًّا، وفَقِيهًا مُجتَهِدًا، ومُصلِحًا مُجدِّدًا، غَزَيرَ الاطِّلاعِ، عَمِيقَ الفَهَم، صَاحِبَ فِكرٍ ومَنطِقٍ وجَدَلٍ، زَاهِدًا في الدُّنيا، مُنشَغِلًا بالتَّعلِيمِ والدَّعوَةِ والفُتيا والاحتِسَابِ والإصلاحِ. وقد لازَمَه ابنُ القَيِّمِ قُرَابَةَ سِتَّةَ عَشَرَ عَامًا[1]، ونَهَلَ مِن عِلمِه ومَعَارِفِه ما انعَكَسَ في شَخصِيَّةِ ابن القَيمِ ومُؤلَّفَاتِه ونُقُولاتِه عن شَيخِه.
لقد مَثَّلَ ابنُ القيِّمِ امتِدَادًا لنَهجِ الاجتِهَادِ والتَّجدِيدِ والإصلاحِ الذي تَأسَّسَ في هذه الحِقبَةِ، وبَرَزَت شَخصيَّتُه في مُؤَلَّفَاتِه التي تُشكِّلُ مُوسُوعَةً غَزِيرَةً، بعُلُومِه الشَّرعِيَّةِ: قُرآنًا وتَفسِيرًا وحَدِيثًا وفِقهًا وعَقِيدَةً وأُصولًا، وبعُلُومِه الفَلسَفيَّةِ والتَّارِيخيَّةِ والطَّبيعِيَّةِ عُمُومًا. ولو ذَهبَنا نَستَشهِدُ لكُلِّ وَاحِدَةٍ مِن ذلك يَطُولُ المقَامُ.
ولكن نكتَفي هنا بعَرضِ شَيءٍ مِن كَلامِ هذا العَالِمِ، ضِمنَ حَدِيثِه الإيمَاني، عن أُمُورٍ تُظهِرُ مَدَى برَاعَتِه واطِّلاعِه حَولَ الطِّبِّ، وما فيه مِن عُلُومٍ، كالتَّشرِيحِ والتَّغذِيَةِ والعِلاجِ والأَدوِيَةِ، وما يَتَّصِلُ به مِن مَعَارِفَ في عِلمِ الأَحيَاءِ، والكَائِنَاتِ الحيَّةِ وتَكوِينِها وتَركِيبِها ووَظَائِفِها، وعلى عِلمِ الزِّرَاعَةِ والفَلَكِ والمنَاخِ.. وغيرها.
وسَوفَ نَقتَبِسُ له نَصَّين: الأَولُ تَحدَثَ فيه عن قَولِ اللهِ تعالى: ((وفِي أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُونَ))، في كتابه: (التبيان في أقسام القرآن)[2]. وهو رَغَمَ طُولِه إلا أنَّه شَيِّقٌ ومَلِيءٌ بالدُّررِ والفَوائِدِ، ويُناسِبُ مَقصُودَ الاستِشهَادِ. والثاني مِن كِتابِه الشَّيِّق الماتِعِ (مِفتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ ومَنشُورُ وِلايَةِ العِلمِ والإرَادَةِ)[3]، وفي النصِّ المختَارِ يَتحدَّثُ عن آيَاتِ الله الكُونيَّةِ.
وهو في كِلا النَّصَّين يَدمِجُ بين مَعَارِفِه وعُلُومِه وبين عُذُوبَةِ أَلفَاظِه في تَقرِيرِ العَقَائِدِ، ومُحاجَجَةِ العُقُولِ، وتَذكِيرِ القُلُوبِ، وتَربِيةِ الرُّوحِ. فهو يُقدِّمُ أُنمُوذَجًا للعَالمِ الرَّباني الموسُوعِي في حِقبَةٍ تَارِيخيَّةٍ صَعبَةٍ، ورَمزًا مِن رُمُوزِ الحَركَةِ التَّجدِيديَّةِ التَّصحِيحيَّةِ الإصلاحِيَّةِ في الأُمَّةِ، الذين قَاوَمُوا حَالَةَ الانهيَارِ والضَّعفِ والانحِطَاطِ وأَسَّسُوا للتَّغييرِ، وتَركُوا ثَروَةً فِكريَّةً وعِلمِيةً وثَقَافِيةً لا تَزالُ مَرجِعًا مهما للأجيال.
النَّصُّ الأَول.. ابن القَيِّمِ طَبِيبًا:
يقول رحمه الله: "لمـَّا كان أَقرَبُ الأَشيَاءِ إلى الإِنسَانِ نَفسُه دَعَاه خَالَقُه -وبَارِئُه ومُصوِّرُه وفَاطِرُه مِن قَطرَةِ مَاءٍ- إلى التَّبَصُّرِ والتَّفكُّرِ في نَفسِه. فإذَا تَفكَّرَ الإنسَانُ في نَفسِه استَنَارَت له آيَاتُ الرُّبُوبيَّةِ، وسَطَعَت له أَنوَارُ اليَقينِ، واضمَحَلَّت عنه غَمَراتُ الشَّكِ والرِّيَبِ، وانقَشَعَت عنه ظُلُمَاتُ الجَهلِ. فإنَّه إذَا نَظَرَ في نَفسِه وَجَدَ آثَارَ التَّدبِيرِ فِيه قَائِمَاتٌ، وأَدِلَّةُ التَّوحِيدِ على رَبِّه نَاطِقَاتٌ، شَاهِدَةٌ لمدَبِّرِه، دَالَّةٌ عليه مُرشِدَةٌ إليه؛ إذ يَجِدهُ مُكوَّنًا مِن قَطرَة مَاءٍ لحُومًا مُنضَدَةً وعِظَامًا مُركَّبَةً وأَوصَالًا مُتعَدِّدَةً مَأسُورَةً مَشدُدَةً بحِبَالِ العُرُوقِ والأَعصَابِ، قد قُمِّطَت وشُدَّت وجُمِعَت بجِلدٍ مَتِينٍ مُشتَمِلٍ على ثَلاثمَائَةٍ وسِتِّين مِفصَلاً، ما بَينَ كَبيرٍ وصَغيرٍ وثَخِينٍ ودَقِيقٍ ومُستَطِيلٍ ومُستَدِيرٍ ومُستَقِيمٍ، وجَعَلَ فِيه تِسعَةَ أَبوَابٍ، فبَابَانِ للسَّمعِ، وبَابَانِ للبَصرِ، وبَابَانِ للشَّمِ، وبَابٌ للكَلامِ والطَّعَامِ والشَّرَابِ والتَّنفُّسِ، وبَابَانِ لخُرُوجِ الفَضَلاتِ التي يُؤذِيه احتِبَاسُها.
وجَعَلَ دَاخِلَ بَابَي السَّمعِ مُرًّا قَاتِلًا، لئَلَا تَلِجَ فيها دَابَةٌ تَخلُصُ إلى الدِّمَاغِ فتُؤذِيهِ. وجَعَلَ دَاخِلَ بَابَي البَصَرِ مَالِحًا لِئَلَا تُذِيبَ الحَرَارَةُ الدَّائِمَةُ ما هُناك مِن الشَّحمِ. وجَعَلَ دَاخِلَ بَابَ الطَّعَامِ والشَّرَابِ حُلوًا ليَسيغَ به ما يَأكُلُه ويَشرَبُه، فلا يَتَنغَّصُ به لو كان مُرًّا أو مَالِحًا.
وجَعَلَ له مِصبَاحَينِ مِن نُورٍ كالسِّرَاجِ المضِيءِ، مُرَكَّبَين في أَعلَى مَكَانٍ مِنه وفي أَشرَفِ عُضوٍ مِن أَعضَائِه طَلِيعَةً له، ورَكَّبَ هذا النُّورَ في جُزءٍ صَغِيرٍ جِدًا، يُبصِرُ به السَّمَاءَ والأَرضَ وما بَينَهما، وغَشَّاه بسَبعِ طَبقَاتٍ وثَلاثِ رُطُوبَاتٍ بَعضُها فُوقَ بَعضٍ، حِمَايَةً له وصِيَانَةً وحِرَاسَةً. وجَعَلَ على مَحلِّه غَلقًا بمِصرَاعَينِ أَعلَى وأَسفَلَ، ورَكَّبَ في ذَيلِ المِصرَاعَينِ أَهدَابًا مِن الشَّعرِ وقَايَةً للعَينِ وزِينَةً وجَمَالًا، وجَعَلَ فَوقَ ذلك كُلِّه حَاجِبَينِ مِن الشَّعرِ يحجُبَانِ العَينَ مِن العَرَقِ النَّازِلِ ويتَلَقَّيَانِ عنها ما يَنصَبُّ مِن هناك، وجَعَلَ سُبحَانَه لكُلِّ طَبَقَةٍ مِن طَبقَاتِ العَينِ شُغلًا مَخصُوصًا، ولكُلِّ وَاحِدٍ مِن الرُّطُوبَاتِ مِقدَارًا مَخصُوصًا لو زَادَ على ذلك أو نَقَصَ مِنه لاختَلَّت المنَافِعُ والمصَالِحُ المـَطلُوبَةُ، وجَعَلَ هذا النُّورَ البَاصِرَ في قَدرِ عَدَسَةٍ، ثمَّ أَظهَرَ في تِلكَ العَدَسَةِ صُورَةَ السَّمَاءِ والأَرضِ والشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ والجِبَالِ والعَالَمِ العُلويِّ والسُّفلِيِّ مع اتِّسَاعِ أَطرَافِه وتَبَاعُدِ أَقطَارِه، واقتَضَت حِكمَتُه سُبحَانَه أن جَعَلَ فيها بَيَاضًا وسَوَادًا، وجَعَلَ القُوَّةَ البَاصِرَةَ في السَّوادِ، وجَعَلَ البَيَاضَ مُستَقرًا لها ومَسكَنًا، وزَيَّنَ كُلًّا مِنهما بالآخَرِ، وجَعَل الحَدَقَةَ مَصُونَةً بالأَجفَان والحَوَاجِبِ كما تَقدَّمَ، والحَوَاجِبُ بالأَهدَابِ، وجَعَلَها سَودَاءَ، إذ لو كَانت بَيضَاءَ لتَفرَّقَ النُّورُ البَاصِرُ وضَعُفَ الإِدرَاكُ، فإنَّ السَّوادَ يجمَعُ البَصَرَ ويَمنَعُ مِن تَفَرُّقِ النُّورِ البَاصِرِ، وخَلَقَ سُبحَانه لتَحرِيكِ الحَدَقَةِ وتَقلِيبِها أربَعًا وعِشرِين عَضَلَةً، لو نَقَصَت عَضَلَةٌ وَاحِدَةٌ لاختَلَّ أَمرَ العَينِ، ولما كانت العَينُ كالمِرآةِ التي إنَّما تَنطَبِعُ فيها الصُّورُ إذا كانت في غَايَةِ الصَّقَالَةِ والصَّفَاءِ، وجَعَلَ سُبحَانه هذه الأَجفَانَ مُتَحرِّكَةً جِدًا بالطَّبعِ إلى الانطِبَاقِ مِن غَيرِ تَكَلُّفٍ، لتَبقَى هذه المرآةُ نَقيَّةً صَافِيَّةً مِن جَميعِ الكُدُورَاتِ، ولهذا لمـَّا لم يَخلُق لعَينِ الذُّبَابَةِ أَجفَانًا فإنَّها لا تَزَالُ تَرَاها تُنظِّفُ عَينَها بِيَدِها مِن آثَارِ الغُبَارِ والكُدُورَات.
وكما جَعَلَ سُبحَانَه العَينين مَؤدِّيَتَين للقَلبِ ما يُريَانِه فيُوصِلانِه إليه كما تَريَاه جَعَلَهما مِرآتَينِ للقَلبِ، يَظهَرُ فيهما ما هو مُودَعٌ فيه مِن الحُبِّ والبُغضِ، والخَيرِ والشَّرِ، والبَلادَةِ والفِطنَةِ، والزَّيغِ والاستِقَامَةِ، فيُستَدَلُّ بأَحوَالِ العَينِ على أَحوَالِ القَلبِ، وهو أَحَدُ أَنوَاعِ الفَرَاسَةِ الثَّلاثَةِ، وهي فَرَاسَةُ العَينِ وفَرَاسَةُ الأُذنِ وفَرَاسَةُ القَلبِ. فالعَينُ مِرآةٌ للقَلبِ وطَلِيعَةٌ ورَسُولٌ. ومِن عَجيبِ أَمرِها أنَّها مِن أَلطَفِ الأَعضَاءِ وأَبعَدِها تَأثُّرًا بالحَرِّ والبَردِّ، على أنَّ الأُذنَ على صَلابَتِها وغِلظِها لتَتَأثَّرُ بهما أَكثَرَ مِن تَأثُّرِ العَينِ على لطَافَتِها، وليسَ ذلك بسَبَبِ الغِطَاءِ الذي عليها مِن الأَجفَان، فإنَّها لو كانت مُنفَتِحَةً لم تَتَأثَّر بذلك تَأثُّرَ الأَعضَاءِ اللَّطِيفَةِ.
ومِن ذلك الأُذنَان، شَقَّهما تَبارَكَ وتَعَالى في جَانِبي الوَجهِ وأَودَعَهما مِن الرُّطُوبَةِ ما يَكُون مُعِينًا على إدرَاكِ السَّمعِ، وأَودَعَهما القُوَّةَ السَّمعِيَّةَ، وجَعَلَ سُبحَانه في هذه الصَّدَفَةِ انحِرَافَاتٍ واعوِجَاجَاتٍ لتَطُولَ المسَافَةُ قَليلًا، فلا يَصِلُ الهوَاءُ إلا بعد انكِسَارِ حِدَّتِه، فلا يَصدُمُها وَهلَةً وَاحِدَةً فيُؤذِيها، وأَيضًا لئَلَّا يُفجَأَها الدَّاخِلُ إليها مِن الدَّبيبِ والحَشرَاتِ، بل إذا دَخَلَ إلى عَوَجَةِ مِن تلك الانعِطَافَاتِ وَقَفَ هناك فسَهُلَ إخرَاجُه.
وكانت العَينَانُ في وَسَطِ الوَجهِ، والأُذُنَانُ في جَانِبَيه، لأنَّ العَينَين مَحَلُ الملاحَةِ والزِّينَةِ والجَمَالِ، وهما بمَنزِلَةِ النُّورِ الذي يَمشِي بين يَدَي الإنسَانِ، وأمَّا الأُذُنَانِ فكان جَعلُهما في الجَانِبَين ليَكُون إدرَاكَهما لما خَلفَ الإنسَان وأَمَامَه وعن يَمِينِه وعن شِمَالِه سَواء، فتَأتِي المسمُوعَاتُ إليهما على نِسبَةٍ وَاحِدَةٍ، وخُلِقَت العَينَان بغِطَاءٍ والأُذُنَان بغَيرِ غِطَاءٍ، وهذا في غَايَةِ الحِكمَةِ، إذ لو كان للأُذُنَين غِطَاءٌ لمـَنعَ الغِطَاءُ إدرَاكَ الصُّوتِ، فلا يَحصُلُ إلا بَعدَ ارتِفَاعِ الغِطَاءِ، والصُّوتُ عَرَضٌ لا ثَبَاتَ له، فكان يَزُولُ قَبلَ كَشفِ الغِطَاءِ بخِلافِ ما تَرَى العَينُ فإنَّه أَجسَامٌ وأَعرَاضٌ لا تَزُولُ فيما بين كَشفِ الغِطَاءِ وفَتحِ العَينِ.
وجَعَلَ سُبحَانَه الأُذُن عُضوًا غُضرُوفيًّا، ليس بلَحمٍ مُستَرخٍ، ولا عَظمٍ صَلبٍ، بل هي بين الصَّلابَةِ واللِّين، فتقبل بلِينِها وتُحفَظُ بصَلابَتِها، ولا تَنصِدعُ انصِدَاعَ العِظَامِ، ولا تَتَأثَّرُ بالحَرِّ والبَردِ، والشَّمسِ والسُّمُومِ، تَأثُّرَ اللَّحمِ إذ المصلَحَةُ في بُرُوزِها لتَتَلقَّى ما يَرِدُ عليها مِن الأَصوَاتِ والأَخبَارِ.
ومِن ذلك الأَنفُ، نَصَبَه سُبحَانَه في وَسَطِ الوَجهِ قَائِمًا مُعتَدِلًا، في أَحسَن شَكلٍ وأَوفَقِه للمَنفَعَةِ، وأَودَعَه حَاسَّةُ الشَّمِ التي يُدرِكُ بها الرَّوَائِحَ وأَنوَاعِها وكَيفيَّاتِها ومَنَافِعِها ومَضَّارِها، ويَستَدِلُّ بها على مَضَّارِ الأَغذِيَةِ والأَدوِيَةِ ومَنَافِعِها، وأَيضًا فإنَّه يَستَنشِقُ بالتَّخزِين الهَوَاءَ البَارِدَ الرَّطبَ فيُؤَدِّيه إلى القَلبِ، فيَترُّوحُ به، فيَستَغني بذلك عن فَتحِ الفَمِ أَبدًا، وجَعَلَ تَجوِيفَه بَقَدَرِ الحَاجَةِ، فلم يُوسِّعه عن ذلك فيَدخُلَه هَوَاءٌ كَثِيرٌ، ولم يُضَيِّقه فلا يَدخُلَه مِن الهوَاءِ ما يَكفِيه، وجَعَلَ ذلك التَّجويفَ مُستَطِيلًا ليَنحَصِرَ فيه الهَوَاءُ ويَنكَسِرَ بَردُه وحِدَّتُه قَبلَ أن يَصِلَ إلى الدِّمَاغِ، فلولا ذلك لصَدَمَه بحِدَّتِه وقُوَّتِه. والهَوَاءُ الذي يَستَنشِقُهُ الأَنفُ يَنقَسِمُ شِطرَين: شِطَرًا يَصعَدُ إلى الدِّمَاغِ وشِطرًا يَنزِلُ إلى الرِّئَةِ. وهو مِن آلَاتِ النُّطقِ، فإنَّ له إِعَانَةً على تَقطِيعِ الحُرُوفِ. وكما أنَّ تَجوِيفَه جُعِلَ لاستِنشَاقِ الهَوَاءِ فإنَّه جُعِلَ مَصبًّا لفَضَلاتِ الدِّمَاغِ، تَنحَدِرُ مِنه في تلك القَصَبَةِ فيَخرُجُ فيَستَرِيحُ الدِّمَاغُ، ولذلك جَعَلَ عليها سِترًا ولم يَجعَلها بَارِزَةً فتَستَقبِحُها العُيُونُ، وجَعَلَ فيه تجوِيفَين فإنَّه قد يَنسَدُّ أَحَدُهما أو يَعرِضُ له آفَةٌ تَمنَعُه مِن الإدرَاكِ والاستِنشَاقِ، فيَبقَى التَّجوِيفُ الثَّاني نَائِبًا عنه يَعمَلُ عَمَلَه، كما اقتَضَت الحِكمَةُ مِثلَ ذلك في العَينَين. ثمَّ تَأمَّل الهَوَاءَ الذي يَستَنشِقَه الأَنفُ كيف يَدخُلُه أَولًا مِن المـُنخَرِين ويَنكَسِرُ بَردُه هناك، ثمَّ يَصِلُ إلى الحَلقِ فيَعتَدِلَ مِزَاجُه هناك، ثمَّ يَصِلُ إلى الرِئَةِ أَلطَفَ ما يكُونُ، ثمَّ تَبعَثُه الرِّئَةُ إلى القَلبِ فيُرَوِّحُ عن الحَرَارَةِ الغَرِيزِيَّةِ التي فيه، ثمَّ يَنفُذُ مِن القَلبِ إلى العُرُوقِ المتَحرِّكَةِ، ويُبلُغُ إلى أَقَاصِي أَطرَافِ البَدَنِ، ثمَّ إذَا سَخُنَ في البَاطِنِ وخَرَجَ عن حَدِّ الانتِفَاعِ خَرَجَ عن تِلك الأَقَاصِي إلى البَدَنِ، ثمَّ إلى الرِّئَةِ ثمَّ إلى الحُلقُومِ ثمَّ إلى المـُنخَرِين خَارِجًا، فيَخرُجُ مِنهما ويَعُودُ عِوضَه هَوَاءٌ بَارِدٌ نَافِعٌ. والنَّفسُ الوَاحِدُ مِن أَنفَاسِ العَبدِ إنَّما يَتِمُّ بمجمُوعِ هذه الأُمُورِ والقُوى والأَفعَالِ، وهو له في اليَومِ واللِّيلَةِ أَربَعَةٌ وعِشرُون أَلفَ نَفسٍ، للهِ في كُلِّ نَفَسٍ عِدَةُ نِعَمٍ قد وَقَفتَ على القَلِيلِ مِنها، فما ظَنُّك بمَا وَرَاءَ التَّنفُسِ مِن الأَعضَاءِ والقُوى ومَنَافِعِها وتَمَامِ النِّعمَةِ بها.
وأمَّا الفَمُ فمَحَلُّ العَجَائِبِ، وبَابُ الطَّعَامِ والشَّرَابِ والنَّفَسِ والكَلامِ، ومَسكَنُ اللِّسَانِ النَّاطِقِ الذي هو آلَةُ العُلُومِ وتُرجُمَانُ القَلبِ ورُسُولُه المؤَدِّي عنه. ولمـَّا كان القَلبُ مَلِكَ البَدَنِ ومَعدِنًا للحَرَارَةِ الغَرِيزِيَّةِ فإذَا دَخَلَ الهَوَاءُ البَارِدُ وَصَلَ إليه فاعَتَدَلَت حَرَارَتُه وبَقيَّ هنَالِك سَاعَةً فسَخُنَ واحتَرَقَ، فاحتَاجَ القَلبُ إلى دَفعِه وإخرَاجِه، فجَعَلَ أَحكَمُ الحَاكِمين إخرَاجَه سَبَبًا لحُدُوثِ الصَّوتِ في الحُنجُرَةِ والحَنَكِ واللِّسَانِ والشَّفَتِينِ والأَسنَانِ، مَقَاطِعَ ومَخَارِجَ مُختَلِفَةٍ، وبِسبَبِ اختِلَافِها تَميَّزَت الحُرُوفُ بَعضُها عن بَعضٍ، ثمَّ أُلهِمَ العَبدُ تَركِيبَ تِلك الحُرُوفِ ليُؤَدِّي بها عن القَلبِ ما يَأمُرُ به.
فتَأَمَّل الحِكَمَةَ البَاهِرَةَ حَيثُ لم يُضِع سُبحَانَه ذلك النَّفسَ المستَغنَى عنه المحتَاجَ إلى دَفعِه وإِخرَاجِه، بل جَعَلَ فيه إذَا استُغنِيَّ عنه مَنفَعَةً ومَصلَحَةً، هي مِن أَكمَلِ المنَافِعِ والمصَالِحِ؛ فإنَّ المقصُودَ الأَصلِيَّ مِن النَّفسِ هو اتِّصَالُ الرِّيحِ البَارِدِ إلى القَلبِ فأمَّا إخرَاجُ النَّفسِ فهو جَارٍ مَجرَى دَفعِ الفَضَلَةِ الفَاسِدَةِ، فصَرَفَ ذلك سُبحَانَه إلى رِعَايَةِ مَصلَحَةٍ ومَنفَعَةٍ أُخرَى، وجَعَلَه سَبَبًا للأَصوَاتِ والحُرُوفِ والكَلامِ.
ثمَّ إنَّه سُبحَانه جَعَلَ الحنَاجِرَ مُختَلِفَةَ الأشكَالِ في الضِّيقِ والسِّعَةِ والخُشُونَةِ والملاسَةِ، لتَختَلِفَ الأَصوَاتُ باختِلافِها، فلا يَتَشَابَه صُوتَان كما لا تَتَشَابَه صُورَتَان. وهذا مِن أَظهَرِ الأَدِلَّةِ، فإنَّ هذا الاختِلافَ الذي بين الصُّورِ والأَصوَاتِ على كَثرَتِها وتُعدُّدِها، فقلَّمَا يَشتَبِه صُوتَان أو صُورَتَان، ليس في الطَّبِيعَةِ ما يَقتَضِيه، وإنَّما هو صُنعُ اللهِ الذي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ وأَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه، فتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمين وأَحسَنُ الخَالِقِين. فمَيَّزَ سُبحَانه بين الأَشخَاصِ بما يُدرِكُه السَّمعُ والبَصَرُ.
وأَودَعَ اللِّسَانَ مِن المنَافِعِ مَنفَعَةَ الكَلامِ، وهي أَعظَمُها، ومَنفَعَةُ الذُّوقِ والإدرَاكِ، وجَعَلَه دَلِيلًا على اعتِدَالِ مِزَاجِ القَلبِ وانحِرَافِه، كما جَعَلَه دَلِيلًا على استِقَامَتِه واعوِجَاجِه، فتَرَى الطَّبِيبَ يَستَدِلُّ بما يَبدُو للبَصَرِ على اللِّسَانِ مِن الخُشُونَةِ والملَاسَةِ والبَيَاضِ والحُمرَةِ والتَّشَقُّقِ وغَيرِه على حَالِ القَلبِ والمِزَاجِ، وهو دَلِيلٌ قَويٌّ على أَحوَالِ المـَعِدَةِ والأَمعَاءِ، كما يَستَدِلُّ السَّامِعُ بما يَبدُو عليه مِن الكَلامِ على ما في القَلبِ فيَبدُو عليه صِحَّةُ القَلبِ وفَسَادِه مَعنىً وصُورَةً.
وجَعَلَ سُبحَانَه اللِّسَانَ عُضوًا لحمِيًّا لا عَظمَ فيه ولا عَصَبَ، لتَسهُلَ حَرَكَتُه، ولهذا لا تَجِدُ في الأَعضَاءِ مِن لا يَكتَرِثُ بكَثرَةِ الحَركَةِ سِوَاه، فإنَّ أيَّ عُضوٍ مِن الأَعضَاءِ إذا حَرَّكتَه كما تُحرِّكُ اللِّسَانَ لم يُطِق ذلك ولم يَلبَث أن يَكِلَّ ويَخلُد إلى السُّكُونِ إلَّا اللِّسَان. وأَيضًا فإنَّه مِن أَعدَلِ الأَعضَاءِ وأَلطَفِها، وهو في الأَعضَاءِ بمَنزِلَةِ رَسُولِ الملِكِ ونَائِبِه، فمِزَاجُه مِن أَعدَلِ أَمزِجَةِ البَدَنِ، ويَحتَاجُ إلى قَبضٍ وبَسطٍ وحَرَكَةٍ في أَقَاصِي الفَمِ وجَوَانِبِه، فلو كان فيه عِظَامٌ لم يَتَهيَّأ مِنه ذلك ولم يَتَهيَّأ مِنه الكَلامُ التَّامُ ولا الذُّوقُ التَّامُ، فكَوَّنَه اللهُ كما اقَتضَاه السَّببُ الفَاعِليُّ والغَائِيُّ، والله أعلم.
وجَعَلَ سُبحَانَه على اللِّسَانِ غَلقَين أَحدُهما الأَسنَانُ والثَّاني الفَمُ، وجَعَلَ حَرَكَتَه اختِيَاريَّةً، وجَعَلَ على العَينِ غِطَاءً وَاحِدًا، ولم يجعَل على الأُذُن غِطَاءً، وذلك لخَطَرِ اللِّسَانِ وشَرَفِه وخَطَرِ حَرَكَاتِه، وكُونُه في الفَمِ بمَنزِلَةِ القَلبِ في الصَّدرِ.. مِن اللَّطَائِفِ، فإنَّ آفَةَ الكَلامِ أكثَرُ مِن آفَةِ النَّظَرِ، وآفَةُ النَّظَرِ أَكثَرُ مِن آفَةِ السَّمعِ، فجَعَلَ للأَكثَرِ آفَاتٍ طَبقَين والمتَوَسِّطِ طَبقًا وجَعَلَ الأَقلَّ آفَةً بلا طَبَقٍ.
وجَعَلَ سُبحَانه الفَمَ أَكثَرَ الأَعضَاءِ رُطُوبَةً، والرِّيقُ يَتحَلَّلُ إليه دَائِمًا لا يُفَارِقُه، وجَعَلَه حُلوًا لا مَالِحًا كمَاءِ العَينِ ولا مُرًّا كالذي في الأُذُنِ ولا عَفِنًّا كالذي في الأَنفِ، بل هو أَعذَبُ مِياه البَدَنِ وأَحلَاها، حِكمَةً بَالِغَةً، فإنَّ الطَّعَامَ والشَّرَابَ يُخَالِطُه، بل هو الذي يُحِيلُ الطَّعَامَ ويَمتَزِجُ به امتِزَاجَ العَجِينِ بالماءِ، فلولا أنَّه حُلوٌ لما التَذَّ الإنسَانُ، بل ولا الحَيَوانُ، بطَعَامٍ ولا شَرَابٍ، ولا سَاغَه إلَّا على كُرهٍ وتَنغِيصٍ، ولمـَّا كان كَثِيرٌ مِن الطَّعَامِ لا يُمكِنُ تَحوَّلَه إلَّا بَعدَ طَبخِه جَعَلَ الرَّبُ تعالى له آلَةً للتَّقطِيعِ والتَّفصِيلِ، وآلَةً للطَّحنِ، فجَعَلَ آلَةَ القَطعِ -وهي الثَّنَايَا ومَا يَلِيها- حَادَّةَ الرُّؤُسِ، ليَسهُلَ بها القَطعُ، وجَعَلَ النَّواجِذَ وما يَلِيها مِن الأَضرَاسِ مُسطَّحَةَ الرُّؤُسِ عَرِيضَةً، ليَتَأَتَّى بها الطَّحنُ، ونَظَمَها أَحسَنَ نِظَامٍ كاللُّؤلُؤِ المنتَظَمِ في سِلكٍ، وجَعَلَها مِن الجَانِبِ الأَعلَى والأَسفَلِ، ليَتَأَتَّى بها القَطعُ والطَّحنُ، وجَعَلَها مِن الجَانِبِ الأَيمَنِ والأَيسَرِ، إذ رُبَّما كَلَّت إحدَى الآلَتَين أو تَعطَّلَت أو عَرَضَ لها عَارِضٌ فيُنتَقَلُ إلى الآلَةِ الأُخرَى، وأَيضًا لو كان العَمَلُ على جَانِبٍ وَاحِدٍ دَائِمًا أَوشَكَ أن يَتَعطَّلَ ويَضعُفَ. وتَأمَّل كَيفَ أَنبَتَها سُبحَانه مِن نَفسِ اللَّحمِ، فتَخرُجُ مِن خِلالِه نَابِتَةً كما يَنبُتُ الزَّرعُ في الأَرضِ، ولم يَكسُها سُبحَانه لَحمًا كسَائِرِ العِظَامِ سِوَاها، إذ لو كَسَاها اللَّحمَ لتَعطَّلَت المنفَعَةُ المقصُودَةُ. ولمـَّا كانت العِظَامُ مُحتَاجَةً إلى لَحمٍ يكسُوها ويَحفَظُها ويَتلَقَّى عنها الحَرَارَةَ والبَّردَ، ويَحفَظُ عليها رُطُوبَتَها، لم تَكمُل مَصلَحَةُ الحَيَوَان إلَّا بهذه الكِسوَةُ. ولمـَّا كانت عِظَامُ الأسنَانِ مُحتَاجَةً إلى ذلك مِن وَجهٍ، مُستَغنِيَّةً عنه مِن وَجهِ، جُعِلَت كِسوَتُها مُنفَصِلَةً عنها، وجُعِلَت هي المكتَسيَّةَ العَارِيَّةَ، لتَمَامِ المنفَعَةِ بذلك. ولمـَّا كانت آلَةُ القَطعِ والكَسرِ والطَّحنِ لم تَنشَأ مع الطِّفلِ مِن أَوَّلِ نَشأَتِه كسَائِرِ عِظَامِه، لعَدَمِ الحَاجَةِ إليها، عُطِّلَ عنها وَقتَ استِغنَائِه عنها بالرَّضَاعِ، وأُعطِيَها وَقتَ حَاجَتِه إليها، وفيه حِكمَةٌ أُخرَى، وهي أنَّه لو نَشَأَت معه مِن حِينِ يُولَد لأَضرَّت بحَلَمَةِ الثَّدي، إذ لا عَقلَ له يُحرِزُه عن عَضِّها، فكانت الأُمُّ تَمتَنِعُ مِن إرضَاعِه.
ومِن عَجِيبِ أَمرِها [أي الأسنان] الاتِّفَاقُ والموَالَاةُ التي بَينَها وبَينَ المـَعِدَةِ. فإنَّه يُسلَّمُ إليها الشَّيءُ اليَابِسُ والصَّلبُ فتَطحَنُه، ثمَّ تُسَلِّمُه إلى اللِّسَانِ فيَعجِنَه، ثمَّ اللِّسَانُ يُسلِّمُه إلى الحَلقِ فيُوصِلُه إلى المـَعِدَةِ، فتُنضِجُه وتَطبُخُه، ثمَّ يُرسَلُ إليها منه مَعلُومَها المقَدَّرِ لها. فإذا عَجِزَت [أي الأسنان] عن قَطعِ شَيءٍ وطَحنِه عَجِزَت المـَعِدَةُ عن إنضَاجِه وطَبخِه، وإذا كلَّت الأَسنَانُ كَلَّت المـَعِدَةُ، وإذا ضَعُفَت ضَعُفَت. وهي تَصحَبُ الإنسَانَ وتَخدُمُه ما لم يَرَها، فإذا وَقَعَت عَينُه عليها فَارَقَته الأَبد. وهي سِلاحٌ ومِنشَارٌ وسِكِّينٌ ورُوحٌ وزِينَةٌ، وفيها مَنَافِعُ ومَصَالِحُ غَيرُ هذه".
ثمَّ تكَلَّمَ عن الشَّعرِ وحَالِه ومَنبَتَه وسَبَبَه، وذَكَرَ وظَائِفَه المختَلِفَةِ، بحَسَبِ مَوقِعَهِ. فيقول مثلا: فيجعل وظائفه موزعة بين الحماية والوقاية والزينة والتلطيف. "أمَّا شَعرُ اللِّحيَةِ ففِيه مَنَافِعُ: مِنها الزِّينَةُ والوَقَارُ والهَيبَةُ"، و"مِنها التَّمييزُ بين الرِّجَالِ والنِّسَاءِ"، ولمـَّا كُنَّ النِّسَاءُ: "مَحلَّ الاستِمتَاعِ والتَّقبِيلِ كان الأَحسَنُ والأَولى خُلُوهُنَّ عن اللحَى، فإنَّ مَحلَّ الاستِمتَاعِ إذا خَلا عن الشَّعرِ كان أَتمَّ. ولهذا المعنى -والله أعلم- كان أَهلُ الجَنَّةِ مُردًا، ليَكمُلَ استِمتَاعُ نِسَائِهم بهم، كما يَكمُلَ استِمتَاعُهم بهِنَّ".
وتَحدَّثَ عن اختِلافِ لَونِ الشَّعرِ، مَن أَسوَدَ وأَحمَرَ وأشقَرَ؛ وعن الشَّيبِ، واختِلافِ ذلك بين الإنسَانِ والحيَوَانِ، وبين شَعرِ جِسمِ الإنسَانِ ذَاتِه. كما تَحدَّثَ عن جُعُودَةِ الشَّعرِ وانبِسَاطِه، وعن ظَاهِرَةِ الصَّلعِ، وعن طُولِ الشَّعرِ وقِصَرِه.
وفي أَثنَاءِ ذلك رَبَطَ بين حَالَةِ الجِسمِ ووَظَائِفِه مِن نَاحِيَةٍ وبين حَالَةِ النَّفسِ ووَظَائِفِها؛ كما رَبَطَ بين حِكمَةِ الخَلقِ وحِكمَةِ الشَّرِيعَةِ، في أَكثَرِ مِن مَوطِنٍ. يقول مثلا: "لهذا جَاءَت الشَّرِيعَةُ بحَلقِ العَانَةِ، ونَتفِ الإبطِ. وكان حَلقُ العَانَةِ أَولَى مِن نَتفِها لصَلابَةِ الشَّعرِ وتَأذِّي صَاحِبَها بنَتفِه، وكان نَتفُ الإبطِ أَولَى مِن حَلقِه لضَعفِ الشَّعرِ هناك، وشِدَّتِه وتَعَجُّلِ نَبَاتِه بالحَلقِ، فجَاءَت الشَّرِيعَةُ بالأَنفَعِ في هذا وهذا".
كما تَحدَّثَ عن تَأثِيرِ الأَطعِمَةِ والأَشرِبَةِ والجِمَاعِ، وعن عَامِلِ السِّنِّ والكِبَرِ، وعن عَامِلِ اختِلافِ الجِنسِ مِن ذَكَرٍ لأُنثَى[4]، وعن عَامِلِ الصِّحَةِ والمرَضِ. كما أَجرَى مُقَابَلاتٍ بين أَهلِ بِيئَةٍ وأُخرَى وعِرقٍ وآخَرِ[5]، أو بين نُوعِ الإنسَانِ والحيَوَانِ[6]، أو بين الإنسَانِ والنَّبَاتِ[7]، أو بين الإنسَانِ والأَرضِ!
وهو في ذلك كُلِّه يَستَخدِمُ في وَصفِ أَعضَاءِ وأَجزَاءِ الجِسمِ، وطَبَائِعِه ووَظَائِفِه، المصطَلحَات الشَّائِعَةَ عند أَهلِ الفَنِّ في زَمَانِه، مِن حُكمَاءَ وأَطبَاءَ. فيَتحَدَّثُ مَثَلًا عن: العُرُوقِ والأَوعِيَةِ والمجَارِي والأَوتَارِ والأَغشِيَةِ والمفَاصِلِ في جِسمِ الإنسَانِ، وعن عُمقِ البَدَنِ وسَطحِه، وأَعلَاه وأَسفَلِه، ومَسَامِه ومَنَافِذِه؛ وعن "المزَاجِ"، و"الطَّبِيعَةِ"، و"البَلغَمِ"، و"الأَبخِرةِ"، و"الرُّطُوبَةِ"، و"اليُبُوسَةِ"، و"الحرَارَةِ"، و"البُرُودَةِ"، و"الفَضَلاتِ"، و"الاعتِدَالِ"، و"الخِفَّةِ" و"النشَاطِ"؛ ثمَّ يُركِّبُ مع هذه المصطَلَحَاتِ أَوصَافًا لتَفسِيرِ العَمليَّاتِ المتَعلِّقَة بها، مِن ذلك: الاعتِدَالُ والاختِلالُ، والحَركَةُ والسُّكونُ، والاجتِمَاعُ والانتشَارُ، والتَّحلُّلُ والاحتِراقُ، والزِّيَادَةُ والنُّقصَانُ، والغِلظَةُ واللِّينُ، والقُوَّةُ والضَّعفُ، والتَّولُّد والانفِصَالُ.
ثمَّ نَبَّهَ ابن القيِّمِ، بعد أن أَسهَبَ في مَسأَلَةِ الشَّعرِ، على أنَّ هذا شَأنُ الشَّعرِ: "فما الظَّنُّ بغَيرِه مِن الأَجزَاءِ الأَصلِيَّةِ، فإذا كانت هذه قَلِيلَةٌ مِن كَثيرٍ مِن حِكمَةِ الرَّبِّ تعالى في الشُّعورِ ومَواضِعِها ومَنَافِعِها، فكيف بحِكمَتِه في الرَّأسِ والقَلبِ والكَبِدِ والصَّدرِ وغيرها". ثمَّ يَقُولُ -رَابِطًا بين حِكمَةِ الخَلقِ والأَمرِ: "ولا تَضجَر مِن ذلك! فإنَّ الخَلقَ فيه مِن الفِقهِ والحِكَمِ نَظِيرَ ما في الأَمرِ، فالرَّبُّ تعَالى حَكِيمٌ في خَلقِه وأَمرِه، ويُحِبُّ مَن يَفقَه عنه ذلك، ويَستَدِلَ به على كَمَالِ حِكمَتِه وعِلمِه ولُطفِه وتَدبِيرِه. فإذا كان اللهُ لم يَضَع هذه الفَضَلاتِ في الإنسَانِ سُدَى فما الظَّنُّ بغيرها".
وهكذا يَصِلُ العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعِيُّ إلى مُبتَغَاه في مُحَادَثَةِ العَقلِ والفِكرِ، رَابِطًا بين عُلُومِ الشَّرعِ وعُلومِ الكَونِ والطَّبيعَةِ، في لُغَةٍ عِلمِيَّةٍ -حُكِمَت بالطَّبعِ بخِبرَةِ ومُصطَلحَاتِ الزَّمَانِ والمكَانِ. ليظهر بخطابه هذا إلى أيِّ مَدَى كان عُلمَاءُ الأُمَّةِ يجمَعُون بين فِقهِ الشَّرعِ والوَاقِعِ، وحُسنِ المعرِفَةِ بعُلُومِ عَصرِهم باعتبَارِها غَايةَ ما يمكِنُ الإنسَانُ بُلُوغَه في زَمَانِه.
------------------------------------
[1] وُلِدَ ابن القَيِّمِ في السَّابِعِ مِن صَفَرٍ سَنَةَ 691هـ، وتُوفِيَّ في الثَالِثِ عَشَر مِن رَجَبٍ سَنَةَ 751هـ، وكان مَولِدُه ووَفَاتُه بدِمَشقٍ. ووُلِدَ ابن تَيمِيَّة في العَاشِر مِن رَبيعِ الأَوَّلِ سَنَةَ 661هـ، ببَلدَةِ حَرَّان، وتُوفِيَّ في العِشرِين مِن ذِي القعدَةِ سَنَةَ 728هـ، بمَدِينَةِ دِمَشقٍ. = ابنَ تَيميَّةَ (1263م- 1328م) ابن القيم (1292م- 1349م)
[2] تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت- لبنان: ص303- 325.
[3] دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان: ص207- 214.
[4] يقول مثلا: "وإذا بَانَ أنَّ الشَّعرَ إنَّما يَتَولَّدُ مع الحَرَارَةِ واليُبسِ المعتَدِلِ بَقِيَت ثَلاثَةُ أَقسَامٍ، أَحَدُها حَرَارَةٌ غَالِبَةٌ على اليُبسِ، كالصُبيَان، الثَّاني عَكسُه وهو يُبسٌ غَالِبٌ على الحَرَارَةِ، كالمشَائِخِ، الثَّالِثُ حَرَارَةٌ ضَعِيفَةٌ ويُبسٌ ضَعِيفٌ، كأَبدَانِ النِّسَاءِ، ففي هذه الأقسَام يَقِلُّ الشَعرُ. وأمَّا الشَّبابُ فإنَّ حَرَارَةَ أبدَانِهم ويُبسِهم مُعتَدِلٌ فيَقوَى تَولُّدُ الشَّعرِ فيهم".
[5] يقول مثلا: "ولهذا تَجِدُ الشُّقرَ أَشَدُّ حَرَارَةً، وأكثَرُ حَرَكَةً وهِمَّةً".
[6] فهو يقول: "فإنَّ الإِنسَانَ يَستَعمِلُ المطَاعِمَ والمشَارِبَ المركَّبَةَ المتَنوِّعَةَ، ويَتنَاوَلُ أَكثَرَ مِن حَاجَتِه، فتَجتَمِعُ فيه فَضَلاتٌ كَثِيرَةٌ". "وأما سَائِرُ الحيَوانَاتِ فلا تتَنَاولُ الأغذِيَةَ المركَّبَةَ، وتَتَناوَلُ مِنها على قَدرِ الحَاجَةِ".
[7] يقول مثلا: " يقارن بين نبات الشعر والنبات فيقول: "فيَبقَى بَعضُه مَركُوزًا في الجِلدِ، مَنزِلَتُه مَنزِلَةُ أَصلِ النَّبَاتِ، وبَعضُه يَطلُعُ إلى خَارِجَ، مَنزِلَتُه مَنزِلَةُ سَاقِ النَّبَاتِ". ويقول في موطن آخر: "وهذا كما نُشَاهِدُ النَّبَاتَ الذي يَنبُتُ في الأَرضِ الرَّخوَةِ الليِّنَةِ فإنَّه يَطُولُ ويَزدَادُ، والذي يَنبُتُ في الأَرضِ الصَّخرِيَّةِ الصُّلبَةِ لا يَنمُو إلَّا نُموًّا يَسِيرًا، فكذلك الشَّعرُ النَابِتُ في الأَعضَاءِ الليِّنَةِ الرَّطبَةِ فإنَّه سَرِيعُ النُّمُو".





ـــــــــــــــــــــــ
*{مركز التأصيل للدراسات والبحوث}
ـــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-17-2017, 02:46 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
29 ابن القيِّم.. العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعيُّ (2 - 2)

ابن القيِّم.. العَالِمُ الرَّبَانيُّ الموسُوعيُّ (2 - 2) *
ـــــــــــــــــــــــــ

19 / 4 / 1438 هـــ
17 / 1 / 2017 م
ـــــــــــــ






عرضنا في المقال السَّابقِ لطَبيعَةِ المرحلَةِ التي نَشأَ فيها ابن القيم؛ وكيف أنَّه رَغمَ الظُّروفِ الصَّعبَةِ خَرجَت شَخصيَّات علميةٌ وفكريةٌ أَثرَت السَّاحَةَ الإسلامِيَّةَ بمؤُلفَاتِها المختَلِفَةِ، وآرَائِها وأَفكَارِها. فكانت شَخصَياتٌ مُوسُوعيةٌ، هَضَمَت عُلومَ الشَّريعَةِ وعُلومَ الطَّبيعَةِ وغيرها. ومن ثمَّ نجد أنَّ ابن القيم –كشيخه ابن تيمية- عَكَسَ بمؤَلفَاتِه طَبيعَةَ الجَبهَات المختلفة التي يعمل عليها العَالمُ في ذلك الزَّمانِ. فهو تَارَةً في مواجهَةٍ فِكريَةٍ مع أَهلِ الإلحَادِ (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)، وتَارةً في مُواجهَةٍ مع أَهلِ الكتَابِ (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)، وتَارةً في مُواجَهةٍ مع أَهل البِدعِ (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، وتَارَةً في مُواجهةٍ مع أَهلِ السِّياسَاتِ الظَّالمةِ (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، وتَارةً في مُواجهَةٍ مع أَهلِ الشَّهواتِ (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، وتارةً في مواجهةٍ مع أَهلِ الجُمودِ والتَّقلِيدِ (إعلام الموقعين عن رب العالمين.
وهو فيما يَكتُب يجمعُ بين رُوحِ الفقيه، وعَقلِيةِ المفَكِّرِ، وبَصِيرةِ النَّاقِدِ، وحَنَانِ المربِّي، وصِدقِ النَّاصحِ، ووِعي السِّياسي، وبَلاغَةِ الأَديبِ، وخِبرةِ المجرِّب، ومُوسوعيةُ المثقف. وهنا نَعرِضُ للنَّص الثَّاني المختار له، والذي يُظهِرُ فيه اطِّلاعَه في عُلومِ الفلك.
النَّصُ الثاني.. ابن القَيِّمِ فَلَكيًّا:
يقول رحمه الله: "فَتَأمَّل خَلقَ السَّمَاءِ، وارجِع البَصَرَ فِيهَا كَرَّةً بعد كَرَّةٍ، كيف تَرَاها مِن أعظَمِ الآيًاتِ في عُلُوها وارتِفَاعِها وسِعَتِها وقَرَارِها، بِحَيثُ لا تَصعَدُ عُلُوًا كالنَّارِ، ولا تَهبِطُ نَازِلَةً كالأجسَامِ الثَّقِيلَةِ، ولا عُمُدَ تَحتَها ولا عَلَاقَةَ فَوقَها، بل هي ممسُوكَةٌ بقُدرَةِ الله الَّذِي يُمسِكُ السَّمَاواتِ والأَرضَ أن تَزُولَا. ثمَّ تَأمَّل استوَاءَها واعتِدَالَها، فلا صَدعٌ فيها ولا فَطرٌ ولا شَقٌّ ولا أَمَتٌ ولا عِوَجٌ. ثمَّ تَأمَّل مَا وُضِعَت عليه مِن هذا اللَّونِ الَّذِي هو أحسَنُ الألوَانِ وأَشدُّها مُوَافَقَةً لِلبَصَرِ، وتَقوِيَةً له، حَتَّى إنَّ مَن أصَابَه شَيءٌ أَضرَّ ببَصَرِه يُؤمَرُ بإدمَانِ النَّظَرِ إلى الخُضرَةِ ومَا قَرُبَ مِنها إلى السَّوَادِ. وقال الأَطبَّاءُ: إنَّ مَن كَلَّ بَصَرُه فإِنَّ مِن دَوَائِه أن يُدِيمَ الِاطِّلَاعَ إلى أجَانَةٍ خَضرَاءَ مملُؤَةٍ مَاءً. فَتَأمَّل كَيفَ جَعَلَ أَدِيمَ السَّمَاءِ بِهذا اللَّونِ ليُمسِكَ الأبصَارَ المتَقَلِّبَةَ فِيهِ، ولا ينكَأُ فيها بُطُولِ مُبَاشَرتِها له. هذا بَعضُ فَوَائِدِ هذا اللَّونِ والحِكمَةُ فِيهِ أضعَافَ ذلك.
ثمَّ تَأمَّل حَالَ الشَّمسِ والقَمَرِ في طُلُوعِهما وغُرُوبِهما، لإقَامَةِ دَولَتِي اللَّيلِ والنَّهَارِ، ولَولَا طُلُوعُهما لبَطُلَ أَمرُ العَالَمِ. وكيف كان النَّاسُ يَسعُون في مَعَائِشِهم، ويَتَصرَّفُون في أُمُورِهم، والدُّنيَا مُظلِمَةٌ عليهم. وكيف كانوا يَتَهنُّون بالعَيشِ مع فقَدِ النُّورِ. ثمَّ تَأمَّل الحِكمَةَ في غُرُوبِهما فإِنَّه لولا غُرُوبُهما لم يَكُن للنَّاسِ هُدُوءٌ ولا قَرَارٌ مع فَرطِ الحَاجَةِ إلى السُّبَاتِ وجُمُومِ الحَوَاسِ، وانبِعَاثِ القُوى البَاطِنَةِ وظُهُورِ سُلطَانِها في النَّومِ المـُعِينِ على هَضمِ الطَّعَامِ، وتَنفِيذِ الغِذَاءِ إلى الأعضَاءِ، ثمَّ لولا الغُرُوبُ لكانت الأَرضُ تَحمِي بدَوَامِ شُرُوقِ الشَّمسِ واتِّصَالِ طُلُوعُها، حتَّى يَحتَرِقَ كُلُّ ما عليها مِن حَيَوَانٍ ونَبَاتٍ، فصَارَت تَطلُعُ وَقتًا، بِمَنزِلَةِ السِّرَاجِ يُرفَعُ لأهَلِ البَيتِ ليَقضُوا حَوَائِجَهم، ثمَّ تَغِيبُ عنهم مِثلَ ذلك، ليَقرُّوا ويَهدَؤُوا، وصَارَ ضِيَاءُ النَّهَارِ مع ظَلَامِ اللَّيلِ، وحَرُّ هذا مع بَردِ هذا، مع تَضَّادِهما مُتَعَاوِنين مُتظَاهِرَين، بهما تَمَامُ مَصَالحِ العَالَمِ. وقد أشَارَ تعالى إلى هذا الـمَعنَى، ونبَّهَ عِبَادَه عليه، بقَولِه عَزَّ وجَلَّ: ((قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عليكُم اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُون * قُل أَرَأَيتُم إِن جَعَلَ اللهُ عليكم النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بلَيلٍ تَسكُنُون فِيهِ أَفَلا تُبصِرُون))، القصص: 71- 72. فخَصَّ سُبحَانَهُ النَّهَارَ بذِكرِ البَصَرِ لأنَّه مَحَلَه، وفيه سُلطَانُ البَصَرِ وتَصَرُّفَه، وخَصَّ اللَّيلَ بذِكرِ السَّمعِ لأنَّ سُلطَانَ السَّمعِ يكون باللَّيلِ، وتُسمَعُ فيه الحَيَوَانَات مَالَا تُسمَعُ فِي النَّهَارِ، لأنَّه وَقتُ هُدُوءِ الأَصوَاتِ وخُمُودِ الحرَكَاتِ، وقُوَّةُ سُلطَانِ السَّمعِ وضَعفُ سُلطَانِ البَصَرِ. والنَّهَارُ بالعَكسِ، فيه قُوَّةُ سُلطَانِ البَصَرِ وضَعفُ سُلطَانِ السَّمعِ. فَقَولُه ((أفَلا تَسمَعُونَ)) رَاجِعٌ إِلى قَولِه ((قُل أَرَأَيتُم إن جَعَلَ اللهُ عليكُم اللَّيلَ سَرمَدًا إلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بضِيَاءٍ))، وقَولُه ((أفَلا تُبصِرُون)) رَاجِعٌ إلى قَولِه ((قُل أَرَأَيتُم إن جَعَلَ اللهُ عليكُم النَّهَارَ سَرمَدًا إلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكم بلَيلٍ تَسكُنُون فِيهِ)).
وقال تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّمَاءِ بُرُوجًا وجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وقَمَرًا مُنِيرًا وهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيلَ والنَّهَارَ خِلفَةً لمـَن أَرَادَ أن يَذَّكَّرَ أو أَرَادَ شُكُورًا))، فذَكَرَ تعالى خَلقُ اللَّيلِ والنَّهَارِ، وأنَّهما خِلفَةٌ أَي يَخلُفُ أَحَدُهما الآخَرُ، لا يجتَمِعُ معه، ولو اجتَمَعَ معه لفَاتَت المصلَحَةُ بتَعَاقُبِهما واختِلَافِهما. وهذا هو الـمُرَادُ باختِلَافِ اللَّيلِ والنَّهَارِ، كَونُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهما يَخلُفُ الآخَرَ، لا يُجَامِعَه ولا يُحَاذِيه، بل يَغشَى أَحَدُهما صَاحِبَه فيَطلُبَه حَثِيثًا، حتَّى يُزِيلَهُ عن سُلطَانِه، ثمَّ يَجِيءُ الآخَرُ عَقِيبَه فيَطلُبَه حَثِيثًا حتَّى يَهزِمَه ويُزِيلَه عن سُلطَانِه، فهما دَائِمًا يتَطَالبَانِ، ولا يُدرِكُ أَحَدُهما صَاحِبَه.
ثمَّ تَأمَّل بعد ذلك أحوَالَ هذه الشَّمسِ في انخِفَاضِها وارتِفَاعِها، لإقَامَةِ هذه الأَزمِنَةِ والفُصُولِ، ومَا فيها مِن المـَصَالحِ والحِكَمِ، إِذ لو كان الزَّمَانُ كُلُّه فَصلًا وَاحِدًا لفَاتَت مَصَالِحُ الفُصُولِ البَاقِيَةِ فِيهِ، فلو كان صِيفًا كُلُّه لفَاتَت مَنَافِعُ ومَصَالحُ الشِّتَاءِ، ولو كان شِتَاءً كُلُّه لفَاتَت مَصَالحُ الصَّيفِ، وكذلِك لو كان رَبِيعًا كُلُّه أو خَرِيفًا كُلُّه.
ففِي الشِّتَاءِ تَغُورُ الحَرَارَةُ في الأجوَافِ وبُطُونِ الأَرضِ والجِبَالِ، فتَتَولَّدُ مُوادُ الثِّمَارِ وغَيرِها، وتَبرُدُ الظَّوَاهِرُ ويَتَكَثَّفُ فيه الهَوَاءُ فيَحصُلُ السَّحَابُ والمـَطَرُ والثَّلجُ والبَرَدُ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الأَرضِ وأَهلِها، واشتِدَادُ أَبدَانِ الحَيَوَانِ وقُوَّتِها، وتَزَايُدُ القُوَى الطَّبيعِيَّةِ واستِخلَافُ مَا حَلَلَّتُه حَرَارَةُ الصَّيفِ مِن الأَبدَانِ. وفي الرَّبيعِ تَتَحرَّكُ الطَبَائِعُ وتَظهَرُ المـَوَادُ المتَولِّدَةِ فِي الشِّتَاءِ، فيَظهَرُ النَّبَاتُ ويتَنَوَّرُ الشَّجَرُ بالزَّهرِ، ويَتَحرَّكُ الحَيَوَانُ للتَنَاسُلِ. وفِي الصَّيفِ يَحتَدُّ الهَوَاءُ ويَسخُنُ جِدًا، فتَنضُجُ الثِّمَارُ وتَنحَلُّ فَضَلاتُ الأَبدَانِ والأَخلَاطِ الَّتي انعَقَدَت في الشِّتَاءِ، وتَغُورُ البُرُودَةُ وتَهرُبُ إلى الأَجوَافِ، ولِهذا تَبرُدُ العُيُونُ والآبَارُ ولا تَهضِمُ الـمَعِدَةُ الطَّعَامَ الَّذي كانت تَهضِمَه في الشِّتَاءِ مِن الأَطعِمَةِ الغَلِيظَةِ، لأنَّها كانت تَهضِمُها بالحَرَارَةِ الَّتي سَكَنَت في البُطُونِ فلمَّا جَاءَ الصَّيفُ خَرَجَت الحَرَارَةُ إلى ظَاهِرِ الجَسَدِ وغَارَت البُرُودَةُ فيه. فإِذَا جَاءَ الخَرِيفُ اعتَدَلَ الزَّمَانُ، وَصَفَا الهَوَاءُ وبَرُدَ، فانكَسَرَ ذلك السَّمُومُ؛ وجَعَلَه اللهُ بحِكمَتِهِ بَرزَخًا بين سَمُومِ الصَّيفِ وبَردِ الشِّتَاءِ لِئَلَّا يَنتَقِلَ الحَيَوَانُ وَهلَةً وَاحِدَةً مِن الحرِّ الشَّدِيدِ إلى البَردِ الشَّدِيدِ، فيَجِدَ أذَاه ويَعظُمَ ضَرَرُه، فإِذا انتَقَلَ إليه بتَدرِيجٍ وتَرتِيبٍ لم يَصعُب عليه، فإِنَّه عند كُلِّ جُزءٍ يَستَعِدُّ لقَبُولِ ما هو أّشَدُّ مِنه حتَّى تَأتي جَمرَةُ البَردِ بعد استِعدَادٍ وقَبُولٍ. حِكمَةٌ بَالِغَةٌ وآيَةٌ بَاهِرَةٌ. وكذلك الرَّبِيعُ بَرزَخٌ بين الشِّتَاءِ والصَّيفِ، يَنتَقِل فيه الحَيَوَانُ مِن بَردِ هذا إلى حَرِّ هذا، بتَدرِيجٍ وتَرتِيبٍ. فتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمين وأَحسَنُ الخَالِقِين.
ثمَّ تَأمَّل حَالَ الشَّمسِ والقَمَرِ ومَا أُودِعَاه مِن النُّورِ والإضَاءَةِ، وكيف جَعَلَ لهما بُرُوجًا ومَنَازِلَ يَنزِلانِها مَرحَلَةً بعد مَرحَلَةٍ، لإقَامَةِ دَولَةِ السَّنَةِ، وتَمَامِ مَصَالحِ حِسَابِ العَالَمِ الَّذي لا غِنَاءَ لهم في مَصَالحِهم عنه، فبِذلك يُعلَمُ حِسَابُ الأعمَارِ والآجَالِ المؤجَّلَةِ للدِّيُونِ والإجَارَاتِ والمعَامَلاتِ والعِدَدِ وغيرِ ذلك، فلولا حُلُولُ الشَّمسِ والقَمَرِ في تلك الـمنَازَلِ وتَنقُّلِهما فيها مَنزِلَةً بعد مَنزِلَةٍ لم يُعلَم شَيءٌ مِن ذلك. وقد نبَّه تعالى على هذا في غَيرِ مَوضِعٍ مِن كِتَابِه، كقَولِه: ((هو الَّذِي جَعَلَ الشَّمسَ ضِيَاءً والقَمَرَ نُورًا وقدَّرَه مَنَازِلَ لتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسَابِ مَا خَلَقَ اللهُ ذلك إلَّا بالحَقِّ يُفصِّلُ الآيَاتِ لقَومٍ يَعلَمُونَ))، يونس: 5؛ وقال تعالى: ((وجَعَلنَا اللَّيلَ والنَّهَارَ آيَتَينِ فمَحَونَا آيَةَ اللَّيلِ وجَعَلنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبصِرَةً لتَبتَغُوا فَضلًا مِن رَبِّكم ولتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ والحِسَابِ))، الإسراء: 12.
ثمَّ تَأمَّل الحِكمَةَ في طُلُوعِ الشَّمسِ على العَالمِ كَيفَ قَدَّرَه العَزِيزُ العَلِيمُ سُبحَانَه، فإِنَّها لو كانت تَطلُعُ في مَوضِعٍ مِن السَّمَاءِ فتَقِفُ فِيهِ ولَا تَعدُوه لمـَا وَصَلَ شُعَاعَها إلى كَثِيرٍ مِن الجِهَاتِ، لأنَّ ظِلَّ أَحدُ جَوَانِب كُرَةِ الأَرضِ[1] يحجِبُها عن الجَانِبِ الآخَرِ، وكان يَكُون اللَّيلُ دَائِمًا سَرمَدًا على مَن لم تَطلِع عليهم، والنَّهَارَ سَرمَدًا على مِن هي طَالِعَةٌ عليهم، فيَفسُدُ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ. فاقتَضَت الحِكمَةُ الإلَهيَّةُ والعِنَايَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أن قَدرَ طُلُوعِها مِن أَوَّلِ النَّهَارِ مِن المشرِقِ فتُشرِقُ على ما قَابَلَها مِن الأُفُقِ الغَربيِّ، ثمَّ لا تَزَالُ تَدُورُ وتَغشَى جِهَةً بعد جِهَةٍ، حتَّى تَنتَهِيَ إلى الغَربِ فتُشرِقُ على مَا استَتَرَ عنها في أوَّلِ النَّهَارِ، فيَختِلِفُ عندهم اللَّيلُ والنَّهَارُ فتَنتَظِمُ مَصَالحُهم.
ثمَّ تَأمَّل الحِكمَةَ في مَقَادِيرِ اللَّيلِ والنَّهَارِ تَجِدُها على غَايَةِ المصلَحَةِ والحِكمَةِ، وأن مِقدَارَ اليَومِ واللَّيلَةِ لو زَادَ على مَا قُدِّرَ عليه أو نَقَصَ لفَاتَت المصلَحَةُ واختَلَفَت الحِكمَةُ بذلك، بل جَعَلَ مِكيَالَها أربَعَةً وعِشرِين سَاعَةً، وجُعِلا يتَقَارَضَان الزِّيَادَةَ والنُّقْصَانَ بَينَهما، فما يَزِيدُ في أَحَدِهما مِن الآخَرِ يَعودُ الآخَرُ فيَستَرِدَّه مِنه. قال الله تعالى: ((يُولجُ اللَّيلَ في النَّهَارِ ويُولِجُ النَّهَارِ في اللَّيلِ))، وفِيه قَولَان، أَحَدُهما أنَّ الـمَعنى يُدخِلُ ظُلمَةَ هذا في مَكَانِ ضِيَاءِ ذلك، وضَياءَ هذا في مَكَانِ ظُلمَةِ الآخَرِ، فيُدخِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنهما في مَوضِعِ صَاحِبِه، وعلى هذا فهي عَامَّةٌ في كُلِّ لَيلٍ ونَهَارٍ. والقَولُ الثَّانِي أنَّه يَزِيدُ في أحَدِهما مَا يُنقِصُهُ مِن الأخَرِ، فمَا يَنقُصُ مِنه يَلِجُ في الآخَرِ لا يَذهَبُ جُملَةً، وعلى هذا فالآيَةُ خَاصَّةٌ ببَعضِ سَاعَاتِ كُلٍّ مِن اللَّيلِ والنَّهَارِ في غَيرِ زَمَنِ الاعتِدَالِ، فهي خَاصَّةٌ في الزَّمَانِ وفي مِقدَارِ ما يَلِجُ فِي أحَدِهما مِن الآخَرِ، وهو فِي الأَقَالِيمِ المعتَدِلَةِ غَايَةَ ما تَنتَهِي الزِّيَادَةُ خَمسَ عَشرَةَ سَاعَةً، فيَصِيرُ الآخَرُ تِسعَ سَاعَاتٍ، فإِذَا زَادَ على ذلك انحَرَفَ ذلك الإقلِيمُ في الحَرَارَةِ أو البُرُودَةِ، إلى أن يَنتَهِي إلى حَدٍّ لا يَسكُنُه الإنسَانُ ولا يتَكوَّنُ فيه النَّبَاتُ[2]. وكُلُّ مَوضِعٍ لا تَقَعُ عليه الشَّمسُ لا يَعِيشُ فيه حيَوَانٌ ولا نَبَاتٌ، لفَرطِ بَردِه ويُبسِه. وكُلُّ مَوضِعٍ لا تُفَارِقُه كذلك لفَرَطِ حَرِّه ويُبسِه والموَاضِع الَّتي يَعِيُش فيها الحَيَوَانُ والنَّبَاتُ هي الَّتي تَطلُعُ عليها الشَّمسُ وتَغِيبُ، وأَعدَلُها الـمَوَاضِعُ الَّتي تتَعَاقَبُ عليها الفُصُولُ الأربَعَةُ، ويكون فيها اعتِدَالَان: خَرِيفَانِ ورَبِيعَان.
ثمَّ تَأمَّل إنَارَةَ القَمَرِ والكَوَاكِب فِي ظُلمَةِ اللَّيلِ والحِكمَةِ في ذلك، فَإِنَّ اللهَ تعالى اقتَضَت حِكمَتُه خَلقَ الظُّلمَةِ لهُدُوِ الحَيَوَانِ وبَردِ الهَوَاءِ على الأبدَانِ والنَّبَاتِ، فتُعَادِلُ حَرَارَةَ الشَّمسِ فيَقُومُ النَّبَاتُ والحَيَوَان، فلمَّا كان ذلك مُقتَضَى حِكمَتِه شَابَ اللَّيلَ بِشَيءٍ مِن الأَنوَارِ، ولم يَجعَله ظُلمَةً دَاجِيَةً حندسًا لا ضَوءَ فيه أَصلًا، فكان لا يتَمَكَّنُ الحَيَوَانُ فيه مِن شَيءٍ مِن الحَرَكَةِ ولا الأعمَالِ، ولمـَّا كان الحَيَوَانُ قد يحتَاجُ في اللَّيلِ إلى حَرَكَةٍ ومَسِيرٍ وعَمَلٍ لا يَتَهيَّأُ له بالنَّهَارِ، لضِيقِ النَّهَارِ أو لشِدَّةِ الحَرِّ أو لخَوفِه بالنَّهَارِ، كَحَالِ كَثِيرٍ مِن الحَيَوَانِ، جَعَلَ في اللَّيلِ مِن أضوَاءِ الكَوَاكِبِ وَضَوءِ القَمَرِ مَا يَتَأَتَّى معه أَعمَالٌ كَثِيرَةٌ، كالسَّفَرِ والحَرثِ وغَيرِ ذلك مِن أَعمَالِ أَهلِ الحُرُوثِ والزُّرُوعِ، فجَعَل ضَوءَ القَمَرِ باللَّيلِ مَعُونَةً للحَيَوانِ على هذه الحَرَكَاتِ، وجَعَلَ طُلُوعَه في بَعضِ اللَّيلِ دُونَ بَعضٍ، مع نَقصِ ضَوئِه عن الشَّمسِ، لِئَلَّا يَستَوي اللَّيلُ والنَّهَارُ، فتَفُوتُ حِكمَةُ الِاختِلَافِ بينهما والتَّفَاوُتُ الَّذي قَدَّرَه العَزِيزُ العَلِيمُ. فتَأمَّل الحِكمَةَ البَالِغَةَ والتَّقدِيرَ العَجِيبَ الَّذي اقتَضَى أن أَعَانَ الحَيَوَانَ على دَولَةِ الظَّلامِ بجُندٍ مِن النُّورِ يَستَعِينُ به على هذه الدَّولَةِ المـُظلِمَةِ، ولم يَجعَل الدَّولَةَ كُلَّهَا ظُلمَةً صِرفًا، بل ظُلمَةً مَشُوبَةً بنُورٍ، رَحمَةً مِنهُ وإحسَانًا. فسُبحَان مَن أتقَنَ ما صَنَعَ وأَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه.
ثمَّ تَأمَّل حِكمَتَه تَبَارَكَ وتَعَالَى في هذه النُّجُومِ وكَثرَتها، وعَجِيبِ خَلقِهَا، وأنَّها زِينَةٌ للسَّمَاءِ وأَدِلَّةٌ يُهتَدَى بها في طُرُقِ البَرِّ والبَحرِ، ومَا جَعَلَ فيها مِن الضَّوءِ والنُّورِ، بِحَيثُ يُمكِنُنَا رُؤيَتُها مع البُعدِ المـُفرِطِ، ولَولَا ذلك لم يحصُل لنَا الاهتِدَاءُ والدَّلَالَةُ، ومَعرِفَةِ الـمَوَاقِيتِ. ثمَّ تَأمَّل تَسخِيرَها مُنقَادَةً بأَمرِ رَبِّها تَبَارَكَ وتَعَالَى جَارِيَةً على سَنَنٍ وَاحِدٍ، اقتَضَت حِكمَتُه وعِلمُه أن لا تَخرُجَ عنه، فجَعَلَ مِنها البُرُوجَ والمنَازِلَ والثَّوَابِتَ والسِّيَّارَةَ والكِبَارَ والصِّغَارَ والمـُتَوسِّطَ والأَبيَضَ الأَزهَرَ والأَبيَضَ الأَحمَرَ، ومِنها ما يَخفَى على النَّاظِرِ فلا يُدرِكُهُ، وجَعَلَ مَنطِقَةَ البُرُوجِ قِسمَينِ: مُرتَفِعَةً ومُنخَفِضَةً، وقَدَّرَ سَيرَها تَقدِيرًا وَاحِدًا، ونَزَّلَ الشَّمسَ والقَمَرَ والسَّيَارَاتِ مِنها مَنَازِلَها، فمِنها ما يَقطَعُها في شَهرٍ وَاحِدٍ وهو القَمَرُـ ومِنها ما يَقطَعُها في عامٍ، ومِنها ما يَقطَعُها في عِدَّةِ أعوَامٍ، كُلُّ ذلك مُوجِبُ الحِكمَةِ والعِنَايَةِ، وجَعَلَ ذلك أَسبَابَ لما يُحدِثُه سُبحَانَهُ في هذا العَالَمِ، فيَستَدِلُّ بها النَّاسُ على تلك الحَوَادِثِ الَّتي تُقَارِنُها، كمَعرِفَتِهم بِما يَكُونُ مع طُلُوعِ الثُّريَّا إِذا طَلَعَت، وغُرُوبِها إِذا سَقَطَت، مِن الحَوَادِثِ الَّتي تُقَارِنُها، وكذلك غَيرُها مِن المنَازِلِ والسَّيَّارَاتِ.
ثمَّ تَأمَّل جَعلَه سُبحَانَهُ بَنَاتَ نَعشٍ ومَا قَرُبَ مِنها ظَاهِرَةً لا تَغِيبُ لقُربِها مِن المركَزِ، ولما في ذلك مِن الحِكمَةِ الإلَهيَّةِ، وأنَّها بمَنزِلَةِ الأَعلَامِ الَّتي يَهتَدِي بها النَّاسُ في الطُّرُقِ المجهُولَةِ في البَرِّ والبَحرِ، فهم يَنظُرُون إليها وإِلى الجَديِّ والفَرقَدَينِ كُلَّ وَقتٍ أَرَادُوا، فيَهتَدُون بها حَيثُ شَاؤُوا.
ثمَّ تَأمَّل اختِلَافَ سَيرِ الكَوَاكِبِ، ومَا فيه مِن العَجَائِبِ، كيف تَجِدُ بَعضَها لا يَسِيرُ إِلَّا مع رِفقَتِه، لا يَفرِدُ عنهم سَيرَه أَبَدًا، بل لا يَسِيرُون إلَّا جَمِيعًا، وبَعضَها يَسيِرُ سَيرًا مُطلَقًا غَيرَ مُقَيَّدٍ برَفِيقٍ ولا صَاحِبٍ، بل إذَا اتَّفقَ له مُصَاحَبَتَه في مَنزِلٍ وَافَقَه فيه لَيلَةً وفَارَقَه اللَّيلَةَ الأُخرَى، فبَينَا ترَاهُ ورَفِيقَه وقَرِينَه إِذ رَأيتَهما مُفتَرِقَينِ مُتَبَاعِدَينِ، كأَنَّهما لم يَتَصَاحَبا قَطُّ، وهذه السَّيَّارَةُ لها في سَيرِها سَيرَانِ مُختَلِفَانِ غَايَةَ الاختِلَافِ، سَيرٌ عَامٌ يَسيِرُ بها فَلَكُها، وسَيرٌ خَاصٌ تَسِيرُ هي في فَلَكِها[3]، كما شَبَّهُوا ذلك بنَملَةٍ تَدُبُّ على رَحَى ذَاتِ الشِّمَالِ والرَّحَى تَأخُذُ ذَاتَ اليَمِينِ، فللِنَّملَةِ في ذلك حَرَكَتَان مُختَلِفَتَانِ، إلى جِهَتَينِ مُتَبَايِنَتَين، إحدَاهما بنَفسِها والأخرَى مُكرَهَةً عليها تَبعًا للرَّحَى تَجذِبُها إلى غَيرِ جِهَةِ مَقصِدِها، وبذلك يَجعَلُ التَّقدِيمَ فيها كُلَّ مَنزِلَةٍ إلى جِهَةِ الشَّرقِ، ثمَّ يَسيِرُ فَلكُها وبمَنزِلَتِها إلى جِهَةِ الغَربِ.
فسَل الزَّنَادِقَةَ والمعَطِّلَةَ أَيُّ طَبِيعَةٍ اقتَضَت هذا؟ وأَيُّ فَلَكٍ أَوجَبَه؟ وهلَّا كانت كُلُّها رَاتِبَةً أو مُنتَقِلَةً، أو على مِقدَارٍ وَاحِدٍ، وشَكلٍ وَاحِدٍ، وحَرَكَةٍ وَاحِدَةِ، وجَرَيَانٍ وَاحِدٍ؟ وهل هذا إلَّا صُنعُ مَن بَهرَت العُقُولَ حِكمَتُه وشَهِدَت مَصنُوعَاتُه ومُبتَدَعَاتُه بأنَّه الخَالِقُ البَارِئُ المصَوِّرُ الَّذي ليس كمِثلِه شَيءٌ، أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه، وأَتقَنَ كُلَّ مَا صَنَعَه، وأنَّه العَلِيمُ الحَكِيمُ الَّذي خَلَقَ فسَوَّى وقَدَّرَ فهَدَى، وأنَّ هذه إحدَى آيَاتِه الدَّالَّةِ عليه، وعَجَائِبَ مَصنُوعَاتِه الموصِلَةِ للأَفكَارِ إِذَا سَافَرَت فيها إليه، وأَنَّه خَلقٌ مُسخَّرٌ مَربُوبٌ مُدَبَّرٌ: ((إنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثًا والشَّمسَ والقَمَرَ والنُّجُومَ مُسخَّرَاتٍ بَأَمرِه ألَّا لَهُ الخَلقُ والأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رُبُّ العَالمين))، الأعراف: 54.
فَإِن قُلتَ فما الحِكمَةُ في كَونِ بَعضِ النُّجُومِ رَاتِبًا وبَعضِها مُنتَقِلًا؟ قِيلَ: إِنَّها لو كانت كُلُّهَا رَاتِبَةً لبَطُلَت الدَّلَالَةُ والحِكمُ الَّتِي نَشَأَت مِن تَنقُّلِها فِي مَنَازِلها، ومَسِيرِها فِي بُرُوجِها، ولو كانت كُلُّهَا مُنتَقِلَةً لم يَكُن لمـَسِيرِها مَنَازِلُ تُعرَفُ بها ولا رَسمٍ يُقَاسُ عليها، لأنَّه إِنَّما يُقَاسُ مَسِيرُ المتَنَقِلَّةِ مِنها بالرَّاتِبِ، كما يُقَاسُ مَسِيرُ السَّائِرِين على الأَرضِ بالمنَازِلِ الَّتِي يَمُرُّون عليها، فلو كانت كُلُّهَا بِحَالٍ وَاحِدَةٍ لاختَلَطَ نِظَامُها، ولَبَطُلَت الِحكَمُ والفَوَائِدُ والدَّلالَاتُ الَّتِي في اختِلافِها، ولَتَشبَّثَ الـمُعَطِّلُ بذلك، وقال: لو كان فَاعِلُها ومُبدِعُها مُختَارًا لم تَكُن على وَجهٍ وَاحِدٍ وأَمرٍ وَاحِدٍ وقَدرٍ وَاحِدٍ! فهذا التَّرتِيبُ والنِّظَامُ الَّذِي هي عليه مِن أَدَلِّ الدَّلَائِلِ على وُجُودِ الخَالِقِ وقُدرَتِه وإرَادَتِه وعِلمِه وحِكمَتِه ووَحدَانِيَّتِه.
ثمَّ تَأمَّل هذا الفُلكَ الدُّوارِ بشَمسِه وقَمَرِه ونُجُومِه وبُرُوجِه، وكيف يَدُورُ على هذا العَالَمِ هذا الدَّورَانِ الدَّائِمِ إلى آخِرِ الأَجلِ على هذا التَّرتِيبِ والنِّظَامِ، ومَا في طَيِّ ذلك مِن اختِلَافِ اللَّيلِ والنَّهَارِ والفُصُولِ، والحَرِّ والبَردِ، ومَا في ضِمنِ ذلك مِن مَصَالحَ مَا على الأَرضِ مِن أَصنَافِ الحَيَوَانِ والنَّبَاتِ، وهَل يَخفَى على ذِي بَصِيرَةٍ أنَّ هذا إِبدَاعُ الـمُبدِعِ الحَكِيمِ وتَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ؟ ولهذا خَاطَبَ الرُّسُلُ أُممَّهم مُخَاطَبَةَ مَن لا شكَّ عِندَه في اللهِ، وإِنَّما دَعُوهم إلى عِبَادَتِه وَحدَه لا إلى الإقرَارِ به، فقالت لهم: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ؟! فوُجُودُه سُبحَانَهُ ورُبُوبيَّتُه وقُدرَتُه أَظهَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ على الإطلَاقِ، فهو أَظهَرُ للبَصَائِرِ مِن الشَّمسِ للأَبصَارِ، وأَبيَنُ للعُقُولِ مِن كُلِّ مَا تَعقِلُه وتُقِرُّ بوُجُودِه، فمَا يُنكِرُه إلَّا مُكَابِرٌ بلِسَانِهِ، وقَلبُه وعَقلُه وفِطرَتُه كُلُّهَا تُكَذِّبُه".
وذهب رَحِمَه اللهُ تعالى يَستَشهِدُ بالآيَاتِ القُرآنِيَّةِ الكَريمَةِ، بما يَتَلائَمُ مع حَدِيثَه السَّابِقِ، وهي آيَاتٌ دَاعِيةٌ للتَّفكُّرِ والتَّعقُّلِ والتَّذكُّرِ. مُشِيراً إلى أنَّ النَّاظِرَ لا يَنتَفِعُ بمُجَرَّدِ رُؤيَةِ العَينِ حتَّى يَنتَقِلَ مِنهُ إلى نَظَرِ القَلبِ فِي حِكمَةِ ذلك، وبَدِيعِ صُنعِه، والاستِدلَالِ به على خَالِقِه وبَارِيه، وأنَّ ذلك هو الفِكرُ بِعَينِه، فإذَا استَدَلَّ بهذه الآيَاتِ وأعطَاها حَقَّها مِن الدَّلَالَةِ استَحقَّ مِن الوَصفِ مَا يَستَحِقُّهُ صَاحِبُ الفِكرِ، أَلَا وهو العَقلُ، لأَنَّ مَنزِلَةَ العَقلِ بعد مَنزِلَةِ الفِكرِ، فالعَقلُ فَوقَ الفِكرِ، وغَايَةُ ذلك ومُنتَهَاه التَّذكُّرُ، فإنَّه إذا تَفكَّرَ تَعقَّلَ وإذا تَعقَّلَ تَذكَّرَـ ثمَّ قال: "ولهذا وَسَّعنَا الكَلَامَ في التَّفكُّرِ في هذا الوَجهِ لعِظَمِ الـمَنفَعَةِ وَشِدَّةِ الحَاجَةِ إليه، قال الحَسنُ: مَا زَالَ أَهلُ العِلمِ يَعُودُون بالتَّذكُّرِ على التَّفكُّرِ وبالتَّفكُّرِ على التَّذكُّرِ، ويُنَاطِقُون القُلُوبَ حتَّى تَنطِقَ، فإِذَا لها أَسمَاعٌ وأَبصَارٌ". ثم يَشرَحُ مَفهُومَ التَّفكُّرِ فيقول: "فاعلم أنَّ التَّفكُّرَ طَلَبُ القَلبِ مَا ليس بحَاصِلٍ مِن العُلُومِ مِن أَمرٍ هو حَاصِلٌ مِنها. هذا حَقِيقَتُه، فإِنَّه لو لم يكن ثمَّ مُرَادٌ يكون مَورِدًا للفِكر استَحَالَ الفِكرُ، لأنَّ الفِكرَ بغَيرِ مُتَعَلَّقٍ مُتَفكَّرٍ فِيهِ مُحَالٌ، وتلك الموَادُ هي الأُمُورُ الحَاصِلَةُ، ولو كان الـمَطلُوبُ بها حَاصِلًا عِندَه لم يَتَفكَّر فِيهِ، فإِذا عُرِفَ هذا فالمـُتَفكِّرُ يَنتَقِلُ مِن الـمُقدِّمَاتِ والمبَادِي الَّتِي عنده إلى الـمَطلُوبِ الَّذِي يُرِيدُهُ، فإِذا ظَفَرَ بِهِ وتَحصَّلَ لَهُ تَذكَّرَ بِهِ وأَبصَرَ مَوَاقِعَ الفِعلِ والتَّركِ، ومَا يَنبَغِي إيثَارُه ومَا يَنبَغِي اجتِنَابُه. فالتَّذكُّرُ هو مَقصُودُ التَّفكُّرِ وثَمرَتُه، فإِذا تَذكَّرَ عَادَ بتَذكُّرِه على تَفكُّرِه فاستَخرَجَ ما لم يكن حَاصِلا عِندَه، فهو لا يَزَالُ يَكُرُّ بتَفكُّرِه على تَذكُّرِه وبتَذكُّرِه على تَفكُّرِه مَا دَامَ عَاقِلًا، لأنَّ العِلمَ والإرَادَةَ لا يَقِفَان على حَدٍّ، بل هو دَائِمًا سَائِرٌ بين العِلمِ والإرَادَةِ. وإِذا عَرفَت مَعنَى كَونِ آيَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى تَبصِرَةً وذِكرَى يُتَبَصَّرُ بها مِن عَمَى القَلبِ ويُتَذكَّرُ بها مِن غَفلَتِه. فإنَّ المضَادَ للعِلمِ إمَّا عَمَى القَلبِ وزَوَالُه بالتَّبصُّرِ، وإِمَّا غَفلَتُه وزَوَالُه بالتَّذكُّرِ. والمـَقصُودُ تَنبِيه القَلبِ مِن رَقدَتِه، بالإشَارَةِ إلى شَيءٍ مِن بَعضِ آيَاتِ اللهِ، ولو ذَهَبنَا نَتَتَبَّعُ ذلك لنَفذَ الزَّمَانُ ولم نُحِط بتَفصِيلِ وَاحِدَةٍ مِن آيَاتَه على التَّمَامِ، ولَكِن ما لا يُدرَكُ جُملَةً لا يُترَكُ جُملَةً. وأَحسَنُ مَا أُنفِقَت فِيهِ الأَنفَاسُ التَّفكُّرُ في آيَاتِ اللهِ وعَجَائِبِ صُنعِه والانتِقَالُ مِنها إلى تَعلُّقِ القَلبِ والهِمَّةِ بِهِ دُونَ شَيءٍ مِن مَخلُوقَاتِه، فلذلك عَقَدنَا هذا الكتَابِ على هَذَين الأَصلَين، إِذ هما أَفضَلُ مَا يَكتَسِبُه العَبدُ فِي هَذِه الدَّار".
رحِمَ الله شيخ الإسلام ابن القيم، وأَجزَل له الأجر والمثوبة، ونفعنا والمسلمين بعلمه وميراثه.

----------------------------------------
[1] ابن القيم، وشيخه ابن تيمية، مِن عُلمَاءِ السَّلفِ الذين لم يكونوا يجادِلوا في مَسأَلةِ كَرَويَّةِ الأَرضِ!
[2] انظر إلى إشارته للقطبين الشمالي والجنوبي، في زمنه، ووصفه لهما.
[3] يُشِيرُ بذلك إلى دوران هذه الأجرام حول نفسها، ودورانها حول شمس (نجم عملاق).





ـــــــــــــــــــــــــ
*{مركز التأصيل للدراسات والبحوث}
ــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الموسُوعيُّ, الرَّبَانيُّ, العَالِمُ, القيِّم..


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:45 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59