ملتقى شذرات

ملتقى شذرات (https://www.shatharat.net/vb/index.php)
-   دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية (https://www.shatharat.net/vb/forumdisplay.php?f=35)
-   -   الأدب المقارن (https://www.shatharat.net/vb/showthread.php?t=67945)

Eng.Jordan 02-02-2021 10:22 AM

الأدب المقارن
 
الكتاب: الأدب المقارن
كود المادة: GARB5523
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
-[الأدب المقارن]-
كود المادة: GARB5523
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
________________________________________
الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية)

نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله
الأدب المقارن: هو فرع من فروع المعرفة يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر، ينتمي كل منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدب قومي ما ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بُغية الوقوف على مناطق التشابه، ومناطق الاختلاف بين الآداب ومعرفة العوامل المسئولة عن ذلك، كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التي بينها، وإبراز تأثير أحدها في غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال هدفها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب إلى آخره.
وهذا التعريف قد تمت صياغته وبلورته من خلال التعاريف والمفاهيم المتعددة لهذا الفرع من فروع العلم، تلك المفاهيم والتعريفات التي تتباين حسب تباين المدرسة أو الشخصية، التي تقود هذا التيار أو ذاك من تيارات البحث المختلفة، وهو يختلف قليلًا أو كثيرًا عن التعاريف الموجودة في كتب الأدب المقارن، وقد سرني أن أجد التعريف الذي أورده كل من "ذافري ديكشنري" و"موسوعة الويكيبيديا الحرة" على المشباك متفقًا مع تعريفي هذا.
(1/9)
________________________________________
وميادين الأدب المقارن متعددة، فقد يكون ميدانه المقارنة بين جنس أدبيٍ، كالقصة أو المسرحية أو المقال أو المقامة أو القصيدة أو الملحمة أو الأنقوشة -أي: الإبيجراما- في أدبين مختلفين أو أكثر، وقد يكون ميدانه المقارنة بين الأشكال الفنية داخل جنس أدبي من هذه الأجناس في أدب ما ونظيراتها في أدب آخر، كنظام العروض والقافية أو الموشحات مثلًا.
وقد يكون ميدانه الصور الخيالية كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وقد يكون ميدانه النماذج البشرية والشخصيات التاريخية في الأعمال الأدبية، وقد يكون ميدانه التأثير الذي يحدثه كتاب أو كاتب ما في نظيره على الناحية الأخرى، أو مجرد الموازنة بينهما لما يلحظ من تشابههما مثلًا، وقد يكون ميدانه المقارنة بين المذاهب الأدبية كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية والبرناسية هنا وهناك، وقد يكون ميدانه انعكاس صورة أمة ما في أدب أمة أو أمم أخرى وهكذا.
ويحتاج مصطلح الأدب المقارن -وهو في الواقع ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسي المعروف " لا ليتارتير كومبري"- بعضًا من التحليل والتوضيح وكذلك التسويغ أيضًا، فالواقع كما هو بين ظاهر أننا هنا لسنا بصدد أدب بل فرع من فروع العلم يدرس الأدب، فكيف إذن حدث هذا، إنه الاختصار أو إذا كان يحلو لك فقل: إنه الخطأ الشائع الذي يقال في مثل هذه الحالة: إنه خير من الصواب، والصواب هو أن هذا العلم يقوم بمقارنة الآداب القومية المختلفة، والموازنة بينها
(1/10)
________________________________________
ومعرفة ما فيها من عناصر مشتركة أو مختلفة والأسباب المسئولة عن ذلك، والتعرف على الصلات التي تربطها بعضها ببعض في حالة وجود مثل تلك الصلات، والمعابر التي انتقل من خلالها عنصر أو أكثر من هذا الأدب أو ذاك إلى غيره من الآداب القومية الأخرى.
إذن فنحن لسنا بصدد أدب، بل بصدد علم، اللهم إلا إذا فهمنا كلمة أدب ل،"تيراتير" أو لـ"يترتشر" بمعناها الواسع، أي: الكتابة، أو قلنا: إن ثمة كلمة محذوفة على سبيل الاختصار والتقدير دراسة الأدب المقارن، أو تاريخ الأدب المقارن أو كما في الألمانية علم الأدب المقارن. وهناك تسميات أخرى لم يكتب لها التوفيق والانتشار مثل التاريخ المقارن للآداب أو تاريخ الآداب المقارنة، أو التاريخ الأدبي المقارن، أو تاريخ الآداب المقارن، أو الآداب الحديثة المقارنة، أو الأدب العالمي أو الأدب بالمقارنة أو الأدب بطريق المقارنة، وذلك رغم ما تتمتع به بعض التسميات من اختصار ودقة، كمصطلح مقارنة الأدب، وهي التسمية التي يستعملها الأندونيسيون، أو المقارنة الأدبية الذي عنون به الدكتور أحمد كمال زكي كتابًا له في هذا الموضوع، والمقارنة بين الآداب الذي اتخذه العقاد عنوانًا لأحد مقالاته في مجلة "الكتاب" المصرية، عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين للميلاد، والذي أقترح أن يختصر إلى مقارنة الآداب، طلبًا لمزيد من الخفة على الذهن واللسان، كما تقتضي طبيعة المصطلح، ومن ثم يكون أسهل تداولًا لمن يريد.
وهناك خطاب المقارنة الذي اقترحه عز الدين المناصرة في مقاله الرائد التاريخي للأدب المقارن في الوطن العربي، المنشور في كتاب (الفلسطينيون والأدب المقارن) روح الخالدي إدوارد سعيد عز الدين المناصرة حسام الخطيب.
(1/11)
________________________________________
وقد اختصر الدكتور أحمد كمال زكي مصطلح الأدب المقارن إلى كلمة واحدة فقط هي المقارن، مستعملًا النعت وحده دون المنعوت، ومن يدري فقد تشيع مع الأيام هذه التسمية وتحل الكلمة الواحدة محل الكلمتين على عادة الذهن واللسان البشري، اللذين يميلان في أمور الواقع العملي إلى الاختصار عند كثرة التكرار، وبخاصة عن طريق الاستعاضة عن النعت والمنعوت معًا بالنعت قائمًا برأسه.
أما المصطلح الإنجليزي فلا يستخدم اسم المفعول "كومبيرد" من الفعل "كومبير" أي: يقارن، كما هو الحال في المصطلح الفرنسي، بل يستخدموا صفة النسب "كومبرتيف"، وهو ما يمكن ترجمته بالأدب المقارن أو الأدب التقارني، أو أدب المقارنة.
نخلص من هذا إلى القول: بأن مصطلح الأدب المقارن الذي استعمله خليل هنداوي وفخري أبو السعود على التوالي في مقالاتهما بمجلة "الرسالة" في عام واحد، هو العام ألف وتسعمائة وستة وثلاثون ميلادية، بفارق ثلاثة أشهر تقريبًا كان هو المصطلح الذي قدر له الشيوع، بل الانتشار الكاسح على مدار هذه العقود السبعة حتى الآن على الأقل.
وقبل أن أغادر هذه النقطة أود أن أوجه الالتفات إلى أن الدكتور علي شلش، يرى أن صاحب هذا المصطلح في الحالتين هو أحمد حسن الزيات لا هنداوي ولا أبو السعود، وإن لم يقدم دليلًا قاطعًا على ذلك، بل استنتجه مجرد استنتاج قائلًا: إن الزيات قد أضاف إلى العنوان الأصيل كل من الكاتبين مصطلح الأدب المقارن.
أما الدكتور حسام الخطيب فقد عزا إلى هنداوي استخدام المصطلح لأول مرة، على حين جرد أبو السعود من قصد استخدامه بعد هذا في مقالاته في نفس
(1/12)
________________________________________
الموضوع، ناسبًا إلى الزيات أنه هو واضع ذلك المصطلح في عناوين المقالات المذكورة.
وتشترط المدرسة الفرنسية أن تكون هناك صلات تاريخية بين العملين، أو الظاهرتين أو الأدبين المراد مقارنتهما، بيد أن هذا شرط تحكمي أو قل: إنه شرط غير ملزم ولا لازم، والمهم أن تكون المقارنة بين أدبي أمتين مختلفتين، سواء كتب هذان الأدبان بلغتين مختلفتين كما هو الغالب، أو كانا يصطنعان ذات اللغة كما هو الحال مثلًا بين الأدب الإنجليزي والأدب الهندي المكتوب بلغة "جون بول"، أو بين الأدب الفرنسي والأدب الجزائري المصبوب في قالب لسان الفرنسيس إلى آخره.
إن المراد هو تمكين العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب المختلفة، واكتشاف أوجه التشابه والاختلاف لديها في الذوق والإبداع، وتتبع المسارات التي انتقلت عن طريقها التأثيرات الأدبية من أمة إلى أخرى في حالة وجودها وإمكان تتبعها، وإذا كانت المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن تركز بوجه عام على الصلات التي ثبت وجودها فعلًا بين الأمم والشعوب، فهل هناك ما يمنع أن نمد هذا الاهتمام إلى المستقبل، فنستشرف وجود مثل هذه الصلات أو نعمل على خلقها خلقًا؟ بل هل هناك ما يقطع بعدم وجود علاقة بين عملين أو ظاهرتين أو تيارين أدبيين لم يتضح لنا أنه كانت بينهما يومًا هذه العلاقة؟ لا أظن.
(1/13)
________________________________________
ذلك أن من الممكن جدًّا أن يكون "موليير" على سبيل المثال قد سمع ببخلاء الجاحظ بطريقة أو بأخرى، حين ألف مسرحيته الشهيرة "البخيل"، وأن يكون "لامارتين" على علم بطريقة أو بأخرى بقصيدة المتنبي أو البحتري عن البحيرة، كأن يكون قد سمعها أو سمع أبياتًا منها مترجمة إلى الفرنسية ولو شفويًّا، أو على الأقل سمع بموضوعها أو أسلوبها الفني مجرد سماع من أحد المستشرقين أو العرب، وأن هذا أحد البواعث التي دفعته إلى نظم قصيدته فيها، وبخاصة أنه كان مفتونًا بالشرق العربي، وزار سوريا وفلسطين ولبنان وسجل هذه الرحلة في كتاب من أربعة أجزاء هو "فوياج أونريو"، وتمنى لو بقي في بلاد الأرز -أي: لبنان- طول حياته، بل لقد قيل: إنه ذو أصول عربية، وقد يكون تأثر في نظمه تلك القصيدة بشاعر آخر فرنسي، أو غير فرنسي كان قد تأثر بدوره بإحدى القصيدتين العربيتين، أو بهما معًا.
ربما كان تأثير المتنبي أو البحتري سلبيًّا بمعنى أن الشاعر الفرنسي لم يستحسن الطريقة التي تناول بها الشاعر العربي موضوعه، أو بعض صوره الخيالية أو السياق الذي نظم فيه عمله، أو الجو النفسي الذي سيطر عليه، أو الغرض الذي نظم قصيدته من أجله إلى آخره.
تُرى هل كان هناك قبل "آسيون بلاسيوس"، بل إلى ما بعد وفاة ذلك المستشرق الأسباني بضعة أعوام، مَن كان يعرف أن قصة المعراج قد ترجمت إلى عدة لغات أوروبية منها اللاتينية قبل أن يكتب الدانتي كوميدياه الإلهية؟ لقد تعرض "بلاسيوس" لهجوم شديد ومعارضة عنيفة، عندما طلع على الناس بأن "دانتي" قد تأثر بتلك القصة إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير أن تلك القصة قد ترجمت فعلًا قبل وضع "دانتي" عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل، ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة، ولو
(1/14)
________________________________________
على سبيل الاحتمال، أفلا تستحق المقارنة بين الذوقين والأسلوبين، وتقويم العناصر الفنية في الأثرين الأدبيين أن نقوم بمثل تلك المقارنة، على الأقل تنشيطًا لعملية الأخذ والرد بين الأدبين، وتلقيحًا لكل منهما بعناصر القوة والجمال في الآخر، وإغناء لعملية الإبداع والتذوق بهذه الطريقة، ومن ثم قيام صلات أدبية بينهما تخلق خلقًا من هذا السبيل، واستكشافًا للعوامل التي تقف خلف نقاط القوة أو الضعف؟ وهل هي راجعة إلى ظروف المبدع الشخصية أو هي بالأحرى ترجع إلى خصائص البيئة والأمة التي ينتسب إليها؟
أم ترى ينبغي أن ننتظر قيام مثل تلك الصلات أولًا، حتى إذا قامت وتيقنا من قيامها ووقوع التأثير والتأثر بين الطرفين، فعندئذٍ وعندئذٍ فقط يمكننا أن نتقدم ونقوم بعملية المقارنة. أما أنا فأحبذ مبادرة الأمور والعمل على خلق مثل تلك الصلات عن طريق المقارنات الاستباقية هذه، ومن ثم لا أجد أية غضاضة فيما صنعه شفيق جبري مثلًا في مقالاته في مجلة "الثقافة" المصرية، عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلاثين ميلادية، من المقارنة النقدية بين بحرية كل من البحتري و"لامرتين" والأخرى، وبين بخلاء الجاحظ وبخيل "موليير"، ولا ما صنعه الدكتور صفاء خلوصي من المقارنة بين البحيرتين العربية والفرنسية، ولا ما صنعه الدكتور عبد الرزاق حميدة في كتابه (الأدب المقارن) حين وازن بين (رسالة الغفران) للمعري و (الكوميديا الإنسانية) لـ"دانتي"، مقارنة جمادية خالصة، فلا حديث عن تأثر أو تأثير بين العملين.
ثم ألا يستحق البحث عن السر في وجود تشابه بين عملين أدبيين دون أن يكون بينهما أية صلة عناء المقارنة بينهما، تأكيدًا بأن هناك ضروبًا بين التشابه بين
(1/15)
________________________________________
البشر على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأجناسهم، لقد كان المرحوم محمد غنيمي هلال وأنور لوقا مثلًا من المتشيعين للمنهج الفرنسي في الأدب المقارن، وما زال هناك من يأخذ بوجهة نظر هذه المدرسة لا يرى مما عداها شيئًا، ومنهم الدكتور محمد سعيد جمال الدين، كما يتبدى ذلك في كتابه الأدب (المقارن دراسة تطبيقية في الأدبين العربي والفرنسي)، وهناك على العكس من هذا من يتشيع للمنهج الأمريكي متمثلًا فيما كتبه "رينيه وليك"، الذي وسع دائرة ذلك الحقل، كما تعكسها الفصول الخاصة بهذا الموضوع في كتابه (مفاهيم نقدية).
فلم يقصرها على مجالات التأثير والتأثر، التي تقتضي وجود صلات تاريخية بين طرفي المقاومة، وغالبًا ما يكون التشيع الذي من هذا القبيل مجرد تعصب للمدرسة التي سبقت معرفة الدارس لها أو درس على يد أحد أعلامها مثلًا، والأجدر بنا ألا تكون هجيرانا التعصب لهذا أو لذاك لمجرد التعصب، بل أن نفكر بأنفسنا لأنفسنا مستعينين بما بلغه السابقون من أمتنا، ومن خارج أمتنا، ومجتهدين أن يكون لنا رأينا، وموقفنا المتميز لا لمجرد إثبات الذات، بل لعرض ما نحن مقتنعون به، ومطمئنون إليه مشاركة منا في النشاط الفكري العالمي بحيث لا يكون كل ما نعمله هو ترديدًا لما يقوله الآخرون ونشره.
إن ما يقوله هذا أو ذاك من الباحثين الغربيين ليس قرآنًا مقدسًا ينبغي أن نخر عليه صمًّا وعميًا وبكمًا، بل إن القرآن نفسه لا يطالب البشر بأن يخروا عليه مؤمنين دون تفكير أو إعمال عقل، فما بالنا بنظريات في الأدب والنقد هي من نتاج العقل البشري غير المعصوم، وعلى هذا فإني لا أقصر مجال الأدب المقارن على الأدبين اللذين قد ثبت أن بينهما صلات تاريخية، بل أنادي بتمديده ليشمل دراسة أي أدبين بينهما وجه أو أكثر من وجوه الشبه أو الاختلاف؛ لمعرفة
(1/16)
________________________________________
الأسباب التي تكمن وراء هذا التشابه، أو ذلك الاختلاف، أو على الأقل أوافق على مثل هذا التمديد، كما أرى أيضًا توسيع آفاقه؛ ليشمل مثلًا الموازنة الأدبية بين عملين من أعمالهما، وتحليل كل واحد منهما، ومحاولة التعرف على إلى سر ما بينهما من نواحي المشاكلة والمباينة، والاجتهاد في تذوق كل منهما لتوسيع مجال الاستمتاع الأدبي والنقدي عند الدارس، والقارئ جميعًا.
ومحاولة تقويم كل منهما فنيًّا ومضمونيًّا، والوصول إلى معرفة أي منهما أجمل وأقوى وأشد تأثيرًا من الآخر، ولماذا؟ وذلك من أجل اكتساب نظرة أكثر رحابة وأوسع إنسانية، وأعمق حكمًا وأحرى أن تكون أقوى انفتاحًا على ما عند الآخرين من آثار الخير والجمال والجلال.
ولقد كان المنهج الإيطالي مثلًا في ميدان الأدب المقارن في بداية أمره أواسط القرن التاسع عشر كما يقول الدكتور عطية عامر قائمًا على الموازنات الأدبية، والكشف عن عناصر الاتفاق والاختلاف بين ظواهر الأدب المشتركة، ثم انتهى به التطور إلى أن يكون وسيلة بسيطة من وسائل تاريخ المصادر، أما المدرسة الألمانية فكانت تقصر الأدب المقارن على آداب أوربا الغربية وحدها؛ لبيان الاتفاق والاختلاف في التقاليد الأدبية لأمم ذلك الشطر من العالم، وإن ضم هذا الاتجاه العام عدة أطياف مختلفة، فمن الدارسين من اهتم بدراسة التأثير والتأثر بين هذه الآداب، ومنهم مَن اعتنى ببيان النماذج الأدبية المشتركة بينها، ومنهم مَن قام بدراسة المحتوى الثقافي والعقائدي المتماثل في هذه الآداب، ومنهم من أخذ على عاتقه الكشف عن تناسق الحركة الموسيقية والصوتية في صورها الشعرية إلى آخره.
(1/17)
________________________________________
ثم لدينا المدرسة الأمريكية التي أخذت أولًا بالاتجاه التاريخي، كما هو معروف عند المقارنين الفرنسيين، ثم انتهى به الحال على يد "رينيه وليك" إلى توسيع نظرتها لهذا التخصص، والمناداة بأن يكون الهدف منه إبراز القيم الجمالية وعلاقاتها داخل أدب واحد أو أكثر، والاستعانة في ذلك بالنقد الأدبي أي: أن التركيز هنا على الجانب التذوقي، وبغض النظر عمن هو على صواب أو على خطأ بين أصحاب هذه المناهج، فالمهم الالتفات إلى أنهم في الغرب يجتهدون، ويختلفون ويغيرون مواقفهم وآراءهم، ولا يجدون حرجًا أو غضاضة في هذا، وهو ما نريده لأنفسنا أن نجتهد ولا نظن أن الصواب دائمًا حليف القوم، وأن كل ما ينبغي لنا أن نفعله أو على الأقل أن كل ما يمكننا عمله هو متابعتهم دائمًا على ما يقولون، إذ هم لا يقولون شيئًا واحدًا وللأبد كما رأينا، أنكون ملكيين إذن أشد من الملك نفسه، وأعترف هنا أنني كنت من المرددين لما يقوله جمهور المقارنين الفرنسيين.
ولا أستطيع أن أتصور أن هناك صوابًا آخر لا لشيء، إلا لأنني أنا وزملائي في الدراسات العليا حين بدأنا التعرف على الأدب المقارن في السنة التمهيدية للماجستير في آداب القاهرة عام 70، و71 مع الدكتور شكري عياد قد اعتمدنا على كتب "فانتين" و"جويار" ومحمد غنيمي هلال، فبدا لنا أن هذا هو المنهج السليم وما عداه مناهج متسيبة غير منضبطة، إلا أن هذا كان منذ خمسة وثلاثين عامًا ويزيد، وقد جرت مياه كثيرة من ذلك الحين في النهر، ولم يعد ماء النهر هو ماءه القديم، ولسوف نرى أن فخري أبا السعود مثلًا في مقالاته التي كتبها في الثلاثينيات من القَرْن المُنصرم عن الأدب المقارن، إنما ينطلق من رؤية أفسح وأرحب وأجلى من الرؤية التي تنطلق منها المدرسة الفرنسية بوجه عام، وأنه كما لاحظ الدكتور
(1/18)
________________________________________
عطية عامر قد سبق بصنيعه هذا "رينيه وليك" الأستاذ السابق بالأدب المقارن بالجامعات الأمريكية، وإن لم يعد دكتور طاهر مكي تلك المقالات من الأدب المقارن في شيء أصلًا، رغم إقراره بأنها تتفق مع المنهج الأمريكي على كل حال.
إذ قال: إنها لا تزيد عن أن تكون مجرد ألوان من الموازنات بين موضوعات قد تتشابه أو تختلف عرضًا في الأدبين العربي والإنجليزي، ولعلها جاءت صدى لبعض أفكار المدرسة الأمريكية، التي تجيز شيئًا من هذه الموازنات جاعلًا بهذا للمدرسة الأمريكية السبق على كتبه ناقدنا المصري، على عكس ما يقول الدكتور عطية عامر.
وبالمثل نرى العقاد بما كتبه عن المعري في رجعة أبي العلاء قد انطلق من ذات الرؤية، وإن لم يشِر إلى أنه بصدد كتابة بحث في الأدب المقارن على عكس ما هو مثبت في رءوس مقالات أبي السعود، إذ تخيل أن حكيم المعرة عاد إلى الأرض في زماننا هذا، وأنه كان رفيقه في جولته بالعالم الحديث، وبما يضطرب فيه من فكر وفلسفات ومذاهب، فكان كلما رأى شيئًا يظنه رفيقه الأسوني الجديد عليه سارع هو، فقال: إنه قد سلف أن تحدث عنه في شعره حين قال كذا وكذا، وكأن العقاد يريد أن يقول: إن أبا العلاء كان بعيد النظر، واسع مدارك الفكر والفن والخيال، فسبق بذلك عصره، وإن بين الإنسانية الكثير من الموافقات رغم اختلاف أوطانها وعصورها وأوضاعها الثقافية والاجتماعية، كل هذا دون أن يحاول العقاد التدليل على أنه كانت هناك صلات بين فكر المعري وأصحاب هذه الآراء والاتجاهات السياسية والفلسفية من الأوربيين، بل دون أن يفكر مجرد تفكير في ذلك.
وكان طه حسين في الفصل الخاص بهميروس من كتابه (قادة الفكر)، الذي صدر في منتصف عشرينيات القرن الماضي قد تحدث عن جاهلية رينيه والجاهلية العربية
(1/19)
________________________________________
حديثَ المقارنة، رغم أنه لم يثبت أن ثمة علاقة تاريخية بين الجاهليتين، ورغم أنه لم يقل أيضًا: إنه إزاء دراسة في الأدب المقارن، وهذا إن كان واعيًا أصلًا بوجود مثل ذلك التخصص في تلك المرحلة المبكرة من حياته الفكرية والنقدية، وعلى نفس هذا المنوال قارن الدكتور إبراهيم سلامة في كتابه (التيارات الأدبية في الشرق والغرب، دراسة في الأدب المقارن) بين الأدبين العربي والإغريقي في كل الفنون تقريبًا، حتى ما لم يكن بين الأدبين فيه صلة أو في أقل تقدير لم يثبت أنه كانت هناك بينهما تلك الصلة، كما في فن الملحمة والشعر التعليمي الحكمي.
وعلى نفس المنوال أيضًا ضمن الدكتور جمال الدين الرمادي كتابه (فصول مقارنة بين أدب الشرق والغرب) عددًا من المقالات عن مقارنة هذا الموضوع أو ذاك، بين الأدب العربي وبعض الآداب الأوروبية، فتحدث مثلًا عن فصول السنة الأربعة واحدًا واحدًا، وكذلك عن الليل والقمر والبحر والحرب والموت والظهور والرومانسية وفن القصة والمسرح، في أدبنا وفي أدب الإنجليز وغيره من الآداب الأوروبية أحيانًا، وإمارة الشعر بين شوقي و"دريدن"، وهو من شعراء القرن السابع في بريطانيا، كما قارن بين اللورد "بيرن" وشاعر الغزل الأموي عمر بن أبي ربيعة، سواء في حياتهما الأسرية والشخصية أو في منحاهما الغزلي، وبين خليل مطران و"ألفريد دي موسيه"، وهي فصول شائقة وكاشفة ومثيرة للخيال رغم إيجازها واكتفائها ببعض الخطوط العامة، وعدم وجود صلات معروفة بين الأدبين المذكورين في الموضوعات التي تناولها المؤلف.
بل رغم عدم اهتمامه ونفسه في تحري هذه النقطة أصلًا، ومن شأن هذه الفصول وأشباهها أن تدفع إلى مزيد من الدرس والتعمق والانطلاق إلى آفاق أرحب ودراسات أكثر تفصيلًا وإحاطة، أما بالنسبة للقارئ العام، فإنها ذات قيمة
(1/20)
________________________________________
عظيمة؛ لأن مثل هذا القارئ لا يحتاج إلى التعمق والتفصيل، وقد أعدت قراءة بعضها وأنا أكتب هذا الفصل لأجدد عهدي بها ولأكتسب الحساسية المطلوبة الكتابة عنها، إذ لا بد أن يعيش الناقد في الجو الذي يريد أن يتناوله بالكتابة، فوجدتها رغم إيجازها ممتعة مفيدة، فضلًا عما تخلقه في نفس الباحث من الرغبة في متابعة الدرس بغية المزيد من التفصيل والتدقيق والتعمق، ثم إنها فوق هذا كله وقبل هذا كله تساعد على خلق الوعي المقارني بين الجمهور العريض غير المتخصص في الأدب المقارن، وهو هدف جدير بالتنبه له والاجتهاد في توفير العوامل، التي تؤدي إلى بلوغه إذ ليس بالقليل أن نفكر في الارتفاع بالذوق الأدبي، وتوسيع الأفق الثقافي بوجه عام، والمقارنة بين ما عندنا وعند الآخرين لفرز الغث من السمين، والعمل على تنقية ما نملكه، وما نفكر في استعارته أو استلهامه من الأودار والشوائب.

مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية
وهاهو ذا الباحث الكوري "سي ون شانج" يقوم بالمقارنة بين أدبه القومي، وأدبنا العربي، فيقر بأنهما وإن تشابها في بعض النقاط لم تقم بينهما يومًا أية صلات، نظرًا للبعد الجغرافي واختلاف السياق الثقافي هنا وهناك، وعلى هذا فهو يقترح استعمال المنهج الأمريكي في هذه المقارنة بين الأدبين؛ نظرًا لأنه هو المنهج الذي يصلح لهذه المهمة.
يقول في مقال له على المشباك عنوانه: إمكانية الدراسة المقارنة في الأدبين العربي والكوري: إن مجال الأدب المقارن أصلًا شاسع وواسع؛ لأنه يمكن أن يتناول أدبين أو أكثر، ولعل مجال الأدب المقارن يتسع أكثر في حالة تناول أدبين ليس
(1/21)
________________________________________
بينهما تأثير وتأثر؛ لذلك فنحن مضطرون في هذا البحث إلى اختيار منهج من مناهج الأدب المقارن نراه مناسبًا للدراسة التي سنقوم بها؛ ولذلك أيضًا تم اختيار نماذج محددة من الأدب العربي والأدب الكوري للتطبيق عليهما، إن موضوع هذا البحث بالتحديد: البحث المقارن في الأدبين العربي والكوري، وستجد المقارنة بين الأدبين بمقابلتهما ببعضهما، واستخراج نطاق التشابه بينهما في الفترة الحديثة ومحاولة إثبات أن هناك شبهًا بين الأدبين في بعض ما يتميزان به من خصائص، مع أن هذا التشابه بين الأدبين قديم، ولا يقتصر وجوده على الفترة الحديثة.
وعليه يمكننا مبدئيًّا القول: إن الأدبين العربي والكوري متشابهان على الرغم من أنهما صورة للآداب غير الأوروبية أولًا، وعلى الرغم من بعد الشقة المكانية بينهما التي يكون من المستحيل معها في تلك الفترة تأثير أحد الأدبين في الآخر ثانيًا.
ربما يعود ذلك إلى تجربتهما المتشابهة تحت الاستعمار في العصر الحديث، ومنهج البحث المقارن التي تقوم عليه الدراسة يقصد دراسته في المقارنة بين الرواية في الأدبين في العصر الحديث، والمنهج الأمريكي في المقارنة الأدبية لا المنهج الفرنسي، إن المنهج المقارن الفرنسي تجري فيه المقارنة بين الآداب التي يرتبط بعضها ببعض على أساس من العلاقة الإخضاعية، وبعبارة أخرى: يذهب مؤيدو هذا المنهج إلى أنه يجب أن يكون هناك مؤثر ومتأثر، وناقل ومنقول عنه حتى تجري عملية المقارنة بين أدبين.
فإذا لم يكن مثل هذه العلاقة أو التأثير موجودًا، فهذا يعني أنه من غير الممكن أن تقام المقابلة بينهما، بينما يدرس المنهج المقارن الأدبي الأمريكي أدبين على الأقل
(1/22)
________________________________________
على أساس من التساوي بينهما، بعيدًا عن علاقة التأثير والتأثر، فيبين نقاط الالتقاء والابتعاد بين المؤلفات، وهذا هو المنهج الذي سنتبعه في الرسالة لعدم وجود علاقات التأثير والتأثر بين الأدبين العربي والكوري، نتيجة عدم وجود اتصال بينهما في تلك الفترة لأسباب جغرافية واجتماعية، على الرغم من تشابههما، ذلك أن الأدب كان في بداية القرن العشرين مهيئًا لوقوع الأدب المحلي الصادق فيه بوصفه أدبًا يحاول الهروب من الغرب وإثبات ذاته.
وعلى العموم أصبحت هذه الوجهة هي وجهة التيارات الأدبية المختلفة؛ لذلك ليس من المستغرب أن تتشابه الآداب في العالم في تلك الفترة، ويمكن أن نقول أيضًا: إننا اتبعنا هذا المنهج في الرسالة؛ لأن هذه رسالة تهدف إلى دراسة أبعاد العالم المتساوي.
انتهى الكلام.
بيد أنني أجد لزامًا علي بعد ذلك كله توضيح بأني لست من أنصار توسيع نطاق الأدب المقارن، بحيث يشمل أيضًا المقارنة بين الأدب وغيره من ألوان الإبداع والمعارف، طبقًا لما ينادي به "رينيه وليك"، وكذلك "إتش إتش رماك"، بل أرى في هذا تمييعًا للأمور، إذ من الواضح أنه لا يوجد في الواقع تجانس بين هذا اللون من الدراسة والمقارنة بين أدبين مختلفين، إننا في الأدب المقارن ندرس وجوه الاختلاف أو الاتفاق أو الصلة بين أدب وأدب، فلنبق داخل دائرة الأدب ولا نوسع الخرق على الراقع، وإلا لم تعد هناك حدود تميز هذا الميدان عن غيره من الميادين، ونحن بطبيعة الحال لا ننكر على أحد أن يدرس ما يشاء، بل كل ما نقوله: هو أننا لا نريد تمييع الحدود، حتى يكون الأدب المقارن شخصيته مثلما لكل علم آخر من العلوم المتصلة الأدب وغير الأدب شخصيته الواضحة المحددة، ولا يتحول لمثل مرقعة الدراويش، التي تتكون من قصاصات قماش متباينة الألوان والأشكال مخيط بعضها إلى بعض.
(1/23)
________________________________________
وعلى هذا، فإن مقارنة العقاد والمازني في شبابهما في عشرينيات القرن البائد مثلًا بين الشعر، وبين الفلسفة والفنون الجميلة على ما فيها من حساسية فنية وعمق في التحليل، وسعة في الأفق لا تعد في رأيي من الأدب المقارن على عكس ما يحاول الدكتور علي شلش أن يصنفها، لقد كان الدكتور شلش بإلماحته إلى العقاد والمازني وغيرهما يرد على كمال أبي ديب في دعواه بأن محاولات تجاوز تحديد الأدب المقارن بدراسة التأثر والتأثير في الغرب غير موجودة في العربية، ومع هذا فقد انتقد الدكتور حسام الخطيب ضآلة الاهتمام بين النقاد العرب بالربط بي الأدب والفنون الأخرى، بما قد يرجح أنه لم يتنبه إليه، ولا ما رد به على بلديه الدكتور كمال أبو ديب.
وقد جاء كلام الدكتور الخطيب في سياق الدعوة إلى انفتاح المقارنين على الفنون والمعارف الأخرى، طبقًا لما يدعو به "وليك" و"رماك" في أمريكا، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد يكون من المفيد أن أسجل هنا أنني أصدرت منذ أكثر من سنتين كتابًا بعنوان (التذوق الأدبي)، خصصت فيه فصلًا كاملًا من بضع عشرات من الصفحات للمقابلة بين الأدب والفنون الأخرى من خيانة ونحت وتصوير وكاريكاتير وموسيقى وعمارة، سواء من ناحية الوسائل التي يتذرع بها كل من الطرفين في التعبير عما يريد، أو من ناحية قوة التأثير والإمكانات التعبيرية التي يوفرها، ومع هذا لم يخطر ببالي قط أن أعد ما فعلته من الأدب المقارن في شيء، بل لست أجد في نفسي مطاوعة لهذا التصنيف، وأرى من الأوفق وضعه في خانة التذوق الأدبي كما عنونته، أو ربما يمكن إدخاله باب نظرية الأدب إن كان لا بد من البحث له عن ميدان آخر.
وأرى أن الدكتور حسام الخطيب وغيره من المقارنين على الحق في قلقهم على مستقبل الأدب المقارن من هذه الناحية، إذ ينادي في مقال له بالمشباك عنوانه:
(1/24)
________________________________________
الأدب المقارن في عصر العولمة تساؤلات باتجاه المستقبل بوجوب حل مشكلة التسارع في توسع الأدب المقارن من ناحية المقارنة المعرفية، مع مختلف العلوم والفنون إلى درجة اهتزاز بؤرة الارتكاز فيه، وصعوبة حصوله على الاعتراف الفكري، والقوة المؤسسية في الإطار المعرفي العام، وينتج عن ذلك عادة تقذير أقسام أو برامج الأدب المقارن مقابل ما تتمتع به الآداب القومية من قوة ومكانة.
هذا، وقد وقف الدكتور طاهر مكي بشيء من الأناة عند مصطلح القومية، الذي يدخل في تعريف الأدب المقارن في قولنا: إن الأدب المقارن يقوم على المقابلة بين الآداب القومية المختلفة محاولًا أن يستكشف أبعاد هذا المصطلح، وما يمكن أن يثيره من مشكلات، وأطال وأجاد لكنه في نهاية المطاف ترك الأمر دون حسم، لقد تساءل قائلًا: ماذا نفهم من مصطلح أدب قومي؟ ما الحدود التي إذا تعديناها جاز لنا أن نتحدث عن أدب أجنبي وعن تأثر به، أو تأثير فيه؟ هل يقوم التحديد على أسس سياسية وتاريخية؟ أو على أسس لُغوية خالصة؟ ليجيب: بأنه بعد تأمل جاد يمكن القول: إن الاحتمال الثاني أقرب قربًا، وأدق منهجيةً، وأسهل تطبيقًا؛ لأن الحدود اللغوية كانت على امتداد التاريخ أكثر ثباتًا، وأقل تقلبًا مدًّا وجذرًا من الحدود السياسية.
ثم ضرب مثالًا من ألمانيا التي كان كيانًا سياسيًّا واحدًا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم قسمت إلى دولتين بعدها، لكنهما ظلتَا مع هذا تتكلمان لغة واحدة، ومن ثم لا يمكن أن نقارن بين أدبهما بمفهوم الأدب المقارن.
إلا أنه برغم ذلك لم يتوقف عند هذه النتيجة، بل استمر يستعرض أوضاعًا أخرى تختلف عن وضع الألمانتين، منها مثلًا وضع الجزائريين الذين يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية رغم أنهم ليسوا فرنسيين، ومنها وضع الهنود الذين
(1/25)
________________________________________
يكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزًا، ومنها وضع الأدباء الأمريكيين فهم يكتبون أدبهم بالإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزًا، وكذلك معظم أدباء أمريكا اللاتينية فهم يكتبون أدبهم باللغة الإسبانية رغم أنهم ليسوا إسبانًا.
ومنها أيضًا وضع الأدباء الكنديين الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية، وهي ليست اللغة الوحيدة التي يتحدثها أو يكتب بها الكنديون، بل تشركها في ذلك اللغة الفرنسية، ومثلهم الأدباء السويسريون الذين لا يكتبون أدبهم بلغة واحدة بل بلغات ثلاث هي: الفرنسية والألمانية والإيطالية وهكذا.
وأشير هنا إلى أن عددًا من الباحثين الأمريكيين يرى أن الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي ليسَا أدبًا واحدًا، بل أدبين مختلفين؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين ثقافيًّا ومن ثم أدبيًّا.
والدكتور طاهر مكي بهذا، وإن بدأ بجعل اللغة هي الفيصل في تحديد الهوية القومية، وهو ما قاله قبلًا الدكتور محمد غنيمي هلال الذي يؤكد: أن الحدود الأصيلة بين الآداب القومية هي اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عَدَدْنَا أدبه عربيًّا مهما كان جنسه البشري، الذي انحدر منه وما زال يقول به كذلك المقارنون العرب عمومًا، كالدكتور محمد سعيد جمال الدين مثلًا، الذي يقرر ما قرره المرحوم هلال من أن الحدود الأصلية بين الآداب القومية هي اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيًّا مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه؛ ولذلك يعد ما كتبه المؤلفون الفرس الذين دونوا مدوناتهم ومؤثراتهم باللغة العربية داخلًا في دائرة الأدب العربي لا الفارسي.
أقول: إن الدكتور الطاهر مكي بهذا قد عاد فتركنا في حيرة من أمرنا، بل ربما في عماية منه حين أثار المشكلات السالفة الذكر دون أن يجيب على الأسئلة الشائكة
(1/26)
________________________________________
التي طرحها. إن الأدباء العرب على سبيل المثال الذين يصطنعون في إبداعهم لغة القرآن، لا يمثلون -فيما أتصور- أدنى مشكلة في تطابق اللغة والقومية، فنحن كلنا ندين بدين واحد ونصطنع لغة واحدة في كتابتنا، وفي حياتنا اليومية على السواء، بل إن الأقليات التي لها لغة أخرى إلى جانب العربية تتكلم هي أيضًا لغة يعرب، فضلًا عن أن التاريخ القريب والبعيد واحد أو متشابه على الأقل، وبالمثل فإن العادات والتقاليد هي أيضًا واحدة إن لم يكن من أجل شيء، فمن أجل أنها في معظمها مستمدة من الإسلام، كما أننا نعيش في منطقة واحدة متلاصقين لا متقاربين فقط، إلى جانب أننا جميعًا نتطلع إلى أن تكون بيننا في يوم من الأيام وحدة تجمعنا وتقوينا، وتكفل لنا الاحترام الدولي مثلما كان الحال من قبل، حين كانت هناك دولة واحدة أو عدة دول تخضع ولو خضوعًا اسميًّا لخليفة واحد.
وفوق كل ذلك فإن الإسلام الذي ندين به يدعونا، ويلحف في الدعاء إلى أن نعتصم بالتعاون والتساند والتواصل والأخوة الدينية، وأن نبتعد عن أي شيء يمكن أن يهدد هذه الوحدة أو يلحق بها الضرر، ونحن -بحمد الله- ما زلنا نستمسك بديننا رغم وجود أقلية دينية هنا أو جماعة تختلف في اتجاهاتها الفكرية أو السياسية عن التيار العام الهادر هناك، مما لا يمكن أن يخلو منه أي بلد؛ لأن النقاء مستحيل، وبخاصة في هذا العصر الذي زاد فيه تجاور الاتجاهات الثقافية، وتعايش الديانات داخل حدود الوطن الواحد.
هذا عن الأدباء العرب الذين يعيشون في الوطن العربي، ويبدعون أدبهم باللغة العربية لكن ماذا عن العرب الذين يعيشون في أمريكا مثلًا، ويكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية؟ أو في فرنسا، ويكتبون أدبهم باللغة الفرنسية؟ وماذا عن الكرد الذين
(1/27)
________________________________________
يعيشون في العراق مثلًا، ويبدعون أدبهم باللغة الكردية؟ أو البربر الذين يعيشون في بلاد المغرب العربي، ويكتبون أدبهم بالأمازيغية؟ وماذا عن الفرس الذين يكتبون أدبهم باللغة العربية؟ إن المسألة في كل حالة من هذه الحالات تحتاج إلى تأن في التحليل ومرونة في التفكير، وربما لم نصل بعد ذلك كله إلى حل مرض، إذ دائمًا ما توجد على الحدود الفاصلة بين المفاهيم والمبادئ حالات تشكل علامة استفهام وقلق، ولا يصل الباحث بشأنها إلى شيء حاسم.
فأما في حالة الكرد الذين يكتبون أدبهم باللغة الكردية، فأرى أن يطلق على ما يكتبون الأدب الكردي، حيث تتطابق في حالتهم اللغة والعرق، ومثلهم في ذلك البربر الذين يكتبون أدبهم بالأمازيغية، فيسمى هذا بالأدب الأمازيغي، لكن الأمر يختلف في حالة العرب الذين يعيشون في فرنسا ويصطنعون لآدابهم الفرنسية، ولكنهم لا يكتبون إلا عن بلادهم الأولى، ومشاكل المجتمعات التي وفدوا منها، ولا ينتمون إلى القومية الفرنسية ولا يشعرون من الناحية السياسية أنهم فرنسيون حتى لو تجنسوا بالفرنسية.
والدليل على هذا أن أعمالهم إنما تتناول أوطانهم وأوضاع شعوبهم التي نزحوا منها، سواء كان ذلك النزوح نزوحًا أبديًّا أو مؤقتًا، إن العبرة هنا بمضمون الأدب وروحه وطعمه وتوجهاته واهتماماته، وعلى هذا نقول عن ذلك اللون من الكتابة: إنه أدب عربي مكتوب بالفرنسية، وهذا الأدب يمكن أن يكون محل دراسة مقارنة مع الأدب الفرنسي، ولكن من ناحية أخرى هدفها التعرف إلى مدى اختلاف أسلوب الكاتب عن الأسلوب الفرنسي الأصيل، أو اتفاقه معه في نكهته ومفرداته وتراكيبه وعباراته وصوره، ومثله ما يكتبه الأدباء الهنود أو أدباء جنوب أفريقيا في بلادهم بالإنجليزية، إذ إن أعمالهم في هذه الحالة إنما ترتبط
(1/28)
________________________________________
ببلادهم، ومجتمعاتها، وتاريخها، وتطلعاتها ومشاكلها، وعاداتها، وتقاليدها، وأديانها، وحياتها اليومية لا ببلاد "جون بول".
ولكن إذا كان الأديب من هذا النوع يعيش في فرنسا مثلًا أو بريطانيا، واندمج اندماجًا تامًّا في الوسط الجديد، وأضحى يعتنق ما يعتنقه أصحاب ذلك الوسط ويردد آراءهم، ويتخذ مواقفهم، وينطلق من رؤيتهم الحضارية والقومية، وينصبغ بصبغتهم الاجتماعية، ونسي وطنه وقوميته القديمة ولم يعد يهتم بمشكلات الأمة، التي كان ينتسب إليها من قبل إلى آخره، فعندئذٍ فالمنطق يقتضي إلحاقه بالأدب الذي يصطنع لغته إذن.
أما أمريكا التي يُدرس أدبها عادةً على أنه جزء من الأدب الإنجليزي، فهناك من باحثيها كما رأينا مَن يناضل ضد الفكرة القائلة: بأن ما يكتبه الأمريكان والإنجليز هو أدب واحد؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين سلكتَا منذ القرن التاسع عشر طريقًا ثقافيًّا، وبالتالي أدبيًّا متباعدًا تمامًا، ويرون أن إنتاجهم الأدبي يدخل في مجال الأدب المقارن على الرغم من أنهما مكتوبان باللغة نفسها، ولا شك أن أمامنا في هذه الحالة قوميتين مختلفتين لا تتطلعان إلى قيم واحدة بينهما، إن لم يكن بسبب أي شأن آخر، فبسبب المسافة الشاسعة التي تفصل بين الشعبين، كما أن بينهما تاريخًا من الصراع والحروب فضلًا عن اختلاف مضمون الأدبين وروحيهما، واهتمامات كل منهما، وطعمه مما عليه المعول الأكبر في مثل هذا التمييز كما قلنا من قبل.
ومثل أمريكا في ذلك الأمر القارة الأسترالية.
باختصار نخرج من هذا: بأنه في حالة تطابق اللغة والقومية أو الوطن، فحينئذٍ فلا مشكلة أما إذا كان ثمة تعارض فالعبرة بالشعور القومي للكاتب، واتجاهاته وهمومه، وبمضمون العمل الإبداعي والروحي، لكن هل تراني قلت الكلمة الفصل في هذا السبيل؟ لا أظن. بل هي مجرد وجهة نظر ينبغي أن تُدرس وتحلل، وتبدى فيها الآراء وهذا كل ما أستطيع أن أقوله ولا أزيد.
(1/29)
________________________________________
هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً؟
كذلك أثار الدكتور محمد سعيد جمال الدين نقطة جديرة بالتأمل والبحث، إذ يرى أن نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر يعد مفارقةً تستوقف النظر إذ قال: والحق أننا نعجب لنشأة هذا العلم في أوربا في وقت سادتها روح العصبية القومية، ونشبت الحروب بين دولها، وكان التنازع والتكالب على اكتساب المغانم الاستعمارية على أشده بينها، مما عمق فكرة الأثرة القومية والعصبية المقيتة في نفوس الشعوب الأوروبية، وأخذ كل واحد من هذه الشعوب ينظر إلى الآخر نظرة العداء والازدراء، ووجه العجب هنا أن طبيعة الأدب المقارن لا تتفق مطلقًا مع روح التعصب والأثرة القومية، فهو يقف في الوسط ليرصد التيارات الفكرية المتبادلة بين الآداب المختلفة، ويرقب عوامل التأثير والتأثر فيما بينها.
فكيف يتسنى لهذا العلم أن يقوم بمهمته هذه في ظل جو مشبع بعوامل الاستعلاء والتميز القومي؟ كيف يمكن لهذا العلم أن يعنَى بدراسة نقاط الالتقاء بين الآداب والسمات المشتركة بينها في وقت كان هم كل أمة من هذه الأمم الأوروبية منحصرًا في بيان أوجه الاختلاف، والتعارض بين أدبها وآداب غيرها، وفي أن أدبها هو الأكثر كمالًا وفضلًا؟
لقد كان المزاج الأوربي الذي ساد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مشبعًا بأسباب التنافر والتباعد، لا بمظاهر التآزر والتقارب، حقًّا لقد كانت هناك نقط
(1/30)
________________________________________
التقاء توحد بين الأدباء الأوربيين في ذلك الوقت، إذ كانوا يرون في شعراء اليونان واللاتين القدماء مثلهم الأعلى، الذي يتعين عليهم أن يحتذوه إلا أن روح القومية التي سادت في ذلك الوقت كانت تعصف بكل رغبة في التسليم بتبادل التأثير بين الآداب الأوروبية بعضها وبعض.
لكن ظهرت في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر حركة نادت بالأدب المقارن، حيث تتجمع الآداب المختلفة كلها في أدب عالمي واحد، يبدو وكأنه نهر يرفده كل أدب من الآداب القومية بأسمى ما لديه من نتاج إبداعي، وقيم إنساني وفنية، وكان زعيم هذا الاتجاه الشاعر الألماني "جوته" الذي عد نفسه نموذجًا تتجمع فيه صفة العالمية، فلقد كان مطلعًا على الآداب الأوروبية متمثلًا قيمها واتجاهاتها، ومد بصره إلى خارج الحدود الأوروبية الضيقة المضطربة، فوجد في الآداب الشرقية الإسلامية عاملًا رحبًا لا نهائيًّا من الطهر والطمأنينة، بَدَا له وكأنه قَبَس من نور النبوة، كما وجد منبعًا صافيًا من الإبداع والإلهام المتجدد عبَّر عنه بوضوح في ديوان سماه (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) كتب في مقدمته: هذه باقة من القصائد يرسلها الغرب إلى الشرق.
ويتبين من هذا الديوان أن الغرب قد ضاق بروحانيته الضعيفة الباردة، فتطلع إلى الاقتباس من صدر الشرق، ولقد استطاع "جوته" بثقافته العميقة الواسعة، ومكانته البارزة وقدرته الفذة على الإبداع أن يجعل فكرة التواصل بين الآداب الأوروبية خاصةً والآداب كلها بعامة تستقر في الأذهان، وتصبح من الأمور المسلمة التي لا تقبل الجدل على الرغم من طغيان العصبية القومية في أوربا،
(1/31)
________________________________________
وهكذا بدأت دعوة الأدب العالمي، وكأنها كانت بمثابة تمهيد طبعي لنشوء فكرة الأدب المقارن.
انتهى كلام الدكتور محمد سعيد جمال الدين.
والواقع أنه لا ينبغي أن يكون ثمة عجب، إذ من قال: إن الأدب المقارن قد نشأ وهدفه التقريب بين الشعوب والأمم على أساس من روح الأخوة، إن هناك فرقًا كبيرًا بين رغبة بعض العلماء والمفكرين في أن يؤدي الأدب المقارن إلى نشوء هذه الروح، وبين استجابة النفوس البشرية التي تمارس وتشتغل به لهذه الروح، ذلك أنه كان هناك دائمًا -وسيظل هناك دائمًا- فجوة بين المثال والواقع كبرت هذه الفجوة أم صغرت، فهذه هي طبيعة الطبيعة البشرية، وعلى أية حال فهناك عوامل أخرى للأدب المقارن كانت وما زالت وراء اهتمامي بهذا الفرع من فروع البحث، منها إرضاء الفضول البشري، الذي يريد أن يعرف إلى ذاك الأدب أو هذا، وإلى أين يمكن أن يذهب بعد ذاك؟
ومنها أيضًا الرغبة الفطرية في المقارنة بين المتشابهات والمتخالفات في أي شيئين من جنس واحد، إن لم يكن من أجل شيء، فمن أجل إرضاء النزعة العقلية المقارنية، التي لا تهدأ عند بعض الناس إلا إذا اشتغلت ولا ترتاح إذا بقيت خاملة لا وظيفة لها، ثم هم بعد هذا كله لا يمكنهم أن ينسوا قوميتهم ولا حبهم لبلادهم وشعوبهم، ولا إيثارهم لحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم وفنونهم وآدابهم، وبخاصة إذا كانوا ينتمون إلى أمور قوية تتطلع إلى جر الأمور الأخرى وراءها، كأنها القاطرة وعرباتها، ولا تريد لأحد أن يخالف عن رأيها، ولا أن يكون له ذوق يتميز عن ذوقها، بل يمتاز عليها، أما الكلام والتشدق به فما أسهله لكن الكلام وحده لا يجعل الأمنيات حقيقة واقعة محترمة من الجميع،
(1/32)
________________________________________
وإذا كانت الطبيعة البشرية لم يستعصِ عليها أن تتلاعب بالدين ذاته، وأن تحوله إلى أداة للتكسب والخداع والقتل والتدمير في كثير من الأحيان، أفنظن أن الأدب المقارن سوف يسهل أمامها، ويكون عندها أقدس وأجل وأكثر تبجيلًا؟
وفي كلام "رينيه وليك" التالي ما يؤكد ما قلته، فقد ذكر أنه إن كان ظهور الأدب المقارن قد جاء رد فعل ضد القومية الضيقة التي ميزت الكثير من بحوث القرن التاسع عشر احتجاجًا ضد الانعزالية لدى الكثير من مؤرخي الآداب الأوروبية، فضلًا عن تصدر التبحر في هذا العلم من بعض العلماء الذين يقعون على مفترق الطرق بين الشعوب، أو على الحدود بين شعبين على الأقل أي: ينتمون مثلًا لأبوين من بلدين أوربيين مختلفين، فإن هذه الرغبة الأصيلة في أن يعمل دارس الأدب المقارن كوسيط بين الشعوب، وكمصلح لذات بينها غالبًا ما طمسته وشهوته المشاعر القومية الملتهبة، التي سادت تلك الفترة وفي ذلك الموقع.
وهذا الدافع الوطني في أساسه، الذي يكون خلف العديد من دراسات الأدب المقارن في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها أدى إلى نظام غريب لمسك الدفاتر الثقافية، وإلى الرغبة في تنمية مدخرات أمة الباحث عن طريق إثبات أكبر عدد ممكن من التأثيرات التي أثرتها أمته على الشعوب الأخرى، أو عن طريق إثبات أنه متى الكاتب قد هضمت أعمال أحد العظماء الغرباء، وفهمته أكثر من أي أمة أخرى، ثم مضى "وليك" فأعطانا أمثلةً على هذا التعصب القومي من واقع الدراسات الأدبية المقارنة في فرنسا وأمريكا.
خلاصة القول:
إن الشعارات واللافتات المرفوعة وحتى العوامل والبواعث التي تكمن وراء نشوء عمل ما شيء، والواقع الذي ينتهي إليه هذا العمل أو يُساق نحوه سوقًا شيء آخر، باختصار:
(1/33)
________________________________________
الطبيعة البشرية هي هي الطبيعة البشرية، ولا أحسبها ستتغير في المستقبل حتى لو دخلت تغيرات جذرية على التكوين البيولوجي للإنسان، كما يلمح بعض العلماء الآن؛ اعتمادًا على ما يظنونه أو يرجونه من إمكانات التماسك البشري، بالتأكيد سوف يساعدنا الأدب المقارن على مزيد من فهم بعضنا بعضًا، لكنه لن ينجح في قلع ما غرس في أغوار نفوسنا العميقة منذ أول الخلق.
إن الغربيين بوجه عام بحسب الرطانة الجديدة لا يريدون مثاقفة بينهم وبين الآخرين، بل يريدون في أقل القليل غزوهم الثقافي. والمثاقفة بعكس الغزو الثقافي الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الآخر، وإلحاقه وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية وعدوانية متغطرسة تقوم على الندية والاحترام والتسامح والاعتراف بخصوصية الآخر واختلافه، وفي إطارها تتفاعل الجماعات والشعوب، وتتواصل بهدف الاغتناء المتبادَل؛ لهذا فهي تفترض الثقة والرغبة في التواصل والتقدم والتطور واكتساب العلم والمعرفة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/34)
________________________________________
الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته.
(1/35)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(بحوث الأدب المقارن ومجالاته)

بحوث الأدب المقارن
فنقول: الأدب المقارن هو -كما وضحنا من قبل- فرع من فروع المعرفة يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر ينتمي كل منهما إلى أمة، أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدب قومي ما ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بغية الوقوف على مناطق التشابه ومناطق الاختلاف بين الآداب، ومعرفة العوامل المسئولة عن ذلك.
كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التي بينها، وإبراز تفسير أحدها في غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال أدبها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب إلى آخره.
أما تأكيد بعض الدارسين المقارنين أن الأدب المقارن لا يعد الدراسات التي تجري بين نتاجات أديبين من قوميتين مختلفتين، ولكن لا توجب بينهما صلة تاريخية أو ثقافية لا يعدونها دراسة مقارنة، إذ يجب في رأيهم أن يكون ظاهرًا لدى من يقوم
(1/37)
________________________________________
بالمقارنة، أن الأدب القومي واقع تحت تأثير أدب أجنبي، واستفاد منه، وانتهج بعض أساليبه وجوانبه الفنية، وعليه أن يثبت كيفية التقاء هذين الأدبين، وزمن التقائهما ونوعية تأثير أحدهما في الآخر، وأن أهمية الأدب المقارن من ثم لا تقف عند حدود دراسة التيارات الفكرية، والأجناس الأدبية والقضايا الإنسانية في الفن، بل لا بد له أن يكشف عن جوانب تأثر الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية، فهو تأكيد في غير محله، إذ الأدب المقارن لا ينحصر في دراسة التأثير والتأثر بين الآداب المختلفة، كما وضحنا، وإن كانت بعض مدارسه تشترط ذلك، وهي المدرسة الفرنسية ومَن يلفون لفها.
ذلك أن دراسة التأثير والتأثر بين مختلف الآداب إنما تمثل جانبًا واحدًا من جوانب بحوث الأدب المقارن، وفي هذه الحالة فإن الأدب المقارن كما يوضح أولئك المقارنون يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها، أو في ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير أو تأثر، أيًّا كانت مظاهر ذلك التأثير أو التأثر، سواء تعلقت بالأصول الفنية العامة للأجناس والمذاهب الأدبية أو التيارات الفكرية، أو اتصلت بطبيعة الموضوعات والمواقف والأشخاص التي تعالج أو تحاكى في الأدب، أو كانت تمس مسائل الصياغة الفنية، والأفكار الجزئية في العامل الأدبي، أو كانت خاصة بصور البلاد المختلفة، كما تنعكس في آداب الأمم الأخرى بوصفها صلات فنية تربط ما بين الشعوب والدول بروابط إنسانية تختلف باختلاف الصور والكتاب.
ثم ما يمت إلى ذلك بصلة من عوامل التأثير والتأثر في أدب الرحالة من الكتاب. ولعل أقدم ظواهر تبدل التأثير قد تمثلت في دراسة أثر الأدب الإغريقي في نظيره الروماني،
(1/38)
________________________________________
ويقرر بعض دارسي الأدب المقارن أن الانكسار العسكري لحضارة ما يمنحها الطاقة للتأثير الثقافي، كما حصل قبل ذلك في الحضارة السومرية، التي منحت إبداعها الثقافي لغيرها من الحضارات على الرغم مما منيت به من هزيمة عسكرية، وهو ما يذكرنا بما نقرؤه من أن روما مدينة لأثينا في كثير من إبداعاتها، رغم انهيار القوة العسكرية لتلك الأخيرة، وإلى هذا يعزى ظهور نظرية المحاكاة عند النقاد اللاتين في عصر النهضة الأوروبي.
ولكن بمجيء عصر النهضة التفت الأوروبيون مجددًا لتراثهم اليوناني اللاتيني بمساعدة الترجمات العربية، فعاد أدب عصر النهضة إلى نظرية المحاكاة، وبالتحديد إلى ما ساد الأدبين اليوناني واللاتيني من عناية بالإنسان ومشكلاته واقعيًّا بديلًا للرؤى الميتافيزيقية لأدب القرون الوسطى، وكان أوضح عمل في بداية القراءات الأولى، التي تدخل في الأدب المقارن قراءة الشاعر الناقد دورًا في القرن السادس عشر من جماعة الثريا الفرنسية، الذي قدم المحاكاة عمليًّا مشيرًا إلى تأثير اليوناني في اللاتين، مثل تأثير الخطيب اليوناني "دي موسيه" في "شيشرون"، وتأثير "هوميروس" في "يورجيل"، وتأثير "بنداروس" في "هوراس".
ويشمل التأثير والتأثير كثيرًا من الموضوعات الأدبية، فقد يتعلق بأديب من الأدباء، وقد يتعلق بموضوع أدبي، وقد يتعلق بأسلوب لُغوي، وقد يتعلق بشكل فني، وقد يتعلق باتجاه فكري، وقد يتعلق بجنس من الأجناس الأدبية، وقد يتعلق بقواعد تخص هذا الجنس أو ذاك، وقد يتعلق بنموذج أو شخصية أدبية إلى آخره.
ويتناول الباحثون في الأدب المقارن هذا الموضوع الأدبي أو ذاك، فيتابعون انتقاله من أدب إلى آخر محاولين معرفة الطريق التي سلكها في رحلة الانتقال، والعوامل المسئولة عن ذلك الانتقال، ومسجلين ما يطرأ عليه من تحويرات أو تعديلات.
(1/39)
________________________________________
ومع هذا يشير الباحثون في الأدب المقارن إلى أن هناك موضوعات تقليدية غاب أصلها الأدبي في غياهب الزمن، فلم نعد نعلم عن انتقالها من هذا الأدب إلى ذاك شيئًا، وذلك مثل: أسطورة خاتم سليمان، وأسطورة طاقية الإخفاء، وأسطورة الشحاتة الطيبة الجميلة التي تتزوج ملكًا، وفي كل موضوع من تلك الموضوعات نجد تفصيلات يضيفها كل كاتب إليه، فتعطيه نكهته التي يتميز بها عن معالجة مبدع آخر لذات الموضوع.
وتقوم المقارنة الأدبية هنا بتبيان الفروق ووجوه الاتفاق والاختلاف بين المعالجات المختلفة لذلك الموضوع، ويؤكد الدارسون المقارنون عن حق أن التأثر بإبداعات الآخرين لا يعد عيبًا، فالحياة قائمة على التعاون والأخذ والعطاء، وليس هناك مبدع يأتي بإبداعاته من الفضاء الخارجي، بل الكل يعتمد على الكل إن صح التعبير، وفي تلك الإضافات والتفصيلات يمكن أن تكمن العبقرية الإبداعية، وفي وسع الدراسات المقارنة أن تتناول مثلًا موضوع الغيرة، أو الانتقام أو التضحية في سبيل الواجب، أو بعض العادات أو السلوكيات أو المعتقدات أو القيم، فتلقي ضوءًا قويًّا كاشفًا على عبقرية الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع.
لنأخذ مثلًا مسرحية "فاوس" لـ"جوته"، حيث نرى "فاوس" في أول المسرحية شقيًّا كل الشقاء بعقله ويهم بالانتحار، ثم يتولد فيه الأمل ويأخذ في نشدان السعادة عندما يبدأ في التفكير في المستقبل، ويظل على هذا طوال الجزء الأول من المسرحية، وينتهي هذا الجزء بنجاة "مارجريت" منه ومن روح الشر المسيطرة
(1/40)
________________________________________
عليه، وتفضل البقاء في السجن والبعد عن حبيبها، وفي الجزء الثاني يظل "فاوس" منغمسًا في تجارب الحياة المادية إلى أن يتعرف على "هيلين"، رمز الجمال الخالص فيهتدي عن طريقها إلى الخير والعفة والفضيلة، وهذه القصة نفسها تمثل المحور العام لمسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم، إذ هي أيضًا تعالج قضية الصراع بين العقل والقلب، مما يوضحه تأثر توفيق الحكيم بـ"جوته"، كما لاحظ الدارسون المقارنون الذين عكفوا على دراسة هذين العملين.
ونفس الأمر نجده عند اللور "بيرن" في مسرحية "مانفرد"، التي نُشرت عام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين، والتي تأثر فيها الشاعر الإنجليزي من بعض الوجوه بمسرحية نظيره الألماني، إذ يظهر الساحر "مانفرد" فريسة لليأس والندم بسبب حب آثم قضى على محبوبته، فيحاول استدعاء أرواح الأرض والسماء؛ لنجدته، إلا أنها تعجز عن أن تهبه نعمة النسيان، فيحاول الانتحار لكن يتم إنقاذه، ورغم ذلك يأبَى الخضوع للأرواح الشريرة، ثم يظهر شبح المحبوبة التي تأبى أن تغفر له ما صنعه معها، وتتنبأ بموته في الغد، وفي لحظة الموت تظهر أرواح الشر، فيرفض أن يخضع لها كما رفضت "مارجريت" في مسرحية "فاوس" أن تخرج من سجنها جزعًا من روح الشر، ويلعن "مانفرد" الشياطين؛ لأنه لا يصح المعاقبة على الجرائم بجرائم مثلها، فعذاب الضمير أبشع من عذاب الجحيم.
وهناك أيضًا مسرحية "أوديب الملك" التي كتبها الشاعر اليوناني "سوفوكليس" في القرن الخامس قبل الميلاد، وموضوعها سلطان القدر الساحق الذي قد يحول انتصارات المرء إلى هزائم، وهزائمه إلى انتصارات، والموضوع الذي تدور عليه مسرحية أوديب عبارة عن أسطورة يونانية شهيرة، وقد تأثر توفيق الحكيم بتلك المسرحية في مسرحية "الملك أوديب" التي نشرها سنة ألف وتسعمائة وتسع وأربعين ميلاديًّا.
(1/41)
________________________________________
ولكن إذا كان "أوديب سوفوكليس" يعاني من مشكلة البحث عن الحقيقة، فإن أوديب توفيق الحكيم كما نبه إلى ذلك الدارسون الذين قاموا بالمقارنة بين المسرحيتين، يعاني من مشكلة الصراع بين الحقيقة والواقع، وقد دخل الأديب الحضرمي المصري علي أحمد باكثير على الخط، فألف هو أيضًا مسرحية بعنوان "أوديب" ذاكرًا أن هدفه من كتابتها هو محاولة تشخيص المشكلة الفلسطينية، وإن حوى العمل إلى جانب هذا هجومًا على البدع التي أخذت تشيع في البيئات الإسلامية منذ العصر الفاطمي، ويقوم على الترويج لها طبقة من المتاجرين باسم الدين.
وفي نفس السياق نجد مسرحية "بكماليون" التي نشرها توفيق الحكيم سنة ألف وتسعمائة وثلاث وأربعين ميلادية، وتأثر فيها بمسرحية تحمل ذات الاسم للكاتب الأيرلندي "برناردشو"، وإن أدار توفيق الحكيم عمله حول فكرة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة عكس "برناردشو"، الذي طرح مشكلة الطبقية، وبالمناسبة فمن الممكن أن يدرس الأدب المقارن مثل هذه التأثيرات في أي مجال من مجالات الإبداع الأدبي، علمًا بأن بعض المقارنين الأدبيين قد وصل بنواحي التأثير والتأثر إلى عدد يصعب إحصاؤه.

دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية
وهذه النماذج الأدبية يمكن أن تنقسم إلى نماذج الشعوب المختلفة، كالفرنسي والألماني والمصري والصيني، أو نماذج المهن والوظائف، مثل: الشيخ والكاهن والفلاح والطبيب والمحامي والصيدلي وحفار القبور والجاسوس والبغي، وقاطع الطريق. أو نماذج التشويه البدنية والنفسي كالمخنث والأعمى والمعتوه والأحدب والمقامر والسكير.
(1/42)
________________________________________
ويستطيع المقارن الأدبي أن يدرس تصوير الأدباء لهذه النماذج الاجتماعية والإنسانية عن طريق تتبعه للصفات المشتركة التي رأوها في هذه الشخصيات، ومدى تأثر بعضهم ببعض، واختلاف بعضهم عن بعض، فمن ذلك مثلًا:
شخصية الفلاح التي تناولها عدد كبير من الأدباء، وصوروا حياته وآلامه ومعاناته، وقد لاحظ بعض الدارسين أن عددًا من الأدباء المصريين والعرب قد تأثروا بالأدب الروسي في تصوير الفلاح المصري.
كذلك من الممكن أن ندرس جوانب التأثر والتأثير بين الكتاب الذين تناولوا شخصية البغي، فبعضهم عد المومس امرأة فاضلة، بل قدمها في صورة ملاك يساعد ويعطي دون انتظار أية مكافأة، مما لا يفعله كثير ممن يتشدقون بالتدين أو بالأخلاق الفاضلة.
ولعل خير مثال على ذلك مسرحية "غادة الكاميليا" لـ"أكسندر دوماس"، وكذلك شخصية نور في رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب)، ولولا في روايته الأخرى (السمان والخريف)، وقد صور بعض الكتاب المومس في صورة ضحية مغلوبة على أمرها، فلا ذنب لها في سقوطها، بل المسئول عن ذلك المجتمع، الذي دفعها إلى الرذيلة دفعًا، وبعض ثالث عدها آفة اجتماعية لا سبيل إلى إصلاحها، وخطرًا داهمًا على المجتمع الذي تعيش فيه، ومما لا شك فيه أن مسرحية "غادة الكاميليا" كان لها أثر كبير على الكتاب العرب، الذين تناولوا شخصية المومس الفاضلة، ويعد نجيب حداد من الكتاب الذين قلدوا غادة الكاميليا في روايته "إيفون منار أو حواء الجديدة"، التي تأخذ على عاتقها رد اعتبار العاهرة، وتأثر بها بأفكار كل من "رومان رولا" و"ألكسندر دوماس" وغيرهما من الأدباء الفرنسيين.
(1/43)
________________________________________
ولعل الحداد كما كتب بعض الدارسين المقارنين هو أول من تطرق لموضوع الدفاع عن البغي في الأدب العربي الحديث.
وهناك مثال آخر على الموضوعات أو النماذج التي يتناولها الأدب المقارن، وهو موضوع الحب المحرم في الآداب العالمية، حيث يمكن تتبع رذيلة ارتكاب المحرم عن طريق نشوء عاطفة آثمة داخل الأسرة، بدءًا من مسرحية "هيبوليت" للشاعر المسرحي الإغريقي "يوربجيس" مرروًا بمسرحية "فِدر" في القرن السابع عشر الميلادي، بقلم الكاتب المسرحي "راسين" وصولًا إلى معالجة نفس القضية مع تغير الأدوار في مسرحية "تحت أشجار الدردار"، للكاتب الأمريكي "جين أونيل"، ومسرحية "اللص" لتوفيق الحكيم، ومن النماذج العامة نموذج البخيل، الذي دارت حوله مسرحية الشاعر اليوناني "مناندر"، وإن لم تصل هذه المسرحية إلينا إلا أن الشاعر الروماني "بلوتوس" قام بمحاكاتها في مسرحية عنوانها "ألولاريا" كما جرى تصوير هذا النموذج في مسرحيات أخرى في بعض الآداب الأوروبية، من أشهرها مسرحية "البخيل" للشاعر الإيطالي "كارلو جولدني". ولدينا أيضًا مسرحية "البخيل" للكاتب الفرنسي "موليير"، التي كان لها أثر كبير على المسرحيين العرب.
كذلك هناك النماذج الأسطورية الخيالية التي تعود إلى حكايات قديمة، أو موغلة في القدم تحورت أو تشوهت أو فقدت معناها الأصلي، ومن هذه النماذج نموذج الشيطان كما في مسرحية "فاوس" لـ"جوته" ومسرحية "مانفرد" لـ"بايرون" اللتين سبقت الإشارة إليهما، وكذلك نموذج الساحرة الشريرة كما في مسرحية "ماكبث" لـ"شكسبير"، ونموذج الشبح كشبح "هاملت" في مسرحية "شكسبير" المسماة بهذا الاسم، وهناك نماذج أسطورية تحولت إلى رمز فلسفي أو اجتماعي وتناولها كل أديب من وجهة نظره الخاصة، التي تتفق مع عصره وظروفه، ومن هذه النماذج نموذج "بكماليون"، وهو فنان من جزيرة قُبرص هام عشقًا بجمال تمثال صنعه بيده.
وهذا الموضوع نفسه نجده في الأدب الروماني القديم في قصة المسخ عند "أوفيد"، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، وعرض نفس
(1/44)
________________________________________
الفكرة كتاب وشعراء مختلفي الآداب، ومنهم توفيق الحكيم في مسرحيته "بكماليون"، التي نشرها عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين ميلادية، وإن كان الحكيم يطرح فيها مسألة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة، وهو ما سبق الحديث عنه مثلما سبق الحديث عن "برناردشو" ومسرحية "بكماليون"، التي عالج فيها مشكلة الطبقية في المجتمع الإنجليزي، ومما لا شك فيه أن الحكيم قد تأثر بكل المصادر الأدبية التي عالجت تلك الشخصية، وتدور مسرحية توفيق الحكيم المسماة "شمس النهار"، والتي نشرها سنة ألف وتسعمائة وخمس وستين حول الفكرة التي تقول: إننا نقدر ونحب من نصنعه أو نعلمه أكثر مما نقدر ونحب من صنعنا هو أو علمنا، وهي نفس الفكرة التي نجدها في "بكماليون أوفيد الروماني"، وتأثر بها عدد من الفنانين والأدباء والشعراء.
ومن تلك النماذج الأسطورية أيضًا نموذج "برومسيوس"، إله النار لدى الإغريق، وقد تناوله العديد من الشعراء في شعرهم، وكذلك بعض كتاب المسرح في مسرحياتهم بدءًا من الشعراء الإغريق، ووصولًا إلى الكتاب الأوربيين في عصر النهضة الأوربية، وكذلك تأثر بهذه الأسطورة الشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي في ديوانه (أغاني الحياة)، وكذلك الشاعران المصريان عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد على سبيل المثال، كما يقال لبعض دارسي الأدب المقارن.
أما نموذج الشيطان فهو نموذج دخل إلى الأدب، فاتخذه الشاعر الإنجليزي "جون ملتون" الذي عاش بين عامي ألف وستمائة وثمانية، وألف وستمائة وأربعة وسبعين، أساسًا لملحمته
(1/45)
________________________________________
الفردوس المفقود، كذلك يعبر الرومانسيون على لسان الشيطان عن آرائهم فيما ينتابهم من مخاوف وأحزان وشكوك، ويبدو واضحًا جليًّا أثر هذه الشخصية في الأدب الروسي الرومانسي عند "درمن توفن" الروسي، في قصيدته عن الشيطان التي تأثر فيها إلى حد بعيد بالشاعر الإنجليزي "بايرون"، أما "فيكتور هيجو" فقد جعل الشيطان ممثلًا للإنسانية كلها عند ابتعاده عن الله -جل وعلا- ولعباس محمود العقاد قصيدة عنوانها "ترجمة شيطان" تحدث فيها عن شيطان ناشئ سئِمَ حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء، إلا أنه لم يستطع التخلص من طبيعته الإغرائية إلى آخر الشوط، والقصيدة في مجملها تضم الكثير من آراء العقاد وتطلعاته الفلسفية، التي ساقها على لسان الشيطان، وهو فيها متأثر إلى حد كبير بالرومانسيين الأوربيين، حسبما وضح عدد من الدارسين المقارنين ممن تناولوا ذلك العمل.
وثم مجال آخر يتعلق بدراسة الشخصيات المتميزة، وتناوله بالبحث الدارسون المقارنون ومنه شخصية جحا، التي تعود إلى المصادر الشعبية، وأصبحت موضوعًا تتناوله الآداب العالمية بمختلف ألوانها، إذ نجده في الأدب الشعبي المصري، وفي الأدب الشعبي التركي، وفي الأدب الشعبي القوقازي، والأدب الشعبي الفارسي، وهو في كل ذلك رمز للإنسان البسيط خفيف الظل، الذي يعبر عن رأيه في شجاعة منتقدًا أوضاع السلطة الحاكمة الفاسدة أو المستبدة، حاملًا ملامح كل أمة ينتمي إليها حسبما لوحظ أي: أنه على الإجمال خير معبر عن الوجدان الشعبي، وموقفه من عصور القهر والظلم.
ومن تلك النماذج أيضًا شخصية شهرزاد بطلة قصص ألف ليلة وليلة، التي نقلت إلى الآداب الأوروبية، وأصبحت رمزًا للاهتداء إلى الحقيقة عن طريق القلب والعاطفة، وعن هذه القصص أيضًا انتقل موضوع علاء الدين والمصباح *****ي إلى
(1/46)
________________________________________
الآداب المختلفة، ومنها كذلك أخذ توفيق الحكيم مسرحيته "شهرزاد" التي نشرها سنة ألف وتسعمائة وأربع وثلاثين، وطه حسين روايته "أحلام شهرزاد"، التي نشرها سنة ألف وتسعمائة واثنتين وأربعين ميلادية.
ومن هذه الشخصيات كذلك شخصية "دنجوان"، التي يصعب الآن معرفة الموطن التي نبتت فيه، وكل ما يعلمه المقارنون أن أقدم مسرحية تناولت هذه الشخصية الأسطورية هي مسرحية "ساحر إشبيلية"، التي ألفها "ترسو دي مولينا" في القرن السادس عشر والسابع عشر للميلاد، وتبعه جمع من كتاب أوربا وشعرائها، منهم "موليير" الفرنسي و"بايرون" الإنجليزي و"بولدون" الإيطالي و"هوفمان" الألماني، ويرمز "دنجوان" إلى الإنسان المستهتر المخادع الذي لا هم له إلا التغرير بالفتيات، وتحطيم قلوبهن، ثم هجرهن دون عودة، وصور بعض الكتاب "دنجوان" بالصورة التائب الذي يلاحقه عذاب الضمير على ما فعل من خطايا، إلى غير ذلك من الصور التي رسمتها أقلام عدد من الكتاب والشعراء لهذه الشخصية، كل طبقًا لرؤيته الخاصة.
وقد تعرضت لأسطورة "دنجوان" كثير من الأبحاث، التي تمتاز بالغنى والدقة منها البحث الذي كتبه "جاندورن ديبجون"، وعنوانه "أسطورة دنجوان من أصولها إلى الرومانسية".
وبالمثل كان لشخصية كليوباترا حظ موفور في الآداب العالمية، ففي الأدب الفرنسي هناك مسرحية "كليوباترا الأسيرة"، التي كتبها الشاعر الفرنسي "جول" في القرن السادس عشر، وظهر بعدها مسرحية "كليوباترا" للشاعر الإنجليزي "صمويل دانيال" في القرن السادس عشر أيضًا، كما تناولها الشاعر الإنجليزي "وليم شكسبير" في مسرحيته "أنطونيو وكليوباترا"، التي تأثر بها عدد غير قليل من
(1/47)
________________________________________
المبدعين في الآداب المختلفة، إذ تناولها بعد "شكسبير" أدباء فرنسا وإنجلترا وغيرهما من البلاد الأوروبية، وفي مصر نجد مسرحية "مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي، الذي دافع دفاعًا مستميتًا عن تلك المرأة، وجعل منها ملكة وطنية تحب مصر، وتعمل على صالحها وتضحي بحبها من أجله.
ومن الشخصيات التاريخية في الأدبين العربي والفارسي، يمكن للدارس المقارن أن يذكر على سبيل المثال شخصيتي ليلى العامرية وحبيبها قيس بن الملوح العامري، المعروف بمجنون ليلى، ولقصة حبهما حديث طويل بما نُسب إليهما من أحداث، تعرفها كتب الغزل العفيف وكتب التصوف، والمعروف أن أحمد شوقي له مسرحية عنوانها "مجنون ليلى"، كما أن لصلاح عبد الصبور مسرحية من الشعر الحر هي "ليلى والمجنون".
وهذه النماذج والشخصيات وغيرها لا تعدو أن تكون موضوعًا واحدًا من الموضوعات، التي يمكن أن يتناولها الباحث المقارن من زاوية التأثر والتأثير بين الآداب المختلفة.
والواقع -كما سبق أن وضحنا- أنه ليس شرطًا أن يدرس الأدب المقارن التأثير والتأثر بين الآداب المختلفة، فهذا إنما يشكل بعضًا من مهمته، وليس مهمته كلها، وفي هذه الحالة يكشف الأدب المقارن عن مصادر الأصالة في الأدب القومي، وما دخل عليه نتيجة تلاقحه مع الآداب الأخرى، ولا شك أن جوانب التأثر كثيرة ومتعددة، فالأدب كائن حي يؤثر ويتأثر، يأخذ ويعطي، وهذه سنة الوجود الإنساني، وهنا يوضح الأدب المقارن خط سير الآداب في علاقاتها بالآداب الأخرى، ومدى تقاربها في الأفكار مبينًا لنا أهمية التأثير والتأثر في تقوية الأدب القومي، وكذلك في العمل على تقارب الشعوب وخروجها من عُُزلتها، وبذلك يكون للأدب المقارن أهمية كبرى في دراسة المجتمعات وتفهمها.
(1/48)
________________________________________
الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن
وهناك مجموعة من الشروط يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن، منها أن تتسع معارفه بحيث يكون مطلعًا على جوانب متعددة من الثقافات فيما يتصل بالأدب، وأن يعرف بعض اللغات الأجنبية، إذ لا يستطيع أن يعرف ما تم من تأثير وتأثر في الموضوعات التي يدرسها، إلا بالاطلاع على النصوص والآثار الأدبية في لغاتها الأصلية، فقد ثبت أنه كثيرًا ما يؤدي الاعتماد على الترجمات دون الرجوع إلى الأصول إلى أخطاء في النتائج بسبب سوء الترجمة أو تحويرها، أو سهوها عن أشياء مهمة في اللغات المنقول منها.
ومعنى هذا أن من يريد معرفة تأثير الشاعر الألماني "جوته" في الأدباء الرومانسيين مثلًا لا بد له أن يقرأ "جوته" الألماني في اللغة الألمانية، وليس يكفيه تمامًا اللجوء إلى ما تُرجم من أدبه، كذلك ينبغي للدارس المقارن أن يلم بالمصادر، والأصول الخاصة بموضوع البحث؛ كي يستطيع معرفة عملية التأثير والتأثر، وإذا وقعت له ترجمة لعمل من الأعمال الأدبية، فعليه أن يقارن بين الترجمة والأصل، أو بين الترجمات المتنوعة إذا كان هناك أكثر من ترجمة للعمل المذكور، وبالمثل عليه معرفة ما يختص بدراسة الأجناس أو الأنواع الأدبية، كنشأة قصص الرعاة ومسرحياتهم في الأدب الأوربي، وانتشار القصة التاريخية في أوربا مع أوائل القرن التاسع عشر، ونشوء القصة والمسرحية في الأدب العربي، ثم الحكايات التي كتبت على ألسنة الطير والحيوان، وكيف أدخلها إلى الأدب العربي الكاتب العباسي عبد الله بن المقفع؟ وكيف أثر الأدب العربي في الأدب الفارسي؟ أو كيف أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي إلى آخره؟
(1/49)
________________________________________
وإلى جانب هذا، يجب أن يتتبع الدارس المقارن كل نوع وتطوره في لغتين أو أكثر، وأن يبحث العوامل التي أثرت في كل الآداب التي يراد دراستها، وقد يحاول الباحث المقارن دراسة جنس أدبي في أدبين فقط، وذلك كدراسة القصة الرومانسية الفرنسية، وتأثيرها في القصة العربية أو في أكثر من أدبين كدراسة القصة الرومانسية في الآداب الأوربية، ثم تأثيرها في القصة العربية خلال العصر الحديث، وعليه أن يأتي بالدليل على تأثر ذلك الكاتب، أو أولئك الكتاب بالجنس الأدبي موضوع الدراسة، وقد يصرح الكاتب نفسه بهذا التأثير، وعليه تكون مهمة التدليل، والبرهنة يسيرة على الباحث المقارن، كما هو الحال حين صرح "فيكتور هيجو" مثلًا بمحاكاة مسرح "شكسبير" الإنجليزي، أما إذا لم يصرح الكاتب بذلك، كما في محاكاة أحمد شوقي نفسه لـ"شكسبير" في مسرحيته "مصرع كليوباترا"، أو في تأثره عند إبداعه أشعاره التي ساقها على ألسنة الطير والحيوان بكتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع، ففي مثل هذه الحالات تكون مهمة الباحث المقارن صعبة.
ومما ينبغي معرفته طبقًا لما يقوله أساتذة الأدب المقارن أن يحدد الدارس مدى تأثر الكاتب الجنس الأدبي، وهل كان تأثرًا شاملًا أو جزئيًّا؟ ومن هنا يجب على الباحث المقارن دراسة حياة الكاتب، وظروفه الاجتماعية والنفسية، وكذلك مكوناته الفكرية والثقافية، وبالنسبة لدراسة الموضوعات الأدبية، كدراسة شخصية الملكة كليوباترا في الأدب الإنجليزي والفرنسي والعربي، فهذه الدراسة تحتاج من الباحث المقارن إلى جهد كبير يتطلب سعة في العلم، ومعرفة بخصائص الشعوب ونفسياتها.
ومن أكثر فروع الأدب المقارن انتشارًا دراسة تأثير كاتب معين في أدب أمة أخرى، وهذا التأثير قد يكون شخصيًّا أو فنيًّا أو فكريًّا، ولا مانع من دراسة أثر كاتب أو عمل معين في أمة من الأمم على كاتب أو أعمال إبداعية معينة من أمة أخرى، إذ يمكن مثلًا دراسة أثر "إبسن" أو "برناردشو" أو "برنادلو" أو "بخت" أو
(1/50)
________________________________________
"يوجنسكو" أو الكتاب الأسبان في مسرحية توفيق الحكيم، وقد ندرس رواية مثل (الرباط المقدس) لتوفيق الحكيم، وعلاقتها برواية "تاييس" الكاتب الفرنسي "أناتول فرانس"، وقد ندرس التأثير الفرنسي في أدب دكتور طه حسين، وبالذات في أعماله القصصية مثل (المعذبون في الأرض)، و (شجرة البؤس) وغيرهما، أو ندرس تأثير الكاتب الفرنسي "موباسان" في قصص محمود تيمور إلى آخر هذه الموضوعات التي يمكن للباحث المقارن أن يتناولها.
كذلك ينبغي التنبه إلى أن التأثر بين الآداب المختلفة قد يكون على غير اتجاه الأصل المؤثر، بمعنى أن يفهم الأديب المتأثر الأديب، الذي تأثر به فهمًا مخالفًا لمقصده. ومن ذلك مثلًا أن الكاتب البريطاني "توماس كارليل" قد قرأ الكاتب والشاعر "ماني جوته" على أنه داعية إلى بعض الرؤى الأخلاقية الدينية التي يتفق معه فيها؛ وبهذا يكون "كارليل" كما نبه إلى ذلك بعض الدارسين المقارنين قد أول بهذا الفهم رؤية "جوته"؛ ليذهب التأثير إلى غيره من الكتاب عبر هذا التأويل، وليس عبر العصر.
وهناك التأثر العكسي في فهم رؤى الآخر كأن يقف أديب موقفًا مضادًّا من الرؤية الفنية الفكرية لأديب أو حركة أدبية مختلفة في لغة أو قومية أخرى، ويمكن أن نمثل لذلك بالصورة التي رسمت لكليوباترا في الآداب الغربية، وصورتها عند أحمد شوقي، الذي عمل على رسمها في غير صورة المرأة اللعوب الملتوية؛ لتصبح عنده ملكة وطنية مخلصة.
ومن المسائل التي يتناولها الدارس المقارن أيضًا ما يمكن عقده من موازنات بين طرفين في أدبين مختلفين ليس لهما من علاقة تبادل تأثير، وهو أمر لا يدخله عدد من الباحثين في صلب الأدب المقارن، الذي يرون أنه ينبغي أن نركز فقط على حالة التأثر والتأثير بين طرفين أدبيين، ومنهم الدكتور محمد غنيمي هلال الذي أكد أنه لا يعد من الأدب المقارن في شيء، ما يُعقد من موازنات بين كتاب من آداب مختلفة، لم تقم بينهم
(1/51)
________________________________________
صلات تاريخية حتى يؤثر أحدهم في الآخر نوعًا من التأثير أو يتأثر به، وعلى هذا فالموازنة بين أبي العلاء المعري و"مِلتون" على الرغم من تشابه آرائهما ومكانتهما الاجتماعية، ليست لها في رأي الدكتور هلال قيمة تاريخية؛ لأنها لا تشير إلى أي تأثر أو تأثير بينهما، ولا يجوز في ضوء ذلك أن ندخل في مجال الأدب المقارن أمورًا تخص الأدب ونقده، لمجرد حالة تشابه نرسمها بين أديبين أو عملين إبداعيين، لا نملك دليلًا على وجود أي تفاعل بينهما.
وعلى ذلك، فالأدب المقارن لا يدخل في إطاره تلك الدراسات، التي تبحث عن التشابه أو التقارب الناجم عن مصادفة، وهذا اللون من الأدب المقارن يحافظ بتشدد على موقفه القاضي بإبعاد كل تلك القراءات، التي لا تتناول معالم التأثر والتأثير بين الآداب المختلفة، ولكن كما قلنا وكررنا: ثمة اتجاهات في الأدب المقارن لا تحصر مَيدانه في التأثير والتأثر فقط، بل توسع دائرة ذلك الميدان بحيث تشمل الموازنات التي تقدم بين الأدب القومي والآداب الأخرى.

موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن
ومن الموضوعات التي يتناولها الأدب المقارن كذلك موضوع الترجمة، ومدى دقتها أو ابتعادها عن الأصل، وأثر ذلك على فهم مرام من يؤلف إلى هذا:
ومعروف أن دور الترجمة في التلاقح الثقافي بين الأمم المختلفة هو في الذروة من الأهمية، ومن ثم كان الاهتمام الشديد من قبل الدارسين المقارنين في مجال الأدب بهذه الوسيلة، التي تصل بين الأمم الثقافية، في ضوء هذا ننظر في النص التالي الذي خلفه لنا سيد البيانيين العرب الجاحظ عمرو بن بحر في كتابه (الحيوان)، والذي لا يمكن أن نتهم بالمغالاة في تقدير قيمته.
يقول: وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونانية وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنًا وبعضها ما انتقص
(1/52)
________________________________________
شيئًا، ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو لمعاشهم وفطرهم وحكمهم، وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان؛ حتى انتهت إلينا وكنا آخر من ورثها ونظر فيها.
فقد صح أن الكتب أبلغ في تقييد المآثر من البنيان والشعر، ثم قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له: إن الترجمان لا يؤدي أبدًا ما قال الحكيم على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم ال**** ويجب على الجلي، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان -رحمه الله تعالى- ابن البطريق وابن ناعمة وابن قره وابن فهريز وثيفيل وابن هيلي وابن المقفع مثل "أرسطوطاليس"؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟
ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضًا قد تكلم بلسانين علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة وإنما له قوة واحدة؟ فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، وعلى حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتة مترجمًا يفي بواحد من هؤلاء العلماء.
(1/53)
________________________________________
إن الجاحظ في النص السابق إنما يمس قضية في منتهى الخطورة في ميداننا، الذي نحن بصدده هنا، وهي قضية الترجمة التي عليها المعول الأول في التواصل والتلاقح الثقافي بين أمم الأرض، وهو يبرز الشروط التي لا بد من توفرها فيمن يريد التصدي لتلك المهمة، إذا أراد أن يجيء عمله سليمًا ويؤتي ثماره على أحسن وجه، وكلنا يحفظ المقولة الشائعة في ذلك المجال، ألا وهي أن المترجم خائن بمعنى: أنه لا يمكن أن ينقل لنا على وجه الدقة، والقطع والتطابق المطلق ما في النص الذي ينقله إلى لغتنا مهما يكن من عبقريته وتفرده، وإنما كل ما يستطيعه أن يقلل إلى أدنى حد ممكن الفجوة القائمة بين اللغتين والعقليتين والذوقين، أو باختصار بين الثقافتين، ومع ذلك فسوف تظل ثمة نصوص تستعصي على الوصول بها إلى هذه الغاية، وهي نصوص الشعر وما إليها.
وقد استطاع الجاحظ أن يضع يده على مكامل المشكلة في طبيعة اللغات، وطبيعة البشر على السواء، رغم أنه قد قال ذلك منذ نحو اثني عشر قرنًا، لكنها العبقرية الجاحظية.
وفوق ذلك قد أمدنا -رحمه الله- بأسماء عدد من مترجمي العرب في عز نهضتهم ومجدهم في دولة بني العباس، وقد أثنى على ما تركه لنا الجاحظ في هذه النقطة في موقع الندوي قائلًا: وعلى الرغم من أن آراء الجاحظ عن الترجمة جاءت في القرن التاسع الميلادي، إلا أنها ما زالت صالحة إلى يومنا الحاضر، فبعد مرور عشرة قرون عليها وضع المفكر الروسي "بليخنوف" في القرن التاسع عشر والقرن العشرين شروطًا للمترجم الجيد، وللترجمة الجيدة تتطابق مع الشروط التي وضعها الجاحظ، كما أكد الدكتور سامي الدروبي في النصف الثاني من القرن العشرين على الشروط ذاتها.
(1/54)
________________________________________
وهناك موضوع آخر هام جدًّا يتصل بتلك النقطة، ألا وهو عدم فهم المترجمين والشراح العرب لما قاله أرسطو في كتابه (الشعر) عن الملهاة والمأساة في عالم الإبداع المسرحي، إذ جاء في شرح ابن سينا لذلك الكتاب عن أنواع الشعر عند الإغريق ما يلي: وكان لكل غرض وزن يختص به، فمنها نوع يسمى طراغوزيا له وزن لذيذ يتضمن ذكر الخير والأخيار والمناقب الإنسانية، ثم يضاف جميع ذلك إلى رئيس يراد مدحه، وكانت الملوك يغنَّى بين أيديهم بهذا الوزن، وربما زادوا فيه نغمات عند موت الملك للنياحة والمرثية، ومنها نوع يسمى دثرمبي وهو كترغوزيا، ما خلا أنه لا يخص به مدحة إنسان واحد، أو أمة معينة، بل الأخيار على الإطلاق، ومنها نوع يسمى قوموزيا، وهو نوع تذكر فيه الشرور والرذائل والأهاجي، وربما زادوا فيه نغمات؛ ليذكروا القبائح التي يشترك فيها الناس وسائر الحيوان.
أما ابن رشد فقد استخدم لهذين المفهومين -أي: مفهومي التراجيديا والكوميديا- مصطلحي مديح وهجاء، مما لبس الأمر على القراء والمثقفين العرب طوال تلك العصور إلى أن أعدنا النظر في العصر الحديث إلى الإبداع المسرحي عند الإغريق، وتنبهنا إلى الغلطة التي وقع فيها هذان المفكران العظيمان؛ لعدم وجود نص مسرحي مترجم يمكن على نوره فهم الكلام النظري، الذي خلفه أرسطو في ذلك الموضوع.
وقد نقل ياقوت الحموي في مقدمة (معجم الأدباء) عن جاحظنا قوله: عيوب المنطق التصحيف وسوء التأويل، والخطأ في الترجمة، فالتصحيف يكون من وجوه من التخفيف والتثقيل، ومن قبل الإعراب ومن تشابه صور الحروف، وسوء التأويل من الأسماء المتباطئة أي: أنك تجد اسمًا لمعاني فتتأول على غير المراد، وكذلك سوء الترجمة.
(1/55)
________________________________________
وأورد أبو حيان التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) حوارًا بين متى بن يونس، المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وعشرين هجرية، المترجم الذي كان متعصبًا لليونان وثقافتهم، وأبي سعيد السيرافي النحوي المشهور، المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وستين هجرية، ذكر فيه السيرافي على نحو غير مباشر عدة من المحاذير التي يمكن جدًّا أن تقع في الترجمة من لغة إلى أخرى، بل لا تكاد الترجمة تنفك منها، قال متى: يونان وإن بادت مع لغاتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض، وأدت المعاني وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام، ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام، وإن كان هذا لا يكون وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
وواضح من هذه النصوص مدى وعي علمائنا القدامى بأن المترجمين لا يمكنهم نقل الأصل على وجهه، الذي أبدعه فيه صاحبه إلى اللغة التي يترجمون إليها، مهما بذلوا وسعهم واستفرغوا كل جهدهم. أي: أنهم كانوا على علم بطبيعة الترجمة وحدودها، وأن ما يؤديه المترجمون لا يمكن أن يجيء مطابقًا للنص الأصلي، وهذا ما يعنيه الأوربيون حين يتحدثون عن صعوبة الترجمة، فيقولون على سبيل المجاز: " the Translator is a traitor " أو " Le Traducteur est un traître " أي: المترجم خائن، بمعنى: أنه من الصعوبة عليه بمكان الخلاص تمامًا من الأخطاء، مهما احترز وبذل من جهد
(1/56)
________________________________________
وفتح عينيه طول الوقت، وقبض على زمام اللغتين اللتين يعمل بينهما، ومهما راجع ونقح، ذلك أن المترجم الأدبي وهو الذي يهمنا هنا، إنما يحاول الدخول إلى عقل إنسان آخر، واقتناص خواطره وانفعالاته وأفكاره ودقائق معانيه، وأنَّى له ذلك، والسياق الذي يعمل هو فيه يختف عن السياق الذي أبدع فيه صاحب النص نصه! والخلفية الثقافية والفنية والأدبية التي ينتمي إليها المبدع تختلف عن خلفيته هو، والظروف الشخصية تختلف في حالته عن حالة من يترجم منه.
كما أن الأديب لا يقول في إبداعه كل شيء، ولا يكون واضحًا في ذهنه كل شيء، بل تظل هناك زوايا وخبايا، ومناطق مظلمة أو معتمة أو مغبشة أو تغشيها الظلال على الأقل، ومعان وأحاسيس رواغة تستعصي على القنص، وأقصى ما يمكنه عمله إزاءها هو أن يشير ويومئ، فإذا أضفنا إلى هذا أن العمل الأدبي ليس كلمات وجملًا ناجزة فحسب، بل ثغرات ومساحات متروكة أيضًا، وأنه يقوم على الإيجاز والتكثيف والتقديم، والتأخير والمجازات والاستعارات والكنايات والتوريات، وأن فيه كثيرًا من العبارات والصور والتراكيب والألفاظ والألوان البديعية، والإيحاءات التي لا تقابلها عبارات وصور وتراكيب وألفاظ، وإيحاءات في اللغة المنقول إليه، أو على الأقل لا تقابلها مقابلة مباشرة، علاوة على أن إشاعات كل لفظة، والتاريخ التي تحمله على ظهرها، والتقاطعات والعلاقات اللفظية التي ترتبط بها تختلف عن إشعاعات اللفظة التي تقابلها على الناحية الأخرى، والتاريخ الذي تحمله على ظهرها والتقاطعات والعلاقات التي تربطها بغيرها من الألفاظ والعبارات.
وإذا عرفنا فوق ذلك أن مبدعه كثيرًا ما يقصد الغموض قصدًا إن لم ينح نحو الاستغلاق نحوًا، تلذذًا منه أو فلسفة أو تفلسفًا، وأن الشعر إلى جانب هذا كله
(1/57)
________________________________________
يقوم ضمن ما يقوم على الوزن والقافية والتقطير الشديد، والتصرف في اللغة تصرفًا واسعًا تحت ضغط المساحة الضيقة التي يتحرك فيها، والقيود الثقيلة التي تطوق قدميه ويديه، تبين لنا أن الترجمة ليست أبدًا بالمسألة الهينة، وهذا كله إن لم يتعمد المترجم الخيانة تعمدًا؛ كي ينقل شيئًا آخر غير ما في النص، وربما عكس ما في النص وكثيرًا ما يحدث هذا لغرض في نفس يعقوب، أو على الأقل قد يقتحم ذلك الميدان اقتحامًا دون أن يكون مؤهلًا له، فلا تكون معرفته باللغة التي يترجم منها كافية لتمكينه من أداء المطلوب، كما هو الحال في كثير ممن يتصدون لتلك المهمة الشاقة، ولا يأخذون في اعتبارهم حجم المشكلة التي يحاولون النهوض بأعبائها، وهذا أيضًا لون من الخيانة، وإن كان أقل في الفداحة من الناحية الخلقية من اللون السابق، ويدخل في الخيانة أيضًا أن يقوم شخص ما بالترجمة دون أن يبذل الجهد المطلوب الذي يستطيعه لو أراد.
ويقول "بروس ميتزجر" في دراسة له بعنوان: " Trials of the Translator": إن المترجم بالغًا ما بلغ الجهد الذي يبذله والتركيز الذي يقوم به، فإن النتيجة لا تأتي أبدًا وفاق المطلوب، ولا يمكن أن تحظى برضى الجميع فضلًا عن أن يكون الراضي هو المترجم ذاته إذا كان ذا حساسية وضمير، ذلك أن النص يحتوي في كثير من الأحيان على عدد من الشيات الدقيقة المتقاربة، وعلى المترجم أن يوازن بين تلك الشيات؛ ليختار منها ما يراه أقرب إلى ما في النص، ومن ثم يصف الساخرون عملية الترجمة بأنها فن القيام بالتضحية المناسبة.
كذلك وقعت على مقال في الترجمة الأدبية بقلم فرانسواز ويلمار ( Françoise Wuilmart) عنوانه: " La traduction littéraire bien comprise، وفيه أن الترجمة نوعان ترجمة
(1/58)
________________________________________
علمية، وتتطلب أقصى قدر من الحيادة والموضوعية، وترجمة أدبية وهنا مكمن الصعوبة، ذلك أن النص الأدبي إنما يعكس نظرة المبدع إلى الحياة والعالم وهي نظرة فردية ملونة تتمحور حول ذات صاحبها، فتعطي النص نكهته وصوته المتفرد، فضلًا عن أن النص في حد ذاته نسيج معقد من الكلمات، والروابط والتراكيب والإيقاعات والأنغام لا يقول كل شيء، بل أترك أشياء كثيرة لا يتحدث عنها حديثًا صريحًا، مكتفيًا بالإيماء والحديث الضمني.
ثم إن هناك عقبتين تواجهان المترجم في النصوص الأدبية هما الإطار الثقافي، الذي ينتمي إليه المبدع، واللغة التي يكتب بها يقصد اختلافهما عن نظيرهما عند المترجم، مما يجعل التقاطه لما في النص من شيات وتلوينات مسألة صعبة.
ومما يتناوله الأدب المقارن أيضًا كتب الرحلات، إذ إن هذا النوع من الكتب إذا كان يدور حول بلد أجنبي، فإنه يقوم بتقديم صورة لذلك البلد وشعبه للقراء المحليين، وهذا ميدان من ميادين الأدب المقارن، ومن ذلك على سبيل المثال صورة مصر في كتابات من زاروها، وكتبوا عنها من الأدباء الأوربيين مثل "جيرار دونلفال" و"فلوبير" من فرنسا، و"ريتشارد بير ستيوارت" من بريطانيا، أو صورة فرنسا في عيون الرحالة العرب، مثل: رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وأحمد زكي شيخ العروبة، ومحمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرزاق وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف فرنسيس، وغيرهم، فمثل هؤلاء الرحالة هم المِرآة التي عن طريقها تعرف أممهم البلاد والشعوب الأخرى، وإلا فمن أين يستمد القراء معلوماتهم وانطباعاتهم، وأحكامهم عن تلك البلاد والشعوب؟
(1/59)
________________________________________
لقد تركت "مدام دستيل" مثلًا بلدها فرنسا إلى ألمانيا أيام نابليون واستبداده، فجاءت كتاباتها عن ألمانيا عاكسة لمشاعرها الخاصة، إذ وجدت فيها جوًّا تتنفس فيه بحرية، فصورته بصورة مثالية وجعلتها جنة الباحثين عن تلك الحرية، وكان لتلك الصورة أثر قوي على قرائها الفرنسيين رغم ما فيها من افتقار إلى الدقة، ورغم ما يوشيها من مبالغة غير قليلة، وبخاصة أن الكاتبة لم تكن تختلط في ألمانيا إلا برجال الأدب ورجال السياسة هنا وهناك، وهؤلاء لا يمثلون الشعب الألماني كله في جميع حالاته، مثلما أن الأماكن التي اختلطت بهم فيها لا تمثل ألمانيا كلها، بل قطاعًا صغيرًا منها فحسب.
ويدرس الأدب المقارن صورة هذا البلد أو ذا في كتابة ذلك الأديب أو هذا، ثم يمضي فيتتبع تأثير تلك الصورة على كتابات الكتاب الآخرين في بلاده بغض النظر عن لون هذه الكتابات قصة كانت، أو رحلة أو شعرًا أو مسرحية مثلًا، وسواء زار أولئك الكتاب المتأثرون ذلك البلد، أو اكتفوا باستقاء صورته مما قرأه الأديب الذي تأثر به، ومن الطبيعي أن تجيء صورة البلد الذي كتب عنه أدباء من بلاد أخرى على غير الحقيقة، أو فلنقل: إن تلك الصورة لا بد أن تختلف من أديب إلى آخر تبعًا لاختلاف ظروف كل منهم عن ظروف الآخرين، إذ الحقيقة الكاملة المطلقة لأي شيء إنما يعلمها الله والله وحده، أما نحن البشر فلا نعرف منها إلا جانبًا واحدًا فقط، وملونًا في الغالب لون نفسياتنا ومواقفنا وثقافتنا وتجاربنا وتطلعاتنا ومخاوفنا إلى آخره، اللهم إلا ما كان متعلقًا بالأرقام الوقائع التي لا يمكن المماراة فيها وما أشبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/60)
________________________________________
الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية.
(1/61)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث
(العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية)

معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن
فنقول: العالمية: مصدر صناعي من كلمة عالَم وهي ترجمة لكلمة يونيفرساليزم، المأخوذة من كلمة يونيفرس، ومعناه العالم بمعنى الكون وإن كانت مستعملة هنا بمعنى المجتمع البشري على الأرض من باب إطلاق الجزء على الكل، والمفروض أن هذا المصطلح يومئ إلى الإخوة الإنسانية وما ينبغي أن يسود بين الناس من تفاهم، سبيله الحوار والتبادل الثقافي، وما إلى ذلك على أساس من المساواة بين البشر، ورجوعهم جميعًا إلى أصل واحد، وبخاصة في هذا العصر الذي قصرت فيه المسافات، وتقاربت المتباعدات.
ويقول الدكتور حسام الدين الخطيب في كتابه (الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة): إن فكرة العالمية ليست جديدة في التاريخ الإنساني، بل لعل الإنسان خُلق في الأصل عالميًّا، وهذا كلام لا غبارَ عليه إذا كان المقصود أن الله قد خلق البشر جميعًا من أصل واحد والماء والتراب، وأنهم ينتمون إلى أب واحد وأم واحدة هما آدم وحواء، وأنهم مهما اختلفت بهم الأوطان والأزمان لهم نفس الغرائز، ويتمتعون بنفس المواهب ولهم نفس المطامح والمخاوف، والأفراح والأحزان وأنهم خلقوا بنفس الملامح، لكن لا بد أن نعرف أن هناك دائمًا فرقًا بين الفكرة والواقع، فالأمر هو فعلًا كما قلنا إلا أن هذا لا يعني أن البشر يقبلون فكرة المساواة، ويتواضع بعضهم لبعض أو يسارع بعضهم لنجدة بعض على نحو تلقائي.
بل لا بد لذلك من تربية أخلاقية ومرانة طويلة، ثم إنهم بعد ذلك ورغم ذلك كثيرًا ما يفشلون عند أول منعطف إذ ينبغي حساب الأطماع والتنافسات
(1/63)
________________________________________
والرغبة بالتميز، والتسيد، وإيمان كل فرد أو فريق بأنه أفضل من غيره، كذلك لا ينبغي أن ننسى عامل البطء الشديد في وسائل المواصلات قبل العصر الحديث، مما كان يصعب جدًّا جدًّا قيام إحساس بالعالمية في ظله، ومن هنا فما كان أسهله بل ما أسهل الآن أيضًا أن تنشأ العداوات، وتشتعل الحروب وينسى الناس في غمرة هذا كلهم أصلًا واحدًا، وما يجب أن يسود بينهم من تفاهم وحب ومساواة وتعاون، وشعور بالأصل الواحد والمصير المشترك، رغم اختلاف الأوطان والأعراق والأديان والثقافات.
وعلى هذا، فإنني لا أستطيع أن أشاطر الدكتور الخطيب القول: بأنه على المستوى الديني والثقافي والفلسفي كان العالم القديم وحتى مطالع العصر الحديث عالمي الأفق إنساني الوجدان، ذلك أن الكلام هنا قد انتقل من ميدان الفكرة إلى ميدان الواقع، والواقع لم يكن بهذا الإشراق الذي توحي به العبارة، بل كانت هناك العداوات والحروب الشرسة الفتاكة، التي يجتهد فيها كل طرف لسحق الطرف الآخر، ألا يتذكر الكاتب الحروب الصليبية مثلًا التي أسال فيها الفرنجة دماء عشرات الآلاف من المسلمين، لا لشيء سوى أنهم يدينون بدين غير الدين الذي يدينون هم به؟ ألا يتذكر ما صنعه الإسبان بمسلمي الأندلس من قتل وسجن ونفي وتشريد، وإخراج من الوطن جراء اختلاف الدين؟ بل ألا يتذكر الحروب بين دول أوربا نفسها بسبب اختلاف المذهب الديني رغم اجتماعها على النصرانية دينًا القارة كلها؟
لا، بل إن هذه المشاعر التفريقية لا تزال لها السيادة في العلاقات بين الدول والشعوب، رغم انتشار أفكار العالمية وتزايد الشعور بأن الأرض قد سارت قرية واحدة، بسبب تقدم وسائل المواصلات المادية والفكرية وسرعتها الرهيبة.
(1/64)
________________________________________
وها نحن أولاء المسلمين نصلَى بعدوان الغرب على بلادنا في فلسطين والعراق وأفغانستان مثلًا منذ مدة، وتتهدم البيوت والمساجد والمدارس والجامعات، ويسقط القتلى من إخواننا في تلك البلاد وأمثالها بأعداد مرعبة، ويعتدي جنوده على أعراض نسائنا، بل ورجالنا أيضًا دون أي اعتبار لمفاهيم الإنسانية والعالمية وما إليها.
أما عن ارتباط العالمية بالأدب المقارن، فالآداب جميعها أيًّا كان مستوى مبدعيها من الحضارة والثقافة والإبداع الأدبي، هي نتاج إنساني يرتبط بطريقة أو بأخرى بغيره من الآداب، وعليه فمن المفيد معرفة الصلة التي تربطه بتلك الآداب الأخرى والمقارنة بينه وبينها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك ما يُعرف بعالمية الأدب، وهي شيء قريب مما نحن فيه، فما هي تلك العالمية؟
يقول الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن): إن عالمية الأدب معناها خروجه من نطاق اللغة التي كتب بها إلى أدب لغة أو آداب لغة أخرى، وهذه العالمية ظاهرة عامة بين الآداب في عصور معينة، ويتطلبها الأدب المتأثر في بعض العصور بسبب عوامل خاصة، تدفعه إلى الخروج من حدود قوميته؛ إما للتأثير في الآداب الأخرى، وإما نشدانًا لما به يغنى ويكمل ويساير الركب الأدبي العالمي.
وواضح أن الدكتور هلال يقصد هنا عملية التلاقح بين الآداب، وأخذ بعضها عن بعض بما يغنيها ويكسبها ما لم يكن فيها، وهذا من صميم الأدب المقارن.
على أن هناك معاني أخرى لتلك العالمية، منها ما قاله "جوته" ومَن ساروا على دربه من أن الآداب العالمية حين يتم تجاوبها بعضها مع بعض، لم تلبث أن تتوحد جميعًا في أجناسها الأدبية وأصولها الفنية، وغاياتها الإنسانية، بحيث لا
(1/65)
________________________________________
تبقى من حدود سوى اللغة، وما يمكن أن توحي به البيئة أو الإقليم، وهو ما ينكر الدكتور محمد غنيمي هلال إمكان تحققه في يوم من الأيام؛ لأن الأدب كما قال: هو قبل كل شيء استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية للوطن والقومية، وموضوعه تغطية هذه الحاجات، فهي محلية موضعية أولًا، وإن كان لا يمكن مع ذلك أن تشف هذه الحاجات عن غايات عالمية، ولكن من وراء التعبير عن المسائل والآمال والآلام القومية، وما يتبع ذلك من المواقف النفسية، والخواطر الذاتية التي لا بد أن تدل أولًا على حال المؤلف بوصفه مواطنًا أو فردًا من جماعة كبيرة.
فالآداب قومية وطنية أولًا، وهذا صحيح، فإن الأديب أي أديب لا يستطيع تجاهل ما هو موجود أمامه؛ لكي يسبح في بحار العالمية دفعة واحدة دون المرور بالمحلية التي هي جزء من الإنسانية، ومن ثم فهي العالمية مصبوغة بصبغة محلية، على أن الأديب الكبير لا يفنى في العنصر المحلي جاعلًا إياه كل وقده، بل يتخذه نقطة انطلاق نحو الأشواق والأحزان والأفراح الإنسانية، وتصويرها بعمق من خلال هذا العنصر، كما فعل ويفعل كل أديب عبقري.
ومن العرب يمكن أن نضرب المثل بالروائي الكبير نجيب محفوظ، الذي يرسم من خلال أحياء القاهرة المعزية ما يشغل الإنسان في كل زمان ومكان، بحيث يجد القراء على اختلاف بيئاتهم وأوطانهم ولغاتهم أنفسهم فيه، ويتفاعلون بقوة مع ما يبدع رغم أنه إنما يتحدث بالأساس عن الناس في بعض أحياء القاهرة، ويعترض فيما يبدو الدكتور حسام الدين خطيب على هذا الموقف الذي اتخذه الدكتور محمد غنيمي هلال، إلا أن اعتراضه ليس من الوضوح بحيث يمكن مناقشته، حتى إنه ليبدو لي أن في كلامه بعض التناقض حين يعود، فيورد بعد قليل إيراد الموافق رأي "هنري كبروس" من أن جانبًا كبيرًا من كلام
(1/66)
________________________________________
"جوته" يتحقق في عصرنا الحالي، من خلال الترجمات العالمية إلى اللغة الإنجليزية بوجه خاص، في حين أن جانب انحسار الأدب القومي غير صحيح، فالآداب القومية تبدو مزدهرة اليوم إلى جانب الأدب العالمي.
ويزيد المسألة غموضًا أن ما قاله "بيروس" طبقًا لما نقله عن الدكتور الخطيب ليس هو ما قصده جوته كما هو واضح، إذ إن ترجمة الأعمال الأدبية المختلفة القومية إلى لغة واحدة كالإنجليزية، تحظى بالانتشار الهائل في العصر الحديث مثلًا لا يحقق لتلك الأعمال بالضرورة ما أراده "جوته" من توحد أجناسها الأدبية، وأصولها الفنية وغاياتها الإنسانية، بحيث لا تبقى من حدود سوى حدود اللغة، وما يمكن أن توحي به البيئة والإقليم، ذلك أن ترجمة تلك الأعمال إنما تتيح لها الفرصة نحو قدر أعظم من الانتشار فحسب، ليس ذلك فقط بل إن كلام "جوته" عن أنه لم يبق في هذه الحالة سوى اللغة غير متحقق في الحالة التي نحن بصددها، إذ إن ترجمة الأعمال المذكورة إلى لغة واحدة قد أسدل ستائر النسيان على اللغة القومية بالنسبة إلى القراء الجدد؛ لأن القراء في هذه الحالة سوف يقرءون تلك الأعمال في غير رواتها.
أما الدكتور الطاهر أحمد مكي فيقول: إن "جوته" قد أعاد النظر في معنى عالمية الأدب، إذ رجع فوضح أن الفكرة التي ينادي بها ليست في أن تفكر الأمم بطريقة واحدة، وإنما عليها أن تتعلم كيف تتفاهم فيما بينها، وإذا لم يكن يعنيها الحب المتبادل، فلا أقل من أن تتعلم كيف تتسامح، فالحمد لله الذي جعل الفيلسوف والأديب الجرماني يرجع إلى ما يمكن وقوعه بدلًا من التعلق بأهداب ما يبدو مستحيلًا لا يُستطاع تحقيقه.
وثم معنى ثالث لمفهوم العالمية، ألا وهو بلوغ بعض الأعمال الأدبية مستوى فنيًّا ومضمونيًّا سامقًا بحيث يقبل عليها النقاد والقراء من مختلف دول العالم،
(1/67)
________________________________________
ويجدون فيها المتعة والفائدة ويتفقون على أنها أعمال متميزة على مستوى العالم، لكن كيف تصل تلك الإبداعات إلى أيدي القراء من مختلف دول العالم، ليس هناك من سبيل إلا الترجمة، فهي وسيلة المواصلات التي تنقل تلك الأعمال إلى القراء، لكن من يقوم بهذه الأمة؟ إنهم ناس من الناس يخضعون لما يخضع له الناس عادةً من كسل وهوى وتعصب، واعتبارات سياسية أو دينية أو أدبية، ومن ثم فمن الممكن أن تترجم أعمال لا ترقى إلى المستوى العالمي، وتهمل أعمال أخرى رغم قيمتها الفنية والإنسانية العالية. ومعروف ما تفعله المؤسسات الغربية الثقافية والسياسية مع أدباء العالم الثالث، إذ تقرر من ينخرط في خدمة مخططاتهم، وتغدق عليهم نفحاتها، في الوقت الذي تضرب فيه صفحًا عمن يتأبى منهم على ذلك ويخلص لوطنه ودينه.
وترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغات الواسعة الانتشار والكتابة عنها، والإشادة بها وبأصحابها، وتلميع أسمائهم، هي من باب المكافأة في هذا المضمار، ويتحدث الدكتور حسام الدين الخطيب عن تأثير المركزية الأوربية في ذلك الميدان، إذ ما أسرع أن تترجم وتختار للقراءة في كتب المختارات إبداعات الإغريق والرومان، وسائر الإبداعات الأوروبية المعاصرة، في الوقت الذي يندر فيها ترجمة إبداع لأي عربي أو مسلم.
ونكرر نحن ما قلناه لتونا من أن الأدباء العرب والمسلمين الذين يحتفى بهم عادة هم أولئك الذين يكتبون على هوى الغربيين، فيتناولون موضوعات بعينها كالإباحية الجنسية والشذوذ والتمرد والإلحاد، والتغريب في المجتمعات العربية الإسلامية، ويدعون إلى قيم تتصادم وقيم الإسلام، ويتداعون إلى نصرتها بدعوى حرية الفكر والتعبير، وأن الأدب يعلو ولا يعلَى عليه، فلا ينبغي من ثم أن يخضع لأية قيمة دينية أو أخلاقية وهكذا.
(1/68)
________________________________________
ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات
والآن ما الذي ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في هذا السياق؟
الواقع أن المقارن الغربي ينبغي أن يعلو فوق مثل تلك الاعتبارات لو أراد أن يكون مقارنًا محترمًا، فيبحث عن الإبداعات غير الغربية ويسلط عليها الضوء دون أن يقيم للاعتبارات، التي تناولناها لتونا أية أهمية، بل يعتمد على ما يمليه ضميره المخبي، وذوقه الفني، وميزانه الإنساني المستقيم، وإذا وجد إبداعًا راقيًا أشاد به بغض النظر عن أي شيء آخر، إذ لا ينبغي أن يكون لديه ابتداء أي مانع من أن يكون الإبداع غير الغربي أفضل من نظيره الغربي المشابه له.
ومن جهة أخرى نبه الدكتور محمد غنيمي هلال إلى معنًى مهم حين قال: إن عالمية الأدب في معناها الذي شرحناه، وهو خروج الآداب من حدودها القومية؛ طلبًا لما هو جديد مفيد تخدمه وتتغذى به، واستجابة لضرورة التعاون الفكري والفني بعضها مع بعض، لها أسسها العامة، والتي تحدد سيرها. ثم مضى يذكر أهم تلك الأسس، ومنها أنه ينبغي للأديب المتأثر البحث أثناء عملية الاختيار، التي يقوم بها بُغية النهوض والتقدم عما يساعده في بلوغ هذا الهدف، ويعصبه من التردي فيما يضيره، ومنه الحفاظ على اللغة القومية، والخصائص العبقرية للأدب القومي، فلا يكون نقد الأدب القومي عن الآداب الأخرى تقليدًا أعمى، يمحو أصالته ويربطه برباط التبعية والعبودية لتلك الآداب.
وهو يرى أنه لا بد من التلاقح مع الآداب الأخرى؛ لأن أي أدب قومي لا يمكنه الاستقلال التام عن الآداب الأخرى، بل لا بد له من العطاء والأخذ وإلا أصابه الركود والعطل.
(1/69)
________________________________________
وفي ذات الوقت ينبه الدكتور هلال إلى أنه ينبغي للأدباء والنقاد والقراء، ألا يتطرفوا في أي من الاتجاهين: اتجاه الحرص المبالغ فيه على التقاليد، أو اتجاه التطرف والتمرد على كل قديم، ونحن نوافقه في هذا، وعلى أهل كل أدب أن يزنوا الأمور في هذه الحالة بميزان العقل المستقيم، والذوق السليم متسلحين بالثقة بالنفس وسعة الأفق، والحرص على الذاتية التي تميز الأدب القومي التمييز الذي يفتخر به، دون تعصب مطلق لكل ما فيه حتى لو ثبت ضرره، وكذلك دون التعبد لما عند الآخرين لمجرد أنه غربي؛ حتى لو ثبت أنه خالٍ من القيمة، وهذا يجرنا إلى الحديث عن المثاقفة بين الآداب، أي: أخذ الثقافات والآداب بعضها عن بعض؛ بُغية التجديد والتطوير والتحسين، ومعروف أنه لو بقي الماء في مكانه دون حركة ودون تجدد لصار راكدًا تعافه النفس، بل ضارًّا يؤذي، وهذه المثاقفة من شأنها أن توسع الأفق، إذ ترينا كيف أن الأذواق والأوضاع والقيم الأدبية تختلف من أدب إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، رغم أن هناك أشياء مشتركة كثيرة أيضًا.
وهذا الاختلاف دليل على ثراء الحياة وعلى غنى القدرة الإلهية المبدعة التي لا تنفد ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، وفي القرآن الكريم آية تقول عن البشر: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119) وهذه الآية وإن كانت تتعلق بالأديان واختلافها، واختلاف الناس بشأنها، من ثم من الممكن الاستشهاد بها هنا، فالاختلاف بين البشر لا يقتصر على الأديان، بل يشمل كل شيء يتعلق به، إنه سنة بشرية مثلما التشابه في بعض الجوانب سنة بشرية أخرى، ولا شك أن اطلاعنا على ما عند غيرنا، وتحققنا من أنه يختلف كثيرًا أو قليلًا عما عندنا، جدير أن يعمق فهمنا للحياة والأحياء، ويوسع مداركنا ويجعلنا نتقبل الآخرين، ونتفهم حقيقة اختلافهم عنا فنكون أرحب صدرًا، وأقدر على
(1/70)
________________________________________
التسامح مع تمسكنا بما لدينا في ذات الوقت، وإلا تحول الأدب المقارن نقمة وأذى إذا كانت ثمرته تمييع مواقفنا، والانتهاء بنا إلى العجز عن اتخاذ موقف ثابت نابع من إيمان حقيقي بفائدة ما في أيدينا وصحته وحقيته.
هذا، ويحرص الغرب على نشر ثقافته وآدابه في العالم على حساب الثقافات والآداب الأخرى، وهو ما يسمى بالاختراق الحضاري، أي: العمل على غزو الشعوب الأخرى غزوًا ثقافيًّا وأدبيًّا لطبعها بطابع غربي؛ كي يسهل انقيادها وشعورها بأنها تابعة للغرب، فلا تبدي مقاومة لمخططاته في إخضاعها سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، ومن ثم لا يحتاج إلى جيوش يجيشها، وأموال ينفقها وجنود وضباط تزهق أرواحهم في المواجهة بين المقاومة الوطنية وجيوش احتلاله.
يقول الدكتور حسام الدين الخطيب: إنه ينبغي الاعتراف بأن الذي تغير اليوم هو الوعي العالمي العام؛ لأن النموذج الغربي متفوق حقًّا في مختلف مجالات الثقافة والعلم والإنتاج، والقوة المادية والاتصال وغزو الفضاء، ولكن له مشكلاته ونقائصه وتناقضاته، ولا سيما بين المثل الأعلى المعلن والمثل غير الأعلى للهيمنة والسيطرة والاستلاب؛ ولذلك ينبغي أن يكون الموقف منهم حذرًا وانتقائيًّا، وغير مبني على الانبهار والتسليم الأعمى، كما أن هناك شيئًا آخر مهمًّا قد تغير في مجال المقارنة مع المركزية الأوربية، وهو الاعتراف الضمني أو الصريح بعظمة حضارات العالم القديم في أفريقيا وآسيا، والتسليم بما قدمته هذه الحضارات، ومنها الحضارة العربية الإسلامية من إسهام مباشر أو غير مباشر في مسيرة الحضارة الإنسانية.
وهنا أيضًا يقتضي الإنصاف منا الإشارة إلى أن عددًا لا يستهان به من مثقفي الغرب، وعلمائه وأدبائه أسهموا في دعم هذه الفكرة ونشرها، وإلى جانبها فكرة أصالة الإنتاج الفني والأدبي الراهن في بلدان العالم القديم، أو بلدان
(1/71)
________________________________________
الجنوب، وضرورة وضعه في واجهة لائحة التثقيف اليومي للأديان من جهة، والاستعانة به من جهة أخرى؛ لترسيخ النزعة الإنسانية والفطرية لدى جمهرة المتلقين في العالم، ومثال ذلك رسالة منظمة اليونسكو، ولا سيما في مجال إحياء الثقافات المستضعفة، وإعادة بناء قائمة الروائع الأدبية العالمية بحيث تشمل منجزات العالم القديم الثالث.
وكل هذه التغيرات تصب في صالح المقارنة؛ لتجعل منها رافدًا فعَّالًا من روافد الصبوة العريقة للاتجاه نحو بناء حضارة إنسانية منسجمة مع ذاتها ومثلها، وغير قائمة على التناقضات، والتمييز بين الأنا والآخر، وهذا الكلام مأخوذ من مقال للدكتور الخطيب بعنوان: الأدب المقارن في عصر العولمة تساؤلات لاتجاه المستقبل، وهو منشور على المشباك أي: الإنترنت.

خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن
وبالنسبة إلى خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن، نقول:
إنه لمن الواجب على المقارن العربي المسلم أن يتنبه إلى أن هناك فروقًا بين عاداتنا وتقاليدنا وعقيدتنا وأخلاقنا وأذواقنا، وبين نظيراتها عند الأمم الأخرى، وأن كل ذلك من شأنه على نحو أو على آخر أن يطبع كل أدب بطابعه، وعلى هذا فلا بد عند الأخذ من الآداب الأخرى أو دراسة هذا الأخذ أن نكون على بصيرة ووعي كاملين بها فلا نترامى على آداب الآخرين فرحين بتقليدها، والنقل عنها باعتبار ما ننقله شيئًا جديدًا، وبخاصة إذا كان خاصًّا بأمة من أمم الغرب القوية المتقدمة في عصرنا، ظنًّا منا أننا حين ننقل عن أي من تلك الأمم، فإننا بهذه الطريقة نلحقها ونسايرها في تقدمها وقوتها، إذ ليس كل ما يقدمه الغرب سليمًا دائمًا فضلًا عن أن يكون نافعًا، وبالذات لنا نحن الذين نختلف عنه في أشياء غير
(1/72)
________________________________________
قليلة، رغم ما يوحدنا معه، ومع كل البشر من الملامح الإنسانية المشتركة بين الشعوب والأمم الأخرى.
ذلك أن هذه الاختلافات هي التي تشكل هويتنا وذاتيتنا، ونحن حين نقول ذلك لا نقوله على سبيل الشغب والمكابرة والرغبة في المخالفة، بل نقول ما يعرفه الغرب ذاته، ويحرص عليه أشد الحرص حين يكون الأمر متعلقًا به، وبهويته الحضارية والثقافية، لكنه بالنسبة لنا لا يريدنا أن نتذكره فضلًا عن أن نتمسك به ونناضل من دونه، وثم كتاب للمرحوم أنور الجندي عنوانه (خصائص الأدب العربي في مواجهة نظريات النقد الأدبي الحديث)، عمل فيه كل ما بوسعه؛ كي يستفزنا إلى البحث عما يغني أدبنا، ويحافظ على أصالته وقيمه الخيرة، وينفي عنه أوضار التقليد الضار، الذي يضيع معالمه ويفسدها ويحمله ما لا نرضاه له من مضامين مؤذية، تتنافَى وقيمنا الإسلامية الكريمة.
وهنا يأتي دور التراث إذ هو الخزانة التي نعول عليها في صد ما يتنافى وقيمنا الخيرة، مما يفد علينا من الآداب والثقافات الأخرى، ولكن قبل أن نلجأ إلى مخزوننا التراثي هذا، علينا أيضًا واجب جد هام، ألا وهو النظر في هذا التراث، وموقفنا في هذا السياق هو وجوب وضع هذا التراث في كل عصوره تحت المجهر، فما كان في مضامينه متفقًا مع قيم الخير والجمال والحق قبلناه، وما لم يكن قلنا فيه رأينا بمنتهى الصراحة، واستنكرنا ما تضمنه من قيم الزيف والتشويه والأذى، على أن يكون مرجعنا في هذا هو الإسلام وقيمه ومبادئه، وليس معنى ذلك أننا ننادي بتحويل الأدب العربي إلى مواعظ ونشرات دينية، بل معناه أن نترك للأديب الحرية كاملة داخل ذلك النظام القيمي الإسلامي، فلا يناقضه ولا ينقضه، وهو حر بعد هذا يتناول من الموضوعات ما يشاء على النحو الفني الذي يشاء، أي: أننا في الوقت الذي لا نوجب على الأديب مثلًا أن يأمر الناس
(1/73)
________________________________________
بالصلاة لا نقبل منه أن يكتب قصيدة أو قصة أو غير ذلك من الإبداعات الأدبية، يحرض الناس فيها على ترك الصلاة أو يسخر من المصلين وهكذا.
قد يقال: إن الأدب والفن لا يزدهران إلا في جو الحرية، فنجيب بأن الحرية المطلقة لا وجود لها في أي مكان من العالم، والذين ينادون بهذا إنما يريدون التفلت من قيم الإسلام إلى قيم أخرى يريدون نشرها تحت ستار حرية التعبير، وهذا واضح مفهوم رغم كل الغبار، الذي يثيره هؤلاء في أعيننا؛ كي لا نطلع على ما يخططون له.
ومن الناحية اللغوية فالمعروف أن العربية الفصحى كانت هي أداة الإبداع العربي على مر العصور لا يعرفوا أداة غيرها، اللهم إلا في الزجل الأندلسي تقريبًا، وفي بعض خرجات الموشحات الأندلسية، التي قد تختلط فيها بعض الكلمات الأجنبية بالكلمات العامية، ثم جاء العصر الحديث فأثيرت مسألة الكتابة بالعامية، وتولى كبر الدعوة إليها على حساب الفصحى طائفة من عتاة المستشرقين، الذين لا تهمهم المسألة في ذاتها قليلًا أو كثيرًا، لكنهم إنما كانوا يرمون من وراء ذلك إلى القضاء على لغة القرآن؛ لتمزيق الروابط التي تصلنا بالتراث، وبكتاب الله وأحاديث رسول الله، ومن ثم ننسلخ عن ماضينا وهويتنا، ونضحي أمساخًا مشوهةً، لا هم لها إلا تقليد الغرب في كل شيء، ثم سرعان ما رأينا بعض الكتاب من الأدباء والنقاد يزينون لكتاب القصص والمسرحيات اصطناع العامية في الحوار، بحجة الحفاظ على الواقعية وصدق التصوير.
ثم تتابعت الكتابات التي تصنع ذلك، وكثرت نسبيًّا، وإن كان هناك في ذات الوقت أدباء كثيرون، وبخاصة ذوي المقامات والمواهب العالية لا يزالون يلتزمون
(1/74)
________________________________________
الفصحى في كل شيء سردًا وحوارًا ووصفًا، فهذه سمة من سمات الأدب العربي التي ينبغي الحفاظ عليها، وعدم التهاون فيها وسمة أخرى لذلك الأدب ينبغي الحفاظ عليها، ألا وهي ألا تقوم بين المبدع والقارئ تلك الأسوار العالية الصلبة التي لا يمكن اختراقها، وبالتالي لا يمكن أن يفهم القارئ إبداع المبدعين، لقد كان الشاعر العربي على مر العصور حريصًا على أن يكون واضحًا مفهومًا، فلا استغلاق في شعره ولا إلغاز، اللهم إلا في العصور المتأخرة حين يتعمد بعضهم النظم في لغز تعمدًا تسلية للقارئ ليس إلا.
أما في العصر الحديث، فكما سبق القول: أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته؛ وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية، وتأثرنا نحن بها، تلك المذاهب التي يرجعها المرحوم أنور الجندي إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوب والعواصف، والليل البهيم المرتبط بالأساطير والرمزية على عكس طبيعة بلاد العرب، التي ينتشر فيها النور والشمس والضوء، وينكشف فيها الأفق تمامًا، ومن ثَم عجزت الأساطير والرمزيات وأدب الظلال أن تجد لها مكانًا عندنا.
ومن المضحك أن بعض الشعراء والأدباء العرب يزعمون تقليدًا منهم لما يقرأونه في النقد الغربي أن الشعر الواضح لا يمكن أن يكون شعرًا حقيقيًّا، إذ لا بد من المعاناة في قراءة الشعر وفهمه، بل لقد يقولون: إن الشعر لا يكتب ليفهم، بل ليشعر به ليس إلا، وليت شعري!! كيف يستطيع الإنسان أن يتمتع بشعر لا يمكن فهمه؟! إن تلك المزاعم العجيبة تناقض طبيعة العقل البشري، الذي يقول: إنه في مجال الأدب لا يمكن أن يتذوق القارئ أو السامع أي إبداع ما لم يفهمه أولًا ولو على نحو مقارن، أما مع غموضه واستغلاقه، فهذا ما لا يمكن أن يكون،
(1/75)
________________________________________
وهكذا ينبغي أن يكون كل من الأديب الذي يأخذ عن الآداب الأخرى، والدارس المقارن الذي يتناول بالبحث هذا الأخذ عن الآداب الأخرى، على ذكر من هذا كله؛ حتى لا تنجر قدماه إلى الرمال المتحركة المهلكة، وهو يظن أنه سائر في الطريق والاتجاه الصحيحين دون أن يعرف أنه إنما يسيء صنعًا.

الشعر والقصص
وأما من ناحية الأجناس الأدبية فلدينا في تراثنا الشعر والقصة والمقامة والخطبة والرسالة والرحلة إلى آخره، ولسوف نقصر الكلام على الشعر والقصص مجتزئين بهما عن سائر الفنون:
ونبدأ بالكلام عن الشعر الذي كان كله حتى العصر الحديث شعرًا غنائيًّا "لرك" كما هو معروف، وكانت القصيدة في بداية أمرها ولعدة قرون تتكون من أبيات كل منها ينقسم إلى شطرين متساويين، ويختلف عدد أبيات كل قصيدة عن الأخرى بدءًا من سبعة أبيات؛ لأن ما دون ذلك يسمى مقطوعة أو نتفة إلى بضع عشرات منها غالبًا، وإن أطال بعض الشعراء كابن الرومي قصائدهم أحيانًا إلى بضع مئات من الأبيات.
كما كانت القصيدة تجري من أولها إلى آخرها على وزن واحد في شكل واحد من أشكاله، وعلى قافية واحدة مهما طالت أو قصرت، ثم ظهرت الموشحات بعد بضعة قرون، وازدهرت في الأندلس ازدهارًا واسعًا، وظهرت كذلك الرباعيات والمزدوجات والمخمسات، وما إلى ذلك، ولكن الشعر العربي في كل هذا كان يصب في البحور الخليلية، أيًّا كان الشكل الفني الذي يصب فيه، سواء كان قصيدة أو موشحة أو رباعية إلى آخره.
(1/76)
________________________________________
ثم عرفنا في العصر الحديث ما يسمى بالشعر الجديد أو شعر التفعيلة، الذي يقوم على نظام السطور لا الأبيات، حيث يتكون كل سطر من تكرار تفعيلة بعينها تكرارًا اعتباطيًّا، فمرة يكون السطر عبارة عن تفعيلة واحدة، ومرة يكون ستًّا أو سبعًا أو ثلاثًا أو اثنتين حسبما يعن للناظم أن يقف، ويستأنف نظمه في سطر جديد، وأحيانًا ما يكون في القصيدة الواحدة أكثر من تفعيلة، وعلى ذات الشاكلة تفتقر القصيدة التفعيلية إلى نظام قافوي معروف، إذ الشاعر حر في أن يقفي متى شاء، وأن يترك التقفية متى شاء، مثلما يمكنه التنويع في القافية على النحو الذي يشاء.
ومن هنا خفت نغم القصيدة، وظل يخفت رويدًا رويدًا حتى مات في كثير من القصائد، فانتفى عنها الشعر، وأضحينا أمام جثث يزعم أصحابها ومن يرافؤنهم من النقاد على هذا العبث، والإفساد المزاعم الطويلة العريضة التي تصم الآذان، إلا أنها لا تجدي فتيلًا إزاء تلك الجثث التي خلت من الحياة والحيوية، فإذا أضفنا إلى هذا ما أصبح ملمحًا بارزًا من ملامح كثير من نصوص هذا الشعر في الفترة الأخيرة، وهو الغموض الذي يبلغ حد الاستغلاق تبين لنا حجم الكارثة، التي نزلت بالشعر العربي على أيدي هؤلاء المغرمين بالتدمير والتجريف، في الوقت الذي يملأون الدنيا صياحًا بأنهم إنما يعملون على إنقاذ الشعر العربي من المأزق الذي وقع فيه، على حين هم أنفسهم مأزق هذا الشعر، ومصيبته وبلواه، إذ صار الشعر على أيديهم فاقدًا للمعنى، والوزن والقافية، واقترب في حالات كثيرة من الهلوسات والبهلوانيات.
فإذا اعترضت بأن هذا ليس بشعر أجابوك بأن الشعر لم يخلق ليقول شيئًا، بل ليلعب الشعر بالكلمات وحسب، ومع هذا، فلهم مغرمين غرامًا عجيبًا بإذاعة
(1/77)
________________________________________
شعرهم، كما تراهم يتهافتون أشد التهافت على النقاد؛ ليكتبوا عنه وعنهم، وكثيرًا ما نرى أولئك النقاد الذين يزعمون أن لغة الشعر ليست للتوصيل، ولا للتواصل، وهم يجحرون ويتصببون عرقًا في تفسير ما يقصده الشاعر من معنى، وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهم عن فن الشعر.
أما في نصوص هذا الصنف من الشعراء، التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا، فقد انحدرت في كثير من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية، التي نعتز بها كل الاعتزاز، نعم، قد انتهى الشعر العربي أو كاد أن ينتهي في أيدي هؤلاء الشعراء إلى طريق مسدود بعد أن قضوا على كل ما هو نضر فيه، فلم يعد له في معظم ما يكتبون معنًى ولا نغمًا، ولا فيه شعور، وأضحى كنشارة الخشب على القارئ أن يمضغها ويتجرعها، ويعمل المستحيل كي يسيغها. وهيهات ثم هيها!!
وبالنسبة إلى موضوعات القصيدة كان هناك المديح والهجاء والرثاء والخمر والحماسة والغزل والغلمان إلى آخره، ولم تكن كل هذه الموضوعات موجودة منذ البداية، فالمديح مثلًا لم يظهر إلا في أواخر العصر الجاهلي على حين أن شعر الغلمان لم يعرفه العرب، إلا في العصر العباسي بتأثير فارسي حسبما لاحظ الدارسون، كذلك جد في العصور العباسية المتأخرة شعر التصوف والمدائح النبوية، وهو ما لم يكن يعرفه الشعر العربي قبل ذلك تقريبًا.
ولم تعرف القصيدة العربية باختصار على الغزل أو وصف الخمر إلا في العصر الأموي، كما غلب على القصيدة العربية في نصوصها المبكرة تعدد الموضوعات، أما بعد ذلك فما أكثر ما وجدنا القصيدة تنفرد بموضوعها لا يشركه فيها موضوع آخر، لكن ذلك لم يصبح ملمحًا ثابتًا للقصيدة العربية، إلا في العصر الحديث، ومن
(1/78)
________________________________________
ناحية تمييز القصائد بعضها عن بعض لم يكن هناك عناوين للأشعار على خلاف النثر من كتب ورسائل وقصص إلى آخره، وكانوا إذا أرادوا أن يشيروا إلى قصيدة من القصائد المشهورة قالوا: بائية أبي تمام، وسينية البحتري، ونونية ابن زيدون، وميمية المتنبي، على رغم أنه قد يكون للشاعر أكثر من قصيدة على هذا الحرف، ذلك أن شهرتها تدفع الذهن إلى ناحيتها دفعًا، فيعرف السامع أو القارئ أن المقصود بها هو تلك القصيدة لا غيرها من القصائد، التي على نفس رويها، أما في القصائد الأخرى، فكان يقدم لها عادة بعبارة وقال يمدح أو يهجو أو يرثي فلانًا، وهذا كل ما هنالك.
ولكن الأمر اختلف في العصر الحديث بتأثير الشعر الغربي، الذي كانت قصائده تعرف العناوين من قبل اتصالنا به، فعرفت قصائدنا العناوين هي أيضًا، وبخاصة أنها أمست لا تدور حول أكثر من موضوع واحد، كذلك دخل شعرنا ما يسمى بالقصائد والأناشيد الوطنية، وهو موضوع لم يعرفه الشعر العربي إذ لم يكن المسلمون ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم شعوبًا وأوطانا متميزة، بل على أنهم جميعًا يمثلون أمة واحدة رغم اختلاف الديار والحكام، وبالمثل استجد شعر التأملات الفكرية والاستبطانات النفسية، والتهاويم الذهنية، وكذلك الاستعانة بالأساطير الوثنية الشرقية والإغريقية، مما لم يكن الشعراء العرب يفكرون فيه.
وفي ميدان الغزل كان هناك الغزل العفيف والغزل المفحش، والغزل المعتاد الذي يتغنى بالمرأة وبجمالها، وما يفعله هذا الجمال بالقلوب واصفًا جسد المرأة دون إفحاش رغم ذلك، وكان هناك كذلك الغزل بالغلمان، الذي قد يكتفي فيه الشاعر بالحديث عن هيامه بغلام من الغلمان، وتصوير سدود ****** والعذاب، الذي يصطليه جراء ذلك غير متحرج في تلك الأثناء من وصف جماله ووجه الفتنة فيه.
(1/79)
________________________________________
وقد يمضي أبعد من هذا كما فعل أبو نواس في بعض أشعاره؛ فيصل إلى حد التقزيز ومثله الهجاء، إذ كان منه هجاء بالأحساب أو بالعيوب النفسية والخلقية، كما كان الحال في الجاهلية، ومنه الهجاء بالعيوب الجسدية، ومنه الهجاء السياسي، وقد بدأ في العصر الأموي، ومنه الهجاء بالكلام البذيء، وهو ما عرفه الشعر العربي في العصر العباسي، وفي ميدان الخمر كان هناك من يجاهر بشربها، وبأنه يجد لذة في ارتكاب معصيتها غير مبال بشيء، ومن كان يلم بالإشارة إليها مكتفيًا بذلك مما يمكن أن يكون معناه أنه لم يكن من شاربيها، بل يجري على تقليد فني لا أكثر ولا أقل، ومن لا يأتي على ذكرها من قريب أو بعيد.
وفي ميدان المديح كان هناك الشعراء المعتدلون، كما كان هناك المغالون الذين قد يخرجون بممدوحيهم من نطاق البشرية؛ فيخلعون عليهم بعض الصفات الإلهية، كما هو الحال في مدائح ابن هانئ الأندلسي للمعز لدين الله الفاطمي بتأثير من العقيدة الإسماعيلية، التي كان الشاعر وممدوحه يعتنقانها، وإن لم ينتشر هذا اللون الجامح السخيف من المدائح، لكن الغالب في كل ذلك هو التمسك حقيقة أو ادعاء صراحة، أو ضمنًا بقيم الإسلام ومبادئه؛ حتى إننا لا نجد شيئًا من الشعر يعلن فيه الشاعر كفره أو ينال من الإسلام وتاريخه، فضلًا عن أن يصدر منه في حق النبي والصحابة أية إساءة، أما من كان يصر على أن يعرف الناس عنه أنه يشرب الخمر ويتفانى في شربها، فإنه كان يريد استفزاز الناس من حوله لوجدانه لذة في ذلك، لا إعلان تمرده على أحكام الدين ورغبته في التفلت من شرائعه.
على أن الشاعر في هذا كله كان حريصًا على أن يكون واضحًا مفهومًا، فلا استغلاق في شعره ولا إلغاز، اللهم إلا في العصور المتأخرة حين يتعمد بعضهم
(1/80)
________________________________________
النظم في لغز تعمدًا، كما قلنا، أما في العصر الحديث فحسبما سبق القول أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته، وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية، وتأثرنا نحن بها تلك المذاهب، التي يرجعها المرحوم أنور الجندي إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوب والعواصف، والليل البهيم المرتبط بالأساطير والرمزية، على عكس طبيعة بلاد العرب، التي ينتشر فيها النور والشمس والضوء، وينكشف فيها الأفق تمامًا، ومن ثم عجزت الأساطير والرمزيات وأدب الظلال أن تجد لها مكانًا عندنا طبقًا لما يقول.
أما الفن القصصي وكان مزدهرًا في الأدب العربي على مدار تاريخه الطويل، فلم تقم حوله حركة نقدية، كالتي قامت حول الشعر بل ليس هناك فيما نعرف كتاب واحد مخصص للنقد القصصي، وكل ما يمكن أن نخرج به في هذا المجال لا يعدو شذرات، ونذرات عارضة هنا وهناك، إن العرب القدماء لشديد الأسف لم يهتموا بالتقعيد لفن القصص، كما صنعوا مع الشعر والرسائل والخطب رغم أنهم أبدعوا قصصًا كثيرًا ومتنوعًا رائعًا، ولسنا ندري السبب في أن الجاحظ أو أبا هلال العسكري أو قدامة أو ابن الأثير أو الصفدي أو أحدًا من أدباء المقامة، لم يحاول أن يقنن لنا المواصفات والقواعد التي تحكم ذلك الفن مثلًا، لقد كانوا يعرفون الفن القصصي من قبل الإسلام، فضلًا عن أنهم ترجموا بعد الإسلام كثيرًا من القصص الأجنبي من الفرس والهند مثلًا، إلى جانب ما أبدعته يراعاتهم إبداعًا، ليس ذلك فقط، فقد رأيناهم يعجبون بالمقامات وغيرها من ألوان هذا الفن، إلا أن ما كتبوه في باب الإعجاب لا يزيد على العبارات الانطباعية التي تخلو من التقعيد والتحديد والتفصيل.
(1/81)
________________________________________
ولعل هذا الصمت النقدي هو الذي دعا بعض الكتاب منا ومن المستشرقين إلى الادعاء بأن العرب لم يعرفوا قبل العصر الحديث الفن القصصي قبل أن ينقلوه عن الغرب إثر اتصالهم به في نهضتهم الحديثة، وهذا الرأي رأي فطير متسرع، ففي التراث الأدبي الذي خلفه لنا أسلافنا قصص كثير منه الديني، ومنه السياسي، ومنه الا جتماعي، ومنه الفلسفي، ومنه الوعظي، ومنه الأدبي، ومنه ما وضع للتسلية ليس إلا، ومنه الواقعي، ومنه الرمزي، ومنه المسجوع المجنس، ومنه المترسل، ومنه المحتفَى بلغته، والبسيط المنساب، ومنه الطويل مثل (رسالة النمر والثعلب) لسهل بن هارون، و (رسالة التوابع والزوابع) لابن شهيد، و (رسالة حي بن يقظان) لكل من ابن سينا وابن الطريد والسهروردي، و (قصص ألف ليلة وليلة)، و (سيرة عنترة)، و (سيرة سيف بن ذي يزن)، ومنه القصير كالحكايات التي تغص بها كتب الأدب والتاريخ المختلفة، وجمع طائفة كبيرة منها محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البيشاوي، ومحمد أحمد جاد المولى، في أربعة مجلدات كبار، بعنوان (قصص العرب) و (كليلة ودمنة) لابن المقفع.
ونحن مع المرحوم أنور الجندي أيضًا في استنكاره الشديد للمحاولات التي يبذلها بعض الكتاب لإحلال العامية محل الفصحى في كتابة الحوار القصصي والمسرحي، وإن زاد بعضهم في الطنبور نغمة فنادوا بأن تشغل العامية موضع الفصحى في كل مجالات الكتابة، إن هؤلاء إنما يتغيون ما يتغياه أولئك المستشرقون الذين كانوا ينادون بنبذ الفصحى واصطناع العامية بدلًا منها؛ كي نتقدم ونساير العصر، وترتقي العلوم في بلاد العرب، مع أن العامية في كل مكان هي مجرد لهجة للاستعمال اليومي ليس غير، فهي من ثم فقيرة فقرًا شنيعًا بحيث لا تستطيع أن تؤدي شيئًا من العلوم أو الآداب التي نعرفها، اللهم إلا الأسجال.
(1/82)
________________________________________
ومعروف أن هذه الدعوة إنما تقصد ضرب الوحدة العربية في الصميم؛ لأنه إذا ما تفرقت الشعوب العربية لغويًّا، وأمسى لكل شعب منها لغته الخاصة به التي لا يفهمها شعب عربي آخر، كان ذلك أول مسمار يندق في نعش العروبة، التي هي محور الإسلام ومادته الصلبة، وحينئذٍ سرعان ما ينهار عمود الإسلام أو على أقل تقدير يتحلحل، ولا يثبت على حاله، ولسوف تقوم حينئذ حواجز سميكة من اللغة بيننا وبين تراثنا وقرآننا، وأحاديث نبينا، فنضطر إلى ترجمتهما بما يجره ذلك من تغيير في النص المترجم كل حين، كما هو الحال مع الكتاب المقدس الذي لا يثبت على حال أبدًا.
ونحن مع أنور الجندي كذلك في وجوب الاهتمام بكتابات ابن حزم والغزالي وابن خلدون وابن تيمية بوصفها إبداعات أدبية، مثلما هي إبداعات فكرية، بل إن كتابات هؤلاء وأمثالهم لتفوق في الجمال والعمق والروعة الفكرية والأسلوبية كثيرًا من النصوص النثرية، التي درجنا على دراستها في كتب الأدب وحصصه ومحاضراته، ولكن لا بد أن نضيف ما هو معلوم من أن قدماء نقادنا هم الذين استنوا سنة استبعاد أمثال الغزالي وابن خلدون من دائرة اهتمامهم، مركزين على ما يسمى بالنثر الفني، وهو النثر المنحصر في الرسائل الديوانية، وما إليها، ذلك أن كلام الجندي يفهم منه أن هذه ثمرة من ثمار تقليد المستشرقين في دراستهم للأدب العربي، وهذا غير صحيح في حدود علمي، فالمستشرقون عادةً ما يوسعون دائرة الأدب، بحيث تشتمل أمثال أولئك الكتاب الذين ذكرنا أسماءهم آنفًا، إذ الأدب في الغرب لا يقتصر على النثر الفني، بل يشمل كلَّ كتابة تتسم بجمال التعبير ودفئه أيًّا كان موضوعها حتى لو كان تاريخًا أو جغرافية أو فلسفة، بل كثيرًا ما يقصد بهذا المصطلح هناك كل ألوان الكتابة بإطلاق.
(1/83)
________________________________________
وقد درج الكتاب في العقود الأخيرة على ترجمة هذه الكلمة بمعناها الأخير إلى أدبيات، فيقولون: الأدبيات السياسية والأدبيات القانونية، وهلم جرًّا، أما أنا فأترجمها ببساطة إلى كتابة أو كتابات، فأقول: الكتابة السياسية أو القانونية أو الكتابات السياسية أو القانونية.
وعلى نفس المنوال أجدني مع المرحوم الجندي أيضًا في وجوب الاعتزاز بديننا، والحفاظ عليه في كل كتاباتنا وتفكيرنا لا على أساس إلغاء عقولنا، وترديد ما هو موجود في القرآن والسنة دون تفكير، بل على أساس اقتناعنا به وتحققنا أنه من عند الله، ومن ثم لا مكان عندنا لمن يشككون في القرآن أو في ثوابت الإسلام، ولا لمن ينادون باطراح الدين خلف ظهورنا، حين نستقبل البحث العلمي، وكأن الدين الذي أتى به المصطفى -عليه السلام- ضد البحث العلمي، وما فعله للأسف طه حسين حين عاد وهو شاب من أوربا مغترًّا بالقليل الذي حصله هناك، فألف كتابه في (الشعر الجاهلي) في عجلة وتسرع دون أن يمحص ما سجله فيه، مما أظهر العلماء الأثبات رعونته وسطحيته وفساده وتناقضه مع نفسه، ومع وقائع التاريخ وشواهد النصوص على السواء.
كذلك لا مكان في نفس المسلم الحق للشكوك، ومشاعر اليأس المظلم والإحباط الدائم، والقلق المستمر دون سبب تلك الشكوك والمشاعر التي تغذيها الفلسفات الوجودية والاعتقادات الإلحادية، ويعتنقها بعض الببغاوات من بلاد العرب والمسلمين عن غير اقتناع، بل عن تقليد وتصور خاطئ بأن هذا هو ما ينبغي على المثقف أن يعتقده ما دامت هذه البضاعة قد أتتنا من الغرب.
إن للعقلية الإسلامية سماتٍ معينةٍ، وينبغي أن يحافظ المسلمون على هذه السمات المستقاة من دين الله، وأن ينأوا بأنفسهم عن الذوبان في الآخرين،
(1/84)
________________________________________
وبخاصة إذا كان هؤلاء الآخرون لا يؤمنون بدين، ولا يقفون حيث أوجب الله على عباده أن يقفوا، ولا يقول: إن الأدب لا دين له، وأنه ينبغي النأي به عن الدين وقيمه، ذلك أنه لا يمكن أن يعتقد الإنسان عقيدة معينة، ويتمسك بقيم معينة، ثم إذا أبدع أدبًا نسي عقيدته وقيمه بحجة أن الأدب شيء والدين والأخلاق شيء آخر!!
ولقد كان الأدب العربي في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية مصدر إشعاع وتأثير، إذ كان أدبًا قويًّا مفعمًا بالحيوية، مثلما كان العرب والمسلمون آنئذٍ مفعمين بالقوة والحيوية، ومعروف أن الأدب يعكس صورة أصحابه كما أن أصحابه يضفون عليه ما يتمتعون به من أهمية واحترام، ومن إبداعات العرب في ذلك الوقت مما تأثرت به الآداب الأوربية كتاب (كليلة ودمنة)، الذي كان بابًا من أبواب الإلهام للأديب الفرنسي "لافونتين" في خرافاته، تلك القصص التي جعل "لافونتين" أبطالها من عالم الحيوان، وضمنها ما يريد نشره بين الناشئة من قيم ومبادئ ونصائح ومعارف، وكذلك (ألف ليلة وليلة)، التي فتنت أهل الغرب فتنة ما بعدها فتنة، وكانت مهلمة لروائي أمريكا اللاتينية في إبداعاتهم الواقعية *****ية، وأيضًا (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، ورسالة (حي بن يقظان) لابن طفيل، التي يرى بعض الدارسين أن "دانيل ديفو" الصحفي والسياسي الإنجليزي قد استوحاها ضمن ما استوحاه في كتابة روايته المشهورة "روبنسون كروزو"، وهناك أيضًا الموشحات الأندلسية، التي أثرت أقوى تأثير في شعر الشعراء التروبادور، وكذلك المقامات التي استلهمها مبدعو روايات الشطار في الآداب الأوربية إلى آخره.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(1/85)
________________________________________
الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي.
(1/87)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي)

دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)
فنقول: سوف تكون نقطة انطلاقنا الكتاب الذي صدر للدكتور عبد الحميد إبراهيم عام ألف وتسعمائة وسبعة وتسعين للميلاد، عن دار الشروق في الأدب المقارن بعنوان: (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي؛ مقدمة وتطبيق)، والذي حاول فيه أن يؤسس لأدب مقارن عربي ينطلق من الأدب العربي، ويعنَى بقضايا الأدب العربي، ويلقي الضوء على تأثير الأدب العربي على الآداب الأخرى، ويناقش أهم القضايا المتعلقة بالأدب المقارن في العالم العربي.
وكانت نقطة انطلاقه في هذا كله بدوره هي كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال في (الأدب المقارن)، الذي انتقده كثيرًا؛ لأنه حسبما يرى قد اهتم بالآداب الأوربية أولًا وأخيرًا، ولم يتسع صدره للأدب العربي إلا على الهامش، بحيث لم يخصص له إن فعل وقليلًا ما يفعل إلا صفحات جد ضئيلة، ولم يصنع شيئًا في ذلك الكتاب تقريبًا أكثر من ترجمة ما كتبه المقارنون الفرنسيون في كتبهم وبحوثهم، ونقل ما أثاروه من قضايا وما عكسوه في دراساتهم من اهتمامات وأصدروه من أحكام، فجاء كتابه وكأنه طبعة عربية من تلك الدراسات.
وهو يرى أن النزعة القومية لا تتعارض مع الاتجاه الإنساني، إذ الأولى خطوة على طريق الأخيرة، كما أن البشر لا يمكنهم أن يتخلوا عن قومياتهم ولا عن مشاعرهم تجاه تلك القوميات، ثم إن النزعة القومية ليست شرًّا في ذاتها، والحق أن كلام الدكتور عبد الحميد إبراهيم هنا لا يمكن المماراة فيه فضلًا عن تخطئته، والعبرة في كل الأحوال بتوخي الباحثين أقصى ما يمكنهم من موضوعية، خشيةَ أن تجرفهم نزعتهم القومية نحو بعض الأحكام غير السديدة، أو تغشي على
(1/89)
________________________________________
عيونهم، فلا يروا الحقيقة في نصوعها، كذلك لا يصح أن نغفل أن الغربيين الذين صدروا إلينا، أو بالأحرى يبدو أنهم صدروا إلينا علم الأدب المقارن، ورغم حديثهم الكثير والمستديم عن العالمية والإنسانية لا يهملون قومياتهم لحظةً من نهار أو ليل، وفضلًا عن ذلك فإننا في بلاد العروبة والإسلام لم نغل في شعورنا القومي كما غلوا، ولم نجحف بحق الآخرين كما أجحفوا، وما زالوا.
وقد عرف المؤلف القومية الثقافية وهي التي تهم الباحثين من أمثالنا بأنها تعني لغة واحدة، وبيئة جغرافية متجاورة وتاريخًا مشتركًا وغير ذلك، مما يشكل في النهاية مجموعة من الملامح الثقافية تميز إنسان المنطقة، وتمثل خلفية فكرية وراء ردود أفعاله، ثم يضيف قائلًا: إن القومية على هذا الوضع لا تتنافَى مع الإسلام في شيء، بل هما كوجهي العملة الواحدة لا يستغني أحدهما عن الآخر، وهو يؤكد أن الإسلام أو أي دين آخر عندما يظهر، فإنه لا يظهر في الفراغ، بل في بقعة من الأرض معينة، وبين قوم من أقوام الأرض معينين.
وهذا الكلام الأخير كلام صحيح، ولكني أود أن أوضح أن العَلاقة بين العروبة والإسلام ليست كالعلاقة بين وجهي العملة الواحدة، بل الحقيقة هي أن دائرة القومية تنطوي في دائرة الإسلام الأوسع، التي تشتمل على قوميات متعددة بعدد الأمم التي تعتنقه، فهي جزء من الإسلام وليست كيانًا مستقلًّا يواجهه ويكمله، والعبرة بألا تغلو تلك القوميات في إحساسها بنفسها فتطغى على رابطة الإسلام، وإلا كان هناك خطأ غير هين ينبغي تداركه بسرعة والعودة إلى نقطة السلامة.
ثم إن ظهور الإسلام في بلاد العرب، وكذلك عروبة نبيه ولغته نفسها كل ذلك ليس إلا الخطوة الأولى، التي أعقبتها خطوات واسعة انداح معها الإسلام إلى خارج دياره، وصار دينًا عالميًّا، نعم، لا ينبغي أبدأ أن نغفل عن الدور الكريم
(1/90)
________________________________________
الذي قام به العرب في حمل هذا الدين، ونشره في أرجاء الأرض، إلا أن الإسلام في نهاية المطاف هو دين الله سبحانه أرسل به نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى الدنيا كله، فهو إذن دين عالمي رغم انطلاقه من بقعة معينة من الأرض، على أيدي قوم معينين من أقوام هذه الأرض.
كذلك أود أن ألفت النظر إلى أن المؤلف يتبنى هو أيضًا وجهة نظر الدكتور محمد غنيمي هلال، إذ لا يستطيع أن يرى الأدب المقارن خارج نطاق النظرة التاريخية التي تحصره في التأثير والتأثر، وهي النظرة التي تقوم عليها المدرسة الفرنسية، تلك التي كان الدكتور هلال أحد تلاميذها المخلصين، رغم ضيق أفقها الواضح، فهو مثلًا عند تفرقته بين الموازنات الأدبية والأدب المقارن، يكتب قائلًا: إن الأدب المقارن يجمع في جعبته بين الوجهين القومي والعالمي معًا، فهو ينطلق من نصوص أدبية كتبت بلغة معينة، وخضعت للمقتضيات البلاغية لهذه اللغة، ثم يبحث عن علاقتها من حيث التأثير والتأثر بنصوص أدبية كتبت في لغة مختلفة، وخضعت بدورها لمقتضيات تلك اللغة، وذلك لكي يثبت أوجه التفرد عند هذا الأديب أو عند غيره.
ومما انتقده المؤلف على الدكتور محمد غنيمي هلال: أنه لدن تأريخه نشأة الأدب المقارن قد أنفق وقته وجهده كله في صبر وأمانة كما يقول في متابعة هذا التاريخ في أوربا وحدها، من أيام اليونان والرومان حتى العصر الحديث، ولم يحاول قط الحديث بشيء عن تاريخ ذلك العلم داخل اللغة العربية والحضارة الإسلامية، صحيح أنه خصص فصلًا كاملًا للحديث عن الوضع الحالي لدراسات الأدب المقارن في جامعات الغرب، وفي الجامعات المصرية، لكنه لم يعط هذا الفصل سوى عشر صفحات، فضلًا عن أنه لم يخصصه كله للجامعات المصرية، بل
(1/91)
________________________________________
جزءًا منه فقط كما نرى، كذلك فإنه قد قصر الكلام فيه على نشأة ذلك العلم في مصر في الربع الأول من القرن العشرين.
وهذا أيضًا صحيح وقد لاحظت ذلك بنفسي قبل أن يقع كتاب الدكتور عبد الحميد إبراهيم في يدي، وسجلت هذه الملاحظة في كتابي (في الأدب المقارن مباحث واجتهادات)، الذي صدر قبل عدة أعوام، إلا أنني لم أكتفِ بتسجيل تلك الملاحظة، بل أفردت فصلًا كاملًا وطويلًا يقع في عشرات الصفحات، عنوانه: المقارنة الأدبية في التراث العربي، أبرزت فيه جهود النقاد العرب القدامى في ميدان الأدب المقارن، وهي جهود عظيمة شديد الأهمية لا يقلل أبدًا من عظمتها وأهميتها أن أسلافنا لم يهتموا بصك المصطلحات الخاصة بها، ولا بإعطاء كتاباتهم اسم الأدب المقارن أو أية تسمية أخرى، بل كانوا يمارسونها والسلام، مخلفين لنا في هذا الصدد تراثًا عظيمًا ألقيت الضوء على عدد كبير من نصوصه، التي لم يكن يلتفت إليها أحد في حدود علمي، اللهم إلا نصين اثنين اهتم بهما ولفت الانتباه إليهما الدكتور الطاهر أحمد مكي في كتابه (الأدب المقارن) على نحو حفزني لأن أتابع الطريق وأمضي قدمًا، وأكتشف نصوصًا أخرى في غاية الأهمية.
وكنت في كتابي المذكور قد أشرت إلى الفصل الذي عقده الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابي (الأدب المقارن) للكلام في تاريخ نشأة الأدب المقارن، وهو الفصل الأول من الباب الأول من ذلك الكتاب، لافتًا النظر إلى أنه يحصر نفسه في الآداب الأوربية، ولا يطرق البتة باب الأدب العربي للبحث عما قد يكون فيه من بذور لذلك النوع من البحث، أو لذلك النوع من الدراسة، وهو ما يشي إن لم يكن يؤكد أنه لا يرى أية إمكانية لوجود مثل تلك البذور، أما الدكتور الطاهر
(1/92)
________________________________________
أحمد مكي في الفصل الأول من كتابه (الأدب المقارن أصوله، وتطوراته، ومناهجه) فهو وإن تطرق للحديث عن الأدب العربي القديم قد قصر كلامه عما كان يسمى في تراثنا النقدي بالموازنات والنقائض والمعارضات والسرقات والتقليد، وما دار حولها من بحوث ودراسات، فلم يحاول هو أيضًا استكشاف تراثنا النقدي والبلاغي؛ ليرى أمن الممكن العثور هناك على أي شيء يمت بصلة لهذا الحقل الجديد من الدراسة الأدبية.
ومن بين ما تحدث به الأستاذ الدكتور عن السرقات كلامه عما اتهم به كل من المازني ومحمد مندور بالأخذ عن الكتاب الأوربيين، واضعًا تحت عين القارئ قصيدة الشاعر الإنجليزي "توماس هوت"، التي قيل: إن المازني قد سطا عليها في قصيدته: فتى في سباق الموت، ومؤكدًا أن مندور قد سرق كل كتابه (نماذج بشرية) ما عدا فصلًا واحدًا هو الفصل الخاص بشخصية إبراهيم الكاتب في رواية المازني المعنونة بنفس العنوان، من كتاب "جان كالفيه" عن النماذج العالمية للأدبين الفرنسي والأوربي، وهو ما أثبت صحة جانب كبير منه بالوثائق التي لا تكذب ولا تتجمل في كتابه الدكتور محمد مندور (بين أوهام ادعاءات العريضة وحقائق الواقع الصلبة).
وعودة إلى ما كنا بصدده أقول: إنني لا أدري لم سكت الأستاذان الفاضلان في كتابيهما هذين، فلم يحاولَا أن ينبشا في تراثنا النقدي علهما يجدان شيئًا يمكن القول بأنه يمثل بذروًا أو أجنة لذلك الحقل الجديد المسمى بالأدب المقارن؟ وقد كانا جديرين بأن يقوما بهذه المهمة خير قيام لو أنهما لم يجريَا في إثر الكتاب الأوربيين، الذين كتبوا في موضوع الأدب المقارن، إذ المسألة أبسط من ذلك كثيرًا لو كانا عقدَا النية، ولم يضعا أعينهما على خطوات الدارسين الغربيين، الذين لا
(1/93)
________________________________________
يشغلهم أدبنا في شيء، ويصيخا بكل سمعهما وانتباهما إلى وقع تلك الخطوات، وكأنها المثال الأعلى.
وإن كان من الممكن في نظر البعض التماس العذر لهما، فنحن قد دخلنا ميدان هذا العلم على أيدي الغربيين، ومن ثم كان الرواد منا في هذا المجال يحسون بوطأة هذه اليد، ولا يفكرون أن يقاوموها، فكانوا يرددون ما يقوله الغربيون، ولا يريدون أن يخرجوا عنه، على أساس أنهم أصحاب الفضل وأنه ليس من المعقول إنكار فضلهم، إذ نحن لا نزيد عن أن نكون مجرد تلامذة تابعين، ولا يليق أن يخرج التلميذ عن طوع أستاذه، رغم أن مثل هذه المحاولة التي كنا ننتظرها منهم لا تدخل في باب التمرد ولا جحد اليد، بل بالأحرى في باب التكامل والتعاون والاستدراك المغني لا الإنكار المجحف.
وإذا كان نَتَفَهَّمُ موقف الدكتور محمد غنيمي هلال؛ لأنه جاء مبكرًا، فكان عليه أن يركز على نقل كل ما عند الغربيين؛ حتى نكون على بينة منه، فإن الأمر يختلف مع الدكتور مكي، الذي أتى بعد أن استتبت الأمور كثيرًا، وخفت تلك اللهفة التي تصيب من يريد متابعة شيء جديد، وأصبح مقدار كبير من الدراسات والبحوث، وعقد كثير من الندوات والمؤتمرات، وتخرجت أجيال بعد أجيال من الطلاب الذين درسوا الأدب المقارن، وتغلغلت جذور ذلك التخصص في تربتنا الجامعية، ولم يكن ثمة إمكانية للتراجع، لقد كتب الدكتور هلال كتابه في أوائل الخمسينيات من القرن الفائت، على حين كتب الدكتور مكي كتابه في النصف الثاني من ثمانينات ذلك القرن أي: أن هناك فاصلًا بين الكتابين يقدر بعشرات السنين، وهي مدة ليست بالهينة.
(1/94)
________________________________________
أقول هذا رغم شمول التغطية في كتاب الدكتور مكي، وتوسعه في عدد من القضايا وجاذبية عرضه وحلاوة أسلوبه، وإن لم تعمنا تلك الفضائل عن عدم مبالاته بذكر مراجعه أولًا بأول في أسفل كل صفحة إلا على سبيل الاستثناء، رغم اتكائه كثيرًا على الكتب المشهورة من ذلك الميدان، كما هو بين من قائمة الكتب الطويلة، التي أثبتها في آخر الكتاب، وكذلك عن بعض الهنات النحوية.
والسؤال الآن هو: هل في كتاباتنا النقدية القديمة ما يمكن أن يمثل بذورًا لذلك اللون من الدراسة الأدبية؟ لقد خصص الدكتور مكي بعد ذلك في كتابه (في الأدب المقارن دراسات نظرية وتطبيقية) فصلًا ممتعًا، وهو في الأصل مقال كان قد نشره قبلًا في إحدى المجلات عنوانه: الجاحظ والأدب المقارن، أورد فيه بعض النصوص الجاحظية التي تدور حول المقارنة بين بعض جوانب الأدب العربي، وما يقابلها في أدب هذه الأمة أو تلك، وهي نصوص مهمة ولا شك. ويحمد الأستاذ الدكتور صنيعه هذا كثيرًا، لكني كنت أحب أن يضم كتابه الضخم الشامل (الأدب المقارن أصوله، وتطوره، ومناهجه) فصلًا كبيرًا في هذا الموضوع يجول فيه جولة أوسع في التراث العربي، يبحث عن نصوص أخرى مشابهة بأقلام كتاب آخرين، لكنه للأسف لم يفعل، وهو ما دفعني إلى محاولة القيام بالأمر بنفسي لأرى أكان الجاحظ بدعًا في ذلك، كما يفهم من كلام الدكتور أم إن المسألة أوسع من هذا.
لقد طفت بخاطري طوفة سريعة في تراثنا النقدي والبلاغي، فاستطعت أن أتذكر كثيرًا من النصوص المقارنة إلى جانب ما عثرت به من نصوص في غاية الأهمية، أثناء كتابتي بذلك الموضوع مما يعد مع ذلك قطعًا متناثرة لا سلسلة متصلة من المؤلفين وكتاباتهم، ومن الأشياء التي استطاع الكتاب العرب القدماء رصد
(1/95)
________________________________________
تسربها إلى الشعر العربي أحيانًا من خارج حدوده، ما جاء في ترجمة أمية بن أبي الصلت من كتاب (طبقات الشعراء) لابن سلام من قوله: وكان أمية بن أبي الصلت كثير العجائب يذكر في شعره خلق السماوات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء وكان قد شام أهل الكتاب.
فابن سلَّام يتنبه إلى ما يسمى في الأدب المقارن بقضية التأثير والتأثر بين ثقافات الأمم المختلفة، إذ يرى ناقدنا القديم أن أمية بن أبي الصلت قد خرج على اهتمامات الشعراء الجاهليين، فأخذ يتكلم عن خلق السماوات والأرض وعن الملائكة وما إلى هذا، ولم يبال بالوقوف على الأطلال ووصف البادية وحيوانها، وأن السبب في ذلك هو مخالطته لأهل الكتاب بخلاف شعراء الجاهلية، الذين كانوا وثنيين ولا يهتمون بالتعرف إلى ثقافات الآخرين؛ ولهذا جاء شعرهم جميعًا ماءً واحدًا، بخلاف شعر أمية بن أبي الصلت على ما وصفه ابن سلام.
وقد مضى كل من ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) وأبي الفرج الأصفهاني في (الأغاني) خطوة أبعد في الكلام عن تلك السمات المميزة لشعر ابن أبي الصلت، جاء في (الأغاني): أن أمية كان يستعمل في شعره كلمات غريبة، إذ قال: كان أمية بن أبي الصلت قد قرأ كتاب الله -عز وجل- الأول فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب، فمنها قوله: قمر وساهور يسل ويغمد، وسماه في موضع آخر التغرور فقال: وأيده التغرور، وقال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجون بشيء من شعره لهذه العلة، وقد شرح ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) بعض هذه الألفاظ قائلًا: وقد كان قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله -جل وعز- وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب، ومنها قوله: قمر وساهور يسل ويغمد،
(1/96)
________________________________________
والساهور فيما يذكر أهل الكتاب غلاف القمر يدخل فيه إذا كسف، وقوله في الشمس:
ليست بطالعة لهم في رسلها ... إلا معذبة وإلا تُجلد
يقولون: إن الشمس إذا غربت امتنعت من الطلوع وقالت: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله حتى تدفع وتجدل فتطلع، ويسمي السماء في شعره صاقورة وحاقورة وبرقع، ويقول في الله -عز وجل-: هو السلطيط فوق الأرض مقتدر، وهذه أشياء منكرة وعلماؤنا لا يرون شعره حجة في اللغة.
ويقابلنا عند الجاحظ أيضًا في (البيان والتبيين) نص على درجة كبيرة من الأهمية يصف فيه ناقدنا وأديبنا القدير تعريفات البلاغة لدى الأمم المختلفة، قال: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل، وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة، وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وقال بعض أهل الهند: جماع البلاغة البصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة.
ثم قال: ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة، أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان الإفصاح أوعر طريقة، وربما كان الإضراب عنها صفحًا أبلغ في الدرك وأحق بالظفر، ويلاحَظ أن كل تعريف من تلك التعاريف إنما ينظر إلى الأمر من زاوية خاصة، بحيث نراها في النهاية تتكامل ولا تتناقض، وهو ما يدل على أن البلاغة أكبر من أن تنحصر في ذوق أمة واحدة من الأمم، بل كل يركز عليها من جانب واحد من جوانبها ليس إلا، وهو ما عبر العرب عنه بقولهم: لكل مقام مقال أي: أن على
(1/97)
________________________________________
السياق في الكلام وفي غير الكلام أيضًا، وهو ما يعرف الآن بنظرية السياق معولًا كبيرًا.
بَيْدَ أننا كنا نؤثر لو استطاع الجاحظ أن يورد لنا صاحب كل قول من هذه الأقوال، وموقعه من ثقافة أمته وأدبها، لكنه للأسف لم يفعل، المهم أن النص الذي أمامنا الآن هو من نصوص الدراسة المقارنة المبكرة والهامة في تراثنا النقدي.

طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي
وفي هذا السياق من المقارنة بين الأدب العربي في بعض خصائصه، وبعض الآداب الأجنبية نورد هذا النص المهم من (المثل السائر) لابن الأثير في مسألة طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي، إذ كان ابن الأثير يوازن بين فني النثر والشعر، ويرصد الفروق بينهما إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير، فقال: إنه مما لا يحسن في الذوق العربي أن يطول الشاعر قصائده ويشقق المعاني، ويستوفي الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، وهنا ينطلق في موازنة بين العرب والفرس في تلك النقطة، قائلًا: إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورًا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة، أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي.
والكاتب لا يؤتى من ذلك -يقصد الناثر- بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاعَ فيه؛ لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه، وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شعرهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما
(1/98)
________________________________________
فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف (بشاه نامه)، وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغاتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر.
وكذلك عثرت على النص التالي أثناء تجوالي في تراثنا الأدبي والنقدي للحصول على أكبر قدر من النصوص المقارنة فيه، وهو يتعلق أيضًا بـ (الشاه نامه)، الذي ألفه للرد على بعض ما جاء في كتاب ابن الأثير، وهو يجري على النحو التالي قال -أي: ابن الأثير في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب-: إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورًا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب لا يؤتى من ذلك بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه وقلناه.
وعلى هذا، فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا، وهو شرح قصص وأحوال يكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم كما فعل الفردوسي في نظم كتابه المعروف (شاه نامه)، وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العرب بالنسبة إليها كقطرة من بحر.
أقول -والكلام هنا لصلاح الدين الصفدي-: قد ختم ابن الأثير -رحمه الله تعالى- كتابه بهذه النكتة، التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال معمر بن المثنى ولا سهل بن هارون ولا ابن غرثيا في رسالته مثل هذا، وقد وجد في أهل اللسان العربي من نظم الكثير أيضًا، وإن عد هو الفردوسي عددت له مثل ذلك جماعة، منهم من نظم تاريخ المسعودي نظمًا في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب (كليلة ودمنة) في عشرة آلاف بيت، ونظمها أبان اللاحقي أيضًا، وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي بن أبي محمد بن محمد بن أبيه
(1/99)
________________________________________
الدمشقي عرف بابن الدجاجية، نظم كتاب (المهذب) قصيدة على روي الراء، سماها (البديعة في أحكام الشريعة). انتهى.
قلت: و (المهذب) في أربع مجلدات وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصيدة عدتها ثمانية عشر ألف بيت، ولابن الهبارية كتاب (الصادح والباغ) في ألف بيت، كل بيت منها قصر مشيد ونكته ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة، ليس فيها لو ولا ليت، وأما من نظم الألف وما دونه فكثير جدًّا لا يبلغهم الحصر، وأما (الشاطبية) وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر وخلب سحره الألباب وبهر، وأما أراجيز النحو والعروض والفقه كالذي نظم الوجيز ومنظومة الحنفية وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم فكثير جدًّا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.
وما سمعنا بمن اشتغل من العجم بالعربية، إلا وفضل اللغة العربية، برهان هذه الدعوة أن أبا علي الفارسي وبندار وأبا حاتم والزمخشري، وغير هؤلاء، لما اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها هاموا بها وكلفوا بمحاسنها، وأفنوا الليالي والأيام في تحصيلها، وأنفقوا مدة العمر في تأليفها وتدوينها، وتتبع محاسنها وقواعد أقيستها وغرائب فنونها، ومن المستحيل أن يكون هؤلاء القوم اجتهدوا هذا الاجتهاد في العربية، وأفنوا مدة العمر وهي ما لا يخلف في شيء هو دون غيره، والأولى بهم وبكل عاقل الاشتغال بالأحسن والأفصح والأبلغ والأحكم، ولو علم هؤلاء القوم أن اللغة الأعجمية لها أفعل التفضيل ما عرجوا على العربية، إلا ريثما عرفوها ثم عادوا إلى لغتهم.
(1/100)
________________________________________
ومن الكلم النوابغ للزمخشري: فرقك بين الرطب والعجم فرقك بين العرب والعجم، ومنها العرب نبع صلب المعاجم، والغرب مثل للأعاجم، فانظر إلى الزمخشري كيف جعل العرب رطبًا والعجم عجمًا والعجم بتحريك الجيم هو النوى، وكيف جعل العرب مثل شجر النبع وهو صلب تتخذ منه القسي، وجعل العجم مثل شجر الغرب، وهو خوار، فإن قلت: ما كان علماء العربية من العجم عالمين باللغة الأعجمية، كما ينبغي قلت: أليس أنهم كانوا يعرفون العجمية، ثم إنهم تمهروا في العربية، وبالغوا في إتقانها؟ ومن وصل في لغة من اللغات إلى ما وصل إليه أبو علي والزمخشري وغيرهما، من معرفة الاشتقاق الأكبر والأصغر، والأبنية، والتصريف في الاسم، والفعل الماضي والمضارع والأمر، واسم الفاعل والمفعول، وصارت له تلك الملكة كان عنده من الأهلية أن ينظر في كل لغة عرف لسانها، وأن يستخرج قواعدها ويتبع أصولها؛ فيقع على غرائب حكمها ومحاسن قواعدها لاشتباك العلوم بعضها ببعض، واجتماع شملها في الغاية التي أوجبت وضعها، ولا يضع اللغة إلا حكيم.
ألا ترى أن بعض النحاة رتب اللغة التركية على القواعد النحوية، وميز الاسم من الفعل والماضي من المضارع من الأمر، وضمير المتكلم من المخاطب من الغائب، والجمع من الإفراد وعلامة الجمع والمضاف من المضاف إليه إلى غير ذلك، وهذا أمر غير خافٍ.
وأما قوله: إن كتاب (شاه نامه) ستون ألف بيت كلها في غاية الحسن من الفصاحة والبلاغة، وما فيها ما يعاب، فإن هذه الدعوى لا تسمع مجردة عن البرهان الذي يؤيدها، ومن يأتي بستين ألف كلمة أو بستة آلاف كلمة تكون في غاية الفصاحة في الألفاظ والبلاغة في المعنى حتى إنها لا تعاب بوجه، هذا ليس في قوى البشر في لغة من اللغات، سلمنا أن ذلك ما يعاب في تلك اللغة، فمن
(1/101)
________________________________________
أين لك أن جيد شعر العجم في طبقة جودة شعر العرب، كما تقول: القمر أشد نورًا من النجوم، والشمس أشد نورًا من النجوم، فالشمس والقمر اشتركَا في الفضيلة على النجوم، ولكنهما في نفسيهما لا يستويان مثلًا، فهل جيد العجم مثل جيد العرب كوصف امرئ القيس في الخيل والنابغة في الاعتذار وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر، أو كجيد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن بُرد ومسلم بن الوليد وأبي نواس، وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم.
وإلى هذا العصر وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لغتهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب، هل يستويان مثلًا في الجودة من حيث هي؟ وإنما قل الجيد في الشعر؛ لأن البلغاء وعلماء الأدب انتقوا الجيد العالي الذي يكون في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجًا ومثالًا يحذى على ما قرروه بقوة فكرهم، وصحة انتقادهم، فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا، ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدًا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية، وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر، ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية، والاستخدام والجناس على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع، وتشعب أقسامه إلى غير ذلك من أنواع البديع، وهو ما يقارب المائة نوع ولا هيهات ما بينهما صيغة أفعل.
(1/102)
________________________________________
وذكر الحصري في (زهر الآداب): أن أعرابيًّا قال لشاعر من أهل الفرس: الشعر للعرب وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نَزَا على أمه رجل منا. انتهى.
وقد أنصف ابن خلف في قوله:
وللعرب بيت وديوان ... وللعجم قصر وإيوان
وأما دعواه أن الشاعر لا يحسن في الأكثر فالعذر في ذلك ظاهر؛ لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية وهما الوزن ولزوم الروي الواحد، والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مخلى ونفسه إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين، ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجي، وعدد مخصوص من كلمات السجع لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب؛ لأن الشعر يروجه الوزن ولا كذلك النثر، فحينئذٍ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.
وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على (المثل السائر)، وقد سامحته في كثير سقطه فيه ظاهر.
ولا ريب في أن هذا النص يشهد للصفدي، وهذه ميزة في معظم علمائنا القدامى بسعة الاطلاع، وحضور الشواهد على مد ذراعه، رغم أنه كان يعيش في عصر لا يعرف المشباك -أي: الإنترنت- ولا الفهارس، وبالمثل لا بد من التنبيه عنده إلى روح الحب الغلاب للعرب، وكل ما يتصل بهم من لغة وأدب وفكر، لكني لا أستطيع أن أشاركه الزعم بأن الآداب الأخرى تخلو من التشابيه والاستعارات والكنايات، وإن كان كلامه في البديع لا ينطبق عليه هذا، إذ يبدو لي أن لساننا في عصور معينة منه على الأقل قد استعمل المحسنات البديعية أكثر جدًّا مما فعل أي أدب آخر مما نعرف، وعلى كل، فإن هذا النص هو من النصوص الكاشفة في ميدان المقارنات الأدبية في نقلنا القديم.
(1/103)
________________________________________
وفي (زهر الأكم في الأمثال والحكم) يعرض اليوسي لما قاله بعض النقاد العرب القدماء من أن الحكم، التي اشتهر بها أبو الطيب المتنبي، إنما أخذها عن أرسطو، وليس له فيها من فضل وهذا هو النص وقال -أي: المتنبي-:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
قال صاحب (الرسالة الحكيمة) وهو قول أرسططاليس: أقبح الظلم حسدك لعبدك ومن تنعم عليه، قلت: وهو غلط إن كانت رواية هذه الحكمة هكذا، فإن أبا الطيب إنما أراد عكسها، وهو أن أقبح الظلم أن يحسدك من تنعم عليه وتحسن إليه، بدليل سياق كلامه:
وقد يترك النفس التي قد لا تهابه ... ويحترم النفس التي تتهيب
وقال أيضًا:
لابد للإنسان من ضجعة ... لا تقلب المضجع عن جنبه
ينسى بها ما مر من عجبه ... وما أذاق الموت من ركبه
نحن بنو الموت فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمن هي من كسبه
فهذه الأرواح من جوِّه ... وهذه الأجسام من تربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
وهو معنى قول أرسططاليس: النظر في عواقب الأشياء يزهِّد في حقائها، والعشق عمى النفس عن درك رؤية المعشوق، والذي قبله هو معنى قوله أيضًا: اللطائف سماوية والكثائف أرضية، وكل عنصر عائد إلى عنصره الأول، وقال:
يموت راعي الضأن في جهله ... موت جالينوس في طبه
وقال:
(1/104)
________________________________________
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
وهو قريب من قول أرسططاليس: آخر إفراط التوقي أول موارد الحذر.
وهذا كما نرى نوع من المقارنة بين بعض النصوص الأدبية في لغة الضاد، ونظائرها في الأدب أو الفكر الإغريقي، مما لا يحتاج إلى أي مسوغ آخر لتبوئه مكانًا مستحقًّا في الأدب المقارن.
ويجري في نفس المجرى ما كتبه النويري عن ذات المسألة في كتابه (نهاية الأَرَب في فنون العرب)، إذ قال: وقد جُمع من شعر أبي الطيب في ذلك ما وافق كلام أرسططاليس في الحكمة، فمن ذلك قول أرسططاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة، كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة، قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام
وقال أرسططاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء كالكي والفصل اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها، نقله المتنبي إلى شعره فقال:
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
وقال المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
وقال أرسططاليس: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها، نقله المتنبي إلى شعره فقال:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجساد بالعلل
وقال أرسططاليس: الظلم من طبع النفوس وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: إما علة دينية خوف معاد، أو علة سياسية خوف سيف، قال المتنبي:
(1/105)
________________________________________
والظلم من شيم النفوس فإن ... تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
والواقع أن مرجع كل كلام في مسألة المتنبي وأرسططاليس، والكتاب الذي وضعه في هذا الموضوع محمد بن الحسن الحاتمي بعنوان: (الرسالة الحاتمية في سرقات المتنبي من أرسططاليس)، وقد كانت العرب تدرس هذه المسائل في باب السرقات في كتب البلاغة والنقد، إلا أن العبرة كما هو معلوم بالمضمون لا بالشكل والمصطلح، فالسرقة في داخل الأدب القومي ليست كالسرقة إذا تمت بالسطو على أدب أمة أخرى، وهذا النوع الأخير يدخل في باب الأدب المقارن، وهذا هو الاصطلاح الذي قبلناه، وأدخلنا معه ذلك التخصص في مقررات جامعاتنا، وتبنيناه في دراساتنا وبحوثنا ورسائلنا العلمية.
وفي المقالة الثامنة من (الفهرس) لابن النديم، وتحت عنوان: الفن الأول في أخبار المسامرين والمخرفين، وأسماء الكتب المصنفة في الأسمار تطالعنا هذه الوثيقة المهمة، التي يتطلع لمثلها الدارس المقارن لما تقدمه له من عون كبير في موضوع تتبع المسارات، التي اتخذتها الأشكال والأجناس الأدبية في انتقالها من ثقافة أمة إلى ثقة أمة أخرى، يقول ابن نديم: أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبًا وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان الفرس الأُوَل، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه، فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب (هزار أفسان) ومعناه ألف خرافة.
وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة، وبات معها ليلة قتلها من الغدـ فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها:
(1/106)
________________________________________
شهرزاد فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه، وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطأها إلى أن رُزقت منه ولدًا، فأظهرته وأوقفته على حيلته عليها، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها: دنيا زاد، فكانت موافقة لها على ذلك، وقد قيل: إن هذا الكتاب ألف لحمان بن بهمن وجاءوا فيه بخبر غير هذا، والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب (هزار أفسان)، ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر ربما حدث به في عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث.
وابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشاري صاحب كتاب (الوزراء)، بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه، وكان فاضلًا فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر.
ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخ الشافعي، وكان قبل ذلك يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة، منهم: عبد الله بن المقفع وسهل بن هارون وعلي بن داود كاتب زبيدة وغيرهم، وقد استقصينا أخبار هؤلاء وما صنفوه في مواضيع من الكتاب، فأما كتاب (كليلة
(1/107)
________________________________________
ودمنة)، فقد اختلف في أمره فقيل: عملته الهند، وخبر ذلك في صدر الكتاب، وقيل: عملته ملوك الإسكانية ونحلته الهند، وقيل: عملته الفرس ونحلته الهند، وقال قوم: إن الذي عمله بزرجمهر الحكيم وأجزاء، والله أعلم بذلك.
وتعليقي على هذا أنه ما دام الأمر كذلك، فلست أدري وجهًا لقول الدكتور عبد الحميد إبراهيم: إن الأدب المقارن قد جاء إلى العالم العربي من فوق منقولًا من الجامعات الفرنسية على يد الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)، ذلك أننا قد رأينا بأنفسنا أن تراثنا مفعم بمثل تلك الأبحاث، وإن كان أسلافنا كما قلت: لم يهتموا بصك المصطلحات ولا بتسمية العلم، الذي كانوا يدورون في فلكه بل لم يتنبهوا فيما هو واضح إلى أنهم يكتبون أدبًا مقارنًا، وهذا كل ما هنالك.
وحتى لو غضضنا الطرف عن التراث الأدبي القديم في الدراسات الأدبية المقارنة، فهذا هو رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وروح الخالدي مثلًا، يكتبون أدبًا مقارنًا قبل محمد غنيمي هلال، بل قبل أن نعرف التعليم الجامعي نفسه بزمن طويل.
أما بالنسبة إلى دعوى عبد الحميد إبراهيم بأن الدكتور محمد غنيمي هلال حين تناول الأجناس الأدبية من وجهة نظر الأدب المقارن، إنما حصر نفسه في الملحمة والخرافة والقصة والمسرحية، ولم يتطرق إلى ذكر أي جنس أدبي عربي كالخطابة والشعر والحكمة، فقد فاته أن هلال قد أورد ضمن الأجناس الأدبية التي ذكرها في كتابه المقامة مثلًا، وعرض لتأثيرها في رواية الشطار، التي انتشرت في أوربا في بداية عصر النهضة، كما تحدث عن "دانتي" وتأثره بالأدب العربي الإسلامي في نظمه للكوميديا الإنسانية،
(1/108)
________________________________________
إن الدكتور عبد الحميد إبراهيم يرفض أن يكون الأدب المقارن عندنا نحن العرب في خدمة أفكار الأوربيين، بحيث يقتصر الكلام فيه على تأثير الآداب الأوربية في أدب العرب، دون الاهتمام بالسير في الاتجاه المقابل اتجاه تأثير الأدب العربي في الآداب الغربية، ونحن معه في هذا، إلا أن ما يوحيه كلامه من أن المقارنين العرب كلهم على بكرة أبيهم تقريبًا قد فعلوا ويفعلون هذا، غير صحيح.
بل إن الدكتور غنيمي هلال ذاته قد تكلم في عدة مواضيع من كتابه عن ذلك التأثير، وإن لم يتوسع فيه توسعه في الحديث عن التأثير المضاد، ولدينا مثلًا عبد الرحمن صدقي، الذي أبدع كتابًا عن تأثر الشاعر والفيلسوف الألماني "ولهم بوته" بأشياء كثيرة من الأدب العربي والقرآن والسنة النبوية، ومثله في ذلك عبد المطلب صالح صاحب كتاب (موضوعات عربية في ضوء الأدب المقارن)، وفيه ألقَى أضواءً ساطعةً على ما يدين به الشاعر والقصاص الفرنسي "فيكتور هيجو" في إبداعاته للإسلام، وكذلك الدكتورة مكارم الغامري، إذ لها كتاب هام بعنوان (مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي)، كشفت فيه بالتفصيل تأثر كبار الأدباء الروس بالأدب العربي والإسلام، وهناك الدكتور أحمد محمد البدوي، وكتابه (أوراق شرقية في القيثار الغربي)، الذي كشف الستار فيه عن تأثر الشاعر والقصاص الأمريكي الشهير "إدجار ألن بو" بعناصر إسلامية واضحة.
ولدينا أيضًا الدكتور عبد الله الطيب السوداني، الذي تحدث عن تأثر "تي إس إليوت" بمعلقة لبيد بن ربيعة، وعندنا كذلك الدكتور بديع محمد جمعة الذي له بحث عن "تأثر الأدب الفرنسي بالأدب العربي في فن المقامة"، وهناك كذلك الدكتور مصطفى حجازي السيد والدكتور محمد إبراهيم محمد أبو عجل،
(1/109)
________________________________________
اللذان كتب أولهما كتابًا عن لغة الهوسا وأدبها، وتأثرهما بلغة العرب وآدابها عنوان (أدب الهوسا الإسلامي)، وكتب ثانيهما كتابًا مماثلًا، ولكن عن اللغة السواحلية عنوانه (الأدب السواحلي الإسلامي).
ولدينا من المقارنين العرب من كتب في تأثير قصص الحيوان عند ابن المقفع مثلًا على "لافونتين" في خرافاته، ومن كتب عن تأثير رسالة ابن الطفيل (حي بن يقظان) على الرواية الإنجليزية (روبنسن كروزو)، التي كتبها "دانيال ديفو"، ومن كتب عن تأثير العنصر العجائبي في (ألف وليلة) على روائي أمريكا الجنوبية ذوي اتجاه الواقعية *****ية.
والأمثلة جد كثيرة، لكن هذا يكفي الآن.

التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن
وبالنسبة إلى عملية التأثر والتأثير، التي تشترطها المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن، هناك مقارنون عرب لا يولون هذه النقطة أية أهمية معلنين أنهم مع المدرسة الأمريكية، التي لا تشترط مثل هذا الشرط، بل إن بعض المقارنين العرب قد طبقوا هذا المبدأ من قبل أن نسمع بالمدرسة الأمريكية، مثلما هو الحال فيما خططوا يراعة رفاعة الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، من مقارنات بين بعض الأساليب العربية في الشعر والبلاغة في الأدب العربي.
ونظير ذلك في أدب الفرنسيس، وكذلك روح الخالدي السياسي والكاتب الفلسطيني، الذي أصدر في بدايات القرن العشرين كتابًا يحوي بعض مباحث الأدب المقارن، كمبحثه في المقارنة بين رسالة الغفران للمعري، والكوميديا الإلهية لـ"دانتي"، ومبحثه في المقارنة بين أغنية "رولان" وسيرة عنترة بن شداد، وعندنا أيضًا فخري أبو السعود في مقالاته الكثيرة التي نشرها في منتصف
(1/110)
________________________________________
الثلاثينيات من القرن الماضي في مجلة "الرسالة"، وقارن فيها بين الأدبين العربي والإنجليزي في عدد من الأجناس الأدبية وغيرها.
وأنا لا أرى بذلك بأسًا على الإطلاق، إذ إني لا أذهب مذهب من يشترط من دارسي الأدب المقارن أن تكون هناك صلات بين العملين الأدبيين، اللذين نريد المقارنة بينهما، والدكتور محمود مكي كاتب مقدمة الكتاب الذي تضمن مقالات أبي السعود هو من المناصرين لهذا الرأي، إذ يقول: إن المدرسة الفرنسية تنفي هذه المقالات من دنيا الأدب المقارن، إلا أنها بمنطق المدرسة الأمريكية إذا طعمت بالنزعة الإنسانية الحقيقية تكسب مشروعية كاملة في انتمائها للأدب المقارن.
وهنا نجد الدكتور عطية عامر يؤكد ببساطة وثقة وعن حق، أن أبا السعود قد سبق بذلك "أوست ورن" و"رينيه" وليك"، رائدي المدرسة الأمريكية أنفسهما، كما لاحظ الدكتور مكي قد قصر اهتمامه في تلك المقالات على رصد أوجه التشابه والاختلاف مع تغليب الاهتمام بالجانب الأخير، فإن هذا في حد ذاته هدف عظيم، إذ من خلال مثل هذا الرصد نستطيع أن ننظر إلى تراثنا الأدبي والنقدي بعين غير العين التي ألف النظر بها إليه، وحينها تكون لدينا فرصة أفضل من رؤية مزاياه وعيوبه، وحتى لو كانت النتائج التي يتوصل لها أبو السعود وسواه غير دقيقة أو متسرعة أو نيئة، فإنها لكفيلة رغم هذا باستفزاز أذهاننا وعواطفنا، ودفعنا دفعًا للتعمق في دراسة هذا التراث، وإعادة النظر فيه وبلوغ زواياه البعيدة وخفاياه المظلمة المتربة، التي لم ينفض عنها الغبار منذ زمن طويل، ومحاولة الطب لعيوبه والنهوض به، وجعله قادرًا على مساماة أعظم آداب العالم وهكذا.
(1/111)
________________________________________
أما ما يظن الدكتور عبد الحميد إبراهيم من أنه قد أضافه إلى مباحث الأدب المقارن حين قال: إنه ينبغي للمقارن الأدبي العربي أن ينطلق إلى المقارنة بين إبداع أدبي غربي، ونظير له في أدبنا القومي من المنطلق الفني، إذا رأى في العمل الأدبي الغربي ما يذكره بعمل عربي من الناحية التقنية؛ فيدرس العملين عن قرب ويدرس كل ما يتصل بهما مما يمكن أن يوصله إلى التأثير والتأثر بينهما، كما هو الحال مع رواية "كفكا" عن أمريكا، التي ذكر أنه بعد قراءته لها شعر أنها لا تمت من الناحية الفنية إلى أعمال "كفكا" الأخرى، بل تختلف عن الأعمال الروائية الأوربية بوجه عام، وتقترب بالأحرى من جنس المقامات، التي تقوم على وحدات مستقلة ليس من اللازم أن تخضع لخط تطوري يربط فصولها بعضها ببعض؛ ليتبين في النهاية أنها متأثرة بالمقامة العربية، إما مباشرة وإما عن طريق روايات الشطار الأوربية في بدايات عصر النهضة تلك الروايات، التي تأثرت بدورها بفن المقامة.
أقول: إن ما يظن الكاتب أنه قد أتى فيه بالجديد هو في الواقع ليس جديدًا البتة، إذ الأدب المقارن لا يقتصر كما يوحي كلام الدكتور على الصلات الفكرية بين الأعمال الأدبية، بل يشمل كل شيء مما يدخل في الإبداع الأدبي من أسلوب وتصوير وعاطفة وخيال وبِنية، اللهم إلا إذ كان يقصد فقط أن كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال بالذات يفتقر إلى المعالجة الفنية في مقارناته الأدبية، لكن الآن ليس هو كل المقارنين العرب، ولا حتى كل المقارنين المصريين، ومن ثم لا أستطيع أن أرى جديدًا فيما ذكر الدكتور عبد الحميد إبراهيم أنه ينبغي للمقارن الأدبي العربي أن يصنعه في هذا الصدد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/112)
________________________________________
الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية.
(1/113)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس
(الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية)

تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية
وسوف نبدأ اليوم بجنس الملحمة:
والملحمة حسبما تقول "الموسوعة العربية العالمية": هي قصيدة قصصية طويلة تدور حول بطولات فائقة لأشخاص غير عاديين في الحرب، أو في السفر، وفي كثير من الملاحم الشعرية الأسطورية قد يكون البطل حسب اعتقاداتهم الوثنية نصف إله، أي: متولدًا من إله وبشر طبقًا لما يؤمنون به من خرافات، ويتناول كثير من الملاحم نشأة شعب أو نمو أمة من الأمم، وقد ألف الملاحمة أناس مجهولون خلال زمن طويل، وإن كان هناك ملاحم أخرى ألفها مؤلف واحد، وتعود أقدم الملاحم الشعرية إلى فترة ما قبل التاريخ، حيث كان يغنيها في البداية شعراء يقومون في ذات الوقت بالعزف على آلة وترية، وكان المنشد يحفظ أوصافًا وحوادث وعبارات ومشاهد معينة، يمكن استخدامها في تأليف الأبيات.
ومن المادة المخصصة للشعر الملحمي في "موسوعة الويكبيديا"، نعرف أن الملحمة قصيدة قصصية شديدة الطول تعود عادة حول أعمال بطولية، ووقائع ذات دلالة لِأُمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات.
ويفرق كاتب المادة بين نوعين من الملاحم: النوع القديم كـ"ملحمة جلجامش" و"ملحمة "الإلياذة"" لـ"هوميروس" الإغريقي، والنوع الأحدث أو الثانوي مثل "الإنياذة" لـ"فرجيل" الروماني و"الفردوس المفقود" لـ"جون ملتون" الإنجليزي. وهذا الأخير هو من إبداع أدباء كبار معروفين استخدموا له لغة أدبية راقية، ونسجوه عامدين على مِنوال تلك الملاحم القديمة، التي كانت في الأصل شفوية غير مكتوبة، وإن كان قد تم تسجيلها كتابةً بعد ذلك فوصلت من ثم إلينا.
(1/115)
________________________________________
ويمضي كاتب المادة مسجلًا الخصائص التي تميز الملحمة عن غيرها من الإبداعات الأدبية، وهي أن يكون بطل الملحمة شخصًا جليلًا ذا مكانة كبيرة بين أبناء وطنه، أو في العالم أجمع ويحظى بأهمية تاريخية أو أسطورية، كذلك ينبغي أن يكون ميدان الأحداث شديد الاتساع بحيث يشمل كثيرًا من الأمم والبلاد المختلفة، وأن تتسم تصرفات البطل بالشجاعة الفائقة؛ حتى لتكون خارقة في كثير من الأحيان، فضلًا عن مشاركة الآلهة والملائكة والشياطين فيها، مع حرص المؤلف على فخامة الأسلوب، والموضوعية في رواية الوقائع، ورسم الشخصيات بكل سبيل.
وعلى وجه العموم، نرى البطل يقوم برحلة يلقى فيها خصومًا، يحاولون إنزال الهزيمة به ليعود في نهاية المطاف إلى بلاده، وقد تغير فلم يعد كما كان، وهو في كل ذلك يعكس الملامح القومية والخلقية، التي تميز أمته، ويأتي من الأعمال ما يميز أهمية قصوى لتلك الأمة، وقد قام كاتب الويكيبيديا في نهاية المادة بتزويدنا بقائمة لأهم الملاحم المعروفة في العالم مرتبةً تاريخية بدءًا من القرن العشرين قبل الميلاد، وهي بالعشرات وتكاد ألا تكون هناك أمة من الأمم القديمة، إلا وقد أبدعت الملاحم.
وسر تسمية الشعر الملحمي بهذه التسمية أنه يدور غالبًا حول معارك حربية، وهو ذلك الشعر الذي لا يعبر عن ذات صاحبه، ولكنه يدور حول أحداث أو بطولات وأبطال في فترة محددة من تاريخ الأمة. كما يمزج الحقائق التاريخية بروح الأسطورة والخيال، وتتوارى ذات الشعر في هذا المقام حين يتناول مادته تناولًا موضوعيًّا وليس وجدانيًّا، وهو يصور حياة
(1/116)
________________________________________
الجماعة بانفعالاتها وعواطفها، بعيدًا عن عواطفه وانفعالاته، ولا تظهر شخصيته إلا في أضيق الحدود كما تعنيه عواطف الأبطال وانفعالاتهم أكثر من عواطفه وانفعالاته الخاصة.
وتطول قصائد هذا اللون من الشعر؛ حتى تصل آلاف الأبيات، ولكنها على طولها لا بد لها من وحدة هي حدثها الرئيسي وشخصيتها الرئيسية التي تمضي بالأحداث إلى نهايتها، ثم تتفرع أحداث ثانوية وشخصيات مساعدة.
ومن أقدم ما عرفه تاريخ الأدب العالمي من هذا الجنس الشعري "ملحمة "الإلياذة" و"الأوديسا" لشاعر اليونان "هومر"، وموضوع "الإلياذة" تلك الحرب القاسية بين اليونان ومملكة طروادة، وأما "الأوديسا" فتصور عودةَ اليونانيين إلى بلادهم عقب المعركة، والملحمتان تحكيان ألوانًا من المشاعر المتباينة من الغدر والوفاء والحب والبغض، كما تصور أحداثًا دامية عنيفة، وتحكي أسطورة فتح طروادة بهيكل الجواد الخشبي، كما تحدثنا عن شخصيات الأمراء والقواد مثل: أخيل وأجمنون وأجاكس وهيكتور وغيرهم، وبلغت "الإلياذة" ستة عشر ألف بيت من الشعر على وزن واحد.
وقد عرف الرومان الملاحم على يد شاعرهم جرجيل حين كتب "الإنيادة" مستلهمًا ملحمة "هوميروس" وموضوعها مغامرات البطل "إنياس". وكذلك عرفت الأمم الأوربية عددًا من مطولات الشعر القصصي، جعلته سجلًّا لأحداثها ومواقفَ أبطالها، فأنشودة رونان عند الفرنسيين تصوير لعودة الملك "شارلمان" منهزمًا في إحدى غزواته، ولكنه بالرغم من هزيمته كان مثالًا للبطولة والنبل،
(1/117)
________________________________________
كما عرف الفرس ملحمة "الشاهنامه"، التي تحكي أحداث مملكة الفرس، وكذلك كتب الهنود ملحمة "المهابهاراتا" في مائة ألف بيت، حول صراع أبناء أسرة واحدة على المُلك، مما أدى إلى فنائهم جميعًا.
وقد قل شأن هذا اللون من الشعر في العصر الحديث، إذ لم يعد الإنسان تطربه خوارق الأساطير الممعنة بالخيال بقدر اهتمامه بأحداث الحاضر المعبر عن واقعه وهمومه، وآماله وآلامه، وقد بدأ الشعر الملحمي الغربي بـ"الإلياذة" و"الأوديسا"، ويعتقد الباحثون أن هذين العملين قد كتبهما "هوميروس"، وهو شاعر يوناني أعمى عاش في القرن السابع قبل الميلاد، وبني جزء من كل منهما على التاريخ، والجزء الآخر على الأسطورة المتصلة بحرب طروادة، ووضع النقاد الأدب من الإغريق والرومان قواعد للملاحم الشعرية، مبنية على أسلوب "هوميروس" وأسلوب "فرجيل" أهم تابعيه، وقد نصت هذه القواعد على وجوب بدء الملحمة في منتصف الأحداث، أي: أن تبدأ القصة بعد أن يكون جزء كبير من أحداثها قد وقع، وكان على الشعراء أيضًا أن يكتبوا بأسلوب رفيع، وأن يبدأوا بالابتهال إلى آلهة الإلهام، يطلبون منها الوحي الشعري.
ومع مرور الزمن أُهمِلت قواعد الملاحم الشعرية اليونانية والرومانية، وقام الشعراء خلال العصور الوسطى بكتابة الملاحم الشعرية بأسلوب طبيعي، ومن الملاحم المهمة في العصور الوسطى "الملحمة الإنجليزية" "بيولف" في القرن الثامن الميلادي، والفرنسية "أغنية رولان" في القرن الثاني عشر الميلادي، والأسبانية "قصيدة السِّيد" حوالي عام ألف ومائة وأربعين للميلاد، وفي القرن السابع عشر قام الشاعر الإنجليزي "جون ملتون" بتقليد "هومر" و"فرجيل" في ملحمته الشعرية
(1/118)
________________________________________
"الفردوس المفقود"، ومع بداية القرن الثامن عشر أسهم رواج الأدب النثري الواقعي، وخصوصًا الروايات في تراجع الشعر الملحمي، وكذلك كَتَبَ الهنود ملحمة "المهابهاراتا"، وتعد "المهابهاراتا" أطول قصيدة في العالم، حيث تتكون من مائتين وعشرين ألف بيت مقسمة إلى ثمانية عشر فصلًا، وقد كتبت القصيدة باللغة السنسكريتية، وهي اللغة القديمة المقدسة للهند، وتُرجمت إلى عدد من اللغات الهندية الحديثة؛ لأن القصة التي ترويها ذات شعبية واسعة في الهند كلها، وقد عرضت عدة صيغ للقصة التي ترويها القصيدة في التلفاز الهندي، وفي تلفازات عدد من الأقطار الأخرى.
وتعني كلمة "المهابهاراتا" الملك العظيم باهارتا، وتتحدث القصيدة عن المنافسات والنزاعات والمعارك، التي دارت بين الكوارافاس والبندافاس، وهما فرعان من أسرة بهارتا الحاكمة، وينحدر الكوارافاس من أبيهم الذي عرف باسم دريت رشترا، وكان دريتارشتا أعمى؛ ولذا فشل في أن يكون ملكًا واعتلى العرش بدلًا منه أخوه بندو الذي ينحدر منه البندافاس، وتنازل بندو عن العرش فيما بعد؛ ليصبح راهبًا متدينًا، وتولى دريت رشترا زمام الملك، ونشأ أبناؤه الكوارافاس وأبناء عمهم بندو الخمسة معًا، ولكن المنافسات كانت تحتدم دائمًا بين الأسرتين، وبعد نزاع مرير تم إرسال البندافاس إلى المنفى.
وتواصل القصيدة وصف مغامراتهم الكثيرة، ومن ضمنها إقامتهم في بلاط الملك دوروبادا، وهناك تزوج كل من الأخوين المنفيين ابنة الملك التي كانت تعرف باسم دراوبادي، وخلال فترة المنفى قابل البندافاس كرشنا، واعترفوا به
(1/119)
________________________________________
فيما بعد تجسيدًا لمعبودهم فشنون، الذي ساعد بقوته ونصائحه في تقويتهم في معاركهم التالية ضد الكوارافاس.
وبعد رجوع البندافاس من المنفى اقتسموا المملكة مع أبناء عمهم الكارافاس، ولكن ذلك لم يحقق سلامًا دائمًا، وقد لعب أكبر الأخوين البندافا ويودهشترانرد مع أحد الكورافا، الذي كان يطلق عليه اسم دوريودانا، ولقي دوريودانا عونًا من عمه شاكوني، وكان دائمًا يستعمل الزهر المشحون، وبسبب ذلك فقد يودهشترا كل شيء بما في ذلك زوجته دراوبادي، ومرة أخرى أجبر البندافاس على الذهاب إلى المنفى، وامتدت محنتهم حتى معركة كوركشترا الكبرى، التي نشبت بين عامي ثمانمائة وخمسين وستمائة وخمسين قبل الميلاد على أرجح الظنون بالقرب من عاصمة الهند الحديثة دلهي، وقد قتل كل أمراء الكورافاس في هذه المعركة؛ وبذا أصبح يودهشترا ملكًا، واستمر في حكمه حتى شعر أنه قد أتم مهمته في الحياة، وهنا تنازل عن العرش، وبدأ رحلة الصعود إلى السماء هو وإخوته البندافاس الآخرون وزوجتهم دراوبادي، وقد رافقهم في هذه الرحلة كلب كان يمثل معبودهم دارما، وهو إله الواجب والقانون الأخلاقي في الأساطير الهندية، وبعد مغامرات عديدة اتحد البندافاس مرة أخرى في السماء في خاتمة المطاف.
وتشكل هذه القصة التي تكون الموضوع الرئيسي "للمهابهاراتا" نحو ربع القصيدة فقط، وتتخللها كثير من الحكايات الأخلاقية والأساطير والطرائف، المليئة بالتعاليم الدينية والمبادئ الفلسفية الهندية، كما تشتمل أيضًا على مقاطع على مقاطع عن فن الحكم والحكومة الصالحة، وتحتوي كذلك على عدد من القصص الشعبية الأخرى بما في ذلك (قصة نالاود أمايانتي)، و (قصة سفتري وساتياوال)، و (قصة راما)، و (قصة شاكونتالا)، وتقدم معركة كوركسترا فرصة لدراسة الاستراتيجية
(1/120)
________________________________________
العسكرية، ولكن الفكرة الرئيسية "المهابهاراتا" تتعلق بالواجب الأخلاقي، والسلوك القويم من وجهة النظر الهندية.
وقد أتاح الصراع الطويل والمعقد الذي مزق أسرة بهارتا الملكية الفرصة لبيان الواجبات والسلوك المتوقع للملك، كما أنها أيضًا تبين مثاليات السلوك للرعايا والجند، ورهبان الدين والناس الذين يعانون من المحن والبلايا، وجرى التقليد على اعتبار العالم القديم فياسا هو مؤلف "المهابهاراتا"، ولكن الأرجح أنه جمعها فقط، فالملحمة تبدو كمجموعة كتابات لمؤلفين متعددين، عاشوا في أزمنة مختلفة، إذ الأجزاء القديمة يرجع عمرها في الغالب إلى نحو ألفين وخمسمائة عام، بينما يمكن تتبع بعضها إلى وقت متأخر يرجع إلى عام خمسمائة ميلادية.
وقد تطورت أهمية كرشنا في التفكير الهندوسي بصفته إلهًا رئيسيًّا في هذه الملحمة في الفترة بين مائتين قبل الميلاد ومائتين بعده، ونتيجة لذلك يمكن استخدام "المهابهاراتا" لتتبع انتشار، وتطور الفكر الفشنافي نسبة لإله فشنو في الهندوسية، وقد صار الإله فشنو معبودًا ذاتيًّا لعابديه عبر ظهوره في صورة كرشنا الناصح والصديق للأمير أرجونا في "المهابهاراتا"، وتوجد اليوم نحو ألف وثلاثمائة مسودة "المهابهاراتا" تختلف عن بعضها اختلافًا كبيرًا، وكلها يظهر الملحمة في شكلها المتأخر؛ لأن أقدمها يرجع إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
وأشهر الإضافات "للمهابهاراتا" هي الباجا فجيتا، الموجودة في الكتاب السادس، وهي الآن أكثر النصوص الهندوسية المقدسة شهرة، وتحكي الباجا فجيتا كيف أن أرجونا الأمير الثالث للبندافا كانت له شكوك وهواجس عما إذا كان يتعين عليه محاربة بني عمومته الكوارافاس أو لا، وقد قام كرشنا متحدثًا
(1/121)
________________________________________
باسم سلطة الإله فشنو في إقناعه أن عمله هذا عادل، وبعد ذلك كانت مهارة أرجون العسكرية عاملًا حاسمًا لانتصار البندافا، وتشكل تعاليم البجافجيتا جوهر الهندوسية الحديثة.
وهناك نسخة لاحقة معروفة "المهابهاراتا" هي الهارفامشا، التي تصف خلق العالم، وتعطي سلسلة نسب لفشنو، وتتحدث عن مغامرات كرشنا في طفولته بصفته مجسدًا لفشنو، وتنتهي الهارفامشا نهاية قاتمة بانحطاط الإنسانية؛ بسبب الطريقة التي يفسد بها الإنسان العالم ويلوثه، ومثلها مثل الجزء الرئيسي من "المهابهاراتا"، فإن الهارفامشا هي مجموعة كتابات لمؤلفين متعددين، وقدمت القصة الرئيسية "للمهابهاراتا" والأساطير المستمدة منها مصدرًا مثمرًا للمسرحية، والفن، والنحت، والشعر، والنثر الهندي، وساهمت الملحمة من عدة أوجه في إغناء الثقافة والعقيدة الهندوسية.

ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا"
ومن الملاحم القديمة الشهيرة أيضًا ملحمة "الإلياذة"، التي تعد أقدم الملاحم الإغريقية الباقية، ويعتقد أن الذي نظمها هو الشاعر الإغريقي القديم "هومر"، وربما كان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد.
وتصف "الإلياذة" أحداثًا معينةً في العام الأخير من حرب طروادة، التي نشبت بين بلاد الإغريق وطروادة، وطبقًا للأسطورة فإن حرب طروادة دامت عشر سنوات، حتى تمكن الإغريق أخيرًا من هزيمة طروادة، ويعتقد معظم علماء الآثار أن تلك الحرب نشبت خلال منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إذ إن بعد الأحداث في "الإلياذة" قد بنيت على وقائع حدثت خلال تلك الفترة،
(1/122)
________________________________________
وقد نشبت حرب طروادة بسبب هيلين الجميلة زوجة مينلاوس ملك إسبرطة، وقام باريس وهو من أبناء بريام ملك طروادة باختطاف هيلين من إسبرطة إلى طروادة، وقاد أجمنون شقيق مينلاوس جيشًا من أبطال الإغريق لإعادة هيلين إلى إسبرطة، وتنقسم "الإلياذة" إلى أربعة وعشرين فصلًا، وتغطي أحداثها نحو ما يقرب من أربعة وخمسين يومًا، وتقع معظم الأحداث في المعسكر الإغريقي، وداخل أسوار طروادة والمناطق المجاورة لها.
وتروي الملحمة أن نزاعًا نشب بين أجمنون وأخيل أعظم الأبطال الإغريق الشبان، فقد شعر أخيل بأنه لا يكافأ بما فيه الكفاية نظير خدماته للإغريق، وشعر أجمنون هو الآخر بأن أخيل لا يكن له الاحترام الكافي بوصفه قائدًا للجيش، فانسحب أخيل لخيمته، ورفض القتال واستمرت الحرب دون أخيل، وتراجع الإغريق أمام قوات طروادة بقيادة هيكتور أحد أبناء بريام، وتوجه بطروكلس أقرب أصدقاء أخيل لمساعدة الإغريق، وهو يرتدي درع أخيل، إلا أن هيكتور قتل بطروكلس مما دعا أخيل للنهوض للأخذ بثأره، وبعدها قتل أخيل هيكتور خارج طروادة وتنتهي القصة بجنازة هكتور.
وقد ظلت "الإلياذة" لحقبة طويلة تعبيرًا حيًّا عن البطولة والمثالية، ومأساوية الحرب، وبالإضافة إلى مشاهد المعركة، فإن "الإلياذة" تتحدث عن الحياة داخل طروادة، فتصف زيارة هيكتور مع بارس وهيلين، والوداع العاطفي بين هيكتور وزوجته أندرماك، التي تنبأت بموته، وكان هيكتور جنديًّا عظيمًا، ولكنه كان يمثل رجل الأسرة الذي دُعي للدفاع عن بلاده، وعند القيام بذلك فقد حياته من أجلها.
ومن الإبداعات الملحمية القديمة كذلك ملحمة "الأوديسا" التي قد تكون أكثر الأعمال شعبية في الأدب الإغريقي القديم، و"الأوديسا" من أشهر قصص المغامرات في الأدب، وقد أصبحت مثالًا لكثير من قصص المغامرات مؤخرًا،
(1/123)
________________________________________
وألف "الأوديسا" حسبما هو متعارف عليه الشاعر الإغريقي "هومر"، ربما في القرن الثامن قبل الميلاد، والشخصية التي تدور حولها الأحداث هو أدسيوس أو يوليسس في اللاتينية ملك إيساكا، وهي دولة مدينة في بلاد اليونان القديمة، وتصف القصيدة رحلة عودة أدسيوس بعد أن حارب مع الإغريق ضد مدينة طروادة في حرب طروادة، وكتب المؤلف عن هذه الحرب في "الإلياذة".
وتتكون "الأوديسا" من أربعة وعشرين كتابًا أو قسمًا، ووقعت القصة خلال فترة عشر سنوات تقريبًا، وتبدأ الرواية بعد وقوع أحداث كثيرة منها، وتسمى هذه الطريقة -أي: طريقة بداية القصة من منتصفها ثم الرجوع إلى البداية- تسمى الحبكة القصصية، وقد استخدمها الكثير من الكتاب مؤخرًا.
وقصة "الأوديسا" تبدو على جزيرة أوججيا التي كان فيها أدسيوس سجينًا للحرية كلبسو لمدة سبع سنوات، وقد قرر سايوس أنه آن أوان عودة أدسيوس إلى زوجته بنلون في إيساكا، ثم يتغير المشهد إلى قصر أدسيوس بأوساكا، حيث استقرت مجموعة من النبلاء يريدون أن تفترض بنلوب أن زوجها قد مات، وطلبوا أن تتزوج من أحدهم، وبالتالي يتم اختيار ملك جديد لإيساكا، وقد انتهض كلمكيوس بن أدسيوس من النبلاء، واقترحت الإلهة أثينا أن يذهب في رحلة للبحث عن أخبار والده، ووافق تليماخوس وغادر إيساكا.
وتعود القصة بعد ذلك إلى مغامرة أدسيوس، حيث يطلب الإله هرمس من كلبسو إخلاء سبيل أدسيوس ويبحر أدسيوس في طوف، لكن إله البحر بوزدون يثير عاصفة شديدة، وتتحطم سفينته في جزيرة الفاشيان وتكتشفه ناوزيكا ابنة ملك الفاشيان الجميلة، ويصف أدسيوس تجواله منذ حرب طروادة، عندما كان
(1/124)
________________________________________
ضيفًا على الفاشيان، إذ قص علينا زيارته لأرض أكلة اللوتس، الذين يجعلون أكلهم *****ي الناس ينسون أوطانهم، وقد أراد بعض رجاله الذين أكلوا الطعام البقاء مع أكلة اللوتس، لكن أدسيوس أجبرهم على الذهاب معه، ثم أبحر الجميع إلى إحدى الجزر، حيث أمسك بهم بلومفيوس، وهو عملاق بعين واحدة يسمى أيضًا سيكلوب، وقد تمكنوا من الهرب بعد أن فقأوا عين السيكلوب، ويسأل السيكلوب والده بوزدوم بأن يجعل عودة أدسيوس إلى وطنه صعبة بكل سبيل.
وبعد عدة مغامرات رست السفينة التي كانت تحمل أدسيوس ورجاله في جزيرة الساحرة سرسي، حيث حولت سرسي رجال أدسيوس إلى خنازير، وجعلت من أدسيوس عشيقًا لها، وأخبرت أدسيوس بأنه لكي يعود إلى وطنه يجب عليه زيارة العالم السفلي لاستشارة الرسول تليسياس، وفي العالم السفلي رأى أودسيوس شبح أمه، وأبطال حرب طروادة، كما شاهد عقاب الأشرار.
وقد حذر تنسيوس أودسيوس من الأخطار التي تنتظره، وأخبرته سيرسي بكيفية تخطي مسخي البحر سيلا وشاربديز، كذلك حذرته من الصافرات السيرانات أي: حوريات البحر التي تستخدم غناءها الجميل لاستدراج البحارة إلى الهلاك في جزيرة *****، وأبحرت سفينة أودسيوس عبر هذه الأقطار، وكانت تبدو وكأنها سوف تصل إلى إيساكا بدون أية معضلات، لكن بعض رجال أدسيوس قام بسرقة الماشية المخصصة لعبادة الشمس، وأكلها في جزيرة سرناسيا، وكعقاب لأدسيوس تحطمت السفينة من جراء عاصفة رعدية، وغرق رجاله، ووصل أودسيوس إلى أوجيجيا وهو في غاية الإرهاق حيث بدأت القصة.
وبعد أن أكمل أودسيوس قصته أخذه الفاشيان إلى إيساكا، وأخبرت أثينا عن النبلاء في قصره، ونصحته أن يرجع إلى داره متنكرًا، وذهب أودسيوس إلى
(1/125)
________________________________________
قصره متنكرًا في شكل شحاذ، وقد وافقت بنيلوب على الزواج من الرجل الذي يستطيع أن يوتر قوس أدسيوس الضخم، ويرمي بسهم من خلال اثني عشر محورًا.
وقد كتبت "الأوديسا" بمهارة وتدمج القصة الروايات الحقيقية عن الحياة الإغريقية القديمة، وعناصر أحداث تاريخية مع قصص الجن عن جزر خيالية، وتحتوي كذلك على تصوير ماهر للشخصيات الروائية، ويمثل أدسيوس نموذج الرجل الشجاع الحاسم، فبالرغم من العقبات الكثيرة لم يتخل عن هدفه في العودة إلى دياره، لكنه يحمل سمات إنسانية أخرى تحول دون أن يكون أنموذجًا كاملًا.
وفي الحقيقة فإن أحد كاتبي الدراما الإغريق المتأخرين جعل من أدسيوس نموذجًا للخداع، ومثلت بنيلوب الزوجة المخلصة المحبة، وكان تليماك نموذجًا للشاب الذي ينضج بمواجهة التحديات الصعبة، ويمكن أن تمثل الملحمة رحلة الإنسان عبر الحياة، والبحث عن تحقيق الذات ومعرفتها.

ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)
ومن الملاحم القديمة أيضًا ملحمة "الإنياذة"، التي ألفها الشاعر الروماني فرجيل، بين عامي ثلاثين وتسعة عشر قبل الميلاد، وكانت تلك الفترة بمثابة حقبة كبرياء قومي للرمانيين، فقد أكمل الإمبراطور أغسطس لتوه توحيد شعب شبه الجزيرة الإيطالية؛ ليتغلب على أعداء روما في الأقاليم الشرقية، واختار فرجيل أسطورة البطل الطروادي إنياس للتعبير عن
(1/126)
________________________________________
قيم روما القديمة الأخلاقية والدينية، ولتكريم أغسطس الذي كان يعتقد بأنه سليل لإنياس، وتحوي الإنيادة اثني عشر كتابًا، تقلد الستة الأولى منها الملحمة الإغريقية "الأوديسا"، وتصف مغامرات إنياس في البحر عبر استيلاء الإغريق على طروادة أثناء الحرب الطروادية، وتبدأ الملحمة بعاصفة تحطم سفينة إنياس وأتباعه الطرواديين قرب قرطاج بشمال إفريقيا، حيث يقع إنياس في غرام ملكتها ديدو غير أن الآلهة الوثنية تأمره بالرحيل إلى إيطاليا.
ويدفع اليأس ديدو للانتحار، وبعد وصول إنياس إلى إيطاليا في نهاية المطاف يهبط إلى العالم السفلي، ويحيط علمًا بأن سلالته المستقبلية هم الرومانيون، ويبني فرجيل الكتب الستة الأخيرة من "الإنياذة" على أساس من ملحمة "الإلياذة" اليونانية، وتبدأ بوصول إنياس قرب روما حيث يقدم له الملك المحلي لاتينوس أرضًا لأتباعه، ويعرض عليه الزواج من ابنته لافنيا، ويقوم ترنوس طالب يد لافنيا الغيور بالهجوم على الطرواديين، ويقتل الجندي الشاب بالاس، الذي وعده إنياس بالحماية، وفي وقت لاحق يصارع إنياس ترنوس ويقتله عقابًا لموت بالاس.
ومن الملاحم الشهيرة ملحمة (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي "دانتي أليجري"، الذي بدأها عام ألف وثلاثمائة وثمانية للميلاد، وانتهى منها بعد ذلك بنحو ثلاث عشرة سنة، وموضوعها الرئيسي هو الحياة بعد الموت، و"دانتي" هو الشخصية الرئيسية فيها، وتنقسم الكوميديا الإلهية إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: الجحيم والمطهر والفردوس، وقد أطلق عليها دانتي الكوميديا؛ لأنها انتهت نهاية سعيدة، ثم
(1/127)
________________________________________
أضافت إليها الأجيال اللاحقة صفة إلهية، فأصبحت تسمى (الكوميديا الإلهية)، وقسم "دانتي" الأقسام الثلاثة للقصيدة إلى أجزاء أخرى تسمى بالأجزاء الداخلية، ويضم كل من قسمي المطر والفردوس ثلاثة وثلاثين جزءًا، أما الجحيم فيضم أربعة وثلاثين جزءًا، وتتميز جميع الأجزاء بالإيقاع القوي؛ نظرًا لمقاطعها الموشحية ذات الأبيات الثلاثة.
وفي هذا الشكل الشعري الذي اخترعه "دانتي"، نجد أن البيتين الأول والثالث من كل مقطوعة يأتي على وزن البيت الأوسط من المقطوعة السابقة، وتبدأ القصة بـ"دانتي" المفقود في غابة مظلمة، وفي يوم جمعة صحوة، وبعد ليلة من التجوال المؤلم يتقابل مع الشاعر الروماني فرجيل، الذي يعده بأن يخرجه من تلك الغابة، ويقوده إلى رحلة في العالم الآخر ويدخل الاثنان الجحيم، وهو حفرة فظيعة على هيئة مخروط عميق في باطن الأرض، وفي الحفرة تسع دوائر حيث يريان جموعًا من الأفراد يعانون العذاب، الذي تصبه فوق رؤسهم الوحوش الخرافية والشياطين والمخلوقات الأخرى؛ عقابًا على خطاياهم، وهؤلاء الملعونون المعذبون شخصيات تاريخية معروفة جيدًا، بعضها من عصر سابق لـ"دانتي"، غير أن معظمهم من عصر "دانتي" نفسه.
ومن هذه الشخصيات ابن رشد وصلاح الدين، وللأسف وضع هذا الغبي الكافر الرسول محمدًا -عليه الصلاة والسلام- في أسفل دركات الجحيم، ويغادر كل من "دانتي" وفرجيل الجحيم ويصلان إلى جبل المطهر، ومن هناك يتسلقان إلى شرفات مضيئة فيها الموتى، الذين وهبوا الخلاص يبحثون عن الغفران من الخطايا التي اقترفوها على الأرض، ويملأ جو من الأمان والأمل ذلك المكان الخاص بالتطهر، على عكس المعاناة الكبيرة واليأس اللذين مرا بهما في الجحيم.
(1/128)
________________________________________
وعند وصولهما إلى الجنة الأرضية على قمة جبل المطهر، يوصي فرجيل "بدانتي" إلى مرشدة جديدة هي بياتروس
وتعد هذه الملحمة من نواح عدة قصيدة حب تمتدح جمال بياتروس الأخلاقي، وقدرتها على الوصول بدانتي إلى رؤية الخير الأعظم، إذ إنها تقوده خلال طبقات السماوات العشر، حيث يلتقي بأرواح المباركين، ويقف "دانتي" في بهجة ونشوة، ويتفهم في النهاية الحقيقة النهائية للحياة، وما يعنيه الكون، وتذهب جماعة مؤرخي الأدب ونقاده إلى أن "دانتي" تأثر في هذا العمل بقصة الإسراء والمعراج، وربما أيضًا بـ (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، وأخذ الفكرة والمنهج عنه.
و (رسالة الغفران) كما جاء في المادة المخصصة لها في "الموسوعة العربية العالمية" هي رحلة خيالية كتبها أبو العلاء المعري، الذي توفي في منتصف القرن الخامس الهجري، ردًّا على رسالة وجهها إليه علي بن منصور الحلبي، المعروف بابن القارح يسأله فيها عن جملة من الأمور تتصل بالتاريخ والفقه والتصوف والأدب والنحو والسيرة النبوية والزندقة، وقد جاء رد أبي العلاء على رسالة ابن القارح من شقين: الشق الأول هو الشق الخيالي ويتصور فيه المعري ابن القارح في رحلة إلى العالم الآخر على غرار أدب المعراج، وسماها الغفران، أي: غفران الله -سبحانه وتعالى- لابن القارح وغيره من الشعراء زلاتهم وخطاياهم، والشق الثاني ينطوي على رد أبي العلاء المعري على المسائل، التي تؤرق ابن القارح وهي قضايا فكرية وعلمية وتاريخية ودينية، كما ألمحنا من قبل.
(1/129)
________________________________________
ورغم أن أبا العلاء يطلعنا مباشرة على موقفه من القضايا المطروحة في المعارف والفنون والعلوم في شق رسالة الغفران الثاني، فإن الشق الأول وهو الرحلة الخيالية هو الذي كُتِبَ له الخلود، وفيه يرد المعري على أسئلة ابن القارح ردًّا غير مباشر، مازجًا الجد بالسخرية.
وتنقسم رحلة ابن القارح التي يتخيلها المعري ثلاثة أقسام هي: الصعود ثم زيارة الجحيم ثم الجنة، وقد استفاد المعري من أدب الإسراء والمعراج والقرآن والتفسير والحديث الشريف في إبداع تلك الرحلة، وخلال ذلك يلتقي ابن القارح بشخصيات متعددة، تمثل الشعراء والأدباء والنقاد والمفكرين، فيحاورهم مثيرًا معهم طائفة من القضايا الفكرية والأدبية والنقدية والدينية، ويستقي المعري من مصادر متعددة كالأدب واللغة والشعر والنثر والاجتماع والأخلاق والتاريخ والدين، يستقي المادة التي تملأ إطار الرسالة، فقد عاش ابن القارح كما يصوره خيال أبي العلاء يوم الموقف، وما فيه من هول وشفاعة، ثم رأى نعيم الفردوس، ثم انتقل إلى الجحيم وعذابه، ثم عاد إلى الفردوس والخلد في نهاية المطاف.
ورسالة الغفران غنية بالعناصر القصصية، ففيها حبكة وحوار ورسم شخصيات، ويتحدث فيها ابن القارح إلى الشعراء والكتاب ويحاورهم في مسائل وقضايا، تتصل بمعارفهم وإبداعاتهم، ويبدع أبو العلاء فيما يقدمه من خيالات تتعلق بآدم وإبليس والعفاريت والملائكة والشعراء، مما يخرج الواقع التاريخي للشخصيات إلى إطار متخيل مدهش.
وهناك أيضًا تشابه كبير بين (رسالة الغفران) و (رسالة التوابع والزوابع) لابن شهيد الأندلسي، فكلتاهما تعرض القضايا الأدبية بأسلوب قصصي، وكلتاهما
(1/130)
________________________________________
اتخذت مسرحها خارج هذا العالم الأرضي، وكان المعري وابن شهيد متعاصرين، إذ توفي المعري عام أربعمائة وتسعة وأربعين هجرية، على حين توفي ابن شهيد عام أربعمائة وستة وعشرين من الهجرة.
وقد ظهرت بعد (رسالة الغفران) بفترة طويلة (الكوميديا الإلهية) لـ"دانتي" الإيطالي و (الفردوس المفقود) لـ"مِلتون" الإنجليزي، وقد عثر مستشرق أسباني معاصر على مخطوطتين لترجمتين مختلفتين لقصة (المرار)، خلص منهما إلى نظرية تثبت أن "دانتي" قد بنَى كوميدياه على أصول إسلامية من بينها (رسالة الغفران) وقصة المعراج.
كذلك تركت (رسالة الغفران) تأثيرها على أدب الرحلات إلى العالم الآخر في الأدب العربي الحديث، إذ تأثرت بها قصيدة الزهاوي القصصية المطولة المسماة "ثورة في الجحيم"، ومطولة "شاطئ الأعراف" لمحمد عبد المعطي الهمشري، و"بين النهايتين" لمحمد سعيد *****اوي، و"الأخيران" من شعراء الجيل الثاني لحركة أبوللو في مصر.

هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم؟
والسؤال الآن، هل في أدبنا ملاحم كتلك التي يعرفها كثير من الآداب الأخرى؟
الجواب هو: لم يعرف الأدب العربي هذا اللون من القصص أو الملاحم في شعره القديم، ولكن في العصر الحديث حاول الشعراء العرب استيحاء التاريخ قديمه وحديثه؛ لتصوير البطولات العربية والإسلامية، فكتب الشاعر المصري أحمد محرم، المتوفى عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين للميلاد "الإلياذة" الإسلامية في أربعة أجزاء، يحكي في الجزء الأول منها حياة الرسول بمكة، ثم هجرته إلى المدينة، كما يتناول غزواته وأحداثها وبطولاتها، ويستمر الحديث عن الغزوات والبطولات في الجزئين الثاني والثالث، أما الجزء الرابع فيخصصه للحديث عن الوفود التي
(1/131)
________________________________________
قدمت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسرايا التي اتجهت إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وقد كتب خليل مطران قصيدة قصصية عنوانها: فتاة الجبل الأسود تصور ثورة شعب الجبل الأسود ضد الأتراك، ومحورها بطولة فتاة تنكرت في زي فتًى واقتحمت موقعًا للأتراك، وقتلت بعض رجالهم، وعندما أسرت اكتشف الأتراك حقيقتها، فأعجبوا ببطولتها، وأطلقوا سراحها.
هذا عن الأدب العربي الفصيح
أما الأدب الشعبي فيمكن القول: أنه قد عرف على نحو ما فن الملاحم، وما زال المنشدون يرددون ملحمة عنترة أبي الفوارس، وتغريبة بني هلال، وهما من القصص الطويلة التي تؤدي فيها الأسطورة والخيال دورًا مهمًّا في تصوير الوقائع والبطولات، هذا باختصار.
أما بالتفصيل فنقول: إنه بالنسبة إلى الأدب الفصيح القديم لا يوجد شيء يمكن أن يقال عنه: إنه ملحمة أو يشبه الملحمة بالمعنى الذي شرحناه هنا، ولقد فاخر ابن الأثير وهو من أهل القرنين السادس والسابع الهجريين في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) بما يوجد في آداب الفرس من القصائد الطويلة التي تبلغ الواحدة منها عدة آلاف من الأبيات كـ (الشاهنامه) وما إليها، فكان رد صلاح الدين الصفدي من أهل القرن الثامن الهجري في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) هو التذكير بما في أدبنا من منظومات، وقصص طويلة أشار إلى بعضها.
ومن الواضح أنه ظن المسألة في الطول وحده، وإلا فإن الأمثلة التي ضربها على ما في بعضها من إبداع أدبي جميل ورائع ليست من سبيل الملحمة، ولا الملحمة من سبيلها، وكان ابن الأثير في كتابه المذكور يوازن بين فني النثر والشعر، ويرصد
(1/132)
________________________________________
الفروق بينهما إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير، فقال: إنه مما لا يحسن في الذوق العربي أن يطول الشاعر قصائده، ويشقق المعاني، ويستوفي الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، ثم انطلق في موازنة بين العرب والفرس في تلك النقطة، قائلًا: إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورًا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب -يقصد: الناثر- لا يؤتى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله.
وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه، وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النقطة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بـ (شاهنامه)، وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها، وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر. هذا ما قاله ابن الأثير.
فكان من جراء ذلك أن ألف صلاح الدين الصفدي كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر)؛ للرد على بعض ما جاء في كتاب ابن الأثير السابق الذكر، كما هو واضح من عنوانه، وهذا الرد يجري على النحو التالي.
قال -أي: ابن الأثير- في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب: إن الشعر إذا أراد أن يشرح أمورًا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة من
(1/133)
________________________________________
أن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب لا يؤتى من ذلك بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهو مجيد في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه وقلناه، وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النقطة المشار إليها، فإن شاعرهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا، وهو شرح قصص وأحوال يكون مع ذلك في نهاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف (شاهنامه) وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العرب بالنسبة إليها كقطرة من بحر.
ثم يعقب صلاح الدين الصفدي، قائلًا: قد ختم ابن الأثير -رحمه الله تعالى- كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال معمر بن المثنى ولا سهل بن هارون ولا ابن غرسيا في رسالته مثل هذا، وقد وجد في أهل اللسان العربي مَن نظم الكثير أيضًا، وإن عد هو الفردوسي عددت له مثل ذلك جماعة: منهم من نظم تاريخ المسعودي نظمًا في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب (كليلة ودمنة) في عشرة آلاف بيت، ونظمها أبان اللاحقي أيضًا، وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي بن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي، وقد عرف بابن الدجاجية نظم كتاب (المهذب)، وهو قصيدة على روي الراء سماها (البديعة في أحكام الشريعة).
قلت -أي: قال صلاح الدين الصفدي-: والمهذب في أربع مجلدات، وبعض المغاربة امتدح سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصيدة عدتها ثمانية عشر ألف بيت،
(1/134)
________________________________________
ولابن الهبارية كتاب (الصادح والباغ) في ألف بيت كل بيت منها قصر مشيد، ونكتة ما عليها في الحسن مزيد، يشتمل على الحكايات والنوادر والأمثال والحكم، وكلها في غاية الفصاحة والبلاغة ليس فيها لو ولا ليت.
وأما من نظم الألف وما دونه فكثير جدًّا لا يبلغهم الحصر، وأما (الشاطبية) وما اشتملت عليه من معرفة القراءات السبع واختلافها، وتلك الرموز التي ظاهرها الغزل وباطنها العلم، فكتاب اشتهر وظهر، وخلب سحره الألباب وبهر، وأما أراجيز النحو والعروض والفقه، كالذي نظم الوجيز ومنظومية الحنفية وغير ذلك من الطب وغيره من العلوم، فكثير جدًّا إلى الغاية التي لا يحيط بها الوصف.
هذا ما قاله الصفدي
إذن، ففي أدبنا الفصيح القديم لا وجود لهذا الفن الشعري، ولكنا لدينا مع هذا ما يسمى بالسير الشعبية كسيرة عنترة، وسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية، وسيرة ذات الهمة، وسيرة حمزة البهلوان، وسيرة فيروز شاه، وسيرة علي الزيبق، وسيرة أحمد الدنف، وهي تقترب جدًّا من فن الملحمة، فهي قصص وهي شديدة الطول حتى لا تتجاوز سيرة عنترة كمثلًا ثلاثة آلاف صفحة وخمسين، إلا أن هذه السير ليست مصوغة كلها شعرًا، بل هي عمل نثري في المقام الأول تكلل أشعار على ألسنة بعض أبطالها، مع تفاوت في مقدار هذا الشعر بين سيرة وأخرى، ومع هذا لا يصح أن نغفل أنها مصبوبة في قالب السجع، الذي يقترب خطوة من الشعر، أي: أن أسلوب السيرة النثرية ليس خاليًا من النغم هو أيضًا.
كذلك لا يوجد لها مؤلف معين، إذ هي من إبداع المخيلة الشعبية، ولعلنا لم ننس أن الملاحم الأولى الموغلة في القدم هي أيضًا عارية عن أسماء مؤلفيها، بل إن من الدارسين من ينفي أن يكون "هوميروس" هو صاحب "الإلياذة" قائلًا:
(1/135)
________________________________________
إنها عمل شعبي عام اكتمل على مدار الزمان، ومن هنا كان أسلوب السير الشعبية مختلفًا عن أسلوب الأدب الرسمي، رغم أنها مكتوبة بالفصحى، إذ هي فصحى تنفح بالنكهة الشعبية من حيث بساطتها، وعدم احتفالها بالصياغة اللغوية بوجه عام.
وفوق ذلك ففي السير تداخل بين الأماكن والأحداث والأزمنة التاريخية، كما هو الحال مثلًا في سيرة عنترة، حيث نرى عنترة في اليمن وفارس والشام ومصر، وحيث تستغرق الأحداث ما يقرب من ستة قرون، وكما هو الحال أيضًا في سيرة الظاهر بيبرس حيث يشتبك العصر العباسي والعصر الأيوبي والعصر المملوكي.
ووجه الشبه بين السير الشعبية والملاحم أنها شديدة الطول، وأن الأبطال فيها يتميزن بالشجاعة الخارقة، كما تختلط الأحداث التاريخية بكثير من الخرافات والأساطير، فضلًا عن اتساع رقعة الأديان التي تتحرك فيه الوقائع والشخصيات، كذلك فالجن و***** والمعجزات والكرامات والرؤى والنبوءات الصادقة وجودٌ في تلك السير، وقد أشار إليها "روجر ألن" في كتابه " An Introduction to Arabic literature" بوصفها ملاحم شعبية، وللدكتور عبد الحميد يونس ودكتور نبيلة إبراهيم والأستاذ فاروق خورشيد وغيرهم دراسات هامة حول تلك الأعمال.
أما في العصر الحديث فقد ظهرت بعض الأعمال الشعرية العربية التي أطلق عليها ملاحم، رغم أنها لا تتطابق والملاحم القديمة التي نعرفها، إلا أن فيها مع ذلك
(1/136)
________________________________________
بعض السمات التي تصلها على نحو ما بها، فهي أعمال قصصية طويلة يقع بعضها في عدة آلاف من الأبيات، كملحمة "راديب" لبولس سلامة اللبناني النصراني، الذي لم تمنعه نصرانيته الإعجاب ببطولة ختم النبي -صلى الله عليه وسلم- والعكوف على سيرته وشخصيته، يدرسهما ويستوحيهما؛ حتى أخرج لنا في نهاية الأمر عملًا ملحميًّا يصور بطولاته -صلى الله عليه وسلم- وإنجازاته الخارقة، على حين يكتفي البعض الآخر بعدة مئات من الأبيات، كـ"ترجمة شيطان"، التي صور بها العقاد ما حاق بنفسه عقب الحرب العالمية الأولى، من شكوك في قدرة البشرية على مصارعة عوامل الشر والانتصار عليها، ويأس من انتصار الخير في دنيانا هذه؛ بسبب الأهوال وألوان الدمار، والتقتيل التي أنزلتها تلك الحرب ببني الإنسان.
والأولى تتناول سيرة بطل عربي مسلم مشهور بالشجاعة غير الاعتيادية، وله إنجازاته الحربية التي أسهمت في تغيير مجرى التاريخ، وهو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب على حين تحكي الثانية قصة الشيطان في تمرده المستمر على رب العباد، وعمله على بث الغواية في كل مكان، رغم معرفته بما ينتظره من عقاب رهيب في نهاية المطاف، فهي إذن تدور حول قضية فلسفية ودينية خطيرة، هي قضية الخير والشر والصراع بينهما، ووقوع الإنسان بين شقي الرحى، وقد أثارت قصيدة العقاد إعجاب ناقد كالدكتور زكي نجيب محمود إلى أبعد مدى؛ حتى إنه ترجمها إلى الإنجليزية ترجمة مرموقة في تقدير من اطلعوا عليها، كما لفت النظر إلى أن العقاد بقصيدته
(1/137)
________________________________________
هذه قد فتح في الشعر العربي فتحًا، سبق به قصيدة الأرض الخراب لإليوت، تلك القصيدة التي كان لوقعها من الدوي ما جعلها معلمًا من معالم القرن العشرين الأدبية.
وكما يرى القارئ، فإن في هاتين الملحمتين العنصر الخارق
وهناك أيضًا ملحمة "عبقر" لشفيق المعلوف، و"محمد" لعلي شلق، و"الإلياذة" الإسلامية لأحمد محرم، الذي جاء عمله أقرب إلى السرد التاريخي منه إلى الملحمة، رغم أن الأسلوب الذي كتب به ذلك العمل أسلوب شعري، إذ ينقصه البناء القصصي تمامًا، فهو من هذه الناحية يشبه أرجوزة ابن عبد ربه التي بلغت أربعمائة وخمسًا وأربعين بيتًا في تعديد مآثر الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث بقرطبة، وأرجوزة ابن المعتز في الخليفة العباسي المعتضد بالله، والتي نيفت على أربعمائة بيت من نحو عشرين بيتًا، وإن كان عمل محرم أطول من ذلك كثيرًا جدًّا.
ولا مانع أن تعد تلك الأعمال الحديثة من الملاحم، ما عدا "الإلياذة" الإسلامية؛ لافتقارها إلى أهم عناصر الملحمة وهو العنصر القصصي، ولا ريب أن من الصعب استمرار ملامح جنس أدبي ما دون تغيير أو تعديد أو تطوير طوال كل هاتيك القرون الشاسعة، وهناك مقال لـ"ماتيا كافانيا" يتناول بعض الأعمال الأدبية الفرنسية المعاصرة، فيعدها من الملاحم رغم أنها لا تتوفر فيها كل العناصر الملحمية، ذلك أن هذه الأعمال قد ساهمت في إحداث ذلك التغيير، الذي كان من جرائه أن أصبحت الملاحم تُكتب نثرًا، بعد أن كانت على الدوام تصب في قالب الشعر علاوة على غلبة الطابع العاطفي عليها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1/138)
________________________________________
الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية.
(1/139)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس
(الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية)

التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها
جاء في "الموسوعة العربية العالمية" في المادة المخصصة لأحمد شوقي: أنه عَلَمٌ من أعلام الشعر العربي في القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين الميلاديين، وقد ولد في القاهرة من عائلة تلتقي فيها الدماء العربية والكردية والتركية والشركسية واليونانية، ونشأ منذ طفولته وعاش في سعة من الرزق ورغَد في العيش بسبب صلته بالخديوي إسماعيل، ومَن جاء بعده من أبنائه.
تعلم شوقي في الكُتَّاب أولًا، ثم في المدارس الابتدائية فالثانوية التي تخرج فيها سنة ألف وثمانمائة وخمس وثمانين للميلاد، ثم انتظم بعد ذلك في مدرسة الحقوق والترجمة، وتخرج بعد أربع سنوات، فألحقه الخديوي توفيق بخدمته، ثم أرسله في بعثة دراسية على حسابه الخاص إلى فرنسا.
وكان أثناء دراسته الحقوق في مصر وفرنسا مكبًّا على دراسة الشعر العربي واستظهاره، وحفظ نوادره إلى جانب اطلاعه الواسع على روائع الأدب الفرنسي، وكان يرسل قصائده من فرنسا في مديح الخديوي توفيق، وكانت تلقى صدًى من القراء والأدباء في مصر، وبعد ثلاث سنوات عاد شوقي من بعثته، وقد تولى الخديوي عباس الحكم بعد وفاة والده، فانضم إلى ديوانه، وبدأت مرحلة جديدة في حياته هي مرحلة شعر القصر، التي قام فيها بكل ما يتطلبه هذا المنصب من التزامات سياسية واجتماعية، فأصبح بيته مقصدًا لذوي الحاجات بسبب موقعه في القصر.
(1/141)
________________________________________
كما أصبحت علاقاته كذلك مرتبطة باتجاهات القصر، واستمرت العلاقة بينه وبين الخديوي عباس حلمي قوية؛ حتى عزل الخديوي سنة ألف وتسعمائة وأربع عشرة إلى الميلاد، ونفي شوقي إلى الأندلس بسبب تلك العلاقة، وهنا بدأت مرحلة جديدة أخرى في حياته حياة المنفى، حيث عاش في إسبانيا أربع سنوات لا ينغص عليه سوى حنينه الشديد إلى مصر وأهلها، وفي ذلك يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
ثم عاد إلى الوطن بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وأصبح عندئذ أشد التصاقًا بالشعب وأكثر تعبيرًا عن آرائه وآماله بعد أن تحرر من قيود القصر، وتعد مرحلة ما بعد المنفى أغزر فترات حياته إنتاجًا، فقد كثرت فيها قصائد المناسبات الاجتماعية والوطنية، كما اتجه إلى كتابة المسرحيات المستمدة من التاريخ، وفي سنة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين ميلادية، اجتمع شعراء الأمة العربية في مهرجان كبير بالقاهرة؛ لتكريمه ومبايعته بإمارة الشعر عرفانًا منهم بفضله ومكانة شعره، الذي كان كما وصفه في ذلك الحفل بقوله: كان شعر الغناء في فرح الشرق، وكان العزاء في أحزانه، وأصبح منذ ذلك الحين يلقب بأمير الشعراء.
وقد أكمل شوقي المهمة التي بدأها البارودي لإحياء تراث الشعر العربي، وإعادة مجده في أيامه الزاهرة، فنظم في جميع الأغراض الشعرية، وأكثر من معارضة القصائد المشهورة في الشعر العربي القديم معتمدًا على موهبة شعرية فذة، ولغة طيعة رائعة، وترك شوقي وراءه ديوانه (الشوقيات) في أربعة مجلدات و (دول العرب) و (عظماء الإسلام)، وهي أراجيز تتحدث عن تاريخ الإسلام وعظمائه منذ عهد النبوة إلى عهد الفاطميين، وله من المسرحيات الشعرية ست
(1/142)
________________________________________
هي (مصرع كليوباترا) و (مجنون ليلى) و (عنترة) و (قمبيز) و (علي بك الكبير) و (الست هدى)، وله مسرحية نثرية واحدة هي (أميرة الأندلس).
أما في النثر فله كتاب (أسواق الذهب)، وقصائده المشهورة كثيرة جدًّا من أشهرها أندلسياته التي كتبها من منفاه، وجارَى في واحدة منها سينية البحتري المشهورة، فقال:
اختلاف النهار والليل ينسي ... اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
كذلك جارى نونية ابن زيدون، فقال:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
هذا فضلًا عن همزيته في مدح رسول الله، ومطلعها:
وُلد الهدى فالكائنات ضياء ... وفم الزمان تبسم وثناء
ومن أرق شعره وأعذبه "جارة الوادي" التي منها قوله:
يا جارة الوادي طربت عادني ... ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى ... والذكريات صدت سنين الحاكي
وقد جاء في كتاب (المسرح) لمحمد مندور ما يفهم منه أن تأثر شوقي بالأدب الفرنسي وإقباله على الإبداع المسرحي، هو حصيلة إقامته في فرنسا أيام طلبه العلم في مدرسة الحقوق بمونبليه، والواقع أن كان في مصر من قبل ذلك نشاط أدبي مسرحي شعري ونثري تأليفًا وترجمة،
(1/143)
________________________________________
ومن المؤلفين المسرحيين الغربيين الذين تُرجمت بعض أعمالهم في تلك الفترة المبكرة: "شكسبير" و"راسين" و"كورنيه" و"موليير"، ومن الأسماء التي برزت في تلك الفترة محمد عثمان جلال وسليم النقاش وخليل اليازجي ونجيب الحداد وعبد الله فكري ومصطفى كامل مثلًا، وكانت هناك كتابات نقدية واعية بهذا الفن وأصوله، تدل على أن أصحابها درسوا هذا الفن، وعرفوا أصول نقده من خلال ما قرأوه في الأدب والنقد الغربيين.
وهذه الكتابات نجدها في مقدمات المسرحيات المنشورة في ذلك الوقت، أو في بعض المجلات والصحف، ومن هنا فإني قد لا أشاطر الدكتور مندور هذا الرأي، وأرى أن شوقي قد تأثر في الأصل بالتأليف المسرحي، الذي كان موجودًا ونشطًا بمصر قبل سفره إلى فرنسا، وبخاصة أنه لم يقبل على المشاركة بذلك التأليف، إلا في أخريات حياته بعدما عاد من فرنسا بزمن جد طويل، بل بعدما عاد أيضًا من إسبانيا، ولو أضفنا إلى هذا وذاك أنه لم يقم بترجمة أي من المسرحيات الغربية؛ لتبين أن الرأي الذي ذكرته أحرى أن يكون هو الصواب، وإن لم أستبعد أن تكون إقامته في فرنسا أيام الدراسة قد أغرته بالإقبال على المسرح الفرنسي قراءة ومشاهدة، مما أسهم في ثقل موهبته المسرحية.
كذلك يقول الدكتور محمد مندور في سياق انتقاده لشوقي: إن شوقي حين شرع الكتابة المسرحية كان تأثره أوضح ما يكون بالمسرح الكلاسيكي، لكنه لم يكن قد تعمق دراسة المذاهب المسرحية المختلفة، ومن ثم لم يكن قادرًا على اختيار مذهب من تلك المذاهب عن وعي واختيار، بل جاء تأثره بالكلاسيكية بطريقة تلقائية غير منهجية؛ ولهذا لا نراه يتقيد في مسرحه بجميع الأصول الكلاسيكية، بل يأخذ بما هداه إليه إحساسه.
هذا ما قاله الدكتور مندور.
(1/144)
________________________________________
وبعيدًا عن المستوى الفني لمسرح شوقي نود أن نعرب بقوة عن مخالفتنا للدكتور مندور، إذ من الواضح أنه يرى أن مكاننا في الإبداع الأدبي لا بد أن يأتي تابعًا للغربيين، فإذا ذهبوا يمينًا وجب أن نذهب وراءهم ذات اليمين، وإذا راحوا شمالًا كان علينا أن نوجه وجوهنا وراءهم جهة الشمال وهكذا، وبنفس الطريقة لا بد لنا إما نكون إما كلاسيكيين أو رومانسيين أو واقعيين صِرفًا، ما دامت هناك مذاهب كلاسيكية ورومانسية وواقعية صرفًا، ولا يحق لنا أن نمزج بين مذهبين، وهذا ما يوجبه النقاد المشيعون لكل ما يأتي من الغرب، فنراهم يعيبون أيضًا أي ناقد لا يتقيد بمذهب بعينه، ويزعمون أن نقده فاسد، وغير منهجي مع أن تلك المذاهب الأدبية والنقدية ليست نازلة من السماء، بل هي نتائج بشري فيه الصواب وفيه الخطأ، ومن حق أي أحد أن يتصرف فيها على النحو الذي يراه صحيحًا، ومن ثم فإننا مبدئيًّا لا نرى فيما فعله شوقي طبقًا لما يقوله الدكتور مندور من عدم تعبده لمذهب بعينه على النحو الذي يريده ذلك الناقد، لا نرى في ذلك شيئًا يُعاب، بل هو التصرف الأقرب إلى الحكمة.
ثم إن شوقي لم يؤلف وهو في فرنسا إلا مسرحية واحدة هي مسرحية (علي بك الكبير)، الذي عاد تأليفها بعد ذلك بسنوات طوال في أخريات حياته.
كذلك فقول مندور: إن استقاء شوقي مسرحياته من التاريخ قد وقف حاجزًا بينها وبين الجمهور، الذي كان يفضل أن يرى في المسرحية عرضًا لمشاكله المعاصرة، بدلًا من معالجة الأحداث التاريخية، التي بعد بها العهد فلم يعد لها تأثير يذكر في حياته واهتماماته، هذا القول يدل على أن مندور قد فاته التنبه إلى أن كثيرًا جدًّا
(1/145)
________________________________________
من المسرحيات المعاصرة لشوقي والسابقة عليه، كانت مسرحيات تاريخية، وراجت لدى الجمهور المصري أيما رواج، وإلا فلم استمر الشعراء ينسجون مسرحياتهم من خيوط التاريخ إذن؟
إن انحياز شوقي لإبداع المسرحيات التاريخية في كل أعماله تقريبًا، إنما هو اتباع لما كان يجري عليه التأليف المسرحي في مصر في كثير من الأحيان، إذ كان التاريخ والقصص الشعبي أهم مصادر التأليف المسرحي العربي، كما جاء في مادة المسرحية العربية في الموسوعة العربية العالمية، التي أضافت أن المسرحية العربية تقسم إلى ثلاثة أنواع: مسرحية تاريخية، ومسرحية تراثية، ومسرحية شعرية، وأن المسرح التاريخي قد شغل حيزًا كبيرًا في التراث الأدبي المسرحي على امتداد الوطن العربي، وفي مختلف مراحل تاريخ المسرحية العربية، ومنه على سبيل المثال في تلك الفترة المبكرة مسرحية (المروءة والوفاء) لخليل اليازجي، و (السلطان صلاح الدين في مملكة أورشليم) لفرح أنطون.
أما المسرح التراثي في تلك الفترة ذاتها، فيمكن الاستشهاد له بمسرحية (أبو الحسن المغفل) لمارون النقاش، المستوحاة من قصص (ألف ليلة وليلة)، وكاد أبو خليل القباني الرائد الثاني لكتابة المسرحية أن يعتمد كليًّا على القصص الشعبي في كتابة مسرحياته، وهي في معظمها مأخوذة من قصص (ألف ليلة وليلة)، وقد اعتمدت الموضوعات في هذه الفترة على ما يجد القبول لدى العامة من أحاديث الحب والخيانة، والبطولة والشهامة، ومما قاله الدكتور مندور أيضًا عن مسرح شوقي حسبما رأينا: إنه مسرح كلاسيكي، لكن فاته أن المسرح الكلاسيكي يفصل تمام الفصل بين المأساة والملهاة، فلا يخلط بينهام في العمل المسرحي الواحد، فضلًا عن أن زمن المسرحية فيه ينبغي ألا يتجاوز أربعًا وعشرين ساعة،
(1/146)
________________________________________
وبالمثل ينبغي ألا يتسع المحيط المكاني الذي تقع فيه أحداثها ويتحرك فيه أبطالها عن المحيط الذي يمكن أن يتحرك فيه الإنسان خلال تلك الساعات الأربع والعشرين.
ومن ثم، فإننا لا نوافق مندور على تصنيفه هذا لمسرح شوقي، إذ كانت مسرحياته تضم أحيانًا عناصر مأساوية وأخرى ملهاوية، كما لم تلتزم بتاتًا بالوحدات الثلاث التي كان المسرحيون الكلاسيكيون يلتزمون بها.
لم يبق إلا أن موضوعات مسرحياته كلها تقريبًا موضوعات تاريخية، لكن هل يكفي هذا للحكم عليها بأنها مسرحيات كلاسيكية على اعتبار أن المسرحيات الكلاسيكية كانت تعالج في الغالب موضوعات تاريخية؟ لا أظن هذا سببًا كافيًا للقول بأن شوقي شاعر مسرحي كلاسيكي، بل إن مندور نفسه قد عاد في موضع آخر من ذات الكتاب الذي نحن بصدده وهو كتاب (المسرح)، فذكر أن شوقي كان حريصًا على أن يضفي على مسرحيته (مجنون ليلى) مثلًا ما يسمى باللون المحلي والطابع التاريخي الشعبي، وهو سمة من سمات المسرح الرومانسي.
كما لا ينبغي أن يفوتنا أن بعض مسرحيات شوقي تشتمل على أبيات رومانسية، ينصرف البطل إلى إلقائها حيث تسكن حركة المسرحية، وينصرف المشاهد إلى استماع تلك القصيدة مغمورًا بالانبهار، وليس في هذا أدنى شيء من الاتجاه الكلاسيكي، ولعل ما كتبه الدكتور جمال الدين الرمادي عن مسرحيات شوقي، من أنها لا تمت بصلة إلى مذهب أدبي محدد، بل تأخذ من هذا المذهب شيئًا، ومن ذاك المذهب شيئًا آخر، فجاء فنه يتأرجح على غير هدى لعل هذا الكلام هو أقرب شيء إلى واقع الأمر، وقد ذكره في كتابه (مسرحية كليوباترا بين
(1/147)
________________________________________
الأدب العربي والإنجليزي)، ومن العجيب أن يكتب مندور في كتابه (مسرحيات شوقي): أنه إذا كانت الكلاسيكية تحافظ على مبدأ فصل الأنواع أي: جعل المأساة مأساة خالصة، والملهاة ملهاة صرفة، فإن الرومانسية قد خلطت بين الأمرين، وهو ما صنعه شوقي أيضًا، فضلًا عن أنه قد ضمن مسرحياته قصائد غنائية؛ إرضاءً للذوق العربي والمصري، الذي يعشق الطرب والغناء.
بل لقد أكد الدكتور مندور أن شوقي لم يتقيد بتيار خاص ولا بمذهب معين، بل جمع بين الشرق والغرب، وبين مذاهب الأدب المختلفة والظاهر أنه لم يتعمق دراسة فلسفة الأدب ولم يكون لنفسه حصيلة نظرية من تلك الفلسفة، وإنما كان يستهدي ذوقه الخاص وتفكيره القريب المنال؛ ليعود فيقول عكس هذا تمامًا حين قرر أننا لا ينبغي أن نأخذ بالأصول، التي سار عليها هذا المذهب أو ذاك في الأدب الغربي، فالكثير من تلك الأصول نسبي لم يتحرج الغربيون من الخروج عليها، حتى لو كانت مما نظنه بديهيًّا مثل ضرورة انتهاء المسرحية إلى خاتمة ما، وهو ما يعني صحة كل ما قلناه آنفًا مخالفين فيه الدكتور مندور.
وبالمثل نرى الدكتور محمد حامد شوكت يقرر أن شوقي قد تأثر في مسرحياته بالاتجاه الكلاسيكي في فرنسا، قال ذلك في كتابه (الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث)، وذلك أنه رغم أنه عنون الفصل الذي ورد فيه هذا الحكم، وهو الفصل الثاني من الكتاب الذي نحن بصدده بالمسرح الرومانسي المنظوم.
وبالنسبة لاختيار شوقي موضوعات مسرحياته التاريخية يرى الدكتور علي الزبيدي أن شوقي لم يكن بالمناضل المستعد للتضحية في سبيل حبه لبلاده، بل كان يلجأ إلى الوسائل السلمية التي لا تكلف تعبًا ولا تجر وراءها أذى لصاحبها، رغم أن شوقي قد عاش فترة تفرض حب مصر والتضحية لها، والجهاد من أجل تحقيق آمال شعبها.
(1/148)
________________________________________
ولم يكن شوقي في نظر الزبيدي مناضلًا؛ لأنه بطبعه يحب الاعتدال فهو يحب أن يتخذ المواقف الوسط؛ ليرضي الشعب والسرايا والعلماء والنقاد في ذات الوقت؛ لذلك نراه يفر من واقعه إلى التاريخ أحيانًا، ويعمل قوافيه في حقائقه وواقعه حسبما يجب أن يكون، لا كما هو التاريخ، أو كما روى المؤرخون أن التاريخ كان.
فإذا كانت الدعوة إلى الجهاد ومغالبة النفس إلى التضحية في سبيل الوطن واجبة، فإنه لا يدعو إلى ذلك مباشرة في مسرحياته، بل ينتخب من التاريخ فترات الاضمحلال أو الفساد، مثل الفترة التي شهدت نهاية الحكم الروماني في (مصرع كليوباترا)، وآخر أيام العرب في الأندلس في (أميرة الأندلس)، وفوضى الانحلال أيام المماليك في مسرحية (علي بك الكبير)، وانهزام مصر أيام (قمبيز) في المسرحية المسماة بهذا الاسم، ونراه يحمل هذه الفترات السود ما لا تحتمل من بطولات يريد أن يدعو إليها، وليس من عيب على شوقي كما يقول الزبيدي: أن يختار فترات الاضمحلال والانهزام والفساد، فلعل هذه الفترات أغنى من الناحية الدرامية بالمشاهد المأساوية، والمواقف التي تخدم الصراع الدرامي بكل قوة، ولكنه يختار هذه الفترات؛ ليصور أبطالًا لا على أنهم معالم حجار، وإنما على أنهم عناصر قوة وسط الضعف، وكأنما نصب نفسه محاميًا عن هذه الفترات العاثرة من تاريخ مصر والعرب.
ويقول الدكتور عز الدين إسماعيل في المقدمة، التي كتبها للأعمال الكاملة لأحمد شوقي، والتي صدرت عن هيئة الكتاب سنة ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين: إنه على الرغم من تنوع مسرح شوقي من حيث مصادر مادته، ومن حيث أساليب معالجته، فإن القارئ المتأمل لهذا النتاج في مجموعه يستطيع أن يستشف صدور شوقي في هذا النتاج كله عن مبدأ أخلاقي يحكم نظرته إلى
(1/149)
________________________________________
التاريخ، أو ما يشبه التاريخ من جهة، وفهمه لوظيفة المسرح من جهة أخرى فهو فيما يختار من أحداث تاريخية يدير حولها بعض مسرحياته، يكون مدفوعًا بمشاعر وطنية، وأعراف وتقاليد اجتماعية يستهدف تعميقها في نفوس الجماهير، وتأكيدها في ضمائرهم.
ومن أجل ذلك لا يفسر غدر كيلوباترا بأنطونيو على أساس من الانحلال في سلوكياتها، أو ميلها إلى النجم الساطع آنذاك، وهو أكتافيو بقصد إغوائه، وبرغبتها في تحقيق أمجادها الشخصية، بل يفسر هذا الغدر في ضوء سياسة وطنية، كانت كيلوباترا في رأيه تتبناها مؤداها أن توقع بين قواد الرومان؛ حتى يفني بعضهم بعضًا، فتتمكن بهذا من بسط نفوذها على مصر، وعلى الإمبراطورية الرومانية نفسها، وكأن شوقي قد حدث من هذه المعالجة إلى إحداث نوع من التعاطف بين الجماهير وبينها، وكسب عطفهم عليها، أما أن يكون قد نجح في تحقيق هذا الهدف أو لم ينجح فهذه مسألة أخرى.
ويرتبط بهذا المنزع عند شوقي ما يمكن ملاحظته من اختياره من حياة الأمة الحقب التاريخية، التي تكون فيها في حالة انكسار، أو تكون قد ألمت بها فيها بعض الكوارث، فالنظرة العجلى قد ترى في هذا الاختيار تعارضًا مع أهدافه الوطنية، وإلا فقد كان الأَولى به أن يختار الحقبة التي يبلغ فيها الوطن أوج الازدهار، والتي يحقق فيها أمجاده.
هذا فيما يتصل بمسرحياته الأربعة ذوات العلاقة الوثيقة بالتاريخ المعترف به.
أما فيما يتصل بمسرحيات (عنترة) و (مجنون ليلى)، فالهدف الأخلاقي يتركز في تأكيد المبادئ والأعراف والتقاليد، التي درَجَ عليها المجتمع، فالقيم والأعراف الاجتماعية
(1/150)
________________________________________
السائدة تمثل عند شوقي الإطار المرجعي للحكم الأخلاقي على شخوصه، فإذا استغرت مشاعر الفرد بأعراف الجماعة كان على الفرد أن يضحي بمشاعره في سبيل تحقيق هذه الأعراف، وفي هذا يتمثل الصراع الذي كتب على الشخصية المأزومة عنده أن تخوضه، وهذا المنحى يدل على رغبة شوقي في عدم الاصطدام بالتقاليد والأعراف، أو إحداث أي هِزة لها ومَيْله على العكس إلى تأكيدها.
وعلى الجملة يمكن أن يقال: إن التزام شوقي الأخلاقي بوجهيه الوطني والعرفي هو المسئول عما يكشف عنه تحليل الصراع في مسرحياته التاريخية وشبه التاريخية من نجاح أو إخفاق.
هذا ما قاله الدكتور عز الدين إسماعيل.
وهذه الملاحظة التي لاحظها الدكتور على مسرحيات شوقي التاريخية، واختياره فترات الانحلال والضعف في تاريخ مصر والعرب، قد لاحظها غيره من النقاد، وقد تناول الدكتور مندور هذا الموضوع فأشار إلى استنكار أولئك النقاد الذين لم يعجبهم اختيار شوقي لفترات الانحلال من تاريخ العرب والمصريين موضوعًا لمسرحياته التاريخية، ما دام قد ألفها من أجل الدفاع عن بلاده وأمته، ولست أرى لهذا الاستنكار معنًى؛ لأن حب الإنسان لوطنه وأمته ليس معناه أن أغفل عن عيوبهما، وأعمل على تصيير مساوئهما حسناتٍ، إن هذا ليس حبًّا، بل تزييفًا وتمكينًا للعيوب التي يعاني منها الوطن والأمة من البقاء والاستطان؛ فنظل متخلفين ضعفاء يرتع فينا الفساد، وتسرح ديدانه كما يحلو لها.
وإذا كان شوقي قد انتقد الشعب المصري في مسرحيته (مصرع كيلوباترا) مثلًا؛ فلأنه يستحق الانتقاد، إذ يبدو في بعض الفترات التاريخية وكأنه لا يعرف شيئًا اسمه الإنكار على الاستبداد والفساد، والثورة على ظالميه، والتمرد على مَن يسومونه سوء الطغيان والعذاب، بله الخروج إلى الميادين والشوارع للهتاف بحياة
(1/151)
________________________________________
الطغاة اللصوص القتلة المفسدين، وإلا فلو صوره رغم ذلك في صورة مشرقة جميلة، لكان بهذا يمد في عمر تلك العيوب ويضعفها ويقويها، وليس ذلك من حب الأوطان والأهلين في شيء، ولقد استدرك مندور نفسه في هذا الموضوع قائلًا: إن شوقي رغم ذلك قد تغنى فأجاد التغني بمصر ومجدها وعظمتها وخلودها، وأكد أنها دائمًا مقبرة للغزاة.
وفي الكتيب الذي وضعه رفعت سلام عن المسرح الشعري العربي نراه يتناول هذه النقطة قائلًا عن حق: إنه في ظل الانهيارات المدمرة والصراعات المتوالية، والمصائر الدامية لفرسان المقاومة، فإن الموقف العام للشعب في مسرح شوقي يتسم بالسلبية والتخاذل، فالشعب لديه يتلقى الصدمات المتوالية، وصنوف القهر والعذاب دون أن يتفض ضد قاهريه، هو شعب كما قال:
أثر البهتان فيه ... وانطلى الزور عليه
ملأ الجو هتافًا ... بحياتي قائليه
لا يشارك في حركة الصراع إذ هو مفعول به وليس فاعلًا، وهذا الضعف الشديد الذي يتسم به الشعب إنما هو نتيجة انعدام الوعي الذي يقود إلى الانصياع وراء الحاكم المستبد، دون أن يتخطى موقفه مرحلة التذمر والسخط والشكوى، وفي الحالة النادرة التي تخطى ممثلو الشعب فيها هذا الموقف السلبي، وجنحوا إلى تكوين التنظيم الثائر في مصرع كيلوباترا، فإنهم ركنوا إلى الثرثرة دون الفعل، والكلام المتذمر دون التضحية الحقيقية المطلوبة، ولم ينطلق شوقي في نظرته هذه إلى الشعب من موقف التعالي والاحتقار، كما زعم البعض، ولكن من الأسى للدرك الذي وصلت إليه سلبية الشعب في مواجهة الحكام وتردي أوضاعه.
(1/152)
________________________________________
وقد ذكر الأستاذ رفعت سلَّام هذا الكلام في كتابه (المسرح الشعري العربي) الصادر في سلسلة المكتبة الثقافية في مصر، وبالنسبة لموقف شوقي من وقائع التاريخ وحقائقه، والانتفاع بذلك في مسرحياته نراه يلتزم أحيانًا ما نقلته الكتب إلينا بعجره وبجره، كما هو الحال في مسرحية (مجنون ليلى)، التي لاحظ النقاد أنه قد نقل النقاد أنه قد نقل فيها ما كتبه الأصفهاني في كتابه (الأغاني) عن هذا الموضوع دون تصرف تقريبًا، حتى إنه قد نقل ما لم يكن يقبل التصديق منه، رغم ما هو معروف من أن أبا الفرج يورد في (الأغاني) كل ما يصله من روايات، بغض النظر عن صحتها أو لا.
وأحيانًا نرى شوقي يتصرف في المادة التاريخية، التي وقعت له لكن في الأمور الثانوية لا الأساسية، وكذلك في تفسير الحوادث والتصرفات كما هو الحال مثلًا في تقديمه لكيلوباترا في المسرحية التي تتحدث عن مصرعها بوصفها ملكةً مصريةً، كانت تعمل طوال الوقت للحفاظ على استقلال مصر، وإن كنا لا نقر شوقي في هذه النقطة الأخيرة، إذ من الصعب أن نفهم كيف خطر له أن يصير كيلوباترا ملكة مصرية صميمة، رغم أنها لم تكن كذلك يقينًا، بل كانت من قوم يحتلون مصر منذ زمن طويل، وعرفت أسرتها بالفساد والتطاحن على الملك، وتآمر بعضهم على بعض، بل وقتل بعضهم بعضًا، وكذلك رغم ما عرف عنها من انحراف خلقي غير كريم أراد شوقي أن يلبسه تاج الوطنية عبثًا.

مآخذ النقاد على إبداعات شوقي
ومما أخذه النقاد على إبداعات شوقي المسرحية ما كتبه الدكتور علي الزبيدي في مقاله الآنف الذكر، إذ قال: إن زوال دولة الأندلس قد ألهم شوقي روائع شعره:
يا أخت أندلس عليك سلام ... .........................
إلى آخره.
(1/153)
________________________________________
ولكن مأساة المعتمد بن عباد لم تلهمه إلا أقل مسرحياته نجاحًا، حتى إنها المسرحية الوحيدة التي كتبها نثرًا، فلم يتح لها الشعر الذي ينقذها من مصيرها الفاشل، وبدل مأساة اعتماد والمعتمد نرى قصة غرام بنت المعتمد بثينة بالفتى العربي حسون، التي تنتهي نهاية مفتعلة بدخول ******ين على المعتمد في سجنه في "أغمات" عند ملك المرابطين في شمال لإفريقيا؛ ليعقدا زواجهما داخل السجن، حتى شخصية المعتمد لم تنل حظها الواجب من عناية شوقي، وكأنما أراد لنا مسرحية ترفيهية تضمد جراحنا لمأساة آخر ملوك العرب على أرض الأندلس.
وهكذا نجد هذه الشخصية المفتعلة بثينة صورة نسائية مكررة من امرأة تحب، بل إنها تحب وتفوز بمن تحب، فلا نجد لها مأساة ولا مواقف تهز الإحساس، وتفجر الحب نحوها أو العطف عليها، لقد كتب شوقي سبع مسرحيات لعبت المرأة في ست منها أدوارًا رئيسة، ولم تبق إلا مسرحية علي بك الكبير، التي بدأ بها أيام كان لا يزال في فرنسا في فجر شبابه، ثم أعاد لنا كتابتها بعد ظهور (مصرع كيلوباترا) ونجاحها، فإننا نجد دور المرأة فيها باهتًا لا يكاد يذكر.
وفي مسرحياته التاريخية (مصرع كيلوباترا) و (أميرة الأندلس) و (قمبيز) نرى المرأة المثالية في حبها، وفي المسرحيات التي تعتمد على ما يشبه الأسطورة باسم (مجنون ليلى) و (عنترة)، نرى المرأة المتدلهة في الحب التي تصارع التقاليد، والعجيب أن التي تصارع التقاليد الأقل مدعاة إلى صراعها هي التي تقود الصراع الأعنف، فليلى تصارع مجرد تقليد ألا تتزوج الفتاة بمن شغف بحبها علنًا، بينما عبلة تصارع تقاليد التفرقة العنصرية والعنجهية القبلية أو الطبقية، ومع ذلك فكل أمورها تسير هينة لينة؛ حتى هونت المسرحية ولينتها، فانزلقت بها من مأساة إلى تراجيديا كوميديا أو فوفيل.
(1/154)
________________________________________
بقيت مسرحية (الست هدى)، وهي ذات وضع خاص بين كل مسرحياته، إنها الوحيدة التي تعالج الواقع المعاصر، ومع ذلك فقد اختار لها أسلوب الشعر لا النثر، هل كان ذلك ليثبت أنه بالشعر يستطيع أن يخرج لنا المأساة والملهاة، أم تراه فعل ذلك لسبب آخر؟ وإنها لظاهرة شاذة حقًّا. فمأساة الأندلس التي حركت أدق مشاعره وأعمقها يكتب عنها مسرحية نثرية، والواقع العادي في حي الحنفي يكتب عنه مسرحية شعرية، ولكن (الست هدى) كوميديا رغم الشعر، وليس شوقي بالنسبة لهذا الواقع فيها بأقرب منه بالنسبة لواقع التاريخ أو الأسطورة، إن حي الحنفي بعيد عنه بعد أيام المماليك، وقمبيز والأندلس وبعد صحراء ليلى وقيس وعنترة وعبلة، ولكن (الست هدى) نفسها واقع في حياة شوقي، إنها المرأة التي يطمع الرجال فيها لمالها، وهي امرأة عادية صادقة تعد نموذجًا من النماذج بين نساء عصرها، إنها امرأة تريد زوجًا؛ لأن امرأة بلا زواج نموذج إنساني غير مألوف، بل هو مستهجن، هدفها في الحياة أن تتزوج ويتتابع الأزواج طامعين في مالها حسبما تقص هي علينا في شريط سينمائي في فصل من فصول المسرحية، والتركيز على الزوج الأخير الذي ظفر بما لم يظفر به من سبقوه، وهو أنه عاش بعد أن ماتت (الست هدى).
ولكن (الست هدى) لم تنهزم؛ لأنها كانت قد أوصت بمالها لبعض صديقاتها وبعض جهات البِر، وخرج الرجل الذي فاز بما لم يفز به غيره في الظاهر صفر اليدين مشيعًا بضحكات النظارة في المسرح، وقد جن جنونه بعد أن كان قد تصور أنه ظفر بما كان يحلم به.
(1/155)
________________________________________
ليس في هذه الكوميديا الناجحة حب ولا صورة لامرأة تحب، وإنما هي صورة امرأة من طراز لم يألف شوقي تصويره في مسرحياته، صورة سيدة من واقع حياة شوقي أسكنها حيًّا يبعد عنه بعد التاريخ والأسطورة، ولكنه استطاع بشاعريته أن ينبضه، كما أنبض التاريخ والأسطورة بالحياة والحيوية الدافئة.
إن (الست هدى) من أنجح ما ألف شوقي، والشعر فيها لا يرتفع إلى مستوى الغنائية العبقرية المتجلية في سائر المسرحيات؛ لأنه شعر عادي يصور الحياة اليومية والمشاعر العادية، ومن هنا نراها ترتفع بحيوية الحوار، وبرسم الشخصيات كشخصية الزوج الأخير و (الست هدى) نفسها عن المستوى العادي في مسرحياتها الأخرى.
إن (الست هدى) نموذج من السيدات في زمانه، يحيا في المسرحية كما يحيى في الواقع وتتخلل السخرية والإيحاءات والتورية حوار المسرح؛ فيرفع من نبضها وحركتها وحيويتها، وتتوالى الأحداث متصاعدةً نحو قمة معلومة في أسلوب هندسي، ومع صعوده تنتقل شخصية (الست هدى) من طور إلى طور، إن مشهد استرجاعها لحياتها حيث تصور طابور الأزواج واحدًا إثر واحد على باب مالها؛ حتى عندما تترحم على الموظف مشهد حي خفيف الروح:
لم أنسه منذ مات يومًا ... ما كان أظرف
كان خفيفًا وكان حلوًا ... ومن نسيم الربيع ألطف
ونكاد نحس نبرة مأساة وشبه حزن، ثم نراها تردف:
ما كنت أدري إذا تولى ... أجيبه أم قفاه أنظف
يرحمه الله مات ما وجدوا ... في جيبه قطعة ذهبي
وسبحة من خزانتي سرقت ... كانت على الرف من وفاة أبي
(1/156)
________________________________________
فلا نكاد نهم بالأسى حتى نضحك من هذا الذي لم تنسه منذ مات، فلقد كان حريًّا بحبها ولكنه أيضًا حري بسخريتها وضحكنا منه، وسط هذا العرض للأزواج نجد هذا الذي يمثل عليها دور الغيور، وهو مفضوح في حبها لمالها، أو هذا الصحفي المدعي الذي يرفع الناس ويحط من شأنهم، وهو كاذب مدع لا يصدق إلا في أنه يعيش عالةً على (الست هدى)، وسط هذا العرض الذكي الفكه المملوء بالحركة، نكاد نحس مأساة (الست هدى)، ولكن شوقي حريص على تصوير امرأة من نوع جديد، امرأة راضية بالأمر الواقع وكارهة لأن تستغل، فهي تدافع عن نفسها ما استطاعت أن توفق بين أن تكون متزوجة في مجتمع يفرض عليها أن تكون، وبين ألا تكون مستغلة لمالها.
هذا ما قاله الدكتور الزبيدي في مقال له بعنوان: قراءة في مسرحيات شوقي، منشور بجريدة مدى، في الثاني عشر من ديسمبر سنة ألفين وتسع للميلاد.
ولقد أخذ مندور أيضًا على شوقي أنه لم يستطع التعمق الصراع في نفوس أبطال مسرحياته، إذ كانوا سرعان ما يستجيبون للضغط الواقع عليهم من حولهم، دون أن يكون هناك أخذ ورد داخل نفوسهم، وكأن النفس البشرية من الطواعية لمثل تلك الاعتبارات، بحيث لا يحتاج الأمر إلى أكثر من حضور ذلك العامل الضاغط؛ حتى تتم الاستجابة دون توتر ومعاناة، ويضرب لذلك بعض الأمثلة، ومنها أن ليلى في مسرحية (مجنون ليلى) ما إن يترك لها أبوها حرية اتخاذ قرار الزواج من قيس أو عدمه؛ حتى تسارع فتختار وردًا لها قرينا بدلًا من قيس، الذي كانت مدلهة في هواه، والسبب هو أن قيسًا كان قد كتب شعرًا فيها، وفي حبه لها والتقاليد عند العرب تحرم عليهم تزويج بناتهم لمن يشبب ويشهر بهن.
(1/157)
________________________________________
وأنا من رأي الدكتور مندور بل أزيد عليه أنه لو كان ذلك صحيحًا لما ترك لها أبوها حرية اتخاذ القرار، بل لكان أصدر أمره بالرفض المبدئي القاطع، بل لما جرأ قيس على طلب يدها، بل لما فكر منذ البداية في التشبيب أصلًا ما دام يريد الزواج بها، إذ هو بكل تأكيد أنه بتشبيبها سوف يقف حائلًا بينه وبين الاقتران بها، والطريف أننا في مسرحية عنترة مثلًا نشاهد عبلة، وهي تزق عنترة ببعض تمرات من فمها والناس من حولهما يشاهدونهما، فهل كانت التقاليد العربية تسمح بشيء من هذا، وبخاصة بين فتاة حرة هي ابنة زعيم القبيلة، وعبد أسود لا هو زوجها، ولا هو حتى خطيبها؟ وهل كانت التقاليد العربية في الجاهلية تقبل من فتاة كعبلة أن ترد على أخيها الذي كان موجودًا حين كان أبوها يأخذ رأيها في رجل تقدم لطلب يدها، فرفضته، وسخرت به، والذي أنكر هذا الرفض وأراد تحسن الرجل في عينيها، فتقول له ما معناه: ولماذا لا تتزوجه أنت؟
والغريب العجيب أن يكون كل ما رد به أبوها على كل الوقاحة، التي لا يمكن تصور صدورها من فتاة عربية في ذلك الوقت هو:
أزوج الرجال بالرجال ... ذاك لعمري منتهى الخبال
وأغرب من ذلك وأعجب أن يجيء تعقيب أخوها المطعون في كرامته ورجولته على النحو البارد التالي:
استهترت أختي فما تبالي ... .......................................... ز
وإضافة إلى ذلك يذكر عمر الدسوقي أن ليلى قد أكرهت إكراهًا على التزوج بمن تزوجته، فلم تختره بنفسها على عكس ما جاء في مسرحية شوقي، ويضيف الدسوقي قائلًا: وقد آثر شوقي أن يجعل ليلى ترفض الزواج من قيس حين خيرت في ذلك؛ محافظةً على التقاليد العربية مع أن التاريخ يذكر أنها أكرهت على
(1/158)
________________________________________
الزواج من غيره إكراهًا، ولعله أراد بذلك أن يرفع ليلى إلى مصاف الأبطال؛ لأنها ضحت بحبها في سبيل المجتمع وعاداته وإرضاءً لوالدها وقومها، وقد جعلها شوقي في بيت الزوجية مثالًا للمرأة المتيمة بحبيبها قيس، تعيش بقلبها وروحها معه، وهو في البادية في حين يضمها وزوجها وردًا بيت واحد؛ ولذلك احترم زوجها هذا الحب، فعاملها معاملة الشقيقة للزوجة، فظلت في كنفه عذراء إلى أن ماتت.
من كتاب (المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها) للأستاذ عمر الدسوقي.
وهو ما يعني أن شوقي لم يوفق على أي وضع في تصوير وقع الصراع بين الحب والتقاليد في نفسية ليلى.
وعلى ذكر استغراب البعض من اختيار شوقي للست هدى، التي كانت تعيش في حي الحنفي الشعبي، أبعد ما تكون عن مجال الشعر الأرستقراطي واهتماماته، يرى الدكتور محمد مندور في كتابه (مسرحيات شوقي) أن العبقرية كفيلة بأن تفسر لنا سر نجاح شوقي في معالجة هذا الموضوع رغم تلك الملاحظات، إذ إن المبدع يجد من موهبته وخصوبة خياله، وقراءاته المتنوعة فضلًا عما هو مشترك عام بين بني البشر، مهما اختلفت طبقاتهم الاجتماعية يجد في ذلك كله ما يعوضه عن عدم المررو بتجارب أبطاله المختلفة المنازع والبيئات، وهذا صحيح، وإلا فلو كان مطلوبًا من كل مبدع أن يعيش عيشة أبطاله، إذن فلن يكون هناك إبداع ولا مبدعون إلا في أضيق نطاق، وهو ما تكذبه الشواهد الإبداعية في كل الآداب، والمهم ألا يكون هناك افتعال في اختيار الموضوع، أو اعتساف في معالجته، إذ لكل مبدع مدًى لا يمكنه العمل بنجاح خارجه، وهذا المدى يختلف من مبدع إلى آخر حسب الموهبة والجد والاجتهاد والقراءة، وفتح العين والأذن على تجارب الآخرين، والتعاطف معهم واختزان ذلك كله لوقت الحاجة.
(1/159)
________________________________________
وبالنسبة للحبكة المسرحية لدى شوقي، نجد الدكتور مندور يقرر أنها في بعض المسرحيات تكون حبكة قوية، كما هو واضح في مسرحيات (علي بك الكبير) و (مجنون ليلى) و (عنترة)، إذ نرى في المسرحية الأولى منها كما يقول: كيف وُفق شوقي في استخدام موضوعها الثانوي المتمثل في حب مراد بك لآمال الجارية التي تزوجها علي بك الكبير، والتي ربط شاعرنا موضوعها بالموضوع الأصلي، وهو غدر محمد بك أبو الدهب بسيده علي بك الكبير، إذ كان هذا الحب سببًا في انضمام مراد بك إلى جانب أبي الدهب للتخلص من علي بك الكبير، وقتله كي يفوز بآمال، على حين أننا نفتقد ذلك في بعض المسرحيات الأخرى كمسرحية (مجنون ليلى)، حيث نرى بعض المناظر التي لا صلة بينها وبين مجرى المسرحية.
إذ يصف أمير الشعراء مثلًا مرور موكب الحسين سيد الشهداء في صحراء الحجاز، وتهليل العرب وتكبيرهم حينما رأوا الموكب، وكذلك مشاهد الجن وندوات غناء الغريض -المغني الأموي- وذلك دون أن يكون للموكب أو المشاهد أو الندوات أي تأثير في سير المسرحية أو في نفوس شخصياتها على الإطلاق، وإن كان الدكتور محمد حامد شوكت يفسر موقف الجن مثلًا بأنه ربما كان تجسيمًا لأوهام عقل قيس السقيم.
كذلك تناول الدكتور محمد حامد شوكت في كتابه (الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث) سمة أخرى من سمات المسرح الشوقي، ألا وهي بروز ظاهرة القصائد الغنائية في إبداعات شوقي المسرحية يقول ما نصه: ولا تكاد تخلو مسرحية من مسرحياته عدا الملاهي أو المسرحية النثرية من مقطوعات وضعت لتغنَّى،
(1/160)
________________________________________
موضوعها عاطفة شائعة بين الناس كالهوى والموت، ففي (مصرع كليوباترا) نشيد على الحب والحياة، وآخر عن الموت، وفي (مجنون ليلى) أغان عن الحب، وفي (قمبيز) أناشيد مدح، وفي (علي بك الكبير) أغاني زواج، وجميعها تتشبع تشبعًا عاليًا بالأخيلة والموسيقى والرخامة.
ومن هذه القصائد الغنائية التي وردت في خلال الحوار الأبيات التالية، التي يتغنى فيها قيس بجبل التوباد في مسرحية (مجنون ليلى)، حيث كان هو وليلى يلتقيان في شبابهما، فيرعيان الغنم ويلعبان، ويخطان الرمل:
جبل التوباد حياك الحيا ... وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهده ... ورضعناه، فكنت المرضعا
وحدونا الشمس في مغربها ... وبكرنا فسبقنا المطلعا
وعلى سفحك عشنا زمنًا ... ورعينا غنم الأهل معًا
هذه الربوة كانت ملعبًا ... لشبابينا وكانت مرتعا
كم بنينا من حصاها أربعًا ... وانثنينا فمحونا الأربعا
وخططنا في نقى الرمل ... فلم تحفظ الريح ولا الرمل وعى
لم تزل ليلى بعيني طفلة ... لم تزد عن أمس إلا أصبعا
ما لأحجارك صمًّا كلما هاج ... بالشوق أبت أن تسمعا
كلما جئتك راجعت الصبا ... فأبت أيامه أن ترجعا
قد يهون العمر إلا ساعة ... وتهون الأرض إلا موضعا
ويرى الدكتور مندور أن تلك المقطوعات الغنائية التي تتخلل مسرحيات شوقي، وإن تكن من الشعر الغنائي الجميل كثيرة ما كانت تبدو دخيلة على الحوار، وكأنها قصائد غنائية قائمة بذاتها، فهي لا تخبرنا بجديد ولا تؤدي إلى تطور في
(1/161)
________________________________________
أحداث المسرحية، وإنما هي تغن خالص بالحب ولواعجه أو حنين إلى الماضي وذكرياته، ولقد يحدث أن نلتقي في بعض المسرحيات العالمية الكبيرة بمنولوجات فيها بعض ما يشبه هذا الغناء، ولكنها تحتوي في الغالب على اعترافات تنبئنا بما نجهل، أو تكشف الستار عن مخبوء أو تضيء بعض حنايا الشخصية المسرحية، وأما مجرد الغناء العاطفي بأشجان النفس أو بمظاهر الطبيعة، وما يختلط بها من مشاعر الشخصيات وذكرياتهم، فذلك ما لم نعد نشهد له وجودًا في المسرح الحديث، بعد أن تخلص من الجوقة التي كانت تردد مثل هذه الأغاني في المسرح اليوناني القديم، والأمثلة لهذه الأغاني كثيرة في مسرح شوقي، حتى لقد استطاع بعض الملحنين أن ينتزعوا بعضها من سياق المسرحيات، وأن يلحنوها منفردة كقصائد قائمة بذاتها، وأن يتغنوا بها.
أما دكتور محمد حامد شوكت فقد يبدو أن له موقفًا يختلف قليلًا أو كثيرًا عن موقف مندور، إذ يرى أن الحوار في مسرحيات شوقي يتطور في حدود شعر شوقي الغنائي، الذي يصور رواسب الشعر العربي كما كان في أوجه عند أبي تمام والبحتري والمتنبي بالإضافة إلى ذاته وغيرهم، ذلك الشعر الذي يصور أحاسيس الكاتب في لغة منسقة ذات موسيقى وخيال وعاطفة، وحافظ شوقي على نظام القصيدة في البحر والقافية، وفي المسرحيات الأولى يتجلى لون الغنائي المسرحي، ففي (مصرع كليوباترا) مقطوعات كثيرة على نظام القصيدة تكاد تجعل الشعر الغنائي غاية، وكثيرًا ما يسترسل المؤلف في تلك المقطوعات، التي تدور حول الشكوى والنجوى والرثاء والمديح، وقد نجح مسرح شوقي لطبيعة الجمهور المسرحي المحب للغناء وسماع الشعر بل شعر شوقي.
(1/162)
________________________________________
وعلى نفس الوتيرة يشير عمر الدسوقي إلى أن معظم المسرحيات، التي سبقت أعمال شوقي كانت تضع في حسبانها الجمهور المصري المرح، الذي يحب الفكاهة والغناء الجيد، وإن أضاف إلى ذلك أن المسرح المصري ربما تأثر في تلك النزعة الغنائية التي غلبت عليه بالمسرح الإيطالي كما ظهر في عصر الخديوي إسماعيل، علاوةً على انتشار ممارسة المطربين كسلامه حجازي مثلًا لفن التمثيل في بداية عهد مصر بذلك الفن.
كما يبرز الدسوقي ماضي شوقي الشاعر الغنائي بوصفه عاملًا مهمًّا آخر في شيوع القصائد الغنائية في مسرحياته، فيقول: لم يكن من اليسير على شوقي وقد تمرس بالشعر الغنائي طوال حياته أن يبرع في الشعر المسرحي دفعة واحدة، ويجمع بين الصياغة القرائية وحسن الأداء، وبين مقتضيات الفن المسرحي، وهو لم يعالجه من قبل؛ ولذلك نرى فنه المسرحي يتطور بالتدريج كان يكثر من المقطوعات، التي هي من صميم الشعر الغنائي في مسرحياته الأولى (كيلوباترا) و (مجنون ليلى) مثلًا، ولا سيما في مواقف الغزل والثراء والفخر، وقد ابتدأ فنه المسرحي في أول الأمر اقتباسًا، ثم سار نحو الابتكار والتجديد، ومن منهج وصفي تتحرك فيه الحوادث تحت تأثير الصدف، وتوصف به الحوادث والشخصيات وصفًا لا يمثل الحركة على المسرح إلى منهج تحليلي يعمد إلى أن تعبر الشخصيات والحوادث عن نفسها عمليًّا على المسرح.
لقد كان وراء شوقي في أول الأمر ماضيه في الشعر الغنائي، ووراءه كذلك الجمهور الذي يعجب ويطرب لهذا اللون من الشعر، وقد ألف مسرح الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وأضرابهما، وكان يذهب في الغالب إلى المسرح الذي يشهد مأساة حقيقية، وإنما ليستمتع بالأغاني التي تجري على ألسنة الممثلات، ويخلق لها الحوادث خلقًا، ولكن شوقي بجانب هذا قد قرأ كثيرًا من
(1/163)
________________________________________
الأدب الفرنسي، قرأ الأدب التقليدي ممثلًا في "كورنيه" و"راسين" و"موليير"، وقرأ الأدب الإبداعي لدى "هيجو" و"شكسبير" مترجمًا، ونعلم أن "هيجو" قد تأثر بـ"شكسبير" وأن كلًّا منهما قد اتجه نحو التاريخ الأوربي الحديث والقديم، فيكتب "شكسبير" (هنري الرابع) و (هنري الخامس) و (كليوباترا) و (يوليوس قيصر) و (الملك لير)، ويخرج لنا "هيجو مار نيودور" و"كرومويل" من تاريخ انجلترا الحديث، و"هرناني" من التاريخ الأسباني أثناء محاكم التفتيش وغير ذلك.
وقد تأثر شوقي بكل هذا إذ رأى أعلام الأدب الأوربي يتجهون إلى التاريخ، فلجأ إليه يستقي منه موضوعات مسرحياته، ورأى النزعة القومية الطبيعية غالبة على المدرسة الفرنسية المعاصرة تسايرها في وجهتها، وإحياء التاريخ المصري فرعونيًّا أو عربيًّا أو إسلاميًّا كان يعده شوقي اتجاهًا قوميًّا، ورأى أن جمهوره لا يزال ميالًا إلى الغناء، فأكثر من مقطوعاته الغنائية، فضلًا عن أنه لم يستطع هو نفسه التخلص من فنه الغنائي، الذي مارسه طول حياته في قصائده، أضف إلى كل هذا أن شوقي كان بعيدًا عن حياة الشعب؛ لأنه كان حبيسًا في قفص من ذهب، مقيدًا بقيود القصر وغل الحاشية، ولم يكن يدري شيئًا عما يعانيه شعب مصر من مذلة وهوان وفاقة، وإذا درى فقلما كان يحس بتلك الآلام أو يتذكرها، وليس له بها عهد، ولا ريب أن بُعده عن الشعب جعله لا يتجه أي وجهة واقعية أو اجتماعية في مسرحياته، اللهم إلا في روايته الأخيرة (الست هدى).
ونحن نعلل هذا الاتجاه الأخير بكثرة تردده على المسرح وإدراكه ما يطلبه الجمهور، وما يقتضيه التنويع في فنه، ثم لتلك النهضة الاجتماعية الشعبية ممثلةً في الصحافة والمسرح، ولقد سبق أن سمعنا الدكتور مندور يقرر أن تلك القصائد الغنائية التي تتضمنها مسرحيات شوقي تناسب طبيعة ذوق الجمهور العربي والمصري.
وإن الإنسان ليتساءل مجرد تساؤل: ما دامت الجوقة في المسرح الإغريقي كانت تقوم بذلك الدور، ألا يمكن النظر إلى صنيع شوقي هذا بوصفه تطويرًا لدور
(1/164)
________________________________________
الجوقة، إذ بدلًا من استجلاب جوقة من خارج المسرحية؛ لتؤدي هذا الدور يقوم بطل المسرحية ذاته بالتعبير عن مشاعره بنفسه، مما يعجب الجمهور المشاهد في بعض البلاد؟ إنه مجرد تساؤل واستفسار ليس إلا.
بل لقد كتب الدكتور مندور بأننا نصر على أن مآسي شوقي المسرحية لو أتيح لها الموسيقيون والمغنيون، الذين يستطيعون تحويلها إلى أوبرا لأصابت نجاحًا كبيرًا، ومن منا لا يطرب لأنا أنطونيو وأنطونيو أنا، أو جبل التوباد حياك الحيا، أو تلفتت ظبية الوادي أو غيرها من المقطوعات التي لحنها وغناها المطرب محمد عبد الوهاب؟
فما بالنا لو لحنت كل تلك المآسي من مطلعها إلى نهايتها، ومثلت بالغناء وكلها مآس تصلح بموضوعاتها ولوحاتها وأشعارها لأن تكون أوبرات رائعة مستوفية لكافة العناصر، وبذلك يستمر المسرح المصري الغنائي في تطوره الغنائي، وبكل ما ابتدأه سلامه حجازي وسيد درويش.
وبالمثل نرى مندور يقول في كتابه عن المسرح في ذات الموضوع: لن نمل القول: بأن مسرحيات شوقي خليقة بأن تلقى أكبر النجاح لو أنها لحنت، وتغني بها وقدمت للجمهور كمسرحيات غنائية، فعندئذٍ لن تلوح المقطوعات الغنائية دخيلة عليها، بل ستزيدها جمالًا وتزيد من متعتنا الروحية بسماع هذا الشعر الرائع ملحنًا منغمًا كفن جميل مكتف بذاته.
والواقع أن كلام مندور هذا يعني أنه من الممكن جدًّا تطوير نظام المسرحية الغربية على نحو أو على آخر، وهو ما أردت الإيحاء به حين أوردت التساؤل الآنف الذكر، وإن وضع مندور نصب عينيه أثناء هذا التطوير فنًّا غربيًّا آخرَ هو فن الأوبرا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/165)
________________________________________
الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية.
(1/167)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع
(مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية)

قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها
فنقول: كليوباترا ملكة من ملكات مصر القديمة، ومن أكثر النساء اشتهارًا ب***** والجاذبية على مدى التاريخ، لم تكن صارخة الجمال لكنها اشتهرت بالذكاء والفطنة والحصافة والطموح، وكانت تتصف في بعض الأحيان بقسوة القلب، أحبت يوليوس قيصر ومارك أنطوني، القائدين الرومانيين المشهورين في زمانهما، وكانت لها معهما علاقات غرامية وزواج، وكانت كليوباترا هي الملكة الأخيرة في الأسرة الحاكمة التي أنشأها بطليموس الأول عام ثلاثمائة وثلاثة وعشرين قبل الميلاد، وكان في الأصل قائدًا في جيش الفاتح المقدوني الشهير الإسكندر الأكبر، واسمها كاملًا كليوباترا السابعة، إذا كانت ملكة مصر السابعة، التي تحمل هذا الاسم نفسه من السلالة المقدونية، وقد اعتلت كليوباترا العرش عام 51 قبل الميلاد، بعد وفاة والدها بطليموس الثاني عشر، وأصبح أخوها بطليموس الثالث عشر الذي كان في العاشرة من عمره حينئذٍ شريكها في الحكم، وزوجها كذلك؛ جريًا على ما كان شائعًا في ذلك الزمان من زواج اقتران الأخ بأخته.
وانفرد الأوصياء الذين كانوا يتولون رعاية بطليموس الصغير بالسلطة دونه عام ثمانية وأربعين قبل الميلاد، وخلعوا كليوباترا عن العرش، وفي ذلك الوقت وصل يوليوس قيصر إلى الإسكندرية عاصمة مصر حينئذ، حيث التقى بكليوباترا وربط الحب بينهما، فوقف إلى جانبها ونصرها على معارضيها، وغرق أخوها بطليموس الثالث عشر وهو يحاول الهرب، وأعادها قيصر إلى العرش مع شقيق آخر لها وبطليموس الرابع عشر، وقد وضعت بُعيدَ ذلك طفلًا عام سبعة
(1/169)
________________________________________
وأربعين قبل الميلاد، وسمته قيصرون وأعلنت أنه ابن قيصر، وفي عام ستة وأربعين قبل الميلاد لبت دعوة قيصر، وذهبت هي وابنها قيصرون وأخوها بطليموس الرابع عشر إلى روما، وظلت هناك حتى عام أربعة وأربعين قبل الميلاد، حين قامت مجموعة من أشراف روما الأرستقراطيين بقتل قيصر، وحينئذٍ عاد إلى مصر حيث دبرت مقتل أخيها بطليموس الرابع عشر؛ حتى يتمكن قيصرون من الحكم.
وفي عام 41 قبل الميلاد وجه مارك أنطونيو دعوة إلى كليوباترا لزيارته في طرسوس في آسيا الصغرى -وهي تركيا الآن- وكان أنطونيو في ذلك الوقت أحد حكام روما مع جايوس أكتافيوس أوغسيوس ومارك لبيدس، وكان قد التقى بكليوباترا أثناء إقامتها في روما في ضيافة قيصر، وكان يود أن يحكم روما وحده، ويأمل أن يحصل على مساعدة مادية من كليوباترا، وقد ربط الحب بينهما عام 40 قبل الميلاد، ووضعت كليوباترا مولودين توأمين، أحب أنطونيو كليوباترا وطفليها إسكندر هيليوس وكليوباترا سيلين التوأمين، ولكنه تركهم جميعًا ليتزوج أوكتافيا شقيقة أوكتافيوس شريكه في الحكم، وكان زواجه بمثابة وسيلة سياسية للوصول إلى السلطة، إلا أنه افتقد كليوباترا فترك أوكتافيا وعاد إلى حبيبة قلبه وتزوجها عام سبعة وثلاثين قبل الميلاد.
وبعد ذلك بعام رزقت كليوباترا بغلام آخر منه هو بطليموس فلادلفوس، وقد تعاون الاثنان لتحقيق أهدافهما، وكان هو يعتقد أن ثروة مصر ستساعده؛ ليصبح الحاكم الوحيد لروما، أما هي فكانت تأمل أن تجعل من أولادها، وخصوصًا قيصرون حلقات في سلسلة حكام روما.
وفي عام 34 قبل الميلاد عينها حاكمًا على مصر وقبرص وكريت وسوريا، ومنح أبناءه منها كثيرًا من الأراضي التي كان يحكمها الإسكندر الأكبر، مما أغضب
(1/170)
________________________________________
مشاركيه ومنافسيه في الحكم، وكان أوكتافيوس يرى أن كليوباترا امرأة جشعة ذات أطماع واسعة، وأحس أنها حولت أنطونيو إلى شخص مسلوب الإرادة، تحركه كما تشاء. وفي عام اثنين وثلاثين قبل الميلاد أعلن أوكتافيوس الحرب على أنطونيو، ودارت معركة بين الفريقين عند أكتيوم على الشاطئ الغربي من بلاد اليونان، خسرها أنطونيو وكليوباترا، فعاد الاثنان إلى الإسكندرية، حيث حضر أوكتافيوس بعد بضعة أشهر لملاحقتهما، وبعد أن وصل بقواته إلى مصر عام ثلاثين قبل الميلاد أشاعت كليوباترا أنها انتحرت، وسمع أنطونيو بالنبأ، فقتل نفسه بالخنجر حزنًا عليها وحمله أتباعه إلى كليوباترا، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها.
وهنا اعتقدت كليوباترا أن أوكتافيوس سوف يهينها على الملأ في روما، فحاولت أن تعقد السلام معه، ولكنها فشلت فشعرت باليأس مما دفعها إلى الانتحار بأن وضعت حية سامة على صدرها أو ذراعها، وبعد وفاتها قتل الرومان قيصرون؛ خشيةَ أن يطالب بالإمبراطورية الرومانية بوصفه وريثًا لقيصر وولي عهده.
وترجع شهرة كليوباترا في التاريخ إلى وجهة نظور أوكتافيوس، الذي وصف أنطونيو بأنه ضحية لصدمة حبه من امرأة ساحرة لعوب.
وقد نقلنا هذه الترجمة السريعة عن "الموسوعة العربية العالمية" بشيء من التصرف و"الموسوعة البريطانية"، عام العام 2009 و"موسوعة اليونيفرسالس" في نفس العام و"موسوعة الويكيبيديا" بنسختيها الإنجليزية والعربية، و"موسوعة الإنكارتا" بنسختيها الإنجليزية والفرنسية.
وقد استلهمت أعمال أدبية كثيرة من شخصية كليوباترا، ومن يرد أن يعرف شيئًا عن هذا الموضوع فليرجع إلى النسخة الفرنسية بـ"موسوعة الإنكارتا".
(1/171)
________________________________________
أما بالنسبة لتأليف أحمد شوقي أمير الشعراء مسرحيته (مصرع كليوباترا)، فتتحدث الممثلة المصرية المعروفة فاطمة رشدي في مذكراتها عن الظروف التي أحاطت بتأليفها، فقالت: ذات ليلة بين فصول إحدى المسرحيات طرق باب مقصورتي عزيز عيد، ودخل علي ومعه أحمد شوقي أمير الشعراء، وقدمه إلي وكانت أول مرة أتعرف فيها بشوقي، وجلس معي فترة في مقصورتي، وقال لي: إنه يتابع مسرحياتي الواحدة بعد الأخرى، وإنه معجب بي وبفني كل الإعجاب، وقال في النهاية وهو يصافحني: سأهديك هدية عظيمة تستحقينها ولم تغب عني طويلًا هدية أمير الشعراء، وكانت هدية عظيمة وعظيمة جدًّا، كانت معجزة ومثلت دور كليوباترا أحد أدوار عمري الخالدة، وجاءني شوقي بمحمد عبد الوهاب؛ ليغني في مسرحيته أنا أنطونيو أنطونيو أنا لحنه الخالد، وقررت له أجرًا في كل ليلة عشرة جنيهات، فلما مثلنا المسرحية في الأوبرا توقف وساومني أن أرفع أجره كل ليلة إلى ثلاثين جنيهًا بدون فصال، واضطررت إلى مداراته والموافقة حتى ينتهي موسم الأوبرا.

(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي
لسوف نقف عند مسرحية شكسبير بالذات من بين المسرحيات التي ألفت عن كليوباترا في الآداب الأخرى غير العربية، ونقارن بينها وبين مسرحية أمير الشعراء أحمد شوقي.
وإذا شرعنا في المقارنة بين المسرحيتين، نجد أن كلتا المسرحيتين قد بدأت أحداثها في غرفة من غرفات قصر كليوباترا، فأما لدن شكسبير فهي غرفة مجهلة لم تحدد، إذ يقول: ألكسندريا رووم إن كليوباترا إز بالاس، وهذا كل ما هنالك، وأما لدن شوقي فهي المكتبة تحديدًا ولا فرق يذكر بين المكانين، كما هو بين لا يحتاج إلى توضيح، فهل هذا الأمر تم عفوًا؟ أم هل تأثر شوقي بمسرحية شكسبير التي كان قد قرأها قبل أن يؤلف مسرحيته هو، فكان أن بدأ مسرحيته على هذا النحو؟
(1/172)
________________________________________
وقد وصفت كليوباترا في النظرات التحليلية التي ذيلت بها مسرحية (مصرع كليوباترا) لأحمد شوقي بالملكة المصرية المظلومة، مؤكدًا كاتبها أنها اكتسبت مصريتها من واقع حكم أسرتها لأرض الكنانة ثلاثة قرون، هي عمر الدولة البطلمية، التي وفدت إلينا من اليونان واحتلت بلادنا.
كذلك انبرى كاتب النظرات يدافع عن كليوباترا أيما دفاع، إذ نعتها بالوفاء والإخلاص لمصر، ورد ما اتهمها به مؤرخو اليونان في عرضها وحكمتها، واصفين إياها بأنها حية النيل العجوز، مبينًا أنه إذا كان شوقي قد أخذ على عاتقه مهمة كتابة مسرحية تنصف هذه المصرية المضطهدة، ويثبت لها سمو الغاية ونبالة القصد على حد تعبيره، فهذا أمر طبيعي استوحى فيه المنطق، واتجاه البحث العلمي الذي يكشف كل يوم من أمر كليوباترا شيئًا جديدًا ينسخ ما كان متعارفًا من قبل، والواقع الذي نعرفه ولا نعرف سوه حتى الآن على الأقل، هو أن كليوباترا كانت امرأة لعوبًا حسبما رأينا من ترجمتها الآنفة فضلًا عن أنها ليست مصرية أبدًا، فكيف يقلب شوقي حقائق التاريخ، ويسيرها مصرية طاهرة الذيل، لقد أطلق للسان في المسرحية العنان، فوصف الشعب المصري بأنه شعب ثرثار رعديد يسمع كلام حاكميه، ولا يفكر يومًا في الثورة عليهم، بل يخرج للهتاف بحياتهم والتصفيق لهم مهما استبدوا به، وأجحفوا بحقوقه وساموه سوء العذاب.
ولم نجد في ذلك ما يقدح في وطنيته، إذ ليس مطلوبًا من الأديب أن يزيف حقائق الأمور، فيرسم لشعبه صورة براقة نظيفة في الوقت الذي ليست صورته الحقيقية براقة ولا نظيفة، فكيف إذن انقلبت الأمور على يدي شوقي بالنسبة إلى كليوباترا، فحرص على تطهيرها وتصويرها في أبهى حلة وأنقاها وهي ليست كذلك؟
(1/173)
________________________________________
ترى هل السبب في هذا يرجع إلى أن في عروق شوقي أيضًا شيئًا من الدم اليوناني، وأنه ليس مصريًّا بالجنس، بل بإقامة أسرته فيها زمنًا، مثلما هو الوضع في حالة كليوباترا؟ يقول كاتب النظرات التحليلية في نهاية المسرحية: ما فتئ المؤلف منذ مقطع الرواية إلى مقطعها يؤكد جنسية كليوباترا المصرية، وإن تحدرت من نبعة أجنبية، فقد كان الزمن الطويل الذي قضاه أجدادها في مصر، كما أسلفنا كافيًا لتمصيرها، وعبث أن نختار من الرواية قطعًا دون أخرى لإثبات هذه الجنسية، فالرواية كلها دليل متصل نسجل منه على سبيل المثال قولها:
أموت كما حييت لعرش مصر ... وأبذل دونه عرش الجمال
وقولها:
موقف يعجب العلا كنت فيه ... بنت مصر وكنت ملكة مصر
ثم قولًا آخر احتال فيه المؤلف على تبرير هذه الجنسية، متحاشيًا في هذا التبرير إلا مجرد التلميح من بعيد لدمها القديم، وذلك إذ يقول حابي لزنون:
أخي هذا أثيني ... وخلي ذاك مقدوني
كلا الخلين ذو جد ... بأرض النيل مدفون
فليس في هوى مصر ... وفي طاعتها دوني
وتصور الرواية كل بطل من نواح ثلاث يستحسن أن نبحثها منفصلةً، الأولى من حيث هي امرأة، والثانية من حيث هي ملكة، والثالثة من حيث هي شخص سياسي.
هذا ما قاله كاتب الملاحظات النقدية التي ألحقت بمسرحية (مصرع كليوباترا)، لكن كيف فات شوقي أن ثمة فرقًا هائلًا بين البطالمة، الذين اقتحموا مصر بالقوة الغشوم محتلين، وحكموها مستبدين ولثرواتها مستنزفين، ولشعبها قاهرين؟
(1/174)
________________________________________
كيف فاته أن ثمة فرقًا هائلًا بينهم وبينه هو وأمثاله ممن أتوا إلى مصر بوصفهم أفرادًا، وامتزجوا بالمصريين امتزاجًا، وصاروا منهم بالطريق الطبيعي وبالرضا؟ ثم إن كليوباترا خاضت بركة من الدماء في سبيل التشبث بالسلطان، وقتلت أخاها وفرطت في عرضها واتبعت سبيل شهواتها، واستغلت جسدها من أجل الإيقاع بقادة روما في غرامها واحدًا وراء الآخر، غير عابئة بمبدأ أو قيمة، وما هكذا تخدم الأوطان، إن الأوطان إنما تخدم بالشرف والكرامة والعزة والعفة لا بإزالة العرض وابتذاله.
ثم إن البطالمة إنما كانوا يعملون على نشر الثقافة الإغريقية، ويقربون إليهم أبناء بلادهم الأصلية دون المصريين، وإلى القارئ ما كتبته "الموسوعة العربية العالمية" مثلًا في المادة الخاصة ببطليموس الأول مؤسس دولة البطالسة بمصر، أسس أسرة من الحكام الذين حكموا مصر بين عام ثلاثمائة وثلاثة وعشرين، وعام ثلاثين قبل الميلاد، وعرفت هذه الأسرة بالبطالسة، وقد حكم بطليموس الذي اتخذ لقب ملك مصر من سنة ثلاثمائة وخمس قبل الميلاد؛ حتى سنة مائتين وخمس وثمانين قبل الميلاد، وولد في مقدونيا وهي منطقة شمال اليونان، وصار قائدًا بارزًا في جيش الإسكندر الأكبر، وهو الملك المقدوني الذي أنشأ إمبراطورية ضمت مصر، وأغلب بلاد غرب آسيا وبعد موت الإسكندر عام ثلاثمائة وثلاثة وعشرين قبل الميلاد، استولى بطليموس على مصر، وبسط حكمه إلى جزيرة قبرص، وجنوب فلسطين وبرقة وهي مستعمرة إفريقية في شمال إفريقيا، وجند بطليموس المقيمين من الإغريق، والمقدونيين في جيشه وبحريته وإدارته، ومنح المستوطنين الأراضي وشجع على تنمية الثقافة الإغريقية.
(1/175)
________________________________________
وعلى العكس مما كتبه صاحب النظرات التحليلية الملحقة بمسرحية (مصرع كليوباترا)، يرى فتحي سعيد أن شوقي حين اختار كليوباتر موضوعًا لمسرحيته كان حريصًا على ألا يغضب ولي النعم أو جناب السلطان الأكبر، فكليوباترا سليلة البطالمة وليست بنت مصر، أما شكسبير فيصورها حسبما كتب صاحب المادة الخاصة بها في "الموسوعة المشباكية الحرة" المسماة بـ"الويكيبديا" يصورها امرأة مغرورة متصنعة تستثير الضيق والاحتقار متهالكة لا تعرف الوفاء، ولا ترعى العهود، فهي تخون أنطونيو في الحب وفي الحرب على السواء، إذ ما يأتيها رسول أوكتافيوس؛ ليبلغها رسالة ذلك الخصم أنطونيو، التي يطلب فيها منها أن تسلمه أنطونيو؛ حتى تنسى أنطونيو وتشرع في مغازلة الرسول، كما أنها قد تخلت عنه في ميدان القتال مرتين وانسحبت بسفنها تاركة إياه يواجه عدوه وحده، رغم ما كان بينهما من اتفاق بأن يحارباه معًا، وعزم أنطونيوس على أن ينتقم منها لتلك الخيانة، ويقتل تلك المصرية الدنسة كما جاء في المسرحية، إلا أنها تشيع أنها قد انتحرت وأن اسمه كان آخر ما تلفظت به، وذلك بغية استحثاثه على الإسراع إليها، والترامي على عتباتها بحبه القديم، إلا أن خطتها فشلت بانتحار أنطونيو؛ حُزنًا عليها.
أما في مسرحية شوقي فالمسئول عن إشاعة انتحارها هو الطبيب، وليس كليوباترا وقد أراد أمير الشعراء إبراءها من تهمة دفع أنطونيو إلى الانتحار، يقول صاحب (النظرات التحليلية): إن كليوباترا هي المسئولة أمام التاريخ عن انتحار أنطونيوس، بينما يبرئها المؤلف من هذه التهمة، ويخلق شخصية خيالية يلقي عليها هذه التبعة هي شخصية الطبيب أوليمبوس، ونرى ذلك حيث تتساءل كليوباترا في لوعةٍ ولهفةٍ: مَن نعاني كذبًا من قالها لك؟ وإذ يجيبها أنطونيوس: أوليمبوس النذل الخؤون، وحيث نسمع أوليمبوس في الفصل الثاني من الرواية
(1/176)
________________________________________
مهددًا ناقمًا: أوروس أنطونيو حسابكما غدًا، روما الأبية لم تنم عن ثأرها. وحيث نلمس مكمن الحيلة بين هذه النقمة وذلك الانتقام.
ولقد أشرنا من قبل إلى ما كتبه صاحب (النظرات التحليلية) الملحقة بمسرحية شوقي من أن الصورة السيئة، التي اشتهرت لكليوباترا سببها ما كتبه المؤلفون الرومان عنها بعد هزيمتها، وبالذات بلوتارك، ويا ويل التاريخ من أقلام المنتصرين. ومعروف أن شكسبير إنما اعتمد في صياغة مسرحيته على ما كتبه بلوتارك عن كليوباترا في كتابه Lies of the Rappel Grecian and Roman together Cumbered وهذا هو السبب في اختلاف النظرتين إلى تلك المرأة، فقد أراد شوقي أن يقدم للقراء والمشاهدين كليوباترا الأخرى، غير التي كتب عنها "بلوتارك" وأمثاله من المؤلفين الرومان، فرسم صورة ملكة مصرية تحب بلادها، وتعمل بكل سبيل لمصلحتها، وتضحي بنفسها في سبيل رفعتها، وهنا لا يستند في هذا الموقف إلى شيء سوى رغبته في تقديم صورة مغايرة للملكة البطليموسية، إذ ليس فيما بين أيدينا من الكتابات التاريخية ما يقول شيئًا من هذا، ولو على سبيل التلميح.
أما شكسبير فلم تشغله مسألة الدفاع عن كليوباترا على الإطلاق، بل رأيناه يرسم لها صورة امرأة غادرة لا تبالي بمبدأ أو تحترم قيمة، وقد علق الدكتور محمد غنيمي هلال على موقف كتاب الغرب الزاري على كليوباترا، عازيًا إياهم إلى أنهم كانوا يرون فيها صورة للعقلية الشرقية في نظرهم، في ميلها إلى لذة العيش ومتاعه، والانتصار بالخديعة لا الجهد، وسلوك سبل المكر والحيلة، وأنهم طالما هاجموا الشرق فيها وهاجموا مصر في القديم.
(1/177)
________________________________________
والعجيب أنها لم تكن مصرية بل لم تكن شرقية البتة، إذ كانت من بلاد اليونان كما قلنا، فهي إذن أوربية صرفة، وكان ينبغي أن يضع هؤلاء المؤرخون هذا الأمر في حسبانهم، لكنهم إنما كانوا يريدون الزراية على الشرق، وكأنهم طوال تاريخهم ناس متحضرون وراقون، وكأن الشرق كان على الدوام متخلفًا منحطًّا، وذلك رغم أنهم إلى ما قبل عدة قرون فقط كانوا في غاية التخلف والتوحش والانحطاط، في الوقت الذي كنا فيه سادة لهم في مختلف مناحي الحضارة.
ولقد سماها أنطونيو بالمصرية، إذ قال: إن هذه المصرية القذرة قد خانتني " This Faull Egyptian has Betrayed me" لكن دون أن يدل هذا بالضرورة على أنها مصرية بالمعنى الذي قصده شوقي، إذ قد يكون كل المقصود هنا هو الإشارة إلى أنها تعيش في مصر، وتحكم المصريين لا أنها تنتمي إليهم، ولقد عرفنا شكسبير بها في بداية المسرحية فقال: ملكة مصر: " Cleopatra Queen of Egypt" كما أنها هي أيضًا تسمي نفسها ملكة مصر: " Egyptien Queen " وعلى نفس الشاكلة نسمع ألكسس يناديها بعاهلة مصر: Sov Of Egypt وهذا كل ما نجده لدى شكسبير فيما يخص مسألة مصريتها أو عدمها.
ومع هذا، فإنه لمن الغريب في مسرحية الشاعر الإنجليزي أن كليوباترا التي قدمت لنا بوصفها امرأة لا تبالي بأية قيمة كريمة تؤثر أن تقتل نفسها على أن تستسلم لأوكتافيو؛ كي لا يذلها بعرضها أسيرة في موكبه الانتصاري في روما، ولكن أغرب منه كثيرًا أن يصورها شكسبير في موتها سعيدةً، رغم أنها ماتت في المسرحية بلدغة صل مصري، فهل يمكن أن يستعلي المنتحر بهذه السهولة على آلام السم البشعة، التي لا تحتمل ويميت ميتة نشوى، كما جاء في مسرحية
(1/178)
________________________________________
شكسبير، فضلًا عن أن يكون ذلك المنتحر هو كليوباترا الملكة المترفة التي لم تتعود تحمل الآلام قط، وهو ما صنعه شوقي أيضًا، فقد أنطقها عقب لدغ الأفعى لها في صدرها بالأبيات التالية، التي تخاطب فيها وصيفتيها اللتين كانتا حاضرتين تنفيذ الانتحار، والتي تشف عن فرح خالص لا شائبة من ألم فيه:
يا ابنتي ودي هلما، زيناني للمنيه
غللاني طيباني بالأفاويه الزكيه
ألبساني حلة تعجب أنطونيو سنيه
من ثياب كنت فيها أتلقاه صبيه
ناولاني التاج تاج الشمس في ملك البريه
وانثرا بين يدي عرش الرياحين البهيه
ويؤكد هذا ما قاله أنوبيس حين رآها عقب موتها بسم الصِّل:
جبين مشرق الغرة ووجه ضاحك النضره ... وعينان كأن الموت في جفنيهما كسره
وهذا فم تبدو المنايا عنه مفتره ... ولكن قيصر ادن انظر هنا السر هنا العبره
فبين ***** والنحر كمثل الخدش من إبره ... مكان الناب من صل شديد البأس والشره
فهل هذا كله توارد خواطر، أم هل تأثر شوقي بمسرحية نظيره الإنجليزي؟
فإذا عدنا إلى ما أراد شوقي إقناعنا به من أن كليوباترا إنما كان يحركها حبها لمصر لا رغبتها في الرجال، والعبث بألبابهم، رأينا أمير الشعراء العرب لا يعد تركها لأنطونيو في المعركة يواجه غريميه وحده خيانةً وغدرًا، بل سياسة تستهدف مصلحة مصر، وهذا ما كتبه صاحب (النظرات التحليلية) في ذلك الموضوع.
وكانت كليوباترا أثيرة عواطف ثلاث:
الأولى: حبها لمصر وحرصها على مستقبل تاجها، وقد رأينا أن الرواية ملأى بدلائل هذا الحب والحرص، حينما تكلمنا عن جنسية كليوباترا.
الثانية: حبها لأنطونيوس، ومن العبث أن نستشهد على هذا الحب بنجواها الغرامية المتصلة وحدها، كلما جمع المجال بينها وبين أنطونيوس، فلقد تتهم هذه
(1/179)
________________________________________
النجوى بشيء من المبالغة والرياء، وخير أن نقصر هذا الاستشهاد على حديثها عنه في غيبته، إذ تقول: علم الله قد خذلت حبيبي، وإذ تقول في موقف آخر: هو أنطونيوس زخري وطريفي وتليدي، وعلى الوفاء له بعد موته وقد أسلفنا عليه الدليل، ومهما يكن من اتقاد هذه العاطفة في قلبها، فقد كانت هذه العاطفة لديها كما قلنا عاطفة ثانوية كلما تعارضت مع حبها لمصر.
ففي سبيل وطنها كانت مستعدة للتضحية بكل شيء، وكانت تعتقد حقيقةً أن المجد لا يسأل عن صاحبة ولا ولد، وكانت مخلصة حينما استنهضت حماسة أنطونيو بهذه الكلمة الجامعة عد ظافرًا أو لا تعد، وهي في استعدادها للتضحية بغرامها في سبيل سياسة بلادها، قولها عقب فرارها من أكتيوم:
علم الله قد خذلت حبيبي ... وأبا صبيتي وعوني وذخري
والذي ضيع العروش وضحى ... في سبيلي بألف قطر وقطر
موقف يعجب العلا كنت فيه ... بنت مصر وكنت ملكة مصر
الثالثة: بغضها لروما وإشفاقها من طغيان سلطانها المكين، ويبدو هذا البغض في عدة مواقع منها قولها: لا تسيروا على ولائم روما سرفًا في الفسوق واستهتارًا.
ومنها قول أحد القواد الرومان لزميل له: أتسمع ما تقول عدو روما، أتسمع ما تقول عدو روما؟ وقولها:
دعوا روما ولا تجروا لها ذكرًا ... .....................................
وقولها:
حبرا أعندك سحر يشل طاغوت روما ... ويجعل الناس فيها حجارة ورسوما
وقولها في موقف مفاضلة بين ألوان الشراب:
(1/180)
________________________________________
جنان مصر لا جنان الروم ... ....................................
ثم شعور الناس جميعًا حتى خصومها بذلك البغض، وفي ذلك يقول حابي لزينون قبل أن ينزل عن رأيه فيها:
ولم يبق على الود لروما غير زينون ... .....................................
وإشباعًا لهذه العواطف جميعًا رسمت كليوباترا لنفسها ثلاث غايات:
الأولى: أن تستخلص الشرق لنفسها مستقلًّا عن كل نفوذ.
الثانية: أن تضعف قوى روما ما استطاعت مع المحافظة على قواها هي.
الثالثة: أن تعكس الآية السياسية الموجودة يومئذٍ؛ فتسود روما من خلال سيادة قيصر ضعيف تضمن أن يخضع لفتنة جمالها دائمًا، كما تضمن أن يخشى قوة بأسها ثانيًا، وكل هذه الشروط كانت تجتمع في أنطونيوس، وتحمل كليوباترا غايتها الأولى والثالثة في قولها لأنطونيوس:
أنت لروما في غد وقيصرون بعد غد ... وشرق سلطان الذي إكليله لي انعقد
ثم تبسط غايتها الثالثة، إذ تقول:
قلت: روما تصدعت فترى شطرًا ... من القوم في عداوة شطر
وتبينت أن روما إذا زالت ... عن البحر لم يسد فيه غيري
والوسيلة التي ظنتها كليوباترا كفيلة بتحقيق هذه الغايات أن تقف من القيصرين المتحاربين موقف الحياد، فقد كانت تؤمن بتكافؤ قواهما الحربية؛ لأنهما تقاسما الفلك والجيش، وبات كلاهما شطرًا من القوم في عداوة شطر.
وقد أثبت تداول النص بينهما قبل المعركة الفاصلة صدق هذا اليقين، وقدرت كليوباترا أن حيادها هذا يكفل لها الاحتفاظ بقواها في البر والبحر، بينما ينهك
(1/181)
________________________________________
القتال قوى القيصرين المنتصر هو المخذول؛ حتى إذا قرت الحرب بينهما وظهرت بجيشها وأسطولها؛ لتجهز على أوكتافيوس إذا ظفر وهو متعب منهوك؛ ولتحيي أنطونيوس إذا كان هو الظافر تحية القوي للضعيف، لا تحية التابع إلى المتبوع، لكن الحياد الصريح كان معناه المحتوم أن تفقد أنطونيوس، وأن تفقد كل أمل في هواه، وأن ينهار بفقدان هذه الأمل صرح أمانيها جميعًا، فاصطنعت كليوباترا لنفسها حيادًا مقنعًا تتظاهر فيه بالقيام بنصيبها من أعمال الحرب إلى جانب أنطونيوس؛ حتى إذا نشبت المعركة فرت بجيشها أو أسطولها تاركة لفرار أنطونيوس القوي مهمة التماس الأعذار لضعفها، وفرارها من حومة القتال ناطقة على لسانه:
فقلت: انسحبت ضعفًا، وقال الناس: بل غدرًا ... ولو كان لهم قلب كقلبي التمسوا العذرا
ومهمة أخرى هي إلقاء تبعة الغدر والخيانة على من يشاء من قوادها:
فيا قائد الأسطول هل من مكيدة ... تدبر لي خلف الشراع وما أدري
وما من شك أنها مهمات يسيرة إزاء مهمة الاعتذار لخيانتها السافرة، لو أنها وقفت منه موقف الحياد الصريح، وما من شك كذلك أن هذه المهمات قد أداها غرام أنطونيوس بنجاح، فقد عفا عن ضعف حبيبته مرتين ومات راضيًا عنها كل الرضا.
ونستطيع استخلاص هذه الخطة التي اتخذتها كليوباترا من أربعة مواضع:
الأول: في موقف كليوباترا من حاشيتها بعد وقعة أكتيوم تبرر فرارها في هذه الأبيات:
قلت روما تصدعت فترى ... شطرًا من القوم في عداوة شطر
(1/182)
________________________________________
بطلها تقاسم الفلك والجيش ... وشب الوغى ببحر وبر
فتأملت حالتي مليًّا ... وتدبرت أمر صحوي وسكري
وتبينت أن روما إذا زالت ... عن البحر لم يسد فيه غيري
كنت في عاصف سللت ... شراعي منه فانسلت البوارج إثري
خلصت من رحى القتال ومما ... يلحق السفن من دمار وأسر
الثاني: في قول أنطونيوس:
أسطولها إلى مراسيه أوى ... وجيشها ألقى السلاح ونجا
ولقد كانت كليوباترا في مسرحية شوقي تتوقع ما سوف يقال عنها بعد مماتها، وهي تذكر ذلك تفصيلًا وفي وضوح تام يخلو من أية غمغمة تقول في أواخر المسرحية:
أراني لم يحسن إلي معاصري ... ولم أجد الإنصاف عند لدات
فكيف إذا ما غيب الموت زادتي ... وبدد أنصاري وفض حُماتي؟
كأني بعدي بالأحاديث سُلطت ... على سيرتي أوكلت بحياتي
وبالجيل بعد الجيل يروي زخارفًا ... فمن زور أخبار وإفك رواتي
يقولون: أنثى أفنت العرش بالهوى ... بهيمية اللذات والشهوات
فدًى لغرام بالرجال وحسنهم ... غرام الغواني أو هوى الملكات
فليس الغلام البارع الحسن فتنتي ... ولا الرائع الأجلاد والعضلات
ولم يستثر وجدي من الروم فتية ... جنون العذارَى فتنة الخفرات
ولكن لغصن من بني مصر مائل ... يطير إليه قلب كل فتاة
يموتون بي عشقًا ويشقون بالهوى ... فكم من حياة في يدي وممات
ولكن عشقت العبقرية طفلةً ... وفي الغافلات البله من سنوات
(1/183)
________________________________________
كلفت بكهل أحرز الأرض سيفه ... وحِيزت له الدنيا من الجنبات
إذا هب من غرب البلاد تلفتت ... بلاد بأقصى الشرق منذعرات
تعثر حظي بعد طول سلامة ... وأقلع نَجمي بعد طول ثبات
ومن يمشي في ورد الأمور وشوكها ... يعد الخطى أو يحسب العثرات
كذلك من الغريب أيضًا بعد موتها أن ينقلب أوكتافيو، الذي كان قد أغراها من قبل بالتخلي عن أنطونيو في الحرب، وإسلامه إياها له، فيمجدها هي وأنطونيو، ويأمر بدفنهما في قبر واحد قائلًا: إنه ليس ثمة قبر في الدنيا يضم مثل هذين ******ين، فضلًا عن أن يتم الدفن بمراسم رسمية تكريمية، كما هو الأمر في المسرحية الشكسبيرية، وبالمثل نرى أوكتافيو في مسرحية شوقي يغير موقفه من أنطونيو فور تحققه من موته، ويشرع في تمجيده ويوصيه بكل كريم من الفعال، كما هو الحال في المشهد التالي حين جرى على كيلو باترا، وجرى الحديث بينهما على هذا النحو:
أوكتافيوس:
سلام ملكة الوادي ... سلام كاهن الملك
يقول الناس: أنطونيو ... هنا لم يبتعد عنك
كليوباترا:
نعم لم نفترق بعد ... وإن أمعن في تركي
وهذا الجسد الفاني ... جلاء الريب والشك
أوكتافيوس:
إذًا قد قضي الأمر ... وصار الليث للهُلك
كليوباترا لا تخشي ... فلن آخذه منك
(1/184)
________________________________________
كليوباترا:
أِبِي تهزأ أم بالميت ... أم بالموقف الضنك؟
إن استطعتَ على مالك ... من بطش ومن فتك
وما حولك من خيل ... وما تحتك من فُلك
فخذه من يد الموت ... ومن عاجزة تبكي
يدنو الجندي من جنود أوكتافيوس ليتحقق موت أنطونيوس.
كليوباتر:
مكانَك يا عبد لا تهتكن ... على سيد الهالكين القناع
تريد لتكشف عنه الغطاء ... عسى تحته حيلة أو خداع
عبثت به وهو تحت الطيالس ... ملقى السلاح قليل الدفاع
ولم تحتشم بُقعًا من دم ... عليهن تحسن مصر البقاع
رويدك ما الموت مستبعد ... ولا هو مستغرب من شجاع
وإن التماوت فعل الثعالب ... ليس التماوت فعل السباع
أوكتافيو:
أناتك سيدتي إنه فتى ... طاهر القلب حر الطباع
أراد ليحتاط لي جهده ... ويخلص في خدمتي ما استطاع
تنح أخا الجند ما أنت والميت ... لا يقرب الشمس إلا شعاع
أتأذن سيدتي أن أطيف ... بخدن الصدام رفيق الصراع
ومن كنت تحت القنا ظله ... ومن كان ظلي تحت الشراع
وكنا نشيد ضروم الفخارَى ... ونجري لها الغار من كل قاع
ونأتي القناع فنحتلها ... وإن بعُدت كالنجوم القلاع
(1/185)
________________________________________
ونركز في السهل أرماح روما ... ونطلع أعلامها في اليفاع
بإذنك كليوباترا:
قيصر لا إذن لي ... أيأمر وينهى مَن لا يطاع
فصار بجسمانه كيف شئت ... فليس له اليوم منك امتناع
وما جثة الليث إلا لقى ... إذا الناب طاحت أو ظفر ضاع
يتقدم أوكتافيوس، ويرفع القناع عن وجه أنطونيو:
أوكتافيوس:
لقد حسم الموت ما بيننا ... وغض اللجاج وفض النزاع
فبحقي اليوم بل واجب ... علي أقدسه أن يضاع
أقبل ما قبل الغار منك ... وأهتف أنطونيوس الوداع
ومرة أخرى: هل كان هذا توارد خواطر بين الشاعرين الكبيرين، أم هل كان شوقي يجري في أعقاب الشاعر الإنجليزي الذي قرأ مسرحيته قبل أن يضع هو (مصرع كليوباترا)؟
وبالإضافة إلى هذه الملاحظات التي قمنا بها يذكر الدكتور محمد غنيمي هلال ملاحظات أخرى، منها أن شوقي في مشهد الوليمة، وهو يشغل معظم الفصل الثاني من مسرحيته قد تأثر بشكسبير، الذي جعل جوها كله مرحًا وشرابًا ورقصًا، وإن اختلف زمان الوليمة، ومكانها بين المسرحيتين، فعلى حين نجدها في مسرحية شكسبير مصنوعة في إيطاليا فوق ظهر سفينة، فإنها في مسرحية شوقي قد صنعت في الإسكندرية في قصر كليوباترا، كذلك نسمع أحد الجنود الرومان ينال من الملكة واصفًا إياها بالبغي، لما تلفظت من إهانة لروما، وهو ما نجده أيضًا في مسرحة الشاعر الإنجليزي، إذ يدعوها أحدهم في الفصل السادس والسابع من
(1/186)
________________________________________
تلك المسرحية بغيًّا، وللوليمة كما ذكر الدكتور هلال أصل فيما سجله قلم بلوتراك في كتابه المعروف.
أما شوقي فقد اختصر جغرافية مسرحيته على مصر وحدها، وبالتحديد على الإسكندرية وأرباضها، ولا أظن السبب في هذا تمسك شوقي بوحدة المكان المقننة في المسرح الكلاسيكي، كما يقول بعض من كتبوا عن هذه المسرحية، إذ إنه لم يتقيد في أي من مسرحياته عمومًا بالوحدات الثلاث على ما هو معروف، ولو كان يتقيد بهذه الوحدات لحصر أحداث مسرحيته هذه في أربع وعشرين ساعة، ولكنه مطها أطول من ذلك، فغطت الأيام التي تشمل وقعة أكتيوم البحرية بين أنطونيو وكليوباترا، وبين أوكتافيو وما تلَا ذلك وصولًا إلى انتحارها.
هناك أيضًا المناظر التي أبدع فيها شوقي شعرًا يمكن تحويله إلى قصائد غنائية شديدة مستقلة إذا أحببنا، وهو ما فعله في بعض الأحيان المطرب محمد عبد الوهاب، فمن ذلك قول كليوباترا مثلًا في وصف معركة أكتيوم:
شيرميون اهدئي فما أنت إلا ... ملك صيغ من حنان وبِر
أنت لي خادم ولكن كأنا في ... الملمات أهل قربى وصهر
إنما الخادم الوفي من الأهل ... وأدنى في حال عسر ويسر
اسمعي الآن كيف كان بلائي ... انظري كيف في الشدائد صبري
أيها السادة اسمعوا خبر الحرب ... وأمر القتال فيها وأمري
واقتحام العُباب والبحر يطغى ... والجواري به على الدم تجري
بين أنطونيو وأوكتافا يوم عبقري ... يسير في كل عصر
أخذت فيه كل ذات شراع ... أهبة الحرب واستعدت لشر
لا ترى في المجال غير سبوح ... مقبل مدبر مكر مفر
(1/187)
________________________________________
وترى الفلك في مطاردة الفلك ... كنسر أراد شرًّا بنسر
وترى الدخان في جنبات الجو ... جنحًا من ظلمة الليل يسري
ودوي الرياح في كل لج ... هزج الرعد أو صياح الهزبر
وترى الماء منه عود سرير ... لغريق ومنه أحناء قبري
يغسل الجرح شر من غسل ... الجرح ويأس من الحياة ويبري
كنت في مركبي وبين جنودي ... أزن الحرب والأمور بفكري
قلت روما تصدعت فترى شطرًا ... من القوم في عداوة شطري
بطلها تقاسم الفلك والجيش ... وشب الوغى ببحر وبر
وإذا فرق الرعاة اختلاف ... علموا هارب الذئاب التجري
فتأملت حالتي مليًّا ... وتدبرت أمر صحوي وسكري
وتبينت أن روما إذا زالت عن ... البحر لم يسد فيه غيري
كنت في عاصف سللت شراعي ... منه فانسلت البوارج إثري
خلصت من رحى القتال ... ومما يلحق السفن من دمار وأسر
فنسيت الهوى ونصرة أنطونيوس ... حتى غدرته شر غدر
علم الله قد خذلت حبيبي ... وأبا صبيتي وعوني وذخري
والذي ضيع العروش وضحى ... في سبيلي بألف قطر وقطري
موقف يعجب العلا كنت فيه ... بنت مصر وكنت ملكة مصر
ومنه كذلك غناء إياس على لسانها بالأبيات العبقرية التالية:
أنا أنطونيو وأنطونيو أنا ... ما لروحينا عن الحب غنى
غننا في الشوق أو غنِّ بنا ... نحن في الحب حديث بعدنا
رجعت عن شجونا الريح الحنون ... وبعينينا بكى المزن الهتون
(1/188)
________________________________________
وبعثنا من نفاثات الشجون ... في حواشي الليل برقًا وسن ا
خبري يا كأس واشهد يا وتر ... واروِ يا ليل وحدث يا سحر
هل جنينا من ربى الأنس السمر ... ورشفنا من دواليها المنى
الحياة الحب والحب الحياة ... ومن سرحتها سر النواة
وعلى صحرائها مرت يداه ... فجرت ماء وظلًّا وجن ا
نحن شعر وأغاني غدا ... بهوانا راكب البيد حدَا
وبنا الملاح في اليم شدا ... وبكى الطير وغنى موهنا
من يكن في الحب ضحى بالكرى ... أو بمسفوح من الدمع جرى
نحن قربنا له ملك الثرى ... ولقينا الموت فيه هينا
في الهوى لم نأل جهد المؤثر ... وذهبنا مثلًا في الأعصر
هو أعطى الحب تاج قيصري ... لم لا أعطي الهوى تاجي منَى
أما مسرحية شكسبير فتخلو من مثل تلك القصائد الغناية، بل إن المسرحية كلها قد صيغت بأسلوب الشعر المرسل، أي: الشعر الموزون غير المقفى.
وقد كتب الناقد الإنجليزي "وليم هازلت" عن المسرحية قائلًا: this a very novel play though not in the first class of Shakespeare's productions is stands next to them and is we think the finest of his historical plays that is of those in which he might poetry organ of history 16: 37 - 37:53 إلا أن الدكتور جمال الدين الرمادي قد ترجم حكم "هازلت" هذا على المسرحية الشكسبيرية على النحو التالي: إن مسرحية شكسبير (أنطونيو وكليوباترا)، لتعد في المرتبة الأولى من إنتاج شكسبير، رغم أن الناقد الإنجليزي لم يقل كذلك، بل قال كما هو بين
(1/189)
________________________________________
تمامًا من النص الإنجليزي الذي أمامنا: إنها وإن لم تأتِ في المرتبة الأولى بين مسرحيات الشاعر تجيء تاليةً لها، لكن الدكتور ماضي سها فيما يبدو، ولم يتحرز تحرز "هازلت".
وبتلك المناسبة نشير إلى ما يذكره التاريخ من أن أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي، قد حاول أن ينال من اللغة العربية أمام طلبته المصرية قائلًا: إن هذه اللغة تعجز عن كتابة المسرحية الشعرية؛ لِمَا يلتزم بها شعرها من قيود الوزن والقافية، فما كان من الطالب علي أحمد باكثير الحضرمي الأصل، إلا أن أتاه في اليوم التالي وقد ترجم في أسلوب شعري ولكن دون التقيد بالوزن والقافية على النحو القديم، بل بطريقة ما صار يسمى بعد ذلك بالشعر الجديد أو شعر التفعيلة، ترجم بعض مشاهد من المسرحية التي كانوا يدرسونها آنذاك مع هذا الأستاذ لوليم شكسبير.
وفي هذا السياق لا ينبغي أن يفوتنا دلالة العنوان في كل من المسرحيتين، فمسرحية شوقي تسمى (مصرع كليوباترا)، أما شكسبير فأعطى المسرحية عنوان (أنطونيو وكليوباترا)، وواضح أن التركيز في مسرحية شوقي على كليوباترا، وهذا صحيح، إذ المسرحية تدور حول تلك المرأة، التي لعبت أو أرادت أن تلعب بألباب ثلاثة من قادة روما الكبار، أما باقي أبطال المسرحية فيأتون في المركز الثاني على عكس مسرحية شكسبير، إذ كان تركيزها على أنطونيو، الذي أتى اسمه في العنوان قبل اسم كليوباترا، علاوةً على أنه وحده الذي ورد ذكره في المسرحية من بين مَن أوقعت كليوباترا، أو أرادت أن توقعهم في عشقها.
(1/190)
________________________________________
وبالمناسبة فقد حُوِّلت مسرحية شكسبير إلى فيلم مرارًا متعددةً، طبقًا لما أوردته المادة الخاصة بتلك المسرحية في النسخة الفرنسية من "الموسوعة المشباكية الحرة الويكيبديا"، أما مسرحية شوقي فلم يتفق لها شيء من هذا، بل إنها لم تعد تمثل على خشبة المسرح أصلًا، وصارت حبيسة الكتاب لا تبرحه.
ولقد لاحظت في (مصرع كليوباترا) أن أنوبيس الكاهن يحلف بإيزيس بوصفها إلهة يقسم باسمها، وهو ما لاحظته أصلًا في مسرحية شكسبر، إذ كان يتم القسم فيها بإيزيس كذلك، فهل كان تم ذلك عند شوقي عفوًا وتوارد خواطر ليس إلا، أم هل أخذها عن شكسبير حتى لو كان تأثرًا دون قصد واعٍ؟
من الصعب علي أن أتصور شوقي لا يخطر على باله من آلهة مصر القديمة إلا إيزيس، وبالذات بالنسبة لعصر كليوباترا غير المصرية من جهة، والمتأخر كثيرًا جدًّا جدًّا عن نص إيزيس وأوزيريس من جهة أخرى، وبخاصة أن المصريين القدماء كانت لهم آلهة متعددة، ولم تكن إيزيس أشهرهم ولا من أشهرهم، بل إن الوعي بألوهيتها عند الناس بوجه عام ليس حاضرًا، ولو كان شوقي قد استبدل "رع" بها مثلًا لما بَدَا الأمر غريبًا على الإطلاق.
ومن هنا نجد برناردشو في مسرحيته عن كليوباترا " Caesar and Cleopatra " يأتي بالإله "رع" في أول المسرحية؛ كي يلقي على الجمهور خطبة عصماء، وإن جاء ذكر إيزيس لدى ذلك الأيرلندي الساخر رغم هذا مرة، وذلك في قول: FTATATEETA: We shall see whom Isis loves best: her servant Ftatateeta or a dog of a Roman.
على كل حال، هذا أنوبيس الكاهن في مسرحية شوقي يبتهل إلى إيزيس، امتثالًا لأمر كليوباترا، التي طلبت منه الدخول إلى الهيكل، والصلاة من أجلها:
(1/191)
________________________________________
إيزيس ذات الحجاب ... مالكة العالمين
شعبك لاقى العذاب ... من عبث الظالمين
يا من خفضنا الجباه ... لعزها ساجدين
صغنا إليك الصلاة ... من أدمع النادمين
كما نسمع في ختام مسرحية شوقي يقول:
أكثري أيها الذئاب عواء ... وادعي في البلاد عزًّا وقهرًا
أنشدي واهتفي وغني وضجي ... واسبحي في الدماء نابًا وظفرًا
لا وإيزيس ما تملكت إلا واديًا ... من ضياغم الغاب قفرًا
قسمًا ما فتحتم مصرا ... لكن قد فتحتم بها لرومة قبرا
وبالمثل يجري على لسان كليوباترا اسمها أول ما رأت الأفاعي، التي أطلع عليها ذلك الكاهن حين صارحته بأنها تعتزم الانتحار، وسألته عن أفضل وسيلة لذلك، قالت:
أفاع أبي نحها أخفها ... أعوذ بإيزيس من كل شر
فماذا تريد بإحرازهن ... وهل يقتنع عاقل بما يضر
وجوابًا على طلب كليوباترا منه أن يكون مستعدًّا بالأفاعي عندما تقرر الانتحار فعلًا، يقول:
يمينًا بإيزيس أحملهن إليك ... ولو في سنان الخضر
إذا بات في خطر تاج مصر ... سبقت إليك بهن الخطر
وحين تهم كليوباترا بتنفيذ الانتحار تجثو أمام تمثال إيزيس، وتأخذ في الابتهال إليه قائلة:
إيزيس ينبوع الحنان تعطفي ... وتلفتي بضراعتي وسؤالي
(1/192)
________________________________________
وفي مسرحية شكسبير نسمع كليوباترا تقسم بها قائلة: By Isis , I will give thee bloody teeth, If thou with Caesar paragon again. My man of men. ..، وتقول شيرمان في مسرحية شكسبير مبتهلة لإيزيس: O' let him marry a woman that cannot go, sweet Isis, I beseech thee! .... Good Isis, hear me this prayer, though thou deny me a matter of more weight; good Isis, I beseech thee!
وكان "بلوتارك" قد ذكر أثناء ترجمته لمارك أنطونيو في كتابه المذكور عن عظماء روما واليونان، ذكر إيزيس عدة مرات من بينها ما كتبه عن كليوباترا من أنها خلال تتويجها على يد أنطونيو ملكة على مصر وغيرها، كانت ترتدي ملابس الإلهة إيزيس، وثمة إشارة في الكتاب إلى وجود معبد لإيزيس في ذلك العصر، إلا أن معجم الآلهة والإلهات: Dictio nary of gods أو Jods words، في مادة أيزيس يحدد الفترة التي كانت تًعبد فيها بأرض مصر بعام 2700 قبل الميلاد تقريبًا، وربما قبل ذلك، أي: عام أربعمائة بعد الميلاد.
كذلك لاحظ النقاد أن كثيرًا من عبارات شكسبير في مسرحيته قد أخذها أخذًا مباشرًا من كتاب "بلوتارك" الذي اعتمد عليه في أحداث المسرحية ورسم شخصية كليوباترا، أما شوقي فاقتبس من القرآن المجيد، ومن الشعر العربي القديم جميعًا كقوله:
يا سماء احفظي ويا أرض صوني ... أظهرت عطفها على زينون
فالشطر الأول من البيت يذكرنا بقوة بقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (هود: 44)، الذي استلهمه شوقي مع بعض التحويرات في السياق والتركيب والألفاظ، وكقول أنطونيو:
جنود أكتافا أدركوني ... يا ليت مِت قبل هذا
(1/193)
________________________________________
فهو مأخوذ من قوله سبحانه على لسان العذراء مريم في السورة المسماة باسمها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (مريم: 23).
وكالبيت التالي:
لا ترى في المجال غير سبوح ... مقبل مدبر مكر مفر
الجاري على نمط بيت امرئ القيس الشهير في معلقته:
مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وكالبيت التالي أيضًا:
اليوم شرب وغدًا حرب ... ................................
وهو نفس عبارة الملك الضليل حين جاءه نعي أبيه وهو يشرب الخمر، فكان المتوقع أن يترك ما هو فيه ويهب لأخذ ثأر أبيه، إلا أنه استمر في الشرب قائلًا قولته المشهورة: اليوم خمر وغدًا أمر، فذهبت مثلًا.
وفي كتاب الدكتور جمال الدين الرمادي (مسرحية كليوباترا بين الأدب العربي والأدب الإنجليزي)، يلفي القارئ شواهدَ أخرى غير قليلة، ويبقَى ما قاله يسري عبد الغني من أن شوقي ينقل في مسرحيته عن شكسبير أحيانًا مشاهد كاملة، ولكن دون أن يورد على ما يقول شواهد تصدقه، فظل كلامُه مجرد دعوى تحتاج إلى دليل يعضدها.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(1/194)
________________________________________
الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي.
(1/195)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي)

ليلى والمجنون في الأدب العربي
فعلى بركة الله نقول: مجنون ليلى هو حسب المتعارف قيس بن الملوح أحد شعراء العصر الأموي، وأخباره متاحة بوفرة في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، وبدرجة من التفصيل أقل في كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة وغيره، وهي أخبار متناثرة كديدن أمثالها من أخبار القدماء، وقد اختلف الناس حول وجوده، فمنهم من يثبته ومنهم من ينكره، ومن المنكرين المتشددين في الإنكار الدكتور: طه حسين على عادته في التسرع إلى إنكار بعض الشخصيات، أو الفنون الأدبية دون ترو أو دليل، ففي الجزء الأول من كتابه (حديث الأربعاء) نراه ينكر وجود المجنون مؤكدًا أنه اختراع خيالي من صنع الرواة والإخباريين؛ بُغية تسلية الناس، زاعمًا أن الذين يضيقون بإنكار وجود قيس بن الملوح، إنما يريدون أن يضيفوا إلى المجد العربي مجدًا، ويجعلوا من أمة العرب أشرف الأمم، ومن لغاتهم أحسن اللغات وأدبهم أروع الآداب.
وهو يقصد بذلك أن العرب قليلو المجد، وأن آدابهم لا تبلغ في روعتها آداب غيرها من الأمم. وهذا كلام ينقصه النضج والحصافة والجد، إذ ما علاقة إثبات الدارسين لوجود المجنون أو إنكارهم لهذا الوجود، ما علاقته بتشييد دعائم مجد العرب أو هدمها؟ وهل إثبات وجود هذه الشخصية هو الذي سوف يدعم مجد العرب، بحيث إذا جاء منكر كطه حسين مثلًا أو غيره، فأثبت أنها لم يكن لها وجود حقيقي انهدم ذلك المجد؟ ألا إن الأدب العربي لأدب تافه حقًّا، وفاشل حقًّا إذا كان كل مجده ينحصر في ذلك الأمر.
(1/197)
________________________________________
إن معنى هذا أنه لا يوجد في الأب العربي شيء آخر سوى أشعار ابن الملوح، وهو ما يقول به إلا مجنون فقد عقله.
إن ذلك الأدب حتى في ميدان الغزل، والغزل العفيف وحده دون سواه، لغني بالنماذج الكثيرة، التي لا يعد شعر المجنون بالقياس إليها إلا قطرة على روعة ذلك الشعر المجنوني إن صح اللفظ.
ثم هب أن المجنون قد ثبت أنه من بنيات الخيال والأوهام، وأن شعره ليس له هو نفسه؛ لأنه ليس له وجود حقيقي، فهل يطعن هذا في شعر العرب؟ فمن نظم ذلك الشعر إذن، أليس من نظمه عربيًّا من العرب، ومن ثم فهذا الشعر ينتسب إلى العرب، إذن فلينقص من مجد العرب شيء، كل ما في الأمر أن ذلك الشعر سوف ينسب إلى شخص آخر غير المجنون، ولكنه في نهاية المطاف شخص عربي أم إن هناك احتمالًا آخر؟ ألا يرى القارئ والسامع مدى تفاهة ما كتبه طه حسين وضحالته؟ إن الرجل إنما يريد الإساءة إلى العرب بكل سبيل، ويطلب التمرد والعصيان طلبًا، يريد بذلك الخروج عما هو مقرر في العقول والنفوس، دون أن يقدم دليلًا يثبت به صحة ذلك العصيان، وهو يقيم إنكاره لشخصية المجنون على أن الرواة لم يتفقوا له على اسم ولا نسب ولا على أحداث حياته، لكن هل اتفق الناس فيما يخص كل شاعر من الشعراء القدماء، وبخاصة في الجاهلية وصدر الإسلام على مثل تلك الأشياء؟
إن الاختلاف في تلك الأشياء بالنسبة لهؤلاء الشعراء لكثير، وهذا معروف لدارسي تلك العصور فهم لا يستغربونه، بل يلقونه كثيرًا وطه حسين يلجأ إلى السفسطة حين يريد أن يقرر في النفوس أن القدماء كلهم كانوا يشكون في وجود قيس بن الملوح، ذلك أن الشاكين لم يكونوا يمثلون إلا جزءًا يسيرًا ليس إلا،
(1/198)
________________________________________
لكن طه حسين يخلط بين وجود المنكرين، وبين انتشار الشك بين جميع الدارسين وهذا غير ذاك، لكنها سفسطة طه حسين التي اشتهر بها، وهو يضيف إلى هذا قوله: إن أبا الفرج الأصفهاني كان لا بد أن يروي أخبار المجنون نزولًا على وضع كتابه (الأغاني) ذلك الكتاب الذي كان يتطلب ذكر المجنون وأمثاله تطلبًا، يقصد أنه كان للمجنون أغان تغنَّى في العصر العباسي، وأن طبيعة كتاب الأصفهاني هي تتبع مثل تلك الأغاني، والتحدث عنها وعن أصحابها، والترجمة لهم والاستشهاد بأشعارهم، فكان لا بد لأبي الفرج الأصفهاني ما دام هناك أغانٍ تنسب للمجنون من أن يريد تلك الأغاني، ويترجمها لصاحبها، ومع ذلك كله فإن أبا الفرج قد أعلن وبالغ في الإعلان أنه يخرج عن عهدة هذه الأخبار التي يوردها عن المجنون، ويتبرأ منها، ويضيف العهدة فيها إلى الرواة الذين ينقل عنهم.
فهل هذا هو موقف الأصفهاني لقد قال الرجل في بداية الصفحات التي خصصها للمجنون ما يلي: هو على ما يقوله من صحح وحديثه قيس وقيل: مهدي، والصحيح أنه قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعد بن كعب بن ربيعة إلى آخره، ومن الدليل على أن اسمه قيس قول ليلى صاحبته فيه:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع
وأخبر الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت مَن لا أحصي يقول: اسم المجنون قيس بن الملوح، وأخبرني هاشم محمد الخزاعي قال: حدثنا الرياشي وأخبره الجوهري عن عمر بن شبة أنهما سمعا الأصمعي يقول: وقد سئل عنه: لم يكن مجنونًا ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري.
(1/199)
________________________________________
إذن هناك في رأي الأصفهاني مَن يصحح نسب المجنون، بل إنه هو نفسه يرى أن الصحيح في أمره هو كذا وكذا، بما يدل على أن الأصفهاني لا يرى وهمية المجنون كما يزعم طه حسين، أما ما نقله طه حسين عن إعلان الأصفهاني لخروجه من عهدة الأخبار والأشعار التي تروى للمجنون وعنه، فهذا نص ما قاله الأصفهاني نفسه، وأنا أذكر مما وقع إليه من أخباره جملًا مستحسنة متبرئًا من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره، وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا قدمت هذه الشريط برئت من عين طاعن ومتتبع للعيوب، وأول كل شيء هو أن الأصفهاني قد قال ذلك بعدما أورد أخبارًا وأشعارًا كثيرة للمجنون، ولم يقله في مبتدأ كلامه عنه، أي: أن التحرز والتحفظ إنما يختص بما سوف يأتي من كلامه لا بما مضى، ثم إننا لو فلينا عن معنى هذا النص لاتضح لنا أن الأصفهاني إنما يشير إلى الاختلاف الحاصل في ذلك، وأنه غير مسئول عنه، وأنه لم يحاول تمحيصه وتفليته، وأن في بعض تلك الأخبار مبالغات واضحة غير مستساغة، وليس إلى أنه يشك في وجود الشاعر نفسه.
وشيء ثالث أنه لم يقل: إن الخلاف يعم كل ما يتعلق بالشاعر، بل لقسم منه فحسب ثم إن الاختلاف بشأن شخص من الأشخاص أو شيء من الأشياء لا يعني بالضرورة أنه باطل، بل أنه مختلف فيه وهذا كل ما هنالك، ولو كان العلم ومنهجه يقتضيان إنكار كل ما اختلف الناس حوله، إذن لقد بطل كل شيء في الدنيا؛ لأن الناس لم تتفق في أمور الحياة إلا على القليل، وحتى هذا القليل نراهم يختلفون في كثير من تفاصيله.
ولقد مازح المرحوم إبراهيم المازني الدكتور طه حسين ذات مرة في مقال له عن كتابه (في الشعر الجاهلي)، فشكك بنفس الطريقة في وجود طه حسين ذاته تبعًا
(1/200)
________________________________________
لاختلاف الناس بشأن تفصيلات حياته وشخصيته، وللأسف يكرر الدكتور محمد مندور كلام طه حسين عن موقف الأصفهاني من قصة المجنون، وإن كان قد سلب على الدكتور طه أولية التشكيك في هذه القصة قائلًا: إن أكبر مصدر لها وهو أبو الفرج الأصفهاني قد شكك فيها، وفي تفاصيلها، ورواها بكل حذر واحتياط، وذلك كله قبل طه حسين بزمن طويل.
ويبقى الأساس الفني الذي اعتمد عليه طه حسين في إنكار قيس بن الملوح، وهو أن الشعر المنسوب إليه لا يشير إلى شخصية واحدة، ولا إلى نفس واحد، والحق أن هذا دليل منهار، فإن ذلك الشاعر لا يعبق إلى حد بعيد بالأنفاس ذاتها فنًّا ومضمونًا واستيلاءً على القلب، ولست أدري كيف وقع طه حسين في تلك الغلطة المضحكة، اللهم إلا إذا استحضرنا ما كان يسيطر عليه في كثير من كتاباته ومواقفه من عناد ورغبة في الشذوذ مهما يكن من تهافت الاعتبارات، التي يقدمها بين ذلك العناد والشذوذ.
ونص ما قاله هو: هل نستطيع أن نجد للمجنون شخصية ظاهرة بينة في هذه الأشعار الكثيرة المختلفة التي يرويها له أبو الفرج وغيره من الرواة؟ أما أنا فأزعم أن ليس إلى ذلك من سبيل لا أطيل في إثبات هذا الرأي، وإنما ألخص لك ما انتهيت إليه بعد البحث.
أما ذلك البحث الذي أدى بطه حسين إلى ذلك الإنكار، فها هو ذا نسوقه إلى القارئ كما سجله طه حسين قال: كل هذا الشعر الذي يُضاف إلى المجنون لا يخلو من أن يكون شعرًا قد قاله شعر معروف، وأخطأ الرواة فأضافوه إلى المجنون، أو قاله شاعر مجهول ووجد الرواة فيه ليلى فأضافوه إلى المجنون، أو انتحله الرواة أنفسهم أو انتحله المغنون وأصحاب الموسيقى وأضافوه إلى المجنون، ولقد
(1/201)
________________________________________
أجهدت نفسي في البحث عن شخصية ظاهرة مشتركة تظهر في هذا الشعر كله أو بعضه، فلم أوفق من ذلك إلى شيء.
وواضح من هذا النص أن كاتبه وهو الدكتور طه حسين يدور في حلقة مفرغة، إذ يتخذ من نفسه شاهدًا على نفسه دون أن يقدم دليلًا واحدًا على ما يقول، وإلا لقد كان عليه إيراد الأشعار التي يرى أنها لا تعكس شخصية واحدة في الفن أو في المحتوى، ثم يبين لنا دلالتها على ما يريد التدليل عليه، أما أن يكتفي بالزعم الذي لا يثبته شيء سوى زعم له آخر بأنه قد تعب في البحث، فلم يصل إلى شيء، فهذا ليس من البحث العلمي في قليل أو كثير.
وشيء آخر في هذا الكلام هو أن طه حسين لا يستطيع للأسف التفرقة بين النحل والانتحال، فنراه يقول: إن الرواة والمغنين انتحلوا كذا وكذا من الأشعار على حين أن المقصود هو أنهم قد نحلو المجنون تلك الأشعار لا أنهم انتحلوها، إذ الانتحال هو استيلاء الشخص على شعر الغير ونسبته إلى نفسه لا نسبته إلى شخص ثالث، كما يتوهم الدكتور طه، وقد وقع بعد ذلك مرارًا في هذه الغلطة، حين ألف كتابه (في الشعر الجاهلي) بعد عشر سنوات تقريبًا من مقالاته، التي نشرها في الصحف، ثم جمعها في (حديث الأربعاء) ومنها مقاله عن مجنون ليلى، ومعنى هذا أنه قد استمر على الأقل نحو عقد من الزمان يكرر ذات الخطأ الفادح دون أن يتنبه.
نخرج من هذا بأن المجنون ليس شخصية وهمية، ولكن من الممكن أن يكون شعره قد اختلطت به أشعار الآخرين، وأن تكون أخباره قد دخلتها المبالغات على ما يحدث في مثل تلك الحالة، وهذا ما يراه أيضًا الدكتور محمد غنيمي هلال الذي يؤكد أنه لا يجد فيما قاله عنه المشككون من الرواة دليلًا يقطع بعدم وجوده، وإن
(1/202)
________________________________________
كانت بعض أخباره يظهر فيها التمحل والاختراع أو المبالغة والإسراف، إذ متى كانت المبالغة في الأخبار دليلًا على عدم وجود صاحبها، ومعروف أن كل من نبغ في أمر أو شذ فيه يحاط كما يقول الدكتور هلال بهالة من الأساطير في حياته أو بعد مماته، وبخاصة أن أخبار المجنون قد وصلت إلينا عن طريق الرواية، والروايات تصيب وتخطئ، ولا ينبغي أن نتخذ الخطأ في بعضها ذريعة لإنكارها كلها، وإلا لتعرضت أكثر شخصيات عظماء التاريخ للشك والارتياب، وما قاله الدكتور هلال صحيح تمام الصحة. أما أن نعتمد في إنكار وجود مثلًا على ما ورد في بعض أخباره في كتاب (الأغاني) من أن أحدهم قد مر ببطون بني عامر بطنًا بطنًا يسألهم عن المجنون، فلم يجد أحدًا يعرف عن أمره شيئًا، فهو كلام مضحك.
إذ مَن ذا الذي لديه مثل ذلك الفراغ الطويل والصبر العجيب حتى لا يطوف ببطون بني عامر كلها سائلًا في كل بطن عن الشاعر، وكأنه يؤدي مهمة مقدسة، وهل كان الناس ليتركوا مثل ذلك الملحف في السؤال والبحث، فلا يجعلوه هدفًا لعبثهم وتهكمهم إن لم يكن لشتمهم واتهامهم إياه في عقله؟ بل كيف سكت بنو عامر فلم يصلنا عن أحد منهم أن رجلًا أتاهم ذات يوم، فجعل يطوف بهم بطنًا بطنًا يسألهم عن مدى صحة الوجود التاريخي للمجنون، فأجمعوا كلهم على بكرة أبيهم أنه ليس له وجود، وبالمناسبة فهناك من الباحثين من يصف قيس بن الملوح وغيره من الشخصيات، التي تتضمنها أخباره بأنها شخصيات شبه تاريخية، وصاحب هذا الكلام هو كاتب المادة الموجودة في "الموسوعة الإيرانية إنسيكلوبيديا إيرانيكا" باسم: "ليلى أو مجنون"، ومعنى ذلك أنه لا ينكر وجود المجنون وأصحابه على سبيل القطع
(1/203)
________________________________________
مثلما لا يثبته على سبيل القطع أيضًا، بل يضعها كما يقول المعتزلة في حق مرتكب الكبيرة: في منزلة بين المنزلتين.
لكن يلاحَظ أنه لم يحاول أن يسوق الحيثيات التي دفعته إلى إصدار هذا الحكم، ومن (سير أعلام النبلاء) للحافظ الذهبي نقرأ في ترجمة قيس بن الملوح ما نصه: المجنون قيس بن الملوح وقيل: ابن معاذ، وقيل: اسمه بحتري بن الجعد، وقيل: غير ذلك من بني عامر بن صعصعة، وقيل: من بني كعب بن سعد، الذي قتله الحب في ليلى بنت مهدي العامرية، سمعنا أخباره من تأليف ابن المرزبان، وقد أنكر بعضهم ليلى والمجنون، وهذا دفع بالصدر، فما مَن لم يعلم حجة على من عنده علم، ولا المثبت كالنافي، ولكن إذا كان المثبت لشيء شبه خرافة، والنافي ليس غرضه دفع الحق، فهنا النافي مقدم، وهو كلام علمي إلى مدى بعيد، ولكن أخبار المجنون ليست من الخرافات في شيء، اللهم إلا بعض المبالغات كما شرحت آنفًا، أما شعره فيقول الذهبي في الحكم عليه: وشعره كثير من أرق شيء وأعذبه، وهو ما يدل على أن ذلك الشعر ذو ماء واحد، وينفح بعبق واحد كما قلنا، ومعروف أن قيس بن الملوح ينتمي إلى العصر الأموي، طبقًا لأخباره وأسماء الولاة والشخصيات التاريخية الشهيرة التي يرد ذكرهم فيها.
ويقول الحافظ الذهبي: إنه كان في دولة يزيد وابن الزبير، ومن ثَم فحكايته حتى لو صدقنا أنها حكاية خرافية لا يمكن أن تنتمي إلى ما قبل تلك الفترة، فضلًا عن أن تسبق الإسلام، كما يدعي إبراهيم العريس في مقال له بجريدة الحياة اللبنانية بتاريخ الرابع عشر من شهر ديسمبر سنة 2009 عنوانه: ألف وجه لألف عام مجنون ليلى على الطريقة الفارسية، صورة حضارات مشتركة، إذ يقول: إن
(1/204)
________________________________________
حكاية ليلى والمجنون في الأصل حكاية عربية، تنتمي من دون ريب إلى عصور ما قبل الإسلام، حتى وإن كان ثمة تخمينات وفرضيات تقول: إنه أعيد الاشتغال عليها شعريًّا ورواية حتى من بعد ظهور الإسلام، وهذه نظرية يدعمها طه حسين في كتابه الشهير، والمثير الجدل (في الشعر الجاهلي).
انتهى كلامه.
ولقد بحثت في كتاب طه حسين المذكور، فلم أجده قال هذا الكلام، وكل ما عثرت عليه هو قوله: للعرب خيالهم الشعري، وهذا الخيال قد جد وعمل وأثمر، وكانت نتيجة رده وعمله وإثماره هذه الأقاصيص والأساطير، التي تروى لا على العصر الجاهلي وحده، بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضًا، وقد رأيت في فصولنا التي سميناها (حديث الأربعاء) أَنَّا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية، التي تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي، يجب حقًّا أن نلغي عقولنا كما يقول بعض الزعماء السياسيين؛ لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح؛ لأنه ورد في كتاب (الأغاني) أو في كتاب الطبري، أو في كتاب المبرد أو في سفر من أسفار الجاحظ، ولا وسيلة بينه وبين زعمه إبراهيم العريس، كما هو ظاهر جلي.
والعجيب في قصة ليلى والمجنون، أنها رغم تشكيك بعض الباحثين في تاريخيتها قد حظيت باهتمام بالغ في الآداب والفنون غير العربية، ربما لم تحظ بها أية قصة عربية سواها.
فنقرأ مثلًا في مقال إبراهيم العريس السابق الذكر ما يلي: الحكاية بالتأكيد عربية إذن، ولكن من الواضح في الوقت نفسه أن شعوبًا أخرى وكتابًا آخرين من غير العرب قد اشتغلوا عليها وطوروها وحولوها إلى أجزاء من تراثهم الأدبي والعاطفي،
(1/205)
________________________________________
وربما أكثر من هذا أيضًا طوال القرون التي تلت ظهورها في المحيط العربي، صحيح أن حكاية مجنون ليلى أو ليلى والمجنون أعيد إليها الاعتبار عربيًّا في القرن العشرين، فحولت مثلًا إلى مغناة رائعة لحنها وغناها محمد عبد الوهاب وأسمهان في صيغة اشتغل عليها أحمد شوقي، مازجًا أشعارًا حديثة بالأشعار القديمة المنسوبة إلى قيس بن الملوح المعروف بالمجنون، كما حولت إلى مسرحيات وأفلام سينمائية، كان منها فيلم تونسي "الطيب الوحيشي"، إضافة إلى استلهامها في أعمال أدبية حديثة عدة، ولكن في المقابل ظل الإهمال من نصيب هذا العمل القديم المتميز في العالم المعرفي في وقت كان العالم كله يستلهمه أو يؤممه، أو يصيغ على منواله أعمالًا لا تقترب منه، أو تدنو بحسب الظروف وبحسب الثقافات، ومن هنا مثلًا نجد مخرجًا أرمينيًّا جورجيًّا مثل "بارجانوف" يحقق أكثر من فيلم تلوح من خلاله الحكاية نفسها عاشق غريب مثلًا.

ليلى والمجنون في الأدب الفارسي
بل إننا لو تبحرنا في آداب شعوب عدة لن يفوتنا أن نرى الحكاية نفسها تتكرر لاسيما في مناطق وسط آسيا، التي نعرف أنها تأثرت كثير بالحضارة العربية، وأثرت فيها ثم يمضي العريس قائلًا: وفي هذا السياق تحديدًا يكون لافتًا أن نذكر أن الثقافة الفارسية بالتحديد، وعلى بعض كبار شعرائها وكتابها كانت من أكثر ثقافات العالم اهتمامًا بهذه الحكاية شعرًا ورواية ورسمًا؛ حتى إلى درجة يمكن معها القول: إن فارس كانت هي لا الثقافة العربية المكان الذي حفظ الحكاية على مر العصور، ومن دون إنكار لأصولها العربية على أية حال.
وإذ نذكر فارس وثقافتها في هذا المجال يصبح لا بد لنا من أن نتوقف عند اثنين من كبار الشعراء الفرس، اهتمامًا بحكاية ليلى والمجنون، وهما نظامي وجامي،
(1/206)
________________________________________
الأول: خلال القرن الثاني عشر والثاني: خلال القرن الخامس عشر، كما يصبح لا بد لنا من التوقف عند عدد من كبار رسامي المنمنات الفارسية من الذين أنفقوا وجهدًا كبيرًا؛ لتحقيق رسوم رائعة تصور بعض فصول الحكاية.
ومن أبررزهم أغا ميرك، ومير سيد علي، وميرزا علي، والشيخ محمد، وإن بقيت رسوم أغا ميرك الأجمل، إذ ارتبطت بالصيغة التي كتبها نظامي للحكاية.
وإضافة إلى ما تقدم يفصل الكاتب الأمر قائلًا: إن الباحثين يذكرون أن نظامي وجامي اشتغلا على الحكاية نفسها من ناحية الأحداث، ولكن ثمة فارقًا كبيرًا بين عمل الأول وعمل الثاني، ذلك أن نظامي المتوفى في سنة ألف ومائتين واثنتين أعاد صوغ الحكاية كما هي، أي: أنه ركز على أحداثها الظاهرة وبُعدها العاطفي، واقفًا مع حق الإنسان في الحب مدينًا للأهل الذين سعوا بكل جهدهم؛ كي يحولوا دون تحقيق اللقاء بين ******ين.
أما جامي فإنه استخدم الحكاية في صورة رمزية خالصة؛ كي يتحدث من خلالها عن الحب الإلهي بصيغة صوفية، حيث إن العاشقين يمثلان هنا بالنسبة إليه ذلك الحب السامي الذي تتفانى من خلاله الروح لكي تذوب في الذات العليا، والحال أن هذين البعدين المختلفين الذين أسبغا على الحكاية نفسها في الثقافة الفارسية، إنما يعبران خير تعبير عن المزاج العام الذي كان يعتمل في فارس كل حقبة من الحقبتين اللتين عاش في أولاهما نظامي فيما عاش جامي في ثانيتهما، ففي عصر نظامي كان شيء من الفكر المادي الدنيوي يسيطر أيام ازدهار الأوضاع الاقتصادية، وبدء ظهور النزعات الإنسانية، وصولًا إلى انتشار الدعوات الواقعية، التي تتعاطى مع شئون الحياة الدنيا،
(1/207)
________________________________________
أما في عصر جامي، فكان ثمة نقوص في اتجاه الغيبيات والصوفية، كرد على ما انتاب الأمة من تفكك وعلى ذلك الغرض السابق في الشهوات والدنيويات.
وإذا كان العملان قد لاقيا رواجًا واستحسانًا لدى أجيال متعاقبة من القراء في بلاد الشرق، فإن ما يجب لفت النظر إليه هنا هو أن التعامل العام معهما كان واحدًا، حيث إن البعد الصوفي السماوي لقصيدة جامعي ظل بعيدًا من تفسير القراء العاديين، ومن هنا تم التعامل معها دائمًا من منطلق شعبي كتطوير لغوي لا أكثر لقصيدة نظامي، ذلك أن لغة الشعر كانت تطورت حقًّا خلال المائتي عام التي تفصل بين زمن الأول وزمن الثاني، ومع ذلك لن يغيب عن بالنا هنا أن القصيدة التي كتبها نظامي حظيت دائمًا بالشهرة الأكبر، وبقبول أعم لدى القراء الفرس.
ونظامي اكتفى كما أشرنا بصوغ الحكاية كما هي في التراث العربي القديم، الشاعر الجاهلي قيس بن الملوح الذي سيلقب لاحقًا بالمجنون يعيش حبًّا رائعًا مع حبيبته البدوية مثله ليلى، وهو هنا عند نظامي ابن ملك من ملوك الجزيرة العربية، لكن انتماءه الملكي لم يسهل عليها الحصول على يدها ذلك أن أهل ليلى كانوا يعيشون عداوة حادة مع أهل قيس؛ لذلك يرفضون تزويجه ابنتهم، فيجن قيس ويشعر بإحباط وألم شديدين يدفعانه إلى محاولة اختطاف ليلى بالقوة، غير أن محاولته تفشل فلا يكون كما حال الشنفرَى وغيره من الشعراء الصعاليك، إلا أن يتوجه إلى الصحراء؛ ليعيش فيها وحيدًا مع حيواناتها الضارية، التي ستكون أكثر حنوًا عليه من البشر، ومع مناخاتها المتقلبة التي سيمكنه احتمالها أكثر من احتماله غلاظة البشر.
في تلك الأثناء تكون ليلى تزوجت من شخص آخر، غير أنها أبدًا لم تنس حبها لقيس، بل إنه صار يحدث لها بين الحين والآخر أن تهرب سرًّا إلى الصحراء،
(1/208)
________________________________________
حيث توافي حبيبها في وحدته ووحشته، ولاحقًا حين يموت زوجها توافيه الصحراء؛ لتتحد حياته بحياتها نهائيًّا، ويتزوجان هناك، لكن ليلى سرعان ما تموت فلا يكون منه إلا أن يلحق بها إلى القبر، حيث يوحد الموت والشجر بينهما، كما ستكون حال روميو وجولييت بعد ذلك بقرون عدة.
قصيدة نظامي هذه تعتبر إذن من عيون الأدب الفارسي، ولكن في الوقت نفسه لا تقل عنها أهمية تلك الرسوم الرائعة التي أعطت فنًّا المنمنمات الفارسية ألقى هو جماله عبر العصور، ولا تزال محفوظة حتى يومنا هذا، كدليل حي على ارتباط فن الرسم بالفنون الأدبية في الحضارة الإسلامية ليس بالضرورة العربية التي لطالما اعترض بعض مفكريها المعاصرين على أن تشمل إبداعاتها رسم الأشخاص، ومع هذا لم تخل بدورها من رسوم عرفت طريقها إلى العيون والعقول، وحفظت عبر التاريخ حتى من دون أن تصل إلى روعة إبداعات الرسوم المنمنمات الفارسية والمغولية، التي لا شك في أن العدد الأكبر منها يمكن اعتباره دائمًا تحفًا فنية، تضاهي أروع ما أنتجته الإنسانية من لوحات غرامية رومانتيكية.
انتهى كلام الكاتب.
لكن لي تعليقًا سريعًا على وصفه للمجنون بأنه شاعر جاهلي، وهو وصف غير صحيح، إذ المجنون إنما ينتمي كما رأينا إلى عصر الأموي لا الجاهلي، ولا حتى إلى عصر صدر الإسلام، وفي مكان خاص بالشاعر الفارسي نظامي تلقي "الموسوعة المشباكية الحرة الويكيبيديا" بعض الضوء على حياة ذلك الشاعر وإبداعاته، فتذكر أنه ولد عام 570 للهجرة في الكنجة بإيران القديمة وتقع حاليًا في أذربيجان وأمه كردية، وقد عاش شاعرنا خلال فترة حكم السلاجفة، وتزوج ثلاث مرات وأنجب ولدًا واحدًا اسمه محمد، ثم توفي عام ستمائة وأربعة عشر للهجرة، ويعترف النقاد والشعراء وكتاب التراجم
(1/209)
________________________________________
من الفرس وغيرهم على السواء بمكانة نظامي الشعرية، ومن بينهم عوفي وحمد الله المستوفي، ودولة شاه سمرقندي، ولطفي علي بك، وسعدي، وحافظ، وجامي، وعصمت البخاري، ومن أشهر مؤلفاته: (بنج غنج) ومعناها الكنوز الخمسة و (مخزن الأسرار) و (خسرو وشرين) و (هفتبيكر) أي: العروش السبعة و (إسكندر نامه)، ومعناه كتاب الإسكندر المقدوني، و (ديوان فان) للنظامي، وكذلك (ليلى والمجنون).
وهذه القصة لا تحدث وقائعها في إيران بل تقع في بلاد العرب، وهي لا تمثل شخصية ملكية، بل تمثل شخصين عاديين من عرب الصحراء البطل وحبيبته، لكن نظامي استطاع أن يصبغها بالصبغة الفارسية، وقد اختار لها وزن الهزج المسدس الأحدب المقبوض المحذوف، وتشتمل على أكثر من أربعة آلاف بيت.
وفي موقع Iran Saga History Iran Saga History , art and culture نجد مقالًا عنوانه: the lenged of lila and magnon، جاء فيه: أن هذه القصة العاطفية الرومانسية يمكن أن تعود في صورتها الأصلية إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، وأن مضمون القصة حسبما أمكن استخلاصه من النسخ المختلفة هو مضمون بسيط نسبيًّا، وإن كان هناك منذ البداية نسختان مختلفتان، فأما في الأولى فلدينا شاب وفتاة كانا يقضيان وقتهما معًا يرعيان الغنم، وأما في الأخرى فنرى المجنون واسمه في الحقيقة قيس كما تقول الروايات، يقابل ليلى مصادفةً في جمع من الفتيات مقابلةً كان لها تأثير مدمر عليه، ويسارع إلى نحر ناقته لإطعامهن، وتقع ليلى في غرامه من أول نظرة، ويتقدم لطلب يدها من أبيها إلا أنها كانت مخطوبة من قبل، مما فقد معه قيس عقله فانطلق هائمًا على وجهه شبه عار يعيش بين الحيوانات البرية، رافضًا ما يقدم له من طعام، وعبثًا
(1/210)
________________________________________
يحاول أبوه أن ينسيه ليلى، إذ أخذه معه إلى الحج إلا أن جنونه لا ينقص بل يزيد.
ومع هذا كانت تمر به لحظات من الصفاء ينظم فيها أشعاره العاطفية، ثم يموت وحيدًا ولكن بعدما يقابل ليلى مرة أخرى، ثم يمضي كاتب المادة قائلًا: إن من الصعب معرفة أصل تلك القصة، إذ يظن أنه من الممكن إرجاعها إلى حكاية شاب من قبيلة بني أمية يلقب بالمجنون، نظم بعض الأشعار التي يتغنى فيها بحبه لابنة عمه، إلا أن القصة بهذا الشكل تبدو منفصلة عن سياقها، كما أن الشاعر يظل مجهولًا، ومع هذا فكون القصة تشتمل على اسم نوفل بن مساحق هذه الكلمة المدينة يوحي بأن القصة الأخيرة قد ظهرت على صفحة الوجوه في تلك الفترة تقريبًا، أما ناظم تلك الأشعار أو بالأحرى ناظموها، وكذلك مؤلفو الأخبار المتعلقة بها، فسوف يظلون دائمًا مجهولين، وهو ما يزيد من غموض القصة وحيرة الباحثين فيها.
هذا ما قاله الكاتب.
ومن الواضح أنه قد وقع في بعض الأخطاء التاريخية الساذجة، إذ جعل قيسًا من قبيلة أمية، على حين أن ارتباطه بالأمويين يقتصر على أنه كان يعيش في عصرهم ليس إلا، أما هو وحبيبته فكانا من بني عامر، ثم هناك شيء آخر وهو أن الكاتب يعود بالقصة إلى ما قبل ذلك قائلًا: إن الحلقة الخاصة بقيس هي آخر الحلقات، وهو ما لم يسق أي دليل عليه.
ثم يتتبع كاتب المقال رحلة القصة خارج الأدب العربي قائلًا: إن أشعار المجنون وأخباره قد انتقلت إلى الأدب الفارسي، وأصبحت جزءًا منه، حيث استعملت تلك الأشعار والأخبار على أنحاء مختلفة، بل إن بعض الأعمال النثرية الفارسية تحتوي على أشعار لقيس، وفي عام ألف ومائة وثمانية وثمانين يقوم نظامي الكنجوي بنظم قصة ليلى والمجنون في آلاف الأبيات، ويصرح الشاعر الفارسي
(1/211)
________________________________________
في مقدمة القصيدة بأنه كان في البداية مترددًا في القيام بهذا العمل، إذ كان يشك في أن تكون تلك القصة التي مِحورها الجنون والهيام على الوجه في البرية صالحة للبلاط الملكي، والمقصود أن حاكم أذربيجان كلفه بنظمها فخشي ألا تسعفه القصة الأصلية في القيام بالمراد، ولا ينجح في مهمته، وإن كان المقال نفسه لا يشير إلى ذلك، بل ذكره مقال " lila and magnon " في "إنسيكلوبيديا إيرانيكا"، إذ جاء فيه: " أن نظامي كومبوز هز رومانس آز ريكوست أوف زا رولار أوف أذربيجان ".
كما يوضح الكاتب الأول ما قام به نظامي من جهد؛ كي يجعل من أخبار المجنون المتناثرة بناءً متماسكًا لقصة عاطفية فارسية، تختلف بعض الشيء عن القصة الأصلية، إذ تتحول البيئة البدوية إلى أخرى حضارية تلائم الشاعر وجمهوره، فمثلًا نرى ******ين يتعارفان في مكتب -أي: كتاب- كما أن نوفلًا المذكور يظهر في قصيدة نظامي وكأنه أمير فارسي لا وال عربي، فضلًا عن أنه لا يقتصر على التدخل السلمي لإتمام الخطبة المرفوضة من قبل والد الفتاة، بل يعلن الحرب على قبيلتها كلها معلنًا أنه لا بد من زواج ******ين، ورغم هزيمة القبيلة يصر والد ليلى على الرفض قائلًا: إنه يؤثر أن يقتلها على أن يزوجها للشاب الذي فضحها في العالمين.
وهنا يتبين للأمير أنه لا يمكن عمل أي شيء آخر، فيكف عن محاولاته وتنتهي القصة عند نظامي بأن تموت ليلى كَمَدًا على حرمانها من حبيب القلب، كذلك تتميز قصيدة نظامي بما تحويه من مناظر طبيعية توائم المواقف العاطفية المختلفة، ففي الربيع نرى ليلى في عز شبابها جالسةً تحت ظلال النخيل، على حين يتمهل الشاعر في وصف سواد الليل، عند حديثه عما حاق بالمجنون من يأس وهكذا.
كذلك فإن قصة نظامي ليست قصة فقط بل تضيف إلى الحكاية غاية تعليمية، ففيها كلام عن الزهد وتفاهة الدنيا والموت والحب والتصوف، وينهي الكاتب مقاله بالإشارة
(1/212)
________________________________________
إلى أن ما صنعه نظامي إنما يمثل الحلقة الأولى في سلسلة طويلة من الأعمال التي تقلدها لا في الفارسية فحسب، بل في لغات المنطقة كلها، وإن كانت الأعمال ذات القيمة منها قليلة، ومن هذه الأعمال (ليلى والمجنون) للأمير خسرو دهلوي، عام ألف ومائتين وتسعة وتسعين، وقصيدة الجامي سنة ألف وأربعمائة وأربع وثمانين، إلى جانب قصيدتي "هاتفي" و"مكتبي"، ويضيف كاتب مادة " lila and magnon " في "إنسيكلوبيديا إيرانيكا" أن شخصيات القصة الفارسية التي أبدع نظامي كلها شخصيات أرستقراطية مَثَلها في ذلك مثل شخصيات أمثالها من القصص العاطفية في الأدب الفارسي، بالإضافة إلى بعض العناصر الفارسية الأخرى، كالملك الذي كان يرغب في أن يكون له وريث، وكشعر الطبيعة الذي يتغنى بالشروق والغروب والبساتين، وكالزاهد الذي كان يعيش في كهف، وكملك مَرْو وكِلابة وكابتهالات المجنون إلى الله والأجرام السماوية، وأحاديثه التعليمية ما عد من شخصيات القصة إلى آخره.
كذلك يذكر كاتب المقال أن المجنون لدى نظامي مثلما هو من أصل عربي شاعر عذري بارع، بل لقد نظم على لسانه الأشعار الغزلية، وإن كان قد وشى تلك الأشعار بلمسة صوفية واضحة، فلم يعد الحب عند قيس حبًّا أرضيًّا صافيًا، بل حبًّا روحيًّا أرضيًّا معًا، مع ميل كِفة الميزان ناحية الضرب الأول، وبالمثل يشير الكاتب إلى التأثير الذي أضافته قصة نظامي إلى حكايات المجنون، إذ اندفع عدد من الشعراء الفرس والكرد والترك والباشتو إلى تقليد نظامي في نظم القصائد، التي تروي حكايته هو وليلى حتى وسط القصائد الفارسية وحدها، التي تنسج على منوال قصيدة نظامي نحو ستين، وكلها على نفس البحر الذي نظم عليه نظامي قصيدته إلى جانب تأثرها بها في عدد من العناصر الأخرى، كالحديث عن حلية الخمر في دين الحب، ومما تناوله الكاتب أيضًا ترجمة قصيدة نظامي إلى عدد غير قليل من اللغات الأخرى.
(1/213)
________________________________________
هذا، وقد رأينا أن أثر قصة ليلى والمجنون لا يختص على الأدب الفارسي وهو ما يزيده إيضاحًا ما كتبه خالد محمد أبو الحسن في دراسة له على المشباك -أي: الإنترنت- بعنوان: "التناص السردي في ليلى والمجنون لفضول البغدادي"، وميموزين لأحمدي خان يقول فيها: لا شك أن قصة ليلى والمجنون نالت اهتمامًا بالغًا من شعراء الإسلام على اختلاف لغاتهم، ولئن كان تناول موضوعها قد اختلف من شاعر إلى آخر، فإن ذلك يجعل موضوعها أكثر إثارة، والجدير بالذكر أن هذا الموضوع لاقى اهتمامًا كبيرًا أيضًا من الكتاب والباحثين، وتنبع أهميته من كونه موضوعًا يربط بين جُل الآداب الإسلامية، ولعل القواسم المشتركة بين الآداب الإسلامية التي انبثقت من التمازج المشترك بين هذه الشعوب منذ العصور التاريخية القديمة، ثم ازدادت إحكامًا وارتقاء حضارية بعد الإسلام، لعلها أوجدت لنا أرضًا خصبةً من الحوار الأدبي المتضامن لإثارة قضية صوفية كبرى هي قضية العشق الإلهي.
وتعتبر قصة عشق قيس بن الملوح مجنون بني عامر لليلى العامرية التي بدأت عند العرب في شكل الحب العذري، أعظم قصص الحب في الآداب الإسلامية، وإن اختلف مضمونها من أدب لآخر، وإذا كانت قصة المجنون عند العرب تجسد أخبارًا مثيرة تناقلها الناس، فإنها لقيت لدى أدباء إيران على سبيل المثال رواجًا لا نظيرَ له، ثم اتخذت شكل العمل الأدبي المتكامل بعد أن كانت مجرد أخبار متفرقة تعبر عن الحرمان والعذاب والمعاناة والعشق، ومن ثم كان الحب العذري منطلقًا إلى الحب الصوفي في الأدب الفارسي، وهذا ما ظهر في صنيع نظامي، هكذا أدى العشق العذري والحرمان فيه إلى إثارة خيال المتصوفة، وأوقد ذاكرته فأبدعت أفكارًا شتى دخلت العرفان الصوفي الفارسي من الباب الواسع، ومن ثم أخذت تتنقل إلى الأدب العربي، فنتج عنها قواسم مشتركة فنًّا وفكرًا.
(1/214)
________________________________________
ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى
ثم يمضي موضحًا أن الأمر لم يقتصر على الأدب الفارسي، بل تجاوزه إلى سواه من الآداب الإسلامية الأخرى، فيقول:
أما الآداب الإسلامية الأخرى: الأدب التركي الإسلامي على سبيل المثال، فقد حاولت في بداية الأمر أن تقلد الفرس في نظم كبار شعرائهم لهذه القصة، إلا أن هذا التقليد لم يحجب روح الإبداع عن هؤلاء، فلقد حاول بعض الأتراك أن يجدد في القصة من حيث الشكل والمضمون، كما أن ما نظموه في ليلى والمجنون لا يعد قليلًا، أضف إلى ذلك أنه كان يتسم بالمقدرة على نسج تلك القصة، وتصويرها في شكل أدبي متقن، ولكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن هو: هل وقفت قصة ليلى والمجنون عند حدود المبدعين من العرب والفرس والترك؟ لعل الإجابة على هذا السؤال تنطلق من عمق الثقافة الإسلامية واتساع آدابها، وأعتقد أنه إذا ما خرجنا عن دائرة الآداب الإسلامية الثلاث العربية والفارسية والتركية، فسوف نتعرض لآداب إسلامية أخرى تزيد من الثقافة الإسلامية عمقًا، وتعطينا القدرة على فهم المجتمعات الإسلامية المتعددة.
ولعل الأدب الكردي الإسلامي من الآداب الإسلامية الكثيرة لا بد أنه يكتنه بداخله قصة ليلى والمجنون وغيرها من القصص المنسية؛ نظرًا للظروف السياسية، أو لربما لعدم معرفة بعض الدارسين لمثل هذه الثقافات المهمة، التي ما يلبث أن يتركها الباحثون المسلمون؛ حتى ينقض عليها باحثو الغرب؛ ليظهروا لأصحاب هذه الثقافات والآداب المنسية تناسي ذويهم من المسلمين لهم، أو ربما يظهرون لهم احتقار ذويهم لهم ولثقافاتهم، وقد ذكر الباحث في أحد هوامش بعض الأسماء الإسلامية، التي اهتمت بتلك الحكاية فقال: من الذين نظموا ليلى والمجنون من الفرس والترك نظام الكنجوي، وخسرو الدهلوي وعلي شيرنوائي وأحمدي، وغيرهم من كبار شعراء الفرس والترك.
(1/215)
________________________________________
وبالنسبة إلى الدوافع التي حدت به إلى وضع هذه الدراسة يقول: من هذا المنطلق كان اختياري لهذا الموضوع لأظهر أمام الباحثين طريقًا نسيه بعض الباحثين أو تناسوه، وهو طريق البحث في الأدب الكردي الإسلامي، ومن خلال قصة كبرى يعرفها جل الباحثين، فقد آثرت أن أبين مدى التقارب الشديد بين الترك والكرد على الرغم من وجود فجوات كثيرة بينهم، وذلك على الصعيد السياسي ثم يبين المنهج الذي سيتبعه في هذه الدراسة قائلًا: وقد آثرت كذلك أن أجعل هذه الدراسة بين أميرين كبيرين هما: أمير الشعر التركي فضول البغدادي في منظومته "ليلى والمجنون"، وأمير الشعر الكردي أحمدي خاني في منظومته "ميم وزيم"، إلا أنني فضلت تناول الموضوع من وجهة نظر نقدية حدثية، فعمدت إلى اختيار نظرية التناص السردي كأسلوب جديد لنقد العمل الأدبي؛ ولأن تطبيق هذه النظرية على ذلك العمل يمنح الدراسة نوعًا من الجدة والتنوع؛ لأن موضوع ليلى والمجنون درس كثيرًا من قبل الباحثين، وأحسب أنه إذا ما تم التعارض له فأجدر بنا أن نجدد في دراسته.
وهكذا يتبين لنا من خلال هذه العجالة الانتشار الواسع لقصة المجنون في الآداب الإسلامية، والصور والمعاني الغنية المختلفة التي اكتسبتها في تلك الآداب، وكذلك المناهج النقدية التي تمت دراستها من خلالها، وإن الإنسان ليستغرب من تلك المفارقة العجيبة التي تحيط بهذه الحكاية، إذ بينما يشكك في حقيقتها التاريخية نفر من الباحثين نراها وقد تمردت على هذا الإنكار والتشكيك، وانطلقت بكل عنفوان تكتسح الحدود بين الآداب الإسلامية وغير الإسلامية أيضًا، غير مبالية بشيء مما يجعلنا نتساءل: وماذا لو لم تكن تلك الحكاية محل تشكيك وإنكار؟ أتراها كانت تكون أقوى اكتساحًا، وأوسع انتشارًا واندياحًا، أم تراها لم تكن لتحظى بكل هذا الشيوع الذي لاقته، والعشق الذي احتازته؟ ألا إن هذا من عجائب الأقدار.
(1/216)
________________________________________
ومن عجائب الأقدار أيضًا أن أحدًا من العرب قبل العصر الحديث لم يحاول أن يستلهمها في عمل أدبي، إلى أن جاء عصرنا الحالي فوجدنا الأمر يأخذ منحًى جديدًا، فهناك كتاب مسرحيون اتخذوا من حياته وشخصيته وأخباره موضوعًا لأعمالهم مثل: إبراهيم الأحدب وسليم البستاني وأبو خليل القباني، وإن لم يكن هناك ما يدل على أن تلك الأعمال قد طبعت، ووضعت بين أيدي القراء في كتب، وكذلك محمد منذر خير الله الذي وضع مسرحية اسمها رواية مجنون ليلى مثلت على خشبة المسرح، وطبعت عام ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين، ثم عندنا أحمد شوقي الذي ألف مسرحية (مجنون ليلى)، وتقيد فيها إلى حد بعيد بالروايات القديمة عن قيس وليلى واقتبس كثيرًا من عبارات تلك الروايات، ومن عبارات شعر المجنون مع شيء من التحويل الشفاف، ولدينا كذلك مسرحية لصلاح عبد الصبور اسمها (ليلى والمجنون)، وهي تجري في بيئة عصرية، إذ تقع حوادثها في مبنى صحيفة من الصحف القاهرية تشتغل فيها ليلى كاتبة، فهي إذن ليلى أخرى غير تلك الراعية البدوية من بدو نجد في بلاد العرب في عصر بني أمية.
وفي المسرحية تقوم ليلى وبعض زملائها بتمثيل مسرحية (ليلى والمجنون) لأحمد شوقي، كنوع من دفع الملل من خلال القيام بشيء يختلف عما يفعلونه كل يوم، وإن لم ينطقوا في المسرحية من شعر أمير الشعراء إلا بعض الأبيات القليلة، وتنتهي المسرحية برسالة من سعيد حبيب ليلى من خلف القضبان عبارة عن ترنيمة للعام الجديد، يأمل فيها أن يختفي جيله الذي يكتفي بالكلام والنضال الشفوي ضد الفساد، ويأتي بدلًا منه جيل جديد يعمل ويحمل السيف.
يا سيدنا القادم من بعدي، أنا أصغر من ينتظرك في شوق محموم لا مهنة لي، إذ إني الآن نزيل السجن، متهمًا بالنظر إلى المستقبل لكني أكتب لك باسم
(1/217)
________________________________________
الفلاحين، وباسم الملاحين باسم الحدادين، وباسم الحلاقين والحَمارة والبحارة والعمال وأصحاب الأعمال والأعيان وكتاب الديوان والبوابين وصبيان البقالين، وباسم الشعراء وباسم الخفراء والأهرام وباب النصر والقناطير الخيرية وعبد الله النديم وتوفيق الحكيم وألمظ وشجرة الدر وكتاب الموتى ونشيد بلادي بلادي، نرجو أن تأتي وبأقصى سرعة، فالصبر تبدد واليأس تمدد، إما أن تدركنا الآن أو لم تدركنا بعد، حاشية: لا تنسى أن تحمل سيفك.
بل إنه لا يمكن النظر إلى ليلى في المسرحية على أنها رمز لمصر طبقًا لما قاله الدكتور حسين علي محمد، الذي كتب أن المسرح الشعري العربي قد ظهر منذ أواخر الخمسينيات في ثوب جديد هو شكل الشعر التفعيلي، وأصبحت المرأة في هذا المسرح تقوم بدور رمزي، ثم يمضي مريدًا أسماء بعض بطلات المسرحيات، التي من هذا النوع، ومنها شخصية ليلى في مسرحية عبد الصبور (ليلى والمجنون) قائلًا: إن الشاعر قد جعل منها رمزًا لمصر، أما مفاجأة حبيبها سعيد لها في بيت الجاسوس، فتأويلها حسبما يقول ذلك الناقد هو سقوط مصر فريسة للحكم البوليسي.
ثم يختم الناقد كلامه في هذه النقطة قائلًا: إن ميزة مسرح صلاح عبد الصبور تتمثل في أنه لا يضحي بصورة المرأة الحقيقية التي هي من لحم ودم ومشاعر من أجل رمز، بل يمكننا أن نقرأ مسرحياته، فنلاحظ دائمًا العناية الكاملة بصورة المرأة. يقصد الناقد أن يقول: إن مسرحية عبد الصبور يمكن أن تقرأ على الوجهين يمكن قراءتها على أنها مسرحية حقيقية، كما يمكن في ذات الوقت قراءتها بوصفها مسرحية رمزية تمثل ليلى فيها دور الوطن، ولا يجد القارئ في الحالتين أي خلل في بنائها، ولا في تصوير شخصية بطلتها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/218)
________________________________________
الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري.
(1/219)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع
(عزيز أباظة ومسرحه الشعري)

حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات
ولد عزيز أباظة عام ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين في منيا القمح، التي تتبع حاليًا محافظة الشرقية بمصر، وتوفي عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين ميلاديًّا، ويعد عزيز أباظة رائد المسرحية الشعرية بعد أحمد شوقي أمير الشعراء، وقد تخرج من كلية الحقوق عام ألف وتسعمائة وثلاثة وعشرين، واختير عضوًا بالمجمع اللغوي ورئيسًا للجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين، وكان قد انتخب عضوًا في مجلس النواب قبل ثورة يوليو، وذلك عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، وكان من المعارضين لمعاهدة ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، التي أبرمتها حكومة الوفد مع الإنجليز.
أما بالنسبة إلى مؤلفاته فقد نشر له ديوان (أنَّات حائرة)، عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين وهو من أوله إلى آخره في رثاء زوجته الأولى وأم أولاده، وله كذلك عدة مسرحيات شعرية هي (قيس ولبنى)، وقد صدرت عام ألف وتسعمائة وثلاثة وأربعين، وتعد أولى مسرحياته، وتعتمد قصتها على أحداث قصة العاشقين المعروفين قيس ولبنى كما وردت في كتاب (الأغاني) للأصفهاني، ثم مسرحية (العباسة)، وقد صدرت عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، وفيها يصور الصراعات السياسية والشخصية التي حفل بها عصر الرشيد من خلال العباسة أخت الخليفة، وزوجة جعفر البرمكي، وقد عُرضت في القاهرة أمام الملك فاروق.
(1/221)
________________________________________
ثم مسرحية (الناصر) عام ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين، وقد تناول فيها عصرًا من عصور الأندلس الزاهرة في عهد عبد الرحمن الناصر، ثم هناك (شجرة الدر) التي تقدم لنا مأساة الملكة شجرة الدر بعد وفاة زوجها السلطان في أيام عصيبة خلال الغزو الصليبي لمصر، والتي مثلت على مسرح الأوبرا عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين، ثم لدينا مسرحية (غروب الأندلس)، وقد صدرت عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، ثم (شهريار) عام ألف وتسعمائة وخمس وخمسين، وفي هذه الأخيرة يطرح عزيز أباظة معالجة جديدة لقضية شهريار، فهو يضع إلى جوار شهرزاد أختها دنيا زاد، التي تنازعها حب شهريار، وأولى الأختين ترمز إلى المعرفة السامية على حين ترمز الأخرى إلى الشهوة المثيرة؛ لتستمر المنافسة ويخرج منها شهريار في النهاية بما يشبه التصوف الأخلاقي، وقد كُتبت هذه المسرحية بالاشتراك مع عبد الله بشير.
ثم هناك أيضًا (أوراق الخريف) سنة ألف وتسعمائة وسبعة وخمسين، ثم (قافلة النور) سنة ألف وتسعمائة وتسعة وخمسين، ثم (قيصر) سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وستين وفيها يقدم شاعرنا لحظة حاسمة من التاريخ الروماني، استقى أحداثها من روايات بلوتارك لتاريخ يوليوس قيصر، ومحور الصراع هو بروتوس الذي كان في الحقيقة ابنًا غير شرعي لقيصر، وحين يكتشف بروتوس بنوته لقيصر يثور في نفسه صراع بين عاطفة البنوة والإيمان بالجمهورية.
ثم هناك (مسرحية زهرة) سنة ألف وتسعمائة وثمانية وستين، وهي آخر مسرحيات عزيز أباظة واستوحى فكرتها من موضوع فيدرا الإغريقية، وألبسها ثوبًا معاصرًا.
(1/222)
________________________________________
ولأباظة كذلك من إشراقات السيرة الذكية، وهي شعر ملحمي ثم (تسابيح قلب) سنة ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين، وهو ديوان شعري و (ديوان عزيز أباظة)، سنة ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين، و (هكذا تكلم صفوان) وهو أيضًا ديوان شعر ولكن ليس معروفًا سنة إصداره، وأخيرًا (أشعار لم تنشر لعزيز أباظة)، الذي أصدرته ابنته عفاف بعد وفاته، ويضم أشعارًا لم تنشر في أي الدواوين أو المسرحيات السابقة.

مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته
وقد تأثر عزيز أباظة كثيرًا بأمير الشعراء في كتابة المسرحية موضوعات وأسلوبًا، ففي مسرحياته ما في مسرحيات شوقي من غنائية واضحة، واحتفاء بالأسلوب، واختيار لموضوعاته من التاريخ العربي والإسلامي غالبًا، ويرى الدكتور عبد المحسن عاطف سلام أن أباظة قد التزم في مسرحياته الأولى نصوص التاريخ التزامًا يكاد يكون حرفيًّا، ولم يغير فيها إلا عندما وجد أنه لا يستطيع أن يضمن مسرحيته كل التفاصيل، التي يعطيها إيانا التاريخ، ويتضح هذا بجلاء في مسرحيته (قيس ولبنى) و (العباسة) و (شجرة الدر) و (الناصر)، ولكن اختياره كان اختيار ترك لا اختيار تفسير يعطي الأحداث مغزى جديدًا يتخيله هو، وتتقمصه الشخصيات التي تقوم بالأحداث.
وهو ما أدَّى في رأيه إلى وجود تفكك خطير في حبكة الرواية، وخاصة في شجرة الدر حيث نجد أن الرواية تكاد تنقسم إلى قسمين رئيسيين، أو بالأحرى إلى روايتين منفصلتين يؤدي كل منهما غرضًا آخر غير الغرض الذي من أجله كتبت الرواية.
ثم يعقب قائلًا: إن الناقد يحار أمام هذا التناقض عندما يحاول أن يتبين الهدف الأصيل للرواية والشخصيات الرئيسية التي تؤدي إليه وتشرحه، ويضيف: أن
(1/223)
________________________________________
الشاعر قد ظل أسير المادة التاريخية إلى أن بدأ يتحرر في مسرحيته (شهريار)، وكما تحول شوقي من قبل في مسرحيته (الست هدى) من سلطان المادة التاريخية، ومن سلطان الأهداف التعليمية والوطنية، واتجه اتجاهًا اجتماعيًّا بحتًا كذلك فعل عزيز أباظة، إذ تحول على وجل شديد إلى المجتمع يقتبس منه، ويأخذ بعض أحداثه وصوره، ويعرضه على المسرح ويتم هذا التحول بعد مران طويل في كتابة المسرحية، وصياغة الشعر المسرحي، فعندئذٍ تظهر الحبكة متساوية قوية، وتبدو صور المجتمع المصري البحت على حقيقتها في خلال الشاعر، وتبدو تجربته شخصية وواضحة، ولكن لا يلبث الشاعر مرة أخرى أن يعود إلى نفسه في مسرحيته (قافلة النور)، وتسيطر عليه نزعة دينية قوية، وترتد ذكرياته إلى ظهور الإسلام وانتشاره، فيحاول أن يصور هذا الموضوع في مسرحيته.
ولكن الشاعر في هذه المرة لا يأخذ من التاريخ إلا بعض سماته العامة، ويترك لخياله العنان يخلق الأحداث والأحاديث، ويلون الشخصيات دون حرج أو تحفظ أو التماس للمطابقة التاريخية، كما فعل في روايته الأولى، وينكر الدكتور طه حسين على عزيز أباظة أن يكتب مسرحياته شعرًا، وحجته في هذا الإنكار أن المسرح في أوربا لم يعد ينظم في ثوب شعري، بل صار نثرًا إلا ما ندر؛ ولهذا فهو لا يطيق أن يقرأ أو يسمع مسرحية شعرية، قال: إني لست من الكلفين بالقصص التمثيلية التي تُعرض على الناس شعرًا هذه الأيام، وشعرًا عربيًّا بنوع خاص، وقد شب التمثيل عن طوق الشعر وتمرد على أوزانه وقوافيه، وآثر حرية النثر وطلاقته وإسماحه على قيود الشعر وتحرجه وصرامته منذ زمن غير قصير، وأصبحت القصص الشعرية في اللغات الأوروبية نادرة أشد الندرة، لا يكاد الناس يقبلون عليها إن وجدت، فإن فعلوا لم يتصل إقبالهم عليها، إلا ريثما
(1/224)
________________________________________
ينصرفون عنها إلى الحرية الحرة والطلاقة المطلقة في هذا التمثيل المنثور، الذي لا يكلفهم إلا أيسر الجهد وأقل العناء.
وقد صحب التمثيل في أثناء طفولته وحين بلغ شبابه الشعر؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يتخفف من الغناء؛ ولأن النثر لم يكن قد استكمل قوته بعد، فلما تخفف التمثيل من الغناء ومرن النثر، واستطاع أن يتصرف في جميع فنون القول انصرف إليه أصحاب التمثيل، وتركوا الشعر بفنونه الخاصة، فإذا كانت آيات التمثيل في العصر القديم، وفي أوائل العصر الحديث شعرًا كلها، فإن القرن التاسع عشر قد شهد مزاحمة النثر للشعر على التمثيل؛ حتى استأثر به وكاد يصرف الشاعر عنه صرفًا، وهذا الكلام موجود في المقدمة التي كتبها الدكتور طه حسين لمسرحية (غروب الأندلس) لعزيز أباظة، حين صدرت لأول مرة عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين.
ويهمني ما دمنا في حقل الأدب المقارن أن نقف عند الحجة التي قدمها طه حسين مبررًا بها نفوره من المسرحيات الشعرية، تلك الحجة التي تقوم على أن الغرب سار ينفر من ذلك اللون من الإبداع، فكأن الدكتور طه يضبط ذوقه النقدي على ذوق الغربيين، ويقيم حكمه على أساس من أحكامهم بوصفهم القبلة، التي ينبغي أن نتجه إليها في نقدنا وأدبنا وفكرنا، وهذا أمر طبيعي منه، إذ قد سبق له قبل ذلك بنحو ستة عشر عامًا أن نادى في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، بأن نحذو حذو أوربا في كل شيء، ونتبنى حضارتها تبنيًا كاملًا بحلوها ومرها وخيرها وشرها، كما قال بالنص تقريبًا، وليس بعد هذا ذوبان لشخصيتنا الإسلامية العربية، وعدوان عليها وتهديم لبنيانها، فالمفروض أن كل أمة تعمل على تماسك شخصيتها، والاعتزاز بخصوصيتها ما دامت تلك الخصوصية بريئة من العيوب والمؤاخذات، أما أن تتبرع الأمة تبرعًا بالتخلي عن ذاتيتها والجري وراء الآخرين، وتقليدهم في
(1/225)
________________________________________
كل شيء حتى فيما يضر ويؤذي كما تصنع القرود، فهذا تدمير للذات لا أدري كيف واتت طه حسين نفسه للقول به، والتحمس له والدعوة بكل قوة إليه كأنه يؤدي واجبًا مقدسًا، سوف يثاب عليه يوم القيامة.
وقد أضاف طه حسين أنه ينفر من الشعر المسرحي العربي بوجه خاص، ولكنه لشديد الأسف لم يسق لنا سبب هذا النفور الخاص من الشعر المسرحي العربي، ويبدو لي أنه امتداد لدعوته إلى اللحاق بحضارة أوربا جملة واحدة، بمعنى أنه إذا كانت أوربا قد تخلت تقريبًا عن الشعر المسرحي، فما هي كنية الشعر العربي؛ حتى يخرج على هذه السنة متصورًا أن من حقه العيش بعيدًا عن المظلة الأوربية، كلا وألف كلا وعليه أن يدخل الحظيرة الغربية لا يفكر في الخروج من بابها أبدًا، ذلك أن الشعر العربي هو شعر سلس مطواع، أما الكلام عن صعوبة التأليف الشعري، فمنذ متى والدكتور طه يتغيى التسهيل لمجرد التسهيل؟ ولقد وسع الشعر العربي القصص والحوار والوصف وتحليل الشخصيات في قصائده ومقطوعاته على مدار تاريخه الطويل، حتى في العصر الجاهلي نفسه، فكيف خطر للدكتور طه هذا الخاطر الذي لا يبرره تاريخ ذلك الشعر؟
صحيح أنه من الممكن القول: بأن مستوى المسرحيات عندنا في ذلك الوقت على الأقل كان أدنى من مستواه عند الغربيين، لكن هذا لا يختص بالمسرح الشعري وحده، بل يشمل المسرح كله شعريه ونثريه بوجه عام، إذ نحن إنما نقلنا عن الغرب هذا اللون من التأليف، ومن يدري فربما لم تكن الذائقة العربية تشغف شغفًا كبيرًا بهذا الضرب من الإبداع الأدبي والفني.
ولنلاحظ أنه لا يروج عندنا الآن رغم معرفتنا للمسرح وممارستنا له منذ أكثر من قرن ونصف إلا المسرحيات السطحية التي تضج بالضحك والنكات، وما
(1/226)
________________________________________
إلى ذلك، أما المسرحيات الراقية ففي الغالب لا تجد جمهورًا كثيرًا يتعطش لحضورها فضلًا عن قراءتها، وليس هذا رأيًا شخصيًّا ولا انطباعًا غامضًا، فها هو ذا واحد من نقاد المسرح النشطين يقول ذات الشيء، ففي كتاب فؤاد دواره (النقد المسرحي) نجده يقول في ضيق صدر شديد: يخيل إليَّ أحيانًا أننا بدأنا نصنع مفهومًا جديد للمسرح في بلادنا، وأخذنا نتحول به من فن رفيع يخاطب العقل والعاطفة، ويُغني الذوق والإحساس إلى نوع من النشاط الرياضي والعضلي، يشترك فيه الممثلون والجمهور على السواء، فالغالبية العظمى مما تقدمه فرقنا المسرحية من النوع الهازل الذي تغلب فيه الحركة الصارخة المفتعلة، والحوار المملوء بالنكات المصطنعة، والشتائم المنتقاة والتوريات الجنسية المكشوفة، كل ذلك بهدف واحد هو إشراك الجمهور في المباراة فترتفع قهقهاته، ويخبط الأرجل بالأيدي، والأرض بالأرجل، وتزداد سرعته في قزقزة اللب.
إن هذا اللون من المسرحيات الهازلة موجود في كل بلاد العالم، ولكن ليس بهذه النسبة الكبيرة الموجودة لدينا، وليس على هذا المستوى الهابط من السخف والتفاهة.
ومثل المسرح في غربته عن بيئتنا بل أشد منه فن الأوبرا الذي لا يقبل عليه إلا القليلون، كما نعرف جميعًا، وأغلب الظن أن كثيرًا من أولئك القليلين يفعلون ذلك عن تقليد للأوربيين، لا اقتناعًا ذوقيًّا منهم، إن صح نسبة الاقتناع إلى الذوق، وإلا فهو تعبير مجازي، وكما أنكر طه حسين المسرحية الشعرية بوصفها شكلًا فنيًّا مضى أوانه، ولم يعد أحد يلجأ إليه إلا في الندرة نرى فؤاد دواره أيضًا يقول: إنه من المعروف أن أول المسرحيات التي عرفها العالم هي التراجيديات والكوميديات الإغريقية، وكانت كلها شعرًا، وظلت المسرحية الشعرية هي الشكل المألوف المنتشر في آداب العالم، حتى أوائل القرن التاسع عشر، حينما بدأ النثر يزاحم الشعر حتى أزاحه عن خشبة المسرح أو كاد، وأصبحت المسرحية الشعرية اليوم
(1/227)
________________________________________
عملًا أدبيًّا نادرًا قد تمر عدة أيام لا يظفر العالم خلالها بمسرحية شعرية لها قيمة، في حين يظفر كل عام بعشرات المسرحيات النثرية الممتازة.
ولنلاحظ هنا كذلك كيف أن دوارة مثل طه حسين يتخذ من المسرح الأوربي منوالًا ينبغي في نظره النسج عليه، مستشهدًا بوضع المسرح في أوربا، ومن طريف الأمر مع ذلك أن الدكتور طه حسبما لاحظ الدكتور محمد مندور قد أشاد بشعر تلك المسرحية، ناسيًا ما قاله عن نفوره من المسرحيات الشعرية، ثم أثنى بوجه خاص على شعرها؛ لأنه على حد تعبيره شعر جزل رصين لم نسمع مثله منذ وقت بعيد، ويعقب مندور بأن طه حسين لم يهتم أدنى اهتمام بمناقشة فن أباظة المسرحي، بل ركز اهتمامه على الشعر في ذاته، بل إنه قد أعلن إعلانًا أنه لن يتعرض للجانب المسرحي في ذلك العمل، إذ قال: وليس لي بالطبع أن أنقد القصة من هذه الناحية، فقد لا يكون من حقي أن أدخل فيما لا أحسن من صناعة التمثيل.
ويمضي مندور فيستغرب هذا الموقف من طه حسين قائلًا: إنه استهل حياته الجامعية بتدريس الأدب التمثيلي عند اليونان، وتأليف كتاب قيم فيه، ويضاف إلى ذلك أن الدكتور طه قد ترجم عددًا من المسرحيات الإغريقية، ونشرها قبل ذلك بزمن طويل سنة ألف وتسعمائة وتسعة عشرة على وجه التحديد، في كتاب يحمل عنوان (صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان)، ومعنى ذلك أن طه حسين لم يكن عاجزًا عن تقويم مسرحية أباظة من حيث كونها عملًا مسرحيًّا لا مجرد شعرٍ جزيلًا كان أو غير جزيل لو أراد، فقد اهتم كما رأينا بترجمة طائفة غير قليلة من المسرح الإغريقي ودراستها، كما كان أول من قدم توفيق الحكيم إلى جمهور القراء، وأبدى إعجابه برائعة (أهل الكهف)، وكتب
(1/228)
________________________________________
عنها مقالًا طويلًا في ثلاثينيات القرن المنصرم إلى جانب ما ترجمه كذلك من مسرحيات فرنسية أصدرها في كتاب بعنوان (قصص تمثيلية من الفرنسية)، عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين.
ومثل طه حسين في ثنائه على رقي لغة أباظة في مسرحياته الشعرية، نرى كاتب مقال المسرحية العربية في "الموسوعة العربية العالمية" يقول عن عزيز أباظة ودوره في الإبداع الشعري: إنه لما كان العرب قد أخذوا المسرح عن أوربا، فقد كتبوا المسرحية شعرًا كما كانت هنالك منذ تراجيديا اليونانية، حتى ظهور الدراما الواقعية في القرن التاسع عشر، ويعتبر النقاد الشاعر أحمد شوقي الرائد الذي أخرج المسرحية الشعرية من ركاكة أشعار الرواد الأوائل إلى مسرحية الشعر الرصين بما امتلكه من موهبة مهولة، وتأثر به وتبعه في ذلك الشاعر عزيز أباظة، ثم علي أحمد باكثير، ويقر هؤلاء النقاد بأن هذه المسرحيات قد وضعت اللبنة الأولى لاستخدام الشعر الرصين لغةً للمسرحية العربية، وبقيت منارًا اهتدى به جملة من الشعراء في التأليف المسرحي الشعري.
وأبرز هؤلاء الشعراء كان عزيز أباظة، ثم علي أحمد باكثير الشاعر الحضرمي الأصل المصري الجنسية.
ويقول مندور في معرض حديثه عن لغة الأداء المسرحي لدى عزيز أباظة منتقدًا ما سماه بالمعاظلة اللغوية التي تنتشر في مسرحياته المختلفة ما قدم منها وما حدث، يقول: لما كان كل مؤلف مسرحي يخاطب جمهورًا، فمن البديهي أن يخاطبه بلغة يفهمها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن يطوع تلك اللغة بحيث تؤدي كل ما يستطيع أن يتسقطه من لسان الحال في دقة ووضوح، وتعبير مباشر، وإلا ظلت المعاني والأحاسيس مطمورة في نفوس شخصياته، أو عجزت عن أن تصل إلى
(1/229)
________________________________________
نفوس سامعيه أو قارئيه، وإذن فنحن لا نرى ضَيْرًا في أن يستخدم الأستاذ عزيز أباظة وأحمد شوقي أو غيرهما الشعر وسيلةً للأداء، كما استخدمه من قبل عمالقة أحسنوا استخدامه على نحو رائع، منذ أسكيروس اليوناني؛ حتى شكسبير الإنجليزي أو راسين الفرنسي.
ولكننا لا نرى داعيًا ولا مبررًا للمعاظلة وتعمد الغوص وراء الألفاظ الحوشية المهجورة لمجرد التظاهر بالبذخ اللغوي على نحو ما يتظاهر بعض الأثرياء بالبذخ في ملبسهم، دون أن ينم هذا البذخ عن أناقة خاصة أو ذوق متميز أو رفاهية أكيدة.
ثم يعطي مندور بعض الشواهد على ما يقول مثل: كلمة مصير بمعنى محبوس، ومكبول بمعنى مجنون، وجارة بمعنى زوجة والقناع بمعنى الأقوياء، والقِطر بمعنى النحاس المذاب، وهكذا. وهو يزيد الأمر توضيحًا بالتنبيه إلى أن الجمهور الذي يشاهد المسرحية لا يمكنه أن يرجع إلى ما أضافه الشاعر من حواش تمثيلية إلى النص المكتوب، بل لا بد أن تكون الألفاظ والتراكيب من السهولة بحيث يفهمها المشاهد دون عناء، وإلا عجز عن متابعة التمثيل الذي يجري أمامه، فلم يتمكن من استيعاب الهدف الذي يرمي إليه الشعر.
كذلك يعيب هذا النهج اللغوي في مسرحية (شجرة الدر) بأنه تكلف واضح يزيد المسرحية بعدًا عن مشاكلة الواقع، فضلًا عن وقوفه حائلًا بين الجمهور، وبين متابعة أحداث المسرحية والانفعال بها كما ينبغي، وهذا الكلام قاله الدكتور محمد مندور في كتيبه الذي يحمل عنوان (المسرح).
ويزيد فؤاد دوارة على ما قاله مندور: أنه لا يمكن إجبار رواد المسرح على حمل (معجم لسان العرب) معهم أو وضع شاشة سينمائية إلى جانب المسرح تعرض
(1/230)
________________________________________
شرح معاني الكلمات الصعبة، وفي نفس الخط يسير الدكتور خليل الموسى مدينًا لدى عزيز أباظة ما يسميه الإسرار على استعمال الأساليب القديمة في الشعر، ونقلها إلى عالم المسرح، فهم يستعيرون صورهم وأخيلتهم من القدماء، دون الالتفات إلى أن عالم المسرح هو عالم الفرجة لا عالم البيان والبلاغة، وهم يصدرون عن الماضي لا الحاضر، ومحاولة التكييف والتلاؤم والتوفيق بين فن الشعر الغنائي وفن المسرح، وهذا ما جنى على المسرحية الشعرية، وهو يفرق بين الشعر الغنائي والشعر المسرحي على أساس من اللغة، التي يستعملها كل من الإبداعين ذاكرًا عزيز أباظة بالاسم.
فيقول: إن الشاعر الغنائي شاعر لغة قبل كل شيء والشاعر المسرحي شاعر مسرح، وهذا يعني وجود اختلافات بين لغة الشعر الغنائي، وبين اللغة الشعرية في المسرحية أو بين اللغة الشعرية في كتاب، وبين اللغة الشعرية على الخشبة، فالشاعر الغنائي يفتق مضامين اللغة، ويعيد صنعها لتقول ما لم تكن تقوله، ولكن الشعر في المسرحية نقيض ذلك، فاللعب باللغة خطر على المسرحية، ومقتل المسرحية الشعرية التقليدية في لغتها المنمقة المزخرفة، كما في مسرحيات عزيز أباظة؛ ولذلك أدرك بعض شعراء المسرحية المعاصرة أن عليهم أن يبحثوا عن لغة المختلفات عن لغة القصيدة الغنائية، فالمتفرج في المسرح غير القارئ في كتاب، وإذا كانت اللغة في القصيدة الغنائية غاية في حد ذاتها، فإنها في المسرحية الشعرية وسيلة لغاية أخرى، ولا يعني هذا أنها نثرية، ففيها من الرشاقة والإيحاء ما في لغة الشعر الغنائي نفسه، ولكن ذلك يعني أنها لغة تتناسب والشخصيات التي تتكلم، وأنها لغة مسرح للفرجة قبل أي شيء آخر. قال الدكتور خليل موسى هذا الكلام في كتابه (المسرحية في الأدب العربي الحديث، تاريخ، تنظير، تحرير).
(1/231)
________________________________________
وبغض النظر عن موافقتنا إياه على رأيه في لغة أباظة المسرحية أو لا، فإنه لا يمكننا السكوت عن زعمه أن اللغة في الشعر الغنائي غاية في حد ذاتها، على حين أنها في الشعر المسرحي وسيلة لغاية أخرى، ذلك أن اللغة في الشعر الغنائي هي أيضًا وسيلة إلى غاية، وقد تكون هذه الغاية هي تعبير الشاعر عما يدور في نفسه، أو قد تكون تصويرًا للعالم الخارجي أو قد تكون استنفارًا وتحميسًا للجمهور إلى آخره، والأدب كله لا الشعر فقط هو سيلة إلى غاية، بل إن جمال اللغة نفسه وسيلة من الوسائل التي يستعين بها الأديب على بلوغ غايته تلك، ونحن وإن كنا نعرف أن جمهور مثل تلك المسرحيات هو عادة جمهور الراقي الثقافة، لا يجد في الغالب صعوبة في فهم مثل تلك الألفاظ ولو بمساعدة السياق، لا نختلف رغم هذا مع مندور كثيرًا، إذ إن أبواب المسرح مفتوحة أمام الجميع، وينبغي أن تظل دائمًا مفتوحة أمام الجميع مهما تكن مستوياتهم الثقافية واللغوية، ومن ثم كان لا بد إذن من وضع الجمهور المتواضع الثقافة، وبخاصة اللغوية منها في الحسبان، بيد أن الأمر في حالة أباظة ليست فيما أقدر بالصعب الذي يصوره مندور.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر كما يقال، فإني أرى أنه ينبغي الاستشهاد بما قاله فؤاد دوارة عن مسرحية (عنترة) لشوقي، وهي تسير في نفس الخط الأسلوبي، إذ قال عن تقديم تلك المسرحية في الإذاعة في أغسطس سنة ألف وتسعمائة وستين ما يلي: وشاركني في الاستماع إلى البرنامج بعض الأصدقاء من ذوي الثقافة المحدودة، وقد أخذوا جميعًا بجمال البرنامج وحسن تنفيذه، ولم ألحظ أن واحدًا منهم شكا من صعوبة اللغة العربية الفصحى أو عجز عن فهمها، بل أبدى
(1/232)
________________________________________
أحدهم دهشته بعد نهاية البرنامج من أن أحمد شوقي على مثل هذه السهولة والبساطة.
ولا يقع ما قاله كمال محمد إسماعيل بعيدًا عما قلناه هنا، إذ الوقت الذي يؤكد فيه أنه من أنصار تسهيل لغة المسرح؛ لأنه كما يقول يريد لهذه الأعمال التي تقبلها الجيل الماضي أن تؤتي أكلها لأجيال قادمة، نراه يؤكد أيضًا أن بعض الألفاظ المهجورة يمكن أن يفهمها الخاصة والمتأدبون من السياق، وبخاصة أن اللغة إذا سهلت تمام السهولة حَرِية أن تفقد ما ينبغي أن تتحلى به من جلال، وتصبح مبتذلة، ثم يضيف قائلًا: إن الشاعر يعمد إلى تضمين عمله مثل هذه الكلمات التي تبدو صعبة؛ حتى تكون إلى جانب متعة المشاهدة متعة التربية اللغوية، فضلًا عن أن أباظة في المسرحيتين المعاصرتين قد سهل لغته، ولكن دون ابتذال. وعلى سبيل ذكر الشيء بالشيء يضيف الكاتب أن بلاوتوس الكاتب المسرحي الروماني الهازل، قد انتقد من قبل لما في لغته من كلمات غير شائعة.
وهذا الكلام موجود في كتاب كمال محمد إسماعيل (الشعر المسرحي في الأدب المصري المعاصر).
هذا، ولمحمود تيمور في لغة أباظة رأي يتناقض ورأي مندور تمامًا، إذ يؤكد أن ديباجته في مسرحياته هي ديباجة ترقى إلى عليا طبقات البلاغة العربية لفظًا وأسلوبًا، إلى ذوق عربي مصفًّى في انتقاء المأنوس من الكلمة، والتنكب عن المجفول من التراكيب، مع انبثاقه بين الشعراء كما تنبثق عين الماء الجارية بالعذب الفرات، ففاجأ معاصريه بشعره رغم تجاوزه الأربعين.
كذلك يصف أحمد حسن الزيات لغة أباظة في مسرحية (الناصر) قائلًا: أما معظم الرواية فنمط من الشعر الرفيع البديع المحكم، أرسله الشاعر فيضًا من
(1/233)
________________________________________
قريحته على هَدْي من سيقته، فجاء صافي الديباجة واضح المنهج لا نجد فيه تكلفًا ولا قلقًا ولا غموضًا ولا حشوًا ولا ضرورةً، وبالمثل يصف عمر الدسوقي أسلوب أباظة في (العباسة) على سبيل المثال باللغة العذبة، والبيان الصافي، كما يرى محمد بهجت أن لغة أباظة كانت تناسب جمهور تلك الفترة، التي ظهرت فيها مسرحياته.
وقال ما نصه: يمثل الشاعر عزيز أباظة مرحلة مهمة في تاريخ المسرح الشعري العربي، تلت مرحلة البداية والريادة لأحمد شوقي، وأجاد فيها الاهتمام بالحدث الدرامي، والتنوع في الموضوعات المسرحية مع الحفاظ على قوة الشعر ورصانته، وأناقة الألفاظ المستخدمة التي تناسب ذوق الجمهور في تلك المرحلة، ومعنى ذلك طبقًا لبهجت أن مسرحيات عزيز أباظة لم تكن تمثل أية مشكلة بالنسبة إلى الجمهور آنذاك، لكن يمكن لمن يشاء الرد على ذلك بأن جمهور مسرحيات الشاعر ليس مقصورًا على من شاهدوها، حين تنفيذها لأول مرة، بل هو ممتد مع الزمن إلى ما لا نهاية على الأقل نظريًّا.
أما مسرحية (أوراق الخريف)، فإن مندرو يأخذ عليها عكس ذلك، إذ انتهج فيها أباظة سبيلًا بَعُدَ به عن رصانة الأسلوب؛ حتى تناسب العصر الحديث الذي جرت فيه أحداث المسرحية.
لكن مندور لم يعجبه ما يسمه بأنه تعابير مبتذلة بعيدة عن روح الشعر، كما في الحوار التالي:
أكرم متلطفًا:
ماذا أعددت لنا اليوم ... من فاخر ألوان الطعام؟
(1/234)
________________________________________
وداد في مرح:
عندي الصنف الذي ... تهواه رز بحمام
ودجاجات سمن ... نظفت أمس أمامي
أكرم:
طيب فخم الغذاء اليوم ... من غير كلام
هذا ما قاله مندور، ولكني لا أستطيع أن أوافقه على هذا الرأي الذي تبدو عليه علائم التعسف، وكأن صاحبه موكل بالزراية على الشاعر بكل سبيل، فالموقف موقف مرح ومداعبة، واللغة تلائم هذا الموقف ملاءمة تستحق الثناء لا الانتقاد والتقريع.
ومن الظلم انتقاد الشاعر على هذا الحور المِطواع الموافق لجو الظروف التي قيل فيها.
ومما يأخذه مندور أيضًا على مسرح أباظة ابتعاده عن مشاكلة الحياة والبيئة في بعض المواقف الهامة، كما هو الوضع مثلًا في مسرحيته مثلًا (قيس ولبنى)، حيث نرى أهل لبنى ينسحبون جميعًا تاركين ******ين في خلوة مطلقة، مع أنهما لم يكونا قد تزوجا بعد، فمثل تلك الخلوة لا تسمح بها التقاليد العربية، كما يقول مندور عن حق،
(1/235)
________________________________________
بل إن ******ين يتناشدان القصائد الغزلية في هذه الخلوة، ومثل ذلك تَدَخُّل الحسين بن علي -رضي الله عنه- لدى كُثَير زوج لبنى؛ كي يطلقها فيستطيع قيس الزواج بها. فمثل هذا التدخل لا يمكن أن يقع، وهو مما لا يشرف الحسين أن يقوم به، ثم كيف نصدق أن يقوم كثير بتطليق هذه السهولة والسرعة، وبخاصة إذا علمنا أنه كان يحبها حبًّا جمًّا، وأنها من جهتها لم تكن تنقم منه شيئًا وكانت ترعى له الود والوفاء؟
هذا الكلام موجود في كتاب مندور بعنوان (مسرحيات عزيز أباظة).
ومثل ذلك بل أشد منه ما ذكره الدكتور محمد مندور عن مسرحية (الناصر)، إذ تصور حياة ملوك المسلمين؛ حتى كبارهم كالناصر والحكم في أقبح صورة، فهم قوم شهوانيون أقرب إلى الحيوانات منهم إلى البشر المهذبين صغار العقول، طاغية شهواتهم، عبيد الملذات، وفي أخطر المواقف نرى أمراءهم لا يحسون بهذه الخطورة التي لا تصرفهم عن العبث ومغازلة الجواري، بل ومحاولة إغراء جاريات أبيهم، وانتزاعهن من بين أحضانه؛ حتى لكأن قصورهم قد استحالت إلى مواخير، وعلى العكس من ذلك نرى أعداءهم الموتورين حتى الجواري منهم، شخصيات إيجابية فعالة مسيطرة على نفسها، قوية الإرادة، واسعة الحيلة، عميقة الدهاء، على نحو ما نشاهد في شخصية "مُنى" بنوع خاص، تلك الشخصية التي صورها المؤلف جبارة، وَفَيَّة لوطنها وذويها، مسيطرة على الأحداث ومسيرة لها، حتى لا تحس بأن شخصيتها أقوى من شخصية الأمراء، بل ومن شخصية الخليفة نفسه، هذا ما قاله مندور.
ومكمن الابتعاد عن مشاكلة الواقع هنا هو أن خلفاء الأندلس كانوا بوجه عام خلفاء أقوياء مثقفين متحضرين أعظم التحضر والرقي، على العكس من الملوك
(1/236)
________________________________________
الأوربيين من حولهم، وكانت البلاد في عهدهم مهيبة الجانب، يفد إليها رسل الملوك المجاورين في رهبة وخشية، يؤدون واجب الإجلال والتعظيم، ولم يكونوا بتلك الصورة المزرية التي يحدثنا عنها محمد مندور.
وقد انتقد بعض النقاد ضعف الحبكة لدى أباظة، فها هو ذا دكتور عبد المحسن عاطف سلام يؤكد أنه لا يعطي الحبكة الأهمية الكبرى، كما فعل الكلاسيكيون، ولكنه ترك لخياله ولأشخاصه العنان ونوع في صور حياتهم، وفي ظلال الأحداث وانساب مع الأحداث مرة، ومع الشخصيات مرة أخرى دون اعتبار لمقتضيات الحبكة المسرحية، ومن ثم جاءت في كثير الأحيان مفككة أو منقطعة بحيث يقع الفعل المسرحي وقوفًا تامًّا، أو يتحول عن مجراه؛ لكي يعود مرة أخرى بعد رحلة طويلة إلى التقدم، وقد يجرف تيار الأحداث عزيزًا؛ حتى إنه ليدخل في أثناء الحبكة فصلًا كاملًا، كما فعل في مسرحية (غروب الأندلس) أو يقسم المسرحية قسمين، كما فعل في مسرحية (شجرة الدر)، أو يدخل منظرًا شعريًّا لا علاقة بينه وبين أحداث الرواية، كما فعل في مسرحية (قيس ولبنى).
والملاحظ أن أباظة مثل أستاذه شوقي لم يلتزم بأن تكون المساحة الزمنية لمسرحيته أربعًا وعشرين ساعة، ولا أن تكون المساحة المكانية التي يتحرك فيها الأشخاص، وتقع فيها الحوادث محصورة في منطقة يمكن أن يتحرك الإنسان خلالها أثناء ذلك الزمن، بل ترك أحداثه تنتقل من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى أخرى، مثلما
(1/237)
________________________________________
فصل زمن طويل في بعض الأحيان بين الفصل وتاليه، ومثل شوقي أيضًا نراه يضمن مسرحياته شعرًا غنائيًّا كالنص الذي نسمع فيه قيسًا يناجي لبنى دون أن تكون لبنى معه، بل يناجيها في الخيال، إن صح هذا التعبير، وذلك في الأبيات الجميلة، التي تبدأ بقوله:
أهذه ربى نجدٍ؟ نعم إنها نجد ... فدل عليها البال والشيح والرند
ودل عليها من بعيد شمائل ... مؤرجة تسري وعاطرة تغدو
والتي يصفها الدكتور مندور بأنها قصيدة غنية أكثر منها جزء من حوار، وقيس يلقيها وهو واقف وحده على المسرح، دون أن ندري إلى من يوجه الحديث، وهل هو يلقي بروجًا داخليًّا يفصح فيها عن مكنون نفسه، أم أنه يلقي خطبة على الجمهور؟ فتركيب القصيدة، وما تتضمنه من خواطر لا ينم عن النجوى، كما أنها تتضمن في نهايتها أخبارًا تنبئ بالحل الذي ستصير إليه عقدة المسرحية، وهو فصل زواج قيس من الفزارية، وزواج لبنى من كُثير بن الصلت، وإذا كان لي من تعقيب فهو أن مثل تلك القصيدة لا يمكن أن تكون خطبة، بل لا يمكن أن يخطر في بال أحد أنها خطبة، إذ هي شعر وشعر عاطفي آسيان هامس ورائع، والخطب إنما تكون مجلجلة يتلاعب فيها الخطيب بعواطر سامعيه على حين أن الشاعر هنا، إنما يناجي نفسه بنبرة خفيضة حزينة.
وعن المظهر الذي استقى منه عزيز أباظة مسرحيتي (قيصر) و (زهرة)، يقول محمد بهجت: وفي عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين يقدم عزيز أباظة مسرحية (قيصر) معتمدًا على رواية بلوتارك لتاريخ يوليوس قيصر، ويهتم فيها بالصراع الداخلي بين إيمانه بالجمهورية وولائه للقائد والمعلم،
(1/238)
________________________________________
والمسرحية العاشرة والأخيرة في أعمال عزيز أباظة هي (الزهرة)، التي كتبها في عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين مستلهمًا قصتها من شخصية فيدرا الإغريقية، ولكن بأسلوب معاصر، ويلقي كمال محمد إسماعيل مزيدًا من الضوء على مسرحية قيصر، والمصدر الذي استقيت منه قائلًا: لفق عزيز أباظة على حد تعبيره مسرحية كتبها وليم شكسبير من التاريخ الروماني، وهي مسرحية قيصر، وأصدرها شاعرنا سنة ألف وتسعمائة وستين، ولقد استبعد صفة الترجمة عما فعله بشأنها، وكذلك الاقتباس إذ أجرى قريحته في الأصل، كما أخذ لها من ناقد عن شكسبير هو جبريل بوسيه.
وهناك أيضًا مسرحية (قافلة النور) التي يذكر شوقي بدر يوسف في مقاله قراءة ببلوجرافية، في الأعداد الخاصة بمجلة "الهلال" المنشور بالعدد السادس والعشرين من مجلة "أمواج" الإسكندرانية، أن أباظة قد استلهمها من مسرحية بليوكت للشاعر المسرحي الفرنسي كورني، إذ جاء في المقال المذكور يعرض الهلال في هذا العدد لآراء ثلاثة من رجال الأدب والقصة عن قصة أجنبية أعجبتني، وقد أجاب على هذا السؤال كل من الأساتذة: عزيز أباظة وفريد أبو حديد والدكتور رشاد رشدي، قال الشاعر عزيز أباظة: إن أحب مسرحية أجنبية إليه هي مسرحية (بليوكت لكورني)، وهي التي استمد منها مسرحيته (قافلة النور)، ويذكر عزيز أباظة في الكلمة التي كتبها على هامش المسرحية أن فتوح نشاطي كان قد أعطاه مسرحية الشاعر الفرنسي (كورني بليوكت)؛ ليستعين بها في تأليف مسرحية على منوالها، إلا أنها لم تعجبه، وإن كانت رغم هذا قد أشعلت في نفسه رغبته القديمة في كتابة شيء من ذلك اللون.
(1/239)
________________________________________
وإلى جانب هذا يذكر فؤاد دوارة أن عزيز أباظة قد حاول في مسرحيته (قافلة نور)، أن ينهج نهج غرار بعض التراجيديات القديمة، فأضاف إلى فصول المسرحيات الأربعة فاتحة وخاتمة، أما الفاتحة وفكرتها لفتوح نشاطي وهو مخرج المسرحية، فمنفصلة تمامًا عن أحداث المسرحية، نرى خلالها إبليس يتحدى الله في مونولوج طويل يرد عليه هاتف لا نراه يدحض أباطيله، وينذره ببعث خاتم المرسلين بالإسلام، الذي سيعصم البشر من الوقوع تحت سلطان إبليس.
ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الخاتمة، وهي عبارة عن مشهدين قصيرين يدوران بعد سبع سنوات من انتهاء أحداث الاحتفال الرابع، ونعرف خلالهما أن منذرًا قُتِلَ بيد غادر مجهول ساعة وصول كتاب الصفح والأمان من كِسرى، وأن سلفرى تمسكت بعد مقتله، وتفرغت لعبادة الله ونشر دينه، ويرى الدكتور محسن عاطف سلام في هذه الخاتمة نفس الرأي، فيقول: إن هذا التذييل الذي لم يفعله عزيز أباظة في أية مسرحية أخرى يتضمن أحداثًا لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالقصة التي سبقته، وكأنما أحس الشاعر نفسه بذلك فأفردها في تذييل.

المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي
وانطلاقًا من المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي، نرى كمال محمد إسماعيل لدن كلامه عن الصراع في مسرحية شاعرنا يشير إلى أن عزيز أباظة يقصد إلى التاريخ في الغالب، فيدير الصراع بين عنصرين: أحدهما: نفسي، والآخر: أخلاقي وضعي، وأنه لا يغير حقائق التاريخ إلا في الحدود التي أثبتناها، فهو بهذا لا يغير من نتائج الصراع العاملين النفسي والوضعي في الأزمة
(1/240)
________________________________________
التي يجسدها في القطاع التاريخي، بل يقف محايدًا لا يتدخل، فيمكن بذلك ملاحظة حكمة تاريخية تنطوي عليه أعماله لا يعتسف إليها سبيلًا، بل ربما تتأتى من أنه اقتطع موضوعات معينة تشف عنه في يُسر، فهو لا يفعل بوجه الدقة مثلما فعل راسين، حين يقصر إلى تغليب الحب على الواجب قصدًا، أو كما صنع كورني إذ ينصر الواجب على الحب، أو يحدث التوفيق بينهما حسب خطة مدبرة.
ويعود الكاتب بعد قليل إلى ذات النقطة فيوضحها فضل توضيح، إذ يقول: لقد ارتكز عزيز أباظة إلى إبراز هذه المراكز الدائرة بين العامل النفسي، الذي ينبع من دافع إنساني قوي فَردي متأصل في النفس البشرية، وبين عامل أخلاقي قد يكون وضعيًّا فهو غير مغروس في أعماق النفس البشرية، إذ ينبغ من عرف الجماعة أو القبيلة أو العشيرة، وهو ما يتفق على سماته بأدب المواضعة والاصطلاح.
أي: أن عزيز أباظة اعتمد به نفس الصراع الذي أجازه شوقي، والملاحظ: أن الصراع في نفوس شخصياته عندما يتقرر بين الحب وبين هذا العامل الوضعي مجردًا، فإنه ليكون صراعًا بين عاملين مستوى واحد، فلا يهز ضمير الشخصية ولا يستخرج مكنوناتها بنفس الثراء الذي يحققه كورني في سِنَّا مثلًا، حيث يدور الصراع بين عاملين مستوى واحد تقريبًا بقدر ما يجعل الشاعر المسرحي يعرضه عرضًا، ويؤديه تأدية كطبيعة الصراع مع العامل الوضعي نفسه، علاوة على أنه لا يعمقه.
وفي موضع آخر من الكتاب يفصل كاتبون القول بعض التفصيل في هذه النقطة،: في مسرحية (قافلة النور) يدور صراع في نفس سيلفراس ابنة شهرمان والي الحيرة، بين حبها للمنذر قائد الحيرة وبين واجبها في الحفاظ على دينها، وهو دين فارس دين الزرادشتية الحاضة على ترديد دعاء يمجِّد النار، وهي بالنسبة لها
(1/241)
________________________________________
عقيدة الآباء والأجداد، وكان منذر قد ذهب إلى القبض على المسلمين في بيت جابر بن الربيع، وهو من أهل الحيرة، فاقتنع بالإسلام بعد حوار عقلي عن الحياة الآخرة والبعث والوحي، وجبريل والنبي، دار بينه وبين أشجع وسعد، وهما صحابيان نزلَا الحيرة من يثرب لنشر الدعوة.
وبعد أن ختم هذا الحوار استمع إلى آيات القرآن الكريم تتلى عليه من أشجع، فآمن ثم ذهب يخطب سلفراس التي كانت تتنازعها هوى رستم رسول كسرى وأمينه، فأطلعته على ترددها بشأنه واستمهلته؛ حتى تفكر، وما فتئ أبوها أن علم بأن منذرًا قد أصبح من المسلمين، وأتى يستخبره فلم ينكر منذر إسلامه، وقد انتحت سلفراس بمنذر جانبًا تراجعه في هذا الأمر على حِدة، وتسأله عن الله في شبه الرثاء، وحدث أن أقبل رستم لتقتيل المسلمين، ولثني منذر ورده عن عقيدته، تقول سلفراس:
لهف نفسي عليك منذ أن عاداك ... عقلي فقد تمناك قلبي
إن تكن همت في ضلال من الرأي ... فحسبي إنكار رأيك حسبي
ثم لحسن شاه:
ما لقلبك أنه يتنزى بين ... غوص لأخمصي ووثب
ليس دقاته الملحة كالأمواج ... إلا صيحات لوم وعَتبي
ناعيات علي أني تجنيت ... على حبه وأهدرت حبي
فنرى في البيت الأول التركيبة الكلاسيكية للعقل والقلب بمعنيين متقابلين في الصراع لسلفراس، وهو صراع بين الإذعان العقلي لدينها الخرافي، وبين التسليم القلبي لحبها مع ميل شديد للحب واضح من استنباطها تجنيها على حبها، هذا التجني الذي تنعاه عليها دقات قلب كالأمواج، وهذا الصراع شبيه بصراع بولين
(1/242)
________________________________________
الرومانية الوثنية الذي سببه تنصر زوجها بليوكت، وتصديه لآلهة الوثنية في مليتان في مسرحية (بوليكت) لكورني الفرنسي، والوثنيون يقدمون القرابين لها بأن أهوى بتمثال أكبر الآلهة على قدميه، مما أدى بفلكس حاكم المقاطعة ووالد بولين إلى أن يقبض عليه هو وصاحبه نيارك، وأن يقتص من نيارك بإعدامه، ويحاول أن يحمل صهره على العودة إلى الوثنية، لكن بوليكت كان تائقًا للموت وقد حقق له فلكس توقه.
لقد تم التوفيق بين العقل والقلب في صراع بولين بعد إعدام بوليكت، مفاجأتها والدها بتنصرها هي الأخرى، ولقد سعت سلفراس بطل قافلة النور لعزيز أباظة توفيقًا أسهل بأن سار عقلها وقلبها مشحوذين للإسلام، ولم يتسبب أبوها في عقبة لها يضعها أمام المنذر، وقد رأت التعاون الذي أكسبه الدين الجديد لمعتنقيه عندما زارت المسلمين في مكان تجمعهم، فاعتنقت هذا الدين ولم يفرض عليها أن تنكر إسلامها إثارة رستم لها، وقد ذهب منذر؛ لينقذها من سجنه.
كذلك أراد أباظة حسبما يقول كمال محمد إسماعيل نقلًا عن الشاعر أن يجعل من بطل مسرحيته (زهرة) التي استلهمها من العصر الحاضر شبيهة لبطل راسين في مسرحيته (فيدرا): إن فيدرا هي زوجة تيزيه ملك أثينا، الذي كان قد اختفى، ويئست زوجته وابنه أبوليت من عودته، فطاردت زوجته ابنها بحبها المجنون فتأبى عليها، وقد كان شنغولا يهوى أميرة من الأُسرة المالكة في أثينا تدعى أليسي، وعادت تيزيه من غيبته، فقد كان لا يزال حيًّا وخشيت فيدرا العار أن يفتضح أمر حبها، فأوحت إلى نجيها أونون أن تسبق باتهامه بوليت لدى أبيه باعتدائه على شرف زوجته، وقد حدث واتهمته لدى أبيه بخيانته له، وطرد تيزيه ابنَه بعد أن اتهمه ولم يفلح دفاعه عن نفسه، إذ لم يكن هيبوليت راغبًا في فضح زوجة
(1/243)
________________________________________
أبيه، وقد كان جزاء أونون إنكار مولاتها فيدرا لها، فألقت بنفسها في غياهب البحر، أما هيبوليت فقد بالغ الإله نبتون في استجابة دعوة والده في الانتقام منه، إذ تدخل في القتال بين هيبوليت وبين وحش خرج من البحر، فاهتاج خيول عربته أو اهتاجت خيول عربته فسحبت صاحبها حتى قتلته، وقد انتحرت فيدرا بأن شربت السم، وقبل أن تلفظ أنفاسها اعترفت ببراءة هيبوليت لوالده تيزيه.
أما زهرة فهي زوجة لتاجر موسر في الخامسة والخمسين من عمره، والزوجان لهما ابنة هي صفاء اقترنت بيحيى، وهو شاب في الثلاثين من عمره، وقد أسكنتهما زهرة في البيت الذي تقيم فيه مع زوجها ظافر؛ لتستمر علاقتها الآثمة مع زوج ابنتها هذه العلاقة التي نشأت قبل خطبته لصفاء، تلك الخطبة التي سعت إليها هي بنفسها، وسهلتها ضد إرادة زوجها وعلى غير مشيئة صفاء نفسها، أي: أن هناك فرقًا أساسيًّا بين فيدرا وزهرة، ففيدرا تحب ابن زوجها، أما زهرة فتحب زوج ابنتها، فالاختلاف واضح كما أن زوج فيدرا متغيب في حكم الموتى، أما زوج زهرة فحي يرزق يسمع العلاقة ويشم رائحتها، لكن زهرة تشبيه فيدرا في انتكاس الغريزة، والجرأة على الحياء، ويدير الشاعر الصراع النظري لا الفطري بصورة عكسية بين الأم وابنتها حول محاولة اغتنام الرجل المشترك بينهما، بحيث تكون القوة من طرف الأم والحنان من جانب الابنة؛ ليفجر عاطفتي الشفقة والرعب.
وزهرة ليس لها واجب وضعي محدد، كما أننا لم نرَ لها واجبًا في المسرحية، وكان يمكن أن تكون مراعاتها البشرية القليلة لسمعة زوجها النابعة من سمعتها أو لقيمتها أو للأمومة هي الواجب، فيستوقفها هذا الواجب رويدًا رويدًا إزاء استطراداتها اللإنسانية في ركوب رأسها مع الشهوة المجردة، لقد توقفت فيدرا عند
(1/244)
________________________________________
وثوقها من خبر عودة زوجيها ديزيه، واختلطت الرغبة في الحب المدنس لديه بالشوق للموت، أما زهرة فلقد كانت عصا صلبةً جافةً لا تنكسر، مما يتنافَى مع الطبع، ومع رقاد الثورة والسعار أحيانًا.
وفي موضع رابع من ذات الكتاب يقارن ناقدنا بين شخصية (العباسة)، في مسرحية أباظة المسماة بهذا الاسم، وبين شخصية كليوباترا في مسرحية شكسبير وبرناردشو عن تلك الملكة المصرية، إذ كان هارون الرشيد أخو العباسة قد زوجها فيما تقول بعض الروايات إلى جعفر بن يحيى البرمكي زواجًا صوريًّا؛ كي يحل لهما أن يجالسه الاثنان معًا دون تحرج، فقد كان يحب كُلًّا منهما حبًّا جمًّا، ويريد دائمًا أن يأتنس بهما معًا على ألا يمس جعفر العباسةَ كما يمس الزوج زوجته.
يقول الكاتب: وصراع (العباسة) الحقيقي في المسرحية هو ما بين عاطفتها كأم، وقد أعقبت الحسين كثمرة لقائها مع جعفر، وما بين خوفها على الطفل وقد افتضح أمره من أن تقوم على حضانته لعلم الناس به في بغداد، وهنا مكمن مأساتها الحقيقية من حيث كونها ليست شخصية مسيطرة على غريزتها خالصة للمجد، مثل كليوباترا شكسبير وشوقي التي تعشق المجد، وتخذل حبيبها أنطونيو، وتفر من معركة أكتيوم لسياسة عليا، بل هي كليوباترا برناردشو تلك الطفلة المهزولة التي تحن لرجل مفتول الساعدين؛ فيرثي لها قيصر القوي بأن يرسل لها أنطونيو بدله، وهي أنثى رقيقة موجعة القلب كبطلة راسين، فضلًا عن أنها امرأة عادية تمتلك غريزة حب الزواج والولادة، ورعاية الأولاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/245)
________________________________________
الدرس: 10 قصص الحيوان.
(1/247)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(قصص الحيوان)

مفهوم قصة الحيوان
فنقول: تعرف موسوعة "الإنكارتا الإنجليزية" في طبعتها لسنة 2006 قصة الحيوان في المادة المخصصة لها: بأنها حكايات أو أساطير شعبية تحتل فيها الحيوانات مقدمة الصورة، بوصفها أشخاصًا رئيسيين أو مشاركين مهمين في تطور الأحداث، وتلقي مادة "لزامنو إيجانيير" أي: الحيوانات الخيالية في النسخة الفرنسية من موسوعة "الإنكارتا الشبابية" في طبعتها لسنة 2009 الضوء على تلك النقطة، فتقول: إن الأساطير والحكايات والخرافات في كل بلاد العالم وفي كل العصور، تمتلئ بالكائنات العجيبة ذات الأشكال الغريبة، أو القدرات *****ية، وتعج بعض الحكايات التي من هذا الصنف بحيوانات من كل نوع بعضها متوحش، وبعضها مسالم، وبعضها معادٍ للإنسان، وبعضها خادم له، وكثير منها قد أبدعته الروايات لشرح بعض الظواهر المرعبة، أو التي لا يستطاع تعليلها تعليلًا علميًّا.
كذلك فكثير من حكايات تلك الحيوانات تجسد جوانب من الشخصية الإنسانية، وبعضها يرتبط بدورات الطبيعة إلى آخره، ومن أشهر القصص الحيوانية الحكايات المنسوبة إلى إيسوب أو يعسوب الكاتب الإغريقي القديم، والتي تهتم بوصف مغامرات الإنسان والحيوان، ولكن صاحبها كان يرغب في أن يعلم قراءه شيئًا حول طبيعة الإنسان.
ولعل من أشهر حكاية يعسوب الخرافية قصة (الثعلب وعناقيد العنب)، التي يقول معناها الحرفي: إن ثعلبًا أراد الحصول على عنقود من العنب متدل فوق رأسه، فحاول يائسًا الحصول عليه لكنه لم يتمكن من ذلك مما اضطره في النهاية إلى أن يتخلى عن رغبته، ويقول: إن العنب حامض،
(1/249)
________________________________________
والمعنى الرمزي في تلك القصة هو أن الناس قد يتظاهرون بأن الأشياء، التي لا يمكنهم الحصول عليها ليست بذات قيمة، ومن ثَم فهم لا يبالون بها أو بتملكها، وقد عاش يعسوب أو إيسوب قبل الميلاد بعدة قرون، ويقال: إنه ليس له وجود حقيقي، بل الإغريق هم الذين اخترعوه وامتازت شخصيته بما لها من سرعة بديعة، وقدرة عقلية فذة، وحكمة تنساب على لسانها.
وقد زودت حكايات يعسوب بتعبيرات شهيرة كثيرة، وعلى سبيل المثال فإن العدو الذي يتظاهر بأنه صديق يسمى ذئبًا في ثياب حَمَل، وقد نشأ هذا التعبير من قصة يتنكر فيها ذئب في جلد حمل، ثم يتحرك دون أن يُكتشف وسط قطيع من الخراف، ويقتلها ليأكلها، ومن ناحية أخرى فإن الراعي يحسبه حملًا فيذبحه للعشاء.
ولسنين كثيرة كانت حكايات يعسوب تروى بالتواتر من جيل لآخر، وفي حوالي عام ثلاثمائة قبل الميلاد قام سياسي أثيني اسمه ديمتريوس فاليروس، بجمع حوالي المائتين منها في مجموعة أسماها (تجميعات حكايات يعسوب)، وقد ترجم هذه المجموعة اللاتينية بعد حوالي ثلاثمائة سنة عبد إغريقي عتيق يسمى فيدروس، وفي نحو عام مائتين وثلاثين ميلادية قام الكاتب الإغريقي فاليروس بابليوس بضم حكايات يعسوب إلى بعض الحكايات الهندية، وترجمها شعرًا إغريقيًّا، ومن ذلك الحين عاد كتاب آخرون رواية الحكايات وزادوا من معانيها، إلا أن الحكايات لم تفقد مطلقًا بساطتها وجاذبيتها الأصليين.
وقد وضعت كل الشعوب القديمة تقريبًا حكايات شعبية فيها شخصيات لحيوانات ذات صفات آدمية، فالثعلب مثلًا كان يصور على أنه ماكر، والبومة على أنها عاقلة في بعض الثقافات، ونذير شؤم في ثقافات أخرى، وبمرور الوقت بدأ
(1/250)
________________________________________
الناس يحكون الحكايات لتعليم الأخلاق الحميدة، وأصبحت الحكايات خرافية، ويمكن تعقب أصل الحكايات الخرافية الشعبية في البلاد الغربية إلى بلاد اليونان والهند القديمة، وتنسب معظم الحكايات اليونانية إلى يعسوب.
وقد تأثرت حكايات الشعب الهندي بأن بني البشر يولدون مرة ثانية بعد الموت على هيئة حيوانات، وألف رواة القصص الهنود حكايات كثيرة عن مثل هذا البعث أو الميلاد الجديد، واستخدموه لتلقين مختلف الدروس الأخلاقية، كما وصلت بعض هذه القصص إلى الغرب في بداية التاريخ الميلادي، وتم ضمها إلى المجموعة الأولى لحكايات يعسوب، وخلال القرن السادس قبل الميلاد أو بعده جمع الهنود أفضل حكاياتهم في عمل يسمى (بانشاتانترا)، وعبر القرون أعاد كثير من الكتاب رواية الحكايات الخرافية القديمة، وفي الثقافة العربية الكثير من الخرافات التي تعود إما إلى أصل محلي، أو جاءت من ثقافات أخرى كما في كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع.
وتقول الدكتورة نفوسة زكريا في كتابها (الخرافة في الأدب العربي): إن الخرافة في أدبنا العربي قديمة النشأة، جاء في كتب الأدب طائفة منها متفرقة في مواضع مختلفة جاء أكثرها مع الأمثال لتفسيرها، وهي جميعًا خرافات ذات مغزى، نذكر منها على سبيل المثال قصة ذات الصفا، التي جاءت لتفسير هذا المثل الذي يعد من أمثال العرب المشهورة، كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟ يقول الميداني: أصل هذا المثل على ما حكته العرب على لسان حية أن أخوين كانا في إبل لهما، وكانا بالقرب منهما واد خصيب، وفيه حية تحميه من كل أحد فقال أحدهما للآخر: يا فلان، لو أني أتيت هذا الوادي المكلئ، فرعيت فيه إبلي وأصلحتها، فقال له أخوه: إني أخاف عليك الحية ألا ترى أن لا يهبط
(1/251)
________________________________________
أحد ذلك الوادي إلا أهلكته، قال: فوالله لأفعلن، فهبط الوادي ورعى به إبله زمنًا، ثم إن الحية نهشته فقتلته، فقال أخوه: والله ما في الحياة بعد أخي خير، ولأقتلنها أو لأتبعن أخي، فهبط ذلك الوادي وطلب الحية؛ ليقتلها فقالت الحية له: ألست ترى أني قتلت أخاك، فهل لك في الصلح فأدعك بهذا الوادي تكون فيه، وأعطيك كل يوم دينارًا ما بقيت؟
قال: أوفاعلة أنتِ؟ قالت: نعم، قال: إني أفعل -أي: موافق- فحلف لها وأعطاها المواثيق لا يضرها، وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا، فكثر ماله حتى صار من أحسن الناس حالًا، ثم إنه تذكر أخاه، فقال: كيف ينفعني العيش، وأنا أنظر إلى قاتل أخي، فعمد إلى فأس، فأخذها ثم قعد لها فمرت به فتبعها فضربها، فأخطأها، ودخلت الجحر، فوقعت الفأس بالجبل فوق جحرها فأثرت فيه، فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار، فخاف الرجل شرها وندم، فقال لها: هل لك أن نتواثقَا ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟ وأصبح هذا القول مثلًا يضرب لمن لا يفي بالعهد.
وقد نظم النابغة الذبياني هذه القصة شعرًا، فقال:
وإني لقيت من ذوي الغي منهم ... وما أصبحت تشكو من السر ساهره
كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وكانت تريه المال غبًّا وظاهره
فلما رأى أن ثمر الله ماله ... وأثل موجودًا وسد مفاقره
أكب على فأس يحد غرابها ... مذكرة من المعاول باتره
فقام لها من فوق حجر مشيد؛ ... ليقتلها أو تخطئ الكف بادره
فلما وقاها الله ضربة فأسه ... وللشر عين لا تغمض ناظره
فقال تعالِ نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره
(1/252)
________________________________________
فقالت يمين الله أفعل إنني ... رأيتك مشئومًا يمينك فاجره
أبَى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره
والقصة شعرًا ونثرًا من قصص المواعظ، التي رويت على ألسن الحيوان، وهي جاهلية كما يبدو في صورتها وفي بيئتها أيضًا، ومثل القصة السابقة قصة الثعلب والعنقود، التي وضعت لتفسير المثل: أعجز من ثعالة عن العنقود، أو أعجز عن الشيء من الثعلب عن العنقود، فأصل ذلك المثل كما يقول الميداني: أن العرب تزعم أن الثعلب نظر إلى العنقود فرماه فلم ينله، فقال: هذا حامض وحكى أحد الشعراء ذلك شعرًا، فالمثل جاهلي وقصته جاهلية، أما صياغة القصة شعرًا فيبدو أنها صيغت في العصر الإسلامي، وهذه القصة قد وردت في خرافات لافونتين.

كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية
وعندنا أيضًا كتاب (كليلة ودمنة)، وهو في الواقع أثر أدبي ترك بصماته على كثير من الأعمال الأدبية العالمية، وقد اختلف الدارسون حوله، وكانت النسخة العربية التي ترجمها ابن المقفع، وهو من أهل القرن الثاني الهجري مثار دراسات وأخذ ورد، وترجم النص العربي للكتاب إلى السريانية والحديثة والإنجليزية والفارسية الأولى، ثم الثانية والفارسية الهندية والتركية واليونانية والإيطالية والعبرية واللاتينية الوسطى، ثم اللاتينية القديمة والإسبانية القديمة، أما الترجمات الأوربية الأخرى فأكثرها ترجم عن لغات وسيطة أخذت على النص العربي مباشرةً، وبالنسبة لأصل ذلك الكتاب يقال: إن العالم الفارسي برذويه كان مولعًا بالحكمة والعلم، وكان مقربًا من كسرى أنوشروان، فقرأ في كتاب الهنود أن
(1/253)
________________________________________
لديهم نباتًا ينثر على الميت، فيتكلم في الحال، فارتحل برذويه إلى لهند بتوجيه من كسرى، حيث واجهته مصاعب كثيرة إلى أن عرف أن النبات المقصود هو رمز لكتاب (كليلة ودمنة)، الموجود لدى الراجا حاكم الهند.
وقيل: إن هذا الكتاب كان متوارَثًا عند الحاكم لا يسمح لأحد باستنساخه، إلا أن برذويه بعلمه وحكمته وحسن خلقه استطاع الاطلاع على النسخة الهندية، وكان يرسل إلى كسرى أنوشروان ما يحفظه منها تباعًا، وتولى بوزرج مهر كتابة ما يصل من برذويه، وصدر الكتاب بعد ذلك، وهو يدور حول قصص يرويها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم، واطلع ابن المقفع على النسخة الفارسية للكتاب، وكان لها أثر بالغ في نفسه وتفكيره وثقافته، وكانت الظروف الاجتماعية والسياسية التي تحيط بالفيلسوف الهندي بيدبا في علاقته بالملك دبشليم، تشابه ما كان فيه ابن المقفع مع الخليفة المنصور، الذي كان بحاجة إلى النصح غير المباشر؛ لِمَا عرف عنه من قوة البأس والبطش بكل من لا يمالئه، أو يخرج عن طاعته؛ لذا اتسمت ترجمة ابن المقفع للكتاب بخصوصية ظرفها الزماني والمكاني، فأضاف ابن المقفع بعض القصص من نسج تأليفه، وعدل في بعضها، وأكسب المترجم منها روحًا جديدة من خلال أسلوبه المشوق وعرضه الرائع.
هذا، وتناول الكتاب قصصًا ترجي على لسان الحيوان في ظاهرها؛ لتصل لأهداف أخرى أخلاقية وإصلاحية لشئون المجتمع والسياسة، فالحيوان في (كليلة ودمنة) أداة توظيف لغاية قصدها الكاتب، وقد يتحقق هذا الهدف بعرض الحكمة مباشرة، أو من خلال الفكاهة، التي تظهر في قيام الحيوان بالدور الإنساني تصرفاتٍ أو كلامًا، وقد صرح ابن المقفع أكثر من مرة أن للكتاب غرضًا ظاهريًّا، وآخرَ باطنيًّا.
(1/254)
________________________________________
وقد تناول الدكتور عمر فروخ في المجلد الثاني من كتابه (تاريخ الأدب العربي) النظريات، التي تتعلق بكيفية تأليف ذلك الكتاب، فقال: هناك ثلاث نظريات:
النظرية الأولى: أن الكتاب منقول عن الفهلوية.
أما الثانية: فهي تتخلص في أن الكتاب غير معروف بالآداب القديمة بهذا الشكل، وما دبشليم الملك ولا بيدبا الفيلسوف ولا فور ملك الهند، إلا أعلام منسوبة إلى زمن لم تكن فيه وأمكنة لا تعرفها، ثم إن ما في الكتاب من احتقار للثورة، ومن آيات قرآنية كريمة ومن أحاديث شريفة، ومن آراء لا شك في أنها من صلب الفقه الإسلامي، يدل على أن الكتاب نشأ في بيئة إسلامية عربية محضة.
وهناك نظرية أخرى تقول: إن القصص الواردة في كتاب (كليلة ودمنة) معروفة بأعيانها أو بأشباهها عند اليونان، وعند الفرس وعند الهنود وعند اليابانيين، وعلى هذا يكون عبد الله بن المقفع قد استقى القصص من الأدب الفارسي والهندي، ثم ساقها بسياقه هو واستخلص منها العبر التي يريدها هو، وأضاف إليها وحذف منها. وهذا مثال من كتاب (كليلة ودمنة)، وهو حكاية المسماة القرد والغيلم، وتجري على النحو التالي:
قال دبشليم للملك الفيلسوف: اضرب لي مثلًا الرجل الذي يطلب الحاجة، فإذا ظفر بها أضاعها قال الفيلسوف: إن طلب الحاجة أهون من الاحتفاظ بها، ومن ظفر بحاجة ثم لم يحسن القيام بها أصابه ما أصاب الغيلم، قال الملك: وكيف ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أن قردًا يقال له: ماهر، كان ملك القردة، وكان قد كبر وهرم، فوثب عليه قرد شاب من بيت المملكة، فتغلب عليه، وأخذ مكانه فخرج هاربًا على وجهه؛ حتى انتهى إلى الساحل فوجد شجرة من شجر التين فارتقى إليها، وجعلها مقامه.
(1/255)
________________________________________
فبينما هو ذات يوم يأكل من ذلك التين، إذ سقطت من يده تينة في الماء، فسمع لها صوتًا وإيقاعًا، فجعل يأكل ويرمي في الماء فأطربه ذلك، فأكثر من طرح التين في الماء، وثم غيلم كلما وقعت تينة أكلها، فلما كثر ذلك ظن أن القرد إنما يفعل ذلك لأجله، فرغب في مصادقته وأنس إليه وكلمه، وألف كل واحد منهما صاحبه، وطالت غيبة الغيلم عن زوجته فجزعت عليه، وشكت ذلك إلى جارة لها، وقالت: قد خفت أن يكون قد عرض له عارض سوء فاغتاله، فقالت لها: إن زوجك بالساحل قد ألف قردًا وألفه القرد، فهو مؤاكله ومشاربه، وهو الذي قطعه عنك، ولا يقدر أن يقيم عندك؛ حتى تحتالي لهلاك القرد، قالت: وكيف أصنع؟ قالت لها جارتها: إذا وصل إليك فتمارضي، فإذا سألك عن حالك، فقولي: إن الحكماء وصفوا لي قلب قرد.
ثم إن الغيلم انطلق بعد مدة إلى منزله، فوجد زوجته سيئة الحال مهمومة، فقال لها الغيلم: ما لي أراك هكذا؟ فأجابته جارتها وقالت: إن زوجتك مريضة مسكينة، وقد وصف لها الأطباء قلب قرد، وليس لها دواء سواه، قال الغيلم: هذا أمر عسير، من أين لنا قلب القرد ونحن في الماء؟ لكن سأحتال لصديقي، ثم انطلق إلى ساحل البحر، فقال له القرد: يا أخي، ما حبَسَك عني؟ قال الغيلم: ما حبسني إلا حيائي، فلم أعرف كيف أجازيك على إحسانك لي، وأريد أن تتم إحسانك إليَّ بزيارتك إياي في منزلي، فإني ساكن في جزيرة طيبة الفاكهة، فركب ظهر الغيلم فسبح به؛ حتى إذا سبح به عرض له قُبح ما أضمر في نفسه من الغدر، فنكس رأسه، فقال له القرد: ما لي أراك مهتمًّا؟ قال الغيلم: إنما همي؛ لأني ذكرت أن زوجتي شديدة المرض؛ ولذلك يمنعني من كثير ما أريد أن أبلغه من حرصي على كرامتك وملاطفتك، قال القرد: إن الذي أعرف من حرصك على كرامتك يكفيك مؤونة التكليف، قال الغيلم: أجل.
(1/256)
________________________________________
ومضى بالقرد ساعة، ثم توقف به ثانية فساء ظن القرد، وقال في نفسه: ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إلا لأمر، ولست آمنًا أن يكون قلبه قد تغير لي، وحال عن مودتي فأراد بي سوءًا، فإنه لا شيء أخف وأسرع تقلبًا من القلب، وقد يقال: ينبغي للعاقل ألا يغفل عن التماس ما في نفس أهله وولده وإخوانه وصديقه عند كل أمر وفي كل لحظة وكلمة، وعند القيام والقعود، وعلى كل حال فإن ذلك كله يشهد على ما في القلوب. قالت العلماء: إذا دخل قلب الصديق من صديقه ريبة، فليأخذ بالحزم من الحفظ منه، وليتفقد ذلك في لحظاته وحالاته، فإن كان ما يظن حقًّا ظفر بالسلامة وإن كان باطلًا ظفر بالحزم، ولم يضره ذلك.
ثم قال للغيلم: ما الذي يحبسك؟ أي: ما الذي يوقفك، وما لي أراك مهتمًّا كأنك تحدث نفسك مرة أخرى؟ قال: يهمني أنك تأتي منزلي فلا تجد أمري كما أحب؛ لأن زوجتي مريضة، قال القرد: لا تهتم، فإن الهم لا يغني عنك شيئًا، ولكن التمس ما يصلح زوجتك من الأدوية والأغذية، فإنه يقال: ليبذل ذو المال ماله في أربعة مواضع: في الصدقة وفي الحاجة وعلى البنين وعلى الأزواج. قال الغيلم: صدقت وقد قال الأطباء: إنه لا دواء لها إلا قلب قرد، فقال القرد: وا أسفاه، لقد أدركني الحرص والشر على كِبر نفسي؛ حتى وقعت في شر ورطة، ولقد صدق الذي قال: يعيش القانع الراضي مستريحًا مطمئنًّا، وذو الحرص والشره يعيش معاش ذي تعب ونصب، وإني قد احتجت الآن إلى عقلي في التماس المخرج مما وقعت فيه.
ثم قال للغيلم: وما منعك أن تعلمني عند منزلي حتى كنت أحمل قلبي معي؟ فهذه سنة فينا معاشر القردة إذا خرج أحد لزيارة صديق خلف قلبه عند أهله، أو
(1/257)
________________________________________
في موضعه؛ للنظر إذا نظرنا إلى حرم المزور، وليس قلوبنا معنا، قال الغيلم: وأين قلبك الآن؟ قال: خلفته في الشجرة فإن شئت فارجع بي إلى الشجرة؛ حتى آتيك به، ففرح الغيلم بذلك، وقال: لقد وافقني صاحبي بدون أن أغدر به، ثم رجع بالقرد إلى مكانه، فلما أبطأ على الغيلم ناداه: يا خليلي، احمل قلبك وانزل، فقد حبستني، فقال القرد: هيهات، أتظن أني كالحمار، الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب ولا أذنان، قال الغيلم: وكيف ذلك؟
قال القرد: زعموا أنه أسد في أجمة وكان معه ابن آوى يأكل من فواضل طعامه، فأصاب الأسد جرب وضعف شديد، فلم يستطع الصيد، فقال له ابن آوى: ما بالك يا سيد السباع قد تغيرت أحوالك؟ قال: هذا الجرب الذي أجهدني وليس له دواء إلا قلب حمار وأذناه، قال ابن آوى: ما أيسر هذا، وقد عرفت بمكان كذا حمار مع قصار يحمل عليه ثيابه، وأنا آتيك به، ثم دلف إلى الحمار فأتاه وسلم عليه، فقال له: ما لي أراك مهزولًا؟ قال: ما يطعمني صاحبي شيئًا، فقال له: وكيف ترضى المُقام معه على هذا؟ قال: فما لي حيلة في الهرب منه لست أتوجه إلى جهة، إلا أضر بي إنسان فكدني وأجاعني، قال ابن آوى: فأنا أدلك على مكان معزول عن الناس لا يمر به إنسان، خصيب المرعى فيه، قطيع من الحمر لم ترَ عين مثلها حسنًا وسمنًا، قال الحمار: وما يحبسنا عنها؟ فانطلق بنا إليها.
فانطلق به ابن آوى نحو الأسد، وتقدم ابن أوى ودخل الغابة على الأسد، فأخبره بمكان الحمار فخرج إليه، وأراد أن يثب عليه فلم يستطع لضعفه، وتخلص الحمار منه، فأفلت هلعًا على وجهه، فلما رأى ابن آوى أن الأسد لم يقدر على الحمار، قال له: أعجزت يا سيد السباع إلى هذه الغاية؟ فقال له: إن جئتني به مرة أخرى فلن ينجو مني أبدًا.
(1/258)
________________________________________
فمضى ابن آوى إلى الحمار، فقال له: ما الذي جرى عليك، إن أحد الحمر رآك غريبًا، فخرج يتلقاك مُرحبًا بك، ولو ثبت له لآنسك، ومضى بك إلى أصحابه، فلما سمع الحمار كلام ابن آوى، ولم يكن رأى أسدًا قط، صدقه وأخذ طريقه إلى الأسد، وأعلمه بمكانه، وقال له: استعد له، فقد خدعته لك، فلا يدركنك الضعف في هذه النوبة، إن أفلت فلن يعود معي أبدًا، فجأش جأش الأسد لتحريض ابن آوى له، وخرج إلى موضع الحمار، فلما بصر به عاجله بوثبة افترسه بها، ثم قال: قد ذكرت الأطباء إنه لا يؤكل إلا بعد الغسل والطهور، فاحتفظ به حتى أعود، فآكل قلبه وأذنيه، وأترك ما سوى ذلك قوتًا لك.
فلما ذهب الأسد؛ ليغتسل عمد ابن آوى إلى الحمار فأكل قلبه وأذنيه، رجاء أن يتطير الأسد منه فلا يأكل منه شيئًا، فقال لابن آوى: أين قلب الحمار وأذناه؟ قال ابن آوى: ألم تعلم أنه لو كان له قلب يفقه به وأذنان يسمع بهما لم يرجع إليك بعدما أفلت ونجى من الهلكة؟ وإنما ضربت لك هذا المثل؛ لتعلم أني لست كذلك الحمار، الذي زعم ابن آوى أنه لم يكن له قلب وأذنان، ولكنك احتلت عليَّ، وخدعتني فخدعتك بمثل خديعتك، واستدركت فارط أمري، وقد قيل: إن الذي يفسده الحلم لا يصلحه إلا العلم.
قال الغيلم: صدقتَ، إلا أن الرجل الصالح يعترف بزلته، وإذ أذنب ذنبًا لم يستحِ أن يؤدب لصدقه في قوله وفعله، وإن وقع في ورطة أمكنه التخلص منها بحيلته وعقله، كالرجل الذي يعثر على الأرض ثم ينهض عليها معتمدًا، فهذا مثل الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظفر بها أضاعها.
وقد نقل أبان بن عبد الحميد الشاعر العباسي المعروف كتاب (كليلة ودمنة)، وجعله شعرًا؛ ليسهل حفظه على الناس وهو معروف أوله:
(1/259)
________________________________________
هذا كتاب أدب ومحنة ... وهو الذي يدعى كليلة ودمنة
فيه احتيالات وفيه رشد ... وهو كتاب وضعته الهند
ويقع في أربعة عشر ألف بيت، وانتهى منه في ثلاثة أشهر، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل خمسة آلاف ولم يعطِه جعفر شيئًا، وقال: ألا يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك؟
ويقول ابن المعتز في كتابه (طبقات الشعراء): إنه نظمه في أكثر من خمسة آلاف بيت، وإنه أنجزه في أربعة أشهر، وهذه عبارته نصًّا: هو صاحب البرامكة وشاعرهم، وصاحب جوائزهم للشعراء وهو يستخرجها لهم، ويفرقها عليهم، وهو الذي نقل (كليلة ودمنة) شعرًا بتلك الألفاظ الحسنة العجيبة، وهي هذه المزدوجة التي في أيدي الناس، وكان الذي استدعى ذلك وأراده يحيى بن خالد بن برمك، وكان قد اختار أبا نواس وصار إليه أبان اللاحقي، فقال كالمنتصح: أنت رجل مغرم بهذا الشراب لا تصبر عنه وعن الإشباع بإخوانك عليه، وهو لذتك من الدنيا ومتعتك، وهذا الكتاب مشهور ولم ينتقل لهذا الوقت من المنثور إلى الشعر، وإذا فعل ذلك تداوله الناس وطلبوه ونظروا فيه، فإن أنت تداولته مع تشاغلك بلهوك ولذتك لم يتوفر عليك فكرك وخاطرك، ولم يخرج بالغًا في الجودة والحسن، وإن توفرتَ عليه واهتممت به قطعك ذلك عن لهوك ولذتك ومتعتك، فلا تقدم عليه إلا بعد إنعام النظر في أمرك.
فظن أبو نواس أنه قد نصح له، واستقال الأمر فيه فاستعفى عنه وتخلى به اللاحقي، ولزم بيته لا يخرج حتى فرغ منه في أربعة أشهر، وهي قريبة من خمسة آلاف بيت، لم يقدر أحد من الناس أن يتعلق عليه بخطأ في نقله، ولا أن يقول: ترك من لفظ الكتاب أو معناه، ثم حمله إلى يحيى بن خالد فسُر به سرورًا عظيمًا، وأعطاه على ذلك مائة ألف درهم،
(1/260)
________________________________________
ولابن الهبارية (تاريخ الفطنة في نظم كليلة ودمنة) أي: أنه نظمه أهو أيضًا شعرًا.
وعن أثر (كليلة ودمنة) في الأدب العربي والآداب العالمية، تقول الدكتورة نفوسه زكريا في كتابها (خرافات لافونتين في الأدب العربي): لم تقتصر شهرة كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع بين العرب وحدهم، بل امتد إلى الشرق والغرب وصار الكتاب بعد ضياع الأصل الهندي والترجمة الفارسية الأصل الذي ترجمت عنه لغات العالم، حتى إن الفرس أنفسهم قد ترجموه عدة مرات وفي عصور مختلفة إلى لغتهم، وكان من هذه الترجمات ترجمة حسين واعظ كاشني المعروفة بأنوار سيري، ترجمها في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وأهداها إلى الأمير أحمد السهيلي، أحد الأمراء في عهده ونسبها إليه.
وهذه الترجمة الفارسية التي كان الأصل العربي أساسًا مباشرًا لها، هي التي ترجمها إلى الفرنسية داود ساهل الأصبهاني بعنوان: كتاب الأنوار أو أخلاق الملوك، تأليف الحكيم الهندي بلباي بيدبا، وقد ظهرت هذه الترجمة عام ألف وستمائة وأربعة وأربعين في عهد لافونتين، ولعل لافونتين اطلع عليها وعرف عن طريقها بيدبا الذي يعترف لافونتين نفسه بأنه كان من مصادره، حيث يقول في مقدمة المجموعة الثانية من خرافاته: ليس من الضروري فيما أرى أن أقول هنا: من أين استقيت هذه الموضوعات الأخيرة؟ غير أني أقول فقط اعترافًا بالفضل: إني مدين في أكثرها بالباي بيدبا الحكيم الهندي الذي تُرجم كتابه إلى كل لغات.
ولقد أحدث كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع ازدهارًا في فن القصة المروية على ألسن الحيوان الخرافة في الأدب العربي، لا في عصر ابن المقفع فحسب، بل فيما تلاه من عصور، فمنذ أن عرفت العربية هذا الكتاب اتجهت أنظار أدبائها شعراءًا وكتابًا إلى هذا النوع من القصص، منهم من نظم كتاب (كليلة ودمنة)، ومنهم مَن قلده.
(1/261)
________________________________________
ففي القرن الثاني الهجري نظمه أبان بن عبد الحميد بن لاحق البرامكة في نحو أربعة عشر ألف بيت، ونظمه كذلك علي بن داود وبشر بن المعتمر وأبو المكارم أسعد بن خاطر، وقد ضاعت هذه المنظومات ولم يصلنا منها إلا نحو سبعين بيتًا من نظم أبان بن عبد الحميد، نقلها الصوفي في كتابه (الأوراق)، وفي القرن السادس الهجري نظم ابن الهبارية في كتابه سماه (نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة)، وفي القرن السابع الهجري نظمه ابن مماتي المصري القاضي الأسعد لصلاح الدين الأيوبي، وضاع نظمه، ونظمه عبد المؤمن بن الحسن الصاغاني في كتابه سماه (درر الحكم في أمثال الهنود والعجم)، ومنه نسخ خطية في فيينا وميونخ، وقد نُسب هذا الكتاب لابن الهبارية.
وفي القرن التاسع الهجري نظمه جلال الدين النقاش، وتوجد نسخة من نظمه في مكتبة الآباء اليسوعيين في بيروت، وأخرى في المتحف البريطاني.

جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات
ولم يقتصر عمل أدباء العربية على نظم كتاب (كليلة ودمنة)، بل قام كتاب (ثعلى وعفراء)، وألف ابن الهبارية كتاب (الصادح والباغم)، وألف ابن الظفر كتاب (سلوان المطاع في عدوان الطباع) وألف ابن عربشاه كتاب (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء)، واستمرت قصص كتاب (كليلة ودمنة) موضع اهتمام أدباء العربية؛ حتى عصرنا الحديث فرأينا في نهاية القرن الماضي شاعرًا من شعراء الجزيرة العربية من الأحساء، هو الشاعر أحمد بن مشرف، أحد شعراء الرعيل الأول ممن أرسوا دعائم النهضية الشعرية الحديثة في المملكة العربية السعودية، والذي ثقف ثقافة عربية خالصة ينظم قصصًا سهلة على ألسنة الطيور
(1/262)
________________________________________
والحيوانات، مستلهمًا في ذلك قصص (كليلة ودمنة)، أما باسم الآداب العالمية فقد استلهم هذه القصص جاندي لافونتين، الذي ولد عام ألف وستمائة وواحد وعشرين، وتوفي عام ألف وستمائة وخمسة وتسعين، ويعتبر أشهر كاتب قصص خرافية في تاريخ الأدب الفرنسي؛ حتى ليقول عنه فلوبير: إنه الشاعر الفرنسي الوحيد الذي استطاع أن يفهم تراكيب اللغة الفرنسية، ويتمكن من استخدامها قبل عصر هيجو.
وفيما تركه لافونتين من شعر قصصي يدور حول الحيوانات تقول الدكتورة نفوسة زكريا: إنه لم يشرع في كتابة خرافاته إلا في سن السابعة والأربعين بعد أن تم نضجه وتكوينه، وبعد أن أطال البحث عن أقرب الفنون الأدبية إلى ميله واستعداده؛ حتى اهتدى إلى أن فن الخرافة هو الذي يلائمه، وأخذت خرافاته تتابع في الظهور، صدرت في ثلاث مجموعات تضم اثني عشر كتابًا ما بين عام ألف وستمائة وثمانية وستين، وعام ألف وستمائة وأربعة وتسعين، وقد أهداها إلى ولي عهده لويس الرابع عشر ملك فرنسا وقتذاك؛ لأنه كما جاء في كلمة الأهداء الرقيقة يرغب في تسلية الأمير، وفي الوقت نفسه أن يقدم إليه دروسًا جادةً يتلقاها بلذة، آملًا أن يكون لهذه الدروس والصفات العظيمة التي ورثها الأمير عن والده أثر في نمو النبت الصغير، الذي سوف يستظل به كثير من الشعوب والأمم.
ولم يكن لافونتين مخترع فن الخرافة وإنما استفاد من كل من سبقه من أمثال إيسوب اليوناني، وفيدر اللاتيني، وبلباي أو بيدبا الهندي، ومن أدباء الخرافة الفرنسيين في العصور الوسطى وفي القرن السادس عشر من أمثال مارو ورابليه، ومن الكتابات المختلفة في الخرافات عند الأمم القديمة شرقية وغربية.
(1/263)
________________________________________
ولكن ما هو الجديد الذي حققه لافونتين، واستحق به أن يكون أبا المنظومات الخرافية في العالم أجمع، إن لافونتين في الواقع إن كان قد استفاد من غيره، فإنه وسم كل ما أخذه بطابع فنه، وهذا هو سر عبقريته ونبوغه، وقد كشف هو نفسه عن هذا السر في قوله: بعض المقلدين أعترف أنهم كالحمقى من الأنعام، إذ يتبعون راعي مانتو تمامًا كالأغنام، إنني أتصرف على وجه آخر، فحينما يؤخذ بيدي فأنقاد كثيرًا ما أسير وحدي سعيًا وراء السداد، سترون أنني أفعل مثل هذا على الدوام، فما كان اقتدائي أبدًا بعبودية واستسلام، لا آخذ غير الفكرة والطريقة والقانون التي كان أساتذتنا أنفسهم يتبعون، على أنه إذا أعجبني عندهم بعض المواضع الرائعات، وأمكن أن تسلك بين أشعار من غير إعنات، فأنا أنقلها وأريد أن أنتقي التكلف العقيم، حين أن أجهد أن أسمى بطابعي ذلك اللحن القديم.
ولا شك أن ما يقوله لافونتين إنما هو المنهج السائد بين أدباء أوربا في هذه الفترة، التي كانت فيها كتابات اليونان والرومان بصفة خاصة تمثل النموذج الأعلى، الذي ينبغي احتذاؤه على أن لافوتين يقر بإبداعه في الصياغة، ويعني بها الشكل بصورة عامة، وهو الجانب الإبداعي الذي يفرق بين شاعر وآخر في كل مقاييس النقل الأدبي، وكانت الخرافة قبل لافونتين في اليونانية أو اللاتينية حكاية قصيرة بسيطة، تنتهي عادة بدرس أخلاقي هو غايتها الأساسية؛ ولذلك كانت العبارة التي تُختتم بها خرافات إيسوب اليوناني، ولا تكاد تتغير هي: "هذه الحكاية توضح أن"، ثم ينشق الدرس الأخلاقي الذي تتضمنه،
(1/264)
________________________________________
كما نهج فدر اللاتيني نهج إيسوف في مفهومه لغاية الخرافة، فصرح بأن كل ما يطلب من الخرافات هو أنها تصحح أخطاء الناس، ولكن لافونتين تولى الخرافة إلى عمل فني متكامل العناصر أراد أن يحقق من ورائه غايتين: التثقيف والمتعة الفنية؛ لأنه رأى كما يقول في مقدمة خرافاته: أن الخرافات تتكون من جزأين، يمكن أن نسمي أحدهما جسمًا والآخر روحًا.
فالجسم هو الحكاية، أما الروح فهو المعنى الخلقي للحكاية؛ ولكي يشف الجسم عن الروح لا بد من إجادة تصويره تصويرًا يثير كل ما للروح من خصائص؛ ولهذا حرص لافونتين على توفر المتعة الفنية في خرافاته، لقد تناول لافونتين في خرافاته الموضوعات التقليدية التي تناولها من سبقه من كتاب الخرافات، ولكنه بث فيها الحياة والقوة والجمال بما سكبه فيها من طبعه الفني، وعاطفته القوية، ونكتته الحلوة الرفيعة، وسخريته اللطيفة، وملاحظاته الدقيقة، ومقدرته على الغوص إلى أغوار النفوس، والإحساس بالواقع، وبذلك استطاع أن يقدم من خلال تلك الموضوعات لوحة كاملة للمجتمع الفرنسي في عصره، بل للمجتمع الإنساني بعامة، أو حسب تعبيره هو في مقدمة خرافاته: تمثيلية واسعة الآفاق في مائة فصل، تجري حوادثها على مسرح هذا العالم، عرض في خلالها الناس في مختلف طبقاتهم: الملوك، السادة، الجادين، العلماء، الفلاحون، وبمختلف طبائعهم: المتكبرون، الجبناء، الاستغلاليون، السذج.
عرض هؤلاء جميعًا خلف ستار من الرموز التي تتطلبها الخرافة: الحيوانات، والنباتات، والجمادات، والإنسان، وكانت الحيوانات أبرز تلك الرموز؛ حتى
(1/265)
________________________________________
أطلق عليها "حيوانات لافونتين"؛ لمقدرته الفائقة في رسم مظاهرها المادية، وحسن اختياره للصفات المعنوية المناسبة لها، وملاحظاته الدقيقة لغرائزها على نحو قليل من غرائز الإنسان، فكان الأسد يرمز للملك والثعلب يرمز للوزير أو رجل الحاشية، والدب يرمز للفلاح إلى آخره.
ولم يقتصر تجديد لافونتين في طريقته تناوله لموضوعات خرافاته فحسب، بل شمل تجديده القالب والصياغة، فقد أفرغ تلك الموضوعات في قوالب متنوعة، كالقصة أو التمثيلية أو يجعل منها موقفًا نقديًّا أو تصويرًا للحيوان والإنسان والطبيعة، وافتن في كتابتها فاستخدم أسلوبًا رشيقًا مركزًا وأوزانًا كثيرة متنوعةً، معتمدًا على ثرائه اللغوي الواسع، الذي لم يقف عند حدود اللغة القاموسية، بل شمل اللهجات المحلية ولهجات العمال وأصحاب الحرف، ومعتمدًا أيضًا على حسه الموسيقي الدقيق، سواء في اختيار الكلمة المناسبة لموضوعه، أم في اختيار الوزن الذي يماشي الفكرة أو العاطفة الوزن الخفيف السريع للفكرة القريبة، والوزنة الطويلة للفكرة العميقة، مما كان له أثر في إشاعة الحياة والحركة في خرافاته، أما الدرس الأخلاقي الذي كان غاية الخرافة عند كتابها الأوائل فقد وفاه لافونتين حقه، بل إنه جدد أيضًا في استخلاصه وفي عرضه لم يسقه بالطريق المباشر، الذي يشعر القارئ بأن هذا الدرس قد فرض عليه فرضًا، وإنما جعل القارئ يستنبطه من تلقاء نفسه من خلال ترتيب أحداث الخرافة، وتسلسل أفكارها، كما أنه لم يجعل موضع هذا الدرس في نهاية الخرافة شأن من سبقه من كتاب الخرافات، وإنما جعل موضعه في أول الخرافة حينًا وفي نهايتها حينًا آخر حسب ما كان يتطلب الموقف.
(1/266)
________________________________________
هذا هو الجهد الذي بذله لافونتين في فن الخرافة، الذي بز فيه السابقين واللاحقين؛ حتى صار مثالًا لمن حاكاه من في الآداب جميعًا.
فينبغي أن نتوقف بصفة خاصة عند محمد عثمان جلال الذي كان أول مَن نقل من ظلمات لافونتين الخرافية للغة العربية، بل إنه كان أول من قام بنقل عمل أدبي شعري من لغة أجنبية في العصر الحديث، وهو أديب مصري من صميم الريف من "ونا القمر" بمديرية بني سويف، نشأ في عصر تكوين مصر الحديث، وشهد في خلاله تطور مصر في عهد حكامها محمد علي وإبراهيم وعباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق وعباس الثاني، فكان ثمرة من ثمار هذا التطور، ولبنة من اللبنات التي دفعته للأمام، وقد تلقى تعليمه في المدارس المصرية؛ حتى تخرج من مدرسة الألسن على يد رفاعة رافع الطهطاوي، ثم تولى عدة مناصب حكومية كان آخر ما تولاه منها منصب قاض في المحاكم المختلطة عام ألف وثمانمائة وواحد وثمانين.
أما منظومات لافونتين الخرافية التي نحن بصدد الكلام عنها، والتي وضعها محمد عثمان جلال في كتاب بعنوان (العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ)، فكانت أول عمل أدبي قام بنقله عن الفرنسية، شرع في نقلها في عهد عباس الأول، وفي ذلك يقول: ونقل الملك بعد وفاة إبراهيم باشا إلى المرحوم عباس باشا -رحمه الله- فرتب المدارس بوجه آخر، وجعل تلامذة الفقه يحضرون المحاسبة تحت نظارة عبد الرحمن بك؛ قصدًا لإزالة تسلط القبط على هذا الفن وجعله تحت يد المسلمين، وكنت أود أن أكون ضمن المحاسبين، ولكن الله تعالى رزقني بغير حساب ومَنَّ عليَّ بالصحة في ديوانها، فأخذت أترجم في الأوقات الخالية كتاب (لافونتين)، وهو من أعظم
(1/267)
________________________________________
الآداب الفرنساوية المنظومة على لسان الحيوان من باب (الصادح والباغم) و (فاكهة الخلفاء).
وقد انتهى من ترجمة الكتاب في عهد سعيد باشا، وقدمه إليه آملًا أن يظفر منه بالقبول الحسن، ولكن سرعان ما خاب أمله، ويصف لنا هذه الخيبة بالروح الفكهة الساخرة التي اشتهر بها، فيقول: وعرضتها على الوالي بواسطة المرحوم مصطفى فاضل، وكان قد أوصلني إليه محمد علي الحكيم، فما أثمر غرسها وما نفع درسها، فاتفقت مع رجل فرنساوي له مطبعة من الحجر يسمى يوسف بير، وعهدته بطبعها فتعهد، ثم أخلف ما وعد، فكلفت مطبعة أكبر من مطبعته وصرفت عليها ما جمعت ونشرتها، ثم بعت الحمار وبعتها.
ويقول محمد عثمان جلال: هذه الخرافة محافظًا على جميع معالم العنوان الفكرة الإطار القصصي، الذي وضع فيه من جميع عناصره، التمهيد الحوار المفاجأة الخاتمة، وكل ما أحدثه من تغيير هو نقل الخرافة إلى جو عربي إسلامي، تشيع فيه روح الفكاهة بإضافة سحق الياقوت والمرجان بالإضافة إلى الأعشاب للمعالجة، التي وردت في خرافة لافونتين وتحديده الكرش مكانًا لداء الحصان، والتعبير عن أسى الذئب لشكى الحصان بأنه يشعر وكأن ضمانًا في كبده، كما أن عثمان جلال تحرر في صياغة الخرافة من أصل النقل، فابتعد عن لغة لافونتين الكلاسيكية الرفيعة، وكتبها بلغة عربية سهلة وفي أسلوب تهكمي ساخر، يضاهي أسلوب لافونتين من هذه الناحية، حتى بدت الخرافة وكأنها من تأليفه على الرغم من قربها الشديد من خرافة لافونتين.
وهناك نماذج أخرى تصرف في تعريبها تصرفًا واسعًا، طمس معالمها وأبعدها عن نصوصها الأصلية، نذكر منها على سبيل المثال خرافة السلحفاة والأرنب.
(1/268)
________________________________________
ومن شأن قصص الحيوان عند محمد عثمان جلال قوله:
قد وقعت في يد شخص حية ... ولم تكن ميتة بل حيه
ورام أن يكسر منها الراس ... وأن يريح من أذاها الناس
أدخلها كيسًا وقال: ذوقي ... لأحرمنك المشي في الطريق
لأن من دأبه الخيانة ... لا يستحق الحفظ والصيانه
منكرة الإحسان والمعروف ... مثلك حقًّا بالهلاك كوفي
قالت له: ما خان بين العالم ... وخاس بالعهد سوى ابن آدم
وإن يكن ما قلت غير الحق ... فأمر بتضييعي أو بشنقي
قال لها الإنسان: إن المدعي ... بلا شهود عندنا لم يُسمع
قالت: من الشهود عندي عشرة ... وقد أشارت وقتها لبقرة
ومذ أتت كلفت الشهادة ... ونطقت على خلاف العادة
قالت: كلام الحية الصواب ... كل سؤال وله جواب
أما ابن آدم فمثل الجمرة ... لا يحفظ العهد ولو في تمرة
يا طالما أطعمته من زبدي ... ولحم آبائي ولحم ولدي
وأنزلوا الحرث وآتي النورجا ... وإن رجوت راحة خاب الرجا
بل بعد كدي وانبرى ضلوعي ... أُربة ظلمًا بالظما والجوع
قال لها الإنسان: أنت كاذبة ... قالت له: سل ابن عمي شنذبه
فجاء وهو الثور في كليله ... وحوله من المواشي عيله
وقال: قد سمعت ما تقول ... وشاهدوا من جسمي النحول
إني وأهلي لم نزل في الخدمة ... عند ابن آدم الخئون النعمة
يأكل من لحومنا ما يشتهي ... وقط عن عذابنا لا ينتهي
(1/269)
________________________________________
وهو بهذا للصنيع ناكر ... والحق لا يجحده المكابر
قال ابن آدم: شهود زور ... يلزمهم في ذلك التعزير
نسأل يا حية تلك الشجرة ... تشهد لي شهادة بعشرة
فنطقت بمنطق فصيح ... وأخبرت بالخبر الصحيح
قالت: وحق زمن الربيع قد ... ضاع في ابن آدم صنيعي
أظله في القيظ تحت ظلي ... أكفيه شر وابل وطل
وكلما تنضج فوقي ثمرة ... أرمي بها إليه بل بالعشرة
ومنظري يسره بالخضرة ... فيتلالى وجهه بالنضرة
ومع هذا كله يقطعني ... للنار أو في بِركة ينقعني
ولم يسل عما جنى من خيري ... يجني معي كما جنى مع غيري
فالتهب الإنسان غيظًا ونفر ... وقتل الحية ظلمًا بحجر
وهكذا العتو شأن الأمرا ... أظلم منه في الناس لم أرَ
تسمع منهم صيحة وضجة ... إن أنت ألزمتهم بالحجه
ومما عرضناه في هذه النماذج التي أجرينا فيها مقارنة بين ما كتبه محمد عثمان جلال، وبين ما كتبه لافونتين تتبين لنا الحقائق التالية:
أولًا: أن محمد عثمان جلال لم يكن مترجمًا لخرافات لافونتين بالمعنى الحرفي للترجمة، وإنما كان ناقلًا لها بتصرف يتفاوت مقداره من خرافة إلى أخرى معربة كانت أم ممصرة.
ثانيًا: أن مصرية محمد عثمان جلال قد غلبت عليه إلى حد كبير، وتجلى ذلك في استخدامه أمثالًا شعبية مصرية، وتعبيرات مصرية، بل تعدى ذلك إلى الإضراب عن استعمال اللغة العربية الفصحى في بعض الخرافات، وكتابتها بالزجل العامي المصري.
(1/270)
________________________________________
ثالثًا: مزج محمد عثمان جلال بين مصدره الرئيسي في الخرافات، وهي خرافات لافونتين وبين مصادر أخرى عربية استقى منها المغزى الخلقي، كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وأشعار العرب وأمثالهم.
رابعًا: تعددت الأوزان التي استخدمها محمد عثمان جلال تعددًا كبيرًا، وهو أحيانًا يكتب في قافية موحدةً، وأحيانًا أخرى يكتب في المزدوج.
خامسًا: هناك حقيقة أخرى كشفت عنها دراسة (العيون اليواقظ)، وهي أن محمد عثمان جلال لم يقتصر على نقد خرافات لافونتين، ولكنه نقل من الشعر العربي وتاريخ العرب وأمثالهم حكايات عربية خالصة.
وتصل الدكتورة نفوسة زكريا إلى أمير الشعراء ودوره في هذا المجال، فتقول: لقد صرح شوقي في مقدمة ديوانه الذي صدر عام ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين بمحاكاته للافونتين في نظم الخرافة، فقال: فجربت خاطري في نظم الحكاية على أسلوب لافونتين الشهير، وفي هذه المجموعة شيء من ذلك، فكنتُ إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئًا منها يتفهمونه لأول وهلة، ويأنسون إليه ويضحكون من أكثره وأنا أستبشر بذلك، وأتمنى لو وفقني الله لأجله لأجعل لأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة منظوماتٍ قريبة المتناول، يأخذون الحكمة والأدب من جلالها على قدر عقولهم.
وواضح مما ذكره شوقي أن الدافع الرئيسي له على نظم الخرافات هو الرغبة في إيجاد شعر للأطفال له هدف تعليمي، ويبدو أن هذه الرغبة كانت صادقة إلى حد بعيد، بل لعلها أكثر صدقًا من هذه الناحية من لافونتين نفسه، إذ يرى بعض
(1/271)
________________________________________
الدارسين للافونتين أن لافونتين في حياته الخاصة كان بعيدًا عن حب الأطفال والعناية بهم حتى طفله الوحيد لم يكن موضع اهتمامه، فالرغبة إذن في كتاب الأطفال خاصة لم تكن الهدف الأول للافونتين، بقدر ما كانت هدفًا لشوقي، الذي يؤكد لنا تاريخ حياته وسائر شعره حبه للأطفال بعامة وأطفاله بخاصة، وانشغاله بمستقبلهم وأطفال الفقراء منهم، وحرصه على تثقيفهم لا في الخرافات المنظومة فحسب، وإنما في قصائد ومقطعات من شعره.
وازداد اهتمام شوقي بنظم الخرافات بعد أن جرب بنفسه تأثيرها على أحداث المصريين، كما قال في المقدمة السابقة، فأخذ يتابع نظمها، ولكنه لم يعنى بجمعها في ديوان خاص كما فعل لافونتين، بل نشر عددًا منها في حياته في الطبعة الأولى من (الشوقيات)، وأعاد نشرها في الطبعة الثانية، ولكن الطبعات التالية للشوقيات أهملت نشر الخرافات؛ حتى كادت تتعرض للضياع لولا أن تدارك محمد سعيد العريان الذي قام بتحقيق ونشر الجزء الرابع من (الشوقيات) سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وألف، فأفرد لها بابًا في هذا الديوان، بعنوان: الحكايات، جمع فيه ما تفرق من خرافات شوقي إلى جانب ما نشر منها في طبعة (الشوقيات) الأولى، وعدد هذه الخرافات أو كما سماها الحكايات خمس وخمسون حكاية، تقع في تسعة وسبعمائة بيت، وصل هذا العدد إلى ست وخمسين حكاية في الطبعة الثانية للجزء الرابع من الشوقيات، التي صدر سنة ألف وتسعمائة وإحدى وخمسين، وتقع في ثلاثين وسبعمائة بيت.
وفي سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف عثر محمد صبري السربوني على حكايات أخرى لشوقي، فنشرها في كتابه (الشوقيات المنشودة)، الذي ضم فيه آثار شوقي التي لم يسبق نشرها، وعلى الرغم من هذا الإهمال الذي تعرضت له حكايات شوقي، فإنها قد شاعت قبل أن تجمع في الجزء الرابع من (الشوقيات)
(1/272)
________________________________________
وفي الشوقيات المجهولة، وعرفت طريقها إلى الكتب المدرسية مثل اليمامة والصياد، والثعلب والديك، والوطن، وحكاية عن عنصرين أبيا ترك وطنهما الحجاز، والذهاب إلى بلاد اليمن حيث الطعام والشراب أوفر وأشهى.
وتدور الحكايات المنظومة عند شوقي حول موضوعات شتى، منها موضوعات إنسانية عامة تكشف عن نواحي الخير والشر في الإنسان، وما يترتب عليها من عواقب مثل حكاية سليمان -عليه السلام- والحمامة، وهي تحكي قصة الفضول الإنساني، وسقوط الإنسان في هوة الخيانة، ومن الموضوعات التي تناوله شوقي في حكاياته أيضًا موضوعات تتصل بالحياة القائمة في عصره، إجتماعية وسياسية، مثل حكاية الديك الهندي، والدجاج البلدي، التي قصد فيها تنبيه المواطنين على وجوب الحذر في علاقتهم بالأجنبي الدخيل.
وكانت هذه قضية عصره قد رمز إلى المحتل الدخيل بالديك الهندي، وإلى المواطنين بالدجاج البلدي، مبينًا الأساليب التي اتخذها الديك الهندي لتوطيد أقدامه في بيت الدجاج البلدي، الذي لم يفطن إلى تلك الأساليب إلا بعد فوات الأوان، وهي الأساليب نفسها التي دخل بها الإنجليز مصر في ذلك العهد. المزاعم الباطلة في الرعية في الإصلاح ونشر العدل والأمن في البلاد، والوعود الكاذبة في إقامة مؤقتة تنتهي بانتهاء الإصلاحات واستتباب الأمن.
وإلى جانب هذه الموضوعات اقتبس شوقي موضوعات معينة من خرافات لافونتين مثل: الموضوع الذي صور فيه لافونتين حيلة من حيل الثعلب للإيقاع بديك اشتهى أكله، وذلك في حكاية الديك والثعلب، وقد اقتبس شوقي موضوع هذه الخرافة من لافونتين، ولكنه أضفى عليه شخصيته إلى حد بعيد، وأعمل فيه فنه بالتحوير والتبديل ووضع فيه لمسات عربية وإسلامية، فقال:
برز الثعلب يومًا ... في شعار الواعظينا
(1/273)
________________________________________
فمشَى في الأرض ... يهدي ويسب الماكرينا
ويقول: الحمد لله ... إله العالمينا
يا عباد الله توبوا ... فهو كهف التائبينا
وازهدوا في الطير ... إن العيش عيش الزاهدينا
واطلبوا الديك يؤذن ... لصلاة الصبح فينا
فأتى الديك رسول ... من إمام الناسكينا
عرض الأمر عليه ... وهو يرجو أن يلينا
فأجاب الديك عذرًا ... يا أضل المهتدينا
بلغ الثعلب عني ... عن جدود الصالحينا
عن ذوي التيجان ممن ... دخل البطن اللعينا
أنهم قالوا وخير القول ... قول العارفينا:
مخطئ مَن ظن يومًا ... أن للثعلب دينا
وهناك من حكايات شوقي ما استقى موضوعها من مصدر عربي قديم، كما نرى في حكاية "الصياد والعصفورة"، فهذه الحكاية قد أوردها ابن عبد ربه في (العِقد الفريد) في كتاب "الجوهرة في الأمثال" تحت عنوان: مثل في الرياء وتتميز الخرافة عند شوقي إلى جانب تنوع موضوعاتها إلى كثير من السمات الفنية في صياغته لتلك الموضوعات، وأول ما نلاحظه من تلك السمات روح الفكاهة التي أضفاها على الخرافة، والتي تعكس جانبًا أصيلًا في شخصيته، فقد كانت لشوقي خصائص في إخوانه تفيض بأبدع وأرقى أنواع الفكاهة، كما كانت قصائده الجدية لا تخلو من بيت أو أبيات فُكاهية، ويعتبر عباس محمود العقاد هذه
(1/274)
________________________________________
الأشعار الفكاهية الباب الوحيد الذي ظهر فيه شوقي بملامحه الشخصية؛ لأنه أرسل نفسه فيها على سجيته، وانطلق من حكم المظهر والصنعة والقوالب العرفية التي تنطوي فيها ملامح الشخصية وراء المراسم والتقاليد، ووجدت روح الفكاهة عند شوقي مجالًا ومنطلقًا في الخرافات التي نظمها كما قال: لأحداث المصريين الذين كانوا يلذ له أن يمتعهم، ويدخل البهجة والسرور إلى قلوبهم إلى جانب الرغبة في تثقيفهم.
ولقد صاغ شوقي هذه الخرافات صياغة تختلف عن صياغة شعره التقليدي لا من حيث الأصالة والشاعرية والمقدرة الموسيقية، بل من حيث السهولة والبساطة في الصياغة والتعبير، فقد رصفها في أوزان قصيرة خفيفة تتناسب هذا اللون من القصص، وإن كان قد أكثر من استعمال الرجز كما نَوَّع قوافيها، فكان يستخدم أحيانًا قافية متحدة في الخرافة، وفي أحيان أخرى يستخدم قافية مزدوجة، كما كانت الخرافة عنده تختلف طولًا وقصرًا حسبما يتضمنه موضوعها من أفكار.
أما اللغة التي كُتِبت بها خرافاته فكانت العربية الفصيحة السهلة، ولعلنا نلاحظ الفرق الهائل بين لغة شوقي في الخرافات ولغة محمد عثمان جلال، فعلى الرغم من بساطة اللغة التي استخدمها شوقي في كتابة خرافاته وسلاسة التعبير وسهولته لم ينحرف إلى العامية، ولا إلى ألفاظ وتعبيرات مبتذلة كما فعل محمد عثمان جلال، ولعل ذلك كان من بين الأهداف التي أرادها شوقي لتثقيف الأطفال عن طريق الخرافة، وهو تقويم ألسنتهم، وتعويدهم على النطق بفصيح الكلمات بدون مشقة أو جهد.
ولم يقتصر افتنان شوقي في خرافاته على طريقة تناوله الموضوع وصياغته، بل إننا نراه يفتن أيضًا في إيراد الحكمة التي هي روح الخرافة كما قال لافونتين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/275)
________________________________________
الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية.
(1/277)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(أجناس الأدب النثرية)

القصة، والملحمة
فنقول: تاريخ القصة هو تاريخ الإنسان إذ واكبته القصة منذ البداية الأولى، وإن كانت أشكالها الفنية تختلف وتتطور من عصر لعصر تبعًا لتطوره الفني والإبداعي، وإلا فماذا كان يفعل البشر في أوقات فراغهم حين يكون هناك كلام بين اثنين أو أكثر، وليس ثم موضوع يحتاج إلى نقاش أو حل إلا أن يتسلوا بأن يحكي كل منهم على مسامع الآخرين ما قابله وما شاهده، مما يعرف أنه ليس لهم به علم أو أن من شأنه إدخال التسلية على قلوبهم، ولم يكن هناك في ذلك الوقت فاصل بين الحقيقة والخيال والأوهام، وإذا كان كثير من الناس حتى في البلاد المتقدمة علميًا ما زالوا غير قادرين حتى الآن على هذه التفرقة في بعض الأحيان، فما بالنا بالإنسان الأول؟!
وعلى هذا فمن الطبيعي جدًّا أن يختلط كل ذلك فيما كان يحكيه على مسامع الآخرين من حكايات وقصص، وقد كان جل تفكيره في ذلك الوقت تفكيرًا خرافيًّا وأسطوريًّا فانعكس ذلك بطبيعة الحال على القصص التي يرويها، وكانت معظمها قصصًا خرافية أسطورية.
وقد احتاج الأمر وقتًا طويلًا جدًّا حتى تغيرت الأمور وصارت القصص تاريخية وواقعية، بل إننا حتى الآن ورغم كل هذا التقدم العلمي الجبار ما زلنا نَحِن إلى الخرافات والأساطير، حتى لقد اخترعنا في عصرنا هذا ما يسمى بالواقعية *****ية، وهي لون من القصص تختلط فيه الحقائق بالخيالات والأوهام التي لا تمت إلى الواقع بصلة.
(1/279)
________________________________________
فإذا تكلمنا عن الفن القصصي كما وصلنا في بداياته الأولى وجدنا الملاحم التي لا تفرق بين واقع ووهم؛ لأن الإنسان الذي أبدع لم يكن يفرق بين واقع ووهم، بل كان يعتقد بوجود تلك الكائنات الخرافية التي تعج بها ملاحمه، ويتصور أن الآلهة تعيش في الدنيا كما يعيش البشر وتتصرف كما يتصرفون، وأن من الممكن تمامًا أن ينزل الإنسان مثلًا إلى ما تحت الأرض وأن ***** قادر على تغيير هيئته وشكله، وهكذا. والمعروف أن الملحمة قصيدة قصصية شديدة الطول تدور عادةً حول أعمال بطولية ووقائع ذات دلالة لأمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات.
ويفرق الدارسون بين نوعين من الملاحم: النوع القديم كملحمة "جلجامش" وملحمة "الإلياذة" لـ "هومرس" الإغريقي، والنوع الأحدث أو الثانوي مثل "الإنيادة" لـ"فرجيل" الروماني و (الفردوس المفقود) لـ"جون ملتون" الإنجليزي، وهذا النوع الأخير هو من إبداع أدباء كبار معروفين استعملوا له لغة أدبية راقية، ونسجوه عامدين على منوال تلك الملاحم القديمة، التي كانت في الأصل شفوية غير مكتوبة وإن كان قد تم تسجيلها كتابة بعد ذلك فوصلت من ثم إلينا.
وهناك عدة خصائص تميز الملحمة عن غيرها من الأجناس الأدبية، وتتلخص هذه الخصائص في أن يكون بطل الملحمة شخصًا جليلًا ذا مكانة كبيرة بين أبناء وطنه أو في العالم أجمع،
(1/280)
________________________________________
ويحظى بأهمية تاريخية أو أسطورية، كذلك ينبغي أن يكون ميدان الأحداث شديد الاتساع بحيث يشمل كثيرًا من الأمم والبلاد المختلفة، وأن تتسم تصرفات البطل بالشجاعة الفائقة حتى لا تكون خارقة في كثير من الأحيان، فضلًا عن مشاركة الآلهة والملائكة والشياطين فيها، مع حرص المؤلف على فخامة الأسلوب والموضوعية في رواية الوقائع ورسم الشخصيات بكل سبيل.
وعلى وجه العموم، نرى البطل يقوم برحلة يلقى فيها خصومًا، يحاولون إنزال الهزيمة به ليعود في نهاية المطاف إلى بلاده وقد تغير، فلم يعد كما كان، وهو في كل ذلك يعكس الملامح القومية والخلقية التي تميز أمته، ويأتي من الأعمال ما يمثل أهمية قصوى لتلك الأمة، وقد قام كاتب مادة الملحمة في "موسوعة الويكيبيديا" في نسختها الإنجليزية في نهاية المادة بتزويدنا بقائمة لأهم الملاحم المعروفة في العالم، مرتبةً تاريخيًا بدءًا من القرن العشرين قبل الميلاد حتى عصرنا هذا، وتتوالى في تلك القائمة عشرات بعد عشرات من أسماء الملاحم بعضها لا يزال موجودًا حتى الآن وبعضها مفقود، فعدد الملاحم إذن أضخم كثيرًا جدًّا مما يُظن عادة، وبخاصة إذا عرفنا أن هذه القائمة لا تضم كل الملاحم المعروفة، فضلًا عن أن هناك ملاحم لا تزال مجهولة حتى الآن.
ولعل ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية يوم الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة ألفين وأربعمائة تحت عنوان: اكتمال أقدم ملحمة صينية، يعطينا لمحة في هذا
(1/281)
________________________________________
الصدد، إذ جاء في الخبر أن الصين أعلنت عن اكتمال أطول ملحمة شعرية على مستوى العالم، وهي الملحمة المعروفة باسم "الملك قصار" التي لا أذكر أن أحدًا أورد اسمها مجرد إيراد بين ملاحم العالم، وذلك إثر العثور على الجزء الناقص منها، ويستغرق ألف كلمة منقوشة على الأحجار والتماثيل الكائنة بمعبد السمكة الذهبية جنوب الصين، وقد وصفت الملحمة بأنها أطول ملحمة شعبية عرفها العالم إذ تقع في ستة وثلاثين مجلدًا، وتضم قرابة مليوني بيت من الشعر، كما وصفت أيضًا بأنها تضاهي في قيمتها الأدبية أشهر الملاحم الغربية حتى ليطلق عليها الإلياذة الشرقية. وهذه الملحمة كما جاء في الخبر تدرس في عشرات المعاهد والكليات في أرجاء العالم.
وبالمناسبة فقد ذكرت صحيفة "الشعب الصينية" على الإنترنت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر أكتوبر سنة ألفين وثلاثة، أن صبيًّا صينيًّا عمره ثلاث عشرة سنة يحفظ هذه الملحمة عن ظهر قلب، وأن عملية الحفظ قد تمت على نحو خارق، إذ كان الصبي نائمًا ذات ليلة، ثم استيقظ فوجد نفسه يحفظ عن ظهر قلب تلك الملحمة التي تشتمل على عشرة ملايين كلمة، دون أن يبذل في حفظها أي جهد دون أن تكون عنده النية أصلًا في هذا الحفظ.
وأنا أنقل لطلابي هذا الكلام على عهدة من كتبوه، أما أنا فإني لا أصدقه.
القصة إذن فن من الفنون الأدبية القديمة، وكما قلنا: لا نظن أن ثمة مجتمعًا بشريًّا قديمًا أو حديثًا يمكن أن يخلو من هذا الفن؛ لأن حب القصص نزعة فطرية في النفس الإنسانية، ولعل أقدم كتابة نقدية في هذا الموضوع هي ما كتبه أرسطو في كتابه (فن الشعر) عند كلامه عن الملحمة والمسرحية، ذلك أن الملحمة والمسرحية كلتاهما فن قصصي، كل ما في الأمر أن الملحمة كانت
(1/282)
________________________________________
تنظم شعرًا وأن المسرحية تقوم على الحوار، فلا سرد فيها إلا في أضيق نطاق، وذلك حين يضع المؤلف ملاحظاته السريعة الموجزة قبل بعض المشاهد، كي يهتدي بها المخرج لدن تحويلها من عمل مكتوب إلى تمثيل حي على المسرح، وفي كل من الملحمة والقصة والمسرحية نجد الحوادث والشخصيات والحوار والعقدة والحل والبناء الفني، كما أن المواصفات التي يراعيها المبدع في كل فن من هذه الفنون لا تكاد تختلف بشكل جذري عما ينبغي مراعاته في الفنيين الآخرين.
وقد قال أرسطو في كتابه (فن الشعر) "بويتكس": إن كل ما يصدق على الملحمة يصدق على مسرحية المأساة، اللهم إلا في أن الملحمة لا تنظم إلا في بحر واحد من بحور الشعر، كما أنها تتخذ الشكل السردي علاوةً على أن المأساة محكومة في طولها الزمني بدورة الشمس حول الأرض مرة واحدة، أي: بأربع وعشرين ساعة أو أزيد قليلًا، إن كان ثمة حاجة إلى ذلك على حين أن زمن الملحمة مفتوح.
وهما كما يرى القارئ لا صلة بينهما وبين البناء الفني لهذين الجنسين الأدبيين، ولأن العناصر الموجودة في الملحمة هي نفسها تقريبًا العناصر الموجودة في المسرحية، نجده يؤكد أن من يستطيع الحكم الفني على إحداهما يستطيع الحكم على الأخرى، وبالمثل نراه يذكر أن المؤلف -أيّ مؤلف- قد يروي قصته من خلال ضمير الغائب أو من خلال ضمير المتكلم، أو من خلال ترك الشخصيات تتصرف أمامنا مباشرة، والأسلوب الأخير هو أسلوب المسرحية، أما الأسلوب الأول فأسلوب "هومر" في شعره الملحمي، إلا أنه لم يضرب لنا مثلًا يوضح به كيفية تقديم الشخص نفسه من خلال ضمير المتكلم.
(1/283)
________________________________________
والمسرحية تتكون عنده من الحبكة والشخصية واللغة والفكرة والمنظر والأغنية، وفي رأيه أن الحبكة أهم من رسم الشخصيات، وأساسها عدم تضمين العمل المسرحي أو الملحمي أي عنصر لا يضر العمل حذفه، وألا نحذف من العمل أي عنصر من شأنه أن يصيب العمل بالتفكك والانهيار عند هذا الحذف، كذلك لا بد في رأيه أن يكون كل حدث مترتبًا على الحدث السابق عليه، وبالنسبة إلى الشخصيات ينبغي أن تكون شخصيات حقيقية مما نقابلها في الحياة، وأن ينم كلامها وسلوكها عليها وينسجم معها وأن تكون متسقة مع نفسها، إلى آخر ما كتب ذلك الفيلسوف عن المواصفات التي لا بد من مراعاتها في كتابة المسرحية والملحمة، وهو أساس النقد القصصي عند الأوربيين وعند غير الأوربيين.
ومما قرأناه في المراجع المختلفة يتبين لنا أن فن القصص قديم قدم الإنسان، لم تخل منه أمة وأنه يقوم على سرد الأحداث وتصوير الشخصيات والحبكة، وأنه كان يعتمد في انتشارها على الحكاية الشفوية، ثم تدخل الرسم والكتابة في عملية التسجيل، وكانت الأدوات المستخدمة في هذا قديمًا هي الحجر وجدران الكهوف والجلود وجذوع الأشجار، وكل ما يمكن الاستعانة به في هذا الصدد، وأنه كان وما زال يتغيى التسلية والتعليم والدعاية ونشر القيم التي يتمسك بها المجتمع، فضلًا عن التضليل أيضًا في بعض الحالات.
ويؤكد كاتب مادة نوفل في معجم (المصطلحات الأدبية) باللغة الإنجليزية أن الرواية فن مرن منفتح غير جامد، فهي كما تكتب نثرًا قد تكتب شعرًا، وهي قد
(1/284)
________________________________________
تكون طويلة كما قد تكون قصيرة أيضًا، والمهم ألا تبلغ من القصر ما يحول دون إصدارها في كتاب على حدة، وهي تتأبى على الشكل المحدد والأسلوب المحدد والموضوع المحدد على عكس الأشكال الأدبية الأخرى، فضلًا عن أنها تتسع لعناصر غير قصصية كالرحلات والتراجم والتاريخ والصحافة.
ويمضي الكاتب قائلًا: إن هذا هو السبب في أنها استطاعت أن تزيح الأجناس القصصية الأخرى وتحل محلها. لكني لا أحب أن يكون الكلام هكذا وأوثر أن يقال: إن الرواية مجرد شكل من أشكال الفن القصصي المتعددة كالملحمة والرومانس، التي تشبه عندنا السيرة الشعبية، إذن العناصر في كل هذه الأشكال ولا أقول في كل هذه الأجناس عناصر واحدة، ألا وهي الأحداث والشخصيات والحوار والزمان والمكان والحبكة.
أما أن الملاحم مثلًا كانت تقوم على الخرافات والخوارق وما إلى هذا، على حين أن الرواية وهي فن علماني لمجتمع علماني، كما جاء في المادة المخصصة لها في قاموس (أكسفورد الأدبي) هذه الرواية تتغيى الواقعية أقول: أما أن الملامح كانت كذا وأن الرواية هي كذا، فالرد عليه شديد السهولة، إذ إن القدماء لم يكونوا ينظرون إلى تجسد الآلهة وتعددهم وتصرفهم، كما يتصرف البشر وتخلقهم بأخلاق البشر وتزاوجهم فوق ذلك مع البشر، ولا إلى الخوارق والمعجزات والغرائب والوقائع والشخصيات الأسطورية، على أنها أمور غير حقيقية بل على أن هذا هو الواقع الفعلي.
وإذا اعترض بأن الملاحم كانت تصاغ شعرًا فها هو ذا كاتب المادة يقول: إن الرواية قد تصب في قالب الشعر أيضًا، ثم ها نحن أولاء نعود هذه الأيام فنكتب
(1/285)
________________________________________
الرواية على مذهب الواقعية *****ية واقعية الخرافات والخوارق والعجائب والغرائب، كما كان الحال في السير الشعبية و (ألف ليلة وليلة مثلًا). بل إن الكاتب ليذهب إلى أن عملًا مثل "الستريكون" الذي ظهر في القرن الأول قبل الميلاد لـ"بترونياس" الروماني؛ يمكن أن يعد رواية وإن أضاف أن العرف قد استقر على أن (دونكشوت) التي صدرت في أول القرن السابع عشر الميلادي للكاتب الإسباني "سلفانس" هي أول رواية بالمعنى الحقيقي.

المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي
وعندنا في الأدب العربي القديم جنس أدبي قصصي له ملامح خاصة به هو جنس المقامات، وهذه المقامات العربية عرفت منذ وقت مبكر خارج الأدب العربي أيضًا، ففي الأدب الفارسي مثلًا أَلَّفَ القاضي حميد الدين أبو بكر بن عمر البلخي ثلاثًا وعشرين مقامة، على نسق (مقامات الحريري) وأتمها سنة خمسمائة وإحدى وخمسين هجرية، وكذلك عرفت هذه المقامات في الأوساط اليهودية والمسيحية الشرقية، فترجموها وصاغوها على مثالها باللغتين العبرية والسريانية، أما في أوربا فقد عني المستشرقون بـ (مقامات الحريري) فترجمت إلى اللاتينية والألمانية والإنجليزية، إلا أن تأثيرها كان محدودًا وبخاصة إذا قارنا بينها وبين ألف ليلة وليلة مثلًا في هذا المجال.
ذلك أن المقامات ليست القصة عمادها بل عمادها الأسلوب وما يحمل من زخارف السجع والبديع ذلك، مكتوبة بأسلوب فخم تجلله المحسنات البديعية، ثم إن من الممكن أن نرى أثرها في بعض القصص الأسباني الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين، وأن لهذا القص عندهم بطلًا يسمى "بيكارون" يشبه
(1/286)
________________________________________
من بعض الوجوه أبا الفتح الإسكندري في (مقامات بديع الزمان)، وأبا زيد السروجي في (مقامات الحريري).
وفيما يخص تقليد القاضي الفارسي المذكور لمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع محمد جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن)، تناول في فصل منه هذه المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف فن المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب.
والمقامة في بداياتها الأولى فن أدبي يقوم عادةً على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء، ذات بطل واحد، ينتقل من مكان لمكان ومن موقف إلى آخر مغيرًا هيئته في كل مرة، متخذًا الكُدية -أي: الشحاذة- وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنتهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله وافتضاح أساليب مكره وخداعه، التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية أي: مثقلة بالمحسنات البديعية، مفعمة بالفكاهة والتهكم، والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع والجناس والتوازن والتوريات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية.
ثم تطور ذلك الفن ودخله التحوير في الموضوعات والأهداف، فاتسع لكل شيء حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية إلى آخره.
وبلغ من اتساع انتشار المقامات واهتمام الكتاب بها أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تأليفها؛ فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلفًا، بدءًا من بديع
(1/287)
________________________________________
الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وانتهاء بنصيف اليازجي في القرن التاسع عشر الميلادي.
أما في الأدب الفارسي فلم يمارسها إلا أديب واحد هو القاضي حميد الدين من أهل القرن السادس الهجري، الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذًا من تلامذة بديع الزمان، فكفى الباحثين مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وآدابها، وإن كان الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله كل من "براون" المستشرق الإنجليزي وكريم شاورزي الباحث الإيراني.
وإذا كان البطل في كل من المقامات الهمذانية والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير، هو أبو الفتح الإسكندري عند بديع الزمان وأبو زيد السروجي عند الحريري، وكذلك راوية كل من هو شخصًا واحدًا أيضًا، وعيسى بن هشام في الأولى والحارث بن همام في الثانية، فإن البطل لدى القاضي حميد الدين يتغير في كل مقامة، أما الموضوع فيبقى ثابتًا دون تغيير كما هو الحال عند الهمذاني والحريري، حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول وكل مقامات الثاني.
وكما قامت المقامات في الأدب العربي ضمن ما قامت على المحسنات البديعية والإغراق فيها، والاستعانة بالألغاز والحرص على إبراز المؤلف سعة معجمه اللغوي، وبخاصة ما يكثر في لغة العرب من غريب الألفاظ، فكذلك حاول القاضي حميد الدين أيضًا الجري في نفس المِضمار، وإن لم يكن الفارسية ذات الثراء الذي تتمتع به لغة القرآن حسبما ذكر المؤلف.
(1/288)
________________________________________
ومن مظاهر تأثر الحميدي بـ (مقامات بديع الزمان) كذلك كثرة استخدامه للألفاظ العربية في عمله، فضلًا عن الجمل والعبارات الكاملة المنقولة من لغة الضاد، حتى في المواضع التي لا يكون ثمة داع لذلك من ضَرْب مثل أو سَوْق شاهد في أصله العربي، بل لقد قلد الحميدي تركيب الجملة العربية في كثير من الأحيان، فكان يأتي بالفعل في أول الكلام على عكس ما تقتضيه اللغة الفارسية التي يقع فعلها في آخر الجملة لا في بدايتها، فضلًا عن إيراده كثيرًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار والأمثال العربية كما هي في نصها الأصلي، إضافة إلى بعض الأشعار التي نظمها هو بلغة القرآن.
ليس ذلك فقط، بل إنه قد اقتصر في عدد من الحالات على إيراد بعض المقامات الهمذانية كما هي بعد ترجمتها إلى الفارسية مع زيادة بعض الإضافات؛ بغية إظهار تفوقه وبراعته مثلما هو الحال في (المقامة السقباجية)، التي تقوم على (المقامة المضيرية) لدى الحريري، كذلك تتشابه المقامات هنا وهناك في العدد، إذ تبلغ كل منهما أربعًا وعشرين مقامة.
هذه نقاط الاتفاق.
أما الاختلاف فيكمن في أن بطل مقامات الحميدي يختلف من مقامة إلى مقامة، كما أن راويها هو نفسه كاتبها، على حين أن بطل المقامات لدى الهمذاني واحد دائمًا، علاوة على أن راويها شخص غيره، كذلك في الوقت الذي نجد فيه بديع الزمان يسمي معظم مقاماته بأسماء البلدان، فإن الحميدي لا يصنع شيئًا من هذا، بل يطلق على كل مقامة اسمًا مشتقًّا من الفكرة التي تعالجها، وإلى جانب ذلك فإن في مقامات الأديب الفارسي كثيرًا من المناظرات كتلك التي قامت بين السني والملحد، والأخرى التي دارت بين الشيب والشباب، ثم إنه بسبب انتشار التصوف في إيران في الفترة التي عاش فيها القاضي حميد الدين؛ وجدنا ذلك
(1/289)
________________________________________
الكاتب الفارسي يخلع على كثير من مقاماته خلعة صوفية بتعبير المؤلف، كما في (المقامة السقباجية) التي تجري في إثر (المقامة المضيرية) للهمذاني إذ يوجد فيها شيوخ ومريدون.
وكما يرى القارئ فإن بحث الدكتور بديع جمعة قد توفرت فيه كل الشروط التي تشترطها المدرسة الفرنسية بوجه عام في هذا المجال، إذ ثبت أن الحميدي قد استقى فن المقامة عن الهمذاني، وأنه قلده في كثير من النواحي الفنية المتعلقة بها، وإن لم ألاحظ أن الدكتور جمعة يتشدد كما يتشدد عامة المقارنين الفرنسيين، فقد وجدته واعيًا تمامًا بتميز المدرسة الأمريكية بذلك الحق، ولم أسمعه ينادي بوجوب التزام النهج الفرنسي، أيًّا ما يكن الأمر فقد لمس الأستاذ الباحث مسألة جدًّا مهمة، وهي أن فن المقامات لم يكتب له الرواج والانتشار في الأدب الفارسي، ذلك أنه لم يكرر المحاولة أحد بعد الحميدي كما يقول.
وقد علل الأستاذ الدكتور هذا بأن الفارسية فقيرة في الكلمات المترادفة والمتساجعة بالقياس إلى لغة الضاد، ومن ثم لا تصلح كثيرًا لكتابة المقامات التي تلتزم السجع والمحسنات البديعية، وأخيرًا فقد أذكر أن الدكتور زكي مبارك قد كتب قائلًا: إن فن المقامة قد انتقل أيضًا إلى الأدبين السرياني والعبراني. وهو ما أشار إليه الدكتور شوقي ضيف، ولعل الله يقيد للمسألة انتقال هذا الفن من العربية إلى السريانية والعبرية من يدرسها هي أيضًا.
وفي العصور الوسطى ظهرت في أوربا قصص ذات طابع شعبي هي "الفابليو"، كما ظهر لون آخر هو قصص الفروسية والحب، وهذه القصص قد تأثرت بالأدب
(1/290)
________________________________________
العربي تأثرًا واضحًا، وبالنسبة إلى قصص الفروسية والحب يذكر الدكتور محمد غنيمي هلال أن المرأة في المجتمعات الأوروبية -إبان العصور الوسطى وفي آدابها- قد ظلت مهملة لا يؤبه لها حتى القرن الحادي عشر، حين أخذ يظهر خلق الفروسية الذي يزاوج بين أخطار الحب وأخطار الحرب، فمثلًا في كتاب (فن الحب العفيف) لـ"أندريه لوشه بلا" نرى إدراكًا جديدًا للحب، فيه ترتفع المرأة إلى مكانة سامية لم تكن تعرفها من قبل، إذ يخضع الفارس لها خضوعًا مطلقًا ويضحي بكل شيء في سبيل حبه لها، ويبكي أمامها بسبب شدة الوجد الذي يلاقيه غير مستنكف من ذلك شيئًا، فضلًا عن أن حبه لها هو حب طاهر نبيل يتغذى على الحرمان ويستعذب فيه صاحبه العذاب.
ويؤكد الدكتور هلال أن هذا المفهوم الجديد للحب قد نشأ على أثر اتصال الغرب بالشرق في الحروب الصليبية وفي الأندلس، ومما له دلالته أن الأميرة التي ألف لها الكتاب المذكور وهي "ماري دي فرانس" أميرة إقليم "شمبانيا" هي حفيدة "بيوم" التاسع أمير "بواتيا" ودوق "أكتانيا"، الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الميلاديين، وشارك في الحروب الصليبية وهو أول شاعر من شعراء "التروبادور"، ويتبين في شعره هذا المفهوم الجديد للحب، ومن يقابل بين ما كتبه مؤلف الكتاب المذكور عن الحب وما كتبه ابن داود الظاهري في كتابه (الزهرة) وابن حزم في كتابه (طوق الحمامة) -وهما سابقان عليه بوقت طويل- يجد تشابهًا واضحًا، وهناك من هذا الضرب من القصص الأوربي قصة (لانسيلو) التي ألفها "كرتيان دي تروا"، وقصة (سجن الحب) للكاتب الإسباني "سان بدرو" الذي عاش في القرن الخامس عشر، وقصة (أماديس ديجولا) لـ"جارثي أوردنييس" ونشرها في عام ألف وخمسمائة وثمانية للميلاد.
(1/291)
________________________________________
وهذه القصص وإن كانت تتفوق على الملاحم بهذا الحب النبيل، لا تبتعد كثيرًا فيما عدا هذا عنها، إذ الوحدة العضوية لا وجود لها، كما أن هناك قوى غيبية تحمي بطلها الفارس وتكثر فيها العجائب والغرائب.
ويذكر الدكتور هلال أيضًا أن قصص الرعاة في عصر النهضة الأوربية كانت أقرب إلى الواقع من قصص الفروسية هذه، إذ تقل فيها العناصر العجيبة الموجهة للأحداث، وتكاد تنحصر في ***** واستطلاع المستقبل، كما أن الحوادث فيها حوادث إنسانية في جوهرها كما يقول، فضلًا عن تصويرها أماكن واقعية معروفة للناس، وقد نشأت هذه القصص أولًا في إيطاليا ثم انتقلت إلى الأدب الإسباني ثم إلى الأدب الفرنسي من بعده.
و"الفابليو" كما عرفتها "الويكيبيديا" وقاموس (البنجون للمصطلحات والنظرية الأدبية): حكاية تقع في عدة مئات من الأبيات ما بين ثلاثمائة إلى أربعمائة، ازدهرت في فرنسا من سنة ألف ومائة وخمسين إلى ألف وأربعمائة من الميلاد، وإن كانت قد عرفت فيما يبدو من قبل هذا، وهي حكايات مفحشة في كثير من الأحيان، وتوجه كثيرًا من سهام السخرية إلى رجال الدين، وموقفهم من النساء هو موقف النقد اللاذع.
وفي القرن السادس عشر والسابع عشر ظهر في أوربا -كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال أيضًا- جنس جديد من القصص خَطَا بالقصة خطوات نحو الواقع، هو ما نطلق عليه قصص الشطار، ووجد أول ما وجد في إسبانيا وهو قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، وتسمى في الإسبانية "بكارسكا"،
(1/292)
________________________________________
وتختص بأن المغامرات فيها يحكيها المؤلف على لسانه كأنها حدثت له، وهي ذات صبغة هجائية للمجتمع ومَن فيه، ويسافر فيها البطل -أي: المؤلف- على غير منهج في سفره وحياته فقيرة بائسة يحياها على هامش المجتمع.
ويظل يتنقل بين طبقاته ليكسب قوته، وهو يحكم على المجتمع من وجهة نظره هو حكمًا تظهر فيه الأثرة والانطواء على النفس، وقصر النظر في اعتبار الأشياء من الناحية الغريزية النفعية، فكل من يعارضه فهو خبيث ومن يمنحه الإحسان خيِّر، وأول قصة من هذا الجنس القصصي في الأدب الإسباني قصة عنوانها: (حياة لاسريودوترمس وحظوظه ومحنه) وهي قصة تنبع من واقع الحياة في الطبقات الدنيا، وتصفها كما يمليها منطق الغرائز الصريح، وهي معارضة تامة لقصص الرعاة وتسير على نقيضها؛ لأنها تصف واقعًا لا مثالية فيه ولا أمل.
ثم ينتقل الأستاذ الدكتور إلى القضية التي تهمنا هنا؛ ألا وهي قضية تأثر هذا الفن القصصي الجديد بالمقامة فيقول: ويوجد وجوه شبه قوية بين قصص الشطار السابقة الذكر وبين المقامات العربية، كما نعلمها عند بديع الزمان الهمذاني ثم الحريري، ولم تُبحث هذه المسألة بحثًا مقارنًا بعد، ولكن الأدلة التاريخية تقطع بأن مقامات الحريري عرفت في الأدب العربي في إسبانيا، ومن كتاب العرب الإسبانيين -يقصد الأندلسيين- مَن ألفوا مقامات على غرارها في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي. مثل: ابن القصير الفقيه، ومثل أبي طاهر محمد بن يوسف السراقسطي.
وقد شرح (مقامات الحريري) كذلك كثير من العرب الإسبانيين من أشهرهم: عقيل بن عطية المتوفى عام ألف ومائتين وأحد عشر، ثم أبو العباس أحمد الشريشي المتوفى عام ألف ومائتين واثنين وعشرين، ثم إن (مقامات الحريري) ترجمت إلى اللغة العربية، ترجمها سالموني بن صقبيل في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم ترجمها الحريزي
(1/293)
________________________________________
وظهرت ترجمته عام ألف ومائتين وخمسة من الميلاد، وقد كان هذه المقامات رائجة كل الرواج لا بين العرب فحسب بل بين العبريين والمسيحيين أيضًا، ولهذا ترجموها إلى لغاتهم، وإذن فقد لقيت هذه المقامات حظًّا كبيرًا في أدب العرب في الأندلس، وغير معقول أن تظل مجهولة لدى كتاب الإسبان وقصاصيهم بعد ذلك، وهذا التلاقي التاريخي هو الذي يفسر وجوه التشابه الكثيرة الواضحة بين المقامات وجنس قصص الشطار في الأدب الإسباني.
وقد آثر كتاب الأسبان أن ينحو منحاها الواقعي على أن يسيروا على منوال قصص الرعاة المثالية، فكان جهدهم ذا أثر كبير في القضاء على قصص الرعاة وفي التقليل بين القصة وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا في كتاب القصة في الآداب الأوروبية الأخرى.
ولا يكتفي الدكتور هلال بذلك بل يمضي فيبين امتداد تأثير المقامات، ذلك التأثير الذي يقوم عليه ما بسطه من شواهد قوية مقنعة إلى خارج الأدب الإسباني، فيقول: وممن تأثر بهم أي بالأدباء الإسبان المتأثرين بالمقامات العربية في الأدب الفرنسي "شارل سوريل"، في قصته (تاريخ فرانسيون الحقيقي الهازل) وقد نشرها في باريس عام ألف وستمائة واثنين وعشرين، وهي أول قصة من قصص الشطار في فرنسا.
وهي على لسان شخصية "فرانسيون" يهجو فيها العادات والتقاليد، بوساطة أشخاص من المتسولين ومن يعد في حسابهم في نظر المؤلف، كما يهجو مختلف الطبقات الأخرى، وقد كانت هذه القصة وأمثالها أصلًا لما سلكه الكاتب الفرنسي "لوساج" في قصته (جان بلا)، التي ظهرت طبعتها الكاملة في فرنسا عام ألف وسبعمائة وسبعة وأربعين للميلاد، وفيها يهجو المؤلف العادات والتقاليد
(1/294)
________________________________________
على لسان البطل الذي سميت القصة باسمه، كما كان قد انتفع بهذا الاتجاه العام الأقرب إلى الواقع الكاتب الفرنسي الآخر "جوتييه" في قصته التي عنوانها (موت الحب)، التي ظهرت في باريس عام ألف وستمائة وستة عشر للميلاد، وفيها يصور حبًّا ماديًّا بين راع نفعي غليظ الطبع وراعية في صفاتهما الحقيقية بين الرعاة العاديين، وهو حب لا مثاليةَ فيه.
ثم يخلص كاتبنا إلى القول بأنه بهذا الجهد المشترك لكتاب القصص في الآداب المختلفة؛ قضي على قصص الرعاة، كما قضي من قبل على قصص الفروسية والحب، وقامت على أنقاضها قصص العادات والتقاليد في معناها الحديث، وخلت القصة بذلك من العناصر العجيبة الخارقة للمألوف، واتخذت حوادث الحياة العادية مادة خصبة لموضوعاتها. وفي نفس الموضوع يكتب الدكتور جميل حمداوي في منتدى الزوراء قائلًا: لم تظهر لفظة "بيكارسكا" باعتبارها لفظة إسبانية إلا في نهاية الربع الأول من القرن السادس عشر، قبيل ظهور رواية الشطارية الأولى في الأدب الإسباني للروائي المجهول، ألا وهي (لافيدا دي لازارلو إيسوس فورتناس إي أدفرس دات): (حياة لافريو دوترنس وحظوظه ومحنه)، وتدل هذه اللفظة على جنس أدبي جديد تشكل في إسبانيا لأول مرة، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا وألمانيا وانجلترا وأمريكا.
وتعني هذه الرواية ذلك المتن السردي الذي يرصد حياة "البيكارو" أو الشطاري المهمش، لذلك تنسب هذه الرواية إلى بطلها "بيكارو" الشاطر أو المغامر، الذي يقول عنه قاموس (الأكاديمية الإسبانية): نموذج شخصية خالعة وحظرة وشيطانية وهزلية تحيا حياة غير هنيئة كما تبدو في عيون المؤلفات الأدبية الإسبانية، أو أنه
(1/295)
________________________________________
بطل مغامر شطاري مهمش صعلوك محتال ومتسول، وتعتقد الأكاديمية الإسبانية أن لفظة "بيكارو" مشتقة من فعل "بيكار" في معناه الشعبي المجازي، وهو الارتحال والصيد واللسع، وتعني "بيكارسك" في اللغة الفرنسية الأعمال التي تصل الفقراء والمعوزين والمعدمين والصعالكة والمتسولين والأندال، أو قيم المتشردين والمحتالين واللصوص في القرون الوسطى".
و"بيكارو" باعتباره بطل الرواية ليس بمقترف جرائم في معنى الجرائم الحقيقي، ولكنه ينتمي إلى طائفة المتسولين لا يبالي كثيرًا بالقيم والأخلاق، ما دام الواقع الذي يعيش فيه منحطًّا وزائفًا في قيمه، يسوده النفاق والظلم والاستبداد والاحتيال حتى من قبل الشرفاء والقساوسة والنبلاء ومدعي الإيمان والكرم والثراء. ومهام "البيكاروس" هو البحث عن لقمة الخبز ورزق العيش، لذلك فهو في حياته متزاوج الشخصية جاد في أقواله ونصائحه ومعتقداته وذكي، يتكلم بالمصالح ويتفوه بإيمان العقيدة، ولكنه في نفس الوقت يسخر من قيم المجتمع، وأعرافه المبنية على النفاق والهراء، ويأنف "البيكارو" من اتخاذ عمل منتظم لرزقه بل يتسكع في الشوارع، ويتصعلك بطريقة بهيمية وجودية وعبثية، يقتنص فرص الاحتيال والحب والغرام منتقلًا من شغل آخر كصعلوك مدقع يرفضه القانون وسنة الحياة والعمل، يفضل الارتحال والكسل والبطالة.
وعلى الرغم من كل هذا يحصل على المال لا باغتصابه، بل بالحيلة والذكاء واستعمال المقدرة اللغوية والحيل والمراوغة وفصاحة اللسان وبلاغة البيان والأدب، ويجعل الناس يقبلون عليه بسلوكياته ومواقفه ويرغبون في مصاحبته ومعاشرته؛ إشفاقًا عليه وعطفًا واستطرافًا،
(1/296)
________________________________________
وتعتبر نصوص "البيكارست" بمثابة قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، أي: إنها قصص مغامرات الشطار ومحنهم ومخاطراتهم رواية واقعية، سواء من ضمير المتكلم أم بضمير الغائب، لذلك تسمى أيضًا بالرواية "الأوتوبغرافية البيكارسكية" التي تؤكد مدى اعتماد الرواية على تصوير البعد الذاتي وتجسيد تقاطعه مع البعد الموضوعي، وتتخذ هذه الرواية صبغة هجائية وانتقادية لأعراف المجتمع، وقيمه الزائفة المنحطة، فاضحًا إياها بطريقة تهكمية ساخرة منددة بالاستبداد والظلم والفقر.
وتتغنى رواية (البيكارسكية) باعتبارها رواية شعبية تتغنى بالفقراء والكادحين والمهمشين، الذين صودرت حقوقهم وممتلكاتهم وحرياتهم، وأصبحوا يعيشون على هامش التاريخ، لم يظهر الأدب البيكارسكي في أسبانيا إلا تأثرًا بالفن الشعبي العربي بالأندلس، ولا سيما ظهور طبقة اجتماعية من الشطار العرب المسلمين المهمشين المشردين، الذين آثروا حياة الصعلكة والبطالة والتمرد عن قوانين المجتمع والسلطة، وكانوا يعيشون على حافة المجتمع سواء بالأندلس أو البلدان الأخرى من العالم الإسباني، التي انفتحت عليها إسبانيا، ويقضي هؤلاء الشطار "بيكاروز" حياتهم في التسول والارتحال والغنائم وممارسة الكدية والاحتيال؛ من أجل الحصول على المال أو الحب أو لقمة العيش.
وكان هؤلاء الصعاليك المحتالون المرحون يسمون في الثقافة الإسبانية بـ"المورو"، وتحضرني صور هؤلاء كثيرًا في الرواية الشطارية الإسبانية، إذ يقول أستاذي الدكتور محمد أنقار، والكلام للدكتور حمداوي كما ينبغي أن نتذكر: لم تكن الرواية الشطارية الإسبانية تتبلور من حيث هي نوع سردي بعيدًا عن التيارات والأنواع الأدبية، كالغنائية والمسرح الشعري والقصة المورسكية والقصة العاطفية أو الرعوية، التي حفلت كلها بصورة غزيرة للمسلمين والعرب والمغاربة خلال القرنين السادس عشر والسابع
(1/297)
________________________________________
عشر، إلا أن مما يلفت النظر في الرواية الشطارية ضآلة صور "المورو"، على الرغم من أن ظاهرة المورسكية لم تكن قد تلاشت نهائيًّا خلال تلك الفترة.
ويتعلق الأمر على الخصوص بروايتين نموذجيتين (لاتاريو) و (تاريخ حياة البسكون) وتعتبر رواية (رواتريو دوترموس) نموذجًا شطاريًّا في إدانة المسلم، وتصوير وضعيته الرديئة حتى لدى الأوساط الدنيا لكي يعلم الناس أن "المورو" لا يؤدب إلا بعقابه وتوبيخه وصده عن غيره.
هذا ما قاله الدكتور جميل حمدان.
ولكن السؤال هو: هل تأثرت الرواية البيكارسكية الإسبانية بأدب المقامات؟
للإجابة عن هذا السؤال انقسم الباحثون إلى قسمين: فريق ينكر هذا التأثير وفريق آخر يؤكده ويثبته، ومن بين المثبتين لهذا التأثير الدكاترة: محمد غنيمي هلال وسهير القلماوي وأحمد طه بدر وعبد المنعم محمد جاسم وعلي الراعي، الذي يرى أن المقامات ربما كانت أقوى أثر مفرد تركه العرب في الأدب الغربي، فعن طريق محتال المقامة قام الأدب الاحتيالي في إسبانيا، وامتد من ثم إلى فرنسا وألمانيا وانجلترا؛ ليكون الأساس لصالح الرواية الواقعية، التي أسهمت في خلقها أقلام كتاب مرموقين أمثال: "ديفو" و"فلدنك" و"ديكنز" في انجلترا، و"لوساج" و"بلزاك" و"فلوبير" في فرنسا، بل لا تزال هذه الرواية الواقعية الاحتيالية موجودة بيننا في عملين محددين؛ أولهما: (فلكس ترول) لـ"توماس مان" الألماني، والثاني: (مغامرات أوجيه مارش) كاتب أمريكي "سول بليو".
وقد انتقل نموذج بطل المقامات العربية القديمة في العصور الوسطى -أي: العصر العباسي- إلى الآداب الأوربية، كما يقول الدكتور غنيمي هلال، فأثر فيها بخلق نموذج أدبي آخر تتوارد به القصة الأوربية، بعد أن عرفت تلك الآداب والمقامات
(1/298)
________________________________________
العربية عن طريق الأدب العربي في إسبانيا، وقد أثر نموذج بطل الحريري في الأدب العربي الأندلسي، ثم الأدب الإسباني بعامة، ثم تعاون هذا التأثير كله في خلق قصص الشطار الذي تعد قصة (حياة لامفاريو دي تورمس) نموذجًا له، ويؤيد رأي الدارسين العرب باحثون إسبان هم أيضًا ذهبوا إلى تأثر الرواية البيكارسكية بأدب المقامة العربية، ومن هؤلاء مؤلفا (دائرة المعارف الوجيزة في الحضارة العربية) حيث يقولان: إن هذا النوع الأدبي -يعنيان المقامة- قد تسرب إلى الأدب الفارسي وغيره من آداب شرقية.
ويبدو أنه قد أثر أيضًا إلى حد ما على كتاب الرواية الأوائل في كل من إسبانيا وإيطاليا، وينفي الناقد الإسباني "أنخل فلورس" التأثير المباشر للمقامات في "البيكارسك"؛ لانعدام الطبع الأتوبجرافي في مقامات الحريري باستثناء مقامة واحدة وهي الحرامية، ولأن الترحال كان موجودًا في الآداب القديمة اليونانية والرومانية، فإذا سلمنا جدلًا بأن بطل المقامات يقوم في كل مقامة منفردة برحلة تورطه في شتى الملابسات، مع أناس مختلفي الأوساط والطبقات الاجتماعية، فلا يجب أن ننسى أن هذا التراث القصصي الذي يمثل البطل متجولًا، والذي يبدو واضحًا في رواية "البيكارسك" الإسبانية وفي الواقع سابق لظهور هذه الرواية، وسابق لانتقال أدب المقامات من الشرق الأقصى إلى المغرب وإلى الأندلس الإسلامية.
وجاء الدكتور عبد المنعم محمد جاسم مذهب المستعرب الإسباني "أنجل فلورس" حينما قال: والذي أريد أن أقوله في نهاية هذا المطاف حول إمكانية التأثير العربي في الرواية الإسبانية، هو أن هذا التيار العميق الغور والبعيد المدى من القصص والنوادر والطرائف الشعبية العربية؛ كان ذا أثر أبعد في التمهيد لظهور رواية
(1/299)
________________________________________
"البكارسك" الإسبانية من المقامات، التي وقف عندها الباحثون مرارًا وتكرارًا، وحاولوا إعطاءها دورًا لم تكن بطبيعتها مؤهلة له، فالمقامات كانت تكتب للتداول في صفوف الضالعين والمتبحرين في علم اللغة، وبما أنها كانت عسيرة اللغة وعسيرة الفهم وكثيرة المجاهل، فإنها لم تترجم إلى اللغة اللاتينية أو اللغة الإسبانية.
وعلى كل حال فأنا لا أحاول في هذا البحث الاستدلال على أية فصول من الأدب الإسباني، جاءت منقولة أو واضحة التأثر بأصول عربية، لكن القارئ قد يجد فيما عرضت إثباتًا جديدًا لوجهة نظر الكاتب والناقد "أنخل فلورس"، القائلة بأن الرواية بمظاهرها المختلفة قد ظهرت في إسبانيا قبل أي بلد آخر؛ بسبب أثر الحساسية العربية بالآداب الإسلامية. ويذهب الدكتور محمد أنجار إلى ضرورة التريث في الحكم على مدى تأثير المقامة في "البيكارسك" الروائي، حتى تتوفر الأدلة العلمية الدقيقة والحجج القاطعة، ولكن هذا لا يلغي إن كان مقاربة البيكارسك على ضوء السد العربي القديم، ومن خلال قواعد فن المقامة التي لا يعلم بعض النقاد الصلة بينها وبين الحكي العربي القديم، على مستوى العلاقة بفن المقامة أو ببعض النوادر والحكايات.
وإذا كانت مثل هذه الاحتمالات لا تزال في حاجة إلى تمحيص علمي مقنع، فإن ذلك لا يلغي بتاتًا إمكانية قراءة هذه الرواية الشطارية بمواساة مع أعراف السرد العربي القديم وأساليبه، مثلما هو الشأن في دراسة محمود طرشونة، وهناك نقطة واحدة لا أحب المضي دون أن أقول كلمة سريعة بشأنها؛ ألا وهي زعم المستشرق الأسباني أن البطل الجوال في قصص "البيكارسك" قد ظهر في
(1/300)
________________________________________
الأدب الإسباني، قبل انتقال فن المقامة من المشرق العربي للأندلس وهو زعم خاطئ؛ إذ إن قصة (حياة لاسليو دوترمس وحظوظه ومحنه) التي ذكر الدكتور محمد غنيمي هلال أنها أول قصة من نوع "البيكارسك" في ذلك الأدب، قد ظهرت عام ألف وخمسمائة وأربعة وخمسين ميلادية، على حين انتقلت المقامة إلى الأندلس قبل ذلك بعدة قرون.
ويزيد الأمر إيضاحًا دكتور عيسى الدودي في مقاله "تأثير المقامة بالفن السردي الأوربي المشهور"، في منتدى المؤتمر فيقول: اعترف كثير من المهتمين بالأدب الأندلسي وذلك استنادًا إلى المقارنات التي عقدوها بين المقامة والأدب السردي في أوربا، وانتهوا إلى هذه القناعة بعد أن توصلوا إلى كثير من أوجه التشابه بين الفنين. بدأ فن المقامة في الانتشار أواخر القرن الرابع الهجري، وأبرز أعلام هذا الفن في المشرق: الحريري والهمذاني، ثم إنه قدر لهذا اللون من الأدب الانتشار الواسع في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكثر المقلدون هذا اللون من الأدب، وقد عرف الأندلسيون المقامة عن طريق مَن رحل إليهم من الشرق، كما قدر للأندلسيين الوافدين إلى المشرق الاطلاع على هذا الفن الأدبي، وخاصة مَن أسعدهم الحظ وأقاموا في بغداد، وبعد أن أتموا دراستهم عادوا إلى بلادهم ونشروا هذه المقامات، فلقيت قبولًا من طرف الأندلسيين ونالت حظها من المعارضة والشرح والنقد والتعليق.
ونسجت على منوالها مقامات مشهورة؛ كـ (مقامة أبي حفص عمر الشهيد) و (مقامة أبي محمد بن مالك القرطبي)، و (مقامة عبد الرحمن الفتوح) و (مقامة ابن المعلم). ثم إن هناك من توجه لشرحها كمحمد بن سلمان المالقي، وعبد الله
(1/301)
________________________________________
بن ميمون العبدري الغرناطي، وأبي العباس الشريشي، وعقيل بن عطية، ومقامات البطليوسي، وابن المرابع الأزدي صاحب (مقامة العيد) وابن القصير الفقيه، ولسان الدين بن الخطيب، بالإضافة إلى مقامتين لمحارب بن محمد الوادآشي، و (المقامة الدوحية أو العياضية)، ومقامة ابن غالب الرصافي، ويبقى أأبرز من تأثر بالمقامات المشرقية السرقسطي، وتسمى مقاماته بـ (المقامات السرقسطية)، وهي المعروفة باللزومية، وهي خمسون مقامة أراد بها مقامات الحريري.
والمقامة هي حكاية عن حيلة تافهة بطلها متشرد ظريف، يتقمص في كل مرة شخصية معينة، فهو مرة قراد يسير بقرده ليجمع الناس في حلقات فيضحكهم، ويأخذوا من أكياسهم، وهو مرة واعظ محترف يلج المساجد لتدمع عينه ويرتل آيات الذكر ورقائق الوعظ وسير الصحابة، ومرة ثالثة ينحط إلى دركات وبيئة فيسرق أكفان الموتى ويجمل خادمه ليوقع في حبه المتهورين، ويتوخى صاحب المقامة من ذلك الوصول إلى قلوب الناس وكسب مودتهم، بمقدرته اللغوية وألاعيبه اللفظية وذلك بالإغراق في السجع والصنعة البديعية.
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن تأثير المقامة في الأدب الأوربي خاصة السردي منه: فإن كثيرًا من الباحثين تحدثوا عن تأثير فن المقامات في الأدب الأوربي تأثيرًا واسعًا متنوع الدلالة، فقد غذت هذه المقامات قصص الشطار الإسبانية بنواحيها الفنية، وعناصرها ذات الطابع الواقعي،
(1/302)
________________________________________
وتعلق حبيبة البرقادية عن هذا اللقاء الأدبي بقولها: وهذا اللقاء التاريخي هو الذي يشرح أوجه الشبه الكبيرة بين المقامات وقصص الشطار في الأدب الإسباني.
وقد فضل الكتاب الإسبان أن ينسجوا على منوال قصص المقامات الواقعية عوض أن ينسجوا على منوال قصص الرعاة، واستطاعوا بعد جهد جهيد أن يقربوا بين قصصهم وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرًا كبيرًا في الآداب الأوربية، ثم إن المقامة حولت أنظار الأدباء من الجري وراء الخيال، وذلك بنسج قصص الحب والفروسية والرعاة إلى الواقعية وتقريب الفرد من المجتمع، ودعته ليفتح عينيه على واقعه، لذلك اتجه الكتاب الروائيون بإيحائها إلى التحدث عن أحوال المجتمع وظروف الأغمار من الناس، ثم أبدعوا روائعهم في هذا الاتجاه الواقعي، متناسين هذه الأحلام الهادئة التي كانوا يملئون بها قصصهم الخيالية.
وأول قصة من هذا النوع في الأدب الإسباني كان عنوانها (حياة لاسليو ومحنته) كما أن هناك من الباحثين مَن يثير تأثير المقامة في (الكوميديا الإلهية) لـ"دانتي"، إذ ليس من المعقول أن يكون هذا الكاتب بمعزل عن الثقافة العربية الإسلامية، وهو الملم بجميع نواحي الثقافة والمعرفة آنذاك، وقد درس الموضوع بمزيد من الجدية والعمق المستشرق الإسباني "بلاثيوس" في كتابه (المعتقدات الإسلامية حول العالم الآخر في الكوميديا الإلهية) وهو خلاصة دراسة استغرقت عشرين عامًا، وازن فيها المؤلف بين قصيدة "دانتي" من جهة وبين الكتب الدينية الإسلامية، وبعض الكتب الدينية العربية كالقرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير والسيرة ومؤلفات المتصوفين، وانتهى المؤلف من دراسة كل هذا إلى القول بأن "دانتي" كان مطلعًا على كثير من نواحي الثقافة الإسلامية، وأنه استقى من هذا المنبع بعض الصور والمعلومات التي وردت في (الكوميديا الإلهية)، مما يتعلق بالبعث والحشر وخروج النفس ومشاهد الجنة والنار.
(1/303)
________________________________________
وهذا يقودنا إلى الربط بين المقامة والفن الروائي، فقد ذكر "بيير كاكيا" أن الفن الروائي لم يجد متنفسًا له إلا في المقامة، وهي كلمة تُرجمت إلى الإنجليزية بعنوان "أسيمبلي" وإلى الفرنسية بلفظ "سيونس"، بما يفيد أنه يمكن قراءتها في جلسة واحدة، وينقل بهذا الصدد محمد رجب البيومي عن الفيلسوف الفرنسي "إرنست رينان" هذا الإعجاب بالمقامة، التي آثرها على "مجموعة بلزاكي" الأدبية، بحيث إن الحريري قاد شحاذه في خمسين موقفًا مختلفًا بقوة اختراع عجيبة ودقة وتأمل في الأخلاق والعادات، لنعلم المهارة والغرابة التي تنطوي عليها فكرة المقامات، أرادوا أن يضعوا للقرن التاسع عشر مهزلة بشرية يشير "رينيه" إلى "مجموعة بلزاكي" المسماة بهذا الاسم، فلم يعرفوا كيف يجعلونها في قالب مقبول، في حين حقق الحريري هذه الفكرة للمجتمع الإسلامي في القرن الثاني عشر، أما "بلزاك" فقد نقصته شخصية أبي زيد التي لا تكاد تلمسها حتى تفلت.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/304)
________________________________________
الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي.
(1/305)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني عشر
(تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزواب ع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي)

تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)
تأثير (رسالة الغفران) ورسالة (التوابع والزوابع) في الأدب العالمي:
رسالة الغفران التي أبدعها قلم أبو العلاء المعري الشاعر العباسي المشهور: وهي رحلة خيالية كتبها صاحبها في القرن الخامس الهجري، ردًّا على رسالة وجهها إليه علي بن منصور الحلبي، المعروف بابن القارح، يسأله فيها عن جملة من الأمور تتصل بالتاريخ، والفكر، والتصوف، والأدب، والنحو، والسيرة النبوية، والزندقة. وقد أتي رد أبي العلاء على ابن القارح في شقين:
الشق الأول: هو الشق الخيالي، وفيه يتصور المعري ابن القارح في رحلة إلى العالم الآخر على غرار الأدب الخاص بالمعراج النبوي.
والشق الثاني: ينطوي على رد أبي العلاء المعري على المسائل التي تؤرق ابن القارح.
ورغم أهمية ما كتبه أبو العلاء في تبيين موقفه من القضايا المطروحة في المعارف والفنون والعلوم؛ فإن الشِّق الأول الذي هو عبارة عن رحلة خيالية، هو الشق الذي كُتب له الخلود.
وتنقسم رحلة ابن القارح إلى العالم الآخر إلى ثلاث مراحل: الصعود إلى السماء، ثم زيادة الجحيم، ثم التحول إلى الجنة. وقد استفاد المعري من أدب الإسراء والمعراج، ومصادره الأولى في القرآن والتفسير والحديث الشريف، في إطار الرحلة ومضمونها وتفاصيلها. وخلال هذه الرحلة بمراحلها الثلاث يلتقي ابن القارح بشخصيات متعددة من الشعراء والأدباء والنقاد والمفكرين؛ فيُحاورهم مثيرًا معهم طائفة من القضايا الفكرية والأدبية والنقدية والدينية.
(1/307)
________________________________________
ور (سالة الغفران) بما فيها من قصص وحبكة وحوار ورسم شخصيات، أشبه برواية تحاور فيها ابن القارح مع عدد من الشعراء في طائفة من المسائل العلمية والدينية، وفي الرسالة تخيلات علائية عن آدم، وإبليس، والعفاريت، والملائكة. فضلًا عن تخيلاته عن الشعراء، وبعد فترة طويلة من ظهور (رسالة الغفران) ظهرت (الكوميديا الإلهية) لـ"دانتي" و (الفردوس المفقود) لـ"بيلتون". وقد عثر مستشرق إسباني معاصر على مخطوطتين لترجمتين لقصة المعراج، خَلَص منهما إلى نظرية تثبت أن دانتي قد بنا كوميدياه الإلهية على أصول إسلامية من بينها (رسالة الغفران) و"قصة المعراج".
وهناك أيضًا تَشَابُهٌ كبيرٌ بين رسالة الغفران، ورسالة (التوابع والزوابع) لابن شهيد الأندلسي؛ فكلتاهما تعرض القضايا الأدبية بأسلوب قصصي، وكلتاهما اتخذت مسرحها خارج هذا العالم الأرضي، وكان المؤلفان متعاصرين.
و (التوابع والزوابع) قصة خيالية تحكي رحلة في عالم الجن يلتقي البطل خلالها بشياطين الكتاب، فيحاورهم ويحاورونه ويخلصوا بذلك إلى سمات نقدية وأدبية محدودة. وتتخذ رحلة بطل (التوابع والزوابع) مسارًا تاريخيًّا في لقائه بتوابع الشعراء في مجلس الأول ابتداءً من العصر الجاهلي والأموي والعباسي؛ فيحاور عددًا من توابع الفحول، كامرئ القيس، وطرفه، وأبي تمام، والبحتري، وأبي نواس، والمتنبي.
وهو يُوفق بين البُعد الجسمي والفكري؛ ليستخرج نفسية الشاعر وذاته، فيرسم له صورة قلمية في ضوء ما ورد من أخبار.
(1/308)
________________________________________
وفي المجلس الثاني وهو مجلس الكتاب يقدم ابن شهيد رؤية جديدة، وهي أن للكتاب شياطين كما للشعراء شياطين. ويبدأ بالجاحظ، ويحاور عبد الحميد الكاتب وبديع الزمان، ويسجلهم في قضايا تتصل بالسجع وبالمزاوجة، وبالأساليب والبيان، ويخلص إلى انتزاع شهادات بإجازتهم له، وتفوقه عليهم.
أما المجلس الثالث فيُبين ابن شهيد من خلاله طائفة من القضايا النقدية التي كانت تشغل ذوق العصر، وفي المجلس الأخير ينتقل ابن شهيد وتابعه إلى أرض بها حيوانات من الجن، حيث يحكم في قطعتين شعرتين غزلتين لبغل محب وحمار عاشق، وتنتهي الرسالة بحوار بن الشهيد مع الإوزة، التي يرى أنها تابعة لبعض شهود اللغة، وأرادت أن تُناظره في النحو وغريب اللغة؛ فأعرض عنها وزجرها لسخفها وحماقتها.
ومن أهم سمات أسلوب ابن الشهيد القصصي: حظه من الخيال؛ فخياله قوي خلاق، تحفه طائفة من الصورة الدقيقة الوصف، معناة بتصفية الأخلاق والأشكال في إطار من تحليل نفسي، وقد اهتم بالأوصاف الدقيقة، وكأنه دون أن يشعر يُعَوّض عن ضعف حاسة السمع لديه؛ فهو يكثر من الصور المتحركة والمسموعة.
كما كان عنصر التشويق أداة من أدوات أسلوبه، بجانب الاستطراد الذي يقتضيه السياق القصصي؛ فضلًا عن ظاهرتي الحوار الداخلي والمباشر،
(1/309)
________________________________________
وتزخر الرسالة بروح الفكاهة والإضحاك، بما يضع ابن الشهيد في مكانة بارزة من السخرية والطرافة. ومن المُرَجّح أنّ ابن شُهَيدٍ استوحى موضوع الرسالة متأثرًا بقصة الإسراء والمعراج، كما تأثر بها أيضًا الإيطالي "دانتي" في رسالته (الكوميديا الإلهية) وهذا باب طويل في الأدب المقارن.
ويماثل (التوابع والزوابع) (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري في المشرق؛ فالكاتبان يلتقيان معًا في الخيال والأوصاف والسخرية والإضحاك، ولكنهما يختلفان في اللغة؛ فلغة المعري لا تخلو من تعقيد، وإغراء، وسجع ملتزم، ولغة ابن شهيد سلسة طيعة بعيدة عن التكلف والصنعة، تزاوج تارةً، وتسجع أخرى، وتسترسل ثالثة؛ ففيها لكل مقام مقال.
وهُنا يَنبغي أن نقول كلمة عن (الكوميديا الإلهية)؛ فهي ملحمة شعرية طويلة للشاعر الإيطالي "دانتي ألجري" عُرفت في الأدب العالمي بهذا الاسم، وقد بدأها "دانتي" عام ألف وثلاثمائة وثمانية، وانتهي منها عام ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين، وموضوعها الرئيسي هو الحياة بعد الموت، و"دانتي" هو الشخصية الرئيسية فيها، وتنقسم إلى الجحيم المطر والجنة أو الفردوس، وقد أطلق عليها "دانتي" (الكوميديا) لأنها انتهت نهاية سعيدة، ثم أضافت إليها الأجيال اللاحقة صفة الإلهية.
وقسم "دانتي" الأقسام الثلاثة في القصيدة إلى أجزاء أخرى تسمى الأجزاء الداخلية، ويضم كل من قسمي المطر والفردوس ثلاثة وثلاثين جزءًا، أما
(1/310)
________________________________________
الجحيمُ فيضم أربعة وثلاثين جزءًا، وتتميز جميع الأجزاء بالإيقاع القوي؛ نظرًا لمقاطعها الموشحية في ذات الثلاثة.
وتبدأ القصة بـ"دانتي" المفقود في غابة مظلمة، ويمثل ذلك عنده إحساسه بتفاهة حياته، والشر الذي كان يراه في مجتمعه، وفي يوم جمعة صحوة، وبعد ليلة من التجوال المؤلم، يتقابل مع الشاعر الألماني "فرجيل" الذي يعده بأن يُخْرِجه من تلك الغابة، ويَقُوده إلى رحلة في العالم الآخر، ويَدْخُلان الجحيم، حيثُ يريان جموعًا من الأفراد يعانون العذاب الذي تصبه فوق رءوسهم الوحوش الخرافية، والشياطين والمخلوقات الأخرى عقابًا على خطاياهم. والملعونون المعذبون هؤلاء شخصيات تاريخية معروفة جيدًا.
ويُغادر كل من "دانتي"، و"فرجيل" الجحيم ويصلان إلى جبل المطهر، ومن هناك يتسلقان إلى الشرفات المضيئة، فيها الموتى الذين لهم الخلاص، يبحثون عن الغفران من الخطايا التي اقترفوها على الأرض، ويملأ جو من الأمان والأمل ذلك المكان الخاص بالتطهر، على عكس المعاناة الكبيرة واليأس اللذين مر بهما في الجحيم، وعند وصولهما إلى الجنة الأرضية على قمة جبل المطهر يُرسل "فرجيل" بـ"دانتي" إلى مرشدة جديدة هي "فياترس".
وتعد هذه الملحمة من نواح عدة قصيدة حب تمتدح جمال "فياترس" الأخلاقي، وقدرتها على وصول بـ"دانتي" إلى رؤية الخير الأعظم، إذ إنها تقوده خلال طبقات السماوات العشر؛ حيث يلتقي بأرواح المباركين، ويقفُ "دانتي" في بهجة ونشوة، ويتفهم في النهاية الحقيقة النهائية للحياة وما يعنيه الكون.
وتذهب جماعةُ مؤرخي الأدب والنقاد إلى أن "دانتي" تأثر في هذا العمل بقصة الإسراء والمعراج، ورُبّما أيضًا بـ (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، وأخذ
(1/311)
________________________________________
الفكرة والمنهج عنه، لكن للدكتور محمد غنيمي هلال رأيًا مختلفًا، إذ رغم تأكيده أن بين (رسالة الغفران) و (الكوميديا الإلهية) تشابهًا حقيقيًّا؛ فإنه يُورد احتمال أن يكون العملان كلاهما قد أفاد من حكاية الإسراء والمعراج، كما ورد في الأحاديث النبوية الغير الموثوق بها على حد تعبيره.
وفي هذه الحالة يكون أبو العلاء -كما يقول الدكتور هلال- قد أفاد من التراث الإسلامي قبل "دانتي"، وهذا كل ما هناك؛ فإنه لا يطرح احتمالًا آخر وهو أن يكون أبو العلاء قد استوحى رسالته من حكاية رحلة "الموبل زرادشتي أرده ويراف" إلى الجحيم والأعراف والجنة، بل لا يَستبعد أن يكون المصدر فارسي أصلًا، لما سار بين المسلمين من حكايات خرافية عن الإسراء والمعراج.
والملاحظ أن الدكتور هلال لم يورد المرجع الذي استند إليه في القول بهذا الرأي الذي أستبعده تمام الاستبعاد، إذا لو كان الأمر كذلك لما سكت العلماء المسلمون على تأثر أبي العلاء "بموبدن زرادشتي" في أمر ديني شديد الحساسية كأمر الآخرة، كما أنّ الفرس لم يكن يفلتوا هذه الفرصة ليلقوا الضوء على مجد من أمجادهم الأدبية، قد رأينا ابن الأثير مثلًا في درس سابق، يُفَضِّل الشعر الفارسي على نظيره العربي، من ناحية أنه يستوعب القصص الطوال جدًّا، دونَ أن يظهر على الشعر كلال أو ملال، على حين لا تزيدُ القَصيدة العربية على بضع عشرة من الأبيات، في مُقابل الآلاف منها في الملاحم الفارسية.
ولم يسكت الجانب الآخر على هذا التفضيل، فرأينا كيف انبرى صلاح الدين الصفدي، يُفَنِّد كل ما قاله ابن الأثير، وموردًا من الشواهد ما يرى أنه كفيل بنفس هذا الحكم، الذي يراه مجحفًا أشد الإجحاف بالقريحة العربية، بل يراه نهجًا شعوبيًّا لا يصح الصمت إيذاءه. ثم قبل ذلك وبعده فإن المواد -على الأقل
(1/312)
________________________________________
المواد الأساسية- التي استعان بها أبو العلاء المعري في إبداعه (رسالة الغفران) هي مواد إسلامية تمامًا، إذ هي مستقاة من القرآن والحديث العقيدة الإسلامية بكل ما فيها من خطوط عامة، وكثير من التفاصيل الدقيقة، مع مَزجِها بما لديه من خيال وثّاب، وسُخرية راقية، ومعرفة واسعة عميقة، ولغة فحلة.
ثم قَبل هذا أين كان ذلك الكتاب الذي يتحدث عنه الدكتور هلال؟ هل ترجم إلى العربية حتى يمكن القول باحتمال إطلاع العرب عليه؟ أم هل كان أبو العلاء يتقن لغة فارس التي كتب بها ذلك الكتاب؟ بل هل جاء ذكر الكتاب في تراثنا العربي قط؟! فمَن ذكره يا ترى؟ وفي أي سياق؟ واضح أن الدُّكتور هلال قد ألقى كلمته دون احتياط على الإطلاق، ولم يُفكر لا في العواقب ولا في المصادر، وهو ذات الموقف الذي اتخذه لويس عوض من أبي العلاء ذاته حين زعم تدليسًا أنه متأثر في رسالته الغفرانية براهب قابله ذات مرة في دير الفاروس بحلب.
وإذا كان مثل لويس عوض الذي لم يكن يُبالي بمنهجية ولا علمية في سبيل نشر دعواه المريبة، يقدم على اختراع تلك الدعاوى؛ لقد كان أحرى بهلال أن يكون أكثر رصانةً واحتراسًا. ويزيد الأمر سوءًا وتعقيدًا وغرابة أنّ هلالًا لم يجشم نفسه تعريفنا برحلة "المومت الزرادشتية" هذه بل اكتفى بالقول بأنها رحلة إلى الجحيم والأعراف والجنة، تُرى هل هذا يَكفي في السياق الذي نحن فيه؟
أما (الفِرْدَوس المفقود): فهي من إبداع الشاعر الإنجليزي الذي كان يعيش في القرن السابع عشر "جون ميلتون" وهو شاعر وكاتب سياسي بريطاني، ويُعدّها الكثير من أجمل ملاحم اللغة الإنجليزية، وقد ألف أيضًا: (الفردوس المُسْتردّ)
(1/313)
________________________________________
و (مصرع شمشون). ويعتقد أن "ميلتون" قد ألف العملين الأولين وربما الأخير أيضًا بعد أن كُفّ بصره، وكَتب مِيلْتُون (الفردوس المفقود) حتى يبرز مسالك الرب مع الإنسان كما يقال، وتعيد القصة ذات الإثني عشر كتابًا رواية قصة الكتاب المقدس عن الخلق، وسقوط آدم في مواجهة تمرد إبليس على ربه والخروج من الجنة.
لقد كان ميلتون على دراية واسعة بأدب الإغريق واللاتيني القدامى، وتأثر بهم كثيرًا؛ لكنّه رَكّز اهتمامه بوصفه بروتاستني على الإنجيل؛ فقد أراد ميلتون أن يقدم انجلترا من خلال شعره ما قدمه عظماء وصفوة عقول أثينا وروما.

قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي
وفي التراث العربي يوجد أكثر من قصة بعنوان (حي بن يقظان) وهي قصة رمزية تدور حوادثها حول شخص نشأ في جزيرة وحده، ويتصور علاقته بالكون والدين، وأول منشئ لقصة (حي بن يقظان) هو الفيلسوف ابن سينا، ثم أعاد كتابتها شهاب الدين السهروردي، وبعدها صاغها من جديد فيلسوف أندلسي بن الطفيل، ثم كانت آخر رواية القصة بقلم ابن النفيس. على أن أشهر مؤلف بين هؤلاء الأربعة هو ابن الطفيل، وبسبب شهرة هذه الرواية قيل: إن قصصًا غربية مثل مثل قصة (روبنسون كروزو) و (طرزان) قد نُسِجت على منوالها.
وقد صَبَّ ابن الطفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة، أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي، إذ نشأ بطل القصة (حي بن يقظان) في جزيرة معزولة، وكان قد ألقي فيها طفلًا، أو نشأ بشكل طبيعي من مادتها وترابها حسب الروايتين المختلفتين، وبعد أن نما وترعرع تأمل الكون من حوله؛ فوصل إلى حقيقة التوحيد بالفطرة.
(1/314)
________________________________________
ثم انتقل إلى جزيرة أخرى، فالتقي بشخصين هما: سلامان وأبسال، فوجد الأول منهما يعلم أهل الجزيرة -الذين يتدينون تدينًا سطحيًّا- يعلمهم الحقائق الإلهية والوجودية عن طريق ضرب الأمثال، بينما يميل الثاني إلى التأمل والنظر العقلي وفيه نزعة صوفية. ويُدرك حي بعد أن يتفاهم مع أبسال أنّ مَا توصل إليه من إدراك لحقائق الوجود والكون بالفطرة، وما ورِثه أبسال عن طريق النبوة، إن هو إلا وجهان لحقيقة واحدة؛ فالكون واحد، والخالق واحد، وهو رب السماوات والأرض وصانع الموجودات، قد نصل إليه عن طريق التأمل الذاتي كأفراد، لكن الجماعات بحاجة إلى طريقة أبسال في ضرب الأمثال الحسية لمعرفة ذلك؛ لأنه لا قدرةَ للعامة على إدراك الحقيقة المجردة التي قد يصل إليها أصحاب التأمل الذاتي والنظر العقلي.
والنبوة حق ولا بد منها، والخليقة بحاجة إليها للوصول إلى معرفة الخالق، إلا أن (حي بن يقظان) لا يكاشف أهل الجزيرة بالحقيقة كلها، بل يعود مع أبسال إلى الجزيرة الأخرى؛ ليَعْبُد الله عبادة رُوحيّة خالصة؛ حتى يأتيهما اليقين.
وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة، وتُؤَكِّد قِصّة (حي بن يقظان) على أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية، وقد تركت آثارها على كثير من الجماعات والمفكرين، وترجمت إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة. وتتجلى براعة ابن طُفيل في مَزْجِه الأفكار الفلسفية الدقيقة بالقصص الشعبي، وفي جهده لتصوير هذه الأفكار منطقيًّا وفنيًّا.
وهُناك رِوايتان تفسران لنا ولادة (حي بن يقظان):
(1/315)
________________________________________
الأولى تقول: إنه تولد من الطين في جزيرة جنوب خط الاستواء تسمى "الواق واق" وهي جزيرة خيالية كما هو واضح، على حين تخبرنا الرواية الأخرى بأنه قد ولد لأميرة تزوجت على غير إرادة أخيها الملك، من قريب لها اسمه يقظان، ثم أنجبت منه طفلًا؛ فخافت أن يفتضح أمرها، فيعاقبها أخوها عقابًا رهيبًا هي وزوجها؛ لأنه لم يكن يريد لها أن تتزوج، فألقت ابنها في تابوت، وأسلمته إلى اليم الذي حمله إلى جزيرة مهجورة.
وتصادف أنْ مَرّت في المكان الذي استقر فيه التابوت غزالة كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته، فسمعت صوت بكاء فاتجهت نحوه، وكان أن عثرت على الطفل الرضيع فأخته وأرضعته وحضنته وربته، وكانت تحمله هنا وهناك أينما اتجهتْ. ويَكْبُر (حي بن يقظان)، وتمر حياته في سَبعِ مراحل كما يقول كاتب مادته في النسخة العربية من موسعات "اليوكيبيديا":
أما الأولى: فهي إرضاع الغزالة لحي وحضانتها ورعايتها له، حتى بلغ سبع سنوات، ثم بَعد ذلك وفاة الغزالة وتشريحها من قبل (حي بن يقظان)؛ لمعرفة سبب الوفاة، حيث بدأت تتكون عنده المعرفة عن طريق الحواس والتجربة.
وهنا تأتي المرحلة الثالثة وكانت اكتشافه للنار.
أما المرحلة الرابعة فكانت في تصافحه لجميع الأجساد التي كانت موجودة حوله، إذ جعل يَكْتَشِفُ الوحدة والكثرة في الجسم والروح، وتشابه الكائنات من مادة، واختلافها في الصور.
وتلا ذلك المرحلة الخامسة وكانت اكتشاف الموت،
(1/316)
________________________________________
وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره بدأ حي مرحلته السادسة، وهي مرحلة الاستنتاج بعد التفكير؛ فتوصل إلى أنّ النّفس مُنْفَصلة عن الجسد، كما شعر داخله بشوق إلى واجب الوجود. وأخيرًا يُدرك (حي بن يقظان) في المرحلة السابعة أن سعادته لا تتحقق إلا في ديمومة المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، والبقاء داخل حياة رسمها هو لنفسه.
هذا عن (حي بن يقظان)، فماذا عن سيرورتها خارج النطاق العربي الإسلامي، وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي؟
تجيب على ذلك ذات المادة من موسوعة "يوكوبيديا" في نسختها الإنجليزية؛ فقد جاء فيها: أنه ظهرت لرواية ابن طفيل ترجمة لاتينية عام ألف وستمائة وواحد وسبعين، بقلم "إدوار بيكوك"، الذي كان قد أعدها منذ عام ألف وستمائة وستين، وأنها قد أوحت للمفكرين بمفهوم " tabula raza " أي: العقل في حالته الأصلية قبل أن تدخله أية فكرة أو معلومة، وقبل أن يخبر الحياة بعد، أو يعرف أي شيء فيها، وهو المفهوم الذي اعتبره " jon lok " في رسالات هذه " any say konsarneing human andr standeng ".
وكان لوك تلميذًا لبيكوك وقرأ ترجمته لكتاب ابن الطفيل وأبدى إعجابه به، كما أوحت (حي بن يقظان) إلى "روبرت بويل" بكتابة روايته " tha asbiring natshral last ". التي تقع أحداثها أيضًا فوق جزيرة من الجزر.
أما أول ترجمة إنجليزية فقد صدرت عام ألف وستمائة وستة وثمانون بقلم جورج أشول، اعتمادًا على الترجمة اللاتينية السالفة الذكر، ثم تُرجمت مرة أخرى إلى الإنجليزية من العربية مباشرةً عام ألف وسبعمائة وثمانية، على يد "سايمون أوكلي" لتظهر بعدها ترجمتان إنجليزيتان أخريان، كما أشار مُحَرِّر المَادة إلى
(1/317)
________________________________________
اطلاع "سبينوز" الفيلسوف الألماني على الرواية، وتشجيعه أحد أصدقائه على ترجمتها للهولندية، فكانت الترجمة التي ظهرت سنة ألف وستمائة واثنتي وسبعين، والتي ظهرت ترجمة هولندية أخرى بعدها بنحو ثلاثة عقود.
كما ظهرت ترجمتان ألمانيتان أخريان، وقد اطلع الفيلسوف الألماني "لايبرتس" على إحدى هاتين الترجمتين، وأثنى على ما في الرواية من فلسفة عربية إسلامية ثَنَاءً كبيرًا، وبالمثل اطلع أساتذة السُّوربون على ترجمة "بيكوك" وكانوا مبتهجين بها أشد الابتهاج. وفي سنة ألف وسبعمائة وتسعة عشر ألهمت إحدى الترجمات الإنجليزية ل (حي بن يقظان) الروائي "دانيل ديفو" فكتب روايته (روبنسون كروزو) التي جرت وقائعها في إحدى الجزر المهجورة، وهو العمل الذي يعده مؤرخو الأدب أول رواية إنجليزية. ثم ظهرت رواية أخرى عام ألف وثمانمائة وواحد وستين في بريطانيا على نفس الشاكلة، تحتوي على أشياء كثيرة جدًّا من ترجمة "بيكوك" ل (حي بن يقظان)، ثم أُريدَ طَبع تَرجمة بيكوك ثانية عام ألف وثمانمائة وأربعة، أما ترجمة ابن يقظان إلى الأسبانية؛ فقد تأخر ظهورها لبداية القرن العشرين، ثم ظهرت ترجمة فرنسية لها في نفس العام بقلم المستشرق "بيونج تيه".
وفضلًا عن هذا كانت (حي بن يقظان) إرهاصًا على نحو من الأنحاء برواية "جان جاك روسو إيميل" كما أن بينها وبين رواية (كيبرينج ذا جانجل بوك) شبهًا واضحًا، وكذلك بينها وبين رواية (طرزان) التي ألفها "إيدجر رايس باروزوا" وتدور حول طفل رضيع هجرته أمه في جزيرة استوائية خالية من السكان، حيث التقطته وربته واعتنت به ذئبة من الذئاب.
(1/318)
________________________________________
وهناك كتاب مفكرون أوروبيون غير قليلين تأثروا بترجمة "بيكوك" لرواية (حي بن يقظان) منهم "جون وردس" و"روبرت داركلي" و"كارل ماركس" وطائفة "الكويكرس" المعروفة وآخرون، وفي عام ألف وسبعمائة وواحد وعشرين، ظَهر في أمريكا كتاب (ذا كريشتن كروسفر) للكاتب والقسيس الأمريكي البيروتاني "كوتوننيسس" الذي لم يمنعه وسمه المسلمين بالكفر من استيحاء رواية (حي بن يقظان) في كتابه هذا، ولا من الاعتراف بتأثيره عليه ناظرًا إلى حي بطل الرواية بوصفه نموذجًا للفيلسوف النصراني المثالي، ومحاولًا من خلاله فهم نفسية سكان أمريكا الأصليين الهنود الحمر؛ بغية تحويلهم إلى مذهبه "البرويتاني".
وكما نرى فإنّ مَادة (حي بن يقظان) في النسخة الإنجليزية من "اليوكوبيديا" تُؤكِّد أن تأثير رواية ابن الطفيل على الآداب الأوربية تأثير واسع وعميق، وعند هذه النقطة نحب أن نتوقف بشيء من التفصيل إيذاء قضية الصلة بين تلك الرواية وبين رواية (ديفو روبينسون كروزو).
ولكن علينا أولًا أن نتعرف إلى "روبنسن كروزو" مثلما تعرفنا إلى (حي بن يقظان)، وسوف يكون اعتمادنا على ما جاء المادة الخاصة بتلك الرواية في موسوعة "اليوكوبيديا".
فنقول: إن (روبنسون كروزو) قصة كتبها "دانيال ديفو" ونشرها لأول مرة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، وهي تحكي قصة شاب عاش في جزيرة من الجزر وحيدًا لمدة طويلة دون أن يقابل أحدًا من البشر، ثم بعد عدة سنوات التقى بأحد المتوحشين؛ فعلمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر من تقدم فكري، واتخذه خادمًا له، ثم يعود في نهاية القصة مصطحبًا خادمه إلى أوربا حيث العالم المتحضر.
وتبدأ القصة بمغادرة "كروزو" إنجلترا في رحلة بحرية في سبتمبر عام ألف وستمائة وواحد وخمسين، مخالفًا رغبات والديه، ويسطوا القراصنة على السفينة ويصبح
(1/319)
________________________________________
"كروزو" عبدًا للمغاربة، إلّا أنّه تَمكّن من الهرب في زورق، ويُصادِفُ قائدَ سَفِينَةٍ بُرتُغالية قادِمة من الساحل الغربي لأفريقيا، في طريقها إلى البرازيل، وهُناك يصبح "كروزو" مالكًا لإحدى المزارع، وينضم إلى بعثة ال*** الجديد من أفريقيا، وتغرق السفينة التي كان هو فيها وقتذاك في عاصفة تبعد أربعين ميلًا في البحر في مدخل نهر "أورونيكو" في الثلاثين من سبتمبر عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين، فيموت جميع رفاقه ما عداه، ويتمكن من استخلاص الأسلحة والأدوات والتجهيزات الأخرى التي كانت في السفينة قبل أن تتحطم تمامًا وتغوص في الماء.
ثم يقوم ببناء سور لمسكنه الذي أقامه في كهف، ويصنع أيضًا تقويمًا يتعرف به على أمور الزمن، من خلال علامات يَرْسُمها على قطعة خشب، كما يقوم بالصيد وزراعة الذرة، ويتعلم صناعة الفخار وتربية الماعز، ويقرأ الإنجيل، ويصبح متدينًا فجأةً، ويشكر الله على مصيره؛ فلا شيء قد فقد منه إلا المجتمع والناس.
وفي يوم من الأيام يكتشف "كروزو" جماعة من آكلي لحوم البشر يقومون بزيارة الجزيرة؛ ليقتلوا ويأكلوا أسراهم، وعندما استطاع سجين من السجناء الهروب انضم إلى "كروزو" فسماه " friy day " باسم يوم الجمعة الذي قابله فيه؛ فشرع يعلمه الإنجليزية حتى يستطيع التفاهم معه، كما نجح في تحويله إلى النصرانية.
ثم تصل مجموعة جديدة من السكان الأصليين؛ لصنع وليمة أخرى من اللحوم البشرية، ويستطيع جمعة و"كروزو" قتل معظمهم مع الاحتفاظ باثنين من أسراهم أحدهما: هو والد جمعة، والثاني: إسباني، ويُخبر هذا الأخير
(1/320)
________________________________________
"كروزو" أن مجموعة من الأسبان الذين غرقوا موجودون على هذه الجزيرة، ويَسْتَطِيعُ الثلاثة بمعاونة هؤلاء الأسبان بناء سفينة يبحرون بها إلى إسْبانيا، بيد أن سفينة إنجليزية تظهر، ويَقَعُ فيها تمرد يسيطر أصحابه على السفينة، ويتركون قائدهم على الجزيرة، إلا أن القائد بمساعدة "كروزو" يستطيع استردادها.
ثم يسافر "كروزو" بعد ذلك إلى البرتغال للبحث عن قائده القديم، الذي يخبره بأن مزرعته "الدراجينية" قد جعلته رجلًا غنيًّا، ومن البرتغال يسافر "كروزو" برًّا إلى إنجلترا، عن طريق إسبانيا وفرنسا؛ حيث يتعرضون في جبال "بريليز" لهجوم من الذئاب، ويُقَرِّر "كروزو" بيعَ مزرعته، إذ إن عودته إلى البرازيل تستلزم تحوله إلى الكاثولوكية، وهو ما لا يريده ثم يتزوج ويصبح أبًا لثلاثة أطفال، وعندما تموت زوجته ويُصبح أرملًا، يعود إلى جزيرته في نهاية المطاف.
هذا، وقد سبق أن رأينا كيف تُؤكد مادة (حي بن يقظان) في موسوعة "اليوكيبيديا" أنّ للرواية العربية تأثيرًا كبيرًا على نظيرتها الإنجليزية، وهو رأي من الآراء المختلفة في هذه القضية، التي ينقسم قارضوا الأدب بشأنها، إذْ هُناك من يتجاهل تلك الصلة، ولا يتحدثُ عنها، بل لا يومئ إليها مجرد إيماء، وكَأنّها لم تكن، ولا يُمكن أن تكون. وهناك من يؤكد أن "ديفو" إنما سبق ما كتبه "سلكيرك" البحَّار الأسكتلندي عن مغامرته الحقيقية المشابهة بما جاء في قصة (روبنسون كروزو) تلك المغامرة التي نُشرت أكثر من مرة قبل كتابة "ديفو" لروايته، وهناك من يشير إلى وجوه الشبه بين العملين، إلا أنه يُردف ذلك إلى بأنه لم يثبت أن "ديفو" قد استوحى كتاب ابن الطُّفيل، إذ ليس هناك أي دليل على أنه قد وقع في يده؛ فضلًا عن أن يكون قد قرأه.
(1/321)
________________________________________
وهناك من يوافق على أنه لم يثبت تاريخيًّا أن "ديفو" قد اضطلع على (حي بن يقظان)، بَيدَ أنّه يُحتم على هذا أنه يكون قد قرأها وتأثر بها، أي: أنه يعتمد على البرهان النظري للواقعية.
يقول الدكتور سعيد إبراهيم عبد الواحد في مقال له بعنوان "الترجمة إثراء للثقافات المختلفة" منشور في مجلة "ديوان العرب" الإلكترونية، بتاريخ الثامن من كانون الأول أي: ديسمبر سنة ألفين وخمس للميلاد، عن (حي بن يقظان): إنها من أعظم قصص العصور الوسطى ابتكارًا، وقد كان لهذه القصة الأثر الفعال في الآداب الأوربية بعد عصر النهضة، وذلك بعد أن ترجمت إلى اللغات الأجنبية المختلفة، وانتشرت طبعاتها في كل مكان، ومن بين المترجمين لهذه الرسالة "ليونج تييه" الفرنسي، ولعله هو أول مَن بحث علاقة قصة (حي بن يقظان) بقصة (روبنسون كروزو) المكتوبة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر في بريطانيا تحت عنوان: "مُغامرات عجيبة في قصة حياة روبنسون كروزو".
ووقفت "جوتيا" عند حد افتراض اطلاع "ديفو" على قصة ابن طفيل، ويذهبُ في "دائرة المعارف الإسلامية"، إلى اعتبار أن "كروزو" تمثل نمطًا لرجل عملي دنيوي، في حين يمثل (حي بن يقظان) مثلًا للحياة التأملية التصوفية. ويأتي "إيرن سبيكر" في كتابة (تاريخ القصة الإنجليزية) الصادر في لندن سنة ألف وستمائة وثلاث وأربعين ميلادية، ليعد (حي بن يقظان) أحد المصادر المحتملة لقصة (روبنسون كروزو) وينضم "وليم كيري" و"ليفين أولو فسون" إلى أولئك الذين جزموا باطلاع "ديفو" على قصة (حي بن يقظان)، في حين يقف "أوجستين سيرار" و"ديهارو ويختناش" دون الجزم.
أما الكتَّاب العرب: عمر فروخ، ومحمد غلاب، وعلي المسراطي، وقدري طوقان، وكمال اليازجي، وأنطوان كرم، وإبراهيم مدكور، ومحمد نصر جمعة،
(1/322)
________________________________________
ولطفي عبد البديع، وسعيد عبد الفتاح عاشور، وكامل كيلاني؛ فقد ذهب جميعهم على تأكيد أثر قصة (حي بن يقظان) في قصة (روبنسون كروزو). وأما من افترض أيضًا اضطلاع "ديفو" على (حي بن يقظان) المستشرق "دويشون" كاتب مادة (حي بن يقظان) في الطبعة الجديدة من "دائرة المعارف الإسلامية"، إذ كتب: أنه من المحتمل أن تكون قصة (روبنسون كروزو) التي ظهر جزؤها الأول عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، مدينة بعض الشيء لترجمة "أوكلي" لقصة ابن طفيل.
كذلك يقرر كامل كيلاني في مقدمة ترجمته المبسطة للناشئين لكتاب (روبنسون كروزو) أنه قد ظهر فيه أثر القصة العربية الخالدة (حي بن يقظان). أما الدكتور عمر فروخ فقد قال في كتابه (تاريخ الأدب العربي): لقد قلّد هذه القصة كتاب كثيرون أشهرهم وأقربهم السياسي القصصي الأدبي "دانيال ديفو" في قصته (روبنسون كروزو). كذلك كتب جميل صليبة، وكامل عياد، في مقدمة تحقيقهما لكتاب (الطفيل مالي). وتمتاز قصة ابن الطفيل عن قصة (روبنسون كروزو) من الناحية الفلسفية، كذلك تمتاز على غيرها من القصص الفلسفية الشرقية بالقرب من الحقيقة الواقعة، وبالوصف الطبيعي، والتفصيلات الدقيقة عن الحياة العملية، عَدَا رشاقة الأسلوب وسهولة العبارات وحسن الترتيب. وهي بهذه المزايا تعد في مقدمة الآثار العربية التي تستحق الخلود في تاريخ الفكر البشري.
وبالمثل تُؤكد مادة (روبنسون كروزو) في موسوعة "سهلول الضوئية": أنّ رواية "ديفو" مُستوحاة من (حي بن يقظان)، إذ نَقْرَأُ فيه أنّ ذلك العمل قصة أوربية
(1/323)
________________________________________
مأخوذة عن قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل الأندلسي، وأنه بعد ترجمة قصة (حي بن يقظان) بدأ الغربيون ينسجون على منوالها، ولعل أهم ما نسجوه قصة (روبنسون كروزو) للكاتب "دانيال ديفو". ورغم هذا؛ فإن كاتب المادة لا يُغْفِلُ الفُروقَ التي بين الروايتين، بل يرصدها معليًا في الوقت ذاته من شأنه الروايات العربية على نظيراتها الإنجليزية.
وأما الدكتور محمد غريب هلال فيستبعد أن يكون لـ (حي بن يقظان) تأثير على قصة "ديفو" لأن التشابه بينهما ظاهري ضئيل كما يقول، علاوة على أن قصة (روبنسون كروزو) أصلًا تاريخيًّا يَتمثل في مغامرات البحار الأسكتلندي "سيلكرك" التي كتب عنها زميل له من البحارة عام ألف وسبعمائة وتسعة، أي: قبل ظهور "روبنسون كروزو" بعشر سنوات. ومع هذا نرى هلالًا في ذات الوقت يؤكد أن قصة الكاتب الإسباني (بلتا أسار جارتسيان ألكريتيكن) التي ظهر أنشاؤها ثلاثة اتباعًا في خمسينيات القرن السابع عشر. إذ من المؤكد في رأيي أن يكون "جراتسان" قد اطلع على قصة ابن الطفيل رغم أنها لم تكن قد ترجمت بعد إلى أية لغة أوربية؛ لأنّه من الصعوبة بمكان أن نرجع هذا التشابه بين العملين إلى مجرد المصادفة.
وهناك أيضًا مدني صالح الذي يَخْلُص في مقاله المنشور في العدد التاسع من مجلة "الأقلام العراقية"، إلى أنّ قصة (روبنسون كروزو) هي عنصر من عناصر "ديفو" الثقافية، وهو ما يؤيده فاروق سعد صاحب كتاب (حي بن يقظان) لابن الطفيل، وهذا يعني أن ذانك الكاتبين يريان أنه لا وجود لأي صلة أو عملية تأثير أو تأثر بين قصة ابن الطفيل، وقصة "دانيال ديفو".
وبالمثل فإن كاتب مادة (روبنسون كروزو) في موسوعة "الإنكارتا" الإنجليزية طبعة ألفين وستة، لا يُشير لأي صلة بين العملين، مكتفيًا فقط بلفت النظر إلى ما
(1/324)
________________________________________
قيل عن تأثر "ديفو" في كتاب (روبنسون كروزو) بما وقع ألكسندر "سيلكرك" بمغامرات حقيقية قرأها الجمهور على نطاق واسع قبل صدور (روبنسون كروزو).
ونفس الشَّيء يردده كاتب ذات المادة في النسخة الفرنسية من طبعة ألفين وتسعة، من "الإنكارتا" إذ يُرجع مصدر إلهامها إلى "ألكسندر سيلكرك" البحار الأسكتلندي الذي غرقت سفينته، واضطر للعيش وحيدًا فوق جزيرة من جزر أرخبيل "خوارفنديز" بشيلي، وعلى نفس الشاكلة تمضي "إنسيكلوبيديا بريتانيكا" الموسوعة البريطانية طبعة ألفين وثمانية في ترجمتها لـ"ديفو"، إذ كل ما تقوله في هذا الصدد هو أن المؤلف قد اعتمد جزئيًّا على مذكرات بعض الرحالة، والناجين من الغرق من أمثال "سيلكيرك" ثم لا شيء آخر.
وتكتفي مادة "دانيال ديفو" في إ"نسيكلوبيديا يونيفرسالس" الموسوعة "اليونيفرسالية" بالقول بأنّ رِوَايةَ "دِيفُو" تَستلهِمُ مغامرات البحار الأسكتلندي "سيلكرك".
وأما من وقفوا نفس الموقف الذي وقفه مدني صالح الدكتور بسام مرتضى، الذي قام بمقارنة بين العملين مبينًا أن التشابه بينهما يثير كثيرًا من الأسئلة، حول مدى تأثير الرواية الأولى في الثانية، وبخاصة أن (حي بن يقظان) تسبق (روبنسون كروزو) في الظهور بزمن جد طويل، فضلًا عن ترجمتها إلى بعض اللغات الأوربية قبل ظُهور رواية مغامرات (روبنسون كروزو) بزمن طويل.
وقام دكتور مرتضى بتلخيص قصة (حي بن يقظان) الذي قذفت به الأمواج إلى جزيرة "الواق واق" الخيالية؛ فتحدث عما ذكره ابن طفيل من ولادة حي غير
(1/325)
________________________________________
العادية، وكيف عاش في كنف غزالة أعانته على الحياة كما تعين الأم وليدها، وكيف وعى الفروق الجسدية التي تميزه عن حياة الغابة، وكيف أخذ يستر عورته وجسده بأوراق الأشجار؛ ثم كيف ماتت الغزالة، فحاول معرفة أسباب موتها لكن دون جدوى، وكيف دفنها كما تفعل الغربان ... إلى آخره.
وانتقل البحث بعد ذلك إلى الحديث عن نمو مدارك ابن يقظان وحواسه، واكتشافه للنار، وفهمه لمسألة الجسد والروح، وكيف أخذ يدرك طبيعة الأجساد والأشياء من حوله، ويَعرف طبيعة الأفلاك والأجرام السماوية ليتوصل إلى أن هذا كله لا يصل إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال.
وعندما بلغ ابن يقظان الخامسة والثلاثين، تحول حرصه من معرفة المصنوع إلى معرفة الصانع؛ فزهد في الطعام والشراب ولجأ إلى كوخ ينفق وقته في التأمل؛ رغبةً في الوصول إلى مرتبة مشاهدة الحق، إلى أن تم له ذلك ففني عن ذاته، وعن جميع الذوات، ولم يعد في الوجود إلا الحي القيوم، وبقي كذلك حتى بلغ الخمسين من عمره.
ثم أوضح الباحث كيف تعلم (حي بن يقظان) لغة الكلام من رجل اسمه أسال قدِمَ إلى الجزيرة، وكيف اصطحبه أسال إلى مدينته لإقناع الناس بأهمية التأمل لحياتهم الروحية؛ لكن ذلك لم يجد معهم للنقص الذي كان في فِطرتهم، فرجعَا معًا إلى جزيرة "الواق واق" حيث أخذَا يعبدان الله بطريقتهما، حتى أتاهما اليقين.
ثم ينتقل الباحث إلى تلخيص رواية (روبنسون كروزو) فيقول: إنّها تتحدث عن مغامرات (روبنسون كروزو) الذي ترك بيته وأهله، خلافًا لغربتهم، ورحل طالبًا الثروة والمغامرة؛ فصادف أثناء ترحاله مخاطر وأهوالًا كثيرة، منها غرق سفينته، ثم نجاته رغم هذا، ووصوله على ظهر موجة إلى اليابسة في جزيرة ليس فيها إلا الأدغال والوحوش؛ ليجد نفسه هناك وحيدًا دون رفيق من بني جنسه، ثم
(1/326)
________________________________________
محاولته التأقلم مع حياته الجديدة مستغلًّا كل ما حوله من موجودات في تدبير مأكله وصنع ملبسه. ثم تخليصه بعض العبيد من يد جماعة من آكلي لحوم البشر، وتعليمه العبد "فرايدي" اللغة الإنجليزية ومبادئ النصرانية.

أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)
بعد ذلك يورد الباحث أوجه الاتفاق بين (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو) على النحو التالي:
1 - رمى القدر كلًّا منهما في جزيرة لا حياةَ فيها لبني البشر.
2 - اضطر كل مِنهُما أن يتأقلم مع حياته؛ مُستخدمًا أدوات بسيطة ليحمي نفسه.
3 - يلتقي بـ"أسال"، ويلتقي "روبنسون" بـ"فريداي" فيُعلم أسال حيًّا الكلامَ، ويعلم "كروزو" "فريداي" اللغة الإنجليزية، ومبادئ النصرانية.
4 - حاول ابن الطفيل أن يؤدي عَبْرَ (حي بن يقظان) رسالة مفادها: أن الإنسان قادر بفضل حواسه وعقله وحدسه الوصول إلى حقائق الكون كلها، ومعرفة الله بعقله المحض دون الاستعانة بالأديان، أما "دانيال ديفو" فأراد إيصال رسالة مختلفة بعض الشيء.
5 - تتفق القصتان في كثير من الجوانب الفنية، وفي تعريف الحدث، واعتماد الحوار الداخلي، وتصوير شخصية نامية متطورة.
ثم يسرد المحاضر أوجه التباين بين الروايتين وهي كما يلي:
1 - وصَلَ حَيٌّ إلى الجزيرة وعمره لم يتجاوز اليوم الواحد، على حين وصل "كروزو" إليها وهو شاب؛ فتأقْلَمَ الأوّلُ مع واقعه الذاتي، فيما استخدم "كروزو" خبراته السابقة في عملية التأقلم.
(1/327)
________________________________________
2 - حاول الكاتبان إبراز مقدرة الإنسان في التأقلم مع الطبيعة والحياة دون معين، لكنّ ابن الطفيل كان هدفه رمزيًّا يتمثل في إبراز مقدرة الإنسان على التطور ماديًّا وروحيًّا دون شرائع مسبقة، أما "ديفو" فلم يكن هدفه سوى عرض جانب المغامرة بما تنطوي عليه من تصعيد قصصي، وتشويق.
3 - لقاء حي بـ"أسال" كان لقاءً نِديًّا بخلاف لقاء "روبنسون" بـ"فريداي" الذي كان لقاء مصلحة ومنفعة.
4 - في رواية (حي بن يقظان) تكثر الأفكار الفلسفية مما أضعف عنصر التشويق والإثارة على عكس رواية (روبنسون كروزو) التي اتسمت بالإحكام الفني.
5 - الجانب المهم في شخصية حي هو التأمل، أما في شخصية (روبنسون كروزو) فهو الاكتشاف وبِناء سلوكي وفقًا لهذا الاكتشاف.
6 - تحدث ابن طفيل في روايته بضمير الغائب، أما رواية "دانيل ديفو" فقد كُتبت بضمير المتكلم مما أعطاها واقعيةً أكثرَ.
7 - رواية ابن طفيل رواية عقلية فكرية، ليس فيه وجود العناصر الاجتماعية الأندلسية أو الأسبانية، بخلاف رواية "ديفو" التي تمجد الحياة الاجتماعية، وصراع الإنسان عبر العمل للسيطرة على الطبيعة.
وهنا يطرح المحاضر السؤال التالي: هل أثرت رواية (حي بن يقظان) في (روبنسون كروزو)؟
ليُجيب موضحًا: أن الترجمتين اللاتينية والإنجليزية لرواية (حي بن يقظان) قد ظهرتا قبل إصدار "ديفو" روايته بأكثر من عشرين سنة، فمن المُحتمل إذًا أن
(1/328)
________________________________________
يكون "ديفو" قد اطلع على عمل ابن طفيل، وهو أمر قد يؤكد اهتمام الأوربيين عمومًا بالثقافة العربية آنذاك. لكن المسألة ليست مسألة عواطف ورغبات كما يقول، لذا لا بد من التروي قبل إطلاق الأحكام، وإضافة إلى ذلك ثمة اعتقاد متناول بين بعض الباحثين مؤداه: أنّ "ديفو" قد اعتمد في روايته على حادثة حقيقية معروفة وقعت لبحار "أسكتلندي" يُدعى "ألكسندر سيلكرك" وهو ما يعني أن تأثر "ديفو" بالرواية العربية ضعيف جدًّا.
وبخصوص اتهام "ديفو" بالسطو على ما كتبه "سيلكرك" البحار الأسكتلندي الذي وقع له مثل ما وقع لبطل "ديفو"، ثَمّ مقال كتبه الدكتور نجم عبد الكريم بعنوان: "روبنسون كروزو سرقة أدبية في سياق المغامرة" نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" العربية اللندنية بتاريخ الاثنين الحادي عشر من أكتوبر سنة ألفين وأربعة، جاء فيه: ينسب الكثير من النقاد العرب أن رائعة الكاتب الإنجليزي "دانييل ديفو" (مغامرة روبنسون كروزو)، إنّما هي مأخوذة من تراث عربي، واعتبروها عبارة عن سطو أدبي على قصة ابن الطفيل (حي بن يقظان).
وهناك مَن يقارن بين أحداثها وبين رحلات السندباد، وفيه من ناسب مغامرة (روبنسون كروزو) إلى تأثرها ببعض الرحالة من العرب، ومِمّا لا شَكّ فيه أنّ الأعْمال الأدبية العظِيمة لا تنبع من فراغ، ولا يلزم أن يخوض الكاتب تجربة أبطال رواياته أو مسرحيته؛ فهناك دائمًا مؤثرات خارجية تدفع بالعمل الإبداعي، وفقًا إلى مدى خروج قدرات وإبداعات ذلك الكاتب في تصويرها.
لكن السيدة "سيلكرك" التي التقيتها مصادفة في مناسبة اجتماعية بمدينة "مارلون" الإنجليزية تزعم عكس ذلك تمامًا، فهي ترى أن "دانييل ديفو" مؤلف رواية
(1/329)
________________________________________
مغامرات "روبنسون كروزو" ما هو إلا كاتب أفَّاق، وسارق لأفكار غيره، وكان جزاؤه أن مات فقيرًا عندما دفن في مقابر الفقراء كما تقول، وتزعم السيدة "سيلكرك" أنها تحتفظ بالأدلة الأكيدة على حقيقة شخصية (روبنسون كروزو)؛ لأنه جدها الرابع، واسمه "ألكسندر سيلكرك" والسيدة "سيلكرك" هذه قد تجاوزت العقد الثامن من عمرها، لكنها تتمتع بذهنية متوقدة، وتتحدث بحماس عن جدها الذي تعتبره الأب الحقيقي لرواية مغامرات (روبنسون كروزو).
وعندما علمت بأنني من المهتمين بالكتابة والنقد، وجهت إليَّ سؤالًا عن ما هو مضمون رواية مغامرات (روبنسون كروزو) فأجبتها أنها تروي عن ملاح بريطاني تحطمت السفينة التي كان يعمل عليها في وسط المحيط الهادي؛ لكنه تمكن من التشبث بقطعة كبيرة من الخشب، ليتخذ منها طوافة تقيه الغرق، إلى أن تقذف به الأمواج على شواطئ جزيرة لم تطأها من قبل قدم إنسان؛ فيجد نفسه مضطرًّا للتعايش مع الحياة الجديدة في تلك الجزيرة مع الحيوانات والطيور.
وتمر الأيام ويجد "كروزو" نفسه ما إن يخرج من مغامرة مثيرة؛ حتى يدخل في مغامرة أكثر منها إثارة، ولقد اتخذ لنفسه عددًا من الأصدقاء، هم عبارة عن ببغاء وقرد وعنزة، وقد صور "ديفو" حياة "كروزو" في تلك الجزيرة بشكل رائع وشائق، إلى أن تنقذه سفينة عابرة وتعيده إلى المدينة.
بَعدَ أن لخصت روايات (روبنسون كروزو) للسيدة "سيلكرك" أضفت أن هذه الرواية ضربت رقمًا قياسيًّا في الترجمة عن الإنجليزية إلى اللغات الأخرى، فأنا مثلًا قرأتها باللغة العربية، كما قرأها الملايين من الناس بلغات مختلفة قالت "هسير سيلكيرك": ليس هذا فحسب، بل إنها تفوقت على أشهر كتابين ظهرَا في العصر الذي كتبت فيه؛ وهما (ألف ليلة وليلة) المقبلة إلينا منكم يا عرب. و (دونكى شوت) التي تُرجمت إلى الإنجليزية عن الإسبانية و (هادى سيرفانتس).
(1/330)
________________________________________
فأجبتها: ولعلمك إنك لست الوحيدة ممن يزعمون بِسَطْوِ "دانيال ديفو" على أحداث (روبيسون كروزو) والبعض منهم لديه مقارنات يدلل بها على ذلك السطو؛ فما هو دليلك على أن مؤلف (روبنسون كروزو) قد سطا على تراث جدك "ألكسندر سيلكيرت" الذي لم يسمع به أحدٌ من قبل؟
ظهر الانزعاج على ملامح السيدة، وقالت بعصبية: جدي وُلد في قرية "لارجوا" الاسكتلاندية، عام ألف وستمائة وستة وسبعين وهو يعني "الديفو" وكان يلتقيان في حالة واحدة في السنوات الأولى من القرن السابع عشر، وكان جميع الناس يعرفون تلك المغامرة والتجربة التي مر بها جدي "سيلكيرك" وكان "ديفو" يسمعونه لعدة أشعر ويدون بعض أحداثها، ولكنه قد زيف الكثير مما جاء فيها من أحداث.
ثم أخذت تروي قصة جدها الذي كان يعمل بحارًا في سفينة تجارية، كان ربانها شديد القسوة على بحارته، وقد بلغت قسوته أنْ قام بشنق ثلاثة من الرجال أمام زملائهم في وسط البحر، وألقى بجثثهم في الماء في أثناء رحلة لأمريكا الجنوبية، ولم يكن أمام البحارة وهم يقاسون من عذابات الربان، سوى التمرد والثورة التي دفعت بهم إلى الفتك بالربان ومساعديه، وفروا بالسفينة يجوبون بحار الجنوب.
بينما كانت السفن البريطانية تطاردهم؛ فاتفقا "ألكسندر سيلكيرك" -الجد الرابع للسيدة التي تروي الحكاية- مع زميل له على الفرار من السفينة، ونفذَا خطتهما في جوف الليل بعد أن قاما بسرقة قارب صغير انطلقَا به علي غير اتجاه إلى أن قذفت بهم الأمواج على شواطئ جزيرة ذات طبيعة أخَّاذة، مليئة بالطيور والحيوانات الأليفة؛ لأنها كانت تقف أمامهما ولا تنطلق هاربة خائفة منهما، وهذا يدل على أن الجزيرة لم تطأها أقدام بشرية من قبل.
(1/331)
________________________________________
وفي اليوم الثاني لوجودهما في الجزيرة، مات زميله "ألكسندر سيلكريك" لأنه تناول فراولة مسمومة، وظل "ألكسندر" يعيش في الجزيرة بمفرده، بعد أن هيأ لنفسه أجواءً تسمح له بالعيش فيها طيلة حياته، ومما عُثر عليه في أوراقه عن وصفه لتلك الجزيرة -كما تقول حفيدته- أنها جنة الله في الأرض؛ فكافة أنواع الفواكه والأطعمة موفورة فيها بكثرة، ومياه غدرانها عَذْبة كالشهد، وكنت أصطاد فيها الغزلان والديكة البرية، وإذا رغبت في شرب شيء من اللبن فما ألذه من ضَرعي "مالي" تلك العنزة التي كانت تتبعني أينما أذهب، وقد بنى "سيلكيرك" كوخًا من عيدان الخيزران وأوراق الشجر العريضة.
وقد استرسلت السيدة في وصف تلك الجزيرة على ضوء قراءتها للأوراق التي خلفها لها جدها، ومن أطرف ما قالت في هذا الصدد: إنّ القطط والكلاب لم تكن بينها تلك العداوة التي نعرفها هنا في معيشتها بين ظهرانينا؛ فالحيوانات في تلك الجزيرة الساحرة كانت تعيش في سلام ومحبة، ومما ذكره جدي في أوراقه: كنت أشاهد الحيوانات كيف تقضي وقتها باللعب معًا؛ فالفئران كانت تركب على ظهر القطط، والقطط تتسابق مع الكلاب، وكثيرًا ما كنت أجدها تنظف جلود بعضها البعض بألسنتها، ولم يحدث أن وجدت عَداء ًبين أي من الحيوانات التي تعيش على يابسة تلك الجزيرة.
ولكنّ الذي حفذ "ألكسندر سيلكيرك" للعودة إلى المدينة، هو عثوره على مجرى للتبر، أخذ يَجْمَعُ منه ما يستطيع جمعه، وعبأه بأكياس جلدية صنعها من جلود الحيوانات، وحذر أن هذه الثروة ستمكنه من العيش برغد في حالة عودته إلى العالم المتحضر؛ فصار يجمع الحطب والأخشاب بكميات كبيرة ويضرم فيها النار، ليتصاعد بها الدخان الذي يلفت إليه انتباه السفن البعيدة.
(1/332)
________________________________________
وبعد محاولات متعددة أثمرت خطته أن سفينة "الدوك" قد اقتربت من تلك الجزيرة، وكان ذلك في عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين، وما إن تمكن من الصعود إليها حتى علم البحارة أن الملكة "إليزابث" قد أصدرت عفوًا شاملًا عن جميع البحارة الملاحقين الإنجليز؛ احتفالًا بانتصار بريطانيا على الأسطول الإسباني، فوصل "ألكسندر سيلكريك" حاملًا أكياس التبر التي كون منها ثروة طائلة.
وقد وعدتني السيدة "سيلكيرك" بأن تزودني بنسخ من الصور الأصلية للأوراق التي كتبها جدها "ألكسندر سيلكيرك" الذي توفي عام ألف وسبعمائة وثلاثة وعشيرين دون أن يعرفه أحد، بينما دوت شهرت "دانيال ديفو" في كافة أنحاء العالم، وأصبح من أشهر المؤلفين في التاريخ بينما هو ليس سوى سارق لقصة جدي على حد تعبير السيدة التي راجعت معها تفاصيل ما أوردته بمعلومات في هذه المقالة؛ فوافقت على ما جاء فيها مع بعض التعديلات التي أشارت إليَّ بها، ولكن أين هي الحقيقة؟ الحقيقة: أن (مغامرات كروزو) صارت أكبر من كل الادعاءات.
هذا ما كتبه الكاتب.
والآن وبعد أن ألممنا جيدًا بشكل القصتين ومضمونهما، واطلعنا على المقارنة المختلفة بينهما، وعَرفنا الظروف التي صدرت فيها كل منهما، يُمكننا أن نقول: لا شك أنه كان لمغامرت "سيلكيرك" التي سجلها القبطان الذي أنقذه ونشرها على الجمهور، فضل كبير على "ريد ديفو" إذ لا يعقل أن تنشر تلك المغامرات في العصر الذي يعيش فيه كاتب وأديب وسياسي مثله، دون أن يدري ويتأثر بها في قصته. والإجماع منعقد على الاعتراف بهذا التأثير.
لكن؛ هل هذا يعني بالضرورة أنه لا مكان لأي تأثير من جانب (حي بن يقظان) في ذلك العمل؟ لقد تمت ترجمت الرواية الأخيرة إلى الإنجليزية واللاتينية قبل
(1/333)
________________________________________
كتابة "ديفو" روايته بزمن غير قصير، وليس من المعقول أيضًا أن يجهل واحدٌ مثله ذلك العمل الذي شَدّ كِبار عَصره في أوربا كلها، وأعجبهم إعجابًا شديدًا، وكانت له تلك التأثيرات العميقة على عدد من مفكري القارة وفلاسفتها.
ومن هنا؛ فإنني أقول: بأنه من المرجح أن يكون "ديفو" قد تأثر بها أيضًا كما تأثر بما "ورد سيلكيرك" تأثر بها على الأقل من حيث أنها قد شجعته على أن يحول ما قرأه عن مغامرات البحار الإسكتلاندي إلى عمل قصصي، وعلى تضمينه في قصته بعض القضايا الفكرية، مثلما اشتملت (حي بن يقظان) على مثل تلك القضايا، وإن اختلف نوع القضايا هنا عنها هناك؛ نظرًا لاختلاف الشخصيتين والبيئتين والثقافتين والوظيفتين.
صحيح أن أحدًا من المقننين لم يستطِعْ حتى الآن -في حدود علمنا- أن يضع يده على شيء يثبت أن "ديفو" قد اطلع فعلًا على (حي بن يقظان)، بَيْدَ أن هذا لا يستلزم بالضرورة أن يكون الاطلاع قد حدث، أو أن التأثر لم يقع، إذ الأمران مختلفان تمامًا.
وعلى هذا، فإنني لا أستطيع الجزم بتأثير القصة العربية على نظيرتها الإنجليزية كما صنع بعض المتحمسين من الباحثين العرب والأوربيين، بل أكتفي بالترجيح؛ نظرًا لما ذكرته من الأسباب الحاملة لي على ذلك، بالإضافة إلى وجوه التشابه القوية بين العامين، وقرب الزمانين اللذين ظهرا فيهما؛ أما الجزم بنفي أي تأثير لرواية بن الطفيل على (روبنسون كروزو) فأمر لا يمكنني الإقدام عليه، ولا حتى تقبله.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(1/334)
________________________________________
الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي.
(1/335)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث عشر
(التاريخ ذو الطابع الأدبي)

تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها
فعلى الله نتوكل ونبدأ فنقول:
علم التاريخ كما تقول المادة المخصصة له في (الموسوعة العربية العالمية) هو: أحدُ العلوم الاجتماعية التي تعنى بدراسة الماضي البشري، ويقوم المؤرخون بدراسة الوثائق عن الحوادث الماضية، وإعداد وثائق جديدة تستند إلى أبحاثهم. وقد درس المؤرخون كافة مظاهر الحياة الإنسانية الماضية، والأحوال الاجتماعية والثقافية، تمامًا مثلما درسوا الحوادث السياسية والاقتصادية، وهم يخرجون من ذلك كله بتفسيرات متعددة للماضي.
ويقولُ كاتب المادة: "إن المؤرخين ظلوا حتى القرن العشرين يعنون في المقام الأول بالأحداث السياسية، وكانت كتاباتهم مقصورة على الدبلوماسية والحروب وشئون الدولة. أما الآن -فكما يقول- يدرسون إلى جانب هذا طائفة من المواضيع الأخرى؛ فينظر بعضهم في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، ويتقصى آخرون تطور الحضارات والفنون أو العناصر الأخرى للحضارة". هذا ما قاله الكاتب؛ لكنّ هذا الحكم يحتاج -فيما يبدو لي- إلى مراجعة إذ ترك لنا القدماء ومنهم أسلافنا العرب كثيرًا من الكتابات التي تصف لنا الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وإن لم يكن من عادة أصحابها أن يسموها تاريخًا، فه ذ اهو السبب فيما كتبه كاتب المادة.
وتمثيلًا لذلك نشير إلى كتاب (تجارب الأمم) لـ "مسكويه" وهو مؤرخ إسلامي، وقد عالج في كتابه ضمن ما عالج الحالة الاقتصادية والحربية للدولة، والأوضاع الاجتماعية للشعوب، وكذلك كتاب (إغاثة الأمة بكشف الغمة) للمقريزي، هذا الكتاب الذي قال فيه الدكتور نجمان ياسين في مقال له بعنوان "التفكير الاجتماعي
(1/337)
________________________________________
والاقتصادي في كتاب إغاثة الأمة بكشف الغمة للمقريزي" وهو منشور في موقع "التراث العربي": "إنه في الأساس يدرس المجاعات والكوارث الطبيعية والاجتماعية التي حلت بمصر، منذ العصور القديمة حتى عصر المقريزي نفسه، حين برزت فيه سنوات الجدب والقحط، ونقص المياه والآفات الطبيعية".
وهذا يعني أن جانب المعاناة والمعايشة للمشكلة متوفرة فيه، فإذا علمنا أنه يتوفر على جانب العلم والمعرفة بطبيعة ما يحدث، أدركنا مدى الأصالة في كتابه هذا. وابتداء يقرر المقريزي أن هذه المجاعات والمحن مرتبطة بأسباب مشخصة، وأنها ليست قدرًا لا يمكن الفكاك منه، إذ يرفض الاستسلام للجبرية ويأخذ بمبدأ السببية، مقررًا أن ما تحدثه الطبيعة يمكن أن يتجاوزه الإنسان الذي بمقدوره تحاشي المجاعات أو الكارثة الطبيعية، بالتخطيط والتّصرف المستند إلى معرفة الأسباب والدوافع. وكثير من كتب التاريخ الإسلامي لا تقتصر على أخبار الحكام وحدها، ولا على الأحوال السياسية فقط؛ بل تتناول أمورًا كثيرة من حياة الشعب بجوانبها المختلفة، وتحتاج دراسة التاريخ -كما يقول كاتب المادة المذكورة- إلى العديد من العمليات، ويَتَّبِعُ مُعظم المؤرخين بعض الخطوات الرئيسية في أعمالهم.
أولًا: يتمُّ اختيار قضية أو شخص ينتمي لفترة معينة من الماضي للدراسة. ثانيًا: قراءة الكثير من المصادر المادية، أي: كل شيء دُوِّن حول الموضوع، وهو ما يعرف بعملية جمع المعلومات من المصادر المختلفة، وتفسر بعد ذلك المعلومات التي تم جمعها. وأخيرًا تدوين حكاية تاريخية أو ترجمة شخصية،
(1/338)
________________________________________
ويَستخدم المؤرخون في أبحاثهم نوعين رئيسيين من المصادر: مصادر أولية، ومصادر ثانوية. وتتكون المصادر الأولية من الوثائق والسجلات الأخرى عن الفترة الجاري دراستها، بما في ذلك: الكتب، واليوميات، والرسائل، والسجلات الحكومية. وتم استخدام الأفلام وأشرطة التسجيل بوصفها مصادر أولية للحوادث منذ بداية القرن العشرين. وتتكون المصادر الثانوية من المواد التي يتم إعدادها فيما بعد من قبل دارسي المصادر الأولية، ويختار المُؤرِّخُون الوثائق التي تُظهر بدقة الحقائق التي يرغبون في معرفتها، لهذا فهم يفضلون المصادر الأولية على الثانوية، والتقارير السرية على العلنية.
ويستخدم المؤرخون الذين يدرسون وقائع حديثة نموذجًا خاصًّا من المصادر، إذ يعتمدون على مقابلة المشاركين في صنع الحوادث، وتدوين شهاداتهم الشفوية، وبذلك يُكَمِّل التاريخ الشفوي التاريخ الوثائقي المكتوب. وتعتبر نُدرة المصادر إحدى المُعضلات الكبيرة للمؤرخين الذين تشبه أعمالهم في بعض الأحيان الاكتشافات، فهناك العديد من الأعمال والأفكار لأفراد عاديين لم تسجل ولم تدون البتة، كما أن كثيرًا مما قد دون قد فقد أو أتلف بمرور الزمن، وكذلك على المؤرخين الاعتماد على كتابات القلة من المؤلفين أصبح بعضها قطعًا متفرقة هنا وهناك. ويُحَلّل المؤرخون الوثائق التي عليهم العمل بها، لتحديد ما يمكن الاعتماد عليه منها، وتَتِمّ مقارنة الوثائق بمصادر أخرى منعًا لوقوع أي خطأ في تسلسل الأحداث، أو اختلاف في أسلوب الكتابة. وعليهم أيضًا التأكد من أمانة كاتب الوثيقة الذي يتعاملون معه.
(1/339)
________________________________________
وتُعَدّ الحَقائق التاريخية الرئيسية معطيات عامة، تعتمد من قبل جميع المؤرخين؛ لكونها غير مشكوك فيها، ومع ذلك يختلف المؤرخون في الغالب حول معاني تلك الحقائق، ويحاولون أن يكونوا محايدين قدر الإمكان. لكن قد تؤثر معتقداتهم والأحكام المسبقة في تفسيراتهم. فعلى سبيل المثال قد تحمل الأفكار الاجتماعية والاقتصادية والدينية مؤرخًا ما على رفض ما يعتقده الآخرون أمرًا عاديًّا أو مسلمًا به، ويحدد هذا الحكم بالمقابل ما يقبله المؤرخون شهادة موثوقا بها، أو دليلًا لتفسير الحوادث. وفي نهاية المطاف يُعِدّ المؤرخون بيانات مدونة عن الحوادث، وكتابة التاريخ جزء من ميدان يُدعى التأريخ، ويقال: إنّ أقدم تاريخ مدون في العالم قد جاءنا من الصين، وقد اكتشف علماء الآثار وثائق عن التاريخ الصيني المكتوب قبل ألف سنة قبل الميلاد، كان "سيما كيان" أول مؤرخ صيني كبير دون معظم أحداث التاريخ الصيني المبكر.
أما بالنسبة إلى كتابة التاريخ الغربي؛ فيقولون: إنها بدأت في اليونان القديمة، وكان أول المؤرخين الإغريق هو "هيرودت" الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وكتب الكثير عن الحروب التي دارت بين الإغريق والفرس، وكان لدى "هيرودت" الذي يدعى أبا التاريخ القليل من الوثائق الإغريقية، ولم يكن يعرف اللغة الفارسية لهذا اعتمد بشكل رئيسي في سرده على الشهادات الشفوية والتقليدية، وأضاف إليها تفاصيل خيالية؛ لتصبح أكثر حيوية. غير أن المؤرخين الغربيين يؤكدون دقة كتاباته من الناحية الأساسية، وأكثر خلفاء "هيرودت" شهرة في ميدان التأريخ هو "ثيور ديسيدس" الذي اعتمد الدقة والنقد في كتاباته، ويعد كتابه عن تاريخ الحرب "البلوبونيزية" زاخرًا بمعلومات دقيقة
(1/340)
________________________________________
وموثوقة عن تلك الحرب التي امتدت سبعة وعشرين عامًا، وحققت فيها "إسبرطا" النصر على أثينا عام أربعمائة وأربعة قبل الميلاد.
كما اشتهر أيضًا عدد من المؤرخين الرومان مثل: "لفيتيتوس لفيوس" الذي كتب كتابًا مطولًا تضمن قصصًا مفصلة بعنوان: (تاريخ روما) قدم فيه قصة روما منذ إنشائها حتى العام التاسع قبل الميلاد، واشتهر "كونيوليوس تاكيتوس" خصوصًا بكتابيه: (تواريخ) و (تحويلات). وتتناول تلك الأعمال التاريخ الروماني منذ وفاة الإمبراطور "أغسطس"، في العام الرابع عشر بعد الميلاد، وحتى نهاية حكم "فيتليوس" عام تسعة وستين ميلادية.

منهج كتابة التاريخ الإسلامي
وفي مادة منهج كتابة التاريخ الإسلامي من الموسوعة ذاتها، يقول كاتب المادة: "إنّ المنهج الإسلامي في تناول أحداث التاريخ الإسلامي منبثق من تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان؛ فيقوم في أساسه على أركان الإيمان في الإسلام، وينبني على فهم دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الأول، مما يَجْعَلُ حَركة التاريخ الإسلامي ذات طابع مميز عن حركة التاريخ العالمي، الذي لا أثر فيه للوحي الإلهي. وتُوزن أعمال المؤرخين والباحثين ومذاهبهم ومناهجهم على هذا الأساس من الالتزام بالعقيدة الإسلامية؛ فليسَ من حق المسلم مثلًا أن يتهم أحدًا بناءً على رواية ضعيفة، ثُمّ إذا ثبتت الرواية؛ فإنّ هُناك قيودًا شرعية يلزم مراعاتها في نقد الأشخاص، وملاحظة مقاماتهم التي حددها كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد؛ لأنّ الكلام في الأنبياء والصحابة ليس كالكلام في أحد غيرهم، كما أن الكلام في عموم الناس له حدود وضوابط.
(1/341)
________________________________________
أما غير المُسلم فإنه عندما يتناول قضايا التاريخ الإسلامي يتخبط في الظنون والأوهام؛ لإعْراضه عن الوحي الرّباني، واعتماده في المقام الأول على التفسير المادي للتاريخ. وفِيما يخص مَصادر طرق إثبات الحقائق التاريخية عند العرب القدامى نجد علماء السنة قد قاموا بوضع قواعد وضوابط يعرفون بها صحة المرويات، واتبعوا منهجًا دقيقًا في نقدها عندما ظهر الوضاعون، ويَنْبَغي للمُؤرّخ المسلم أن يَطّلع على ذلك، ويفيد منه في دراساته التاريخية، والمصادر المهمة في هذا الجانب هي كتب مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، وعلم علل الحديث. وهذه الكتب لازمة للمؤرخ لتعينه على نقد الروايات والترجيح بينها، ومعرفة صحيحها من سقيمها.
أما كُتب التاريخ الإسلامي المتخصصة، سواء أكانت مصادر أولية مثل (السيرة النبوية) لابن إسحاق، وتاريخ الطبري، أم مصادر ثانوية مثل كتاب (الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية) لابن الطقطقى الذي عاش في القرنين السابع الهجري والثامن الهجري؛ فإنها تحتوي على مادة علمية تاريخية تحتاج تمحيصًا، فهي مصادر في المعلومات التاريخية وليست مصادر في نقل الأخبار". ويَستمرُّ كاتب المادة فيقول: "إنه لما كان منهج كتابة التاريخ الإسلامي يعتمد في أصوله على العقيدة الإسلامية؛ فإنّه يُمكن القول بأنّ مَصادر هذا المنهج هي نفس مصادر الشريعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
ففي مجال تفسير الحوادث التاريخية نجد أنه ليس تفسيرًا تبريريًّا، أي: أنه لا يُعتذر فيه عما حدث في الماضي، إذا كان مُخالفًا لمقاييس العصر الذي نعيش فيه، بل
(1/342)
________________________________________
تبرُز فيه خصائص الإيمان المستعلي على ما سواه، كما أنه ليس تفسيرًا ماديًّا يحصل المؤثرات على حركة التاريخ البشري في العوامل المادية، مثل تبدل وسائل الإنتاج، كما في الفكر الماركسي، أو التفسيرات المعتمدة على أثر البيئة الخارجية من جغرافيا واقتصاد، كما في الفكر المادي الغربي، بل يوضح دور الإنسان ومسؤوليته عن التغيير الاجتماعي والتاريخي في إطار المشيئة الإلهية". ولكن؛ ماذا عن القواعد العلمية التي كان يلتزم بها المؤرخون المسلمون؟ يجيب الكاتب قائلًا: "نحن هنا نرسُم منهجًا مثاليًّا في البحث العلمي كما نراه مطبقًا في مؤلفات المحققين من علماء التاريخ الإسلامي، لا سيما القدماء منهم"، ونَستطيعُ أن نُلَخِّص سمات هذا المنهج في النقاط الآتية:
1 - استخدام الأدلة والوثائق بعد التأكد من صحتها.
2 - حُسن استخدام الأدلة والوثائق باتباع التنظيم الملائم للأداة مع تحرير المسائل وحسن عرضها.
3 - الإيمان بكل ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة من الإيمان بالغيب، والجزاء والقضاء والقدر، وردُّ كل ما خالف ذلك.
4 - تحري الصدق في استقصاء جميع الروايات والأدلة حول الحدث الواحد، ثم الجمع بينها إذا أمكن ذلك، أو الترجيح بين الروايات المختلفة وفقًا للقواعد المقررة للتحقيق، مع الاستعانة بأقوال العلماء الثقات.
5 - بيانُ المَصادر والمراجع التي استمد منها معلوماته، مع الضبط المتقن في نقل الأحوال ونسبتها.
6 - الاعتماد على النصوص الشرعية والحقائق العلمية ونبذ الخُرافات.
(1/343)
________________________________________
7 - الالتزام بقَواعد اللغة العربية، وعدم إخراج اللفظ عن دلالته إلا إذا وجدت قرينة صارفة له عن دلالته المباشرة.
8 - استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية، مثل: المؤمن والكافر والمنافق، إذ لكل من هذه المصطلحات صفات محددة ثابتة وردت في القرآن الكريم وأحاديث الرسول، ولذلك لا ينبغي العدول عن هذه المصطلحات إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية. كذلك؛ فإنّ الحُكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن نستخدم فيه المصطلحات الشرعية كالخير والشر والحق والباطل والعدل.
9 - اعْتِمَادُ المصادر الشرعية والأصلية، وتقديمها على كل مصدر إذ يجبُ على الباحث المُسلم أن يعتمد على القرآن الكريم، ويَعُدّه مصدرًا أساسيًّا في استقاء معلوماته عن الأنبياء والأمم السابقة وسيرة الرسول؛ لأن القرآن الكريم قطعي الثبوت، ويأتي بعده الحديث النبوي في قوة الثبوت. وقد اتبع علماء الحديث منهجًا علميًّا دقيقًا في تدوين السنة، وجاء في القرآن والسنة أيضا الإشارة إلى جملة من القوانين التاريخية، والسنن الربانية؛ مما يعطي الباحث نظرة شمولية وعميقة في التحليل للأحداث. ولا بد أن يكون عالم التاريخ عالمًا بالقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، ليحسن استخدام هذين المصدرين الأساسيين.
10 - التجرد من الأهواء المذهبية أو العنصرية أو القومية أو السياسية، إذ يشترط في المؤرخ المقبول الرواية مجموعة من الصفات والشروط، التي يجعلها بعضهم كشروط راوي الحديث النبوي، ومن المعلوم أنّ الأخبار التاريخيّة لا تَصِلُ إلى درجة الأحاديث النبوية إلا في النادر.
(1/344)
________________________________________
وإذا تناول المؤرخ أحداث فترة الخلفاء الراشدين وما بعدها، وكانت مصادر مادته من كتب الإخباريين ولا تتعلق بالعقائد والأحكام الشرعية؛ فهناك قاعدتان أساسيتان، يجب ألا يغفل عنهما المؤرخ المسلم، وهما: النزعة المذهبية الإخباري، فمن كان متعلقا بمذهب وفكرة معينة، فهو لا شك سيحاول أن يدخل جميع ما يخدم هذه الفكرة، ولم ينج من هذا الخطر إلا القليل.
ثم النزعة السياسية الإخباري، ويلجأ الإخباري في الغالب إلى تدوين الأحداث ووضعها بما يخدم نزعته السياسية، وردّ القائمين على هذه النزعة، وهُنا يَجِبُ على دارس التاريخِ أن يُحَدّد النزعة السياسية الإخباري الذي يُريد أن يأخذ منه، ومدى قربه أو بعده من الحاكم، ومدى صداقته وعداوته له، والعداوة كما نعرف حجاب حاجز عن الحقيقة؛ فلا يُسمع كل كلام الخصم في خصمه بل لا بد من التمحيص، وهذا يعني وجوب أن يكون الإخباري عادلًا.
11 - معرفة مناهج الإخباريين والمؤرخين القدماء: ونجعل الطبري مثالًا في هذا الجانب لأهميته، بوصفه مظهرا من أبرز مظاهر التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام وما قبله. فعلى المؤرخ الحديث بصفة خاصة أن يعرف أن الطبري قد استخدم في تاريخه نفس منهج علماء الحديث في نقل الأخبار -أي: الإسناد- إلّا أنه اختلف معهم في أمر مهم، إذ لم يقم بتجريح رواة أخباره أو تعديلهم؛ فقد كان يعتقد أن رواية الأحداث التاريخية ليست في أهمية رواية الأحاديث النبوية، ولذلك لم يتشدد فيها تشدد رجال الحديث، بل ألقى العهدة في الخبر على راويه.
وذلك واضح في مقدمته التي قدم بها كتابه (تاريخ الأمم والرسل والملوك). التي يقول فيها: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما
(1/345)
________________________________________
يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجلِ أنّه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة؛ فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قِبلنا، وإنّما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا. وأنّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا". ونادرًا ما ينتقدُ الطبري أخباره أو يرجح رواية عن أخرى، وهذا المنهج متبع عند بعض علماء الحديث وغيرهم؛ حيثُ يَذْكُرون ما يبلغهم، ويسوقون سنده ليؤخذ الصحيح ويحتج به، ويُعرف غير الصحيح ويعتبر به.
ولهذا لا يكفي في المنهج العلمي السليم الإحالة على الطبري أو غيره، من الكتب المسندة دون الحديث عن سند الرواية؛ فالطبري مثلًا يروي عن مئات الضعفاء والمتروكين، الذين لا يعتمدهم المحدِّثون في تلقي الأحكام الشرعية والعقائد والحكم على مواقف الصحابة -رضي الله عنهم. ولهذا أصبح تاريخ الطبري مرتعًا خصبًا لأهل الأهواء من أبناء المسلمين وغير المسلمين، لاسيما المستشرقين؛ فالصحابة مثلًا -رضي الله عنهم- عدول بتعديل الله تعالى ورسوله -عليه السلام- وهو اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأن الله -سبحانه وتعالى- قد قال فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110) وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100).
وقال فيهم الرسول: ((استوصوا بأصحابي خيرا ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) و ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)). ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا؛ فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن
(1/346)
________________________________________
آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه، لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق)). وقال أبو زرعة الرازي شيخ البخاري: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله؛ فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحاب رَسولِ الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُّنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة".
وموقف أهل السنة والجماعة من الخلاف الذي شجر بين الصحابة هو: ***** القلم واللسان عن ذكر ما لا يليق بهم، وإحسانُ الظّن بهم، والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم، واعتقاد أنهم مجتهدون. وممن تواترت النصوص بفضله الخلفاء الراشدون، أما سب صحابي لم يتواتر النقل بفضله سبًّا يَطْعَنُ في دينهِ؛ فلا يكفره جموع العلماء، بل يفسقونه، وذَلك لعدم إنكاره أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، إلا أن يسبه من حيث الصحبة، ومن سبه سبًّا لا يطعن في دينه فيستحق التعزير.
في مادة تاريخ الموسوعة العربية العالمية نجد كاتبها يقرر أن أغلب مؤلفات المؤرخين العَرب تدور حول تاريخ البلدان التي فتحوها، وتاريخ الإسلام وتاريخ أهم الأقطار والمدن؛ كمصر والأندلس والمغرب ومكة والمدينة ودمشق ومكة وبغداد، ومن أبرز المؤرخين العرب والمسلمين: المسعودي، وأهم مؤلف له في التاريخ (مروج الذهب) ومحمد بن جرير الطبري وأشهر كتبه (تاريخ الرسل والملوك). ومن أشهر المؤرخين العرب والمسلمين في العالم عبد الرحمن بن خلدون ويعد كتابه (المقدمة) من أروع كتب التاريخ وأوسعها، وقد استقاه من ملاحظاته
(1/347)
________________________________________
فيما يقع من أحداث، وهو يرى أن هناك اضطرادًا في السلوك الإنساني، شبيهًا بِمَا يَحدثُ في الطبيعة، ومن أفضل كتب التاريخ التي ألفت في القرن الثالث عشر الهجري كتاب عبد الرحمن الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) ويعد الجبرتي من بين أشهر مؤرخي العالم العشرة، وكذلك كتب المؤرخ العربي الكبير ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي.
وتقول مادة hestory في موسوعة "كلومبيا" نفس الشيء، ونفس الأمر نجده في موسوعة "انكارتا" الناطقة بالفرنسية، والواقع أنّ الكتاب المعروف بـ "مقدمة ابن خلدون" يعد أساسًا لما أصبح يُعرف فيما بعد بعلم الاجتماع، إذ قام ابن خلدون في تلك المقدمة بفلسفة التاريخ، وأوضاع المجتمعات الإنسانية، ووضع قوانين يرى أنها تحكم مسيرة البشر؛ فلم يكتف برصد وقائع التاريخ، وتسجيلها كما يفعل غيره من المؤرخين، بل قدم تفسيرًا لسلوك الأمم والمجتمعات والدول، يمكن أي إنسان أن يستعمله في تحليل تاريخ أية أمة؛ فنقل بذلك علم التاريخ من حالته الغفل إلى وضعه العلمي الذي صار إليه منذ ذلك الحين. وعما أنجزه ابن خلدون في هذا المجال نسمعه يقول: "فأنشأت في التاريخ كتابًا، وأبديت فيه لأولية الدول عملًا وأسبابًا، وسلكتُ في ترتيبه وتبويبه مسلكًا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقة مبتدعة وأسلوبًا، وشرحت من أحوال التمدن والعمران، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها".
وفي مقال بعنوان "نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون" يكتب علال البوزيد قائلا: "إن ابن خلدون كان مجددًا أيضًا في ميدان الأدب، إذ كان في طليعة كُتاب القرن الثامن الهجري، الذين نَبذوا أغلال السجع وغيره من المحسنات
(1/348)
________________________________________
البديعية المُتكلفة في كتاباتهم، وجعلوها حُرّة طَليقة لا تعنى إلا بقوة التعبير وجماله، ودقة تصويره. لقد كانت الطريقة الشائعة في عصر ابن خلدون هي طريقة القاضي الفاضل، المتوفى سنة خمسمائة وست وتسعين هجرية، وهي تقوم على المبالغة والتصنع بالزينة البديعية من سجع وتورية وجناس وطباق واقتباس، وما إلى هذا. وكان القاضي الفاضل يعتسف هذه المحسنات في نثره وفي شعره، ثم كان تلاميذه المتأثرون بطريقته من بعده أقل منه اطلاعًا، وأكثر باعًا؛ فهبطوا بتكلفهم هبوطًا شنيعًا. كما كان نقاد العصر يَكلفُون بالطريقة الفاضلية؛ فخضع الكُتّاب للنقاد، وجَاروهم في إعجابهم، وأنشئوا على الغرار الذي يرضيهم. أما ابن خلدون فقد تحرر من قيود الطريقة التي وضعها معاصروه للكتابة؛ فكان فذًّا في عصره من حيث تفكيره الأدبي والمنهجي معًا.
ولهذا وذاك نال ابن خلدون إعجاب العلماء في الشرق والغرب، وترجموا مقدمته إلى عدد غير قليل من اللغات، ولم يخف علماء أوروبا وفلاسفتها إعجابهم واعترافاتهم بتفوق هذا الفيلسوف العربي المغربي، وقد سجلت عدة دراسات وأبحاث هذه الاعترافات على لسان كبار الكتاب والباحثين، من الذين اهتموا بدراسة التراث العلمي الأصيل، الذي خلفه ابن خلدون، والذي يؤكد جملة وتفصيلًا اجتهاداته المثالية". ويُضِيفُ الكاتبُ قائلًا: "لقد أجمع غير واحد من الأعلام بأن معالم العبقرية المبدعة متوفرة في شخصية ابن خلدون، وقال عنه المستشرق "ليفيبروفنسال": إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية؛ مما جعله في مسار يُثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين، مسار حدد فيه لنفسه مكانته الخاصة المرموقة في
(1/349)
________________________________________
مصاف العظماء، ذَلكَ أنّ منهجيته في فن التاريخ تعكس نظرة مطلقة أهلته لإدراك حقيقته الخفية، ومعناه البعيد".
وفي الوقت الذي ارتقى فيه الفكر الخلدوني إلى مستوى عال في فلسفة التاريخ، عكف بعض المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم، على دراسة التاريخ على أساس أنه سجل للحوادث والوثائق، وهكذا يتجلى الفرق في الاجتهاد الخلدوني الذي انصب على اعتبار الحوادث موضوعًا له صلة جوهرية بأعمال البشر ونشاطاتهم وأوضاعهم وأحوالهم، في حياتهم واجتماعهم. وممن قدروا عبقرية ابن خلدون حق قدرِها المؤرخ البريطاني "آرنولد تونبي" الذي قال: "إنه قد ابتكر وصاغ فلسفة للتاريخ هي بلا ريب أعظم ما بلغه الفِكْرُ البَشري في جميع العصور والأمم"، كما يقول المستشرق "إيفلا كوست" عن كتاب ابن خلدون: "إنه يمثل ظهور التاريخ كعلم وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية".
وبالمثل يقول مستشرق فرنسي آخر هو "تياي": "إن ابن خلدون قد ترك لنا تآليف قيمة، لم تغن الآداب العربية وحدها، بل التراث الثقافي للإنسانية جمعاء؛ فهو مؤسس علم الاجتماع، وواضع منهج الكتابة التاريخية العلمية، والسببُ في ذلك هو أنه توصل إلى أنّ هناك فلسفتين: فلسفة أصيلة صحيحة، وفلسفة كاذبة خاطئة. وهو ما يدل على أنه قد توصل قبل الفيلسوف الجرماني "إيمانول كانط" إلى التفكير النقدي الهادف إلى تحديد القواعد والمقاييس المنطقية لاستعمال العقل في البحوث الفلسفية، وانتقاداتها للتفكير الفلسفي الذي يتجاوز المقاصد الهادفة".
(1/350)
________________________________________
إن كتاب (المقدمة) وكتاب (العبر) لابن خلدون، هما عمل نادر وعظيم القيمة توجه فيه ابن خلدون إلى الناس جميعًا، لا إلى نخبة من المفكرين، أو إلى جماعة ضيقة من الفلاسفة، والتَّاريخُ كما يراه ابن خلدون فرع من الفلسفة، وله ظاهر وباطن، فأما في ظاهره فلا يزيد على أخبار الأيام والدول، وأما باطنه فنظر وتحقيق وتعليل للكائنات عميق كما يقول هو بأسلوبه. إن ابن خلدون إذ يُخضع الظواهر الاجتماعية للقوانين؛ فإنّما يبحثُ عن مدى الارتباط بين الأسباب والمسببات، ولم يكتف بالوصف وعرض الوقائع وبيان ما هي عليه، وإنّما اتجه اتجاهًا جديدًا في بحوثه الاجتماعية، جعله يعلن بصراحة أن التطور هو سنة المُجتمعات إذ إن الظواهر الاجتماعية لا تثبت على حالة واحدة، وهذا هو السبب في تباين الأنظمة الاجتماعية، بتباين المكان والزمان.
وقد اعتمد ابن خلدون في بحوثه على ما لاحظه في الشعوب التي عاصرها، واحتك بها، ووجد بينها وبين الشعوب السابقة عليها، ودرس العلاقات الاجتماعية بالإضافة إلى ما جمع من معلومات تاريخية أخضعها للعقل، وهو ذو منهج استقرائي استنتاجي، يعتمدُ فيه على الملاحظة والدخول على الموضوع دون أية فكرة مُسَبّقة، وإنْ لُوحِظَ أنّ استقراءه ناقص بعض الشيء؛ لأن الكثير من القوانين والأفكار التي وصل إليها، إنّما تصدق على الأمم التي كانت في عصره، لا على غيرها.
ويُشير الباحثون إلى أن ابن خلدون قد تحدث في (المقدمة) عن القوانين التي يسير عليها التزايد في النوع الإنساني، سابقًا بأربعمائة سنة "مالتس" الإنجليزي في نظريته المتعلقة بتزايد السكان، وهي النظرية التي تقول: إن السكان يتزايدون كل خمس وعشرين سنة بنسبة متوالية هندسية واحد اثنان أربعة ثمانية ستة
(1/351)
________________________________________
عشر اثنان وثلاثون ... إلى آخره. إذا لم يوقف تزايدهم عائق خارجي، وإن لم يعن العالم العربي المسلم بتفصيل الحديث في هذا الموضوع، ووضع قانون محدد للزيادة السكانية كما فعل "مالتس".
وقد سبق في الفقرات الماضية تصنيف التاريخ على أنه علم؛ لكنّ هذا لا يَمنعُ من أن نعده أدبًا بوصفه لونًا من ألوان الكتابة، إذ الأدب في معنى من معانيه هو الكتابة؛ فكل ما هو مكتوب يمكن تسميته أدبًا، بيد أن التاريخ قد يستحيلُ على أيدي بعض كتابه إلى أدب بالمعنى الخاص بالأدب، ألا وهو الكتابة المُمتعة التي تَشُدّ القُرّاء لما تنطوي عليه من أسلوب دافئ فتان، أو وصف مفصل لأشياء من أمور الواقع اليومي بحيويتها ودفئها، وما تعج به من حوارات كاشفة لنفسيات أصحابها، وهكذا. لكن؛ لا بد من التنبيه إلى أنه ليس من الضروري أن يكون التاريخ في هذه الحالة أدبًا خالصًا، بل من الممكن أن تتحقق فيه بعض سمات الأدب فقط لا كلها، وقد قلنا إن بعض أفضل المؤرخين يستخدمون البراعة الفنية للروائيين والكتاب المسرحيين، للتعبير قدر الإمكان.
ولعل هذا الموضع يكون أنسب المواضع لنقل الاقتباس التالي الذي أخذته من مادة " hestory " في موسوعة "انكارتا" الإنجليزية طبعة ألفين وستة " of oll the feels of serya stdy and letary efort hestory my be the hardest defin bresisly becous the atemet to an kavrt bast events and formolat an antelejabolt acunt of them msesrly envorves the use and enfrans of eny ogthelare desblans and letary forms ".
(1/352)
________________________________________
وقد ذكر الدكتور محمد غنيمي هلال أنّ جنس التاريخ عند العرب قد بدأ حول شخصية الرسول -عليه الصلاة والسلام- يُريد أن يقول: إنه أول تاريخ يكتبه العرب كان تاريخ الرسول -أي: السيرة النبوية- وهو ما يكرره وراءه الدكتور الطاهر أحمد مكي؛ لكنّي لا أذهب هذا المذهب، وأرى أن أول كتاب عربي عرض للتاريخ، بل عرض له وحلل ما حكى من وقائعه بأسلوب أدبي فخيم جليل، هو القرآن الكريم؛ فقد تحدث مثلًا عن عدد من الأمم السابقة وزعمائها، وأنبيائها، والناس العاديين فيها، وروى ما وقع منهم ولهم، وحكى كلامهم وبعض ما كان يجري من حوار بينهم، كما هو الحال في حديثه عن نوح وقومه، وما دار بين الطرفين من صراع استمر حتى بنائه -عليه السلام- السفينة، وركوبه وأتباعه إياها، وهطول الأمطار، وغرق الكافرين.
كما تحدث عن موسى وفرعون وقص ما جرى بينهما، بشيء غير قليل من التفصيل، مثلما تحدث عن يوسف ومصر في عهده، والعزيز وامرأة العزيز، والسّجن وما إلى ذلك، وقد صيغ ذلك كله صياغة أدبية فخمة سامقة؛ فكانَ القرآن بذلك ضمن أشياء أخرى كثيرة، وأوليات متعددة، أول كتاب يكتب التاريخ في العربية، فضلًا عن سبكه إياه في قالب أدبي شامخ. ولست بحاجة إلى أن أورد من القرآن شواهد على ما أقول، فكل الناس يعرفون هذا، ولا تعوزهم أمثلة عليه. ويلمس كاتب مادة "لستوار" في موسوعة "إنكارتا" الفرنسية طبعة ألفين وتسعة، يلمس المسألة من زاوية أخرى قائلًا: "إن الرسول هو الذي دفع المسلمين مبكرًا نحو دراسة التاريخ، وذلك من خلال ما بذلوه من جهود لتوثيق النص القرآني، وضمان صحة الأحاديث النبوية".
(1/353)
________________________________________
واستمرارًا مع موضوع الصياغة الأدبية للتاريخ، نقول: إننا في (السيرة النبوية) لابن إسحاق مثلًا نجد كثيرًا من الأشعار توشي الأحداث، وتجري على ألسنة الشخصيات، كما نَجِدُ كثيرًا من التفصيلات والحوارات الواقعية المفعمة بالحيوية، سواء تعلق الأمر بالناس العاديين، أو بالزعماء والقادة. وذلك كي لا يقال: إنّ كتابة التاريخ قديمًا كانت تعنى دائمًا بالسادة ملوك ووزراء وأشباههم ليس إلا، فضلًا عن أن الأسلوب الذي صيغ به هذا كله هو أسلوب أدبي، وإن غلبت عليه البساطة في كثير من كتب السير.
ونضيف إلى هذا: أن سيرة ابن هشام بالذات، وهي كما نَعرف سيرة ابن إسحاق ذاتها معلقًا عليها، ومتصرفا فيها بعض التصرف، هذه السيرة تمتلئ بالأحكام النقدية التمحيصية لما ورد فيها من أشعار، إذ لا يكتفي ابن هشام بإيراد ما أورده ابن إسحاق من النصوص الشعرية، بل عادة ما يُعقب على ما يثبته منها بأنه لم يثبته كاملًا، بل حذف منه أشياء للسبب الفلاني أو العلاني، أو أن النص غير موثوق عند العلماء بالشعر. وقد يحذف النص كله ويشير إلى الحذف معقبا عليه بالسبب الذي حدا به إلى ذلك، وهكذا. أي: أنّ سيرة ابن هشام ليست مُنْبَتّة الصِّلة بالأدب والنقد كما هو واضح، وهذا مثالٌ على ما نقول، وهو من حديث زمزم وحفر عبد المطلب إياها: "ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب؛ فأقامها للناس، وأقام لقومِهِ ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.
ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحِجْر إذ أُتي فأُمِر بحفر زمزم، قال عبد المطلب: إنِّي لنَائِمٌ في الحِجْر إذ أتاني آت؛ فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟
(1/354)
________________________________________
قال: ثم ذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ قال: ثم ذهب عني فلما جاء الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضمونة، فقال: فقلت: وما المضمونة؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدًا ولا تذم؛ تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
قال ابن إسحاق: فلما بُيّن له شأنها، ودُلّ على موضعها، وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره؛ فَحَفر فيها فلما بدا لعبد المطلب الطي كبّر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًّا؛ فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إنّ هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيل، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة؛ فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنّا بِمَفازة، ونحنُ نخشى على أنفسنا مثلما أصابكم.
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما تخوف على نفسه هو وأصحابه، قال: ما ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك؛ فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر
(1/355)
________________________________________
كل رجل منكم حفرته لنفسه، بِمَا بِكُم الآن من القوة، فكُلّما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخركم رجلًا واحدًا فضيعة رَجُلٍ واحِد أيسر من ضيعة ركبٍ جميعًا، قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا. ثم إنّ عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحلوا حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم، ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها؛ فلما انبعثت به انفجرت من تحت خُفّها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب، وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلُمّ إلى الماء؛ فقد سقانا الله فاشربوه واستقوا.
ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب، فوالله لا نخاصمك في زمزم أبدًا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا؛ فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها. قال ابن هشام: هذا الكلام والكلام الذي قبله من حديث علي -رضوان الله عليه- في حفر زمزم من قوله: لا تنزف أبدًا ولا تذم إلى قوله: عند قرية النمل، عندنا سجع وليس شعرًا. قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قيل له ذلك، قال: وأين هي؟ قيل له: عند قرية النمل، حيث ينقر الغراب غدًا -والله أعلم غير ذلك كان- فعاد عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف ونائلة، اللذين كانت قريش تنحر عندهما
(1/356)
________________________________________
ذبائحها فجاء بالمعول، وقام ليحفر حيث أمر؛ فقامت إليه قريش حين رأوا جده، فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنين هذين اللذين ننحر عندهما.
فقال عبد المطلب لابنه الحارث: ذد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به، فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه؛ فلم يحفر إلا يسيرًا حتى بدا له الطي. الطي معناه جدران البئر المبنية بالحجارة. فكبّر وعرف أنه قد صُدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنتهما جرهم فيها، حين خرجت مكة، ووجد فيها أسيافًا قلعيه وأدراعًا؛ فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق، قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح، قالوا: وكيف تصنع؟! قال: أجعل الكعبة قدحين، ولي قدحين ولكم قدحين؛ فمن خرج له قدحه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له. قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل.
وقام عبد المطلب يدعو الله -عز وجل- فضَرَب صَاحِبُ القِدَاح القداح؛ فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان في الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش؛ فضرب عبد المطلب الأسياف بابًا للكعبة، وضَربَ في الباب الغزالين من ذهب؛ فكان أول ذَهبٍ حُلّيته الكعبة فيما يزعمون، ثُمّ إنّ عَبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج". وهُنَاك لوحاتٌ رَائعة أُخرى منتشرة في السيرة النبوية، كتلك التي تصور لقاء المسلمين بالنجاشي، يستفسر منهم عن عقيدتهم في عيسى بن مريم -عليه السلام- وقد أحاط به الرهبان والبطاركة.
(1/357)
________________________________________
وكذلك اللوحة التي ترسم ابتهال النبي الكريم في غزوة بدر لربه أن ينصر عصبة المسلمين؛ لأنها إن هلكت فلن يعبد سبحانه في الأرض. أو تلك التي تسجل لنا ما صنعته هند بنت عتبة في جثة حمزة وكبده، أو تلك التي تنقل لنا لوعة صفية أخت البطل الشهيد، وتعقيب النبي حين سمع بكاء النساء على قتلى أحد، قائلًا في حزن: ((لكنّ حَمزة لا بواكي له)) فذهبت مثلًا.
أو اللوحة التي حدثتنا فيها عن عائشة عن تفاصيل واقعة الإفك، وبخاصة الحلقة الأخيرة منها، عندما نَزل الوحي على رسول الله في بيت أبويها، يبرئها مما قرفت به -رضي الله عنها- ظلمًا وبهتانًا من قبل المنافقين الملاعين، ومن انخدعوا بما قالوه -عفا الله عنهم. وهذا الذي قلناه عن سيرة ابن إسحاق وابن هشام ينطبق على كثير من كتب التاريخ، ولنأخذ هذا النص مثلًا من كتاب ابن الأثير في التاريخ، وفيه يُصَوِّرُ لنَا ليلة من الليالي التي مَضت على الحُسين، وآله ورجاله قريبًا من كربلاء، وقَد عَرض عليهم بعض قادة الجيش الأموي الاستسلام.
قال ابن الأثير: "فجَمَع الحُسين أصحابه بعد رجوع عمر فقال: أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين؛ فاجعلنا لك من الشاكرين، أما بعد: فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي؛ فجزاكم الله جميعًا عني خيرًا، ألا وإني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدًا، وإني قد أذنت لكم جميعًا؛ فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غَشيكم فاتخذوه جبلًا، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله خيرًا.
(1/358)
________________________________________
ثم تفرقوا في البلاد في صعيدكم ومدائنكم، حتى يفرج الله؛ فإن القوم يطلبونني ولو أصابوني لهَوْا عن غيري، فقال له إخوته، وأبناؤه، وأبناء إخوته وأبناء عبد الله بن جعفر: لم تفعل هذا؟ لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدًا، فقال الحسين: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: وما نقول للناس؟ نقول: تركنا شيخنا وسيدنا، وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولا نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ولكنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك، حتى نَرِدَ موردك فقبح الله العيش بعدك. وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نتخلى عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقك، أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك؛ حتى أموت معك وتكلم أصحابه بنحو هذا فجزاهم الله خيرًا. وسمعته أخته زينب تلك العشية وهو في خباء له يقول، وعنده مولى أبي ذر الغِفَاري يُعَالِجُ سيفه:
يا دهر أف لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل ... وكل حي سالك السبيل
فأعادها مرتين أو ثلاثا؛ فلما سمعته لم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، حتى انتهت إليه ونادت: وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت فاطمة أمي، وعلي أبي، والحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمال الباقي، فذهب فنظر إليها وقال لها: يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت وأمي استقتلت، نفسي بنفسك الفدا فردد غصته وترقرقت عيناه ثم قال: لو ترك القطا ليلًا لنام. فنفضت وجهها وقالت: وا ويلتاه! أفتغصبك نفسك اغتصابًا، فذلك أقرح
(1/359)
________________________________________
لقلبي وأشد على نفسي، ثم لطمت وجهها وشقت جيبها، وخرّت مغشيًّا عليها؛ فقام إليها الحسين فصب الماء على وجهها، وقال: اتق الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله أبي خير مني وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.
فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية، إني أقسم عليك لا تشقي علي جيبًا ولا تخمشي علي وجهًا، ولا تدعي علي بالويل والثبور إن أنا هلكت، ثم خرج لأصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن ينشروا الأطناب بعضها في بعض، وكونوا بين يدي البيوت، فيستقبلون القوم من وجه واحد، والبيوت على أيمانهم وعن شمائلهم ومن ورائهم. فلما أمسوا قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويتضرعون ويدعون فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت، خرج فيمن معه من الناس وعبا الحسين أصحابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مطهر في ميسرتهم، وأعطى رايته للعباس أخاه، وجعل البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب فألقي في مكان منخفض من ورائهم كأنه ساقية، عملوه بساعة من الليل، لئلا يؤتوا من ورائهم، وأضرم نارًا تمنعهم ذلك".
وقد بلغ الفن في تاريخ الجبرتي مدى بعيدًا رغم ما يعتور التعبير في أحيان من ضعف، إلا أنّ التصوير الحي والتلقائية العجيبة، والتفاصيل اليومية، والحوارات الواقعية الدقيقة تغطي على هذا كله، وتنبض الأسلوب بالفتنة الساحرة. على أنّ الأمر في التقاء التاريخ بالأدب لا يقف عند هذا الحد، بل هناك من اعتمدوا في كتابة التاريخ السجع والجناس وغيره من محسنات البديع، وهذا مُلاحظ على
(1/360)
________________________________________
وجه الخصوص في الكتب التاريخية التي وضعت في العصور المتأخرة، أيام انحسار رونق الحضارة الإسلامية، وإن كان التسجيع والتجنيس قد بدءا قبل ذلك بوقت طويل.
فرأينا إبراهيم الصابي في القرن الرابع الهجري، والعتبي يؤلفان كتابيهما (التاج) و (اليميني) على الترتيب في بعض ملوك بني بويه والغزنويين سجعًا، ولدينا من هؤلاء أيضًا: العماد الأصفهاني، وحبيب الحلبي، كذلك هناك الشعراء نظموا التاريخ شعرًا. وتم ذلك منذ وقت مبكر منهم على سبيل المثال: يحيى الغزال الشاعر الأندلسي، الذي ذكرت كتب الأدب أنه نظم رجزًا في فتح الأندلس. ومثل ما رجز به علي بن الجهم في تاريخ العالم، ومثل أرجوزة ابن المعتز في تاريخ المعتضد جده، ومثل رجز ابن عبد ربه في تسجيل تاريخ عبد الرحمن الثالث في الأندلس، ومِثل شعر الخُرَني في فتنة الأمين والمأمون، وما وقع ببغداد من الدمار، وكذلك أرجوزة ابن كثير الموجزة عن الخلفاء العباسيين، وأرجوزة ابن عون الدمشقي المسماة "تحفة الظرفاء في تواريخ الملوك والخلفاء" وشعر ابن دانيال عن قضاة مصر. أما كتاب لسان الدين بن الخطيب (رقم الحلل في نظم الدول)؛ فقد جمع بين الشعر والنثر.
وبالنسبة لعلاقة التأليف التاريخي عند العرب بالفرس، يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: "إنّه منذ القرن الثاني الهجري تُرجمت إلى العربية كتب كثيرة من التاريخ الإيراني، أثرت أيما تأثير في جنس التاريخ الأدبي عند العرب، وإن البلاذري، والمسعودي، والدينوري قد ساروا على طريقة الفرس في التأليف التاريخي الخالي من سلاسل الإسناد، إلا أنه للأسف لم يفكر
(1/361)
________________________________________
في أن يمدنا بأسماء تلك الكتب الكثيرة التي يقول: إنها ترجمت من الفارسية إلى العربية. والملاحظ أنه لم يذكر إلا "الشهنامة"، وبِضْعَ فقراتٍ كتبها ابن المقفع وفقدت، فأمّا "الشهنامة" فليست تاريخًا، بل أدبًا من أدب الملاحم بكل ما تنطوي عليه الملاحم من خرافات ومبالغات وخيالات وتفصيلات وطنية، وهو نفسه يقول في الهامش: إن التاريخ عند الإيرانيين كان يختلط بالأسمار والحكايات الخلقية، وقواعد السلوك العامة، فضلًا عن تخلف النقد التاريخي في تلك المؤلفات.
وأما ما فُقِدَ فليس دليلًا على شيء، إذ متى كان المفقود الذي لا وجود له يصلح اتخاذه دليلًا"، ولا ريب أن هذا كله من شأنه بذر بذور الشك فيما بيننا فيما قاله الدكتور هلال، وبخاصة أنه قد قاله اعتمادًا على مقال كتبه المستشرق الهولندي "دي خويه" في طبعة عام ألف وثمانمائة وثمانية وثمانيين، من دائرة المعارف البريطانية؛ فهو إذًا ليس كلامه بل كلام أحد المستشرقين، ولما يُحاول هو أن يسند هذا الكلام ببعض الشواهد التي تعضده؛ فبقي مجرد ادعاء لا دليل عليه وبالذات حين يجعله من "الشهنامة"، وتلك الفقرات المقفعية المفقودة كتبًا كثيرة حسب تعبيره. وفضلًا عن ذلك لم يحاول أن يذكر لنا عنوان المادة التي استقى منها هذا الادعاء، أو رقم الصفحة، واكتفى بذكر المجلد ليس غير، ثم مَن قال: إنّ الفرس كانوا يتسمون بالإيرانيين كما يتعامل هو معهم هنا، إنّ هذه تسمية حديثة، يُسقط الحاضر على الماضي بهذا الشكل غير المسوغ.
وفي نفس الموضوع يتوقف الدكتور هلال بإزاء ترجمة كتاب الطبري (تاريخ الأمم والرسل والملوك) إلى اللغة الفارسية، إذ ترجمه الوزير الفارسي الساماني أبو
(1/362)
________________________________________
محمد علي البلعمي، مع حذف العنعنات، والاختصار في كل خبر على رواية واحدة من الروايات المتعددة التي درج الطبري على أن يرددها في كل خبر يذكره، فضلًا عن زيادته أشياء من عنده من تاريخ فارس القديم، وغيره من الموضوعات إلى ما كتبه. وهنا أيضًا نجد الدكتور هلال يصف الطبري بأنه إيراني، وهو نعت لم يكن متداولًا في ذلك الوقت، بل كان يُقال: فارسي، ومن ناحية أخرى؛ فإن الطبري لم يكن يدور في خلده أنه فارسي، بل أنه مسلم عربي وبخاصة أن الدولة في تلك الفترة كانت دولة مترامية الأطراف، ينتمي مواطنوها جميعًا إلى العروبة لغة وثقافة، وإلى الإسلام عقيدة ودينًا بغض النظر عن أجناسهم ودمائهم.
وهذه كتبه متوفرة في أيدينا، فأين تلك النزعة فيها؟ وعلى نفس المنهج يمضي الدكتور طاهر أحمد مكي فيصف الطبري بأنه إيراني الأصل، ومما تناوله هلال أيضًا: تأثر كتب التاريخ في العصور المتأخرة بما ساد أساليب الكتابة الأدبية إبان ذلك؛ مِن أسجاع وجناسات وتوريات ومحسنات بديعية وأمثال وحكم، ومجازات وسيرها في هذا المضمار، مشيرًا في هذا السياق إلى ما كتبه العتبي في كتابه (تاريخ أمين الدولة) بأنه سلك في ذلك الكتاب مسلك الشعراء، وهو الكتاب الذي فرغ منه عام 412 هـ. ويمضي هلال قائلًا: "إن تأثير الأدب العربي على نظيره الفارسي في تلك النقطة تأثير عظيم على حد عبارته، إذ ترجم "الجربادي قاني" كتاب العتبي الذي ألفه في أمين الدولة إلى الفارسية، ناقلًا بهذا جنس التاريخ من العربية إلى الفارسية بكل خصائصه الفنية، كما كان في الكتاب المترجم، الذي ألفه في أوائل الربع الثاني من القرن الثامن الهجري، وإن أضاف أن المؤرخين الفرس الآخرين لم ينهجوا نهج وصاف المتكلف".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/363)
________________________________________
الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية.
(1/365)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية)

الصياغة الفنية للموشحات والأزجال
فنقول: الموشحات والأزجال: جنسان شعريان اشتهرت بهما الأندلس، وكانا يدوران في كثير من نماذجهما حول الغزل، كما كانا يخرجان على نظام العروض والقافية التقليدي، الذي يجري على وتيرة واحدة وزنًا وقافية من أول القصيدة إلى نهايتها حسبما هو معروف.
ويتركب كل موشح من وحدتين تتكرران عددًا من المرات، وحدة يبدأ بها الموشح في العادة، وتسمى قُفلا، فإذا لم يبدأ بها وبدأ توًّا بالوحدة التالية سُمِّي الموشح أقرع، وهذه الوحدة الثانية تسمى غصنًا، ويتكون الموشح النموذجي في العادة من ستة أقفال، تَحْصر بينها خمسة أغصان، ولكنّ المُوشح غير ملزم بذلك إن شاء أن يزيد، وإن شاء أن ينقص. واجتماع القفل والغصن التالي له يُسمى دورًا، وبعضهم يسميه بيتًا؛ فالموشح النموذجي على هذا الأساس يتكون من خمسة أدوار أو أبيات، وقفل ختامي يدعونه الخرجة، ولكن الأقرع يشذ عن ذلك لأن أحد أقفاله ساقط. وللوَشَّاح أن يجعل عدد أجزاء القفل أو أجزاء الغصن حسبما يُريد، وأهم ظاهرة في التوشيح من حيث النغمة قيام القفل أحيانًا على وزن، وقيام الغصن على وزن آخر؛ فتسير الموشحة في وزنين، والغالب أن يتفق القفل والغصن في الإيقاع العام. وقد يختار الوشاح وزنًا مباشرًا من أوزان القصيد فينسج عليه موشحته مثل:
أيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع
(1/367)
________________________________________
وهذا ما يسميه ابن سناء المُلك الموشح الشعري. وقد يستخرجُ الوشاح وزنًا جديدًا ينظم عليه موشحته. أما الأزجال؛ فيقول الدكتور محمد غنيمي هلال: "إنّها قد ازدهرت في الأندلس، واصطنعت اللهجة العامية أسلوبًا لها، وهذه اللهجة العامية مزيج من العامية العربية، وبَعض الألفاظ الإسبانية المأخوذة من لغة السكان المحليين"، وهو يُرجح أن الأزجال نشأت أول ما نشأت في أواخر القرن الرابع الهجري، رغم أنه لم يبلغنا منها شيء ذو قيمة قبل القرن السادس. ويضيف قائلًا: "إنّ بنية الزجل هي هي بنية الموشحة إلا أن الخرجة فيه أعجمية لا عربية".
وقد حاول المستشرق الأسباني "خوليان ريبيرا" وتبعه على ذلك بعض المستشرقين مثل: "جوميس" و"بيدان" وكذلك بعض المؤلفين العرب مثل الدكتور عبد العزيز الأهواني، والدكتور مصطفى عوض الكريم، وبطرس البستاني أنْ يُفَسّر السببَ في ظهور الموشحات في الأندلس؛ فأرجعها إلى أن أهل تلك البلاد كانوا في حياتهم اليومية يتكلمون العامية الأعجمية "الرومانس" في الوقت الذي كانوا يخصصون العربية الفصحى للأمور الرسمية، ومن ثم نشأ بينهم طراز شعري جديد يقوم على المزاوجة بين العربية الفصحى، والعامية الأعجمية. وهو الشكل الذي أثار استياء العلماء المحافظين، فكان من جراء ذلك أن أخذ الناس جميعًا -حسب عبارته- يتناقلونه سرًّا فيما بينهم، وذاع أمره داخل البيوت، وفي أوساط العوام؛ وما زال يعظم حتى أصبح في يوم من الأيام لونًا من الأدب. وقد ذكر "بلنثية" هذا الكلام في كتابه عن تاريخ الفكر الأندلسي الذي ترجمه الدكتور حسين مؤنس، وانظر كذلك في هذا الموضوع الدكتور عمر فروخ في كتابه (تاريخ الأدب العربي) في المجلد الرابع منه.
(1/368)
________________________________________
وهذه نظرية خاطئة: إذ تفترضُ أنّ أهْلَ الأنْدَلُس كانوا يَتحَدّثون بالعامية الأعجمية، وهو ما لم يَحْدُث ولا قال به أحد، وكيف يمكن أن يقوله أي أحد، بل كيف يمكن أن يخطر شيء من هذا بباله، ولم يحدث يومًا أن اتخذ العرب لغة أهل البلاد التي فتحوها وهم في قوتهم، لقد كان العرب أعز من ذلك بآماد لا تتصور. ثم كيف يكون الناس جميعًا يتناقلون هذا الشكل الشعري سرًّا فيما بينهم؟ إنّ السر معناه أن ينفرد به بَعضُ النّاس دون بعض، أما أن يكون سر بين الناس جميعًا؛ فلا أدري كيف يكون. كذلك فإن الموشحة لم تكن تُنظم بالعامّية الأعجمية، بل كُلّ ما هنالك أن خرجات بعض الموشحات من بين المئات، البعض فقط كانت تكتب بالعامية، وبعض هذه الخرجات المكتوبة بالعامية كان يكتب بالعامية الأعجمية، علمًا بأن الخرجة لا تمثل إلا جزءًا صغيرًا جدًّا من الموشحة، وأنّ ذَلك النّوع من الخرجات لم يكن يكتب جميعه بالعامية، ولا بالعامية الأعجمية، إذ قد يقتصر هذا على كلمة أو كلمتين فحسب.
وفضلًا عن ذلك؛ فإن الأزجال -وهي فن شعري ينظم بالعامية كاملًا- إنما كانت تنظم بالعامية العربية، لا الأعجمية كما يعرف ذلك كل أحد، ولو كانت عامية أهل الأندلس هي الأعجمية لنظمت الأزجال على الأقل بتلك العامية، لا بالعامية العربية التي يفترض حسب تلك النظرية أنها لم تكن تستعمل هناك، ثم إنه لم يحدث أن أحدًا من العرب القدماء -ممن كتب عن ذلك الطراز من النظم- سواء كان من أهل الأندلس أو من غيرهم، قد أشار ولو مجرد إشارة إلى شيء من هذا الذي قاله "ريبيرا". أما لو كان هناك من الأندلسيين غير المسلمين من كتب شيئًا من هذا الذي يقوله "ريبيرا" فليرينا إياه.
(1/369)
________________________________________
وقد تعرض العقاد -رحمه الله- إلى موضوع تأثير الموشحات والأزجال على الشعر الغربي، فذكر ما قاله "دانتي" من أنّ نظم الشعر بالعامية قد شاع في إقليم "بروفانس" حيثُ يلتقي الأمم اللاتينية في الجنوب، فانتشر من ذلك الإقليم أولئك الشعراء الجوالون، الذين عرفوا باسم "التروبادور" المأخوذة من طرب أو طروب في رأي بعض المستشرقين.
والذي يقال: إن اسم "تِنْزُون" الذي يُطلق على شعرهم مأخوذ من كلمة تنازع؛ لأنهم كانوا يلقون الشعر سجالًا يتنازعون فيه المفاخر والدعاوى، بالإضافة إلى ما لوحظ من شبه شديد بين أوزان هذا الشعر، وأوزان الزجل الأندلسي، وما وُجِدَ في أشعار الأوربيين بشمال الأندلس من كلمات عَربية، وإشارات إلى بعض العادات الإسلامية، كتخميس الغنائم، واختصاص الأمير بالخمس منها. كذلك لمس محمد مفيد الشوباشي في كتيبه (العرب والحضارة الأوربية) هذا الموضوع، فأشار إلى أن من درسوا الأدب الأوربي وتطوره قبيل العصر الحديث، يلاحظون أن الشعراء "التروبادور" هم الذين أحدثوا أكبر أثر فيه، فتبدلت حالهم كل التبدل، وعرف السبيل القويم على حد تعبيره.
لقد كانت أشعار هؤلاء الشعراء الجوالين الذين ظهروا في أسبانيا، خلال القرن العاشر الميلادي -على ما يبدو- لونًا من الزجل العربي تطور ودخلت عليه كلمات أسبانية، إلا أنه لم يفقد خصائص الشعر الأندلسي حسبما يقرر الشوباشي، الذي يستند في كلامه هذا إلى ما كتبه بعض من تطرق إلى ذلك الموضوع من الكتاب الأوروبيين كـ"إيميل هنري" و "بريفو بريبري" والذي يؤكد أن تأثير الشعراء "التروبادور"، قد انتقل بعد هذا إلى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، وإن لم يدخل في تفصيلات القضية، اللهم إلا في رده على بعض من ينكر من الأوربيين ما تدين به أشعارهم قبل عصر النهضة إلى الشعر العربي في الأندلس.
(1/370)
________________________________________
وفي كتابه (الأدب المقارن) يوضح الدكتور محمد غنيمي هلال موضوع تأثر شعراء "التروبادور" بالموشحات والأزجال، سواء في مضمون قصائدهم أو في نظامها الموسيقي قائلًا: "إنّ شُعراء "التُّروبادور" كانوا يعيشون في بلاط الملوك والأمراء، ويتَغَنَّون بالحُبّ على نحو يذل فيه المحب لمحبوبته، ولا يَجِدُ في ذلك ما ينال من عزة نفسه، وإنه لوحظ أنهم يبنون قصائدهم في المتوسط من سبع مقطوعات كما يفعل الوشاحون، وهو العدد الغالب على الموشحة.
كذلك نجد في تلك القصائد ما يقابل المطلع والغصن والقفل في الموشحات، كما أن المصطلح الذي يطلق على مجموع الغصن والقفل معًا هو "البيت" بالضبط مثلما هو الحال في تلك الموشحات والأزجال، ثُم إن نظام القافية في شعر الشعراء "التروبادور" يسير على نفس المنوال، الذي تسير عليه القافية في ذينك الفنين. وبالمثل يقابلنا في غزلهم شخصية الرقيب والواشي، والعاذل والحاسد والجار، وكذلك الرسول الذي يستخدمه في مهمته خاتمًا كما في الموشحات والأزجال، فضلًا عن استعمال ضمير المذكر للحبيبة في كثير من الأحيان، وإخفاء اسم المحبوب، والتكنية عنه بسيدي، أو مولاي أو منيتي وما أشبه، كما يُقابلنا في شعر "التروبادور" معان تنتشر في الموشحات والأزجال، مثل: الحب الذي ينشأ من أول نظرة، والشكوى من قسوة ******ة، وشعور المحب بآلام الجوى التي تمنعه الرقاد، وتسبب له السقام والهزال، وكذلك خضوع المحب لحبيبته خضوعا تامًّا.
وفوق ذلك، فقد استحال الغَزَلُ في الموشحات والأزجال غزلًا صوفيًّا؛ فتحول من الحب الإنساني إلى الحب الإلهي على يد الشاعر والزجال الأندلسي الششتري وهو من رجال القرن السابع الهجري، وكان للششتري تأثير كبير على معاصره الإسباني "ريمون لول" الذي كان يعرف العربية معرفة جيدة، والذي نظم كثيرًا من المناجيات الغرامية الرمزية تغنيًا بالجمال الإلهي".
(1/371)
________________________________________
ويستمر الدكتور هلال في ذكر تأثير الموشحات والأزجال على الشعر الأوربي في ذلك الوقت؛ فيقول: "إنّ الشواهد التاريخية على التأثير الموسيقي العربي على تلك الأشعار كثيرة"، ومن تلك الشواهد التي أوردها: مجموعة الأشعار المقدسة التي نظمها "ألفونس" العاشر في تمجيد العذراء، وعددها أربعمائة واثنتان منها على الأقل ثلاثمائة وخمس وثلاثون، مبنية من ثلاثة أبيات على قافية واحدة، يليها بيتٌ تتكرر قافيته وهي تقابل القفل، ثم يأتي بيتان يُقابلان المركز، وهما بمثابة المطلع في العربية، وإن جاء عقب المقطوعة الأولى.
هذا؛ وقد اشتهر "دانتى" و"بتلارك" الشاعران الإيطاليان المعروفان بلون من الشعر الغنائي تأثرا فيه بشعراء "التروبادور" واسمه "سينتوا" أو "سونيت" وهو مكون في الغالب من أربعة عشر بيتًا مُقَسّمة أربعة أقسام، اثنان منها رباعيان والآخران ثلاثيان، ومَطلع كُلّ من القسمين الأولين ذو قافية واحدة، وهو يُقابل المطلع والمركز في الموشحات، وفي شعر "التروبادور". كما أنّ القسمين الأولين ينتهيان كذلك ببيت متفق أيضًا مع المطلع في القافية، وهو ما يُقابل القُفل، وأما القسمان الثلاثيان الآخران؛ فإن المطلع في كل منهما يتفق في القافية، إلا أن البيت الثاني من الثلاثية الأولى يتفق مع الثالث من الثلاثية الثانية، مثلما يتفق الثالث من الأولى مع الثاني من الثانية.
ويستمر الدكتور هلال راصدًا ما اعترى شكل "السونيت" الإيطالي من تطور فيقول: "إنه أصبح يتألف من مجموعات سداسية، كل مجموعة لها من بيتيها الثالث والسادس، ما يُشبه القُفل من موشحات، إذ هما متفقان في القافية، كما أن موضوع "السونيتات" قد ظل هو الحب، إما الحب الطاهر الشديد القسوة الدائم الأثر كما في أغاني هذين الشاعرين الإيطاليين، وإما الحب اللاهي الذي
(1/372)
________________________________________
يغتنم المسرات المتاحة، كما في أشعار "الرونسار" الفرنسي. وإنّ هذا اللون من النظم قد انتشر في الشعر الأوربي كله على أثر ظهوره في إيطاليا". ويخلص من هذا كله بأنه دليل جد قوي على ما خلفته الأشعار الأندلسية على شعر "التروبادور" من آثار.
وفي كتابه (دور العرب في تكوين الفكر الأوربي) يبرز الدكتور عبد الرحمن بدوي دور الموشحات والأزجال الأندلسية في نشأة الشعر الأوروبي، مُشيرًا إلى أنّ أوّل من قال بهذه النظرية هو "خليان ريبيرا" المستشرق الإسباني الذي عكف على دراسة موسيقى الأغاني الإسبانية، ودواوين الشعراء "التروبادور" و"التروفير"، وهما الشعراء الجوالة في العصر الوسيط في أوروبا، و"الميني سنجر" وهم شعراء الغرام، فانتهى من دراساته إلى أن الموشح والزجل هما المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر تكوين القوالب، التي صبت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم المتحضر إبان العصر الوسيط. وأثبت انتقال بحور الشعر الأندلسي فضلًا عن الموسيقى العربية إلى أوروبا، عن نفس الطريق الذي انتقل به الكثير من علوم القدماء وفنونهم، من بلاد الإغريق إلى روما، ومن روما إلى بيزنطة، ومن هذه إلى فارس وبغداد والأندلس، ومن ثَمّ إلى بقية أوروبا.
وكنت أود لو أضاف الدكتور بدوي إلى ذلك أنّ كتابًا آخرين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا مثل: "نيكل"، و"فون سيلفستر"، و"فيوري"، و"فرانس إجلي" يعضدون هذه النظرية كما جاء في كتاب (تاريخ الأدب العربي) في المجلد الرابع منه: للأستاذ الدكتور عمر فروخ.
(1/373)
________________________________________
ويمضي الدكتور عبد الرحمن بدوي فيوضح كيف استخدم الشعراء "التروبادور البروفانساليون" الأوائل أقدم قوالب الزجل الأندلسي. كما يظهر في شِعر أول شاعر "تروبادور بروفنساري" وهو "جيوم التاسع" "دوقو أكيتانيا" الذي يُعَدّ أولَ شاعر في اللغات الأوروبية الحديثة، والذي بقي من شعره إحدى عشرة قصيدة، من بينها خمس كتبت بعد سنة ألف ومائة واثنتين للميلاد، وتتألف كل منها من فقرات تشبه في قالبها فقرات الزجل، من حيث تأليفها من ثلاثة أشطار متحدة القافية، يتلوها أشطارٌ من قافية واحدة في كل الفقرات.
كما نجد هذا النمط من النظم أيضًا عند شاعرين "تروبادوريين" قديمين آخرين هما: "ثرماكون" و"ماركابرو" اللذان عاشا في النصف الأول من القرن الثاني عشر، ثم انتشر هذا النمط من النظم في الشعر الشعبي في أوروبا، وفي الشعر الديني الذي ألفه الأدباء "الفرانسيسكان" في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وفي أغاني "الكرنفالات" في "فيرنيتسا" في القرن الخامس عشر. ويَسْتمِرُّ الدكتور بدوي قائلًا: "إنّ الشُّعراء المتعلمين في إسبانيا نفسها قد ظلوا يستخدمون أنماط النظم على طريقة الأزجال العربية، ومنهم: "ألفونس" الحكيم في القرن الثالث عشر، ورئيس القساوسة في "هيتا" في القرن الرابع عشر و"فياسيندينو" و"خوانتلالفينا" في القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر. ولم يقتصر الأمر على طريقة النظم بل امتد التأثير العربي في نشأة الشعر الأوربي أيضًا إلى طريقة علاج الموضوعات؛ ففكرة الحب النبيل التي تسود الغزل في الشعر "البروفينسالي" نجد أصلها في الشعر الأندلسي وكذلك في أزجال ابن قزمان، كما يؤكد هذا "بلنديف بيدال" أشد الباحثين حماسة في توكيد تأثير الموشح والزجل في نشأة الشعر الأوربي في نهاية العصر الوسيط.
(1/374)
________________________________________
وإذًا فلا يقتصرُ التأثير على بعض الموضوعات، مثل: المُغَامرات الغرامية الشائكة أو الفاضحة، والإهداء إلى حام، وافتخار الشاعر بنفسه كما اقتصر على ذلك "ألفريد جانوا" في كلامه عن تأثير الشعر الأندلسي العربي في شعر الشعراء "التروبادور" الأوائل، بل امتد في نظر "بيدال" إلى جوهر هذا الشعر "التروبادوري" وهو فكرته في الحب النبيل. إذ يرى "بيدال" أنّ هَذه الفكرة قد عرضها ابن حزم في (طوق الحمامة) وأنها كانت فكرة سائدة عند أهل الظاهر في نظرتهم إلى الحُب، فقد كانت موجودة قبل ذلك في كتاب (الزهرة) لابن داود الظاهري صاحب الدعوة إلى الحب العذري، المتوفى سنة مائتين وسبع وتسعين للهجرة، وكذلك نجد هذه الفكرة في الشعر الحَكمي الأول المتوفى سنة اثنتين وست. وفي شعر ابن زيدون الذي يقول مثلًا في وَلَّادة:
تِه أَحتَمِل وَاِستَطِل أَصبر وَعِزَّ أَهُن ... وَوَلِّ أُقبِل وَقُل أَسمَع وَمُر أَطِعِ"
وممن تناول هذه القضية أيضًا: دكتور عبد النبي سطيف الذي يوضح بدوره في كتابه (الموشحات الأندلسية وأثرها في الشعر الغنائي العربي) كيف كان شعراء "التروبادور" الذين ينتمون إلى إقليم "البروفانس" في جنوب فرنسا صلة الوصل بين الشعر الغنائي الأوروبي، والشعر العربي الأندلسي، ولا سيما موشحاته وأزجاله، وكان "جيوم التاسع" أول من عرف من شعراء "التروبادور" الذين تأكدت صلتهم بالموشحات الأندلسية، وتُعَدّ حياته مفتاح البحث عن الصلة العربية الأوروبية في ميدان الشعر الغنائي. وقد اتصلت حياة أول الشعراء "التروبادور" بالحضارة الإسلامية اتصالًا مباشرًا في جنوبي فرنسا، وفي أسبانيا، وفي المشرق العربي، وكان صوتًا معبرا عن واقع مجتمعه في عصره، ومنفتحًا على الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، وقد
(1/375)
________________________________________
بقي من شعر "جيوم" إحدى عشرة قصيدة تعكس جميعها تأثره بالموشحات الأندلسية، في العناصر الأساسية المكونة لشعره، وهي اللغة والشكل والمضمون وأسلوب التعبير.
ومن شعره مترجمًا: "كل فرحة تهون أمام هذه الفرحة الكبرى، وكل نبالة تتخلى عن مكانها لسيدة بما امتازت به من ظرف ولطافة ونظرة بهيجة، وسيعيش مائة عام ذلك الرجل الذي يحالفه الحظ؛ فيفور بفرحة حبها، إنّ فرحة حُبّها تشفي السقيم، والغَضَبُ منها يميتُ السّليم، إنّ نُفوذ حُبّها قد يؤدي بالعاقل إلى الحمق، وبالوسيم إلى ضياع وسامته، وبالمتأدب اللطيف إلى الفظاظة والقبح، كما أنه قد يهذب طباع الفظ من الرجال، وإذا تفضل سيدي ومنحني حبه؛ فإنني مستعد لقبوله اعترافًا بفضله، وأن أكون كتومًا للسر وملاطفًا ظريفًا، أقول وأفعل ما يريد، حتى أستحق رضاه وأنال منه الثناء".
ومن الشعراء "التروبادور" أيضًا: "جفري روديل" وكان عميد منشدي الغزل الروحي العفيف، المعبر عن العشق المثالي للمرأة، وتُعبر قصائده الغنائية عن تجربة حبه الفريدة، التي خلفت أثرًا بالغًا في الأدب الرومانسي في فرنسا وإيطاليا وانجلترا، وغيرها. وأصبح منهجه في الحب منارة لكل الشعراء، إذ غدا شعره ومنهجه في الحب مثالًا يحتذى للتعبير عن التعلق اليائس ب****** البعيد، وكانت أغنيته الخامسة "أغنية الحب البعيد"، كفيلة بتوضيح بعض قسمات هذا الحب الفريد، والغريب في آن معًا على الحساسية الأوروبية.
"عندما تطول الأيام في شهر أيار، تعجبني أغاني العصافير المغردة من بعيد، وحينما أنتهي من سماعها أتذكر حبًّا بعيدًا، فأمشي مطرق الرأس في تأمل، غير مهتم بالغناء ولا بأزهار البيوت، فهي لا تفضل في نظري ثلوج الشتاء".
(1/376)
________________________________________
ويقول أيضًا: "لن أسعد بأي حب غير هذا الحُبّ البعيد؛ لأنه لا توجد امرأة تضاهي محبوبتي في أي مكان قريب أو بعيد، لقد بلغت من سمو الحسن والنسب والصفاء، ما يَجْعَلُني أتمنى أن أكون أسيرًا عند المسلمين؛ لأحس بسعادة الاقتراب منها". كما عكست قصائد "روديل" نظام القوافي المقبوسة من الموشحات العربية الأندلسية فضلًا عن مذهب الغزل العذري العربي، والبعد في أساليب التعبير عن التعقيد في اللفظ، والتركيب والتكرار المستساغ.
كذلك يذكر الدكتور سطيف الشاعر "ماركبرو" الذي كان واحدًا من أنجب تلاميذ "جيوم التاسع". لقد عاش هذا الشاعر بين فرنسا وأسبانيا في قصر الأمير "جيوم العاشر" وترك أربعًا وأربعين قصيدة مختلفة الأشكال، متنوعة الأغراض، وإن غلب الهجاءُ عليها، وكانَت حَياتُه حَياة لهوٍ وعبث، ومع هذا خَصّصَ بعضًا من إبداعه الشعري لهجاء اللهو والفجور، ويعكسُ شعر ذلك الشاعر جوانب مختلفة من التأثير العربي الإسلامي في شعره في الشكل والأسلوب والمضمون في آن معًا، وبخاصة ترتيب الأغصان والأقفال وتوزيع القوافي. وكان "ماركابرو" متأثرًا بالشعر الغزلي عند ابن أبي ربيعة، ولنستمع من شعره لهذه السطور من قصيدته الزرزور تلك التي يقول فيها: "طر أيها الزرزور محلقًا، واغد في الصباح مبكرًا، توجه نحو بلد تلتقي فيه محبوبة لي، هناك تجدها وتراها، ومهمتك هي أن تقول لها مستفسرًا في نفس الوقت: لماذا خانت عهدها؟ ".
ويمضي الدارس مبينًا كيف كانت الرياح العربية الإسلامية تهب على شبه الجزيرة الإيطالية من الشمال والجنوب معًا، من التأثير التروبادوري أولًا، ومن صقلية حيث النفوذ النورماندي، وأن ثمت ما يشبه الإجماع بين دارسي "دانتي" على أنه
(1/377)
________________________________________
استمد أصول فنّه من مصادر عديدة، كان من أبرزها الشعر "التروبادوري" إذ كان يعرف لغة مبدعيه معرفة ممتازة ساعدته على تذوق شعره. كذلك كانت المرأة "البروفانسالية" المثقفة كما يقول "بريفو" مثل المرأة العربية بعامة، تلهم مشاعر الشعراء، وتثير بطولة الفرسان وتأسر العظماء بأدبها وجمالها، وتقول الشعر ويحتكم إليها مبدعوه، وتسير بذكرها الرُّكبان فيتمناها كل من أحس في نفسه نخوة الرجولة، وقد أسهمت المرأة "البروفانسالية" إسهامًا قويًّا في نشر تقاليد "التروبادرور" المستلهمة من الشعر العربي الأندلسي في أنحاء أوروبا، بين أمثال الأميرة "أرينور" حفيدة "جيوم التاسع التولوزي" والأميرة "كونستانس" بنت ملك "أراجون" الفرنسي الثاني.
أما الأميرة "إلينور" فكانت وراء قدوم العديد من الشعراء "التروبادور البروفانسانين" إلى إنجلترا، وبالتالي وراء التأثير الإسلامي في الشعر الإنجليزي في العصور الوسطى، وفتحت قصرها ملتقى للأدباء والشعراء والفنانين القادمين من الجنوب، يحملون معهم عبق "البروفانس"، وأما الأميرة "كونستانس" فقد كانت وراء انتشار فن "التروبادور" في أوروبا الشرقية. ولم يقتصر تأثير الشعر العربي الأندلسي على الشعراء "التروبادور" بل شمل الشعر الأوروبي الحديث كما يؤكد الباحث، وتم ذلك على يد "عزرا باوند" الشاعر المعروف الذي تسربت عناصر من الثقافة العربية الإسلامية إلى شعره، مؤثرًا بدوره في الشعر العربي الحديث؛ لتكمُلَ بذلك دورة التأثير التي بدأت بشعر الموشحات والأزجال في الأندلس، وانتقلت إلى الشعراء "التروبادور" في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، ثم إلى "دانتي" و"شوناتاته" لتصل إلى شيخ شعراء العصر الحديث وحوارييه في الوطن العربي وفي خارجه.
(1/378)
________________________________________
ورغم كل ما تقدم وهو أيضًا منفرد فإن محرر مادة الموشحة من دائرة المعارف الاسلامية "سيكلوبيديا الإسلام" في طبعتها الجديدة يتجاهل جميع ما سيق في قضية تأثير شعر الموشحات على الشعر الأوروبي الحديث، من حيثيات وبينات وشواهد وتفصيلات، ولا يلتفت إلى الموضوع إلا في الفقرة الأخيرة من المادة المذكورة، وعَلى نحو جد موجز، وكل ما قاله: أنّ أقدم الشعراء "التروبادور" وهو "ويليم الأكويتي" الذي ازدهر شعره في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، أيام الوشاحين اليهود قد استعمل نظامًا موسيقيًّا يشبه نظام الموشحات، وأن هذا هو أهم عنصر فيما يسمى بالنظرية العربية، التي تعمل على تفسير عبقرية الشعر "البروفينسالي" جزئيًّا على الأقل من خلال التأثير العربي.
هذا عن الموشحات والأزجال في الدراسات المقارِنة.

التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة
والآن إلى التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية، ومدى أهميتها في الدراسات الأدبية المقارِنة:
لَقد ساق الدكتور محمد غنيمي هلال بعض ما تأثر به "التروبادور" من الشعر العربي، حين تحدّثُوا عن النَّسيم الذي يُقْبِلُ من جهة ******ة كأنه نعيم الخلد، وحين صوروا ما يعانونه من سهد وسقم، وما يسحونه من دموع غزار، وما يصيبهم من ذهول حين يستغرقون في الذكريات، حتى ليقال عن الواحد منهم إنه مجنون، وحين يصبون لعناتهم على الرقيب والواشي، وحين يقيمون على اليأس لا يتحولون عن تدللهم في هوى حبائبهم، راضين منهن بالخيال الباطل الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع. وبالمثل يتحدث الدكتور هلال عن تأثر الشاعر الإيطالي "بيترارك" في أسلوبه وصوره البيانية بشعراء "التروبادور" إذ شبه الحب بالنار والحديد والقيود والسجن، وجعل الموت فيه شهادة.
(1/379)
________________________________________
كذلك فهو يقتطف من شعر شوقي قوله في مسرحية "مصرع كليوبترا" على لسان "أنطونيوس": "إنه لن يظهر في قصر كليوبترا قبل أن ينتقم لهزيمته في موقعة "أكتيوم" البحرية:
آلى وأقسم أنه لا يرى في قصرها ... حتى يُقَوَّم مجده المنهار
إنّ البلاء أجَلُّ مِن ألا يُرى ... عجبًا أتخفى في الهشيم النار"
فهذه الصورة الأخيرة التي يقول فيها: "أتخفى في الهشيم النار" التي تعد شيئًا طريفًا في العربية، هي صورة جد مألوفة في الفارسية، وقد انتقلت منها إلى التركية التي كان شوقي يعرفها. ومثل ذلك قول شوقي أيضًا على لسان "أنوبيس" من نفس المسرحية: "وأنتن والناس قد تلتقون، ففيكن شر وفي الناس شر". إذ قال هلال ما معناه: أنّ الالتقاء بين شيئين بمعنى تشابههما، لم يكن معروفًا في العربية من قبل، على عكسه في الفرنسية، التي تستعمل الفعل " souronkontra " في هذا المعنى استعمالًا حقيقيًّا لا مجازيًّا، وكان شوقي كما نعرف جميعًا قد درس الحقوق في فرنسا؛ فأتقن لسانها وكان يقرأ به.
وفي هذا السياق نَرى هلال يتذكر ما دار بين الدكتور طه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، من مُلاحاة حين عاب الأول أسلوب الأخير، ورماه بالتكلف والتصنع والعنت؛ حتّى لقد وصفه بأنه يعاني في تأليف كتبه آلام الوضع، مع أن تلك العبارة في الفرنسية -كما يقول الدكتور هلال- لا تستعمل في مجال التهكم والزراية، بل في الدلالة على شدة اهتمام الأديب بصياغة أسلوبه، كي يجيء أسلوبًا رصينًا مُحكمًا، وهو ما قاله "فلوبير" عن نفسه. وما أشَارَ إليه هلال من أنّ "فلوبير" كان يَبذُل جهدًا مضنيًا للفوز بالكلمة والعبارة التي يريد، هو كلام صحيح، وكان "فلوبير" يقضي في بعض الأحيان أسبوعًا
(1/380)
________________________________________
كاملًا من أجل اقتناص كلمة واحدة، لا يستريح حتى يفوز بها، وقد وصف كاتب مادة "فلوبير" في موسوعة "لاروس" المشباكية الفرنسية بأنه صنيعي أسلوب "أرتيزون دستيل" كما ساق التشبيه الذي شبه "فلوبير" به نفسه أثناء تعاطيه الكتابة، وما يلقاه فيها من إرهاق في سبيل العثور على الكلمة المناسبة فقال: "إنه كان يشبه نفسه بالبقرة في حالة المخاض".
وما أشار إليه هلال يدل على أن الصورة المستعارة -أية صُورة مُستعارة- قد تدلُّ في بيئتها الجديدة على عكس ما قصد صاحبها الأصلي، على ما رأينا معا الآن، على أنّ المَسرحية لَما تتم فصولًا؛ فقد جاء رد الرافعي على طه حسين صاعقًا ماحقًا مفحمًا إذ لما سخر طه حسين من أسلوبه قائلًا: إنه يذكره بامرأة تلد ولادة عسرة، كان رد الرافعي الذي استفزته هذه السخرية مفحمًا، إذ طلب منه أن يحاول مثل هذه الولادة وسوف يتكفل بأن يحضر له المولدة، ويدفع عنه أجرتها أيضًا. ووصف كاتب مادة "فلوبير" في النسخة الإنجليزية من الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" الجهد العنيف المرهق الذي كان يبذله "فلوبير" في صياغة أسلوبه، وإن لم يُشر إلى الصورة الطريفة التي استعملها طه حسين للسُّخرية من أسلوب الرافعي، مستعيرًا إياها من "فلوبير" حسبما ذكر محمد غنيمي هلال، بل ذكر فقط رشح جبهته على الدوام بالعرق الغزير.
وإذا كان الدكتور هلال قد اقتصر في كلامه في هذا الموضوع، أو كاد أن يقتصر على الصور البيانية وما إليها من عناصر وأسلوب، فإن الأسلوب أوسع من هذا كثيرًا جدًّا؛ إنه اللفظة والصيغة والتركيب والعبارة والصورة.
(1/381)
________________________________________
دخلت العربية آلاف الألفاظ الجديدة، وبعضها مستعار من هذه اللغة الأجنبية أو تلك، دون تغيير مثل: أوكسجين وهيدروجين وسينما وراديو وتليفزيون وموتور وميكروكروم وفيلم وإنترنت وكمبيوتر وسوبر ماركت، وبعض هذا المستعار قد تم تعربيه، أي: إعطاؤه شكلًا عربيًّا بإجرائه على وزن من أوزاننا الصرفية، مثل: البترول والتلفاز والتقنية والقرصان والبنزين والرنة واللامة والفاكس وتلفن فلانًا أي كلمه في الهاتف، ومنتج أي: قام بالمونتاج وتمكيجت المرأة، أي: وضعت مساحيق الزينة على وجهها ... إلى آخره.
وبعض ثالث تُرجم إلى العربية ترجمة: كالقطار والمذياع والمرناء والسيارة والباخرة والغواصة والدبابة والطيارة والحاسوب أو الكاتوب -كما أحب أن أسميه- والهاتف والشطيرة، وشمعة الاحتراق، والكابح والتكييف والصحيفة والمجلة والمرأب والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والبنيوية والعولمة والخصخصة والتطبيع والرأي العام وتصادم الحضارات والكتلة الشرقية والكتلة الغربية والحرب الباردة والدب الروسي والتنين الصيني والعم سام والتنويم المغناطيسي والتحالف الدولي، وهو ما يصعب تقصيه وإحصاؤه. كذلك عرفت لغتنا التوسع في ألفاظ المصدر الصناعي في مجال المذاهب والأديان، والاتجاهات الفلسفية والاجتماعية والأدبية، التي غزت اللغة العربية غزوًا في العصر الحديث، مثل: القنفشيوسية والشنتوية والطوطمية والمحسوبية والتقليدية والرجعية والذرائعية والوجودية والماركسية والنازية والفاشية والصهيونية والمادية والمثالية والعقلانية والسفالينية والناصرية والقومية والإنسانية والكلاسيكية والرومانسية والأسلوبية والبنيوية والشعرية والنجومية. وهلم جرًّا.
ومن هذه الاشتقاقات التي انتشرت في لغتنا في العصر الحالي أيضًا تلك الأسماء والصفات المبدوءة بلا. مثل: لا ديني ولا أدريّ ولا مركزي ولا مبالاة
(1/382)
________________________________________
واللامعقول واللاشعور واللاوعي واللاجدوى وحالة اللاسلم واللاحرب ونقطة اللاعودة واللامتناهي مثلًا. على أنّ الأمر لا يقف عند حدود الألفاظ والصيغ بل تدخل فيه أيضًا التعبيرات والصور التي لم تكن تعرفها لغة الضاد من قبل، مثل: أعطاه الضوء الأخضر، والكرة الآن في ملعبه، ويُغرد خارج السرب، ووضع فلانًا على الرف، وشعر بالألم حتى النخاع، ودق طبول الحرب، ويصطاد في الماء العكر، وينشُر غسيله القذر أمام الناس، وأدار ظهره للمشكلة، وأعار فلانًا أذنًا صماء، وانطلق كالصاروخ، ويحدث هذا في أحسن العائلات، وسقط بين كرسيين، ويبحث عن الظُهر في الساعة الرابعة عشرة، ولكمه بقفاز من حرير، وألقى القفاز في وجهه، ويحارب وظهره إلى الحائط، وفلان على الهامش، وآلة الحرب الجهنمية، والعمليات الاستشهادية، وغسيل الأموال، ونجوم الفن، وغداء عمل، وابتسامة لزجة، والكرة الأرضية، والمياه الإقليمية، والفضاء الخارجي، وغزو الفضاء، وحقوق الإنسان ... إلى آخره. وهو بحر واسع وعميق.
وكثير من هذه التعبيرات والصور منقول نقلًا مباشرًا أو مقاربا عن اللغات الأجنبية. ويمكن التحقق من ذلك إذا رجعنا إلى أي معجم إنجليزي أو فرنسي أو ألماني عربي، ولسوف نجد تلك الأصول الأجنبية ترجمتها العربية، كما نستطيع التثبت أيضًا بالمقارنة بين المعاجم العربية المعاصرة، ونظيرتها القديمة، حيثُ نقع في الأولى على عشرات بل مئات التعبيرات التي تخلو منها الأخيرة، وهذه سُنّة كونية لا يختص بها لساننا وأدبنا، بل تخضع لها جميع اللغات والآداب. ويصدق هذا أيضًا على التراكيب إذ ثمة عدد منها قد استجد، ومن ذلك قولهم: لعب هو الآخر، أي: لعب هو أيضًا، وضرب كلاهما الآخر بدلًا من تضاربا
(1/383)
________________________________________
ويتخاصمون مع بعضهم البعض، والأسلوب القديم يكتفي في هذا الموضع بـ يتخاصمون، ولم آكل تفاحًا فقط بل وعنبًا أيضًا، بدلًا من لم آكل تفاحًا فقط بل أكلت تفاحًا وعنبا، وأنا مُعجبٌ به كروائي، ورأيته قبل أن مات بيوم، باستخدام الزمن الماضي في مات بدلًا من رأيته قبل أن يموت، وأرجح الرأي أنه قياسٌ على التركيب الإنجليزي في مثل هذه الجملة.
وهذا التركيب يكثر لدى الكتاب اللبنانيين فيما لاحظت، وسأذهب لزيارته دون أن أخطره، وإن كانت اللياقة الاجتماعية تقتضي خلاف ذلك أي رغم أن اللياقة الاجتماعية تقتضي غير ذلك، ومصر السادات وأمريكا بوش، تأسيًا بأساليب الغربيين في إضافة أسماء الدول إلى حكامها، ولون وحجم الكتاب، وهو تركيب موجود في العربية القديمة لكن على استحياء شديد، أما في العصر الحديث فيستعمل كثيرًا، وبخاصة في الكتابات الصحفية والقصصية، والرافضون لهذا التركيب يقولون: إن الصواب هو لون الكتاب وحجمه. ومنه أيضًا: لا أدري إن كان أو ما إذا كان سيأتي أو لا يأتي، اقتفاء بالأسلوب الإنجليزي والفرنسي " I dont now wther أو je na can ba see ' " ومنه كذلك: هو يتحدث لا عن تونس بل عن الجزائر، بدلًا من أن يقول: يتحدث عن الجزائر لا عن تونس، ومنه أيضًا: هو حريص على الذهاب إلى المدرسة لا لشيء لا ليهرب من قسوة أبيه، وليس ذلك فقط بل هناك كذا وكذا أيضًا.
ويُضاف إلى ما مَرّ الإكْثَارُ من الجُمل الاسمية حيثُ يستحسن الذوق العربي، استعمال الجملة الفعلية، وكذلك كثرة الجمل الاعتراضية وحذف "وقد" أو "وإن" من بدايات الجمل، كذلك في الكتابة العربية الآن كتابة مرسلة، لا سجع فيها ولا جناس ولا ازدواج ولا تورية إلا في النادر، ولقد غبر على أدبنا زمان كانت المحسنات البديعية
(1/384)
________________________________________
-وعلى رأسها السجع والجناس والازدواج- سِمة سائدة فيه، كان ذلك في أواخر العصر العباسي، وطوال العصرين المملوكي والعثماني. ثم لما وقعت النهضة الحديثة، نَهَض الأدب العربي، وشَرَع يتقلقل من هذا الوضع، وأخذ يتخفف من السَّجعِ والبديعِ قَليلًا قليلًا حتى يتخلص منه. ويصدق هذا بدرجة كبيرة على عدد من الكتب التي ظهرت في بدايات العصر الحديث، مثل: (تخليص الإبريز في تلخيص باريس) و (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين) لرفاعة الطهطاوي وكتب أحمد فارس الشدياق بوجه عام، وكتابات محمد عبده المتأخرة.
ولم يتم الأمر بين عشية وضحاها، ولم يحسمه كاتب واحد على خلاف ما يفهم من كلام الدكتور شوقي ضيف، من أنّ محمد عبده قد تحول بالكتابة من السجع والمحسنات إلى الأسلوب المرسل، مع أنّ الطهطاوي والشدياق مثلًا قد سبقاه إلى هجران السجع والبديع في كثير مما كتبا، كما أن الأسلوب البديعي ظل يستعمله الناثرون بعد محمد عبده مثل: أحمد شوقي في "أسواق الذهب" وحافظ إبراهيم في "ليالي سطيح" ومحمد المويلحي في "حديث عيسى بن هشام" ومحمد توفيق البكري في "سهاريج اللؤلؤ" على ما هو معروف. ويرجع شيوع الأسلوب المرسل في أدبنا الحديث إلى عدة عوامل منها: التأثر بالآداب الأجنبية التي أخذ كثير من كتابنا ينظر إليها على أنها هي الأسوة التي ينبغي الاقتداء بها، وبخاصة أن الأسلوب العربي على أيام ابن المقفع، والجاحظ وابن المعتز، وأبي الفَرج الأصفهاني، وابن حزم وابن طفيل ومن إليهم كان هو الأسلوب المرسل. ومنها كذلك:
(1/385)
________________________________________
انتشار التعليم والطباعة واتساع دائرة القراء بحيث شملت أوساط المتعلمين وصغارهم والعامة أيضًا؛ فكان لا بد من أسلوب يسهل فهمه ومتابعته؛ حتى على القارئ العادي.
ثم إنّ دخول الصحافة إلى الميدان، وما ترتب على ذلك من وجوب مراعاة الكتاب لعامل السرعة، حتى يستطيعوا ملاحقة المطبعة، وتغذية الصحف يوميًّا بحاجتها إلى المقالات والقصص، والتحقيقات والدراسات، قد دفعهم حثيثًا إلى العمل على التخلص من الأسلوب البديعي القديم، الذي كان يَحتاجُ إلى تروية وعصر ذهن، ومعرفة بدقائق الألفاظ والصيغ ومتعثكل التراكيب، ونحن نعرف أن الصحافة بالوضع الذي نعرفها الآن عليه هي استيراد عربي من الدول الأوروبية. وكان الأدب العربي القديم كله يُكتب باللغة الفصحى شعرًا ونثرًا اللهم إلا الخرجات العامية لبعض الموشحات الأندلسية، وإلا الزجل وما إليه. أما النثر؛ فلا أستطيع أن أذكر منه شيئًا ذا بال، سوى أنّ أسَامة بن منقذ في ترجمته لنفسه في كتاب "الاعتبار"، كان يخلطُ الفُصْحَى بالعامية أحيانًا، إذ كان يملي كتابه شفاهًا، ولم يكتبه بيده، وإلا فإن مؤلفاته الأخرى التي سجلها بقلمه، ولم يملها على أحد قد كُتبت كما كتب النثر العربي كله في تلك الأزمان بالعربية الفصيحة.
ومع ذلك لم يحدث أن دعا أحدٌ تحت أي ظرف، أو لأي سبب إلى نبذ الفصحى وإحلال العامية محلها، وظل هذا هو الوضع حتى العصر الحديث، ووقوع معظم البلاد العربية في قبضة الاحتلال الأوروبي، وقدوم المستشرقين إلى بلادنا للعمل والإقامة؛ فعندئذ ظهرت الدعوة إلى استبدال العامية بالفصحى في الكتابة والأدب، بذريعة أن ذلك أصدق في التعبير عما بالنفوس، وأن العامية أقدر على
(1/386)
________________________________________
استيعاب العلوم العصرية. فضلًا عن الزعم بأن هذا هو التطور الطبيعي للأمور؛ فكما حدث أن اللاتينية التي كان يستعملها عدد من البلاد الأوروبية في العصور الوسطى، قد اختفت في العصر الحديث من دنيا الاستعمال، وحلت مكانها اللهجات المختلفة التي انشعبت منها كالفرنسية والإيطالية والإسبانية؛ فكذلك من الطبيعي أن تختفي العربية الفصحى لتأخذ مكانها اللهجات المتعددة التي تستخدمها الشعوب العربية في أغراض حياتها اليومية.
ومن الذين دعوا في مصر إلى استخدام العامية في الكتابة: "مجلة المقتطف" التي كانت تنزع منزعًا غربيًّا واضحًا، وذلك في سنة ألف وثمانمائة وإحدى وثمانين ميلادية، ثم قاض إنجليزي في محكمة الاستئناف المصرية اسمه "ويلمر" أصدر كتابًا في عام ألف وتسعمائة واثنين، حاول فيه التقعيد للعامية القاهرية، ودعا إلى اتخاذها أداة للكتابة بدل الفصحى. وتلاه بعد أربع وعشرين سنة إنجليزي آخر هو مهندس الري "ويليم كوكس" الذي ترجم أجزاء من الإنجيل إلى العامية تطبيقًا عمليًّا لتلك الدعوة المشبوهة، أمّا في لبنان فممن تولوا كبر هذه الدعوة: "روفائيل نخلة" الذي كان يدعو إلى العامية وتزيينها لمن حوله، والذي يقول العالمون ببواطن الأمور: إنه هو المؤلف الحقيقي للكتاب الذي عليه اسم "مارون غصن" في قواعد العامية اللبنانية.
(1/387)
________________________________________
ومنهم أيضًا سعيد عقل الذي أصدر صحيفة أسبوعية بالعامية اللبنانية المكتوبة بحروف لاتينية، ومنهم كذلك الشاعر يوسف الخال، الذي كان يسمي العامية اللغة المحكية؛ كي يغطي سوءتها خداعا منه لمن لا يوافقونه على رأيه وموقفه.
وفي بلاد المغرب العربي قام بهذه الدعوة الأثيمة منذ العشرينات بعض الرهبان الفرنسيين المسمين بالآباء البيض، كالأب "فوكا" والأب "سلّام" فضلًا عن عدد من المستشرقين أمثال "ماسينيون" و"كولون" و"فيرساي". وقد وقف في وجه هذه المخططات أبناء البلاد الشرفاء، ويَذكُر مُحَمّد مزادي أن كثيرًا من المستشرقين قد أفنوا أعمارهم في دراسة اللهجات العامية في بلاد المغرب العربي، ناعتين الفصحى بالجمود والقصور، وإن كان بعضهم قد تراجع عن رأيه كالمستشرق "ويليم مارسيه" الذي عَادَ فكتب يمجّدُ لُغة الضّاد مؤكدًا مقدرتها على التعبير عن أي رأي أو إحساس مهما دق أو لطف. وكانت المسرحيات الهزلية هي السابقة في الصناعة العامية، أما الآن فكثير من المسرحيات هزلية كانت أم جادة، تصطنع هذه اللهجة كمسرحيات محمد تيمور، ويوسف إدريس، ومصطفى محمود، وألفريد فرج عاشور وعلي سالم، وغيرهم في مصر وقس على ذلك نظراءهم في البلاد العربية الأخرى.
على أنه لا بد من القول: بأنّ من كُتّاب المَسْرحيات من يؤثرون الفصحى، ولا يَرْضَون النزول إلى مستوى العامية في إبداعاتهم كمحمود تيمور، وعلي أحمد باكثير، وتوفيق الحكيم، من مصر.
(1/388)
________________________________________
ومحمد المسعدي من تونس، وسعد الله ونوس من سوريا، أي أن هناك تيارين لغويين مختلفين في ميدان التأليف المسرحي. أما في ميدان القصص فثمة عدد من المؤلفين يزاوجون في أعمالهم بين الفصحى في السرد والوصف والتحليل، وبين العامية في الخبر بدعوى أن الناس لا يتحدثون في حياتهم اليومية بالفصحى؛ فكيف يصح أن ننطقهم بها في الرواية والقصص، وفاتهم أن الواقعية لا تعني نقل الواقع كما هو؛ لأن هذا مستحيل بل العبرة بالإيهام بذلك، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال الفصحى، والمهم أن يُحْسِنَ الكاتب تصوير شخصياته، والمطابقة بين مستواه الفكري والاجتماعي والنفسي، وبين لغتها فيجعل لغة العامة والخدم مثلًا أبسط من لغة الرؤساء والمثقفين، وهذا هو المحك الحقيقي لموهبة القصاص وبراعته، لا اللجوء إلى العامية التي نعرف كلنا أنها ليست عامية واحدة للعرب جميعًا، ولا في أي بلد على حدة بل ولا في أية مدينة، إذ هي تختلف باختلاف الأحياء والطبقات والأجيال كذلك.
وأين الكاتب الذي يجرؤ على زعم بأنه يعرف كل تلك اللهجات العربية بدقائقها وشياتها المختلفة، وعلى أية حال فإن استعمال العامية في الأدب العربي الآن مقصور على الأغاني، وعلى المسرح، وعلى الحوار القصصي. أما فيما عدا هذا فليس ثمة شيء يستحق الإشارة إليه، ومنه كتاب (مذكرات طالب بعثة) الذي ألفه "لويس عوض" في بريطانيا أيام أن كان يدرس هناك للحصول على درجة الدكتورية في الأدب الإنجليزي، وذلك رغبة منه في كسر رقبة البلاغة العربية -كما كان يقول- وهي غاية مريبة لا يترتب عليها إلا تفتيت العرب لغويًّا، مثلما تم تفتيتهم سياسيًّا؛ فلا يكون ثم
(1/389)
________________________________________
تفاهم بين بعضهم وبعض. كما تقوم بينهم وبين تراثهم وكتابهم الكريم حينئذ حواجز كؤود لا يسهل اختراقها ولا القفز فوقها إلا لقلة قليلة، وللعِلم؛ فإنّ العامية التي كتب بها "لويس عوض" كتابه ذاك هي عامية مصطنعة، غير التي نتحدث بها أو نعرفها، بل إنّها لأبعد عن تمثيل عقل صاحبها ونفسه من اللغة الفصحى التي يفتري عليها افتراءات، ويحسب أنه قادر على القضاء عليها.
وقد نُسي هذا الكتاب الثقيل الظل الآن، وأصبح في خبر كان، ورجع صاحبه من يومه إلى الفصحى في كل ما يكتب، وإن وضع كتابًا في أوائل الثمانينات يحاول فيه التشكيك في قدم اللغة العربية وأصالتها. وأقام توفيق الحكيم في ميدان التأليف المسرحي بمحاولة البحث عن أسلوب وسط بين العامية والفصحى، يُمكن أن يقرأ بهذه أو بتلك حسبما يريد القارئ، إذ قَرّب الأسلوب العامي على قدر المستطاع من مستوى الفصحى، نطقًا وتركيبًا، وكتب به مسرحيته "الصفقة" بحيث إذا أحب القارئ أن يقرأها بالعامية؛ فما عليه إلا أن يقلب القاف همزة، أو جيمًا قاهرية، والذال زالًا ويترك الإعراب، أما إذا تعامل معها على أنها من الأدب الفصيح؛ فليقرأها كما هي مكتوبة. وقد ذكر المؤلف في الخاتمة أنه إنما فعل ذلك للتقريب بين طبقات الشعب الواحد، وكذلك بين الشعوب العربية المُختلفة من خلال توحيده لأداة التفاهم بينها، قَدر الإمْكَان، لكن فاته أنّ العامية التي استخدمها في "الصفقة" وأراد التّقريب بينها وبين الفصحى إنّما هي إحدى العاميات المصرية التي لا أظن أحدًا من الكتاب المسرحيين العرب خارج مصر يستطيع استخدامها، أي أنه سيكون لدينا تجارب من هذا النوع بعدد الشعوب العربية على الأقل.
أيًّا ما يكن الأمر؛ فالذي يُهِمُّنا هنا هو: أنّ هَذا العمل المسرحي قد كُتب بلغة لم يسبق للعرب أن فكروا في استخدامها، في أي من إبداعاتهم الأدبية على كثرتها
(1/390)
________________________________________
الكاثرة، وتنوعها الهائل. ومبلغ علمي أن أحدًا آخر من كتاب المسرح لم يحاول أن يتابع هذه التجربة الحكيمية. ومن مظاهر التطور في أدبنا الحديث أيضًا: استخدام بعض الأدباء العرب للغات الأجنبية في إبداعهم الأدبي حصريًّا، أو بجانب لغتهم العربية، وهُناك عدة أسباب لذلك؛ فمثلًا الكتاب الجزائريون الذين أنتجوا أدبهم باللغة الفرنسية كمحمد الديب، وكاتب يس، ومولود فرعون، ومولود معمر، ومالك حداد، وإدريس الشرايبي، وآسيا جبار، إنما فعلوا ذلك لأن الفرنسيين فرضوا لغتهم فرضًا على الجزائر وعملوا على فرنستها. وكان ثمرة هذا الوضع: أنّ هؤلاء الكتاب الجزائريين وأمثالهم ممن تعلموا في ظل الاحتلال الفرنسي بلادهم، قد أتقنوا فيه لغة المحتلين، في الوقت الذي لم يحسنوا فيه تعلم لسانهم القومي والديني، أو لم يريدوا ذلك، كما أن لبعض الكتاب التونسيين أعمالًا بلغة الفرنسيس مثل: ألبيرمني، والهاشمي البكوش، وكلود بنعادي، ومحمود أصلان، ومصطفى الكعبي، وصالح القرمادي، وكذلك الحال بالنسبة إلى فريق من الكتاب المغاربة، كعبد اللطيف الكعبي، وطارق بن جلون، وعبد الكبير الخطيبي، تأثرًا منهم بالاحتلال الفرنسي بلادهم.
أما مؤلفات جبران ونعيمة مثلًا بالإنجليزية فقد ألفت في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثَمّ استُخدمتْ فيها لغة البلاد التي كانوا يقطنونها، وأصدروا مؤلفاتهم كي تقرأ هناك، وتُشبه هذه الحالة حالة المصريين الذين غادروا أرض الكنانة إلى فرنسا، وأضحوا جزءًا من نسيج المجتمع الفرنسي، مثل: جوس منصور، وأندري شديد، كما تشبه حالة إدوار عطية اللبناني الذي كتب ترجمته
(1/391)
________________________________________
الذاتية بالإنجليزية، إذ كان قد تجنس بالجنسية البريطانية، وأصبح يعيش في جزيرة "جان بول". وكذلك أهداف سويف المصري التي صدرت لها بآخرة بعض الأعمال القصصية الإنجليزية، بعد أن تركت مصر وتزوجت من رجل إنجليزيٍ تعيش معه في بلاده، بل إنّ أديبًا كإبراهيم العريضي البحريني، الذي لا يدخل تحت أي بند من هذين له مسرحية بالإنجليزية عن "ويليم تل".
ويتصل بهذا -نوع اتصال- ما درج عليه كثير من الناثرين العرب في العصر الحديث، من تطعيم كتاباتهم ببعض الألفاظ أو التعبيرات الأوروبية؛ لتوضيح ما يقولون أو تأكيده، أو لمجرد الاستعراض، وهم في هذا يكتبونه بالحروف العربية، وقد يسوقونه كما هو في أصل لغته بالحرف اللاتيني. ويتصل بهذا كذلك ظاهرة وجود أدب عربي مكتوب باللغة العربية خارج ديار العرب، أقصد بالأدب المهجري في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أمريكا الجنوبية، وهو الأدب الذي أنتج لنا جماعتين أدبيتين مشهورتين هما الرابطة القلمية في أمريكا الشمالية، والعصبة الأندلسية في براثين أمريكا اللاتينية، وأخرج طائفة من أعلام النثر الحديث أمثال: الريحاني، ونعيم، وجبران، وشفيق المعلوف، ورشيد الخوري.
ولهذا الأدب سماته التي تميزه عن غيره من الآداب داخل الخيمة الكبيرة للأدب العربي الحديث، مما تَناوله الدارسون في بحوثهم وكتبهم، مثل: البُعد عن فخامة الأسلوب وجزالته، وهَجْر التّعبيرَات القديمة، واختراع كثير من الصور المجنحة، والهيام بالطبيعة، والدعوة بقوة إلى الحرية، وصنيعهم لمحة أسلوبية في كتاباتهم، وكثرة صفحات الشعر المنثور في إبداعاتهم. وظاهرة الأدب المهجري هي بلا شك ظاهرة جديدة لا عهد للأدب العربي القديم بما يشبهها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/392)
________________________________________
الدرس: 15 المواقف الأدبية.
(1/393)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(المواقف الأدبية)

تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا
المواقف الأدبية
وقبل كل شيء أود أن أتريث قليلًا عند مصطلح "الموقف" لنلم بتعريفه؛ إذ هو أساس هذا الدرس، ولا بد من تحرير الأساس قبل أن ننطلق في حديثنا حول بعض الأمور التي تتعلق به، كي يكون كلامًا واضحًا ومحددًا، وقد علمونا في مثل هذه المناسبات أن نبدأ بتعريف اللفظ تعريفًا لفظيًا أولًا قبل أن نتبعه بالتعريف الاصطلاحي، ثم نحاول أن ندرك السر وراء استعمال هذا اللفظ بهذا المعنى الاصطلاحي.
فأما التعريف اللغوي لكلمة موقف:
فقد رجعت فيه إلى طائفة من المعاجم اللغوية القديمة والحديثة، وقد وجدتها جميعًا تذكر أن "الموقف" هو: اسم المكان من وقف، ثم يتبع بعضُها ذلك بالإشارة إلى موقف المرأة أي وجهها، وقدميها أو عينيها ويديها. أما المعاجم الحديثة؛ فإن بعضها يعرف الموقف بأنه: ما يتخذه الإنسان من وضع تجاه مسألة أو شخص أو قضية أو جماعة ... إلى آخره.
ففي (القاموس المحيط) وهو مثال على القواميس القديمة، نقرأ أنّ الموقف هو: محل الوقوف ومحلة بمصر. ومن الفرس هو: الهزمتان في كشحيه أو نقرة الخاصرة على رأس الكلية، وامرأة حسنت الموقفين أي: الوجه والقدم، أو العينين واليَدين، وما لا بد لها من إظهاره.
وفي معجم (الغني) من المعاجم الحديثة: "موقف" جمع واقف، يقولون عبر عن موقفه بشجاعة، ومعنى ذلك استعداد نفسي، أو رأي إزاء شخص أو قضية ما، يُعبر فيه صاحبه عما يشعر به.
وموقف حَرِجٌ وموقف عدائي، استطاع أن يسيطر على الموقف كليًّة وبصرامة وحزم، الموقف موقف عمل لا موقف كلام، ولها معنى آخر: اتخذ الحزب مواقف حازمة أي: قرارات. يوم الموقف العظيم هو يوم الحشر، موقف السيارات هو محل وقوفها.
وقد بحثتُ في القرآن المَجيد وفي الأحاديث الشريفة؛ فأما القرآن فليس فيه كلمة موقف، وأما في أقوال النبي فهناك بضعة أحاديث بعضها حسن وبعضها ضعيف وبعضها لا يصح، تدل على أن العرب قد عرفوا للفظة الموقف منذ ذلك الوقت المبكر، المعنى المشهور الذي تدل عليه تلك اللفظة الآن.
(1/395)
________________________________________
أي: الوَضْعُ الذي يتخذه الإنسان تجاه قضية أو شخص ... إلى آخره. وهو معنى لم تورده تلك المعاجم القديمة على خلاف المعاجم الحديثة، وهذا أمر طبيعي إذ إنها إنما وضعت بعدما استفاض استعمال الكلمة في ذلك المعنى.
ويتضح لنا كذلك أن لفظة موقف في الأحاديث التي أشرت إليها يتفق مع المعنى الذي صرنا نستعمله فيه، وفيه وحده في الغالب، وهو الوضع الذي ير في الإنسان فيه وجه، عليه أن يوجهه بالخروج بأكبر قدر من المكاسب، أو على الأقل دون خسائر، أو بأقل القليل بأهون قدر منها. وقد يكون الموقف فرحة أو أملًا أو شعورًا بالإحراج أو حزنًا أو يأسًا أو ضبطًا في وضع مخل ... إلى آخر تلك الأوضاع وما أكثرها.
ومعروف أنّ الإنسان إذا ما حزبه أمر ما، أو اجتاحه إحساس بالسعادة، وأراد أن يقدم على فعل شيء جراء هذا؛ فإنه إن كان يتحرك وقف ليعطي لنفسه فرصة التفكير المتأني، ومن هنا سموا اتخاذ القرار في مثل تلك الحالة موقفًا، بل لقد عَمّموا إطلاق هذه التسمية بحيث تشمل أيضًا الوضع الذي يستحث الإنسان إلى اتخاذ القرار، وهذا هو الأصل الذي انطلق منه كذلك معنى المصطلح في الأعمال الأدبية من قصة، أو رواية أو مسرحية على ما سوف نرى.
وقد قَلّبتُ في بعض المعاجم الأدبية والنقدية والصوفية، فلم أجد لهذا المصطلح أثرًا في قاموس المصطلحات الصوفية لابن الحمد مثلًا، ولا في معجم اصطلاحات الصوفية كعبد الرازق الكاشاني، ولا في معجم النقد العربي القديم للدكتور أحمد مطلوب.
ولكن ليس معنى هذا أن العرب القُدَماء ولا من سبقهم ممن كتبوا في النقد والبلاغة كالإغريق مثلًا يعرفه مفهوم الموقف على الإطلاق، ففي البلاغة مثلًا: هناك ما يسمونه مقتضى الحال. أي: الظروف التي ينبغي أن يراعيها الخطيب أو
(1/396)
________________________________________
الكاتب عند خطابته أو كتابته، بمعنى السياق الذي يحيط به عندئذ؛ أو فلنقل: الموقف.
وقد أشار إلى هذا الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (المواقف الأدبية) إذ كتب ما نصه: "وقديمًا ذكر أرسطو الموقف، وهو في سبيل الحديث عن الفكرة في المأساة في كتابه (فن الشعر) إذ يقول: وأعني بالفكرة القدرة على إيجاد اللغة التي يقضتيها الموقف، وتتلاءم وإياه". ففي هذا النص الموقف معناه قديم، ولا يقصد به أرسطو أكثر من مراعاة مقتضى الحال في البلاغة. وهو ما قاله نقاد العرب كذلك من بعده، وإن لم يبلغوا مدى أرسطو في تفصيل وجوه هذا المقتضى على حسب الأجناس الأدبية؛ من مسرحيات، وملاحم، وخطابة، وما يستتبع ذلك من اعتبارات كثيرة فنية.
و"مقتضى الحال" هذا هو ما نص عليه أفلاطون أستاذ أرسطو في كتابه "الفيدروس" حيثُ تَحدّث عن مُرَاعاته في الخطابة قائلًا: فإذا كانت وظيفة الخطابة هي قيادة النفوس بمعرفة الحقيقة؛ فعلى المرء لكي يكون قادرًا على الخطابة أن يعرف ما للنفوس من أنواع، وعلى قدر هذا الأنواع تكون الصفات، وهو ما يختلف به الناس في أخلاقهم، ولكل حالة نفسية نوع خاص من الخطابة؛ فعليّ إذن كي أوجد في النفوس نوعًا من الإقناع، أن أفرق بين كلامهم وطبيعتهم، وإذا توافرت للمرء هذه المبادئ عرف متى يجب أن يتكلم، ومتى يجب أن يمتنع عن الكلام، ومتى يليق به أو لا يليق أن يكون موجزًا، أو مثيرًا، أو مبالغًا. أما قبل الوقوف على هذه المبادئ؛ فلا وسيلة له إلى التعرف على ذلك".
والموقف في معناه السابق عند أفلاطون وأرسطو والعرب؛ ليس من الاصطلاحات الفنية أو الفلسفية، ولا يُستطاع في نطاق هذا العموم لمفهومه أن
(1/397)
________________________________________
نحدد صلاتًا أدبية أو فنية، تَقُوم عَليها دراسات نقدية عميقة ذات شأن سَواءٌ في الأدب القومي أو الأدب العالمي، ولم يُحاول أحدٌ من نُقّاد الأدب ودارسيه أن يقوم بتلك الدراسة في نطاق ذلك المفهوم القديم للموقف. كما أنه بهذا المعنى لا يمكن أن يكون أساسًا للدراسة النقدية المقارنة، وهي الدراسات الحديثة المثمرة. هذا ما قاله الدكتور محمد غنيمي هلال.
إلا أنّ هُناك الآن نَظرِيّة نقدية مُهِمّة تُسَمّى نَظرية السِّياق، وتقتضي هذه النظرية أنْ يُفهم النّص في سياقه الذي أبدع فيه، كي يتسنّى فهمه فهمًا صحيحًا، أو على الأقل كي يتسنى فهمه فهمًا أفضل، صحيح أن الغاية من هذه النظرية ليست هي الغاية المفهوم مراعاة مقتضى الحال في البلاغة والنقد القديم، لكن الأمرين مع ذلك يتقاطعان، فضلًا عن أنهما ينطلقان من نقطة واحدة ألا وهي نقطة السياق؛ الذي بدونه في النظرية المذكورة لا يمكن فهم النص أصلًا، أو في أقل القَليل لا يمكن فهمه الفهم الدقيق.
والذي بدونه في مفهوم مقتضى الحال، لا يمكن إصابة الهدف المتهيئ من وراء عملية الإبداع، أو على الأقل لا يمكن إصابته على وجه الدقة.
ثم يضيف هلال مبينًا بداية استعمال هذا المصطلح بمعناه النقدي، الذي نحن بصدده الآن فيقول: وأوّل مَنْ بَحَث في المواقف الأدبية في المسرحيات هو الناقد والشاعر الإيطالي "كارلو جوزي" في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وقد انتهى إلى حصر المواقف المسرحية في جميع أنواع المسرحيات، وفي كل الآداب في ستة وثلاثين موقفًا.
وقد ناقش المسألة الشاعر الألماني "جوته" مع صديقه وأمينه "إكرامان" فأقرّ العدَدَ الذي انتهى إليه "كارمن جوزي" ثم جاراهما ناقد فرنسي هو جورج
(1/398)
________________________________________
بوتيه، في كتاب له عنوانه (المواقف المسرحية الستة والثلاثون) وظهرت الطبعة الأولى منه عام ألف وثمانمائة وخمسة وتسعين، والثانية عام ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين.
وفي كل هذه الدراسات لم يتحدد معنى الموقف الأدبي، ولا الموقف المسرحي، تحددًا فنيًّا مثمرًا، عميقَ الدّلالة والأثر، وتُعَدّ دراسات جورج بورته حصيلة لما سبقها من دراسات، وفيها يخلط بين الحدث والموضوع والعواطف والشخصيات، دون إبانة عن معنى عام، يَرجعُ إليه الموقف، وبه يتحدد؛ فمثلًا من بينَ المواقف التي يعدها "جورج بورتي" مُنافسة بين أشخاص غير متكافئين، ومُنافسة الأقارب، ومُحاولات تتسم بالجرأة، وقتل أحد الأقارب المجهولين، والاختطاف، والزواج ممن لا يحل الزواج منه، والزواج غير المشروع الذي يسبب جرائم القتل، وجرائم الحب غير الإرادية، وواضح أنه في المواقف السابقة يفهم من الموقف معنى الحدث العامة.
وهذه الأقسام بالإضافة إلى غموضها متداخلة؛ فالاختطاف مثلًا يدخل في المحاولات المتسمة بالجرأة، وواضح أنّ الأقسام الثلاثة الأخيرة متداخلة بعضها مع بعض، هذا إلى أنه يمكن أن تندرج منافسة الأقارب، ومنافسة الأشخاص غير المتكافئين في المنافسة المطلقة، وهي التي أفردها بعد ذلك موقفًا خاصًّا، ثم عَدّل مع ذلك مواقف ليست في الحقيقة سوى عواطف للشخصيات مثل: الحقد على الأقارب، والطمع والغيرة الخاطئة والجنون. فمثل هذا التقسيم إذا ما يصلح أساسًا لتحديد التأثير الفني للمواقف.
ثم إنّ هذا التقسيم غير شامل؛ فإنّ المَوَاقِفَ لا تتفاوتُ على حسب الأجناس الأدبية والمذاهب الفنية فحسب، بل تتفاوت كذلك على حسب موقف الكاتب
(1/399)
________________________________________
نفسه من خلقه الأدبي، حينَ يسوغه في الشعر الغنائي، وهو الجنس الأدبي غير الموضوعي، وهذا الاختلاف الأخير يتوقف عليه جوهر البناء الفني للقصيدة، وهو في نفس الوقت دعامة تقويمها، والاعتداد بموقف الشاعر في هذه الحالة أهم وأجدى من الاعتداد بالموضوع الذي ينظم تجربته فيه.

مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع
ولنوضح ذلك بمثال يدخل في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، وذلك لنميز به الفروق في الموقف في الشعر الغنائي على الرغم من اتفاق الموضوع؛ فشَوقِي في وقوفه على الآثار في سِينيته الأندلسية، والبحتري في سنيته المشهورة في الوقوف على إيوان كسرى في المدائن، كِلَاهُما وقف على الآثار، ومن ثم اتحدا في الموضوع، ولكنهما مع ذلك مختلفان في الموقف، فموقف البحتري موقف النافر من المجتمع والناس حتى الأقارب، يرى هم أزمة وعيه النفسية في وجدان العظة بهذه الأطلال الدوارس، لقوم غير قومه، ويوصفهم فيها ويعرف لأهلها صنيعهم حين أيدوا ملك أجداده باليمن:
عمرت للسنون دهرًا ... فسارت للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع موقفات ... على الصبابة حبسي
ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي ... غرسوا من بكائها خير غرسي
أيدم الكنا وشد قواه ... بكماة تحت السنور حمسي
وأعانوا على كتائب ... بطعن على النحور ودعسي
أما شوقي؛ فإنه يوقف موقف المغترب عن وطنه ******، يرزح تحت نير الأجنبي الدخيل، فهو يهرب في حلم خيالي، بأمجاد وطنه. ويستطرد من أثار الوطن ذكر
(1/400)
________________________________________
آثار الأندلس، وطني قومه القديم ينشد في المجد الغابر مجد الوطن ومجد العرب ملاذًا من الحاضر، في ثنائية أشاد فيها شوقي بوحدة الشعور الوطني مع الشعور العربي، فهروبه من الحاضر أو ملاذه بالماضي كلاهما ذو طابع إيجابي، فيه تتمثل حركة النفسية من الحاضر البائس، إلى الماضي المشرق مشدانًا بمستقبل يليق بذلك الماضي.
ففي خياله: أنه لا يبعد أن يكون لوطنه من المجد في المستقبل، ما كان لـ"قرطبة" في الماضي في حين أن حاضرها آسي كحاضر وطنه لذلك العهد:
قرية لا تعد في الأرض كانت ... تمسك الأرض أن تميد وترسي
ويهيب شوقي من وراء آساه على الماضي الضائع، بعزائم أهل وطنه وبالعرب جملة؛ كي يلتفتوا إلى تلك الأمجاد ويتعظوا بها، ويشدوا عزائمهم، وموقفهم منها موقف الوارث المضيع من ملوك الطوائف حين فقدوا فردوسهم في الأندلس.
وفي حديث شوقي عن خروج هؤلاء من الأندلس نفسة يأس ذات طابع اجتماعي وجداني ضخم، يُحِسُّ فيها في نفس الوقت بلذعة أسى النفي من الوطن فيما يشبه نفي هؤلاء الأجداد، ونحس بهذا الشعور الذاتي الوجداني الكبير في هذه الصورة التي تتجاوب فيها أصداء نفسه في وجدانه الذاتي، وفي موقفه في وجدانه الاجتماعي المُمثل لموقف أمته من ماضيها الوطني والعربي جملة ولذلك في قوله:
خَرَجَ القَومُ في كَتائِبَ صُمٍّ ... عَن حِفاظٍ كَمَوكِبِ الدَفنِ خُرسِ
رَكِبوا بِالبِحارِ نَعشًا وَكانَت ... تَحتَ آبائِهِم هِيَ العَرشُ أَمسِ
رُبَّ بانٍ لِهادِمٍ وَجَموعٍ ... لِمُشِتٍّ وَمُحسِنٍ لِمُخِسِّ
إِمرَةُ الناسِ هِمَّةٌ لا تَأَتى ... لِجَبانٍ وَلا تَسَنّى لِمكسِ
(1/401)
________________________________________
فإذا وازَنّا بين قصيدة البُحتري وقصيدة شوقي، غافلين عن الفرق الكبير بين موقف كل منهما، وحصرنا همنا في تشابه الموضوع في القصيدتين، كان لا بد أن تنتهي الموازنة إلى نتائج خاطئة؛ لأنّ مَوقِفَ شوقي أملى عليه صورًا عميقة المعنى جليلة الشأن، مُتّصلة بوجدان اجتماعي واسع النطاق، فاستمدت روعتها وعمقها من هذا الموقف الذي يندر مثله في الشعر العربي.
ولا تتضح دلالته العميقة إلا إذا اعتددنا بالموقف لدى كل من الشاعرين، على الرغم من أن شوقي قد تأثر بالبحتري في بعض الصور، وفي استلهام روح الموضوع العامة.
وقد غاب عن النقاد الذين وازنوا بين القصيدتين السابقتين معنى الموقف، كما غاب معنى الموقف كذلك عن قدامة بن جعفر حين قرر أن الرثاء والمدح شيء واحد، فقال: "ليس بين المعصية والمدحة فضل، إلّا أن يُذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك، وهذا ليس يزيد في المعنى ولا ينقص منه".
وفي هذا الكلام غفلة تامة عن الموقف، إذ أنه على الرغم من أن الرثاء مدح لهالك؛ فالموقفان مُختلفان في البواعث النفسية، وما يترتب عليها من تخير المعاني، ومن طُرق الصِّياغة، ومن الشُّعور العام الذي يتجلى فيه طابع القصيدة.
وما ذكرنا الأمثلة السابقة وهي من باب الموازنات الأدبية في داخل الأدب الواحد، إلا ليتضح الفرق بين الموقف والموضوع، وليظهر الخطأ في الخلط كل منهما عند النظر إلى العمل الأدبي في ناحية الصور والصياغات الفنية.
وفي السطور السابقة نرى الدكتور محمد غنيمي هلال يفرق بين الموضوع والموقف؛ فالموضوع هو الأمر الذي يكتب الأديب عنه ويتخذه محورًا لإبداعه،
(1/402)
________________________________________
كالوقوف على إيوان كسرى مثلًا، ووصف ابن خفاجة للجبل، وغزل ابن أبي ربيعة في إحدى حبيباته ... إلى آخر ما نعرفه من موضوعات شعرية يُمكن أن تدور حولها القصيدة.
أما الموقف فهو رأي الشاعر في هذا الموضوع، أو شعوره به، أو نظرته إليه، أو الوضع الذي يتخذه حياله وهكذا، ولنأخذ على سبيل المثال موقف عمر بن أبي ربيعة في معظم قصائده، وقصائده كلها حسبما نعرف قصائد غزلية ليس إلا؛ فهو رجل لاه يبحث عن التسلية وتضييع الوقت، مع هذه الجميلة، أو تلك من النساء المترفات اللاتي لا يمكن أن يفكر في غيرهن.
وإن لم يكن من أولئك الشعراء الذين يقعون في غرام واحدة بعينها من النساء، لا تعوضه عنها أي امرأة سواها مهما صنعت به، وقست عليه، وحرمته وصرمته، وهو ما تعكسه قصائده المعروفة، أما موقفُ كُثير في شعره الذي يتناول فيه علاقته بعزة؛ فهو موقف اليائس الذي يتنسم نظرة رضا منها نحوه، ويَعمل بكل سبيل على استعطافها عليه؛ حتى يتمنى في إحدى قصائده أن يُشِلّ الله رجله أثناء زيارة منه لقومها، كي يعجز عن السفر ومفارقة ديارها، ويبقى قريبًا منها بحيث لا يفوته من نبغه من قربها وهو أشل، ما فاته من ذلك القرب وهو صحيح معافى ... إلى آخره.
ثم إنّ ما قاله هلال في تداخل تصريفات الموضوعات والمواقف التي أنشأها جوزي، هو كلامٌ سليم، وإن كان لا بد في ذات الوقت من التنبيه؛ لأنّ جوزيه كان -طبقًا لما قاله هلال- رائدًا في تلك التصنيفات، ومن ثَمّ كان من الطبيعي أن يهتز القلم في يده؛ فلا تأتي تصنيفاته دقيقة ولا حاسمة؛ فضلًا عن أن يكون
(1/403)
________________________________________
مفهوم الموقف واضحًا تمام الوضوح في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الكتابة في ذلك الموضوع.
وفي ذات الوقت، ينبغي ألا ننسى أنّ بَعضَ تصنيفات ذلك الإيطالي إن كانت قد تداخلت، فإن أمور الحياة كثيرًا ما تتداخل فما الغرابة في هذا؟! كما أن التداخل لا يعني التطابق، ومن ثم فمن الصعب الزعم بأن أحد التصنيفين في تلك الحالة يُمكن أن يغني عن الآخر، ومعروف أن في التصنيفات ما يقارب سواه، لكنه يختلف معه في نفس الوقت ولو في بعض التفاصيل الصغيرة، وهو ما يميز كل منهما عن صاحبه.
وأضيف إلى هذا كله: أن ما قاله جوزيه، وما قاله غيره، وما يمكن أن يقوله أي قائل في المستقبل، لا يستطيع أن يغطي كل التصنيفات الممكنة إذ كثيرًا ما تبدهنا الحياة بمواقف جديدة غير معروفة، وقد ذكر الدكتور هلال نفسه أن هناك من أوصل المواقف في الإبداعات المسرحية إلى أكثر من مائتي ألف موقف، ويمكن قياس القصة على المسرحية في هذا المجال.
وإذا كان بعض الكتاب قد ذكر أن من الممكن اختصار عدد المواقف الأدبية، فلا بد من القول أيضًا: إنّ ذلك الاختصار قد يختلف من شخص إلى آخر، حسب رؤيته، وحسب ميله إلى الإيجاز الشديد أو المخفف، كذلك لم أجد هذا المُصطلح فيما عندي من معاجم من النقد الأدبي بالإنجليزية والفرنسية اللهم إلا ثلاثة معاجم؛ منها:
معجم "شيكلي" المسمى "دكشنري فوير بكتشر" فقد عثرت على مادة كاملة له، وإن لم تكن من الطول بمكان وخلاصتها: أن الموقف عبارة عن اقتران مجموعة من الظروف لحظة معينة من القصة.
(1/404)
________________________________________
وهناك الموقف الأصيل الذي انبثق منه ما تطور من أحداث، وكذلك الموقف الحرج الذي أدت إليه تلك الأحداث.
ومن هذه المعاجم كذلك المعجم الدرامي: "ديكسونير دراماتيك" الذي ألفيته يُخَصّص هذا الاصطلاح مادة أطول من مادة معجم "الشبلي" بعد طول، وفيها أن الموقف هو الوضع الذي تجد شخصيات العمل المسرحي فيه نفسها بعضها إزاء بعض، ورغم أن كل المناظر المسرحية تُعد في ذات الوقت مواقف؛ فإنه لا يقال عن أي منها عادة موقف إلا إذا اتسم بالجدة والأهمية، حتى ليدفع النظارة إلى الترقب، ويشعل فيهم من التشوق لا ما سوف ينطق به الممثلون أو يعملونه.
وفي معجم "المصطلحات الدرامية والمسرحية" للدكتور إبراهيم حمادة مادتان لمصطلح الموقف:
الأول: مصطلح المواقف الدرامية الستة والثلاثين، وهي المواقف التي أشار إليها الشبلي في معجمه، وإن لم يصنع الشبلي شيئًا سوى ذكر اسم الناقد الذي أحصى هذا العدد واسم كتابه، بخلاف الدكتور حماده الذي أورد هذه المواقف الستة والثلاثين كاملة، ثم عقّب عليها بقوله: إنّه أمكن فيما بعد اختصار هذه المواقف وحصرها في عدد أقل من ذلك بكثير.
أما المصطلح الثاني فهو: المواقف المكرورة أو المخزونة، وهي مواقف ذات طابع معين تتكرر تقليديًّا في عدد من المسرحيات كما يقول، كمشهد الزوج الذي يعود إلى بيته من الخارج على غير انتظار، ويفتح باب غرفة النوم؛ فيباغت بزوجته في أحضان رجل آخر مثلًا.
(1/405)
________________________________________
الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع
ويلقي الدكتور محمد غنيمي هلال مزيدًا من الضوء على معنى الموقف فيقول:
إنّ الموقف في العمل الأدبي يقتضي أن يكون في المشهد أشخاص آخرون غير الشخصية التي تمثل محور العمل القصصي أو المسرحي، وأن يكون هناك صراع بينهم، وسنرى بالإشارة إلى أن الموقف يشمل دائمًا أكثر من شخص، وأن أيا منها لا تتضح ملامح شخصيتة إلا بالنسبة إلى ملامح الآخرين، فإذا لم يوجد آخرون فإن شخصياتنا لا تكون واضحة، إذ الشيءُ إنما يتميز بناء على مقارنته بالأشياء الأخرى.
وفي كل مسرحية أو قصة هناك عدد من المواقف، ولكل شخصية موقف أكثر من تلك المواقف، ومن مجموع هذه المواقف الخاصة يتكون الموقف العام الذي يشمل الجميع في العمل الأدبي، وقد يكون الموقف والتضحية بالنفس من أجل مثلًا أعلى يؤمن به الإنسان كحب الوطن أو الدين مثلًا، وقد يكون تأنيب الضمير، وقد يكون الوقوع فريسة لشخص قاس لا خارجة من رحمة في قلبه.
وبالنسبة للموقف في عمل أدبي معين، نراه يشير إلى أنه في المسرحية "فيدر" للكاتب الفرنسي راسين، هو الحب الآثم ففي هذه المسرحية كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (رومانتيكية) تحب فدر ابن زوجها "بوليت" حبًّا مبرحًا، ولكنها حين بليت بما حيلة لها فيه من هذا الحب اليائس غير المشروع، لم تفكر إلا في الموت غير أن الأحداث ساقت لها منفذًا للأمل، فقد غاب زوجها غيبة لا أمل في الرجوع منها، بل إنه نعي كذبًا إليها، وأغرتها بعد ذلك وصيفتها أن تغتنم الفرصة فتكشف عن حبها، بعد أن زال ما أمامه من عوائق.
(1/406)
________________________________________
وحين مثلت أمام حبيبها "هيبولت" لم يكن في نيتها إلا أن توصي ابنها الصغير قبل موتها، ثم تغلبها عاطفته المسلوبة؛ فتكني له عن حبها؛ فيغضب لذلك "هيبوليت" الذي كان قلبه مشغولًا بحب أخرى، وتندم هي على ما فرط منها من تصريح لم تقدر عواقبه.
ويَزْداد الموقف خطورة بعودة زوجها، فلا تجد لها منفذًا غير الموت، وإذا وصيفتها تشرح لها ما يجر موتها على ابنها الصغير، ثم على شرفها، وتغريها باتهام حبيبها بأنه هو الذي حاول أن يعتدي عليها في غيبة زوجها، فتأبى بادئ الأمر أن تطيع وصيفتها كل الإباء ثم تستسلم مشدوهة حين تفاجئ بلقاء زوجها؛ فتعارض بـ"هيبوليت" عارضًا يثير الشكوك في وجهها دون أن تصرح، حتى إذا أكملت وصيفتها دورها ضد "هيبوليت" استيقظ ضميرها، وحاولت أن تعترف بفريتها لزوجها كي تنقذ "هيبوليت" البريء، ولكنها تقع فريسة الغيرة حين تعلم أن "هيبوليت" يحب غيرها، ولا تفيق من هذه الغيرة إلا بعد موت حبيبها؛ فتعترف لزوجها وقد تجرعت السم.
وهكذا ظلت "فدر" على وعي بعبء هذه الأحداث، عالمة كل العلم بما عليها من تبعة، وبما سيقت إليه من إثم، على أنها بعد لم تتطلع لأمر غير ممكن في حينه، وهكذا نجد العقل ماثلًا؛ حتى في أقوى ما خالفه من الأدب الكلاسيكي من وصف للعاطفة حين تبلغ أقصى حالات شبوبها، على أن الكلاسيكيين طالما حذروا من العواطف مسار الشرور والأهواء، وطريق الخيال الجامح، والخيال هو الجانب الخادع في النفس، الذي يقود إلى الخطأ والذلل.
فكما يقول الكاتب: فإنه في المسرحيات الكلاسيكية قد تنتصر العاطفة على الواجب، ولكن المؤلف لا يعرض ذلك إلا ليُبين مواطن الضعف الإنسانية،
(1/407)
________________________________________
ويُحَذِّر منها، فقد صور "راسين" العاطفة قوية طاغية في قلب "فدر" ولكنه يشرح المعنى الخلقي لها التصوير بقوله: في هذه المسرحية لم أجل أمام العيون شهوات النفوس إلا لأبين كل ما ينتج عنها من اضطراب، وقد صورت الرذيلة في كل أجزائها، في سورة ذات أسمار تبرز قبحها، وتجعلها بغيضة إلى الناس، وهذه هي الغاية الحق التي يجب أن يرمي إليها كل إنسان يعمل للجمهور. وكان في هذه الغاية هي الهدف الأول للشعراء المسرحيات القدامى، فكان مسرحهم مدرسة للفضيلة، لا تقل عن مدارس الفلاسفة.
وفي هذا نرى أن العواطف كانت عند الكلاسيكيين أهواء لا يعرضونها في أدبهم الارستقراطي إلا في صورة تنفر منها، ولكن سرعان ما صارت في أدب القرن الثامن عشر نفسه دعامة المشاعر النبيلة، وطريقًا إلى الفضيلة، ومتنفسًا لذوي القلوب، فتفيض عيونهم بالدموع رقة وحنانًا، أو وجدًا وأسى.
وكانت هذه الدموع في الأدب الكلاسيكي آية ضعف، لا يجمل بأبطالهم أن يذرفوها خذ مثلًا لذلك بطلًا كلاسيكيًّا يُفضي إلى صاحبه بمكنون حبه، وبما انتابه من ضعف؛ حتى كادت تسيل منه الدموع، فيقول له صاحبه مغضًا: دموع! أولى أن يذوق الأعداء حتفهم على يديك الباسلتين دموع! أو يتحكم فيك الألم إلى هذا الحد، ولم يكن النظارة في العصر الكلاسيكي يبحون أن يروا هذه الدموع في عيني بطل من أبطال مسرحياتهم.
ثم سرعان ما حال العهد، ودار الزمن وتغيرت معه الأذواق، وها هم أولاء النظارة يشهدون مسرحية عام ألف وسبعمائة وخمسة وثلاثين، يرون فيها امرأة تهرب من
(1/408)
________________________________________
زوجها الذي تحبه؛ لأنّها اعتقدت أنه خانها، وتفضي بمر شكواها إلى صديق، ولكن هذا الصديق لم يكن في الحقيقة سوى زوجها متنكرًا، وعلى سَمَاعِها يَذُوب زوجها رقة، ويجسوا أمامها في فيض من الدموع قائلًا: ها هو ذا زوجك جاس أمامك حيث يجب أن يموت، فدعيني غارقًا في دموعي، أكفر عما فرَط مني، وأنتقم لجمالك الفاتن من نفسي، وكانت هذه الدموع ألسنة الوفاق بينهما.
وقد سار من المسرحية للقصص هذا التقليد من بكاء أبطالها رقة لشبوب عواطفهم، يَقُصّ الكاتِبُ الإنجليزي "اشتيرن" في القرن الثامن عشر كيف كان يستمع في رحلته العاطفية إلى فتاة فرنسية فقدت حبيبها ثم أباها، وكادت تفقد على أثرهما عقلها، تشرح له قصة بؤسها، والدموع تنساب على خديها. يقول "اشتير": فجلست قريبًا منها، وتركتني "ماريا" أجفف دموعها كلما سالت بمنديلي، ثم أغمره بعد في دموعي، ثم في دموعها، ثم في دموعي، ثم في دموعها ثانية، وكنت أشعر أثناء ذلك بنشوة عاطفية تعجز الوصف، حتى إني على يقين من أنه لا يستطاع التعبير عنها في شعر ما، أو في أريحية ما، فأيقنت حينذاك أن لي روحًا لا تستطيع أن تحملني على جحودها كتب الماديين التي سممو بها العالم.
أما في مسرحية "زايير" للفيلسوف الفرنسي ""فولتيير" فالموقف الذي اتخذه بطلها هو الغيرة الطائشة المتعجلة، إذ بعدما يقتل بطل المسرحية حبيبته بالخنجر ظنًّا منه أنها تخونه، إذا به يكتشف أن الشخص الذي حسبه عشيقها، إنما هو في الحقيقة أخوها، مما يَدْفَعه إلى قتل نفسه فوق جثتها.
على حين أن الموقف العام في مسرحية "فاوس" لـ "جوته" إنّما هو التردد بين العقل والقلب، والحيرة الشديدة في معرفة أيهما هو السبيل إلى الحصول على السعادة
(1/409)
________________________________________
وراحة البال، أهو في الوصول إلى الحقيقة المطلقة التي لا يمكن لبشر بلوغها؟ أم في عمل الخير ونبل المشاعر؟! ذلك أن "فاوس" قد ظن في بداءة أمره أن في مستطاعه الوصول إلى الحقيقة المطلقة؛ ليكتشف بعد استحصاد تجاربه المرة الأليمة أن هذا أمر من الاستحالة بمكان، وأن سعادته ممكنة فقط عن طريق عمل الخير النافع للآخرين.
والأمر ذاته يَصْدُق على الموقف العام في مسرحية توفيق الحكيم "شهرزاد" ولكن في وضع معكوس، إذ كان "شهريار" قد سئم متعة الجسد وبهجة العاطفة وهو ما دفعه إلى البحث في السعادة في الدنيا الفكر المُجرد ليفشل هنا أيضًا، وهو ما يُوحي بأن السعادة ليست في تجاهل طبيعتنا الإنسانية، التي تَحتَاجُ إلى إشباع جوانبها المختلفة، وعدم تجاهل أي منها؛ فضلًا عن التركيز على جانب واحد فحسب.
كذلك فعلى كل شخصية من الشخصيات أن تعمل على الخروج من الموقف الخاص الذي تجد نفسها فيه، باتخاذ قرار أو سلوك ما.
والموقف العام في صورته التجريدية، هو: عبارة عن صدام بين قوى إنسانية تتصارع فيما بينها، وهذه القوى تُمَثّلها الشخصيات في موقفها الخاص، ويَسلتَزمُ الخاص ست صور من القوى كي تكتمل صورته العامة.
ونكتفي هنا بالوقوف عند القوة الخامسة والسادسة لضرب المثال ليس أكثر، فالقوة الخامسة من القوة من القوى المؤثرة في الصراع هي قوة الحكم، أو القوة التي تسد الموقف، وتميل كفته إلى ناحية من النواحي، وقد تتمثل في البطل ذاته، مثل شخصية "الأورست" و"عطيل" وقد تتمثل في الشخصية الممثلة للقوة الثالثة أي: الموفرة للخير المنشود مثل ليلى في مسرحية "مجنون ليلي"
(1/410)
________________________________________
لشوقي، فهي تميل كفة الموقف في تفضيلها وردًا، فتتحكم بذلك عن طريق مباشر في مصيرها وفي مصير قيس.
وأضعف صور هذه القوة: أن تَأتي من خَارِج المَسْرحِيّة كتَدخل الآلهة في المسرحيات اليونانية القديمة، أو تدخل ملك مسرحية "ترتوف" لمولير، وأخيرًا تأتي قوة الأعوان أو المساعدين لأي قوة من القوة السابقة في صورة شخصيات، تنضم إلى أية قوة منها؛ فابن عوف بمثابة عون لمجنون ليلى، ونصيب بمثابة عون للمهدي و"إلكترا" عون لـ"أورست".
وقد يؤدي حذف العون أو المساعد حذفًا فنيًّا إلى اكتساب المسرحية قوة وروعة، حين يشيع في جوها انتظار المساعد الذي لا يَحْضُر أو العون الموهوم الذي لا وجود له، وقد يُرجع إليه المؤلف جوهر تصوير الفني في مسرحيته، وذلك مثل جودو في مسرحية "في انتظار جودو" لصموئيل بكت.
ومن القضايا المحببة للرومانتيكيين: أن يبدو البطل وحيدًا دون عون مفيد، مثل "جون فانجان" في قصة البائسين لـ"فيكتور هوجو" وعلى الأخص غادة الكاميليا في المسرحية والقصة التي تحمل اسمها لألكسندر "دومالبن" ومن المسرحيات الكلاسيكية الخالدة "ملهاة عدو المجتمع" "لموليير" وفيها نرى البطل يفقد ثقته فيمن حوله قليلًا قليلًا، حتى يصير أخيرًا وحيدًا؛ لأنه شديد التعلق بالصدق والصراحة، وهو ما يفتقده عبثًا في مجتمعه الحافل بالنفاق والرياء، وقد فقد كل معارفه وأصدقائه وأخيرًا ينفر من حبيبته ومن الناس جميعًا، ويعتزم الذهاب إلى مكان نائ في الأرض، حيث يتوفر له حرية الرجل الشريف، وهذا هو خلق "آلسست" بطل المسرحية السابقة.
ويمضي هلال قائلًا: لا نقصد من إحصاء القوى السِّتْ السَّابقة: أنّ كل مسرحية مثلًا لا بد أن تحتوي على ست شخصيات، ممثلة لهذه القوى؛ فقد وضح ما
(1/411)
________________________________________
قلناه: أنه يمكن أن تمثل بأكثر من ذلك، وقد يمثل شخص واحد أكثر من قوة منها، وقد يُحذف بعضها فيزيد التصوير الفني روعة وقوة، متى توفر الإحكام الفني في البناء المسرحي أو القصصي.
وكُلما تعقدت الشخصيات نفسيًّا -أي بعدت عن السطحية والضحالة- جمعت بين أكثر من قوة منها، فمثلًا: هاملت هو بطل الموقف في مسرحية شكسبير، وهو يُمَثّل القُوة الأولى والثانية والثالثة والخامسة من القوى الدِّرامية، ذلك أنه طالب للغاية، وفي داخله ذاته أكبر عائق يمنعه من الوصول إليها؛ ثم إنّه يَنْشُد هذه الغاية في نفسه فهو يرجوها ويحرص عليها ويخافها ويرغبها، وهو كذلك الحكم فيها في تردد بالغ مداه في العمق، وفي هذا غنيت معانيه النفسية وتعددت ودقت مسالكها.
وعلى عكس ذلك إذا تفتت القوى في صورة رموز؛ فإن المسرحية تفقد قوتها الدرامية، لأنّ رَوابطها الحيوية تُصبح أقرب إلى التجريد، فمثلًا في مرحلة ولوع الأستاذ توفيق الحكيم بالمسرح الرمزي كان يقصد إلى تجريد شخصياته، كما يقول هو في مقدمة مسرحية "بيكماليون" عام ألف وتسعمائة واثنين وأربعين. إذ قال: أقيمُ اليوم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكارًا تتحرك في مطلق المعاني مرتدية أثواب الرموز؛ فمثلًا في مسرحية "شهرزاد" يجعل العبد رمزًا لقوة الجسد، والوزير قمر رمزًا للعاطفة، وشهريار رمزًا للفكر الخالص.
وعلى الرغم من قوة الحوار الذي ينفرد به الأستاذ توفيق الحكيم، وطرافة المعاني ودقة الاختيار للموضوع والأفكار، وشفافية ذلك كله عن موقف ذهني دقيق في أسلوبه الممتع على الرغم من ذلك كله تفقد المسرحية بنيتها الدرامية، وحركتها الحيوية وقوتها في الإقناع.
(1/412)
________________________________________
ولا نقْصِدُ أنْ نُقَلّل من القيمة الفنية في هذا المنزع الرمزي لمسرحيات الأستاذ الحكيم، فقد أغنا أدبنا الحديث في جوانب الحوار والمعاني ودقة المسلك الذهني؛ لما لا نزال نفتقر لمثله حتى اليوم، ومن حسن الحظ أن الأستاذ توفيق الحكيم قد رجع عن نظريته الرمزية تلك في نقده وإنتاجه الأدبي فيما بعد.
وقد تتبع بعض الدارسين حديثًا صور هذه المواقف المسرحية؛ فأوصلها إلى أكثر من مائتي ألف موقف، ويُمكن تتبع نظائرها في القصة، ولا يهمنا هنا الاستقصاء، وهذه المواقف كلها جديدة في جنس المسرحية والقصة في أدبنا الحديث، وهي لذلك تحتاج إلى تقديم جدي في أسسها وفي ما تدل عليه من صنوف التأثير.
وكثيرًا ما يكون هناك تأثير وتأثر بين عملين أدبيين من ناحية الموقف، وقد يكون التأثر في نفس الاتجاه، ولكن على الناحية الأخرى قد تبدو الصلة بين الموقفين في التأثر الأدبي في صورة عكسية.
ونَضْرِبُ مثلًا لذلك: بالموقف العام في مسرحية "فاوس لـ جوته" ومسرحية شهرزاد للأستاذ توفيق الحكيم؛ فالموقف العام من مسرحية "فاوست" يتمثل في تصوير التردد بين العقل والقلب، ومنذ مطلع المسرحية الأولى من مسرحيته "فاوس" نرى فاوس شقيًّا بعقله لم يستطع أن يتذوق طعم السعادة أو لذة المعرفة فييأس ويهم بالانتحار، ثم يتولد فيه الأمل على رؤية مباهج الربيع، ويخوض في نشدان السعادة عن طريق إغناء مشاعره، والانغماس في تجارب حيوية مختلفة ورحلات متعددة، يُصاحبه فيها روح الشرّ "مفست فوليس".
(1/413)
________________________________________
ويأتي "فاوست" آثامًا يعتريه فيه من الذم، ويكون هذا بمثابة تكفير عن سيئاته وآية عن روح الخير فيه في المسرحية الأولى. فلم يكسب الشيطان الرّهان الذي عقده مع الله على إغواء "فاوس" في المنظر الثاني من المسرحية الأولى، ويظل في هذا النوع من الآثام والسلوك طوال هذه المسرحية الأولى، وهي التي تنتهي بنجاة "مارجريت" منه ومن روح الشّر، بعد أن حاولا معًا إخراجها من السجن؛ ففضلت البقاء في السجن، والبعد عن حبيبها على الخروج مع روح الشر المصاحب لـ"فاوست".
وفي المسرحية الثانية التي تسمى "فاوس" الثانية وهي استمرار للأولى، يظل "فاوس" مُنغمسًا في تجارب الحياة التي يغني بها مشاعره، ويهتدي بها إلى أن الحقيقة المجردة فوق قدرة العقل المجرد، ويَتعرف على "هيلين" رمز الجمال الخالص؛ فيهتدي عن طريقها إلى الخير، وهو غَاية ما يستطيع المرء الوصول إليه بعواطفه الإنسانية، وروحه الصافية؛ فقضية فاوست هي إخلاس العقل الخالص، ووجوب إغناء المعاني الإنساني عن طريق المشاعر، والخوض في تجارب الحياة؛ لتطهر روح الإنسان، وتصبح سامية في طبيعتها الخالصة بتفضيل عمل الخير عن طريق البقاء في نطاق التفكير الفطري، والعقل الخالص، وتلك قضية رومانتيكية عامة يتبلور الموقف حولها في مسرحتي "فاوست".
وعلى بُعد ما بين موضوع مسرحتي فوست السابقتين، وبين مسرحية "شهر زاد" للأستاذ توفيق الحكيم، وعلى بعد ما بين المسرحيتين كذلك في طرق المعالجة وجوهرها، نَرَى القضية نفسها هي محور الموقف العام في المسرحية الأستاذ الحكيم، نراه أول ما نراه قد شبع من الجسد، واشتاق إلى معرفة الحقيقة المجردة بعقله لا بعاطفته، تلك الحقيقة التي يتخذ "قمرزاد" رمزًا لها.
(1/414)
________________________________________
ويظل سائرًا في طريق التجرد من عاطفته، ينشد الهداية في فكره فحسب، مترددًا في طريقه أحيانًا، على الرغم من عزمه على السير فيه، ثم لا يلبث الهدوء الذهني أن ينكشف عن الإخفاق، بعد أن أصم أذنيه عن نداء شهرزاد المتكرر له، بأنّ المرء لا يعيش فكرًا خالصًا، وأن العقل لا يكفي المرء في الحياة، فيفقد في طريق المعرفة التجريدية نفسه؛ لأنه فقد آدميته، ويصبح كالشعرة التي أصابها بياض الشيخوخة، فلم يعد لها علاج سوى الاقتلاع.
وبذلك يكون شهريار قد سار في الطريق المقابل لما سار فيه "فاوست" ولكنهما كليهما أمام موقف، واحد وقضية واحدة، يُبرهن مسلكهما على صحتها، إخفاقًا في حالة شهريار، أو نجاحًا في حالة "فاوست" ونكرر أن بين المسرحيتين بونًا شاسعًا، في أمور كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها على الرغم من الصلة الأدبية الواضحة في الموقف العام فيهما.

خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)
والآن إذا ما أردنا أن نجمع أطراف الموضوع معتمدين على ما كتبه الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن) فسوف نجد أن الكتاب أو الشعراء في المسرحية أو القصة، إنّما يُصَوّرون عالمًا صغيرًا يقتطعونه من العالم الكبير، وفي هذا العالم الصغير لا يمكن أن يظهر الإنسان معبرًا عن سواه، إذا توفرت له الحياة الغنية، شأنه في ذلك شأن الإنسان في العالم الكبير.
فمثلًا: شخصية "عطيل" في مسرحية "عطيل" لشكسبير لا نفهم من سلوك عطيل وحده ولكن نفهم من خلال "ياجو وديدمونه" ووالدها "برابانتيو" وعلى الرغم من أن عطيل هو محور المسرحية؛ فهو مشترك معه في الموقف الذي يربط بينهما، وكل شخص في المسرحية تسير الشخصيات على حسب طبيعته الدائمة المتشابكة نحو المصير، ولكن في حدود الوظيفة التي تبين عنها صلاتها مع
(1/415)
________________________________________
الشخصيات الأخرى حبًّا أو بغضًا ولاءً أو نفورًا، تعاونًا على البناء أو نزوعًا إلى الفرقة.
وقد أصبح الموقف من الاصطلاحات الفلسفية للعصر الحديث، ومعناه: علاقة الكائن الحي ببيئته وبالآخرين، ولا سَبيل إلى اتخاذ موقف إلا بمشروع يقوم به الفرد، مرتبطًا بما يحيط به من عوامل يتجاوزها مشروعه، إلى غاية له يحاول بها التغيير من حالته الحاضرة.
وهذه العوامل مهما كانت درجة تعويقها، هي التي تحدد مشروعه، وتشف عن حريته، ويجب أن تتحدد هذه الحرية بتلك العوامل؛ فيجب ألا تبلغ هذه الحرية في مشروعها درجة الوهم، وتلك المعاني التي تربط الموقف بمسرحية أو القصية أو الموقف في الحياة، فلكل مسرحية موقف فالبنية الفنية فيها ذات مغذى عام محدد المعالم، والعالم الفني الذي ترتبط به الشخصيات، وتتحدد به معالم الوجوه والناس، والأشياء لدى تلك الشخصيات، وهذا هو الموقف العام، ولا يتحدد هذا الموقف حق التحديد إلا على أساس القوى الوظيفية لكل شخص من الأشخاص في المسرحية.
وهذه القوة الوظيفية المتصارعة، يتمثل فيها موقف كل شخص على حدة، وهذا هو الموقف الخاص؛ فالغلبة الفتاكة في قلب قائد شجاع عقد صلة الحب بينه وبين فتاة أعلى طبقة منه، في حين اشتدت حاجة قومه إليه في الحرب، فكان القائد مسار حسد بمن فسدت أخلاقه من قومها، كل ذلك خلق موقفًا عامًّا جعل الحسد جذوة مُطّربة في خير موقد لها، وهو قلب عطيل؛ فهذا هو الموقف العام.
(1/416)
________________________________________
فموقف المسرحية إذًا يختلف عن موضوعها إذ الموضوع هو المادة التي تتنوع أشكالها على يد الكتاب والشعراء، في حين يكتسب الموقف العام طابعًا محددًا في المسرحية، به تتجاوز مجرد المشابهة السطحية في الموضوع مع مسرحية أخرى، وقد تتشابه المسرحيات في مواقفها العامة؛ فيكون هذا تشابه رباطًا فنيًّا أقوى من مجرد هذا التشابه السطحي في الموضوع، وهذا الرباط الفني المبني على التشابه في المواقف العامة، هو ما ينبغي أن يكون مجال اهتمام الدارسين في الأدب المقارن؛ لأنه المجال الخصب متوالد الصفات الأدبية الفنية بين الآداب المختلفة.
فمثلًا نرى في الموشحات عطيل شديد الشبه بمسرحية "فندر راسين" إذ الحُبّ في المَسرحيتين غير متكافئ، وتدفع الغيرة النساء على اغتيال المحبوب خطأً، وإعلام المحب القاتل بخطئه، فيدفعه الندم إلى الانتحار؛ فالشبه في الموقف العام بين المسرحيتين واضح، وهذا الشبه ناشئ عن صلة تاريخية بينهم.
والقضية العامة في المسرحية "فاوست" للشاعر الألماني "جوته" هي التردد بين العقل والقلب، ومنذ أول المسرحية نرى "فاوس" شقيًّا بعمله، لم يستطع به أن يذوقَ طعم السعادة أو لذة المعرفة؛ فييأس ويهم بالانتحار، ثم يتولد فيه الأمل في رؤية مباهج الربيع، ويأخذ في نشدان السعادة عن طريق إغناء مشاعره والانغماس في تجارب حيوية مختلفة الأنواع، يصاحبه فيها روح الشر "نفيس توفوليس".
وعلى بعد ما بين موضوع المسرحية السابقة، وموضوع مسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم، وعلى ما بين المسرحيتين من فروق في طريقة المعالجة وجوهرها؛ نرى القضية نفسها هي محور الموقف العام في مسرحية الأستاذ توفيق الحكيم، الذي يبدأ وقد شبع الجسد ومضى البقاء في حدود العاطفة، واشتاق إلى معرفة الحقيقة
(1/417)
________________________________________
المجردة، تلك الحقيقة التي يتخذ شهرزاد رمزًا لها، ويظل سائرًا في طريق التجرد من ماديته وعواطفه بجهوده الفكرية التي ينوء بها أحيانًا؛ فيتردد في طريقه، ولكنه لا يلبس في عاقبة أمره أن يكشف عن فشل جنوده في محاولة التجرد من جسده وعاطفته.
ولا شك أنّ الشّاعر الإنجليزي "بايرونخ" في مسرحيته التي عنوانها "مانفرد" متأثر بمسرحية "فاوست" لـ"جوته" والشبه قوي بين المسرحيتين في الموقف العام، والمنهج الفني، وإن كان هذا الشبه جزئيًّا ومحدودًا، ذلك أن مسرحية "مانفرد" تشبه في موقفها العام مسرحية "فاوست" في جزئها الأول فحسب، وموقف "مانفرد" يُشبه بعض وجوه موقف "فاوست" كما يشبه بعض الوجوه الأخرى موقف "مارجريت" في مسرحية "جوته" السابقة الذكر.
وطبيعي أن يتشابه الموقف العام في المسرحيات، وتكون مادة مواضعها متشابهة في وقت معًا، ونضرب مثلًا: مسرحية "أوديب الملك" للشاعر اليوناني "سوفوكليس" وموضوعها: "سلطان القدر الساحق الذي قد يحول انتصارات المرء إلى هزائم، وهزائمه إلى انتصارات، ومادة الموضوع هي الأسطورة اليونانية الشهيرة التي تنبأ فيها الكاهن بأنه سيولد "للايوس" ملك طيبة ولد يقتل أباه ويتزوج أمه؛ فيأمر ذلك الملك راعيًا من الرعاة بأن يأخذ ابنه الوليد، ويلقيه على جبل كي يفترسه وحش.
وقد أشفق الراعي على الطفل وأسلمه لراع آخر حمله إلى "يوليبس" ملك مدينة "كورنسا" المحروم من الولد؛ فربّاه وهيأه لولاية عهده، وعندما تنبأت العرافة بأنه سيقتل أباه، ويتزوج أمه يهوله ذلك ويغادر "كورنسا" لئلا يقع في المحظور، ويتجاهل طيبة، وهي وطنه الحقيقي وفي الطريق يلتقي برجل على عربة خلفه
(1/418)
________________________________________
خمسة من أتباعه؛ فيشتبك معهم ويصرعهم، وكان هذا الرجل أباه "لايوس" دون أن يعلم.
ويدخل طيبة فيجد أهلها في فزع من وحش له جسد وأسد ووجه امرأة وأجنحة نسر، يلتقي بمن يصادفه، فيضع له لغزًا عن الحيوان الذي يسير في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث، ويقتل من لا يجيبه على ذلك اللغز؛ ويَحُلّ أوديب اللغز بأن ذلك الحيوان هو الإنسان، الذي يحبو طفلًا على رجليه، ويسير على رجليه رجلًا، ويتوكأ على العصا شيخًا؛ فيتقل الوحش نفسه ويستحق أوديب بذلك بأن يصير ملكًا، ويتزوج من "بوكاسا" أرملة والده الذي قتله دون أن يعلم ذلك.
ثم تنقم الآلهة على المدينة؛ فتصيبها بوباء وتتنبأ العرافة أبولو بأن الوباء لن ينكشف عن المدينة ما لم يعاقب الأثيم، الذي قتل "لايوس" ويَجتمع الكهان ويطلبون من أوديب أن يبحث عن القاتل، وحين يكتشف أوديب أنه ذلك الأثيم، الذي قتل أباه والمتزوج من أمه، يفقأ عينيه حتى لا يرى أمه وثمرة زواجه منها.
وطالما عُولِجَ الموضوع في مسرحيات أوربية منذ الشاعر اليوناني "أسخيدوس" الذي كان أول من عالج الموضوع، ثم توالت المسرحيات في مختلف الآداب الأوربية حتى اليوم.
ودِراسة المواقف العامة في المسرحيات والقصة على هذا النحو مجال خصب للمقارنات، والكشف عن أنواع كثيرة من التأثيرات الأدبية التي يستفيد منها ذوي المواهب، والعبقرية المختلف الآداب، وأول من بحث في المواقف الأدبية في المسرح، هو الناقد الشاعر "أوطابي كارلو جوزي".
(1/419)
________________________________________
وقد قلنا: إن مثل هذا التقسيم لا يصلح أساسًا علميًّا لتحديد التأثير الفني في المواقف العامة للمسرحية، والخلط بين الموضوعات والمواقف يؤدي إلى لبث في فهم المواقف، وينتج عن أعطاء فنية كثيرة في تحديد الصلات الأدبية، وكل ما نستطيع أن نحدده من صور الموقف العام بهذا المعنى: أنه يستلزم وجود قوة إنسانية تتجه بجهدها نحو غاية خاصة، وتظل حريصة على الحصول على خير، وعلى تجنب أمر.
وإلى جانب هذه القوة الدرامية المتمثلة في شخصية البطل، تقوم أخرى منافسة لها، وتكون بمثابة عائق في سبيل الوصول إلى الغاية المنشودة بالشخصية الأولى، وبها يحتدم الصراع، وتَكسِبُ المسرحية قوتها الحيوية، وبين هاتين القوتين قوة ثالثة، تُمَثّل الخير المطلوب، أو المثال المنشود أو الخطر المرهون.
وقد تبدو هذه القوة في صورة شخصية هي المحبوبة مثلًا، وهي بمثابة القطب الذي يتركز حوله الصراع، وهي مركز الإشعاع القيمة أو المثال الذي تبذل التضحيات في سبيله، يضاف إلى ذلك قوة رابعة، وهي القوة التي يُطلب لها الخير المنشود، أو المثال الحقيقي أو الوهمي، وقد تكون هذه القوة ممثلة في صورة شخصية من الشخصيات المُستقلة كما في مسرحية "أندروماكر راسين".
وهذه القوة الرابعة قد تظهر في الشخصية الممثلة لها على المسرح، وقد لا تظهر، ولكن ظلالها حاضرة دائمًا على القارئ أو أمام القارئ أو المشاهد، كما في حالة "ستيناكس" في مسرحية "راسين" وكما إذا كان الخيرُ مَنشودًا للوطن مثلًا.
والقوة الخامسة الممثلة في الصراع هي: قوة الحُكم أو القوة التي تزن الموقف، وتميل كفته إلى ناحية من النواحي، وقد تتمثل في البطل نفسه، وقد تتمثل في الشخصية الممثلة الخير المنشود، وأخيرًا تأتي القوة العوامل أو المساعدين إلى آخر ما قلناه من قبل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/420)
________________________________________
الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب".
(1/421)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
(المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب")

المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب"
المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس"، و"أديب".
فـ"أما عُطيل" واسمه في الإنجليزية "أوثلو"؛ فهي مسرحية تراجيدية للكاتب الإنجليزي "ويليام شكسبير" تتكون من خمسة فصول، وتدور أحداثها في "البندقية" و"قبرص" وشخصيات المسرحية هم: عطيل قائد مغربي تابع للبندقية. "ديدمونة"، زوجة "عُطيل"، "ياجو" حامل الراية لعُطيل "كاسيو" مساعد عطيل "إيميليا" زوجة "ياجو".
وقد نقلها أولًا الشاعر اللباني مطران خليل مطران إلى العربية عبر الفرنسية، ثم ترجمها مرة أخرى جبرا إبراهيم جبرا عن الإنجليزية مباشرة.
وتجري معظم أحداث المأساة في مدينة البندقية، ولكن قسمًا آخر من هذه الأحداث يجري في قبرص، وموضوعها الأساسي هي الغيرة القاتلة، غَيْرَةُ زَوجٍ مَخْدُوع على زوجته البريئة الشريفة، وغيرة صديق من صديقه وكان "ياجو" حامل راية "عطيل" مغربيًّا هو أيضًا، وكان قائدًا عسكريًّا في خدمة البندقية.
وكان يُصاحب السيد عطيل المغربي، لا لشيء إلا لكي ينتقم منه وهو من ذوي الوجهين وجه مطيع وآخر يخفي حب الثأر والانتقام، وكان يخاف أن يحصل عطيل على ديدمونة ابنة أحد أعيان البندقية، وقد اعتمد "ياجو" في الوصول إلى غايته الشريرة على الدسيسة، وعلى معرفته العميقة بشخصية ضحيته.
(1/423)
________________________________________
وهو يجسد الشر وإن لم تَظهر عليه علامات الإنسان الشرير، وفضلًا عن ذلك؛ فإن الخوف والارتباك لا يَعْرِفَان لقلبه طريقًا، كما كان ذو إرادة صلبة قوية، وأنانيًّا إلى أبعد الحدود، ولا يُؤمن بوجود الحب والضمير والشرف، بل إنّ من يؤمن بهذه المفاهيم هو في رأيه ساذج أبله كذلك يتميز بأنه يتلذذ بتعذيب ضحيته، في الوقت الذي نراه شديد الحساسية لأي شيء يمس كبرياءه؛ لأنه يعي تفوقه على الآخرين.
إنه يكره "عطيلًا" لأنه جعل "كاسيو" ملازمه ويكره أيضًا "كاسيو" لأن عطيلًا فضله عليه، ويَرغَبُ في الحصول على منصب يليق بإمكاناته الكبيرة، فيتعاون مع "مدريجو" وهو وجيه من وجهاء البندقية، إلا أن "برباندتبو" يرفض أن يكون زوجًا لابنته "ديدمونة" فيبلغ "ياجو" و"رديريجو" والد "ديدمونة" أن "عطيلًا" يلتقي بها.
ورغم ذلك يتزوج عطيل وهو سعيد ببيت من بيوت المالكة من "ديدمونة" التي كان يحبها وتحبه، وعندها يبدأ "ياجو" محاولته تخريب بيت "عطيل" إذ يحاول إقناعه بخيانة زوجته "ديدمونة" التي كانت تُرافق زوجها في قبرص حيث جرت معارك انتصر فيها "عطيل" على أعدائه، وأغرق سفنهم، فيذكره "ياجو" بما فعلته "ديدمونة" حين هربت معه وتزوجته رغم أنف أبيها، مؤكدًا له أن لديها الاستعداد لخداعه هو أيضًا. وهذا نص كلامي "تزوجتك دون أن تحصل على موافقته، وقد تهشك".
ثم لا يكتفي بهذا، بل يبحث عن وسيلة يحاول عن طريقها تخريب بيت عطيل بيد عطيل نفسه، ولأنه لا يستطيع تنفيذ المؤامرة بمفرده، يطلب من زوجته "إيميليا" مساعدته دون أن يشرح لها أنه يَحِيكُ خيوطَ مُؤامرة، إذ يُكَلّفه بسرقة
(1/424)
________________________________________
منديل ديدمونة دون أن يشرح لها الأسباب، فتقول إيميليا: هذا المِنْديل هو أول تذكار أهداه المغربي إليها، وزوج الغريب الأطوار قد لاطفني، وسألني أن أسرقه له.
غير أنها تحب هذه الهدية حبًّا جمًّا؛ لأنّ عُطيلًا أوصاها ملحًا بالاحتفاظ بها أبدًا، ولهذا هي تحملها بلا انقطاع، وتُقَبلها وتخاطبها، ومع هذا تسرق المنديل، وتُعطيه لزوجها "ياجو" الذي يَرميه في غرفة "كاسيو" ثم يقول عطيل: لقد كنت منذ عدة ليال نائمًا مع "كاسيو" حين سمعته يقول وهو مستغرق في أحلامه: "حبيبتي "ديدمونة" لنكن حذرين ولنخفي حبنا، وحينئذ يا سيدي أمسك بيدي يشدها، ويصيح يا لك من حسناء شهية، ثم طفق يلثمني بقوة، ثم ألقى بساقه على فخذي، وتنهد وعانقني وصاح لعن الله الحظ الذي وهبك للمغربي.
ويقول عطيل: إنه رأى منديلها بيد "كاسيو" ويقول "ياجو" أيضًا لعطيل: إن "كاسيو" قد اعترف له بفعلته، وعده أنْ يُسمِعه وهو مختبئ حديثًا بينها وبين "كاسيو" ووافق عطيل وسمع الحديث، وكان في الواقع حول خليلة "كاسيو" لا حول "ديدمونة" إلا أن عطيلًا ظن أن الحديث يدور حول زوجته، فاعتقد أنها تخونه فعلًا، وكان "ياجو" يأخذ من "رودريجو" مجوهرات بحجة أنه يعطيها لـ"ديدمونة" ولكنه لم يكن يوصلها إليها.
ومن ثم أراد التخلص من "رودريجو" لكي لا يطالبه بالمجوهرات، كما كان أيضًا يريد التخلص من "كاسيو" الذي كان عطيلًا قد عينه قائلًا حربيًّا تحت إمرته بدلًا منه، فقال "رودريجو": إن وفدًا جاء من البندقية يريد تعيين "كاسيو" مكان "عطيل" فالأفضل التخلص من "كاسيو" الذي سيكون في منتصف الليل عند خليلته، ويتضاربان في الظلام، ويكسر "ياجو" ساق "كاسيو". ثم بعد ذلك يعود في الظلام، ويضرب "رودريجو" ويقتله.
(1/425)
________________________________________
ويخنق عُطيل ديدمونة بتهمة الخيانة مع "كاسيو" ولكن "إيميليا" زوجة "ياجو" تكشف الحقيقة لعطيل موضحة له أنها هي التي أخذت المنديل وأعطته لزوجها دون أن تعلم أنه يبيت أمرًا خبيثًا؛ فيطعن عطيل نفسه حزنًا على "ديدمونة" بعد أن طعن ياجو وجرحه ولم يكن الجرح قاتلًا.
ويصف عطيل نفسه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بأنه رجل لم يعقل في حبه، بل أسرف فيه، رجل رمى بيده كهندي غبي جاهل لؤلؤة أثمن من قومه جميعًا، رجل إذا انفعل ذرفت عينه دموعًا غذيرة، كما تدر أشجار العرب صمغها الشافي. ولعل هذه الأوصاف التي وصف بها نفسه أصدق من كل تحليل لشخصيته.
أما "كاسيو" الذي تَسَلّم زِمَام الأمور بعد "عطيل" فكان شابًّا طيبًا يحب عطيلًا ويخلص له، وأما إيميليا زوجة "ياجو" فهي تشبه "كاسيو" في طيبته كما كانت تحب "ديدمونة" وإن كانت دون أن تدري قد شاركت في المؤامرة التي حاكها زوجها الشرير، وكانت ديدمونة شريفة مخلصة لزوجها صادقة لا تعرف الخداع.
وبالتالي فالصراع في هذه المأساة هو بين "ياجو" الشرير الخالص الشر، وبين عطيل وزجته "ديدمونة" اللذين لا يعرفان الشر فوقعا ضحية طيبتهما، وقد انتحر عطيل بعد أن خنق زوجته، وجرح "ياجو" جرحًا غير قاتل.
وفي تفسير الموقف الذي تصوره المَسرحِيّة هُناك من يتساءل قائلًا: هل فعلًا مسرحية بنهاتيا هذه أن الشر باق، وأن الخير سريع الزوال؟ لكن بعضهم كتبوا عن هذا العمل يرون أن هناك أملًا في أن يحاكم "ياجو" على فعلته القذرة، إلا أن السؤال هو: كيف؟ ومتى؟ ترى هل تركت لنا المسرحية شيئًا نعتمد عليه في ذلك الأمل؟!.
(1/426)
________________________________________
وهناك تفسير آخر في الموقف الذي تصوره المسرحية إذ يرى خليل مطران: أن "شكسبير" قد كتبها لإظهار الغيرة وتأثيرها في الرجل بأقوى وأصدق ما دل عليه الاختبار من أمرها، ولذلك اختار عاشقًا إفريقيًّا بدوي الفطرة؛ ليكون وثاب الشعور عنيفًا، وجعله عسكري المهنة؛ ليكون سريع التصديق والانخداع، واختاره كهلًا ليكون أشد في العشق كما هي شيمة أمثاله ممن يسطو عليه الحب على انقضاء الشباب، وليكون أيضًا في حالة يتهم نفسه بفقدان أكثر الخصال التي يقتضيها الغرام، ولا سيما وهو أسود البشرة من رجال الحرب. على حين أن "ديدمونة" امرأة بيضاء منعمة من قوم فسدت الأخلاق مترفين.
ثم يمضي مطران قائلًا: إنّ الشاعر الإنجليزي قد أراد أن يثبت أن العِفّة لا تنتفي من مدينة ما مهما فسقت، بل قد تزداد تمكنًا من نفس المرأة المتحصنة بمقدار ما تندر العفة بين جيرتها، وفي عشيرتها. كما أراد أن يُبَيّن إلى أي مدى يمكن أن يَصِل احتيال نفس رجل ذكي طماع، أصم الضمير، مستبيح كل محرم مستهين كل منكر في سبيل غايته مثل "ياجو".
وفي النسخة الإنجليزية الموسوعة "الويكيبديا" يُرْجِعُ كاتب مادة "شكسيبير" ما صنعه "ياجو" إلى كراهيته للنساء، وعدم اطمئنانه إليهن، فضلًا عن أن "ياجو" كان فيما يبدو غير مطمئن إلى قوته الذكورية، كذلك يرى الكاتب أن هذه المسرحية الشكسبيرية مثال لمسرحية التراجيدية الكلاسيكية، التي يرجع مع ما تحتوي عليه من مأساة إلى عيب قاتل موجود في البطل، وهو في حالتنا هذه الغرام الشديد المخلص غير الحكيم من جانب عطيل لديدمونة.
كما نقرأ في مقال لعطيل في النسخة الفرنسية "لإنكارتا" طبعة سنة ألفين وتسع أنّ ذلك القائد الإفريقي لم يكن ضحية لتآمر "ياجو" فحسب، بل كان ضحية
(1/427)
________________________________________
أيضًا لطبعه الإفريقي الحامي، إذ ترك العاطفة تتحكم في سلوكه؛ يَقْصِدُ عاطفة الغيرة العنيفة العمياء فيما هو واضح.
وهكذا تتعدد التفسيرات التي يريد أصحابها كشف اللثام عن الموقف المسرحي في ذلك العمل، ومعروف أن "فيردي" الموسيقي الإيطالي الشهير قد استوحى في المسرحية في إبداع أوبرالي يحمل نفس الاسم، وأن "أورسل ولز" قد صنع منها فيلمًا أبيض وأسود.
المثال الثاني للمواقف التي سندرسها هـ و: مسرحية "هنريك أبسن" النرويجي المسماة "عدو الشعب". وعدو الشعب هو في الأساس لقب تستخدمه بعض الأنظمة الاستبدادية لوصف المعارضين السياسيين، أو المشتبه بهم، وقد يُطلق أحيانًا على بعض الحلفاء السابقين لتلك الأنظمة، التي تُريد القول بأنّ أولئك الأشخاص هم أعداء يتآمرون ضد المجتمع والشعب، وهذا اللقب يعود على الأقل إلى عصر الإمبراطورية الرومانية.
أما في العصر الحديث فأشهر من استعمله هم الشيوعيون بدءًا من عند "استالين" الذي كان هو والزُّمرة الحَاكِمَة من حوله يزعمون أنهم هم وحدهم الممثلون الحقيقيون للشعب، إذ كانوا يضيقون بأي لون من الجدل الفكري أو العقدي، وتصل الأمور على أيديهم إلى حد التصفية الجسدية ضد المعارضين، مستندين إلى هذه الحجة الإجرامية.
وقد كتب "هنريك إبسن" بلغته القومية مسرحية مشهورة بعنوان "عدو الشعب" عام ألف وثمانمائة واثنين وثمانين، وتمت ترجمة المسرحية للعربية عبر الإنجليزية على يد كمال المصري، عام ألف وثمانمائة، كما استلهمت شعب في سوريا اسمه
(1/428)
________________________________________
"عدو الشعب ليس إلا" وأُخرجت فيلمًا في الولايات المتحدة عام ألف وثمانمائة وثمانية وسبعين، وكذلك الهند بعد ذلك بأحد عشر عامًا.
وفي المسرحية النرويجية يكشف بطلها الدكتور "ستوكمان" المشرف الطبي على حمامات البلدية الصحية التي يفد الناس إليها من كل صوب وحدب، للاستشفاء وتكسب المدينة من ورائها الكثير، أنّ هذه الحمامات قد تلوثت، ولم تَعُد تَصْلُح للاستعمال؛ فيُحَذّره أخوه رئيس البلدية من إذاعة الخبر على الناس، مفضلًا أن تعالج المشكلة في السر، لكن الدكتور "استوكمان" يُصِرّ على نشر اكتشافه، وإشاعة الخبر في المجتمع قائلًا: إن هؤلاء الذين يريدون أن يعيش المجتمع في أكذوبة، يجب سحقهم كما تسحق الحشرات.
وعندئذ يؤلب رجال البلدية الناس عليه؛ فيرمونه بالحجارة ويصفونه بأنه عدو الشعب، فيردُّ قائلًا في غير مبالاة: إنّ أقوى رجل في العالم هو ذلك الذي يقف وحيدًا. وهكذا تحولت المواجهة بينه وبين الشعب، بدلًا من أجل تكون لأجل الشعب، وذَلك بسبب الطريقة التي انتهجها في معالجة المسألة، إذ ظنّ أن مواجهة الجموع بالحقيقة وتحدي من بيدهم زمام الأمور بدون مبالاة بالعواقب اعتمادًا على أنّ الحَقّ مَعَه، وأنّ حُجّته من الوضوح بمكان، وأنّ الحَقّ بِطَبيعته منتصرٌ لا محالة. وأن الناس تفكر بعقلها، وعلى استعداد للمناظرة في سبيل الدفاع عن حقوقها، وعمن ينصر تلك الحقوق أن تلك المواجهة رغم كل الظروف هي السبيل إلى إقناعهم وكسب قولبهم، وكسبهم إلى جانبه، واتخاذهم أعوانًا ضد قوى الشر والفساد، ناسيًا أن هناك من يستطيع الضحك على عقول هذه الجموع، وبث الأكاذيب وإقناعهم بها.
(1/429)
________________________________________
وأنّ الجماهير من السهل قلبها عليها في لحظات، وبث كراهيته في صدورها، وإيهامها أنهم حين ينقلبون عليه، إنّما يناضلون من أجل الحقيقة والمصلحة العامة.
وبشيءٍ من التفصيل نقول: تَروي المَسْرَحِيّة قصة طبيب يعيش في إحدى القرى التي يقصدها السياح للاستحمام في حماماتها العامة، وذات يوم يكتشف ذلك الطبيب أنّ الماء الذي يستحمون به ملوث، ويصيبُ من يستعمله بأمراض خطيرة؛ فيثِيرُ القضية في القرية رأفة بالناس، دون أن يدري أنه سيدخل في صراع مرير مع أصحاب المصالح من تجار وصحفيين ومنتفعين، أولئك المتحكمين بالأمور، الذين يجنون أرباحًا طائلة من التجارة بتلك المياه، فيشنون حملة مضادة ضد الدكتور "ستوكمان" مُتّهمين إياه أنه عدو الشعب.
وبفضل مكرهم ودهائهم وسطوهم يستطيعون تقليب السكان ضد الطبيب المسكين، ويَدْفَعُونه إلى الرحيل، بالرغم أنه صديق الشعب الحقيقي، على حين هم أصدقاؤه المزيفون، بل قل إنهم أعداءه الذين يجيبون في حقه، والسبب! السبب هو كما قلنا: أنّ الجموع ليس عندها وقت تنفقه في التثبت بما تسمع، بل تحركه عقلية القطيع، ومن السهل خداعه بالكلام المنمق والدعاية المزوقة، فضلًا عن أن مثل ذلك الطبيب هو شخص فرد في مواجهة عصابة كاملة، ونحن نعرف أن الكثرة تغلب الشجاعة.
ويمكن القول إنّ الدكتور "ستوكمان" في هذا المثال أشبه بشخص يحمل مكبر صوت واحدًا مُتهالكًا مُحاولًا بث الحقائق التي تحت يده، في حارة منعزلة ضيقة، لا يَقْطُنها إلا بضعة أفراد لا حول لهم ولا طول.
فيما الجهة المضادة للدكتور "ستوكمان" أشبه بقوافل تحمل ألوف المكبرات الصوتية الحديثة القوية ذات المدى البعيد، والمنتشرة في شتى بقاع المدينة، ولا شك أن حملة المكبرات الصوتية الكثيرة المتطورة سيكونون هم أصحاب التأثير
(1/430)
________________________________________
الواسع، لكنهم ليسوا بالضرورة صادقين، فحامل المكبر الوحيد المتهالك قد يكون أكثر صدقًا، والعبرة ليست أبدًا في كثرة الأصوات والضجيج الإعلامي المتقن، كما قال فيصل القاسم في مقال له على المشباك.
وكان "جوبلز" وزير الدعاية في ألمانيا النازية يردد الشعار التالي: "اكذبوا ثم اكذبوا، حتى تُصَدّقوا أنفسكم، أو حتى يعلق شيء في أذهان الجماهير". ومن قبل قال أحمد شوقي في مسرحيته "مصرع كليوباترا" عن الشعب وسهولة انقياده إلى الدعايات الكاذبة، وعدم قدرته من التثبت من أي شيء باستعمال العقل، وتَمحيص الأمور تمحيصًا علميًّا، بل عدم رغبته في ذلك: "يا له من ببغباء عقله في أذنيه".
وكان هتلر يرصد مبالغ طائلة للإنفاق على الإعلام، ويقول ما معناه: إنه لو كان لديه مائة دولار لصرف جملها على الدعاية، وأبقى القليل منها للأمور الأخرى.
فمن مسرحية "إبسن" "عدو الشعب" ومن الموقف التي اتخذه بطلها وظن أنه هو الموقف السليم الذي يوصل إلى النتيجة المبتغاه اعتمادًا على ما في ذلك الموقف من نية طيبة وغاية نبيلة خيرة، وعلى أن الجماهير لديها من العقل والحصافة ما تستطيع به أنْ تُميز الطيب من الخبيث، والخَير من الشر، والحقيقة من الوهم.
من هذا كله يمكننا أن نتنبه إلى أن الحياة ليست بهذه البساطة، وأنّ الانتصار في معركة الخير والشر لا تستند فقط إلى ما لدينا من نية نبيلة خيرة، من قياس القوة التي في أيدينا إلى تلك التي في أيدي خصومنا ودراسة الموقف جيدًا لتحديد الزمان، والمكان، والظروف التي نقرر فيها خوض المعركة، وإلا كانت العاقبة وبيلة على أهل الخير الذين يعملون للصالح العام، وأنه لا يكفي أن يحب الواحد منها الجماهير، ويعمل لمصلحتها، ويتفانى في الدفاع عن حقوقها، حتى تحبه الجماهير فهذان شيئان منفصلان؛ بل قد تكون العاقبة وخيمة كما رأينا.
(1/431)
________________________________________
المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب"
وننتقل الآن إلى المثال الثالث من مواقف المسرحية: وهو "فوست" وقبل أن نتحدث عن مسرحية "جوتا" التي تدور حول فاوست لا نعرف طبيعة الموقف الذي على عرضته، نَوَدُّ أن نُعَرّف أولًا بتلك الشخصية:
كتب مُحرر مادة "فوست" في الموسوعة العربية العالمية: أن "فاوست" الذي يُسمى أيضًا: "فوستس" كان منجمًا وساحرًا ألمانيًّا، ثم أصبح فيما بعد شخصية مهمة في الأساطير والأدب، ومع هذا فلا يعرف إلا القليل عن تاريخ فاسوت، ولكن من المحتمل أن يكون قد عاش بين عامي ألف وأربعمائة وثمانين، وألف وخمسمائة وأربعين، وقد عده الألمان حينئذ شخصًا مخادعًا يمارس الإجرام.
وكان الراهب "مارسل لوثر" مؤسس "البروتسطانتية" يعتقد أن "فاوست" كان تتلبسه قوى شيطانية.
وفي عام ألف وخمسمائة وسبعة وثمانين، ظهر سيرة أسطورة غير دقيقة تسمى تاريخ "جوهان فاوس" أو كتاب "فاوس" استعرض فيها المؤلف المشهور كثيرًا من الأساطير المثيرة عن *****ة، وفي هذا الكتاب يبيع فاوست روحه للشيطان "مفيس توفوليس" لقاء أربعة وعشرين عامًا يحقق فيها الشيطان كل رغباته.
وكان "فاوس" في القصة يطوف أرجاء أوربا في ذلك الوقت، يمارس *****، وفي النهاية يذهب إلى جهنم، ويتمالكه الرعب بسبب اللعنة التي حلت به. وقد ترجم ذلك الكتاب إلى عدد كبير من اللغات.
على أن أول مُعالجة في كتاب "فاوس" كانت "تاريخ دكتور فاوس" المأساوي وهي مأساة شعرية ألفها الكاتب المسرحي الإنجليزي "كرستوفر مارلو" نحو عام ألف
(1/432)
________________________________________
وخمسمائة وثمانية وثمانين، وفي هذه المسرحية نجدُ فاوست عالمًا يتشوق إلى أن يعرف كل شيء في حياة البشر، ثُمّ يُحَاول في النهاية أن يتوب؛ لكنّه لا يستطيع.
وقد ظَهَر كثير من المسرحيات عن "فاوس" كما ظهر كثير من العروض في مسرح العرائس عنه أيضًا خلال القرنين السابع والثامن عشر باللغة الألمانية، وتأثرت هذه الأعمال بمسرحية "مارلو" إلا أنها كانت عارية من الجمال الفني، كما كانت هزيلة المبنى خالية من القيمة الأدبية.
وكانت الدراما الشعرية للكاتب الألماني "جوته" أفضل صياغة أدبية لقصة "فاوس" وقد نُشِرَ هذا العملُ في الجزأين عام ألف وثمانمائة وثمانية، وألف وثمانمائة واثنين وثلاثين، حيثُ بدل "جوته" القصة تمامًا، ففي الصيغة "جوته" يتم إنقاذ "فاوس" بِوَاسِطَة الإله، وهناك صيغات لاحقة بقصة "فاوس" تأثرت كلها بتفسير "جوته" باستثناء أن "فاوس" في كل الصيغات اللاحقة لصيغة "جوته" يذهب للجحيم.
وتعد "دورو سيسيبرز عد جورو سييرز" من انجلترا و"توماس مان" من ألمانيا و"بولفان ري" من فرنسا من بين الكتاب الذين عدلوا أسطورة "فاوس" في أعمالهم خلال القرن العشرين للميلادي.
وفي العدد "131" من مجلة المعرفة الأرشيفية الضوئية، وتحت عنوان "جوته" ومسرحية "فاوست". الشيطان الأدبي في الأدب الألماني، يذكر أسامة أمين أن " youhan volvgan vol gota " قد شرع في كتابة "فاوس" وهو في الرابعة والعشرين من عمره وانتهى منها في الثانية والثمانين، وأنه قد وضع في عمله هذا عصارة فكره، وهو الفيلسوف ورجل الدولة وعالم الفيزياء، وجعل العمل يدور حول الشيطان والإنس، وهل الشيطان قادر على أن يجذب السعادة
(1/433)
________________________________________
للإنسان المتعطش إلى معرفة الحرية وعلى أن يخلط الحق والباطل في قلب هذا الإنسان؟.
ثم يُضيف الكاتب قائلًا: إن "جوته" المولود في عام ألف وسبعمائة وتسعة وأربعين، والمتوفى عام ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين، هو صاحب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" الذي يَحتوي على الكثير من المفاهيم الإسلامية، والاقتباسات من القرآن الكريم، وإنه صاحب قصيدة المحمدية، وهو الذي قال: "إننا أهلَ أوربا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، ولم يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر حق ويعلو كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد".
وهو ما جعل بعض الدارسين يقولون: إن "جوته" مات مسلمًا، بيد أن ذلك غير مثبت في أي سيرة لحياته، ومِمّا قاله أسامة أمين: إن لـ"جوته" فلسفة الخاصة في علاقته بالأديان، إذ كان يقتبس منها ما يتفق ونظرته للحياة، ولذلك فإنّ مَسرحية "فاوس" التي يعدها البعض أرفع الأعمال الأدبية مكانة في اللغة الألمانية ليست انعكاسًا لمفاهيم دينية سائدة في عصره، رغم أنها تعالج قضية دينية بحتة، متعلقة بالإله والشيطان والإنسان، ورغم أنه جعل الغلبة للإيمان بل كان إنسانًا فحسب.
كما أمر بالكتابة على شاهد قبره: "لقد كنت بحق إنسانًا" وهو الذي قال في "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي": لأنني كنت إنسانًا فهذا يعني أنني كنت من المجاهدين.
وتبدأ مسرحية "فاوس" بحوار في السماء؛ حيث يُمَجّد الملائكة الله لقدرته على القيام بما لا يقدر عليه سواه، وأنه زرع الخير في الإنسان، إلا أن الشيطان
(1/434)
________________________________________
"مافيستو" الذي كان موجودًا بين الملائكة يُخالفهم في الرأي، ويشير إلى الشكوى المستمرة من البشر، فيتدخل الرب متحدثًا عن الدكتور "فاوس" الذي يُسميه عبدي، فيقول الشيطان: إنه قادر على أن يصرف "فاوس" عن عبادة الله فيقول الله لإبليس: إنه سيتيح له الفرصة لمحاولة إغراء "فاوس" ويعترف الشيطان عندئذ والألم يعتصره بأنّ الإنسان الصالح يَبْقَى مُدركًا للحلال والحرام، حتى عندما يرتكب أكبر الكبائر.
ويترك الرب للشيطان أن يحاول غواية "فاوست" ويقول "جوته": إن الله لا يكره إبليس ولا بقية الشياطين، فهو يعلم أن الإنسان يحتاج إلى بعض المحفزات والاختبارات، حتى يثبت صدق إيمانه.
ويرى النقاد أن "جوته" قد تأثر في هذه المُقَدّمة بما ورد في عهد القديم، وعلى وجه التحديد كتاب أيوب الإصحاح الثاني إذ نقرأ فيه النص التالي: "فقال الرّب للشيطان هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر.
إلا أن لأسامه أمين رأيًا آخر إذ يؤكد أن معرفة "جوته" المؤكدة بالقرآن تجعل تأثره بالآيات القرآنية التالية من سورة الإسراء غير مستبعد {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (الإسراء: 61 - 65).
(1/435)
________________________________________
والواقعُ أنّ في المَسرحية أشياءَ يغْلبُ على الظن أن تكون مستقاة من القرآن، على أن يتبين أن اتصال "جوته" بالقرآن والإسلام قد تم من ذلك الوقت على الأقل، بيد أن هذا لا يعني أن المسرحية لم تتأثر بالكتاب المقدس والنصرانية، إذ إن تأثيراتهما فيها واضحة قوية.
ثم يرى المشاهد "فاوس" وهو في غرفة الدراسة في الليل البهيج يتساءل عن جدوى الحياة، ما دامت العلوم التقليدية من فلسفة وحقوق وطب ولاهوت لم تعد قادرة على أن تقدم له شيئًا، ولم يعد يجد في غير ***** ما يجعله قادرًا على الولوج إلى أسرار الكون، ثم يستدعي ب***** عفريتًا قسمًا؛ ولكنه لا يشفي غليله، فيفكر في التخلص من كل ذلك الهم ووضع السم في الفنجان لينتحر؛ إلا أنه يسمع أجراس الكنائس تدق، وترتيل الأغاني التي تتحدث عن قيام السيد المسيح، فيرجع عن محاولة الانتحار، ويخرج إلى الطبيب حيث يحييه كل من يلقاه باحترام وإجلال لأنه في شابه استطاع أن يتوصل إلى علاج لوباء الطاعون، الذي كاد أن يقضي على المدينة بأكملها.
ثم يرى "فاوس" الشمس وهي تغرب؛ فيعود من جديد للشوق إلى ما وراء الطبيعة، ويقول لنفسه: إن هناك روحين في صدره، كل منها تريد الانفصال عن الأخرى، وفي طريق العودة إلى غرفته يتبعه كلب أسود مثير للريبة، وفي الغُرفة يسعى "فاوست" لترجمة بداية إنجيل يوحنا إلى اللغة الألمانية التي يذوب عشقًا فيها، ولكنه يتوقف عند الكلمة اليونانية "لوجست" التي تعني الكلمة، ولكنه لا يجدها مناسبة فيستبدلها بكلمة الفعل. وبذلك يترجم بداية الإنجيل: "الباعث في البدء كان الفعل" بدلًا من الترجمة المعتادة: "في البدء كان الكلمة".
(1/436)
________________________________________
ثم يلاحظ أن الكلب الذي دخل وراءه الغرفة بدأ يعبث بمحتوياتها، ثُمّ يعترف هذا الكلب "لفاوس" بحقيقة رؤيته وأنه شيطان، فيشكو له فاوست من الهم الذي يتملكه من جراء وجوه في هذا الكون، ويتوصل الشيطان إلى اتفاق مع "فاوست" وقعه الأخير بنقطة من دمه، وينص على أن يكون الشيطان في خدمته، يحقق له كل رغباته ويمنحه قوة خارقة، على أن تُصبح روح فاوست لحظة وفاته ملكًا للشيطان، وعلى أن يخدمه "فاوست" في الآخرة كما خدمه الشيطان في الدنيا، بشرط أن يصل "فاوست" إلى اللحظة التي يشعر فيها بروعة لا حد لها، ويتمنى أن تتوقف عقارب الساعة حتى لا تنتهي المتعة بهذه اللحظة، وفي المقابل تصبح روحه ملكًا للشيطان.
فتبدأ رحلة الاثنين في حانة في مدينة "لاي بذك" ليستمتع "فاوست" باحتساء الخمر، ثُم يتوجهان إلى مطبخ الساحرات، حيث يشاهد "فاوست" في مرآة صورة لامرأة يقع عشقها في قلبه فورًا، وحتى يثير هو أيضًا إعجابها، تعطيه الساحرة شرابًا سحريًّا يجعل منه -وهو الكهل الطاعن في السن- فتىً في ريعان الشباب، لا تستطيع أي حسناء أن تقاومه.
ولكن الفتاة التي رآها في المرأة تختفي عن ناظريه، فيجلس على قارعة الطريق وعندها يشاهد فتاة أخرى اسمها "جريتشن" عائدة من الكنيسة بعد أن أدت فريضة الاعتراف بما اقترفته من ذنوب للكاهن؛ لأنّه لا يمكن مغرفة الذنوب دون الاعتراف، فأراد أن تكون من نصيبه، فعرض عليها باندفاع كبير أن تبادله مشاعره، ولكنها تأبى فيطلب "فاوست" من الشيطان أن يجمعه بها، ولكن الشيطان يتحجج بطهرها وعفافها؛ فيهدده "فاوست" بفسخ العقد بينهما، فيعمل الشيطان على إيقاعهم في حبائله، حتى يرضي "فاوست" فيقدم لها صندوقًا من التحف والحلي أخذ بلبها لما رأته.
(1/437)
________________________________________
ولكن أمّها اشتمت فيه رائحة الحرام، فسعى للقسيس لأخذ رأيه، فصادره لحساب الكنيسة، قائلًا: "إن الكنيسة هي التي تستطيع أن تهضم المال الحرام". ولما عجز الشيطان عن التأثير على "جريتنش" مباشرة لجأ إلى جارتها القوادة الشريرة، التي تقوم بمهمة الجمع بين "فاوست" و"جريتشن".
وتعترف الفتاة العذراء البرئية لأول مرة بالحب لـ"فاوست"، ولكنها ترى الشيطان وتعرف أنه يحيك الدسائس بينها وبين حبيبها "فاوست" الذي لا تعرفه مدى التزامه بالدين، حتى بعد أن قال لها في حماس: إنه عميق الإيمان بدينه. ويغويها الشيطان لتعطي لأمها شرابًا منومًا، فتغط في ثبات عميق ثم يدخل "فاوست" إلى مخدعها، وتقع في المحظور.
وهنا يريد أخوها "فلنتاين" أن يثأر لها، فيأمر "فاوست" بأن ينازله بسيفه؛ فيتدخل الشيطان ويشل يد أخيها، فيقتله "فاوست" وتتحول حياة "جريتشن" إلى جحيم، إذ تموت أمها من جرعة المنوم التي أعطاها الشيطان إياها، ويموتُ أخوها على يد "فاوست" وتحمل "جريتشن" سفاحًا، ومن ثم ما كادت تلد حتى أغرقت المولود خشية الفضيحة. وتُسلم نفسها للمحكمة، وينتهي بها المآل إلى السجن؛ حيث تفقد عقلها هناك.
ولم تفلح محاولات الشيطان لإلهاء "فاوست" عما حصل لـ"جريتشين" فيرى فاوست كيفَ تَجمّعت آلام البشرية كلها في شخص هذه الفتاة التي كانت بديعة قبل أن يعرفها، ويضيقُ ما يحدثُ الإنسان الذي ينقاد إلى الشيطان، ويَعجزُ "فاوست" عن إخراجها من السجن، ولكنّها عندما رأت الشيطان أدركت أنه وراء كل هذه التعاسة، فمدت أيديها متضرعة لله حتى يغفر لها ذنوبها.
(1/438)
________________________________________
وفي مشهد مؤثر للغاية يقول الشيطان: إنها قد انتهت وضاعت إلى الأبد، فيأتي صوت من السماء يقول: بل إن ذنوبها قد غُفرت، وبهذا يكون الشيطان قد خسر هذه المعركة، برغم كل ما فعلته الفتاة؛ لأنها بقيت مع كل ما اقترفته من آثام مدركة للصواب والخطأ، ولم تتردد في طلب الرحمة من ربها، الذي بقي ملاذها وحيدًا فغفر لها.
وفي الجزء الثاني من المسرحية نرى "فاوس" مع خادمه الشيطان في بلاط القيصر، حيث ينجح في حل الضائقة المالية للبلاد، ويشاركهم "فاوست" في الاحتفال بالأعياد، ويستحضر "فاوست" روح الفتاة البديعة التي رأها في المرآة في الجزء الأول.
وتقبل أن ترافقه إلى قصره بعد أن أصبح أميرًا للبلاد، ويرزقان بمولود بديع اسمه "أري فوريون" أراد أن يساعد والديه بعد أن اشتد عوده؛ فدخل الحرب معهما وتخيل أنه يستطيع الطيران، فقفز من فوق الجبل فوقع على الأرض ومات، وبموته تختفي الأم أيضًا، بما يوضح أن هذه المرأة وهذه الزيجة كانتا كلاهما وهمًا؛ فأراد "فاوست" أن يقوم بعمل حقيقي ينجزه بكده وتعبه دون مساعدة من الشيطان؛ فيسعى لإيجاد أماكن للسكن الكثير من البشر، عن طريق تجفيف مياه البحر، وكسب أراض جديدة.
وفي النهاية يقول: إنّه لو استطاع أن يوفر لكل هؤلاء الناس السكن في الأرض الواقعة عند الهضبة وبين البحر، لأمكنه أن يقول ساعتئذ: أيتها اللحظة، ما أبدعك ليتك تبقين ولا تمضين، ويتحقق الكثير من أحلامه، ويموتُ في تلك اللحظة، ويبدو كما لو كان الشيطان هو الذي ربح الرهان، وأصبحت روح "فاوست" ملكًا له! ولكن تنزل ملائكة من السماء وتحيط بـ"فاوست" لتحمل
(1/439)
________________________________________
أغلى ما فيه وهي روحه، ويقول الناس عند ذاك: إن من قضى العمر مجاهدًا فإنه يحظى بالخلاص وينال العفو والرحمة.
هذا؛ وقد شقت مسرحية "فاوست" طريقها إلى الأدب العربي، فقد جرى ترجمتها في عام ألف وتسعمائة وتسعة وعشرين على يد محمد عوض محمد، وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة وخمسين على يد عبد الحليم كرارة، وفي عام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين على يد مصطفى ماهر.
كما اقتبس منها آخرون مثلما فعل كل من توفيق الحكيم في "عهد الشيطان" وعلي أحمد با كثير في "لويس الجديد" ومحمد فريد أبو حديد في "عبد الشيطان" ومحمود تيمور في "أشطر من إبليس" وفتحي رضوان في "دموع إبليس" ومحمود طاهر لاشين في قصة "مفيس توفوليس".
كما كتب آخرون دراسات أو مقالات تتناول هذا العمل، مثل عباس محمود العقاد في كتاب (تذكار جيجي) وطه حسين في مقدمة ترجمة "فاوست" محمد عوض محمد وعبد الغفار مكاوي في "خواطر عن فاوست" في كتابه (البلد البعيد) عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين، إضافة إلى المقالات القيمة الواردة في مجلة " الفصول" القاهرية المجلد السادس العدد الرابع سنة ألف وثمانمائة وثلاث وثمانين.
ذلك؛ أن شخصية دكتور "فاوست" تعَدُّ كما يقول الدكتور حسن المختار في مقال له بعنوان: "فاوست عندما يختفي الوجه في غابة المرايا" منشور في موقع "بغديدا" هي واحدة من أبرز رموز الأدب الغربي الحديث والمعاصر، فقد تم رسم بورتريه لهذه الشخصية اصطبغ في كل بلد وفي كل حقبة بما يناسبه.
(1/440)
________________________________________
وطيلة القرون الخمسة الماضية اتخذ "فاوست" بطلًا لمئات القصص والحكايات الشعبية، كما قدم على خشبة المسرح بأشكال مختلفة منذ "مارلو"، وحتى "جوته" و"بورفارلي" ومع مرور الوقت ترسخت الصورة حتى غدا "فاوست" شخصية نمطية، ورمزًا لحضارة الغرب بكل أحلامها وإنجازاتها وشرورها.
وغدا أيضًا في تاريخ الأدب والفن لوحة يهوي كل فنان عليها بفرشاته؛ فيصبغها بألوانه ليصبح بهذه الطريقة ظاهرة تستحق التأريخ والعودة إلى جذورها، ذلك أن "فاوست" كرمز أدبي وكفكرة يشبه من أوجه كثيرة كرة الثلج، فكلما تدحرج إلى الأمام مع التاريخ ازداد حجمه، وتحول إلى أسطورة، وحينما يتعلق الأمر بالأدب والإبداع يكون الأساطير معنى مميز أنها هي ملح الأدب.
ولعل "جوته" كما يقول أسامة أمين قد تأثر في رسمه لصورة الشيطان بالخلفية الدينية والثقافية التي كانت سائدة في عصره، إلّا أنه -كما ورد في مقال عصام بهيج في العدد المذكور من مجلة "الفصول"- قد استطاع أن يطفي عليها طابعًا مميزًا من نفسه وقدراته الفنية، ذلك أن "من ممفست" عند جوته هو الإيمان والتفاؤل، وتجسيد الروح السوية؛ فقليل ما هم الذين أمكنهم أن يهربوا من نظرة التهكمية المريرة.
وهو واقعي يؤكد الحقيقة وحاضر البديهة، وذكي يستمتع أشد الاستماع بعمل الشر، مما جعل من الشيطان شخصية متكاملة حية ذاتية الملامح، لا تلتبس بأي شخصية أخرى، ولعل هذا هو ما جعل لهذه الشخصية جاذبيتها الآسرة، التي لم يستطع كابت بعد "جوت" أن يتخلص منها.
(1/441)
________________________________________
ولم يسع "جوته" من خلال تشخيصه للشيطان أن يجعله محببًا للنفس، وأن يسوغ أفعاله على الإطلاق؛ لكنه ألجأ إلى أسلوب مختلف عما تعودناه من كيد الشيطان، إذ فضل "جوته" أن يَستخدم أسلوب الإقناع ليوضح به لقارئه أنه متى استطاع الإنسان المُطيع للشيطان إشباع شهواته؛ فإن سعادته زائلة، ومهما حصل عليه من مال فإنه لم يصبح غنيًّا، بل يظل صدره خاويًا من السعادة، وأنه لو ساعده الشيطان في تكوين أسرة؛ فإنّها ستزول في لمح البصر، وأنّ الخلاصَ لا يكون إلا باللجوء إلى الله الذي لا يصد من يطرق بابه، ولا يحرم من رحمته إلا من أبى.
وسواء كان الشيطان شرقيًّا أو غربي الطباع؛ فإنه يتخلى عمن تبعه كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم: 22).
ورد عن حسن مختار في مقاله سالف الذكر: أن "فاوست جوته" في قرارة نفسه ممزق بين عالمين متناقضين هما قوة الخير والقيم والإيمان من جهة، وقوى الشر ممثلة في الشيطان "مافيست" والرغبات والشهوات من جهة ثانية، وكما يمكن أن نتوقع يميل "جوته" ببصره إلى الشهوات الآنية، وإلى أن يُرَجّح الطرف الثاني في الرهان، دون الإعلان عن أنه الطرف الشرير؛ لأنّ أحكام القِيمَة غير محسوبة بالنسبة لصالح أي طرف كان. ولذا بدى العاجل الملموس طافيًا على السطح أكثر من أي شيء آخر.
كذلك فالنهاية السعيدة لمسرحية "جوته" هي واحدة من أكثر عناصرها أهمية؛ لأنها تقدم لأول مرة نهاية إيجابية لهذه الشخصية، عليه جرة العادة من الشر
(1/442)
________________________________________
و***** ومثالًا لمن باع نفسه للشيطان، وتخلى عن الفضائل؛ لينال خسيس الرزائل؛ واستعاض عن جوهر الأعراض، وعن الحقيقة بزيف النفس وفسادها، وفنائها الشهواني الخسيس.
وهذه الرؤية المتفائلة الإيجابية تحمل أيضًا إعلام من "جوته" عن قيمة شخصية الإنسانية، وبخاصة إذا ما تذكرنا أنّ حياته هو نفسه تشبه من أوجه كثيرة حياة "فاوست" كما رآها ورواها، وهي على النقيض تمامًا من سابقيه خاصة "مارنو" الذي كانت نهاية "فوست" في مسرحتيه الوقوع بأيدي الشيطانين، وهو ما يمثله العالم السفلي الشرير.
ويُضِيفُ حسن مختار أن مسرحية "فاوست" إنّما تَطْرَحُ مسألة الصراع الأدبي بين الخير والشر، وتَقِفُ منتشية أمام مستويات الجمال في الذات الإنسانية، وفي العالم.
ونصل إلى مسرحية "أوديب" للمسرحي اليوناني "سوفوكليس" وتدور أحداثها في مدينة طيبة حيث كان ملك "لايس" حاكمًا عليها، وقد تزوج ولم ينجب؛ فذهب إلى المعبد "دلفي" ليعرف حلًا لمشكلته فجاءت إليه العرافة بنبوءة أنه سينجب ولدًا سوف يقتل أباه، ويتزوج من أمه؛ فانزعج من هذه النبوءة وهجر امرأته حتى لا ينجب، إلا أنه عاشرها مرة وهو مخمور لا يدري فحملت، فانزعج لخوفه من النبوءة، وتربص حتى وضعت الولد فعهد به إلى حارثه ليقتله.
فذهب به الحارث وهو مقيد بالأغلال من قدميه، وهذا يفسر سِرّ تسميته بـ"أوديب" التي معناها باليونانية القديمة المصفد بالأغلال، أو ذو الأرجل
(1/443)
________________________________________
المتورمة؛ وبدلًا من أن يتركه في الجبل ليموت تركه عند راع قابله هناك، وقد أشفق الراعي على الطفل وأخذه إلى ملك "كورانس" وزوجته اللذين لم يكونا ينجبان، وأعطاها إياه. وظن "لايوس" أنه قد تخلص من ابنه ومن النبوءة.
وتربى الطفل مع الملك والملكة، وهو يحسبهما أبويه حتى شب وأصبح يافعًا، وظلت في قدميه علامات من الأصفهاد التي سلسل فيها وليدًا، وذات يوم كان مع أصحابه فتشككوا أنه ليس ابن ملك "كورنس" فانزعج ورحل إلى "ذيرفي" لاستطلاع الأمر؛ فجاءت إليه النبوءة أنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، فهبت وترك الملك والملكة اللذين لم يعرفا غيره أبًا وأمًا؛ حتى لا يقتل أباه ويتزوج أمه، ورحل إلى طيبة.
وفسي الطريق إليها قابلته عربة يركبها رجل مسنٌ يحيط به حراسه، ونشبت مشادة بينه وبين ذلك الرجل، فضربه الرجل بالسوط فقتله "أوديب" وقتل معه الحراس، وواصل طريقه إلى طيبة، وعند مشارفها كانت هناك هولة متوحشة تسأل سؤالًا غامضًا، وتقتل من يعجز عن الجواب، وتشيع في الأرض الخراب؛ وعندما وصل إلى هناك سألته نفس السؤال: من الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنين، وفي الليل على ثلاثة؟.
وكان الجواب "أوديب" أنه هو الإنسان، في البداية هو طفل يحبو على أربع، ثم شَابٌ يسير على قدميه الاثنتين، ثم بعد ذلك هو عجوز هرم يمشي على قدمين اثنتين معتمدًا إلى عصًا هي رجله الثالثة وانهارت الهولة لمعرفته حل اللغز الرهيب وماتت، وفرح الشعب لتخلصه منها، وجاء الخبر بموت مليكهم في طريق العودة راكبًا عربه، فأخذوا "أوديب" ونصبوه ملكًا عليهم وزوجوه من أرملة الملك السابق.
(1/444)
________________________________________
وبعد ذلك تولى "أوديب" حكم طيبة أنجب منها أربعة أبناء ولدين وبنتين، وبعد مضي سنوات من اعتلائه العرش حدث طاعون أصاب الحرث والنسل وامتلأت الأرض بالجثث، وسادت الفوضى والدمار؛ فبعث "أوديب" بـ"كريون" أخي زوجته لاستطلاع نبوءة "ديليفي" بخصوص هذا الطاعون، وعادت "كريون" ليبلغ "أوديب" أن سبب الطاعون وجود قاتل الملك "لايوس" بالمدينة؛ فأخذ أوديب يتوعده ويتهدد ويسب لعناته على هذا القاتل حتى لو كان يسكن بيته، ووعد أهل المدينة باستقصاء خبر قاتل ملك ليضع حدًا لهذا الطاعون القاتل.
واقترح عليه علية القوم أن يأتوا بعراف أعمى اسمه "سيرسياس" ليكشف لهم قاتل الملك، ولما أتى أخذ "أوديب" يناقشه ويسأله، ولكن العراف يتهرب بلباقة وذكاء، ناصحًا إياه ألا يصب لعناته على القاتل؛ فاتهمه "أوديب" بالجهل وعيره بالعمى، فرد العراف أنه أعمى البصر وليس أعمى البصيرة، وتنبأ له أنه عندما يدرك من هما أبوه وأمه، فسوف يبصر الحقيقة الغائبة، وأخبره أنه قاتل الملك.
ولكن؛ لأن "أوديب" كان دائم الاختيال بذكائه والثقة بنفسه، فقد تصور أن ثمة مؤامرة بين العراف وبين "كليون" أخي زوجته فأمر بحبسهما، وجاء لـ"أوديب" رسول من "كورنس" يحمل له خبرًا مفرحًا وآخر محزنًا، فأما المحزن فموت أبيه، وأما المُفرح فهو أنه سيتولى العرش من بعده، وكان "أوديب" لا يزال يتذكر الأسطورة؛ فخشي أن يقع الجزء الآخر منها بعدما اطمأن، واهمًا أنه لم يقتل أباه فطمأنته زوجته أن النبوءات تكذب وتخدع، فقد جاءت لها وزوجها نفس النبوءة وتركا ابنهما في الجبال ليموت، وذلك بسبب نبوءة كاذبة.
فاستفسر الرسول لماذا يخشى "أوديب" من العودة بـ"كورنسا"؟ فلما أخبره طمأنه بأن الملك والملكة ليسا أباه وأمه؛ لأنّه بنفسه قد أخذه من راع مدينة طيبة،
(1/445)
________________________________________
وأعطاه لهما وليدًا؛ فاستقصى "أوديب" خبر الراعي رغم تحذيرات زوجته، التي هي أمه ونصائحها، وقد حاول الراعي ألا يخبره، إلا أنه اضطر تحت الضغط أن يخبره بأنه بالفعل أعطى طفلًا وليدًا ذا قدم متورمة لرجل من "كوريسا" ولم ينفذ كلام "لايس" فلم يقتله. واستفسر عن الطريق الذي مات فيه "لايس" فكان هو الطريق الذي تعارك فيه مع راكب العربة وحراسه.
وهنا ظهرت له الحقيقة؛ لقد قتل "أوديب" أباه وتزوج من أمه، بل وأنجب منها؛ فانهار تمامًا، وذهب لاستطلاع أمر زوجته أو أمه فوجدها انتحرت؛ حيث وجد الحبل ما زال يدور بالجثة الهامدة؛ فذهب مسرعًا ليفك الحبل من أعلى لتسقط الجثة؛ فأخذ دبابيس فستانها ومشابكها، وأخذ يفقأ بها عينيه ويصيح: أنه لن يرى شقاءه وجرائمه، ويقول لعينيه: ستظلان في الظلمة فلا تريان من كان يجب ألا ترياه، ولا تعرفان ما لا أريد أن أعرف بعد اليوم، حتى لا ترى الشمس المقدسة إنسانًا دنسًا فعل أكثر الجرائم بشاعة.
وفي موقف مُؤثّر سالت الدماء على لحيته البيضاء، وبللت وجهه، وهو يلعن سوء حظه قد جعله القاتل، ونفى نفسه من الأرض حتى ينتهي الوباء، وعاش طريدًا من الأرض والسماء، وبعد هذا المشهد الفاجع يطلب "أوديب" من صديقه "ريكدور" أن يعتني ببنتيه، كما طلب منه أن توضع الملكة في قبر مناسب.
وقد يكون لقصة "أوديب" أساس تاريخي حقيقي، ولكن يستحيل تخليصه من العناصر الأسطورية التي شابتها وتوارثتها الأجيال في التراث اليوناني القديم، وفي التراث الشعبي لبلدان كثيرة، وقد ورد ذكر مأساة "أوديب" في "الأوديسا" لـ"هميروس" تلميحًا مُختصرًا جدًّا، وفيها: أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه "يوكسا" انتحرت شنقًا حين تكشفت لها الحقيقة، أما "أوديب" فقد ظل يحكم طيبة حتى مات.
(1/446)
________________________________________
وأما الروايات الأخرى التي تناولت هذه القصة وهي كثيرة؛ فقد ضاعت جميعها خلا ثلاث مسرحيات لـ"سوفوكليس" هي: "أوديب ملكًا" و"أوديب في كلونوس" و"أنتيجونا" وكَذلك الفصل الأخير من مسرحية لـ"أسخيلوس" بعنوان: "السبعة ضد طيبة" الذي تناول جزءًا من أحداث القصة.
وقد لاقت أسطورة "أوديب" على النحو الذي فصله "سوفوكليس" في مسرحياته الثلاث شهرة كبيرة، وتناقلتها الأجيال وزادت فيها، ربما كان سبب زيوعها التركيز على اللعنة التي كان لها شأن كبير في أساطير اليونان القدماء، وفي حياتهم اليومية. وهي شبيهة بفكرة الخطيئة القريبة بمفهوم الإنسان المعاصر؛ لأن قوتها تجعل الأجيال اللاحقة تدفع الثمن لجرائم العادات.
كما تجمع الصورة بين المصير المحتوم والأخلاقيات التي تدعو إلى الاعتدال والتبصر في الأمور وعواقبها، وتجنب المبالغة والإسراف في الاعتداد بالنفس والغضب.
وقد طرق كتاب كثيرون موضوع مأساة "أوديب" من نواح عدة؛ فعالجها "أوربديس" في إحدى مسرحياته، وكذلك "سنيكا، وكورنيا، ودرايدن، وفولتير، وهوفنستان، وأندريه جين، وجانكوكتو". ولعل أهم صياغة حديثة للقصة هي مسرحية "أندريه جين" التي يُركز فيها على الصراع بين "أوديب" الجاحد للآلهة والمعتد بنفسه حتى الغرور، والكهنة الذين ينبذون بث سلطان الدين على كل شيء، وعلى كل إنسان حتى الملك نفسه.
وقد كان لأدباء العرب أيضًا نصيبهم في طرق هذا الموضوع، ولعلّ أول من عُني بِقِصّة "أوديب" مِنهم ترجمة ودراسة هو "طه حُسين" الذي ترجم مسرحية "أندريه جيب أوديب وفستيوس" عام ألف وتسعمائة وستة وأربعين، وقدم لهما
(1/447)
________________________________________
بمقدمة ضافية. ثم أتبعهما ترجمة لمسرحتي "سوفوكليس" نشرها مع "أوديب جيب" في سلسلة مطبوعات كتابه.
وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين ظهرت مسرحيتان عن "أوديب" كتب إحداهما توفيق الحكيم، وثانيهما علي أحمد با كثير، وبعد ذلك نشر علي سالم "أنت اللي قتلت الوحش"، ونشر وليد إخلاص مسرحية "أوديب مأساة عصرية" وعاد علي حافظ ترجمة مسرحيته "سوفوكليس" وكتب للترجمة مقدمة جديدة.
وكان لويس عوض قد لخص مسرحية "أوديب ملكًا" في كتابه المسرح العالمي سنة ألف وتسعمائة وأربع وستين، أمّا الدراسات العربية فتشمل كتاب عز الدين إسماعيل (التفسير النفسي للأدب) وكتاب مصطفى عبد الله (أسطورة أوديب في المسرح المعاصر) وربما كانت دراسة عز الدين إسماعيل أول دراسة تطبيقية أفادت من المنهج الفرويدي.
وقد اهتم العرب أيضًا بالأصول النّفسية والتاريخية لقِصّة "أوديب" فترجم مصطفى صفوان (تفسير الأحلام) لـ"فرويد" وترجم جميل سعيد "عقدة أوديب في الأسطورة وعلم النفس" لـ"باتريك ميلاي" وترجم فاروق فريد "أوديب وأخناتون لمانويل فلكوفسكي" وهو كتاب يبين بالأدلة الأثرية التاريخية أن أصول هذه الأسطورة التاريخية تعود إلى التاريخ الفرعوني.
وقد أخذَ المُفَكِّرون يبحثون في الناحية الأخلاقية، ويسألون عن مدى مسئولية "أوديب" عما صنع، وفي موضوع حريته في مقابل الجبرية، فالقصة تتنبؤ بمصير "أوديب" حتى قبل أن يولد، وهذا التنبأ يمكن أن يقرأ بوصفه سلبًا لحرية الإنسان، أو بأنه المقدر
(1/448)
________________________________________
والمكتوب، وهذه القراءة تؤيد "أوديب" في أن "أبولون" هو المسئول الحقيقي عن كل ما جرى، وهي قراءة تروق للجبريين.
ولكن المؤمنين بحرية الإنسان -أي: الذين يحاولون أن يجعلوا من الإنسان كائنًا مسئولًا عن أفعاله، لا مجرد ضحية الآلهة- يقولون: إن "أوديب" فعل كل شيء بمحض إرادته، وإنّ علم الآلهة المسبق بمصيره هو من صفات الآلهة التي يسعى معها كل شيء، وليس العلم بالغيب تسييرًا للأحداث، ويمثلون عن ذلك بالطبيب الذي يؤهله عمله لأن يتنبأ بأن مريضًا من مرضاه سوف يموت بعد مدة معينة؛ فالطبيب لا يميت المريض مع علمه المسبق بالنتيجة.
وواضح ما ينطوي عليه الموقف في هذه المسرحية من الأفكار والقضايا الفلسفية، فهي تبحث في الأخطار التي تواجه المرء في رحلته الطويلة على طريق البحث عن الذات، وتبحث في مشاعر الذنب والبراءة، وتكشف عن طبيعة القَدَر، ويقول النقاد: إنه ليس بمسرحية أخرى درست بشكل أفضل العلاقة ما بين الشخصية الفرد وقدره؛ فحرص "أوديب" على البحث عن الذات، وثقته التي لا تعرف الحدود بنفسه وسرعة غضبه، وكلها خصائص تتميز به شخصيته هي السبب وراء المواجهة مع قدره، وهي الحافز في تحقق النبوءات.
وبعضهم يرى أنّ قصة "أوديب" أصلها عربي شامي، وأنها هي نفسها حكاية شيخ العرب الموجودة في الكتاب الثاني من الحكايات الشعبية الشامية، انظر في هذا الدرس مادة "أوديب" في كل من "اليوكيبيديا" والموسوعة العربية السورية، ومقال الملك "أوديب" و"رحلة البحث عن الذات" الدكتور زياد الحكيم في موقع موسوعة "دهشة" ومقال "أوديب الملك أشهر مسرحيات أصلها حكاية عربية" لنزار أسود وهو منشور بجريدة شرفات.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(1/449)
________________________________________
الدرس: 17 النماذج الأدبية.
(1/451)
________________________________________
بسم الله الرحيم الرحيم
الدرس السابع عشر
(النماذج الأدبية)

تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا
النماذج الأدبية.
والنماذج جمع نموذج، والنموذج هو: المثال الذي يعمل عليه الشيء، فهو إذن المرجع الذي يقاس عليه ما هو من جنسه.
فنموذج الكتاب مثلًا: هو الصورة الصحيحة لما ينبغي أن يكون عليه الكتاب، بحيث يرجع إليها كل من يريد تألف كتاب؛ ليرى كيفَ يُؤلف كتابه، وليس شرطًا أن يرجع إليه رجوعًا فعليًّا، بحيث يضعه أما عينيه ويتملاه في كل مرة يُفكر في تأليف كتاب، بل يمكن أن يرجع إليه اعتباريًّا، بمعنى أن يحفظ في ذهنه صورته، ويقيس عليها في عالم الفكر ما يريد قياسه، وهكذا.
ومن تلك النماذج نموذج "البخيل" أو نموذج "البغي المظلومة" التي تُعَدّ ضحية المجتمع وأوضاعه المنحرفة في رأي بعض الناس، ونموذج "البطل الأسطوري الإغريقي" "برومستس" رمز العناء البشري الذي لا ينتهي، والذي كُلّما ظن صاحبه أنه قاب قوسين أو أدنى من التخلص منه، عاد فتجدد عذابه ليقاسيه من البداية، وكأنه لم ينل كفايته، وما فوق كفايته من العناء والمقاساة.
وهناك كذلك نموذج "يوسف" و"زليخة" اللذان يرمزان على الترتيب العِفّة والتّمَاسُك، والصّبر على ما يترتب على تلك العفة وهذا التماسك من معاناة شديدة، وإلى الشهوة والإغراء المندفع من جهة أخرى.
ولدينا أيضًا نموذج "شَهرزاد" رمز الذكاء الأنثوي، ورباطة الجأش والتحيل للخروج من المأزق الماثل العتيد دون أن تخسر صاحبته شيئًا، بل تكسب كل شيء وتنتصر على الشر والخطر الجائح.
(1/453)
________________________________________
وكذلك نموذج ليلى والمجنون رمز الحب المحروم، والعذاب الذي يصطليه المحب، ولا يُفَرّط رغم ذلك في محبوبه، بَل يَجِدُ نفسه في هذا الحرمان وذلك العذاب.
وهناك كذلك نماذج أدبية إنسانية، ومنها: نماذج الشعوب أو السلالات البشرية كالفرنسي والإنجليزي والمصري والمغربي، ونماذج المهن والوظائف والمراكز، مثل: الحَبر ومثل: القسيس، والشيخ، والعامل، والفلاح، والمعلم، والطبيب، والمحامي، والتاجر، وحفار القبور، والشرطي، والطاغية، والمخبر، والجاسوس، والبغي، واللص، وقاطع الطريق، والمرابي.
ونماذج الأخلاق: كالرجل الفظ، والرجل "الجنتل مان"، والمخنث. ونماذج المشوهين مثل: الأعمى، والمجنون، والمعتوه، والأحدب، والكسيح، والمقامر، والسكير، ومدمن المخدرات.
والدارس المُقَارِن يدرس هذه الشخصيات في مختلف الآداب، ويتأتى ذلك عن طريق تتبعه للصفات المشتركة التي رآها الأدباء في هذه الشخصيات، ومدى تأثر بعضهم ببعض، أو رَدّ بعضهم على بعض، من ذلك "الفلاح" الذي تناوله عددٌ كبير من الأدباء، وصوروا حياته وأعماله وآلامه ومعاناته.
وقد تأثر الكثير من الأدباء المصريين والعرب بالأدب الروسي في تصويره للفلاح المصري، كذلك يمكن أن ندرس جوانب التأثير والتأثر بين الكتاب الذين تناولوا شخصية "البغي" إذ اختلفت صورتها باختلاف الكتاب؛ فبعضهم عدّها امرأة فاضلة بل قدمها في صورة ملاك يعطي دون أي مقابل، مما لا يفعله الكثير ممن يتشدقون بالأخلاق
(1/454)
________________________________________
الفاضلة، ولعل خير مثال على ذلك مسرحية "غادة الكاميليا" للكاتب الفرنسي "أليكسندر دوماس" التي عرّبها المنفلوطي بعنوان الضحية، وضمنها كتابه (العبرات).
وكذلك شخصية "نور" في رواية اللص والكلاب، وشخصية "لولا" في "السمان والخريف" لنجيب محفوظ. كذلك صور بعض الكتاب المومس في صورة ضحية مغلوبة على أمرها، ولا ذنب لها في سقوطها، بل المسئول عن ذلك هو المجتمع، الذي قد يكون دفعها إلى الرذيلة أو الهاوية دفعًا، وبعض ثالث عدها آفة اجتماعية لا سبيل إلى إصلاحها، بل هي خطر داهم على المجتمع الذي تعيش فيه.
وكان لمسرحية "غادة الكاميليا" أثر كبير على الكتاب العرب، الذين تناولوا شخصية المومس الفاضلة، ومنهم نجيب حداد الذي قلد الرواية الفرنسية شكلًا وموضوعًا، وخاصة في "إيفون مونار" أو حواء الجديدة التي تدور حول فكرة رد اعتبار العاهرة، وليس نجيب حداد بالغريب عن الرواية الفرنسية؛ فقد قرأها وترجم جزءًا منها، وبذلك يُعَد أول من تطرق لموضوع الدفاع عن البغي في الأدب العربي الحديث.
ويقول الدكتور محمد غنمي هلال في كتابه (الأدب المُقارن) إن الكاتب قد يَقُوم بتصوير نَموذج لإنسانٍ تَتمثّل فيه مجموعة من الفضائل، أو من العواطف المختلفة التي كانت من قبل في عالم التجريد، أو مُتفرقة في مختلف الأشخاص، وينفث الكاتب في نموذج من الفتنة ما يخلق من في الأدب مثالًا ينبض بالحياة، وطبيعي -كما يقول الدكتور هلال- أنّ الأدب المقارن لا يحفل بدراسة هذه النماذج إلا إذا صارت عالمية؛ فانتقلت من أدب إلى آخر، وقد تحتفظ في انتقالها ببعض
(1/455)
________________________________________
خصائص كانت لها في الأدب الذي نشأت فيه، وتكتسب مع ذلك خصائص أخرى تبعد بها قليلًا أو كثيرًا عن منشأها الأول.
ويقول الدكتور هلال، عن النماذج الإنسانية العامة: إن الباحث عندما يدرسها يتعرض للكشف عن الوسائل الفنية، التي صور بها الكتاب في آداب المختلفة نموذجًا إنسانيًّا عامًّا في المسرحيات أو القصص، أو الشعر، ومثل هذه النماذج لا تعد في الأدب المقارن إلا إذا انتقلت تاريخيًّا من أدب إلى أدب.
ومن هذه النماذج الإنسانية العامة نموذج "البخيل" ويبدو أن الشاعر "ميناندر" كانت له مسرحية في ذلك النموذج لم تصل إلينا، حاكاها الشاعر الرُّوماني "بلوتس" في مسرحيته بعنوان "اللوراليا" أو وعاء الذهب، وبها تأثر "موليير" في مسرحيته الشهيرة "البخيل" التي يصور فيها المسرحي الفرنسي شخصية "أرباجون" نموذج الإنسانية للبخل، وتعمق في تصويره أكثر مما فعل "بلوتوس".
وتوالت بعد ذلك المسرحيات في الآداب الأوربية، تصور نموذج البخيل وأشهرها مسرحية الشاعر الإيطالي "جولدوني" وعنوانها: "البخيل" وهي ملهاة من فصل واحد، وفيها يرفض "البخيل" "أنبوجيو" تزويج ابنة زوجته ممن تحبه بخلًا بجهازها، فيقبل الفتى زواجها دون مال، على شرط أن يوصي "أنبوجيو" لها بكل ما يملك.
(1/456)
________________________________________
وللمؤلف ملهاة أخرى عنوانها: "البخيل المتبرج" وفيها يُصور نموذج البخيل الذي يظهر بمظهر المسرف، ليفوز بزيجة غنية فيبوء بالفشل، ولنفس المؤلف ملهاة ثالثة بعنوان: "البخيل الغيور" وفيها يسبب البخيل آلامًا جسيمة لامرأته الفاضلة التي يحبها، ويكتشف أن حب المال سبب بؤسه، ولكنه لا يستطيع أن يقلع عن آفته التي يشقى بها.
ومن النماذج الإنسانية العامة التي ذكرها الدكتور هلال كذلك نموذج الشخص الآثم في سلوكه حين يخلص في حبه؛ فيكون حبه بمثابة التكفير عن سيئاته السالفة، إذ يُصْبِح ذلك الحب سبيلًا لإظهار الفَضَائِل التي طغت عليها شرور المجتمع، ونظمه الظالمة، وتِلك قضية "رومانتيكية" عامة يقصد "الرومانتيكي" بها إعذار الفرد فيما يرتبك من آثام، إذا دفعته شرور المجتمع إلى ارتكابها.
وقد بَلَغ النّموذج ذورته الفنية لدى "الإسكندر دوما" الابن في قصته "غادة الكاميليا" ثم في مسرحيته التي تحمل نفس الاسم؛ فصار نموذجًا أوربيًّا عامًّا، حاكاه المؤلفون في المسرحيات التمثيلية، والمسرحيات الغنائية.
وقد ظلت القضية رومانتيكة في مسرحية "الإسكندر دوما" السابقة، على الرغم من طابعها الواقعي في تصوير العادات والتقاليد، وفي التعمق في جوانب الواقع الأليم، وفي الشعر الغنائي كذلك نماذج لبغايا تستثيره العطف؛ لأنهن سقطن ضحايا البؤس والفقر كما يقول "ألفريد ديموسيه" يصف بؤس واحدة من هؤلاء: "أيها الفقر أيها الفقر، انظر لقد أقامت الصلاة قبل نومها هذا المساء، وما ادعت يا إلهي العظيم، وهذه هي تحت ستائر العار، في هذا المأوى المفزع، وفي سرير الضعف تعطي أمها حين تعود إلى مسكنها ما كسبته هناك، ولا ترثين لها أنتن
(1/457)
________________________________________
يا نساء المجتمعات، أنتن في سرور الحياة ترتعن أعظم ارتياع من كل من ليسوا في السرور والثراء مثلكن، ولا ترثين لها أنتن يا ربات الأسر ... إلى آخره".
وإلى شعرنا الحديث انتقلت النزعة "الرومانتيكية" في تقديم البغايا في صور ضحايا المجتمع، وأنهن أهل للعطف والرثاء، ومن شعرائنا المتأثرين بهذه النزعة: صالح جودت في قصدية "الهيكل المستباح" وفيها يرى المجتمع الظالم في نظمها قد ألجأ هذه المسكينة إلى سلوك ذلك الطريق الوعر الشائك، فهي تعاني ما كان يعانيه من قبل الأرقاء في سوق الأعراض المستباحة، يتردد لصوص الشرف على مخدعها، ثم يمضون دون عقاب: "كم سروق نال منها جانبًا ومضى ... ما أعجب اللص الطريق".
أما النماذج البشرية المأخوذة من الأساطير القديمة، وهي لون آخر من النماذج البشرية في الآداب العالمية؛ فيقول الدكتور هلال: إن الكاتب يختار منها ما يتسع للتأويل الخصب، وما تحول معناه إلى رمز فلسفي أو اجتماعي، وتتنوع هذه المعاني عادة على حسب العصور المختلفة، وما تتطلبه من كتابها من آراء ومثل. وقد كثرت المسرحيات في شخصية "أوديبوس" في مختلف الآداب على توال العصور.
ومن هذه الشخصيات كذلك نموذج "بج ماليون" وهو فنان قبرص هام بجمال تمثال من صنعه؛ فرجا "أفروديت" أن يتزوج من امرأة تشبه التمثال ففعلت أكثر من ذلك، إذ وهبت التمثال نفسه الحياة عقابًا له على إعراضه عن الزواج، ويرمز هذا إلى هيام الفنان بخلقه الفني، وأول من تحدث عنه في الأدب هو
(1/458)
________________________________________
"أوفيت" الروماني في قصصه عن المسخ، ثم تناوله الشعراء والكتاب مختلفي الآداب، وخاصة من بريطانيا منذ الشاعر الإنجليزي "جون مارستون" في قصيدته: "نفخ الروح في صورة بج ماليون" ثم في ملهاة "وليام جولبرت" التي عنوانها "بج ماليون" وقد نشرت لأول مرة عام ألف وتسعمائة واثني عشر في لندن.
وتأثر الأستاذ توفيق الحكيم بالأسطورة اليونانية، وأول ما لفت نظره إليها كما يحكي هو لوحة شاهدها في متحف اللوفر بباريس، ثم عاد تذكيره بها فيلم عرض في القاهرة عن "بج ماليون" على حسب مسرحية "برنانتشو".
وفي المسرحية نرى جلالتها وهي رمز للخلق الفني الذي يهيم به خالقه أولًا، لا تلبث بعد أن ينفث فيه الإله الروح، أن تصبح رمزًا للمرأة في غرائزها الحيوية، التي تدفع إلى تفضيل الرجل على الفنان مشتغل عنها بفنه؛ فتهرب مع "مرسيس" المدلل المعجب بنفسه، ثم تثوب إلى رشدها، وتفيء إلى زوجها الفنان "بج ماليون" تستغفره عما فعلت، وتقر بعظمته التي تفوق -استغفر الله- عظمة الآلهة؛ لأنهم يخلقون الناس المشوبين بأنواع الضعف والقبح؛ في حين يخلق هو الجمال الخالد، وتقوم على خدمته كما تفعل الزوجات.
ولكن "بج ماليون" الفنان ينفر منها حين يراها تزاول أعمال البيت، وتحمل المكنسة؛ فتبعد بعملها عن شغلتها المثالية التي سمت بها في ذهنه، حين كانت تمثل الجمال الخالص، ويثور الفنان على رؤية المرأة في صورتها الواقعية؛ فيدعو الإله أن يَرُدّها تمثالًا عاجيًّا كما كانت، ثم ينهال عليها بالمكنسة، وأكبر الظن أن "بج ماليون" لم يُحطم تماثله لخيبة أمله المزعومة في المرأة فحسب، بل انتقامًا كذلك من التمثال الذي حرك بجماله غرائز الحياة في نفسه، فجعله يشتهي المرأة.
(1/459)
________________________________________
ومن أهم هذه النماذج التي صدرت عن الأساطير اليونانية نموذج "برومسيوس" أو الفطن الذكي، وأصله في الأساطير اليونانية إله من آلهة النار، وهب الناس النار على الرغم من "سايوس" كبير الآلهة، فأقصي عن مملكة السماء وخلفه فيها "يفستوس" الذي فوض إليه أمر عقابه على جبل القوقاز، حيث صلب.
ويتحدث عنه "هزل" في قصيدته "الأعمال والأيام" على أنه الرحيم الذي يرعى الناس، ويرى فيه أفلاطون في " بيتاجواس " أو "فيثاغورث" أنه أب لكل الأجناس البشرية، وفي هذا تقرب شخصيته من آدم أبي البشر في الديانات السماوية.
وأقدم من عالج الموضوع في المسرحيات الشاعر اليوناني "أسخيدوس" في مسرحيته "بروسيوس" في القيد و"جوميوس" الطليق وفيهما يفخر بما فعله من خير في سبيل إسعاد جنس البشر المسكين البائس، ويأبى الخضوع "لذي زايوس" ورسله. ومن أشهر من عالجوا الموضوع بعده "جوته" في مسرحيته التي لم تكتمل وعنوانها: "برومسيور".
ومن أحدث من تناولوا تصوير الشخصية "برومسيوس" وحوروا فيها تحويرًا كبيرًا "أندريه جيد" في ملهاته الهجائية عن "برومسيوس" وفيها ترى "برمسيوس" رجلًا عصريًّا على منضدة في قهوة في باريس، بجانب "كوكليه" و"داموكليه" وأحد هذين الضحية لثري من أرباب المصارف المالية، غامضٌ في سلوكه، واسمه "زايوس" والآخر مدين "لزايوس" بالجميل.
وفي أدبنا العربي صدى لهذه الشخصية بالشعر الغنائي إذ يتخذه المرحوم أبو القاسم الشابي في ديوانه "أغاني الحياة" رمزًا للشاعر المتعالي بآلامه، الصُّلب الذي لا يلين:
(1/460)
________________________________________
سأعيش رغم الداء والإعياء ... كالنسر فوق القمة الشماء
أما النماذج الدينية المصدر؛ فهي المأخوذة عن الكتب المقدسة، وغالبًا ما يَبْعُد بها الكتاب أو الشعراء قليلًا أو كثيرًا عن مصادرها، وطبيعي أننا لا نحفل هُنا إلا بالشخصيات العالمية، أي: التي انتقلت من أدب أمة إلى أدب أمة أخرى، كي تجد طريقها إلى الدراسات المقارنة.
ومن النماذج التي كان لها حظ كبير في الأدب الحديث شخصية "الشيطان" وقد ابتعدت هذه الشخصية كثيرًا عن مصدرها الديني -كما يقول الدكتور هلال- حين انتقلت إلى ميدان الأدب وخاصة على يد "الرومانتيكيين" ورائد "الرومانتيكيين" الأول في هذا الباب هو الشاعر الإنجليزي "ميلتون".
ويرى المحاضر الذي يحدثكم الآن: أنّ شخصية الشيطان في الآداب العالمية إنما تدين في وجودها للقرآن، فهو الكتاب الوحيد الذي حكا قصته وعصيانه وتمرده، والحجاج الذي ظهر بين الله سبحانه وبينه وظهر فيه كبره وغطرسته وكراهيته للجنس البشري، وأمر الله له بترك المنزلة التي كان فيها، وإبعاده إياه عن رحمته ولطفه.
ويضيف الدكتور هلال: أنّ السمات الشيطان في أدب "الرومانتيكين" جميعًا واضحة، إذ صوروه في صورة المتمرد الذي طرد قهرًا من عالم الخير، فدفعه اليأس إلى الإدمان على الشر، والشيطان عند "فيكتور هيجو" يمثل الإنسانية الطريدة البعيدة من الله، وينحصر كل عذابه في حبه لمن يبغضه، وفي أن الله هو النور والحب يفيض نوره على كل المخلوقات خيرًا ورحمة ونورًا. ويحسد بني آدم لأن في عيونهم الأمل، وفي قلوبهم الحب.
(1/461)
________________________________________
ولكن ما يسببه الشيطان من صراع بين الخير والشر، هو أساس ما يظفر به الإنسان من حرية وفوز، حتى ينتصر في الزمن البعيد الخير انتصارًا تامًّا، ويَظَلُّ النّهارُ لا ليل له؛ فيحمي ما في الشيطان من شر، ويُسامحه الله؛ ليُبعَثَ من جديد ملكًا سماويًّا.
ويتَجَلّى تأثير "الرومانتيكيين" العام في حديثهم عن الشيطان وتصويرهم إياه بالسمات التي ذكرناها، يتجلى تأثيرهم في قصيدة العقاد التي عنوانها: "ترجمة شيطان" وهي قصة شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء لهوان الناس عليه، وتشابه الصالحين والظالمين عنده؛ فقبل الله هذه التوبة وأدخله الجنة، ومثل آخر لهذه الشخصيات الدينية يتمثل في قابيل أول قاتل على وجه الأرض، ومثال الساخط المتمرد الضائق الزرع بما لا يعرف له كنهًا في مسائل الخير والشر، ووجود الخلق.
وهو كذلك في أدب "الرومانتكيين" كما في مسرحية "بايون" التي عنوانها قابيل، وقد تأثر به الشاعر الفرنسي "البرناسي" "لوكون ديليل" ثم الشاعر الرنجي "بودلير" وقد عَبّر عن مظاهر حيرة الإنسان، وثورته على ما يراه ظلمًا.
وإلى جانِب النماذج التي مرت هناك نماذج مصدرها أساطير شعبية، وكالعادة نرى الأدب المقارن لا يُعالِجُها إلا إذا كانت عالمية؛ فيتناولها كبار الكتاب في مختلف الآداب، وإلّا فإن الأدب المقارَن سَوفَ يَتخلى عنها للباحثين في الأدب الشعبي، والتقاليد الشعبية؛ فشخصية جحا -كما يرى الدكتور هلال- لم ترقَ
(1/462)
________________________________________
عندنا إلى مرتبة أدبية عالمية، في حين صار شخصية شهرزاد كذلك، ولكني أخالفه في هذا الأمر مخالفة شديدة على ما سوف يتضح فيما بعد.
ومن النماذج الإنسانية العامة كذلك: نموذج "فاوست" التي يتحدث عنها الدكتور هلال قائلًا: إنّ الأصلَ في شخصية "فاوست" أسطورة شعبية ألمانية، موجزها أن عالمًا كيميائيًّا يسمى "فاوست" ولد في أواخر القرن الخامس عشر وكان سكيرًا كسولًا، حياته غامضة عجيبة، على الرغم من وجوده تاريخيًّا، فقد حاكت الأساطير الشعبية كثيرًا من القصص غير المعقولة حوله، فزعمت أنه كانت له صلة قرابة بالشياطين، وأنه كان ساحرًا وله قدرة على مخاطبة الموتى، وقد وقع بدمه عقدًا مع الشيطان عاهده فيه أن يطيعه بشرط أن يرجع له الشيطان شبابه.
وقد كانت حياته الغامضة العجيبة، وموته المبكر من العوامل في ميلاد هذه الأساطير، تحكي بعض هذه الأساطير أن "فاوست" مات طريدًا من رحمة الله، وهي الأسطورة التي أخذ بها الشاعر الإنجليزي "مارلو" المعاصر "شكسبير" في مأساته التي صدرت عام ألف وستمائة وأربعة.
ولأسطورة "فاوست" نظير في أسطورة شرقية بطلها يسمى "توفيل" وقع عقدًا مع الشيطان ليُعيده إلى رتبة كنسية كان قد فصل منها، ولكنه لا يلبث أن يندم ويصلي أربعين يومًا وليلة؛ فتقبل توبته.
وقديمًا ارتقى الفردوسي بشخصية "رستم" إلى المكانة الأدبية "للشاهنامة" فقد صوره مخلصًا لوطنه لا تستهويه المطامع، له من آيات بطولته ما صار به مثلًا بين
(1/463)
________________________________________
معاصريه، ثُمّ يسوقه القدر أخيرًا إلى أن يلقى ابنه "صهرف" على غير علم منه في مبارزة حربية بينهما، وقد صور الفردوسي هذه المبارزة تصويرًا رائعًا.
ومن أبرز الشخصيات التي لقيت حظًّا فريدًا في الأدب شخصية "دونجوان" وقد مثلت اتجاهات مختلفة من حب طائش، إلى انصراف لمتع الحياة إلى قلق، ويطيل بنا الكلام لو فصلنا الكلام في ذلك، بل يضيق نطاق كلامنا عن سرد كل المسرحيات والقصص والأشعار التي كتبت عنه في مختلف الآداب الأوربية.
وقد كان دنجوان شقيًّا، يرجع شقاؤه إلى أنه جمع كثيرًا من الصفات التي يحسد عليها بوصفه رجلًا، وبها اندفع في طريق الشهوات، ولكنه كان يحتقر هذه الشهوات، ولا يجد سعادته في الانغماس فيها، فهو حائر لا يقر على قرار ولا يرضى عن نفسه.
وأما "موليير" فيصور "دونجوان" خداعًا للنساء؛ لكنه مع ذلك يحب الخير ويتصدق على الناس بالرغم من سخريته من المجتمع، وأما "جولدوني" فإن بطله داعر مستهتر لا يقيم للأخلاق وزنًا، ويرقى "بايون" بقيمة ذلك البطل، ويجعله حامل فلسفة؛ فهو ضد رياء المجتمع وتقاليده الظالمة، وداعية إلى الحب البريء الطليق. وهكذا تطور الموضوع تبعًا لاتجاهات الكتاب الذين عالجوه، وتبعًا لفلسفتهم في الحياة وميولهم الخلقية، والنزعات السائدة في عصرهم، ويسهل تأويل هذه الشخصيات مأخوذ من أساطير شعبية.
وإلى جانب ما مر عندنا أن النماذج المأخوذة عن شخصيات تاريخية، وذلك حين تدخل نطاق الأدب على يد العباقرة؛ فتصبح قوالب أفكار عامة اجتماعية وفلسفية، ونُشير هُنا مثلًا إلى شخصية ليلى وشخصية المجنون في الأدبين العربي والفارسي.
(1/464)
________________________________________
ومن الشخصيات التاريخية التي لقيت حظًّا فريدًا في الأدب شخصية "كليوباترا" فقد اهتم بها الكتاب والشعراء منذ العصور القديمة، وجعلوا منها مادة خصبة لأفكارهم وخيالهم، لأنها عاشت في فترة تاريخية خطيرة، وكان صراعها مع "اكتافيوس" متعاونة مع "أنطونيوس" متمثلًا لصراع حاسم؛ فكلا الفريقين لو انتصر لساد العالم، فكان هذا الصراع صراعًا بين الشرق والغرب، ولعبت فيه "كليوباترا" دورًا كبيرًا بجمالها.
ومن أشهر المسرحيات الفرنسية في الموضوع مسرحية: "لاشا بيل" وموضوعها موت كليوباترا، ثم مسرحية "كليوباترا" لـ"مار مونتل" ومسرحية أخرى بنفس العنوان لـ"ألكسندر سوميه" وقد مثلت على مسرح "الأدني" عام ألف وثمانمائة وأربعة وعشرين، وأكثر من صوروا هذه الشخصية في تلك الآداب، كانوا يرون في كليوباترا صورة للعقلية الشرقية في نظرهم، في مَيْلِها إلى لذة العيش ومتاعه، والانتصار بالخديعة لا بالجهد، وسلوك سبيل المكر والحيلة.
وطالما هاجموا الشرق فيها، وهاجموا المصرف القديم، وقد أراد شوقي أن يرد عليهم بالدفاع عن "كليوباترا" في مسرحيته "مصرع كليوباترا" التي سبق أن درسناها معًا، لا بوصفها ملكة بل بوصفها مصرية شرقية، فقد قدمها في صورة مخلصة لوطنها، تُؤثره على حبيبها وتحيا وتموت بمجد مصر، وهو ما خلفناه فيه؛ لأنها أولًا لم تكن مصرية، ولأنّها هي وأسرتها لم يكونوا بالحكام العادلين الذين يعاملون المصريين معاملة إنسانية، أو يهتمون بخيلهم ورفاهيتهم.
ونذكر أيضًا شخصية أول فيلسوفة مصرية "هيباتيا" التي شغلت الآداب الأوربية في عصور مُختلفة، وقد عاشت تلك الفيلسوفة في القرن الرابع الميلادي، في مدينة الإسكندرية،
(1/465)
________________________________________
وهي إغريقية الأصل، مصرية المولد والمنشأ، وكَانت رئيسة جامعة الإسكندرية القديمة، ومثال الكمال في جمالها وعلمها وخلقها، حتى ليقول عنها الفيلسوف "ددرو": إن الطبيعة لم تهب إنسانًا من العقل والحكمة والخلق ما وهبته لتلك الفتاة".
وكان موضوع "هيباتيا" منذ القديم مثارًا لدى المفكرين والمؤرخين ورجال الدين، ولكنه دخل ميدان الأدب للبحث منذ القرن الثامن عشر على يد "ددرو" و"فولتير" في فرنسا و"تولن" في إنجلترا، وقد ظفرت "هيباتيا" بتلك الحظوة لدى الأدباء على اختلاف نزعاتهم؛ لما كانت عليه من كمال الخلق، ونصيبها البشع على يد المسيحيين، ثم لعصرها التي عاشت فيه ذلك العصر الحافل بتلك المتناقضات.
لهذه الأسباب مجتمعة شتغلت "هيباتيا" المُفكرين والأدباء حتى القرن العشرين، وقد اختلفت ميول هؤلاء الكتاب في معالجة موضوعها، تبعًا لاختلاف طبائع الشعوب التي ينتمون إليها، ثم استجابتة منهم لنزعاتهم وميولهم الخاصة، فمنهم من حمل على رجال المسيحية، دون أن يحمل على المسيحية نفسها، بل فضلها على الفلسفية "الهيلينية" ونحا أكثر الكتاب غير هذا المنحى، فأثاروا مشكلات الدين، وصراعهم مع الفلسفة والعقل، وانتصروا للفلسفية اليونانية والهندية ضد المسيحية.
وقد رمى هؤلاء الكتاب جميعًا على اختلاف ميولهم ونزعاتهم إلى غاية واحدة هي: "البحث عن طريق تحرير الإنسانية وسعادتها، ونشر عدالة بين جميع أفرادها، مما تهدف إليه دائمًا ولا تصل إليه".
(1/466)
________________________________________
بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي
والآن إلى بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي:
ونقف أولًا عند جُحا الذي أنكر الدكتور هلال -كما رأينا منذ قليل- صلاحيته لأن يكون نموذجًا إنسانيًّا في الأدب، وفي الواقع أن جُحا يعد نموذجًا لا على الحمق أو الغباوة، بل على التحامق، أو قل: إنّه ذَكاء الباحث عن جوهر الحقيقة، مع التظاهر بالغباء والحماقة.
ذلك أنه -كما يقول الدكتور محمد رجب النجار في كتابه (جحا العربي): لم يكن مخبولًا أو ناقص العقل، كما يتوهم؛ بل كان يتناول الأمور من أقرب الزوايا إلى الحق والواقع، مهما بدت معقدة، أو تظاهرنا نحن بتعقيدها، فيبدو عمله مناقضًا لصنيع الآخرين الذين لا يتصورون الحق قريبًا، كما كان صريحًا في التعبير عن نفسه، لا يَشْغَلُ باله أنّ الإطار الاجتماعي والسياسي كثيرًا ما يَفرض على الناسِ أن يسكتوا أو يرمزوا؛ فهو يستسلم دائمًا لرغباته في لحظتها.
وهذه الفلسفة الخاصة به وبأمثاله، تجعله بريئًا من الخوف أو الكبت وتبرزه، وهو ما جعلت شخصيته أقرب ما تكون إلى من يسقط عنه التكليف الاجتماعي.
وقد ألممنا بما قاله الدكتور هلال عن جُحا من هذه الناحية، وأرى أنه حكم شديد التسرع والانكسار؛ فإنّ للنّموذج الجحوي في كثير من الآداب العالمية مكانًا ومكانة، فكيف يزعم الدكتور هلال هذا الزعم غير القائم على أساس؟! لقد تَناولت النُّسخة العربية موسوعة "الويكيبديا" في مقال لها بعنوان: "جُحا" هذا الموضوع.
(1/467)
________________________________________
ومن الواضح أن كاتب مقالته عن جحا قد قرأ مادة نصر الدين في النسخة الإنجليزية من نفس الموسوعة، ووضع في ذهنه أن يضع الحق في نصابه عندما لم يجدها قد ردت شخصية نصر الدين إلى أصلها العربي، دجين بن ثابت على ما جاء في الكتب العربية القديمة التي تعرضت لهذه المسألة، فأكد أنّ كُلّ شعب قد صمم له بناء على شخصية جحا العربي، جحًا خاصًّا بها، بِمَا يتلاءم مع طبيعته، وظروف الحياة الاجتماعية الخاصة به.
ومع أن الأسماء تختلف وشكل الحكايات رُبما يختلف أيضًا؛ فإن شخصية جحا المغفل الأحمق وحماره لم يتغير، أو لم تتغير.
وهكذا نجد شخصية نصر الدين خواجا في تركيا، وملا نصر الدين في إيران وكردستان، ومشفقي في تبريز حسبما جاء في مادة "إسلاميك آرتس" من الموسوعة البريطانية في طبعتها لعام 2010 ومن الشخصيات التي شابهت جحا "جبرو" في بلغاريا المحبوب و"آرتين" الأرمنيا صاحب اللسان السليط، و"آريو" يوغسلافيا المغفل.
ونضيف نحن بناء على ما ورد في مقال نصر الدين في كل من "الوكوبيديا" الإنجليزية والموسوعة اليونفرساليت الفرنسية إلى هذه الأسماء اسم "تل أورنج بيجل" عند "الفلمنكيين" وأبو نواس عند السواحليين، ومن يقرأ مثلًا مقال المخصص للشخصية "تل أورانج بيجن" الفلمنكي في "الوكبيديا" يتبين له في التو أن السمات التي تميز شخصيته ونوادره، تُشبه نظريتها لدى جحا مع أخذنا في الاعتبار ما لا بد من طروئه على تلك السمات، عند انتقاله إلى المحيط الجديد.
(1/468)
________________________________________
وأذكر بهذه المناسبة أنه كان لي زميل وصديق ياباني أثناء المرحلة الجامعية، كان قد أسلم حديثًا؛ فكان يُرَدّد علينا طول النهار نكتًا عن مهران العبيط، أو كما كان ينطقها "مهرانا أبيت" نكتة وراء أخرى، وهي في الواقع حكايات جحوية، وقد عزا كاتب مادة نصر الدين في "الوكبيديا" الإنجليزية هذا التشابه إلا أن تلك النوادر قد ترجمت إلى كثير من اللغات.
وفي المادة الخاصة بنصر الدين خوجا في الموسوعية "اليوفرسانية" الفرنسية "سيكلوبيديا يونيفرسليز" أن حكايات هذا الأخير ترتد في أصلها إلى جحا العربي، وإن أضيفت إليها أشياء من هنا وهناك، تبعًا للبلاد التي مرت بها أثناء رحلتها الطويلة عبر التاريخ والجغرافيا.
وبالعودة إلى التاريخ -كما يقول الكاتب- نكتشف أن كل هذه الشخصيات قد ولدت واشتهرت في القرون المتأخرة، بما يدل على أنها تكونت شخصياتها على أساس من شخصية جحا العربي، الذي سبقهم جميعًا. وهو دجين بن ثابت الفزاري.
والواقع أن ما قاله كاتب المادة صحيح، إذ تذكر مقالة النسخة الإنجليزية من الموسوعة: أن أقدم مخطوطة للنوادر المنسوبة إلى نصر الدين تعود إلى أوائل الثلث الأخير من القرن السادس عشر الميلادي، أما النسخة الفرنسية من الموسوعة؛ فترجع تاريخ نصر الدين نفسه إلى ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين، على حين أن المصادر التي تتحدث عن جحا العربي، وتورد نوادره أقدم من ذلك كثيرًا.
وعلى سبيل المثال فإن الجاحظ يورد في "رسالة البغال" النادرة التالية من نوادر جحا: "نظر جُحا إلى رجل بين يديه، يسير على بغلة؛ فقال الرجل: الطريق يا
(1/469)
________________________________________
حمصي، فقال رجل: ما يدريك أني حمصي؟ قال: رأيت حير بغلتك فإذا هو يشبه الحاء، ورأيت فقحتها فرأيتها تشبه الميم، ورأيت زنبها فإذا هو يشبه الصاد، فقلت: إنك حمصي".
وفي (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي، قال جحا لأبي مسلم صاحب الدعوة: إني نذرت إن رأيتك أن آخذ منك ألف درهم، فقال: رأيت أصحاب الهزور يعطون لا يأخذون، وأمر له بها. وفي (البصائر والذخائر) للتوحيدي أيضًا عدة نوادر أخرى لجحا. وفي (تزيين الأسواق) لداود الأنطاكي: أن جُحا قد اشترى يومًا دقيقًا وأعطاه لحَمّال فلما دخلوا في الزّحام هرب الحمال بالدقيق، فرآه جحا بعد أيام فتوارى جُحا منه فقيل لجحا: لم ذلك؟ فقال: أخاف أن يطالبني بالأجرة.
وقدم إلى أبي حازم القاضي سكران ليمتحنه، فقال: من ربك؟ قال: أصلحك الله، هذا ليس من مسائل القضاة، إنه مسائل منكر ونكير؛ فضحك وخلى سبيله. وفيه أيضًا: دخل جحا على المهدي يومًا، فقال له: كم عيالك؟ قال: ثمانية، فأمر له بثمانية آلاف درهم، فأخذها وخرج ولما بلغ الباب رجع، وقال: نسيت واحدًا من عيالي؛ فقال: من هو؟ قال: أنا، فضحك المهدي وأمر له بمثل ذلك.
كما سجل ابن النديم، وهو من أهل القرن السادس الهجري طرائف جحا في كتاب له بعنوان (نوادر جحا)، وفي (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري "أحمق من جحا"، وتحت هذا المثل في (مجمع الأمثال) للميداني نقرأ ترجمة لجحا
(1/470)
________________________________________
وبعض من نوادره، يقول الميداني: هو رجل من فزارة وكان يكنى أبا الغصن، فمن حمقه: أن عيسى بن موسى الهاشمي مر به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعًا، فقال له: ما لك يا أبا الغصن؟ قال: إني قد دفنتُ في هذه الصحراء دراهم، ولستُ أهتدي إلى مكانها، فقال عيسى: كان يجب أن تجعل عليها علامة، قال: قد فعلت، قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلها، ولست أرى العلامة في السماء".
ومن حمقه أيضًا: "أنه خرج من منزله يومًا بغلس -أي: في الظلام- فعثر في دهليز منزله بقتيل، فضجر به وجره إلى بئر منزله، فألقاه فيها فنزر به أبوه -أي: أحس به أبوه- فأخرجه وغيبه وخنق كبشًا، حتى قتله وألقاه في البئر، ثم إنّ أهل القتيل طافوا في سكك الكوفة، يبحثون عنه فتلقاه جحا فقال: في دارنا رجل مقتول، فانظروا أهو صاحبكم؟ فعدلوا إلى منزله وأنزلوه في البئر، فلما رأى الكبش ناداهم وقال: يا هؤلاء، هل كان لصاحبكم قرن، فضحكوا ومروا -أي: مضوا-".
ومن حُمقه: "أن أبا موسى صاحب الدولة لما ورد الكوفة قال لمن حوله: أيكم يعرف جحا فيدعوه إليّ؟ فقال يقطين: أنا، ودعاه فلما دخل لم يكن في المجلس غير أبي موسى ويقطين، فقال: يا يقطين، أيكما أبو موسى؟! "
ويعلق كاتب مادة جحا في "الوكبيديا" العربية على التشابهات بين نوادر جحا، ونوادر الشخصيات المناظرة له في الآداب الأخرى، قائلًا: إنك تجد الطرائف الواردة في كتاب (نوادر جحا) أي: جحا العربي، المذكور في (فهرس ابن النديم) الذي كان يعيش في القرن الرابع الهجري، هي نفسها مستعملة في نوادرهم الأخرى، ولم يختلف فيها غير أسماء المدن والملوك وتاريخ وقوع الحكاية؛ مما يدل على الأصل العربي لهذه الشخصية.
(1/471)
________________________________________
ثم يمضي كاتب المادة فيقول: إنّ أقدم قصص جُحا تَعُود إلى القرن الأول الهجري، القرن السابع الميلادي؛ فهو دُجين بن ثابت الفزاري، الذي روى عنه أسلم مولى عمر بن الخطاب، وهشام بن عروة، وعبد الله بن المبارك وآخرون. قال الشيرازي: جحا لقب له وكان ظريفًا، والذي يُقال فيه مكذوب عليه.
وقال الحافظ ابن عساكر: إنّه عاش أكثر من مائة سنة، وذكر أن جُحَا تابعي من التابعين، كانت أمه خادمة لأنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة وصفاء السريرة، فلا ينبغي لأحد أن يسخر به.
وذكر جحا هذا أيضًا في كتب الجلال السيوطي، والذهبي، والحافظ ابن الجوزي، الذي قال: ومنهم جحا. ويكنى أبا الغصين، وقد روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أن الغالب عليه التغفيل، وقيل: إن بعض من كان يعاديه وضع له حكايات، أي لفقها عليه.
وقال الميداني -طبقًا لما مر بنا قبل قليل-: هو رجل من فزارة، وكان يكنى أبا الغصن. وسواء كان جحا هو هذا أو ذاك؛ فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى إثبات أنه أقدم كثيرًا جدًّا في الوجود التاريخي من نصر الديني. وانظر مادة جحا في الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية.
أما جحا الرومي فهو نصر الدين خوجا، وهو تركي الأصل من أهل الأناضول مولده في مدينة "سيورحصار" ووفاته في مدينة "آق شهر" وقد تلقى علوم الدين في "آق شهر" وقونيا، وولي القضاء في بعض النواحي المتاخمة لآق شهر ثم ولي الخطابة في "سوري حصار" ونصب مدرسًا وإمامًا في بعض المدن، وساح في ولاية قنيا وأنقرة وبرصا وملحقاتها، وكان واعظًا مرشدًا صالحًا يأتي بالمواعظ في قالب النوادر، وله جرأة على الأمراء والقضاة والحكام، وكثيرًا ما كانت الحكومة
(1/472)
________________________________________
تستقدمه من آق شهر إلى العاصمة يومئذ قنيا. وكان عفيفًا زاهدًا، يحرث أهله ويحتطب بيده، وكانت داره محطًّا للواردين من الغرباء والفلاحين.
ويُذكر أن وساطته أنقذت بلدته من "تيمور لانك" الجبار الطاغية المغولي في القرن الرابع عشر الهجري، أما زمنه فالراجح أنه كان في عهد السلطان "أور خان" وظل حتى عهد السلطان "نيل درم" أي: في أوائل القرن السابع من للهجرة، وعاش إلى سنة ستمائة وثلاث وسبعين هجرية، وتوفي عن نحو ستين عامًا، وقبره الآن في تركيا ومكتوب عليه نصر الدين خوجا المشهور بجحا.
وقد أوحت رواية "لوليفر دي جحا، لو سيبل" جحا العبيط التي صدرت سنة ألف وسبعمائة وثماني عشر بقلم أديس و"جوزيبوفيسي" للمخرج "جاك بارتيه" بسيناريو فيلم يدعى جحا، قام ببطولته الممثل المصري عمر الشريف، والإيطالية "كولديا كارندالي" وتم عرضه في دور الخيالة عام ألف وتسعمائة وثمانية وخمسين ميلادية، كما عرضت الصين ما بين عام تسعة وسبعين، وثمانية وثمانين وتسعمائة وألف أربعة عشر حلقة عن جحا بعنوان "حكايات أفندي".
وثَمّ كتابٌ عن جحا ألفه الكاتب الروسي "يونيل سوليفيف" عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، صور فيه جحا شخصًا جوالًا يفر من الحكومات الظالمة، التي تُرهق الناس بالضرائب والمكوث العبثية في غير مقابل من الخدمات تؤديه الحكومات لمواطنيها، التي تفدحهم بها، وهناك كتب كثيرة للأطفال تدور حول "جحا" منها على سبيل التمثيل: (حكاية جحا والحمار)، و (حكاية جحا القاضي) لمنصور علي عرابي، و (حكاية جحا الفيلسوف) لإيمان عرابي عبد العزيز، و (جحا والسلطان) لأحمد بهجت.
كما دخل اسمه الأمثال الشعبية من مثل: "جحا أولى بلحم طوره" و"مسمار جحا"، "بلدك منين يا جحا إللي فيها مراتي".
(1/473)
________________________________________
وهكذا وقد جعلت منظمة "اليونسكو" من عام ستة وتسعين وسبعمائة وألف ميلادية عام نصر الدين جحا، وفي آخر مقال النسخة الفرنسية من "الويكبيديا" عن جحا ثبتٌ بالكتب والمقالات التي تتحدث عن جحا، أو تتضمن حكاياته يبلغ بضع عشرات، ولا أظنها إلا جزءًا ضئيلًا من المصادر والمراجع التي تتعلق بالموضوع، إذ تقتصر على اللغة الفرنسية ليس إلا.
وقد اختلطت الكثير من النوادر الجحوية والنصرية، حتى يقول الدكتور محمد رجب النجار: إنّ الفصل بينهما أصبح شبه مستحيل، بل غير مجدٍ في النهاية، وإنْ كان في كلام الدكتور النّجار شيء غير قليل من المبالغة، كما سيتبين بعد قليل. كما لاحظ الدكتور أن هناك ميلًا لطمس جحا العربي لمصلحة نصر الدين التركي، ذلك أننا سنجد أن أكثر الكتب العربية التي جمعت النوادر الجحوية بين دفتيها، وخاصة تلك التي شهدت عصر المطبعة في العالم العربي -كما يقول الدكتور النجار- سنجدها جميعًا بلا استثناء تنسب النوادر إلى جحا العربي الرومي، في آن واحد.
فهي مثلًا تقول: "نوادر جحا الكبرى" في عنوانها الرئيسي، وتذكر تحته العنوان ببنط أصغر هذه مجموعة من نوادر الشيخ نصر الدين المعروف بجحا، لقد بلغ من هذا الخلق أن جاء ناشر كتاب (أخبار الحمقى) لابن الجوزي الذي صدر قبل أن يوجد رمز تركي نصر الدين خوجا بعدة قرون، فذكر فيه مثل هذا الكتاب معنونًا لنوادر جحا العربي، هذا العنوان "أخبار جحا المعروف بنصر الدين خوجا". وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أن العقلية العربية قد تمثلت في النموذجين معًا، وجعلتهما واحدًا مما أتاح فرصة لكل جامع النوادر أن تنسب ما تشاء من النوادر لمن تشاء من أعلام الدعابة عربية أو تركية دون حرج.
(1/474)
________________________________________
بل إن حكمت شريف الذي ترجم النوادر التركية إلى العربية، في كتابه المعروف (نوادر جحا الكبرى) والذي قدر له أن ينتشر في العالم العربي، حتى لقد طبع في مصر أكثر من عشرين طبعة، غير الطبعات السورية واللبنانية والعراقية وغيرها، نَرى حِكْمَت شِريف يَنُصّ صراحة في المقدمة التي كتبها قائلًا: وبعد فقد وقع لي كتاب نوادر ضخم باللغة التركية يسمى (لطائف خوجا نصر الدين) وهو مشهور عندنا في العالم العربي بنصر الدين جحا صاحب الأخبار المستغربة، والنكات المستملحة.
ولما كان ما طُبع في العربية من نوادره قليلًا جدًّا أقدمت على ترجمة هذا الكتاب عن اللغة التركية، وألحقت به مع عثرت عليه في غيره من كتب العرب والترك، من أخبار هذا الرجل وأطواره وقصصه ونوادره؛ حتى اجتمع لديّ هذا الكتاب، ويُضيف الدكتور محمد رجب النّجار أنّ الطبعات العربية جميعًا تستمر على هذا الخلط بين الشخصيتين.
ومن هنا يقول العقاد: إنّ النوادر المنسوبة إلى جحا، يستحيل أن تكون صادرة كلها عن شخص واحد، إذ الأزمنة التي تقع فيها تختلف، وكذلك الأشخاص الذين يظهرون مع جحا ينتمون إلى عصور مختلفة، والعادات والتقاليد التي تعرضها مختلفة، كما أن السمات النفسية والعقلية التي ترسمها لجحا لا يمكن أن تكون لذات الشخص في النوادر كلها؛ لأن بعضها يناقض بعضها الآخر.
ومع هذا نرى العقاد في كتابه (جحا الضاحك المضحك) يميز بعض النوادر بأنها مثلًا نوادر تركية لا عربية، لما تتضمنه من الملامح الأدبية التي تتعلق بلغة الترك لا بلغة العرب، أو لأنها تذكر أسماء مُدن تركية لا عربية، ويُمكن أن نضيف إلى ذلك: أنّ النّوادِر التي تدور حوادثها في بلاد عربية، أو تتحدث عن شخصيات
(1/475)
________________________________________
عربية متقدمة في التاريخ؛ كهارون الرشيد مثلًا، أو أبي موسى الخراساني، أو تصور عادات عربية هي نوادر جحوية لا نصرية.
وتتميز حكايات جُحا أو نصر الدين خوجا بالقصر، والمفارقات غير المتوقعة التي تبعث إلى الضحك، وإن كان بعضها قائمًا على المنطق؛ لكنه المنطق القائم على القياس الخاطئ، ثم إن هذه الحكايات تخلو من الوصف والتحليل، وتقتصر على السرد والحوار الموجزين؛ لتنتهي بما يبعث على القهقهة، إما لما تصرف جُحا أو كلامه من خلل يدل على البلاهة أو التّباله، وإما لما فيه من وخز للمنطق المعوج، أو النفاق اللئيم الذي يلجأ إليه الآخرون في تعاملهم معه.
ومن أمثلة ذلك الحكايات التالية:
"جلس شيخ نصر الدين أفندي يومًا على منصة الوعظ في أحد جوامع أقشه، وقال: أيها المؤمنون، هل تعلمون ما سأقوله لكم؟ فأجبه السامعون كلا لا نعلم، قال: إذا كنتم لا تعلمون فما الفائدة من التكلم ثم نزل، وعاد في يوم آخر، فألقى عليهم نفس السؤال فأجابوه هذه المرة أجل إننا نعلم، فقال: ما دمتم تعلمون ما سأقوله فما الفائدة من الكلام، فحار الحاضرون في أمرهم، واتفقوا فيما بينهم على أن تكون الإجابة في المرة القادمة متناقضة، قسم يُجيب لا، وقسم يجيب نعم، ولما أتاهم المرة الثالثة ووقع عليهم سؤله الأول اختلفت أصواتهم بين لا ونعم، فقال: حسن جدًّا من يَعْلَم يُعلم من لا يَعلم".
"وكان جُحا راكبًا حماره حينما مر ببعض القوم، وأرد أحدهم أن يمزح معه فقال له: يا جحا، لقد عرفت حمارك ولم أعرفك، فقال ججا: هذا طبيعي؛ لأن الحمير يعرف بعضها بعضًا".
(1/476)
________________________________________
"ودَخَل الحمام يومًا، وكان السكون فيه سائدًا؛ فأنشأ يتغنى فأعجبه صوته، فحدثته نفسه بأنه لا يجوز أن يبخل بنعمة صوته البديع على إخوانه المسلمين، فما أسرع ما خرج من الحمام قاصدًا الجامع، حيث صعد للمئذنة، وبدأ ينشد بعض التسابيح في ساعة آذان الظهر؛ فاستغرب المارة هذا الأمر، وكان صوته خشنًا مزعجًا؛ فناده أحدهم قائلًا: ويحك يا أحمق، ما لك تزعج الناس بهذا الإنشاد بصوتك المزعج، وفي مثل هذه الساعة؛ فأجابه من أعلى المئذنة: يا أخي، لو أن محسنًا يتبرع لي ببناء حمام فوق هذه المئذنة؛ لأسمعتك من حسن صوتي ما ينسيك تغريد البلابل".
"ورأى جحا في منامه أن شخصًا أعطاه تسعة دراهم بدلًا من عشرة كان يطلبها منه، فاختلفا ولما احتدم بينهما الجدال انتبه من نومه مذعورًا، فلم ير في يده شيئًا؛ فتكدر ولام نفسه على طمعها، ولكنه عاد فاستلقى في الفراش، وأنزل رأسه تحت اللحاف، ومد إلى المخصوم يده قائلًا هاتها تسعة ولا تزعل".
"توجه جحا مع أحد أصحابه إلى الصيد؛ فرأيا ذئبًا، وطمعا في فروته، فركضا ورائه إلى أن دخل جحرًا، فأدخل رجل رأسه كي يعرف مكن وجوده ويمكسه، فقطع الذئب رأسه، وجحا واقف بجانبه أكثر من ساعة، ولما رأى أن رفيقه لا يخرج سحبه إلى الخارج فشاهده من دون رأس؛ فافتكر في نفسه هل، كان معه رأس أم لا!! فعاد إلى البلد وسأل زوجة صديقه قائلًا: اليوم حين خروج زوجك معي، هل كان رأسه معه أم لا!؟ ".
"ورأته امرأته مرة يأكل تمرًا ولا يُخرج نواة، فقالت: ماذا تصنع كأني بك تأكل التمر بنواه؟ قال لها: طبعًا آكله بنواه؛ لأن البائع وزنه مع النواة، ولو أخرج نواه لما باعه بسبع بارات أما وقد أعطيته الثمن الدراهم بيضًا، فهل أرمي في الزقاق شيئًا اشتريته بدراهمي".
(1/477)
________________________________________
"دعاه "تيمور لانك" لركوب دابته والدخول في ميدان السباق، ولعب الجليد، فذهب إلى الإصطبل وركب ثورًا هرمًا، وجاء به فلما رآه الناس ضحكوا وضجوا، فسأله "تيمور لانك": كيف تدخل ميدان السباق بهذا الثور؟ فأجابه جحا: إني جربت هذا الثور منذ عشر سنوات؛ فكان يسابق الطير في ركضه، فكيف يكون الآن؟!.
"أخذ جُحا يَبيعُ مخللًا وقد ابتاع أدوات المخلل مع حمار المُخللاتي، فكان الحمار يعرف البيوت التي تشتري منه، وكلما ناد الشيخ: مخلل مخلل، كان الحمار ينهق بتلك الأذقة المزدحمة، ويغطي بنهيقه صوت جحا؛ فغضب جحا منه، وذات يومٍ وصل إلى محل مُزدحم، وأخذ الشيخ ينادي: مخلل مخلل؛ فسبقه الحمار إلى النهيق، فألقى له جحا المقلد على عاتقه، وحملق فيه بعينيه قائلًا: انظر يا هذا أأنت تبيع المخلل أم أنا".
"ضاع حمار جحا؛ فأخذ يفتش عنه ويحمد الله شاكرًا؛ فسألوه لماذا تشكر الله على ضياع الحمار؟ فقال: أشكره لأني لم أكن راكبًا على الحمار ساعة ضياعه، ولو كنت راكبًا عليه لضعت معه".
"شعر جُحا بوجود لص في داره ليلًا، فقام إلى الخزانة واختبأ بها، وبحث اللص عن شيء يسرقه فلم يجد فوجد الخزانة، فقال: لعل فيها شيئًا، ففتحها وإذا جحا فيها، فاختلج اللص ولكنه تشجع، وقال: ماذا تفعل هنا يا شيخ؟ فقال جحا: لا تؤاخذني يا أخي، فإني عارف بأنك لا تجد ما تسرقه، ولذلك اختبأت خجلًا منك".
"وكان قميصه منشورًا على الحبل فهبت الريح وقذفته في الأرض، فقال في نفسه: يلزمنا أن نذبح فدية وقربانًا، فسألته زوجته: لماذا؟ فقال: العياذ بالله، لو كنت ألبسه ساعة ما وقع لتحطمت معه".
(1/478)
________________________________________
"سأله "تيمور لانك" قائلًا: تعلم يا جحا أن خلفاء بني العباس كان لكل منهم لقب اختص به، فمنهم الموفق بالله، والمتوكل على الله، والمعتصم بالله، وما شابه ... فلو كنت أنا منهم فماذا يجب أن أختار من الألقاب؟ فأجابه على الفور: يا صاحب الجلالة، لا شك بأنك كنت ستُدعى بلقب نعوذ بالله".
وبهذا يتبين لنا كيف أن الدكتور محمد غنيمي هلال كان متسرعًا جدًّا حينما رفض دخول شخصية جحا بين النماذج الإنسانية في الآداب العالمية، إذ رأيناه موجودًا في عدد من الآداب، منها الشرقي ومنها الغربي، وفي كل منها له اسم مختلف، أما نوادره وملامح شخصيته وأعماله فتكاد تكون واحدة، إلا من بعض السمات التي تختلف باختلاف الدول والشعوب التي ينتمي إليها جحا في كل بلد".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/479)
________________________________________
الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية.
(1/481)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن عشر
(بعض النماذج الإنسانية العربية)

شخصية عنترة العبسي
بعض النماذج الإنسانية العربية:
شخصية عنترة العبسي: وهو شاعرٌ جاهلي من شعراء المعلقات السبع، وفارس من فرسان بني عبس، ارتبط اسمه بحبه بعبلة ابنة عمه.
أما أمه: فجاريةٌ سوداء من الحبشة تدعى زبيبة، تملكها شداد فأنجبت له عنترة، ولكن كان من عادة العرب في الجاهلة إذا كان للرجل ولد من أمة استعبد؛ ولهذا عد عنترة من العبيد.
وكان فارِسُنا وشاعرنا من أشد أهل زمانه، وأجودهم بما ملكت يداه، وقد دعاه أبوه وألحقه بنسبه بسبب غارة لبعض أحياء العرب على قومه بني عبس أظهر فيها عنترة شجاعة فائقة، وقد عانى عنترة أولًا من العبودية التي طوقت عنقه، ثم نال حريته بعد أن قدم التضحيات، وأظهر بطولة فذة وشجاعة نادرة كانت مضرب الأمثال.
وعنترة أحدُ أبطال حرب داحس والغبراء؛ فقد خلدها بشعره ووصف أحداثها مفتخرًا بفروسيتها وأفعاله.
وقد اشتهر عنترة بالفروسية والشعر والخلق السمح، ومما يروى أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس فأصابوا منهم فتتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم، وعنترة فيهم فقال له أبوه: كُر يا عنترة. فقال عنترة: العبدُ لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والسر. فقال: كر وأنت حر. فكر وأبلى بلاء حسنًا يومئذ، فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه.
وقد بلغ الأمر بهذا الفارس الذي نال حريته بشجاعته، أنه دوخ أعداء عبس في حرب داحس والغبراء، وهو ما دعى الأصمعي إلى القول بأن عنترة قد أخذ الحرب كلها في شعره، وبأنه من أشعر الفرسان.
(1/483)
________________________________________
أما النهاية التي لقيها الشاعر، فالقول فيها مختلف، ففئة تقول بأنه مات بسهم رماه به رجل أعماه اسمه الليث الرهيص، أثناء غارة قبيلة عبس على قبيلة طيئ وانهزام العبسيين، وانتقم هذا الرجل من عنترة بسبب العمى الذي أصابه بعنترة في تلك الحرب، ويقال: إن الليث الرهيص كان أحد الفرسان الأقوياء بذلك العصر.
وقد شبه المؤلف "فليب حبي" في كتابه (تاريخ العرب) عنترة بن شداد بـ"أخيل" بوصفه رمزًا لعصر البطولة العربية.
واشتهر عنترة أيضًا بقصة حبه لابنة عمه عبلة بنت مالك، وكانت من أجمل النساء قومها، في نظارة صبى وشرف أرومة، بينما كان عنترة بن عمرو بن شداد العبسي بن جارية فلحاء، أسود البشرة ذاق في صباه ذل العبودية والحرمان وشظف العيش، والمهانة؛ لأن أباه لم يستلحقه بنسبه في البداية، فتاقت روحه إلى الحرية والانعتاق غير أن ابن الفلحاء عرف كيف يكون من صناديد الحرب والهيجاء يذوب عن الأرض ويحمي العرض، ويعف عن المغنم.
وهناك رواية تقول: إن عنترة بوصفه مثالًا لأخلاقيات الحرب، والنبل والشهامة والحمية، قد استحق تنويه النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- عندما تولي أمامه قول الشاعر:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
فيُقال: إنّ الرسول محمدًا -عليه الصلاة والسلام- علق على ذلك قائلًا: ((ما وصف لي أعربي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة)).
ويقول صاحب (الأغاني): قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: كيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس
(1/484)
________________________________________
بن زهير فينا، وكان حازمًا فكنا لا نعصيه، وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم، وكان فينا الربيع بن زياد، وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه، وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره.
وقيل لعنترة: أأنت أشجع العرب وأشَدُّها؟ فقال: لا، فقيل: فلماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل إلا موضوعًا أرى لي منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله.
وهذه الآراء تؤكد اقتران الحيلة والحنكة في فن الحرب أو عند عنترة وأقران في عصر السيف والرمح والفروسية، ولا مراء في أن عنترة كان أشهر فرسان العرب في الجاهلية وأبعدهم صيتًا وأسيرهم ذكرًا وشيمًا، وعزة نفس، ووفاء للعهد، وإنجازًا للوعد، وكان عنترة ابن لأب من أشراف القوم وأعلاهم نسبًا؛ لكن محنته جاءته من ناحية أمه الأمة، ولم يكن ابن الأمة يلحق بنسب أبيه إلا إذا بَرّز وأظهر جدارته واستحقاقه للحرية والعتق والشرف الرفيع، وهذا ما حصل في حال عنترة الذي اشترى حريته بسيفه وترسه ويراعه، وأثبت أن الإنسان صانع نفسه وصاحب مصيره بغض النظر عن أصله وفصله وجنسه ولونه وشكله.
وقد كانت عبلة وظلت الأثيرة في حياته وحتى مماته، وقد انتهت حياة البطل عنترة بعد أن بلغ من العمر عتيّا، ويشبه في رواية من الروايات المشهورة ميتة "أخيل"، بوصفه فارسًا يُقاتل في التسعين من عمره، ومات مقتولًا إثر رمية سهم، كما أشرنا قبل قليل.
وكان "لامرتين" الشاعر الفرنسي معجبًا بتصوير السيرة الشعبية لميتة عنترة، الذي ما أن أصيب بالسهم المسموم، وأحس أنه ميت لا محالة حتى اتخذ خطة المناضل
(1/485)
________________________________________
حتى بعد مماته، فظل ممتطيًا صهوة جواده، مرتكزًا على رمحه السمهري، وأمر الجيش بأن يتراجع القهقرى وينجو من بأس الأعداء، وظل في وقفته تلك حاميًا ظهر الجيش والعدو بصر الجيش الهارب لكنه لا يستطيع اللحاق به لاستبسال قائده البطل في الذود عنه ووقوفه دونه حتى نجا الجيش وأسلم عنترة الروح باقيًا في مكانه متكئًا على الرمح فوق جواده الأبجر. وبعض المقارنين يَرون في ذلك ما يذكرهم بميتة "رولان" في الملحمة المسامة باسمه.
وشعر عنترة رجع مباشر لمعاناته النفسية، يمتلئ بالحديث عن شمائله وأخلاقه الكريمة، ومعلقته ترسم صورة خلقية كاملة له، ففيها يتحدث عنترة عن وقائعه، وينعت نفسه بأجمل الأوصاف، مظهرًا أخلاقه وكرمه، وكريم فعاله وبطولاته، ويظهر في كثير من أبيات القصيدة أثر الصراع العنيف بين حب عنترة لعبلة وسواد لونه صحة نسبه، فقد ظلمته القبيلة وتنكرت له ******ة فتسامى في خلقه وفي حبه، وتغلب على جروحه وآلامه، فأخذ يردد على مسامع عبلة مكارمه ويظهر له مواقفه في مبارزة الأبطال.
هذه هي صورة عنترة كما صورها لنا التاريخ، فهي صورة شاعر فارس لا تتعدى فروسيته نطاق القبيلة، أما في السيرة الشعبية التي تحمل اسمه، فقد ارتفع شأنه إلى أن أصبح نموذجًا أدبيّا، ممثلًا لكل ما هو عربي نبيل؛ بل إنه وهو الوثني قد صار بطلًا للإسلام إذ استحالت السيرة معرضًا للتاريخ العربي قبل الإسلام وبعده، وما وقع فيه من أحداث خطيرة لمدة خمسمائة عام تقريبًا من الصراعات القبيلة، إلى الكفاح ضد احتلال الأحباش اليمن، إلى خضوع بلاد العرب للحكم الفارسي، إلى انتصار القوة الإسلامي الصاعدة على الفرس، إلى الصراع بين الفرس والروم، إلى انتشار الإسلام في شمال إفريقيا فضلًا عن الحروب الصليبية.
(1/486)
________________________________________
وقد كتبت السيرة بأسلوب نثري مسموع تغلب عليه السلاسة مع تطعيمه بما يقارب عشرة آلاف بيت شعري.
وإذا كانت أم عنترة -حسبما نعرف من سجلات التاريخ- عبدة حبشية فإنها في السيرة ليست أقل من أن تكون بنت ملك الحبشة نفسه، أُسرت في بعض المعارك وأخذت إلى بلاد العرب حيث أصبحت أمة من الإماء، أما ابنها فكان ذا قوة أسطورية بالغة وعمر بلغ من الطول حدًّا خياليًّا، إذ امتدت حياته عدة قرون، كما كان باستطاعته وهو طفل رضيع أن يمزق أقوى الملابس التي يقمطونها بها، وحين صار له من العمر سنتان تمكن من تقويض إحدى الخيام، ولما بلغ الرابعة قتل كلبًا ضخمًا، وفي التاسعة ذئبًا، وعندما صار راعيًا فقد صرع أسدًا، وكان في مقدوره أن يجندل أي قرن ينازله في المعركة ثم يكسب قلبه بعد ذلك، وبشجاعته وبدفاعه البطولي عن قبيلته استطاع أن يكتسب حريته فيعترف به أبوه ويعامله معاملة الرجال الأحرار.
أما عمه أبو حبيبته عبلة الذي وعده أن يزوجه إياها في لحظة من لحظات الحاجة إليه، فقد حاول التملص من ذلك الوعد باشتراطه عليه تحقيق بعض المطالب التي من شأنها أن تعرضه للخطر الداهم، إلا أن بطلنا استطاع أن يُنجز كل ما طلب منه، وفاز بحبيبة قلبه رغم كل الأهوال التي لقيها، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أضيف إليه نجاحه في وضع حد للصراع الدموي بين القبائل التي تنتمي إلى ذات النسب.
كذلك قَام هو نفسه بتعليق قصيدته على أستار الكعبة بعد تفوقه على كل شعراء المعلقات في منافسة شعرية ومبارزة سيفية، ثم ترك مكة إلى خيبر حيث هدم مساكن اليهود، ثم تأخذ السيرة عنترة خارج بلاد العرب إلى العراق بغية الحصول على النوق العصافيرية التي طالبه بها عمه مهرًا لعبلة.
(1/487)
________________________________________
كما نراه يواجه كبار ملوك عصره ويتحداهم وينتصر عليهم جميعًا من أكاسرة، ومناذرة، وأحباش، وفرنجة، وسودانيين، وهنود، ويقود جيوشًا يفتح بها البلاد في مصر، ويزحف عبر الشمال الإفريقي حتى المغرب، ويشاهد تمثالًا له منصوبًا في القسطنطينية إقرارًا من الروم ببطولته، وما قدم لهم من معونته ضد أعدائهم وبجواره تمثالان آخران لأخويه الذين حاربا إلى جانبه.
وكان له فرقة من الفرسان يدربهم ويقودهم، ومن هنا أتت تسميته بالشهيرة أبو الفوارس، وبالمناسبة فقد ترك عنترة وراءه في السيرة ذرية من الأبناء منهم اثنان من أميرتين أروبيتين، وإن لم ينجب في ذات الوقت من عبلة التي زوجته إياها السيرة، رغم أن التاريخ لا يسجل أنه قد حدث بينهما قران.
وقد استحوذت سيرةُ عنترة بما صورته من نموذج إنساني يتحقق فيه البطولة والفروسية والشجاعة والنبل، استحوذت على خيال المسترقين فكتبوا عنها كثيرًا وترجموا بعضها وجعلوا منها موضوعًا من مواضيع الأدب المقارن، وممن ترجموا أجزاءً من تلك السيرة "كوساندبيرسيفال"، و"ديل كاردون"، و"أوشيربونوا"، وكذالك "ترك هملوتون" الذي سمى ما ترجمه " A nter A bdo w in romins " وفي كتابه "فويج أفواياج أون أيوه" يبدي "لامرتين" الشاعر الفرنسي انبهاره بتلك الملحمة العجيبة وتصويرها شخصية عنترة بما تجسمه من التفرد وتعشق الحرية والافتخار بما وهبه من عبقرية وتميز في ميدان الشعر والفروسية جميعًا، قائلًا: " sa tan babla bor show lweek de tot la an gagh" وترجمتها: "أنها إحدى أجمل الأغاني في كل اللغات".
كذلك وصوفها "كوساندبيرسيفال" المستشرق الفرنسي المشهور بأنها "إلياذة العرب" مؤكدًا أنها تقدم لنا صورة شاملة وصادقة ودقيقة وحية ناصعة لحياة
(1/488)
________________________________________
العرب في البادية بما تحتوي عليه من كرم، وثأر وغرام وأريحية وحماسة للنهب وتذوق للشعر، منسوجة بأسلوب يتميز بالأناقة والتنوع بالإضافة إلى ما يبلغه من سموق شاهق في بعض الأحيان.
وفي الجزء الثاني من كتابه عن فلسفة الفن، يضع الناقد الفرنسي هيبوليت بِان عنترة بن شداد إلى جانب أعظم الأبطال في الملامح العالمية، كـ"أوديسوس"، و"أخيل"، و"السيد"، و"رولان"، و"زيجفج"، و"رستم"، ولا ننسى رأي "إرمست لينان" الذي كتب في دراسته عن تاريخ الأديان، مبديًا إعجابه البالغ بهذا العمل، وما يشتمل عليه من صور بديعة لحياة العرب في الجاهلة.
ويُعلق كاتب مادة سيرة عنتر في الطبعة الثانية من "إنسيكلوبيد إسلام" بأن سيرة عنتر تستحق ما تصوف به عن جدارة؛ إذ تعرض علينا "بانوراما" تدل على خيال خصب خلاق، ومهارة في السرد لا يعتريها اللغوب طوال اثنين وثلاثين جزءًا هي أجزاء السيرة العنترية، ذلك العمل الإبداعي الذي صيغ في أسلوب شاعري يتسم بالثراء.
ويرى "رونوكو راشيدي" كاتب مقال: Antera the lion Father of heroes المنشور بموقع: the global a f rk an community يرى فيه عنترة تجسيدًا للفروسية، والعبقرية الشعرية، والعشق، والبطولة، والحدب على الفقراء والمستضعفين، والذود عن النساء.
وإلى جانب ذلك: هُناك السيمفونية التي أبدعها "ريمسكي كورساكوف" من وحي افتتانه بنموذج عنترة بن شداد البطولي وسماها عنترة، وكذلك "الأوبرا" التي ألفها "جابريل دي بو" عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر بعنوان عنتر ( Anter)
(1/489)
________________________________________
والتي تتكون من أربعة فصول وخمس لوحات، وأيضًا الكتاب ذو المجلدين الذي أبدعه قلم المصور الفرنسي المسلم إثين دي نِيه عن الشاعر والفارس العربي بعنوان: Anter poin Erowek Arab dibo and Islamic أي: عنتر قصيدة بطولية عربية من العصر الجاهلي.
وزينته ريشته بكثير من الصور الرائعة حتى إن نسخة من الكتاب تباع بإحدى المكتبات الأوربية بخمسة عشر ألف دولار أمريكي، وكذلك المسرحية التي ألفها أبو خليل القباني مصورًا بطولة عنترة وفروسيته، والمسرحية التراجيدية التي مثلت فوق مسرح "الأوديون" بباريس عام ألف وتسعمائة وعشرة من تأليف شكري غانم السوري وعنوانها: عنتر. وتلك التي ألفها محمود تيمور بعنوان حواء الخالدة، واتخذ منها أداة لتصوير مدى الحب الذي كان يكنه ذلك البطل الصنديد لعبلة، واستغلته عبلة استغلالًا شديدًا، فكانت تجشمه المطالب الصعبة فينهض بتحقيقها بطواعية وحب.
ثُم عندنا المسرحية الشعرية التي وضعها شوقي عن شاعرنا الفارس وجعل منه بطلًا قوميًّا هدفه وحدة العرب الجاهليين الذين كانوا ممزقين قبائل متصارعة يعمل بعضها على إفناء بعض.
والمسرحة التي كتبها عادل كامل بعنوان: "ويك عنتر"، ثم الرواية التي كتبها محمد فريد أبو حديد بعنوان: أبو الفوارس، وهو عنوان يشي بما ركز عليه أبو حديد الذي قدم لنا عنترة فارسًا بطلًا لا يشق له غبار، هادفًا من وراء هذا إلى استنفار المشاعر الوطنية لدى المصريين أيام أن كانت مصر محتلة من قبل بريطانيا.
ولدينا كذلك القصة التي وضعها: حسن جوهر، ومحمد أحمد برانق، وأمين أحمد العطار بعنوان: عنترة بن شداد، بهدف بث قيم البطولة في نفوس الناشئة
(1/490)
________________________________________
العرب وقد اعتمدوا في المحل الأول على سيرة عنتر، ولكن دون أساطير، أو خوارق، أو أعمال انتقام وحشية، ودون الأسلوب المسجوع الذي صيغت به السيرة والذي يقترب إلى العامية.
كذلك أخرج طاهر الطناحي قصة عنترة إخراجًا صحفيًّا، ناسبًا إياها إلى يوسف بن إسماعيل أحد أدباء الدولة الفاطمية، مع تزيينها بالرسوم الجميلة والاهتمام الشديد بسوق الأحداث الغرامية سواء كانت لها صلة بالقصة الأصلية أو لا.
وهناك كذلك القصة التي أبدعها عمر أبو النصر بعنوان: عنتر بطل العرب وفارس الصحراء، واختار من السيرة بعض حوادثها وموضوعاتها مركزًا على إبراز بطولة عنترة من أجل بث روح الشجاعة والإقدام والتضحية في نفوس الشباب العربي، في لغة بسيطة سلسة.
ومما يَنْبَغي الإتيان على ذكره في هذا السياق الكتاب الذي نشر في لندن عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين بعنوان: Anter and Abla abidwon romans
انظر في ذلك مادة سيرة عنتر في كل من: الموسوعة العربية العالمية، والطبعة الثانية من دائرة المعارف الإسلامية، أو مادة Anter Romans of في الموسوعة البريطانية، والطبعة الثانية من دائرة المعارف الإسلامية أو مادة Anter romans of، ومادة Anter في طبعة عام ألفين وتسعة من إن سايكلوبيديا يونفيرسل ياس، ومادة عنترة بن شداد في اليوكيبيديا العربية الإنجليزية والفرنسية، وكتاب (سيرة عنترة) للدكتور محمود الحفني في سلسلة مذاهب وشخصيات من مختارات الإذاعة والتليفزيون في مصر، ومادة "لورماند أنتر" في الجزء الخاص بالنصوص من معجم ليمون دا ليتيرا تير بموقع
(1/491)
________________________________________
إيماجومندي، ومقال: Antera the lion father of the heroes المنشور بموقع: the global financianl community.
وفي ستينيات القرن الماضي ظهر فلم بطولة فريد شوقي، وكوكا بعنوان: عنتر بن شداد يصور بطولة الشاعر الفارس الخارقة، والغرام المتبادل بينه وبين عبلة، ذلك الغرام الذي انتهى إلى الزواج على عكس ما يقول التاريخ، وفي ثمانينات القرن ذاته ظهر فلم آخر هزلي لعادل إمام يحمل اسم عنتر، "عنتر شايل سيفه"، وهو ما يدل على مدى ما يحظى به الشاعر والفارس الجاهلي من اهتمام.
ويعزوا إدريس شرقاوي كاتب مادة عنتر بن شداد " Islamic civilization cyclopedia " هذا الاهتمام الواسع إلى سيرة عنترة نفسها.

شخصية مجنون ليلى
النموذج الثاني من النماذج الإنسانية العربية نموذج مجنون ليلى:
وهو حسب المتعارف "قيس بن الملوح" أحد شعراء العصر الأموي، وأخباره متاحة بوفرة في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، وبدرجة من التفصيل أقل في كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، وغيرهما من كتب الأدب العربي التراثية.
وأخباره متناثرة كديدن أمثالها من أخبار القدماء.
ومن أخباره كما جاء في (كتاب الأغاني): كان المجنون يهوى ليلى وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه.
(1/492)
________________________________________
وفي رواية أخرى: كان سبب عشق المجنون ليلى أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمة وعليه حلتان من حلل الملوك، فمر بامرأة من قومه يقال لها: كريمة، وعندها جماعة نسوة يتحدثن فيهن ليلى، فأعجبهن جماله وكماله، فدعونه إلى النزول والحديث، فنزل وجعل يحدثهن، وأمر عبدًا له كان معه فعقر لهن ناقته، وظل يحدثهن بقية يومه، فبينا هو كذلك إذ طلع عليهم فتى عليه بردة من برد الأعراب قال له: منازل، يسوق معزة له، فلما رأينه أقبلن عليه وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:
أأعقر من جرا كريمة ناقتي ... ووصلي مفروشٌ لوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحلي ولم أكن ... إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل
متى ما انتضلنا بالسهام نضلته ... وإن نرم رشقًا عندها فهو ناضلي
قال: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقة له أخرى ومضى متعرضًا لهن، فألفى ليلى قاعدةً بفناء بيتها وقد علق حبه بقلبها وهويته، وعندها جويرياتٌ يتحدثن معها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازلٌ ولا غيره؟ فقال: إي لعمري، فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس، فأرادت أن تعلم، هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعةً بعد ساعةٍ وتحدث غيره، وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه وشغفته واستملحها، فبينا هي تحدثه، إذ أقبل فتىً من الحي فدعته وسارته سرارًا طويلًا، ثم قالت له: انصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وانتقع لونه وشق عليه فعلها، فأنشأت تقول:
كلانا مظهرٌ للناس بغضًا ... وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثم هوىً دفين
(1/493)
________________________________________
فلما سَمِع البيتين شهق شهقةً شديدة وأغمي عليه، فمكث على ذلك ساعةً، ونضحوا الماء على وجهه " حتى أفاق " وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ.
ولما شُهِرَ أمر المجنُون وليلى وتناشَد الناس شعره فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقةً حمراء، وخطبها ورد بن محمد العقيلي، وبذل لها عشرًا من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مخيروها بينكما، فمن اختارت تزوجته، ودخلوا إليها فقالوا: والله لئن لم تختاري وردًا لنمثلن بك، فقال المجنون:
ألا يا ليل إن ملكت فينا ... خيارك فانظري لمن الخيار
ولا تستبدلي مني دنيًا ... ولا برمًا إذا حب القتار
يهرول في الصغير إذا رآه ... وتعجزه ملماتٌ كبار
فمثل تأيم منه نكاحٌ ... ومثل تمؤلٍ منه افتقار
فاختارت وردًا فتزوجته على كرهٍ منها.
وعن عثمان بن عمارة بن حريم المري قال: خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون، فدللت عليه وعلى محلته، فلقيت أباه شيخًا كبيرًا وحوله إخوةٌ للمجنون مع أبيهم رجالًا؛ فسألتهم عنه فبكوه، وقال الشيخ: أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعًا، وإنه عشق امرأةً من قومه والله ما كانت تطمع في مثله، فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما، فزوجها غيره، وكان أول ما كلف بها يجلس إليها في نفرٍ من قومها فيتحدثون كما يتحدث الفتيان، وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب، فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضةً، فتعرض عنه وتقبل على غيره، وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فظنت به ما هو عليه من حبها، فأقبلت عليه يومًا وقد خلت فقالت:
(1/494)
________________________________________
كلانا مظهرٌ للناس بغضًا ... وكل عند صاحبه مكين
وأسرار الملاحظ ليس تخفي ... إذا نطقت بما تخفي العيون
فخر مغشيًّا عليه ثم أفاق فاقدًا عقله، فكان لا يلبس ثوبًا إلا خرقه ولا يمشي إلا عاريًا ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله، فإذا ذكرت له ليلى أنشأ يحدث عنها عاقلًا ولا يخطئ حرفًا، وترك الصلاة، فإذا قيل له: ما لك لا تصلي! لم يرد بحرفًا، وكنا نحبسه ونقيده، فيعض لسانه وشفته، حتى خشينا عليه فخلينا سبيله فهو يهيم.
وعن هشام ابن الكلبي عن أبيه: أن أبا المجنون وأمه ورجال عشيرته اجتمعوا إلى ليلى فوعظوه وناشدوه الله والرحم، وقالوا له: إن هذا الرجل لهالكٌ، وقبل ذلك ففي أقبح من الهلاك بذهاب عقله، وإنك فاجعٌ به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك، فوالله ما هي أشرف منه، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكمك في المهر، وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل، فأبى وحلف بالله وبطلاق أمها إنه لا يزوجه إياها أبدًا.
وقال: أفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأته أحدٌ من العرب، واسم ابنتي بميسم فضيحة فانصرفوا عنه، وخالفهم لوقته فزوجها رجلًا من قومها وأدخلها إليه، فما أمسى إلا وقد بنى بها، وبلغه الخبر فأيس منها حينئذٍ وزال عقله جملةً، فقال الحي لأبيه: أحجج به إلى مكة وادع الله عز وجل له، ومره أن يتعلق بأستار الكعبة، فيسأل الله يعافيه مما به ويبغضها إليه، فلعل الله أن يخلصه من هذا البلاء، فحج به أبوه.
فلما صاروا بمنى سمع صائحًا في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخةً، ظَنّوا أن نفسه قد تلفت وسقط مغشيًّا عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل اللوان ذاهلًا، فأنشأ يقول:
(1/495)
________________________________________
عرضت على قلبي العزاء فقال لي ... من الآن فاياس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح نائيًا ... فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منىً ... فهيج أطراب الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرًا كان في صدري
دعا باسم ليلى ظلل الله سعيه ... وليلى بأرضٍ عنه نازحةٍ قفر
ثم قال له أبوه: تعلق بأستار الكعبة واسأل الله أن يعافيك من حب ليلى، فتعلق بأستار الكعبة. وقال: اللهم زدني لليلى حبًّا، وبها كلفًا ولا تنسني ذكرها أبدًا، فهام حينئذٍ واختلط فلم يضبط. قالوا: فكان يهيم في البرية مع الوحش ولا يأكل إلا ما ينبت في البرية من بقل، ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وطال شعر جسده ورأسه وألفته الظباء والوحوش فكانت لا تنفر منه، وجعل يهيم حتى يبلغ حدود الشأم، فإذا ثاب إليه عقله سأل من يمر به من أحياء العرب عن نجدٍ، فيقال له: وأين أنت من نجد! قد شارفت الشأم! أنت في موضع كذا، فيقول: فأروني وجهة الطريق، فيرحمونه ويعرضون عليه أن يحملوه وأن يكسوه فيأبى، فيدلونه على طريق نجد فيتوجه نحوه.
ذكر الهيثم بن عدي عن أبي المسكين، قال: خرج منا فتى خرج منا فتىً حتى إذا كان ببئر ميمونٍ إذا جماعة فوق بعض تلك الجبال، وإذا معهم فتىً أبيض طوال جعد كأحسن من رأيت من الرجال على هزالٍ منه وصفرةٍ، وإذا هم متعلقون به، فسألته عنه، فقيل لي: هذا قيسٌ المجنون خرج به أبوه يستجير له بالبيت، وهو على أن يأتي به قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدعو له هناك لعله يكشف ما به، فإنه يصنع بنفسه صنيعًا يرحمه منه عدوه، يقول: أخرجوني لعلي أتنسم صبا نجدٍ، فيخرجونه
(1/496)
________________________________________
فيتوجهون به نحو نجدٍ، ونحن مع ذلك نخاف أن يلقي نفسه من الجبل، فإن شئت الأجر دنوت منه فأخبرته أنك أقبلت من نجدٍ، فدنوت منه وأقبلوا عليه فقالوا له: يا أبا المهدي، هذا الفتى أقبل من نجد، فتنفس تنفسةٍ ظننت أن كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألني عن وادٍ وادٍ وموضعٍ موضعٍ، وأنا أخبره وهو يبكي أحر بكاءٍ وأوجعه للقلب، ثم أنشأ يقول:
ألا ليت شعري عن عوارضتي قنًا ... لطول الليالي هل تغيرتا بعدي
وهل جارتانا بالبتيل إلى الحمى ... على عهدنا أم لم تدوما على العهد
وعن علويات الرياح إذا جرت ... بريح الخزامى هل تهب على نجد
وعن أقحوان الرمل ما هو فاعلٌ ... إذا هو أسرى ليلةً بثرىً جعد
وهل أنفضن الدهر أفنان لمتي ... على لاحق المتنين مندلق الوخد
وهل أسمعن الدهر أصوات هجمةٍ ... تحدر من نشزٍ خصيبٍ إلى وهد
وقد اختلف الناس حول وجود المجنون، منهم من يثبت هذا الوجود ومنهم من ينكره، ويرى أنه لم يكن هناك شخص اسمه مجنون ليلى أو قيس بن الملوح، ومن القائلين بأنه شخصية حقيقة الدكتور محمد غنيمي هلال، الذي يؤكد أنه لا يجد فيما قاله عنه المشككون من الرواة دليلًا يقطع بعدم وجوده، وإن كانت بعض أخباره يظهر فيها التمحل والاختراع أو المبالغة والإسراف.
ولكن متى كانت المبالغة في الأخبار دليلًا على عدم وجود صاحبها، ومعروف أن كل من نبغ في أمر أو شذ فيه يحاط كما يقول هلال بهالة من الأساطير في حياته أو بعد مماته، وبخاصة أن أخبار المجنون قد وصلت إلينا عن طريق الرواية، والروايات تصيب وتخطئ، ولا ينبغي أن نتخذ الخطأ في بعضها ذريعة لإنكارها كلها، وإلا لتعارضت أكثر شخصيات عظماء التاريخ للشك فيها. وهذا الكلام موجود في كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال: (دراسات أدبية مقارنة).
(1/497)
________________________________________
وأيًا ما يكن الحق في أمر هذا العاشر، فإن قصته قد أصبحت قصة عالمية إذ انتقلت عبر الآداب المختلفة، وشغلت الأدباء والدارسين شغلانًا كثيرًا حتى اليوم، بوصفه نموذجًا للمحب الموله اليائس، الذي لا يرعوي مع هذا عن حبه ولا يستطيع، بل يظل هائمًا هيمان حتى يفقد عقله من هذا الحب، غير مبال بشيء من الاعتبارات الاجتماعية أو الدينية، إذ هو مغلوب عن أمره لا يقدر على شيء، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولم يكن في وسعه أن يصنع شيئًا إزاء هذا الوله الذي دمره تدميرًا، دون أية بارقة من الأمل.
لقد تحول الحب لهذا النموذج الإنساني إلى حب من أجل الحب، حب لا ثمرة له ولا انتظار لأية ثمرة منه، ومع هذا يظل الحب مستمرًا؛ لأن صاحبه لا يمكنه إيقافه إلا أن كل من تناول قصة المجنون وصنع منها عملًا أدبيًّا قد تناولها بطريقته هو، وضمنها ما يريده هو من أفكار وما يريد أن يخلع عليها من عواطف ومشاعر وما يريد أن يضمنها من قيم ومبادئ.
ومن الأمر العجيب أن قصة المجنون -رغم تشكيك بعض الباحثين في تاريخيتها- قد حظيت باهتمام بالغ في الآداب والفنون غير العربية ربما لم تحظ به أي قصة عربية سواها، نقرأ مثلًا مقال إبراهيم العريس بجريدة الحي اللبنانية بتاريخ الرابع عشر من ديسمبر سنة ألفين وتسعة عنوانه: "ألف وجه لألف عام مجنون ليلى على الطريقة الفارسية صورة حضارات مشتركة"، نقرأ أن حكاية المجنون وغرامه بليلى هي بالتأكيد عربية إذن.
(1/498)
________________________________________
ولكن من الواضح في الوقت نفسه أن شعوبًا أخرى وكتابًا آخرين من غير العرب قد اشتغلوا عليها وطوروها وحولوها إلى أجزاء من تراثهم الأدبي والعاطفي، وربما أكثر من هذا طوال القرون التي تلت ظهورها في المحيط العربي.
صحيح أن حكاية مجنون ليلى، أو ليلى والمجنون أعيد إليه الاعتبار -عربيًّا- في القرن العشرين فحولت مثلًا إلى مغناة رائعة لحنها وغناها محمد عبد الوهاب وأسمهان في صيغة اشتغل عليها أحمد شوقي مازجًا أشعارًا حديثة بأشعار القديمة من منسوبة إلى قيس بن الملوح المعروف بالمجنون، كما حولت إلى مسرحيات وأفلام سينمائية كان منها فلمًا للتونسي "الطيب الوحيشي" إضافة إلى استلهامها في أعمال أديبة حديثة عدة.
ولكن في المقابل ظلّ الإهمال من نصيب هذا العامل المتميز في العالم المعرفي في وقت كان العالم كله يستلهمه، أو يأممه أو يصوغ على منواله أعمالًا تقترب أو تدن بحسب الظروف أو بحسب الثقافات، ومن هنا مثلًا نجد مخرجًا أرمينيًّا جورجيًّا مثل "بارك جانوف" يُحقق أكثر من فلم تلوح من خلاله الحكاية نفسها؛ عاشق غريب مثلًا.
بل إننا لو تبحرنا في آداب شعوب عدة لم يفوتنا أن نرى الحكاية ذاتها تتكرر لاسيما في مناطق وسط أسيا التي نعرف أنها تأثرت كثيرًا بالحضارة العربية وأثرت فيها.
ثم يمضي العريس قائلًا: وفي هذا السياق تحديدًا يكون لافتًا أن نذكر أن الثقافة الفارسية بالتحديد وعلى قلم ولسان بعض كبار شعرائها وكتابها كانت من أكثر ثقافات العالم اهتمامًا بهذه الحكاية شعرًا ورواية ورسمًا، حتى إلى درجة يمكن معها القول: إنّ فارس كانت هي لا الثقافة العربية المكان الذي حفظ الحكاية
(1/499)
________________________________________
على مر العصور، ومن دون إنكار لأصولها العربية على أي حال، وإذ نذكر فارس وثقافتها بهذا المجال يصبح لا بد لنا من أن نتوقف عند اثنين من كبار شعراء الفرس اهتمامًا بحكاية ليلى والمجنون واشتغلا عليها، وهما: نظامي، وجامعي: الأول خلال القرن الثاني عشر، والثاني خلال القرن الخامس عشر الميلاديين.
كما يصبح لا بد لنا من التوقف عند عدد من كبار رسامي المنمنمات الفارسية من الذين أنفقوا وقتًا وجهدًا كبيرين لتحقيق رسوم رائعة تصور بعض فصول الحكاية، ومن أبرزهم: أغا ميراك، ومرسي العلي، ومرزى علي، والشيخ محمد، وإن بقيت رسوم أغا ميراك هي الأجمل؛ إذ ارتبطت بالصيغة التي كتبها نظام للحكاية.
ثم يُفصل الكاتب الأمر قائلًا: إن الباحثين يذكرون أن نظامي وجامعي اشتغلا على الحكاية نفسها من ناحية الأحداث، ولكن ثمة فارقًا كبيرًا بين عمل الأول وعمل الثاني؛ ذلك أن نظامي المتوفى في العالم ألف ومائتين واثنين أعاد صوغ الحكاية كما هي، أي: أنّه ركز على أحداثها الظاهرة، وبعدها العاطفي واقفًا مع حق الإنسان في الحب، مدينًا الأهل الذين سعوا بكل جهدهم كي يحولوا دون تحقق اللقاء بين ******ين.
أما جامعي فإنه استخدم الحكاية في صورة رمزية خالصة كي يتحدث من خلالها عن الحب الإلهي بصيغة صوفية، حيث إن العاشقين يمثلان هنا بالنسبة إليه ذلك الحب السامي الذي تتفانى من خلاله الروح لكي تذوب في الذات العليا.
والحال: أنّ هذين البُعدين المختلفين الذين أسبغا على الحكاية نفسها في الثقافة الفارسية، إنما يعبران خير تعبير عن المزاج العام الذي كان يعتبر في فارس، كل حقبة من الحقبتين اللتين عاش في أولهما نظامي، فيما عاش جامعي في ثانيتهما.
(1/500)
________________________________________
ففي عصر نظامي كان شيء من الفكر المادي الدنيوي يسيطر أيام ازدهار الأوضاع الاقتصادية، وبدء ظهور النزعات الإنسانية وصولًا إلى انتشار الدعوات الواقعية، التي تتعاطى مع شئون الحياة الدنيا.
أما في عصر جامعي فكان ثمة نقوص في اتجاه الغيبيات والصوفية كرد على ما انتاب الأمة من تفكك، وعلى ذلك الغرق السابق في الشهوات والدنيويات.
وإذا كان العملان قد لاقيا رواجًا واستحسانًا لدى أجيال متعاقبة من القراء في بلاد الشرق، فإن ما يجب لفت النظر إليه هنا هو أن التعامل العام معهما كان واحدًا حيث إن البعد الصوفي السماوي لقصيدة الجامعي ظل بعيدًا من تفسير القراء العاديين، ومن هنا تم التعامل معها دائمًا من منطلق شعبي كتطوير لغوي لا أكثر لقصيدة النظامي، ذلك أن لغة الشعر كانت قد تطورت حقًّا خلال المائتي عام التي تفصل بين زمن الأول وزمن الثاني.
ومع ذلك لم يغيب عن بالنا هنا أن القصيدة التي كتبها النظامي حظيت دائمًا بشهرة أكبر، وبقبول أعم لدى القراء الفرس، ونظامي اكتفى -كما أشرنا- بصوغ الحكاية كما هي في التراث العربي القديم، الشاعر الجاهلي قيس بن الملوح الذي سيلقب لاحقًا بالمجنون يعيش حبًّا رائعًا مع حبيبته البدوية مثله ليلى، وهو هنا عند نظامي ابن ملك من ملوك الجزيرة العربية؛ لكن انتمائه الملكي لم يسهل عليه الحصول على يدها؛ ذلك أن أهل ليلى كانوا يعيشون عداوة حادة مع أهل قيس؛ لذلك يرفضوا تزويجه ابنته؛ فيجن قيس ويشعر عداوة وألم شديدين، يدفعانه إلى محاولة اختطاف ليلى بالقوة، غير أن محاولته تفشل، فلا يكون كما هو حال الشنفرى وغير من الشعراء الهامشيين الصعاليك إلا أن يتوجه إلى الصحراء ليعيش فيها وحيدًا مع حيواناتها الضارية التي ستكون أكثر حنوًا عليه
(1/501)
________________________________________
من البشر، ومع مناخاتها المتقلبة التي سيمكنه احتمالها أكثر من احتماله غلاظة البشر.
في تلك الأثناء يتكون ليلى تزوجت من شخص آخر، غير أنها أبدًا لا تنسى حبها لقيس، بل إنه صار يحدث لها بين الحين والآخر أن تهرب سرًّا إلى الصحراء، حيث توافي حبيبها في وحدته ووحشتها، ولاحقًا حين يموت زوجا توافيه الصحراء لتتحد حياتها بحياته نهائيًّا، ويتزوجان هناك بالفعل؛ لكن ليلى سرعان ما تموت فما يكون منه إلا أن يلحق بها إلى القبر، حيث يوحد الموت والشجن بينهما، كما ستكون حال روميو وجوليت بعد ذلك بقرون عدة.
قصيدة نظامي هذه تعتبر إذن من عيون الأدب الفارسي، ولكن في الوقت نفسه لا تقل عنها أهمية تلك الرسوم الرائعة التي أعطت فن المنمنمات الفارسية ألقى هو جماله عبر العصور، ولا تزال محفوظة حتى يومنا هذا كدليل حي على ارتباط فن الرسم بالفنون الأدبية في الحضارة الإسلامية، ليس بالضرورة العربية التي طالما اعترض بعض غلاة مفكريها المحافظين على أنت تشمل إبداعاتها رسم أشخاص.
ومع هذا لم تخل بدورها من رسوم عرفت طريقها إلى العيون والعقول، وحفظت عبر التاريخ، حتى من دون أن تصل إلى روعة إبداعات الرسوم المنمنمات الفارسية والماغولية، التي لا شك في أن العدد الأكبر منها يمكن اعتباره دائمًا تحفًا فنية تضاهي أروع ما أنتجته الإنسانية من لوحات غرامية "رومانتيكية". انتهى كلام الكاتب.
لكن لي تعليقًا سريعًا على وصفه للمجنون بأنه شاعر جاهلي وهو وصف غير صحيح؛ إذ المجنون إنما ينتمي كما رأينا إلى العصر الأموي لا الجاهلي ولا حتى إلى عصر صدر الإسلام.
(1/502)
________________________________________
هذا ولا يقتصر أثر قصة ليلى والمجنون على الأدب الفارسي، وهو ما يزيد إيضاحًا ما كتبه خالد محمد أبو الحسن في دراسة له على المشباك -أي: الإنترنت- بعنوان: التناص السردي في ليلة والمجنون لفضول البغدادي ومنوزين لأحمدي خاني، يقول فيها: "لا شك أن قصة ليلى والمجنون نالت اهتمامًا بالغًا من شعراء الإسلام على اختلاف لغاتهم، ولإن كان تنوع موضوعها قد اختلف من شاعر لآخر فإن ذلك يجعل الموضوع أكثر إثارة.
والجدير بالذكر أنّ هذا الموضوع لاقى اهتمامًا كبيرًا أيضًا من الكتاب والباحثين، وتنبع أهميته من كونه موضوعًا يربط بين جل الآداب الإسلامية، ولعل القواسم المشتركة بين الآداب الإسلامية التي انبثقت من التمازج المشترك بين هذه الشعوب منذ العصور التاريخية القديمة، ثم ازدادت إحكامًا وارتقاءً حضاريًّا بعد الإسلام، أوجدت لنا أرضًا خصبة من الحوار الأدبي المتضامن لإثارة قضية صوفية كبرى هي قضية العشق الإلهي.
وتعتبر قصة عشق قيس بن الملوح مجنون بني عامر ليلى العامرية التي بدأت عند العرب في شكل الحب العذري، أعظم قصص الحب في الآداب الإسلامية وإن اختلف مضمونها من أدب لآخر، وإذا كانت قصة المجنون عند العرب تجسد أخبارًا مثيرة تناقلها الناس، فإنها لقيت لدى أدباء إيران على سبيل المثال رواجًا لا نظير له، ثم اتخذت شكل العمل الأدبي المتكامل بعد أن كانت مجرد أخبار متفرقة تعبر عن الحرمان والعذاب والمعاناة والعشق، ومن ثم كان الحب العذري منطلقًا إلى الحب الصوفي في الأدب الصوفي وهذا ما ظهر في صنيع نظامي.
(1/503)
________________________________________
هكذا أدى الحب العذري والحرمان فيه إلى إثارة خيال المتصوفة وأوقد ذاكرتهم؛ فأبْدَعت أفكارًا شتى دخل في العرفان الصوفي الفارسي من الباب الواسع، ومِنْ ثَمّ أخذت تنتقل إلى الأدب العربي فنتج عنها قواسم مشتركة فنًا وفكرًا.
ثم يمضي الكاتب موضحًا أن الأمر لم يقتصر على الأدب الفارسي بل تجاوزه إلى سواه من الآداب الإسلامية الأخرى فيقول: "أما الآداب الإسلامية الأخرى -الأدب التركي الإسلامي على سبيل المثال- فقد حاولت في بداية الأمر أن تقلد الفرس في نظم كبار شعرائهم لهذه القصة، إلا أن هذا التقليد لم يحجب روح الإبداع عن هؤلاء فقد حاول بعض الأتراك أن يجدد في القصة من حيث الشكل والمضمون، كما أن ما نظموه في ليلى والمجنون لا يعد قليلًا أضف إلى ذلك أنه كان يكتسب المقدرة على نثر تلك القصة وتصويرها في شكل أدبي متقن.
ولكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن هو: هل وقفت قصة ليلى والمجنون عند حدود المبدعين من العرب والفرس والترك؟
لعل الإجابة على هذا السؤال تنطلق من عمق الثقافة الإسلامية واتساع آدابها، وأعتقد أنه إذا ما خرجنا عن دائرة الآداب الإسلامية الثلاثة العربية والفارسية والتركية، سوف نتعرض لآداب إسلامية أخرى تزيد من الثقافة الإسلامية عمقًا وتعطينا القدرة على فهم المجتمعات الإسلامية المتعددة.
ولعل الأدب الكردي الإسلامي من الآداب الإسلامية الكثيرة لا بد أنه يجتنب بداخله قصة ليلى والمجنون وغيرا من القصص المنسية نظرًا للظروف السياسية، أو ربما لعدم معرفة بعض الدارسين لمثل هذه الثقافات المهمة التي ما يلبث أن يتركها الباحثون المسلمون حتى ينقض عليها باحث الغرب ليُظهروا
(1/504)
________________________________________
لأصحاب هذه الثقافات والآداب الإسلامية المنسية تناسي ذويهم من المسلمين لهم، أو ربما يظهرون لهم احتقار ذويهم لهم ولثقافاتهم.
وقد ذَكَر الباحثُ في أحد هوامشه بعض الأسماء الإسلامية التي اهتمت بتلك الحكاية فقال: "من الذين نظموا ليلى والمجنون من الفرس والترك: نظامي الكانجوي، والجامي، وخصرو الدهلوي، وعلي الشرنوائي، وأحمدي، وغيرهم من كبار شعراء الفرس والترك".
وهكذا يتبين لنا من خلال هذه العجالة الانتشار الواسع لقصة المجنون في الآداب الإسلامية، وصورة والمعاني المختلفة التي اكتسبتها في تلك الآداب، وكذلك المناهج النقدية التي تمت دراستها من خلالها، وإن الإنسان ليستغرب من تلك المفارقة العجيبة التي تحيط بهذه الحكاية؛ إذ بينما يشكك في حقيقتها التاريخية نفر من الباحثين نراها وقد تمردت على هذا الإنكار والتكشكيك، وانطلقت بكل عنفوانها تكتسح الحدود بين الآداب الإسلامية وغير الإسلامية أيضًا غير مبالية بشيء مما يجعلنا نتسائل:
وماذا لو لم تكن تلك الحكاية محل تشكيك وإنكار؟!
أتراها كانت تكون أقوى اكتساحًا وأوسع انتشار واندياحًا؟
أم تراها لم تكن لتحظى بكل هذا الشيوع الذي لاقته والعشق الذي اجتازته؟! ألا إن هذا لمن عجائب الأقدار.
هذا في الأدب الفارسين، أما عند الباكستانيين والهنود، فجاء في النسخة الإنجليزية من الوكيبيديا أن هناك اعتقادًا في الهند بأن ليلى والمجنون قد التجئا إلى قرية هندية من منطقة راجاستان قبل أن يلفظا نفسهما الآخير، وأن قبريهما موجودان في قرية بيجنور الواقعة في سريجاندادار.
(1/505)
________________________________________
وطبقًا لأسطورة ريفية فإن ليلى والمجنون فرا إلى تلك المناطق حيث ماتا هناك، وحيث يحج كثير من العرسان والعشاق من الهند وباكستان، ويقضون يومين، رغم عدم وجود الفنادق بذلك المكان.
وهناك رواية ثالثة توردها الوكيبيديا الإنجليزية تقول: إنّ المُحِبّين قد التقيا في المدرسة، فوقَع المجنون في حب ليلى، ولم يفلح ضرب الناظر إياهما في صرفه عن الانشغال به بدلًا من تأدية واجباته المدرسة، فضلًا عن إنه كلما ضربه سال الدم من ليلى تألمًا له، وحين علمت أسرتهما بالأمر اشتبكتا في عراك، ورغم إبعاد المحبين في طفولاتهما كل عن الآخر التقيا مرة أخرى في شبابيهما إلا أن أخاها تبريز -غيرة منه على سمة الأسرة وشرفها- ذهب إلى المجنون احتدم بينهما الجدال فما كان من المجنون الذي كان قد فقد عقله إلا أن قتله، فقبض عليه، وحكم عليه بالرجم.
لكن ليلى التي لم تستطع أن تتحمل الآمر أعلنت أنها مستعدة بالزواج بغيره إذا ما عفي عنه، وبناء عليه فقد تزوجت ليلى برجل آخر، إلا أن قلبها ظل ينبض بحب المجنون مما أزعج زوجها، حيث ذهب إلى المجنون -حيث كان يعيش في الصحراء- وقتله بالسيف في نوبة غيرة شديدة، ويقال: إن المحبين قد دفنا في قبرين متجاورين، بل تقول الأسطورة: إنهما قد التقيا مرة أخرى في السماء حيث عاشا يحب كلاهما الآخر إلى الأبد.
أما الأدب الأذري، فنجد أن ملحمة ليلى والمجنون قد دخلته في القرن السادس عشر على يد فضولي الذي استعارها منه الملحن الأذري أوزير حازب يوف، وحولها إلى أوبرا عرضة له
(1/506)
________________________________________
أول مرة سنة ألف وتسعمائة وثمان، كما تقول "الوكيبيديا"، وبالإضافة إلى هذا فإن الحكومة الأذرية، أخذت مشهدًا من أحد الأبيات في مسرحية شوقي المسماة: مجنون ليلى وصكتها على ظهر عملة تذكارية أصدرتها بمناسبة الاحتفال بعيد الخمسمائة لفضولي وأعماله.
وتمضي مقالة "الوكيبيديا": إن القصة الأصلية واضحة الحضور في الكتابات الصوفية لنبي مزعوم بهاء الله كما هو الحال مثلا في نص الأودية السبعة.
وفي تركيا حين يريدون أن يصوروا الحب المبرح الذي يفقد صاحبه عقله يقولون بالعامية: إن فلان الفلاني يشعر مثل ليلى.
كذلك ترجمة الملحمة إلى الإنجليزية على يد إسحاق مزرائيلي في العام الأخير من القرن التاسع عشر، وهو ما وسع دائرة المعجبين بهذه القصة وبطليها، وفي كثير من الأعمال السيئ السمعة "ألستر كورولي" تقابلنا هذه القصة وبخاصة في كتابه المسمى: " the book of lies " كتاب الأكاذيب.
وتمضي "الوكيبيديا" فتُشير إلى استحاء كلابتن من قصة ليلى والمجنون عنونها الألبوم المسمى: " Lila and other assorted love songs "، بل إن الأغنية المسماة: " I am yours " إنما هي اقتباس مباشر لمقطع " Lila and magnon ".
وهناك أفلام هندية كثيرة قامت على قصة ليلى والمجنون بدأ من عام ألف وتسعمائة وعشرين، بل إن هناك فلمًا عرض سنة ألف وتسعمائة وست وسبعين باسم: ليلى مجنون، وكثيرًا ما يطلق اسم ليلى والمجنون على أي حبيبين.
أما المجنون فيلقب به المحب المتوله الذي لا يملك زمام عاطفته ولا يستطيع التخفيف من غلوائها.
(1/507)
________________________________________
وفي محطة من محطات المترو في طشقند في أوزبكستان نجد كتابة على لوحة تشير إلى هذه القصة ... إلى آخره.
وفي عدد من من المواقع "المشباكية"، وعلى الفيس بوك كلام كثير عن ليلى والمجنون بلغات مختلفة كتبه ويكتبه قراء عاديون مما يدل على اهتمام شديد من قبلهم بهذين المحبين اللذين تحولا إلى نموذج إنساني في الأدب وفي الحياة اليومية على السواء.
وثَمّ كتاب ألفه أندريه ميكيل، وبريسي كيم بعنوان: Magnon A Lila " lamorfw " وصدر بباريس عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، ويقول كاتب مادة: Magnon a Lila في النسخة الفرنسية من الوكيبيديا إن قصة ليلى والمجنون تشبه قصة روميو وجوليت.
ومن عجائب الأقدار أيضًا: أنّ أحدًا من العرب في العصر الحديث لم يحاول أن يستلهمها في عمل أدبي، إلى أن جاء عصرنا الحالي فوجدنا الأمر يأخذ منحًا جديدًا فهناك كتابًا مسرحيون اتخذوا من حياته وشخصيته وأخباره موضوعًا لأعمالهم، مثل: إبراهيم الأحدب، وسليم البستاني، وأبو خليل القباني، وإن لم يكن هناك ما يدل على أن تلك الأعمال قد طبعت ووضعت بين يدي القراء.
وكذلك محمد منذر خيل الله الذي وضع مسرحية اسمها: مثلت على خشبة المسرح وطبعت عام ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين، ثم عندنا أحمد شوقي الذي ألف مسرحية "مجنون ليلى"، وتقيد فيها إلى حد بعيد بالرواية القديمة عن قيس وليلى، واقتبس كثيرًا من عبارات تلك الروايات ومن عبارات شعر المجنون، مع شيء من التحوير الشفاف، ولدينا كذلك مسرحية لصلاح عبد الصبور اسمها ليلى والمجنون، تجري في بيئة عصرية، إذ تقع حادثه في مبنى صحيفة من الصحف
(1/508)
________________________________________
القاهرية تشتغل فيها ليلى كاتبة لا راعية بدوية من بدو نجد في بلاد العرب في عصر بني أمية.
وفي المسرحية تقوم ليلى وبعض زملائها بتمثيل مسرحية ليلى والمجنون لأحمد شوقي كنوع من دفع الملل من خلال القيام بشيء يختلف عما يفعلونه كل يوم، وإن لم ينطقوا في المسرحية من شعر أمير الشعراء إلا بعد الأبيات القليلة.
وتنتهي المسرحية برسالة من سعيد حبيب من خلف القطبان عبارة عن ترنيمة للعام الجديد، يأمل فيها أن يختفي جيله الذي يكتفي بالكلام والنضال الشفوي ضد الفساد، ويأتي بدل منه جيل جديد يعمل ويحمل السيف؛ بل إنه لا يمكن النظر إلى ليلى في المسرحية على أنها رمز لمصر طبقًا لما قاله الدكتور حسين علي محمد الذي كتب أن الشاعر قد جعل منها رمزًا لمصر، أما مفاجئة حبيبها سعيد الله في بيت الجاسوس فتأويلها حسبما يقول الناقد سقوط مصر فريسة للحكم البوليسي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/509)
________________________________________
الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب.
(1/511)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع عشر
(تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب)

أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر
درسنا تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب، وهو مجال آخر من مجالات الأدب المقارن.
والمقصود به: ما يكتبه المؤلفون في كل أدب، وتأثيره على كتاب أو على بيئة أو جنس من البيئات، والأجناس الأدبية في بلد آخر، سواء كانت هذا التأثير لكاتب فرد، أو لطائفة من الكتاب.
ونقطة البدء في هذا البحث: أن نأخذ كاتبًا ما، أو جماعة من الكتاب، أو أدب أمة بأثره، بوصفه مركزًا للإشعاع والتأثير ثم نبحث عن صلتهم بكاتب أو بمذهب أدبي أو بأدب أمة بأثرها بوصفه مركز انعكاس للتأثير، وربما لا نستغني عن اعتبار بعض الكتاب الآخرين وسطاء بين هذا الطرف وذاك، وهؤلاء الوسطاء يلعبون دورًا هامًا في التأثير والتمهيد له بأفكارهم ونقدهم.
وأوّل ما يلفت نظرنا، ويدفعنا إلى استطلاع معالم الصراط الأدبية، هو التشابه في النصوص لكاتبين أو لعدد من الكتاب في آداب مختلفة تشابهًا يجعلنا نَظُنّ أنّ هُناك صلات بين هؤلاء الكتاب، صلات تأثير وتأثر بطبيعة الحال.
ومِن ثَمّ ينبغي على الباحث الكشف عن تلك الصفات وتحديدها، وأول شيء ينبغي الوقوف له أمامه هو تاريخ صدور النصين؛ ليعرف من منهما السابق ومن منهما اللاحق، وقد يغني عن كل ذلك نص واضح من المؤلف يعترف فيه أنه حاكى أو تأثر أو أعجب بأفكار هذا الكاتب الأجنبي أو ذاك، ويكون هذا الاعتراف مفتاح البحث المثمر الأكيد.
(1/513)
________________________________________
هذا ما يقوله الدكتور محمد غنيمي هلال -رحمه الله- ولكن لي تعليقًا على هذا وهو: أن بعض الكتاب ربما لا يقول الحقيقة لسبب أو لآخر، فقد يحاول بعضهم أن يتفاخر بأنه مطلع على أعمال الأديب الفلاني أو غيره على حين أنه لم يطلع على شيء من ذلك، ربما سمع به، ربما كون انطباعًا عامًا عنه، لكنه يريد إيهام القارئ بأنه يعرفه معرفة جيدة، ومن ثم فحتى لو افترضنا أنه قال: إنه قد تأثر به وقرأه وهضمه وما إلى ذلك، فعلينا ألا نأخذ هذا مأخذ التسليم بل لا بد من أن نضعه تحت مجهر البحث لنتأكد بأنفسها.
وإذا لم يكن هناك نص صريح نستدل به على التأثر الأدبي، وجب التثبت من معرفة قرائن أخرى لإثبات الصلات التاريخية بين الأدباء، فقد يكون التشابه بين النصين خادعًا، فيظن الباحث أنه ثمرة التأثر الأدبي، وما هو في الواقع إلا نتيجة لملابسات متشابهة أوحت بنفس المعاني للكاتبين بدون قيام صلة أدبية بينهما، أو نتيجة حركة فكرية أو اجتماعية عامة، نتج عنها اتحاد اتجاه الكاتبين.
بل قد يكون التشابه الأدبي نتيجة مصادفة أو من المواضيع المشتركة بين القرائح الإنسانية، وهذا صحيح؛ لأنّ البشر على اختلاف أوطانهم وأديانهم وأجناسهم وظروفهم، وأزمانهم، هم في نهاية المطاف بشر؛ مواهبهم واحدة، واهتماماتهم واحدة، وهمومهم واحدة، وآمالهم واحدة ... إلى آخره.
وقد يكون من المهم تمييز الأسباب المُختلفة التي أدت إلى التشابه بين الكتاب في الآداب المختلفة، غير أن الوقوف عند مجرد التشابه دون أن تكون هناك صلة تاريخية ليست له أهمية في الدراسات المقارنة"، وهذا كلام الدكتور محمد غنيمي هلال مرة أخرى، وهو صحيح إذا كنا نبحث في مجال التأثير والتأثر، أما إذا كنا نبحث في الأدب المقارن بوجه عام فهناك مدارس أخرى لا تشترط هذا الشرط،
(1/514)
________________________________________
يمكننا على اتجاه هذه المدارس أن ندرس طرفين أدبيين من أدبين مختلفين إذا كان هناك وجه شبه، أو كانت هناك اختلافات، أو أردنا أن نقارن بينهم من حيث القيمة الفنية، أو ما إلى ذلك.
ثم يمضي الدكتور محمد غنيمي هلال قائلًا: وبعد التأكد من قيام الصلاة التاريخية بين الأدبين، يجب أن يمهد الباحث لدراسة مظاهرها التفصيلية ببحوث عامة تسبق التفاصيل المستفادة من النصوص، وموضوع هذه البحوث هو بيان العوامل التي أدت إلى تكوين الصلات بين الكاتبين، أو بين الكُتَّاب، أو بين الآداب بحيث تحققت بفضلها تلك القرابة الأدبية وذلك اللقاح الفكري، ولا تنشأ في العادة صلات قوية بين الآداب إلا إذا سبقتها صلات سياسية، أو اجتماعية، أو فكرية بين شعوب تلك الآداب.
وأمامنا مثل واضح للصلات ذات الآثار البعيدة بين الأدبين: الإيراني والعربي بعد الفتح الإسلامي، فقد كان الغزو العربي فاتحة تنافس بين الشعبين لعبت فيه العناصر الفارسية دورها، إذ حقد الفرس على الدولة الأموية لعصبيتها العربية، وساعدوا العباسيين على إسقاطها، وعلى قيام الدولة العباسية التي حلت محلها، والتي كان لهم فيها نفوذ ضخمة، وما حديث أبي مسلم والبرامكة، وهزيمة الأمين على يد أخيه المأمون، وجيشه، وقيام الدويلات الإيرانية في ظل الخلافة العباسية إلا مظاهر لذلك النفوذ السياسي.
وينبغي ألا ننسى الإشارة -ولو إشارة عابرة- إلى حركة الشعوبية التي كانت مظهر للتنافس بين الشعبي في النواحي الأدبية والفكرية واللغوية، مع تعدد مشاعر هذا التنافس وعمق آثاره.
(1/515)
________________________________________
وقد دَفعت كل تلك العلاقات الشعبين إلى التقارب؛ ليتعرف كل منهما على الآخر، فتعلم كثير من الفرس لغة العرب، وتعلم بعض أدباء العرب لغة الفرس، وبدأ اللقاح الفكري واضحًا بين الأدبين، وذا فروع ثمار كثيرة، وكان التأثير العربي في الأدب الفارسي الحديث أقوى من التأثير الإيراني القديم في الأدب العربي.
ونُحب أن نوضح نقطة هنا حتى لا يساء فهم كلام الدكتور محمد غنيمي هلال في هذا الموضوع، بعد فتح بلاد فارس تبنى الفرس اللغة العربية، وأصبح الأدباء الفرس، والمفكرون الفرس يكتبون باللغة العربية، فكلامه عن تعلم كثير من الفرس اللغة العربية، ربما يفهم منه أن اللغة العربية كانت لغة أجنبية بالنسبة إلى هذا الشعب، لا، بل كانت لغته التي يكتب بها أدباؤه وشعراؤه وعلماؤه ومفكروه ... إلى آخره، ومن هنا نجد كثيرًا جدّا جدًّا من الأدباء والشعراء والمفكرين والعلماء الفرس يملئون مكانًا كبيرًا في التراث العربي.
وقد تكون العوامل التي ربطت بين أدبين أو بين كاتبين هي مجرد وسطاء مهدوا بكتابتهم للتعرف بالبلد أو بالأدب الذي يدعون إليه كما فعل "كارل ليل" في تعريف الإنجليز بالأدب الألماني، وكما فعل "فولتير" في الدعاية لـ"شكسبير"، وكما صنعت مدام "ديستايد" في تعريف الفرنسيين بألمانية وبالأدب الألماني، وكما فعل الشيوعيين عندنا في فترة العشرينات وفي نهاية الأربعينات عندما عرفونا على الأدب الشيوعي والفكر المركسي.
والكُتّاب من الرحالة عامل هام كذلك في هذا النوع من التأثير، وقد كانت إيطاليا كعبة الأدباء في عصر النهضة، وكان هذا سببًا في تعريف أوربا بالأدب الإيطالي، ويدخل في هذا عامل الكتاب الرحالة فيما تم من تأثير بين الأدبين العربي والفارسي كما يقول الدكتور هلال، فنشاط الرحلة بين البلدين بعد الفتح الإسلامي مضرب المثل، وقد آتى ذلك كثيرًا من الثمرات الأدبية، ويكفي أن
(1/516)
________________________________________
نشير في هذا السياق إلى الشاعر العتابي التغلبي الذي كان يرحل إلى إيران لكتابة النصوص الأدبية الإيرانية، وكذلك سعدي الكاتب والشاعر الفارِسي، الذي رحل كثيرًا قبل أن يكتب، وأودع مؤلفاته الخالدة ثمرة تجاربه واطلاعه.
وعِنْدنا كثيرٌ من الرحالة العرب في العصر الحديث، إذ كتبوا عن البلاد التي زاروها وعرفونا بأوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، كما عرفونا بآدابها، وبعضهم أردف ما كتبه في رحلاته إلى تلك البلاد بترجمة أشياء من آداب تلك البلاد، أو كتابة مؤلفاته عنها.
وبعد ذَلك يستطيع الباحثُ أنْ ينتقل إلى مسألة أخص، وهي الطريقة التي وصلت بها المعارف الأدبية إلى الأدب المتأثر، يا ترى هل وصلتها هذه المعارف عن طريق الترجمة؟ أو هل وصلتها عن طريق الاطلاع المباشر عليها في نصوصها الأصلية؟ وما نوع الترجمة التي اطلعوا عليها؟ أكانت وفية للنص؟ أم حدث فيها تصرف؟ وما قيمة ها التصرف؟ وما مسلك الكاتب المتأثر حياله؟.
ذلك أننا ينبغي أن نعرف أن الترجمات لا تؤدي النص الأصلية كما هو، بل كثيرًا ما تدخل عليه أشياء وأشياء، بقصد من المترجم أو غير قصد، فربما لا يَفهم المترجم النص الأصلي فيترجمه خطأ، وربما يكون ذا هوًا فيغير بعض ما فيه من أفكار وآراء، وقد يحذف منها أشياء، وقد يضيف إليها أشياء، وقد يرى أن ترجمة هذا النص لا يليق فيستغني عنه ... إلى آخره.
وقد راجعت بعض ترجمات القصص التي أرادت بها إحدى دور النشر أن تنشرها للناشئة العرب؛ فكنت ألاحظ أنه إذا كان هناك كلام على كأس من الخمر في حالة من الحالات استبدل بها المترجم كوبًا من عصير البرتقال مثلًا، وكانت حُجّتهم عندما فاتحتهم في هذا أنهم لا يريدون للنشء العربي المسلم أن
(1/517)
________________________________________
ينظر إلى شرب الخمر على أنه أمر طبيعي، وهنا النية طيبة لكن هناك أحيانًا نيات سيئة، ويقصد الكاتب التعمية على القارئ، فلذلك يغير في النص المترجم التغيير الذي يرى أنه يوصله إلى هدفه، سواء بالإضافة أو بالحذف أو بالتغيير أو ... إلى آخره.
ومن المعلوم أن الكاتب لا يهضم إلا ما يتفق مع ميوله وآرائه في الغالب، ولكن التأثير قد يكون قويًّا؛ فيُغَيّر هذه الميول ويحولها، أو يخلق ميولًا أخرى لتخلفها، ويتوقف كل هذا على قوة المؤثرات، وعلى البيئة الاجتماعية، وعلى مطالب العصر الذي عاش فيه الكاتب، وعلى الدور الذي يلعبه النقد الأدبي في العصر من حيث تنميته الاتجاهات والتيارات الجديدة، ومن حيث ترويجه للأدب المؤثر والترجمة منه، وعندنا مثل ابن المقفع الذي روَّج الأدبي الإيراني لدى العرب؛ ولذا يجب الاطلاع على آراء النقاد وعلى المجلات والجرائد التي هي مظنة لوجود آرائهم وبها نعرف اتجاهات العصر وميول الكتاب الأدبية.
وإذا راعينا حالات الأدب المؤثر -كما يقول الدكتور هلال- فإننا نقول: إنه قد يكون كتابًا أو جملة كتاب مشتركين في اتجاه واحد منتمين لمدرسة أدبية واحدة، وقد يكونون مختلفين، وقد يكون أدب أمية بأسره، ثم إن هؤلاء الكتاب قد يؤثرون بأشخاصهم كما أثرت شخصية "جان جاك رسو" بصراحته وفصاحته وحبه للإنسانية، ودفاعه عن حقوق الإنسان، وبشدة حساسيته، واحتدام عواطفه، حتى صارت شخصيته مثلًا يحتذى في ذاته، ويستشف من كتاباته.
وقد صارت هذه الشخصية ذات شهرة واسعة في الآداب الأوربية، وساعدت على الرواج لتأثيره فيها.
ومثلها شخصية "فولتير" الفيلسوف الفرنسي الساخر المتهكم، وكذلك شخصية "بايرون" الشاعر الإنجليزي الذي كان محل إعجاب بعض البيئات، بما يوحي به
(1/518)
________________________________________
من مظهر كأنه طريد السماء في الأرض، بالإضافة إلى عناده وقلقه الفكري، وتشاؤمه وسخريته اللاذعة.
وقد يكون تأثير الكاتب من جهة أخرى غير جوانبه الشخصية، فتختفي في هذه الحالة العناصر الفردية، التي تحل محلها الاتجاهات العامة من الأفكار والنواحي الفنية، والأجناس الأدبية، ثم نواحي الصياغة والأسلوب، ويمكن أن نضرب مثل برؤساء المذاهب الأدبية مثل: "هيجو"، و"زولا"، ويلحق به بهم في نوع تأثيرهم "جوته" و"شكسبير"، وقد تأثر الأدباء العرب في العصر الحديث ألوانًا من التأثير بهذه المذاهب الأدبية المختلفة.
وقد يَقْتَصِر التأثير على المواقف الأدبية والموضوعات في جملتها، كتأثير الأدب الإسباني في الأدب الفرنسي في العصر "الكلاسيكي" والعصر "الرومانتيكي"، إذ أهدى الأدب الإسباني إلى نظيره الفرنسي موضوعات عامة، ومواقف أدبية تُحْتَذى، ولكن الأدباء الفرنسيين عالجوها مع ذلك بطرقتهم، وأضافوا إليها من ذات أنفسهم ما خرجوا به عن تفاصيل أصولها في الأدب الإسباني، ذلك أن التأثير ليس معناه أن يقلد المتأثر المؤثر، تقليد القرود، والببغاوات؛ بل إنه يمتص منه ما يحتاج إليه وما يراه نافعًا، أو ما يقتنع به، ثم يهضمه، ويتمثله في دمائه الفكرية والأدبية، فيخرج من ناحية أخرى شيئًا مختلفًا قليلًا أو كثيرًا رغم اتحاده مع المصدر المؤثر في الخطوط العامة أو في بعضها على الأقل.
وقد تجتمع لشخصية ما مظاهر كثيرة من التأثير في فترة واحدة، أو على فترات متعاقبة كما هو الوضع في أدب "شكسبير" وشعر "بايرون" مثلًا، إذ أثر "شكسبير" بموضوعات مسرحياته أولًا، ثم بنواحيه الفنية لدى المدرسة "الرومانتيكية" الفرنسية، أما "بايرون" فقد أثر بشخصه، وبمسرحياته، وآرائه في الأدباء الفرنسيين، من أهل المدرسة "الرومانتيكية" أيضًا.
(1/519)
________________________________________
كذلك أثرت المواقف العامة المسرحية والشعرية في كُتابنا المحدثين صنوفًا من التأثير، وقد قلنا: إن نقطة البدء هي التشابه في نصين لكاتبين مختلفين تشابهًا لا يحتمل أن يكون سببه غير التأثير واللقاح الفكري نتيجة لتبادل الصلات التاريخية، والمقصود التشابه بمعناه الواسع الذي لا يقف عند حد الأفكار الجزئية أو المحاكاة المُباشرة.
فقد لا يهتم الكاتب الذي خضع للتأثير بمحاكاة أفكار سابقة له محاكاة مباشرة، بل يستفيد من الأثر الأدبي الذي أعجب به ويستلهمه روحه في مؤلفاته، وتتراء تلك الروح تفي الطابع العام الذي الذي يصبغ به فكرته، وقد ينعكس ذلك في مرآة شعره، أو في نوع الموضوعات التي يعالجها.
ومثل ذلك الشاعر الفرنسي "بودلير"، عندما تأثر بالكاتب الأمريكي "إدجر ألن بو" فإن الذي يريد أن يحدد مجال التأثير والتأثر بينهما لا يبحث عنه في تفاصيل أفكار، ولكن في الاتجاهات ونوع الخيال بصفة عامة، ويستعان بذلك بالمادة النقدية التي كتبت عن هذين المؤلفين، وعما أبدعاها، لكي يستطاع بعد ذلك إلى الوصول إلى القواعد العامة للصلات الفكرية والأدبية بينهما.
والكلام عن الاستعانة بالمادة النقدية التي كتبت حول الطرفين الأدبيين الذين نريد أن نقارن بينهما كلام مهم، ذلك أن الباحث المقارن لا يستطيع أن يقوم وحده بكل شيء، والحياة كلها تعاون، فأنا أمد يدي لمن حولي وهم بدورهم يمدون أيديهم إلي، وبهذا الطريقة نستطيع أن نبلغ أهدافنا وغاياتنا.
ومن الواضح -كما يقول الدكتور هلال- أن التأثر قد يكون في الجنس الأدبي، أو في الأفكار والإحساسات، أو في الناحية الفنية في الصياغة والأسلوب، أو في استعارة شخصية واحدة من مسرحية اشتهر صاحبها باختراع تلك الشخصية، كشخصية
(1/520)
________________________________________
السيد وخادمه المستعارين في الأدب الفرنسي، كما في "بوم مارشي" عن "سيرفانس" الإسباني في قصته المسماة: "دونكي خوتة".
ولا يصح أن تصرفنا أقوال كاتب وتصريحاته عن أن ننقدها لنرى مدى صدقها في ملكة خيال الكاتب الذي مكن أن يكون قد تأثر بها، فقد نق د "فولتير" "ويليم شكسبير" نقدًا شديدًا وقال عنه: إنه رغم عبقريته ليس عنده شيء من الذوق، يقصد الذوق الفني، وبالرغم من ذلك فإنه قد تأثر به، مثلًا نراه قد تأثر به في اهتمامه بالناحية التاريخية في مسرحياته، وفي استعارته منه للمواقف التي يتبادل فيها أبطاله ضربات الخنجر، وبجعله الأشباح بعضًا لشخصياته المسرحية. وقد حذر عبد الرحمن الجامي قراءه من الاطلاع على الفلسفة اليونانية رغم أنه هو قد تأثر بها تأثرًا عميقًا.
إذًا فالأدب المقارن يهتم بدراسة الصلة بين الكتاب أيًّا كان مظهرها، سواء كانت بالترجمة، أو بالتقليد، أو بإنتاج شخصي تظهر فيه ألوان التأثير من خضوع للكاتب المؤثر، أو تحويرها بما يتفق وذوق الكاتب أو مرور العصر، أو من تمرد عليه ... إلى آخره.
وفي عالم "الأدب الغربي" يُلاحظ الدكتور محمد غنيمي هلال أن البحوث التي تدخل في هذا الباب قد كثرت كثرة لافتة للنظر ومع ذلك؛ فإنه يكتفي بذكر بعض الأمثلة التي يمكن أن تكون مجالًا للدارسين، فمثلًا لقي كثير من كتاب العرب حظًا كبيرًا لدى أدباء الفرس، فتأثر هؤلاء الأدباء الفرس بهم تأثرًا عميقًا، ولكن كان هذا التأثر في صورة اتجاه عام أدبي أو فني، فنجد أن عبد الحميد الكاتب في العصر الأمور ومن تبعوه في الرسائل والإطناب فيها وصياغتها الفنية، قد أثروا بطريقتهم في هذا الجنس الأدبي في الأدب الفارسي.
(1/521)
________________________________________
وظهرت آثار ذلك التأثير واضحة كل الوضوح فيما وصلنا من الرسائل الفارسية الديوانية، وكذلك في الرسائل الشخصية، وأوضح مثل لذلك ما احتواه من رسائل كتاب (التوسل إلى الترسل) الذي جمعه بهاء الدين البغدادي في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي.
وهناك مثل آخر هو تأثير الهمذاني والحريري في القاضي حميد الدين البلخي، الذي تكلمنا عنه في دروس سابقة فقلنا: إنه احتذى بهذين الكاتبين في إبداع جنس المقامة في الأدب الفارسي، وإن لم يأت بعده من يواصل الطريق، فكان هو البداية وكان هو أيضًا النهاية، إذ لم يجد جنس المقامة في الأدب الفارسي مرتعًا خصبًا يساعده على البقاء والنمو.
وعندنا أيضًا تأثير "جوته" في الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي والأدب العربي، وقد ظهر أول تأثير لجوتة في الأدبين الأولين بظهور قصة "آلان فيرتر" سنة ألف وسبعمائة وأربع وسبعين ميلادية، التي تُرجمت إلى الفرنسية بعد ذلك بعامين، وإلى الإنجليزية بعد ذلك بخمسة أعوام، واستقبلت في هاتين اللغتين استقبالًا طيبًا وتعددت ترجماتهما، وكان لنجاحها أكبر تأثير فيما انتشر في ذلك العهد عند "الرومانتيكيين" بما يُسمى بداء العصر "لومال دوسيكل"، والمقصود به القلق الفكري وضيق النفس بمتاعب الحياة وشرورها.
وقد ظهر أثر ذلك في الأدب الفرنسي عند "شاتو بريان"، في شخصية "رينيه"، وعند "تشاترتون" في مسرحيته، وعند "ألفريد ديفنيه" في مسرحية "تشاترتون"، كما ظهرت في الأدب الإنجليزي في كثير من المؤلفات اللورد "بايرون"، وفي أشعار زميله "الرومانتيكي شيرلي"، وقد طغى تأثير "بايرون" و"شيرلي" في إنجلترا حتى نسي بهما تأثير "جوته" نفسه.
(1/522)
________________________________________
وبينما كان الفرنسيون يستطلعون النواحي الفنية لـ"جوته" إذا بـ"تومس كارليل" يَطْلُع على قومه بزعم جديد، وهو أن جوتة حكيم يدعو إلى الخلق القويم، والمُثابرة في خدمة الحق وأداء الواجب، وقد ظلت هذه الناحية الخلقية من أدب "جوته" هي الناحية التي يراها الأدباء من الإنجليز مدة نصف قرن، وذلك بتأثير ما كتبه "كارليل" عن ذلك الأديب والفيلسوف الألماني.
وقد أوحى هذا كله للأدباء الإنجليز بكثير من القصص التربوية والخلقية والدينية، ذلك أن "كارليل" قد وضع "جوته" في مرتبة الملهمين، بل الموحى إليهم، وجعله واحدًا من المدافعين الأشداء عن الخلق والدين، وبهذه الطريقة لم يكن الإنجليز يعرفون شيئًا عن جوانب السخرية والدعاية إلى الاستمتاع بالملذات عند جوته.
ويُضيف الدكتور هلال إلى ذلك أنهم قد خفي عليهم جانب التجديف والإلحاد في كتاباته، وهذه النقطة أحب أن أقف عندها بشيء من التفصيل، ذلك أنما قرأناه عن "جوته" أو قرأناه له لا يدل أبدًا على أنه كان ملحدًا، ربما كان المقصود أنه كفر بالنصرانية التثليثية، وكان يحب الإسلام، فلعل هذا كان السبب في أن الكتاب الأوربيين الذين نقل منهم الدكتور هلال هذه العبارة يكتبون هذا الكلام عن الأديب والفيلسوف الألماني.
أنا لا أظن أنه كان ملحدًا ولا مجدفًا، فإن الرجل تكلم فإن الرجل تكلم عن الله -سبحانه وتعالى- كلامًا عظيمًا، ولكن من وجهة نظر قريبة جدًّا أو متأثرة تأثرًا شديدًا بالقرآن الكريم وأحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن ثم قال من كتب عنه: إنه ربما أسلم، بل إن بعضهم يقول إنه ينظر إليه على أنه مسلم، فكيف يتفق هذا ما ذاك.
أغلبُ الظن -كما قلت- أن الدكتور هلال قد انساق إلى هذه العبارة بما قرأه عند الكتاب الأوربيين عندما تناولوا هذا الجانب العقدي من كتابات "فلهلن جوته".
(1/523)
________________________________________
وظلت فرنسا تهتم أولًا بالناحية الأدبية المسرحية "فاوست" التي تُرجمت إلى الفرنسية عام ألف وثمانمائة وثمانية وعشرين، ونسج الكتاب الفرنسيين على مناولها في التأليف مناظر مسرحية غنائية مثل: "فاوست ومارجريت" لـ"شارل جونوا"، ومثل: لعنة "فاوست" تأليف "بيرليوز".
فلم يلتفت الفرنسيين أول معرفتهم بحوثه إلى الناحية الفلسفية في مؤلفاته، ولكن سرعان ما تنبهوا إليها فأصبح "فاوست" رمز الشخصية "الرومانتيكية" لا في حرصها على حل معضلات هذا العالم فحسب؛ بل أيضًا في تطلعها إلى عالم خير من الذي نحن فيه، حيث ترتوي بالمعرفة غرائز الإنسان وتسموا عواطفه فيزهد في الملذات وفي دواعي الهوى ويرقى إلى الكمال.
كما أن الشيطان يمثل في مسرحية فاوست عنصر الشر تمثيلًا فلسفيا فيه من الحرية الفنية، ما أوحى إلى كثير من الكتاب بالتخلص من الكلاسيكية.
كذلك رأى أصحاب نظرية الفن للفن في "جوته" الفنان المثالي، فقد رمى "تيوفيلي جوتيه" مثلًا إلى محاكاته في مجموعة أشعار "إيمو إيه كرميه"، ثم تعمق ناحيته الفلسفية أصحاب المدرسة البرنسية ومن لف لفهم إذ رأوا في "جوته" آثارًا للفلسفة الهيلينية ومن هؤلاء: "لكونت ديريل"، و"أنتون فرنس".
وآخر مرحلة أثر فيها "جوته" في الأدب الفرنسي كان تأثيره بحياته وشخصيته نفسها، لا بمؤلفاته وأفكاره، ففي أشعاره ومسرحياته مآخذ ونقص إذا اعتبرت في نفسها، ولكنها إذا وضعت موضعها من حياة مؤلفاها؛ فإنّها تمثل ألوانًا طيبة من تلك الحياة الغنية الذاخرة، ومن ثم فإنها تؤلف مجموعًا متناسقًا حيًّا لا مأخذ عليه.
وبهذا المعنى نراه قد أثر في كثير من كتاب فرنسا، وهو ما يلخصه ما قاله "أندريه جيد" من أن "جوته" يرتفع فوق أنقاض نفسه، فكل ذرة تسقط منه تقع مستقيمة تحت قدميه لتشغل مكانها في قاعدة تمثاله الخالد.
(1/524)
________________________________________
هذه مثلًا وجوه التأثير المختلفة التي أثر بها جوتة في الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي في مختلف الفترات، حتى ليشبه "جوته" بمنار ذي وجوه مختلفة، يدور بطيئًا مع الزمن، ويرى الناسُ نوره في كل فترة وجهة واحدة جديدة فيتأثرون بها، ويمثل جوتة النزعة الرومانتيكية في مناصرة القلب على العقل، وقد تراءت هذه النزعة في أدبنا الحديث، فضلًا عن تأثيره في النواحي الفنية في المواقف المسرحية التي تراءت في بعض مسرحيات الأستاذ توفيق الحكيم.

دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها
هذا؛ ومن المعلوم أن الأدب سجل مشاعر الأمة وآرائها، ومن هذه الآراء ما يتعلق بصلات هذه الأمة بغيرها، وبالصور التي تكونها لنفسها عما سواها من الأمم بناء على هذه الصلات، ويهتم الباحث المقارن بإبراز هذه الصور كاملة، كما تنعكس في مرآة الأدب القومي لأمة من الأمم.
مثال لذلك صورة مصر كما يراها "جيرال دونرلفال"، أو كما يصورها "فيكتور هيجو" من الكتاب الفرنسيين، ومثال صورة مصر في الأدب الإنجليزي، ويبدأ الباحث ببيان الطريقة التي تكونت بها أفكار أمة ما في أدبها عن الشعب الذي يقصد إلى وصف صورته بذلك الأدب، وللمهاجرين والرحالة فضل كبير في تكوين هذه الأفكار فهم الذين ينقلون إلى أممهم، ويصفون في أدبهم صور ما شاهدوا في البلاد الأخرى، وهم الذين يؤولون هذه المشاهد ويشرحونها بما يتفق وميولهم، وبما يتفق مع غايتهم، وكما تمليه عليهم أحوالهم النفسية والاجتماعية التي سافروا أو هاجروا فيها.
(1/525)
________________________________________
مثلًا: عندنا مدام "ديستال" وهي أديبة فرنسية هاجرت إلى ألمانيا، ضيقًا بما تُعانيه فرنسا أيامها من طغيان نابليون، ومن تحكمه في حرية الأفكار فيها، فكانت تنشد في هجرتها بلدًا تتمتع فيه بتلك الحرية التي حرمتها في فرنسا، فجاءت آراؤها في كتابتها مشوبة بنوع من المثالية التي تحلم بها، أضفتها هي على كل ما رأت وما شرحت، وكان كتابها عن ألمانيا بمثابة صلوات طريد ينشد ملاذًا في عالم مثالي.
وقد أثرت بإدراكها في جيل من الكتاب والرحالة الفرنسيين، فظلت ألمانيا في إنتاجهم بلد الحرية الفنية في المسرحيات والشعر، كما ظلت بلد الحياة المرحة الطليقة التي يتمتع أهلها بملذات الحياة في كنف حرية رحبة الآفاق، وبالرغم من أن الصورة التي رسمتها مدام "ديستال" لألمانية كانت غير صادقة ومبالغ فيها، فقد ظلت ذات أثر بالغ في معاصريها ومن جاء بعدهم، من أدباء النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وهنا نحب أن نضيف شيئًا، فهذه الصورة التي رسمتها مدام "ديستايل" أو التي انطبعت في نفوس القراء الفرنسيين عن ألمانيا وعن الشعب الألماني، تختلف كثيرًا عن صورة الألمان عندنا نحن المصريين الآن إذ ننظر إليهم على أنهم شعب جاد خشن لا وقت عندهم للفكاهة ولا يعرف إلا الطرق المستقيمة، وكل حياته عمل في عمل، وجهامة في جهامة، أين الحقيقة بين هذا وذاك؟ الحقيقة يعلمها الله، وكما قال الدكتور هلال قبل قليل: إن كل إنسان يصور لنا صورة عن الأمة التي زارها بما يتفق ونظرته إلى الحياة ومزاجه الشخصي، وأفكاره، وفلسفته، وحالته النفسي التي كان عليها حين ذاك، ومقارنته بين ذالك البلد وبلده هو ... إلى آخره. هناك عوامل كثيرة تتحكم في تشكيل تلك الصور.
ويقول الدكتور هلال: على الباحث في هذا الباب أن يتعرض لتحديد ما رآه الرحالة من البلاد الأخرى، فمثلًا: المعروف أن مدام "ديستايل" لم تر من ألمانيا
(1/526)
________________________________________
غير رجال الأدب من المجتمعات الأرستقراطية في مقاطعة "ساكس" وغير رجال السياسات وبعض الفلاسفة في برلين، وبمخالطتها لهؤلاء تحدد نظراتها الفاصلة في تصويرها لألمانية.
وكذلك لم ير شوقي من أسبانيا إلا بعد المدن التي زارها زيارة عابرة عندما نفاه الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى، ولم يهتم إلا بالحديث عن أسبانيا المسلمة وآثارها، وقد عاش بثقافته وميوله في الماضي الذي تحدث عنه، دون أن يعنى بتصوير البلاد وحاضر أهلها، ومع ذلك فإن لابنه كتابًا عن أبيه تكلم عن تلك الفترة، وذكر طرائف ووقائع متعددة ترينا جوانب من شخصية شوقي لا نعرفها عنه مباشرة، ولا نعرفها من شعره، ولا مما كتبه من كتب، بل نعرفها من ابنه، فلعل هذا المثال يوضح لنا ماذا يقصد الدكتور محمد غنيمي هلال بهذا الكلام.
وعلى الباحث أيضًا أن يرينا كيف رأى هؤلاء الرحالة البلد الذي رحلوا إليه، فيتعرض لشرح آرائهم فيه وتحليلها ولكن دراسته من هذه الناحية ليست إلا وسيلة لتكوين صورة البلد الأدبية التي ارتسمت بفضل هؤلاء الرحالة في أدبهم القومي.
ثم ينتقل الباحث بعد ذلك إلى دراسة صدى آراء الرحالة من الكتاب لدى أبناء أمتهم ممن تحدثوا عن نفس البلد أو أرادوا وصفه، وتقديم نماذج بشرية لأهله أيًّا كان الجنس الأدبي الذي تحدثوا فيه عن ذلك من مسرحية أو قصة أو رسائل، وترتسم كل ذلك أجزاء الصورة الأدبية للبلاد والشعوب الأجنبية، وقد تكون هذه الصورة مستوفاة الأجزاء فيما إذا تحدث الكاتب عن المظاهر المختلفة للبلد الآخر من مناظر طبيعية ومن عادات وتقاليد، ومن طبائع ونظم، ويغلب هذا على أدب الرحالة من القرن التاسع عشر.
(1/527)
________________________________________
وقد تكون الصورة التي رسمها كتاب بلد ما للبلد الآخر، ناقصة مبتورة كما هي الحال عند كتاب العرب ورحالتها الذين لم يرو من إسبانيا إلا جانبها الإسلامي وظل يبكون فيها الفردوس المفقود الذي نفي عنه أجدادهم.
وبالمناسبة: فمن الصعب جدًّا جدًّا إن لم يكن من المستحيل أن يُلم كاتب واحد بكل الجوانب المختلفة لبلد ما عند زيارته لها أو عند كتابته عنه، ومهما كان موسوعي النظرة فإنه في نهاية المطاف بشر ضيق نطاق الرؤيا ومن هنا ينبغي ألا ننتظر منه الإلمام بكل شيء في ذلك البلد، بل نكتفي بما استطاع أن يعرضه لنا، وعلينا أن نكمله بما كتبه الأدباء الآخرون.
ويقول الدكتور هلال عن حق: إن الصور الأدبية التي تتكون هذا النحو قلما تكون صادقة أمينة في تعبيرها عن طبيعة البلد ونفسية ساكنيه، بل كثيرًا ما تختلط الحقائق فيها بمزاعم لا أصل لها، أو بتأويلات مبالغ فيها، فتخرج بذلك عن حدود الواقع، وتصير في جملتها من خلق الآداب المختلفة.
ومثال ذلك ما كتبه الشيوعيون عندما زاروا الاتحاد السوفيتي وبلاد الكتلة الشرقية، فقد كانوا يقدمون لنا صورًا ساطعة براقة ليس فيها أي موضع لعيب أو لنقص أو لمؤاخذة أو ما إلى ذلك، وإذا كان هذا صحيحًا فلماذا ثارت شعوب تلك البلاد على حكامها وعلى نظامها؟! إذا كان الأمر كما صوروه لنا في كتاباتهم فلماذا كانت نفوس هؤلاء الشعوب ضائقة بهذه الأوضاع إلى الحد الذي جعلهم يثورون على أنظمة بلادهم ويهدمونها هدمًا؟! ولا أريد أن أقول: إن هؤلاء الرحالة الذين صوروا هذه الصور البراقة لبلاد الكتلة الشرقية كانوا متأثرين باتجاهاتهم بالمركسية فقط، بل ربما دفع لهم أموالًا ليقدموا لنا هذه الصور البراقة، كلون من ألوان الدعاية، وهذا معروف جدًّا وله حساباته الخاصة في
(1/528)
________________________________________
المخابرات وما إلى ذلك، إذ يجندون الكتاب الأجانب للكتابة عن بلادهم من وجهة نظر معينة، كي يعطوا انطباعًا معينًا لدى الشعوب الأخرى.
ومن الواضح أن العوامل النفسية والاجتماعية تتضافر لخلق العناصر الهامة، والأفكار العامة التي تلعب دورها في تكوين عقيدة شعب في شعب آخر، فتصبغها بصبغتها، حين تتكون ثم تساعد على رواجها لدى ذلك الشعب، وقد تتغيرُ تبعًا لتلك العوامل الصور الأدبية لشعوب، إلى ما هو خير من الصور السابقة أو إلى ما هو شر منها.
وهذا صحيح فأمريكا مثلًا قبل العقود الأخيرة كانت ترتبط في أذهان كثير من العرب بأنها جنة الله في أرضه، وكنت وأنا طالب في الجامعة أسمع بعض زملائي يقولون: نار الرأسمالية ولا جنة الشيوعية. وعندما بلغنا أمريكا في العقود الأخيرة وضربتنا أمريكا ضربات ساحقة وتريد تدميرنا، واطلاعنا على حقيقة أمرها وموقفها منا تغيرت صورتها عند كثير منا، فهذا مثال على ما يقوله الدكتور هلال.
ثم هو يضرب مثلًا آخر فيه شيء من التفصيل يتعلق بصورة الشرق الإسلامي في الأدب الفرنسي على توالي العصور، ففي العصور الوسطى التي تحكمت فيها النزعات الدينية والتعصب الأعمى، ظهر المسلمون في الأدب الفرنسي في ملاحمه ومسرحياته بصورة وثنيين لا أخلاق لهم، سرعان ما ينهزمون أمام أبطال المسيحية فيتردون عن دينهم، وهذا طبعًا كلام مضحك، فالإسلام هو أبعد الأديان عن الوثنية، لكن كما قال الدكتور هلال: التعصب هنا يلعب دوره. بل إنهم قالوا في كثير كتاباتهم: إنّ المسلمين يعبدون ثالوثًا، وإن الرسول محمدًا كان يشرب الخمر، وهذا كله كذب في كذب.
(1/529)
________________________________________
وفي عصر النهضة انصرف الأدب الفرنسي عن الشرق الإسلامي وتصوير أهله، وولى وجهه شطر الآداب القديمة اليونانية واللاتينية يستوحيها ويحاكيها؛ ولكن الاهتمام بالشرق ما لبث أن احتل مكانه في الأدب الفرنسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فظهرت له فيهما صورة أخرى مخالفة لتلك التي سادت في العصور الوسطى.
فالشرق في أدب هذين القرنين جميل الطلعة، طوق المحيا، خصب الخيال، لبيب فيه طموح يشوبه بعض غرور، وهو طيب الشمائل، مهذب الخلق، محمود العشيرة، كريم الضيافة، ثم إنه متسامح لا تعصب عنده، يحترم حرية غيره في الاعتقاد، مهما اختلف معه في العقيدة، ومحب لاستمتاع ميال للكسل، يؤمن بكثير من الخرافات، ويخضع خانعًا لدين طغاة المستبدين من حكامه، وهذا الكلام منقول عن بعض الكتاب الفرنسيين، ولا شك أن بعض هذه الملامح ملامح صادقة، فين حين أن بعضها ليس صحيحًا أو على الأقل فيه مبالغة وربما مبالغة شديدة.
وكان لما لقي الرحالة الفرنسيون من كرم الضيافة وحسن الاستقبال أثناء رحلاتهم في الشرق أثر كبير في إضفاء كثير من الصفات الحميدة على رجال الشرق من المسلمين، ولكنهم أطالوا في وصف تعسف الحكام وسوء استعمالهم لسلطانهم، وفي وصف الطاعة المطلقة من الشعوب الشرقية الذليلة التي لا يرتفع صوتها باحتجاج.
وهذا صحيح، وقد لاحظ الفرنسيون وغيرهم من الأوربيين هذه السمة في الشعوب الشرقية؛ لأن أوربا في ذلك الوقت قد استطاعت أن تقهر حكامها وأن تجبرهم على الخضوع لمنطق الديمقراطية، فخلعوا ثوب الاستبداد وأصبحوا
(1/530)
________________________________________
يحترمون شعوبهم، ويقدرونها، وينفذون ما تريده منها، ويعملون على مصلحتها، ونسوا ما كانوا يدعونه قبل ذلك من أنهم ظل الله على الأرض.
ويقول الدكتور هلال أيضًا: إن بعض الكتاب الفرنسيين قد اتخذوا من ذلك وسيلة لمهاجمة سلوك حكامهم هم، تحت ستار مستعار من الشرق ونظم الحكم فيه آنذاك، كما كان من ألئك الكتاب من هاجموا التعصب الديني -عندهم في فرنسا طبعًا- وشنوا حربًا شعواء على العقائد السائدة متخذين من الشرق أمثلتهم في التسامح وحرية الاعتقاد.
وهذا صحيح لأن الإسلام يأمر أتباعه باحترام عقائد الآخرين وبعدم التعرض لها بالعدوان دائمًا ما ينبههم إلى أنهم سوف يقفون يوم القيامة مع هؤلاء الذين يخالفونهم ويجادلونهم ويؤذونهم في دينهم، سيقفون أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ويحاسب كلا من الفريقين على ما كان يعتقده، وسوف تظهر الحقيقة آنذاك، وعندنا في القرآن الكريم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24)، وعندنا أيضًا: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118، 119).
فالاختلاف هو سنة الحياة، وقد أبرزها القرآن الكريم إبرازًا شديدًا، حتى إنها قد انطبعت بقوة في نفوس المسلمين حتى بين العوام منهم، ومن هنا فحتى بين الفترات التي يظهر فيها التعصب من المسلمين فإن الملاحظ أنه تعصب انعكاسي، بمعنى أن غيرهم هو الذي يستفزهم ويثير فيهم نوازع التعصب عندما يرون الآخرين يهاجمون دينهم ويطلقون ألسنتهم فيهم وفي نبيهم، وكتابهم، وربهم، وتاريخهم ورموزهم.
وقد لذ للكتاب الفرنسيين في ذلك الوقت أن يطلقوا لخيالهم العِنان في وصف المرأة في الشرق وامتهانها وأنها أداة متاع لا يرعى لها حق ولا يقام لها وزن،
(1/531)
________________________________________
وطالما افتنوا في وصف قصور الأمراء الزاخرة بجموع من النساء، وكثيرًا ما كان ذلك موضع استملاحهم ومثار فكاهاتهم.
وفي القرن التاسع عشر كثرت الرحلات الأدبية إلى بلاد الشرق، واتسع أفق الرحالة في وصفهم لشعوب تلك البلاد، وعادات أهلها، وتقاليدهم، واهتموا كذلك بوصفهم لمناظر البلاد وما بها من آثار، وما يسودها من نظم، ودخلت مصر ذلك العصر الأدب الفرنسي، فعني الكتاب من الفرنسيين برسم صورة لها في أدبهم.
وامتاز الرحالة في القرن التاسع عشر الأدباء بالتحري والاستقصاء في كتاباتهم، بالدقة في وصفهم، وكان لما كتبوه عن البلاد الأخرى قيمة كبيرة تاريخية وعلمية، ولكن الصورة العامة التي بقيت في الأدب الفرنسي من مصر، وعن شعوب الشرق بوجه عام، ظلت مشوبة بكثير من مخلفات ما كتبه الأدباء عن الشرق في العصور السابقة، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الإنسان لا يرى بعين نفسه فقط بل يرى بعيني من قرأ بهم وتأثر.
وهناك عوامل كثيرة تتعاون في خلق وجهة نظر كل إنسان، منها ما اكتسبه من البيئة، ومنها ما اكتسبه من التربية في البيت أو في المدرسة، ومنها ما اكتسبه من الكتب التي قرأها، وما اكتسبه من الأصدقاء الذين خالطهم، ومن المؤلفين الذين أحبهم وأعجب بهم، ومن تراثه الطويل الذي اطلع عليه أو وصل إليه بطرق أخرى.
ومن هنا نستطيع أن نفهم ما قاله الدكتور هلال: من أن الصورة العامة التي بقيت في الأدب الفرنسي عن مصر وعن الشرق بوجه عام قد ظلت مشوبة بكثير من مخلفات ما كتبه الأدباء عن الشرق فيما سبق ذلك من عصور.
(1/532)
________________________________________
ولم ينشد "الرومانتيكيون" في الشرق بعض المثل الطيبة في التسامح والحرية والكرم، كما كان يفعل أسلافهم من كتاب القرن الثامن عشر؛ بل نشدوا فيه بوجه خاص مواد لموضوعات أعمالهم الأدبية وصورها، فمثلًا يقول "شليجل" الفيلسوف الألماني المعروف: علينا أن نبحث في الشرق عن أسمى المواد والصور "الرومانتيكية". فولع "الرومانتيكيون" بوصف طبيعة الشرق الجميلة، ومناظره العجيبة، وشمسه الوضاءة المشرقة، على عكس ما هو مشاهد في كثير من بلاد أوربا حيث الضباب والمطر طول العام، والبرد الشديد، وهكذا ولجوء الناس دائمًا، إلى البيوت قلما يخرجون إلى الشارع.
وكان "فلوبير" يذوب شوقًا إلى الشرق ليبحث فيه عن صور، وتعروه لوعة إذا فكر قائلًا: ربما لا أرى أبدًا الصين، ولا أنام أبدًا على ظهر الجمال في خطاها المنتظم، ولا أرى أبدًا في الغابة عيون النمر المتألقة جاريًّا بين فروع الخيزران، وقد رحل كثير من "الرومانتيكين" إلى الشرق ليحققوا هذا الحلم، وبقى عند كثير ممن لم يسافروا حنين واله إلى طبيعة الشرق العجيبة، وقد شبه ألفريد ديفينيه روح الأبدية بطيب بعض مدن الشرق التي يتنسم عبيرها من بعيد، وقد كان الشرق عند كثير منهم روضة منشودة تفيض بالرح والريحان.
وتصور "فيكتور هيجو" الشرق من خلال ألف ليلة وليلة؛ فرأى فيه عالمًا مشرقًا ساحرًا، فهو جنة الدنيا، وهو الربيع الدائم، مغمورًا بوروده، وهو الجنة الضاحكة ذو الخضرة المشرقة والخلجان الندية، والأبراج القرمزية، والدفء والخير، وذو المنازل الذهبية، والخيام المرجحنة على ظهر الفيلة، والعطور العبقة، والأوراق الراعشة حول نوافذ من ذهب، والنخيل دونها عيون الماء، وطائر النقناق فوق منابر المساجد.
ويود "فيكتور هيجو" أن يجلس هناك في الليل وعينه على البحر ذي الأعمال، في حين يفتح القمر الأصفر الشاحب مروحيته الفضية فوق الموج، ويمتاز الشرق عند
(1/533)
________________________________________
"فيكتور هيجو" بأن الله وهب أرضه زهورًا أكثر من سواها، وملء سماؤها نجوم أغزر، وبث في بحاره لآلئ أوفر، ويتخيل أن السطوح مساكن البدو مليئة بالزهور كأنها سلات ورد، وهذا أمر مضحك؛ لأن بيوت البدو هي الخيام، وليس لها سطوح فضلًا عن أن من المستحيل زراعتها لا بالورد ولا بأي شيء آخر لكنه الخيال، والخيال كثيرًا ما يضر الإنسان ويوهمه بأشياء لا حقيقة لها.
وبالمناسبة أحب أن أوضح شيئًا: أن نزوع الغربيين إلى الشرق نزوعًا طبيعيًّا، مثلما ننزع نحن الآن إلى الغرب ونريد أن نسافر إليه وأن نراه، وأن نعرف ألوانًا من الحياة تختلف عن ألوان حياتنا هنا، وبخاصة إذا قرأنا ما كتبه من سبقونا إلى تلك البلاد، وأنا أذكر أنني كنت متشوقًا إلى أن أسافر إلى أوربا حتى ذهبت إلى بريطانيا ففجئت بأن الأمور كثيرًا ما تختلف عما انطبع في ذهني مما سمعته من زملائي، أو قرأته في كتب الرحالات، أو طالعته في القصص والمسرحيات التي قرأتها عن تلك البلاد.
وبعد أن عُدت من بريطانيا ظللتُ وما زلت حتى الآن أحلم أن أعود مرة أخرى إلى هناك، رغم أني هناك أصبحت أشعر بعد قليل بالضيق، وأريد أن أعود إلى بلادي مرة أخرى، وهذا كله كما قلت أمر طبيعي فالإنسان ابن الملل، ويريد التغيير، ولأنه تعود على الشرق فإنه يريد أن يرى الغرب، حتى إذا ذهب إلى الغرب وعاش فيه سنوات طوالًا أراد أن يعود مرة أخرى إلى الشرق وكله حنين، وكأنه ليس هو الشرق الذي كان قد تركه ضائقًا به ماللًا منه ... إلى آخره.
ولم يمنع ما تردد عند "الرومانتيكيين" من طغيان تركيا واستبدادها أن يرسم خيال "فيكتور هيجو" للأستانة صورة تكاد تباري بها باريس جمالًا، فيقول: في البحر المتألق الحالك تنعكس السماء المحلات بالنجوم في الليل، وتبدو الأستانة ضاحكة وقد تنقب جبينها بالظلام راقدة فوق شط الخليج الذي يغمرها بموج
(1/534)
________________________________________
بين أضواء السماء وانعكاسها في الموج؛ كأنها فوق أرض ذات نجوم، فإذا رأيت قبابها الزرق كأنها صبغتها السماء، وآلاف الأهلة كما تبدوا كأنها تستمد من أشعة قبل الليل، حسبت أنها المدينة التي شيدت أرواح الليل قصورها الصامتة في الهواء، وتميز العين أبراجها بزواياها المرسومة ومنازلها ذات السطوح المستوية وسهام مساجدها ومناراتها بيضاء تنطلق مسلاتها كقلاع من العاج مزودة بأسنة الرماح. وعلى القصر العتيق المتميز بجدرانه مائة قبة من القصدير تتلألأ في الظلام كأنها خوذات العمالقة.
ويشير "تزل جوتيه" بالنيل ويهون من شأن نهر السين حين يقارنه به في حوار له بين المسلتين مسلة باريس وبمسلة الأقصر فيقول على لسان مسلة باريس المصرية: السين أشبه بميذاب شارع أسود اللون نهر دنس تألفه عدة جداول يدنس قدمي التي كان يقبلها في فيضاناته، أما النيل فإنه أبو المياه النيل ذلك العملاق ذو اللحية البيضاء المتوج باللوتس والخيزران، وقد شاهدت نهر التيبس ونهر السين في لندن وباريس فوجدت أنهما أقل شأنًا من النيل بكثير من المراحل، وأنهما ليسا صافيين كما كنت أتصورهما بل مياههما داكنة، ولا أدري لماذا، وجلست على شط كل من هذين النهرين لم أستمتع مثل استمتاعي بالنيل.
ومن هنا فإنني لا أجد فيما كتب "فول جوتيه" عن النيل وعن مقارنته بنهر السين شيئًا غريبًا؛ لأنني لاحظته بنفسي، وهذه الصور كلها تختلط فيها الحقائق بالمزاعم ودلالتها على مشاعر قائلها أحق بالتقويم، ولكن صدى هذه الصور الأدبي في نفوس الشعب عظيم، وفعلًا؛ لأن هؤلاء الرحالة وألئك الكتاب هم مسئولون عن الصور التي ترتسم بأذهان الشعوب عن الشعوب والأمم الأخرى.
ومهما كان في الصور الأدبية في القرن التاسع عشر من جانب "رومانتيكي" فهي على أية حال أكمل من نظيرتها في العصور السابقة عليها في الأدب الفرنسي.
(1/535)
________________________________________
ويقول الدكتور هلال: إنه على الرغم من أن نقطة البدء في هذا الباب لا تمت بصلة كبيرة إلى الأدب؛ لأن شرح صورة بلد ما في ذاتها لا تفيد التاريخ الأدبي، ولا تكشف عن الصلات العقلية بين الكتاب، على الرغم من ذلك فليس القصد هنا هو بيان هذه الصورة الأدبية في ذاتها؛ ولكن شرح الأفكار العامة التي تضافرت على تكوين هذه الصورة في أدب ما، ويستلزم هذا الشرح بيان الطريقة التي تكونت بها.
كما يستلزم أيضًا الكشف عن تأثير البلاد الأجنبية في الكتاب بمناظرها، وعاداتها، وآثارها، ثم بثقافتها المتعددة الألوان مما يربط بين الآداب المختلفة ويكشف عن أصالة الكتاب في مصادرهم، فحين عرفت مدام "ديستايل" مثلا الفرنسيين بألمانيا عرفتها لهم بأنها موطن "جوتة" و"شلر" و"شليجل" فكان لهؤلاء الكتاب على أثر ذلك شهرة واسعة لدى كتاب فرنسا وشعبها.
وبهذا يؤدي البحث في هذا الباب إلى الكشف عن كثير من المصادر الأدبية بالمعنى الواسع لهذه المصادر، كما يؤدي ذلك إلى بيان الطرق التي مهدت للتأثير والتأثر بين الأدبين هذا إلى الخدمات التي يؤدها لتاريخ الأدب ببيان تطور الأفكار العامة فيما يخص البلاد الأخرى على حسب عصور الأدب المختلفة، مع الكشف عن العوامل التي ساعدت على هذا التطور.
وقد نسي الدكتور هلال شيئًا مهمًا، وهو: أن يأتي كتاب الشعوب الأخرى إلى بلادنا مثلًا، فيحدثونا عن بلادهم، وعن أمتهم وعن عاداتهم وتقاليدهم، ويصفوا بلادهم بأنفسهم في محاضرات أو في ندوات أو في كتب يتركونها لنا ... إلى آخره، هو ركز على رحلاتنا نحن إلى بلادهم، لكن كثيرًا من ألئك الكتاب يأتون إلى بلادنا لا ليصفوا بلادنا إلى شعوبهم وأممهم ولكن ليصفوا بلادهم لنا، وهذا متاح أيضًا وعندنا الأفلام وعندنا المسرحيات التي نشاهدها إذا أتت الفرق الأجنبية إلى بلادنا.
(1/536)
________________________________________
هناك مصادر كثيرة تمدنا بالانطباع الذي يتشكل في وجداننا وفي عقولنا تجاه الشعوب والبلاد الأخرى، ولا بد للباحث في هذا الباب مع شرحه للصورة التي كونها شعب ما في أدبه عن بلد أو بلاد أخرى لا بد له أن ينقد هذه الصور، ويبين ما فيها من صواب وخطأ ويشرح أسباب الخطأ فيها، ويدعو إلى وضع البلد أو الشعب موضعها الصحيح من أفكار الأمة وأدبها.
ولكن هناك احتراز مهم وهو: أنّ الباحث عندما يحاول تصحيح الصورة فإنه يقدم لنا صورة من عنده عنا يدخل فيها الصواب والخطأ أيضًا ليأتي باحث آخر بعده يحاول أن يصحح هذه الصورة الجديدة فيقع في أخطاء، وهكذا دواليك؛ لأن الحقيقة كما قلنا ونقول وسنقول دائمًا عند الله سبحانه وتعالى، أما نحن فمجرد مجتهدين.
ولا يخفى أن للصور الأدبية للشعوب كما تنعكس في مرآة آدابها تأثيرًا عميقًا في علاقاتها بعضها ببعض، أيًّا كان نوع تلك العلاقات، ولها كذلك تأثير على عقول قادة الأمة من الساسة والمفكرين في تكوين رأي عام قد ينتج عنه اتجاه خاص في علاقاتها مع غيرها، وكل هذا من نواحي النشاط الأدبي في الميادين الدولة.
ويهتم الأدب المقارن بالكشف عن هذه النواحي من الوجهة التاريخية، وبيان مظاهرها المختلفة على مر الأجيال؛ وبهذا يمهد الأدب المقارن لكل أمة أن تعرف مكانتها لدى غيرها من الأمم، وأن ترى صورتها في مرآة غيرها من آداب الشعوب، ويتاح بذلك لها أن تعرف نفسها حق المعرفة، وأن تحاول تصحيح وضعها أو الدفاع عن نفسها، وبذلك تتهيأ الفرصة للتفاهم الحق، والتعاون الصادق بين الشعوب، وهذه أمنية من الأمنيات، لكن هل يستطيع الأدب المقارن أن يحققها هذا أمر آخر. علي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/537)
________________________________________
الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن.
(1/539)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العشرون
(المصادر واتصالها بالأدب المقارن)

النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه
المصادر واتصالها بالأدب المقارن.
وقد أصبح واضحًا الآن أنه من لغو القول الزعم بانطواء أدب ما على نفسه واستغنائه بقرائح أدبائه عن استعارة الأفكار والآراء والصور والأجناس الأدبية من الآداب الأخرى، كما أصبح من البديهيات أن الآثار الأدبية ذات الشأن لها أصولها في إنتاج السابقين والمعاصرين، كما أن لها صداها في حياة الأمم وفي قرائح المفكرين، وسوف يكون حديثنا في هذا الدرس عن النواحي الشخصية للكاتب أو للأديب المتأثر، واكتشاف عناصر مقوماته، وعوامل تكوينه، وهذا بدوره يساعدنا على فهم الأدب الوطني بأجمعه، ومدى امتداده في الآداب قديمها وحديثها، قريبها وبعيدها.
وقد ولع مؤرخو الآداب قبل تبلور الأدب المقارن بالبحث عن مصادر الكتاب الذين يؤرخون لهم، لا في الموضوعات والأفكار العامة بحسب؛ ولكن في التفصيلات أيضًا، وإن كانوا قد بالغوا بذلك مبالغة جرت عليهم كثيرًا من الاعتراضات، إذ كان الانطباع الذي يخرج به الإنسان من كتاباتهم أن الكتاب قد انمحت شخصياتهم؛ لأنهم يردونهم إلى الكتاب الذين سبقوهم ولا يكادون يتركون لهم شيئًا ينفردون به، أو يتميزون، كما أنهم قد بالغوا في تصعيد ما ظنوه تأثرًا بالأدباء الآخرين.
ويجبُ أن نَفهم المصادر هنا بالمعنى الأوسع مما اعتيد إطلاقها عليه، فهي تشمل كل العناصر الأجنبية التي تعاونت على تكوين الكتاب والأدباء، وهي ثلاثة أنواع:
(1/541)
________________________________________
منها: ما انْطَبَع في خيالِ الكاتب نَتيجة لما رأى في أسفاره من مناظر طبيعية، وآثار فنية، وعادات وتقاليد قومية، وتلعب الأسفار في ذلك دورًا كبيرًا، من ذلك مثلًا وصف الشعراء العرب للبلاد الباردة في إيران بعد أن رحلوا إليها وعرفوها عقب الفتح العربي إذ رأوا بلادًا تختلف عن بلادهم الحارة القاحلة التي تمتلئ بالرمال والجبال، ولا تجري فيها قنوات أو أنهار، نرى في تلك الأشعار، مناظر الثلوج وقد سدت الأبواب وغطت البيوت، ونجد فيها أمطار الثلوج وكيف يحيا بها المملقون حياة الضنك والبؤس، من ذلك قول عربي ذكر بلاده على مرأى همزان:
وكيف أجيب داعيكم ودوني ... جبال الثلج مشرفة الرعان
بلاد شكلها من غير شكلي ... وألسنها مخالفة لساني
وأسماء النساء بها زنان ... وأقرب بالزنان من الزواني
وهناك شاعر آخر ذم همزان أيضًا، فقال:
قد آن من همزان السير فانطلقي ... وارحل على شعث شمل غير متفق
أرض يعذب أهلها ثمانية من الشهور ... كما عذبت بالدهق
فإن رضيت بثلث العيش ... فارض به على شارئط من يقنع بها يمق
المملقون بها سبحان ربهم ... ماذا يقاسون طول الليل أرق
تنسد أبوابهم بالثلج فهو لهم ... دون الرتاج رتاج غير منطبق
حتى إذا استحكمت بردًا غدا طبق ... من الضباب الذي أوفى على طبق
ينهل منها عليهم دائمًا ... ديمًا بالزمهرير عذابًا صب من أفق
فويل من كان في حيطانه قصر ... ولم يحسن رتاج الباب من غلق
الناس من ذي اللحى تهوي أنوفهم ... فوق الشوارب كالمصدوم بالبلق
(1/542)
________________________________________
ولنا مثل آخر في شاعرنا أحمد شوقي بعد سفره إلى أسبانيا؛ فقد كان لما رأى بها من آثار، ولما اطلع عليه فيها من عادات وأخلاق أثر قوي في إنتاجه الأدبي، في شعره ونثره.
وفي الآداب الغربية يمكننا أن نشير إلى ما كتبه "شاتو بريان" من قصص بعد سفره إلى أمريكا، ورؤيته حياة سكانها الفطريين -يقصد الهنود ولا يقصد الأمريكان الذين نعرفهم الآن، هؤلاء الأمريكان الذين احتلوا تلك البلاد بعد أن هاجروا إليها من أوربا، واستطاعوا أن يقضوا على الهنود الحمر تمامًا، فقتلوا منهم عشرات الملايين حتى خلصت البلاد لهم.
ففي قصص "شاتو بريان" تصويرًا لحياة سكان أمريكا الفطريين، وتقاليد الهنود الحمر الوطنية، ومكن الإشارة أيضًا إلى مدام "ديستال" بعد سفرها إلى ألمانيا ومخالطتها أهلها، وتعرفها على مفكريها.
كذلك يُمكننا أن نشير إلى تأثير مصر في الأدباء الفرنسيين في العصر الرومانتيكي، فقد أثرت فيهم بمناظرها وآثارها وبعادات قومها، وأعيادهم، وانعكس كل ذلك إما بطريق مباشر عن الإنتاج الأدبي لمثل "جيرال دينر فيل"، و"تيوفيل جوتيه"، و"فلوبير"، الذين كان وصفهم لمصر صورة صادقة لأهل عصرهم، وإما بطريق غير مباشر كما في حالة "فلوبير"، فقد أتته أثناء رحلته بمصر، فكرة قصته الخادلة مدام "موفاري"، التي تدور حوادثها في فرنسا، وقد أخذ اسم هذه القصة من اسم صاحب الفندق الذي نزل به في القاهرة فقد كان اسمه "بوفاريه" على أن الجو الذي يسود قصته الأخرى المسماة "سلامبو" يظهر عليه الطابع المصري بالرغم من أن حوادثها تجري في تونس.
على أن مصادر الكاتب لا تقتصر على ما أفاد في أسفاره، بل قد ترجع كذلك إلى مخالطته للبيئات والنوادي التي تهتم بالثقافات الأدبية العامية في أرجاء وطنه
(1/543)
________________________________________
نفسه، ونجد مثل لذلك في الكاتب الفرنسي "موريس ماجر" المتوفى عام ألف وتسعمائة واثنين وأربعين ميلادية، فقد كان لاختلط بنادي مدام "أرني بزو" أكبر تأثير في توجيهه وجهة الثقافة الهندية وتشبعه بها ودفاعه عنها، إذ كان ذلك النادي مركزًا هامًا لتلك الدعاية.
وهناك ممن كان يغشونه الدعاية الهندي "بلافتسكي" الذي تأثر به الكاتب الفرنسي فاعتنق آراءه الدينية مذاهب التناسخ وما تبعه من الرفق بالمخلوقات كلها من إنسان وحيوان، وكانت هذه الآراء الفلسفية محور تفكيره الدينية والاجتماعي، كما يتضح ذلك بالاضطلاع على مؤلفاته النظرية، ودواوينه الشعرية وقصصه، ومنها القصة التاريخية التي تدور حوادثها في الإسكندرية في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الملاديين وعنوانها: قصة الفتاة "بريسلا".
وهناك مثل آخر يتمثل في أبي المعالي نصر الله الذي شجعته النوادي الأدبية في إيران على ترجمة "كليلة ودمنة" من العربية إلى الفارسية مع صبغها بالطابع الفني العربي.
ويلحق بهذا النوع من المصادر تأثير الأصدقاء من الأجانب في الكاتب؛ إما بالمراسلة وإما بالمحادثة الشفوية، وتحديد هذا النوع من التأثير صعب المنال من الناحية العلمية؛ لأنه ليس هناك توثيق له، على الأقل ليس هناك تأثير مبذول للجمهور، ولكن الإشارة إليه، أو النوه به مما يحدد نواحي شخصية الكاتب ويساعد على تعرف تكوينه الأدبي والفني على وجه ما.
وقد ضرب بعض الكتاب مثلًا بذلك بالشاعر الفرنسي "لامرتين" وتأثره بالفيلسوف "إيكستين" عميد الدعوة إلى الثقافة الهندية في عصره، ولم يدر بينه
(1/544)
________________________________________
وبين "لامرتين" إلا محادثات شفوية يستطاع التعرف على آثارها فيما كتب "لامرتين" بعد مقابلته لذلك الداعية؛ ليوضح فيه ما يمت بصلة إلى تلك الثقافة التي ذاع صيتها في فرنسا في القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين، والتي وجدت صداها لدى كثير من الشعراء مثل "هيجو"، و"فيني" وكان عمادها ما قام بين العلماء والمستشرقون من تأسيس مراكز تلك الثقافة في الجامعات وبعض المعاهد هناك، فتهيئ بكل ذلك جو ملائم لتأثيرها الأدبي.
ومما يلحق بهذا النوع من المصادر كذلك، انتشار تقاليد أدبية خاصة في أدب ما، ثم انتقاله إلى أدباء أمة أخرى، فقد شاع مثلًا في الأدب الإنجليزي وصف نوع من الكبرياء والاعتداد بالنفس، وحُبُّ الظهور لدى جماعة من الأغنياء الذين يَتّخذون من هذه الصفات وسيلة إلى القيام بمغامرات عاطفية مع النساء، وهذا ما يقال له: "لادان ديسم"، ولا تتوفر هذه الصفات إلا لطبقة الأغنياء المترفين الذين يبحثون عن مجال يظهر فيه عجبهم واعتدادهم.
ويبدو هذا الاعتداد فيما يقومون به في المجتمعات وأمام ذوات المكانة من السيدات من أعمال تظهر فيها البطولة أو الطابع الشخصي، كأنواع الرياضة الخطرة، وكالتأنق في الهندام، وكالتفنن في التظرف، ولا يظهر هذا النوع من الناس إلا في عهود الانتقال التي لا تسيطر عليها ديمقراطية كامنة، على حين تبدوا الأرستقراطية فيها مزلزلة القواعد محقورة، فهم يمثلون آخر مظهر من مظاهر البطولة الأرستقراطية في عهد انحلالها، وما أشبههم بشمس غاربة، أو بكوكب يهوي للمغيب، كلاهما يبد جليل المظهر ولكن لا حرارة فيه، فهو يوحي أول ما يوحي بالأسى، وهذا ما كتبه "بودلير" الشاعر الفرنسي.
(1/545)
________________________________________
وقد انتشر وصف هذا الصنف الاجتماعي من الناس في الأدب الإنجليزي ثم ظهر أثره في الأدب الفرنسي في بعض أشخاص قصص "بالزاك"، وقصص "كريستينة".
ومن هذا النوع من المصادر أيضًا ما يتناقل شفويًّا أيضًا على سبيل المصادفة، فيؤثر في إنتاج كتاب بلد ما، ويوحي إليهم في مؤلفاتهم بالكثير، مثل الاستماع إلى الأغاني الشعبية لأمة ما، أو إلى أناشيد الشعوب الفطرية، أو إلى قصص تنوقلت عن طريق الرواية فوصلت إلى أسماع أدباء في أمم أخرى، ومن ذلك ما يقرره "داستون باري" من أن بعض القصص الشرقية التي أثرت في الحكايات الصغيرة للشباب في العصور الوسطى، انتقلت إلى أمم الغرب من طرق مختلفة منها: طريق المسافرين ومحادثاتهم مع الشرقيين ... إلى آخره.
والنوع الأخير من المصادر هو المصادر المكتوبة، وهي ما ينصرف إليه المعنى بصفة عامة حين نطلق اسم المصادر، وهي أسهل أقسام المصادر دراسة وأيسرها تحديدًا، إذ مظنة البرهنة عليها الكتابة، وحُجتها متى وجدت لا تدفع، على أن نتنبه إلى أنه لا يكفي المشابهة بين النصوص بل لا بد من أن توجد مع ذلك دلائل التأثر الأدبي، ثم لا بد من شرح الأحوال الأدبية والاجتماعية التي تم فيها التأثر.
نعم ينبغي أن ندرس حياة الكاتب، والبيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها، لنشرح على ضوء ذلك ثقافته وميوله نحو بلد ما، أو نحو أدب ما، ولا عيب في تأثر كاتب بكاتب آخر فإن الإبداع في الأدب بمعنى الخلق من جديد جدة مطلقة أمر عسير أي متعذر، بل مستحيل؛ ذلك لأن الكاتب حين يُعمل فكره وتجيش عواطفه لتتوالد أفكاره يعود عند الإنتاج والإبداع إلى ذاكرته فيستوحيها وما
(1/546)
________________________________________
الذاكرة إلا وليدة التجربة والمُشاهدة والاطلاعات المختلفة، وبمقدار حسن هضمه لما اطلع عليه وتمثله له، وإخراجه له إخراجًا يظهر عليه طابعه تكون قيمة إنتاجه الأدبي.
وما أشبه الكاتب في ذلك بالنحلة التي تقع على مختلف الأزهار، وتمتص أنواع الرحيق، وتأكل من كل الثمرات ثم يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، وهذا هو العنصر ذاتي للكاتب في اختراعه.
والأدب المقارن -كما يقول الدكتور غنيمي هلال-: بعيد كل البعد عن انتقاص قدر الكاتب حين يبحث عما غذى به ذاكرته في مطالعاته وفي ألوان ثقافته من مختلفة الآداب، بل غايته من كل ذلك أن يتعرف على روح الكاتب، وينفذ إلى تلك الروح من خلال ثقافته التي هضمها وأخرجها للناس خلقًا جديدًا، وقد أتى يومًا إلى "جوته" صديقه سكرتير "إكرمان" ليهنئه بصدور طبعة جديدة من مؤلفاته كاملة فنظر جوتة إلى أجزاء كتبه مرصوصًا بعضها فوق بعض، وأخذ يشرح لـ"إكرمان" كيف ذخرت مؤلفاته بما اقتبسه من الإغريق والإنجليز والإيطاليين والفرنسيين ثم أضاف إلى ذلك قوله: كل هذا موقع عليه باسم "جوته".
وهذا صحيح، ويمكننا أن نقرر الأمر بالحديث عن أجسادنا، من أين أتت أجسادنا؟ من بذرة بذرها الأب في رحم الأم، ثم أصبحت قطعة من اللحم، ثم أصبحت جنينًا، ثم خرجت إلى الوجود، فأكلت الطعام المتاح لها، وشربت الماء الموجود، وشمت الهواء، وتفاعل هذا كله فكون جسد الإنسان الذي يظل ينمو بما يأكله من طعام جديد، ويشربه من ماء جديد، ويشمه من هواء جديد، وهكذا دواليك، وعلى ذلك يمكننا أن نقيس الإبداع الأدبي.
(1/547)
________________________________________
فالإبداع الأدبي مأخوذ من الآخرين، والآخرون أخذوا إبداعاتهم الأدبية ممن سبقهم وهكذا، ولكن بشرط أن نفهم أن الأديب في هذه الحالة آخذ فقط بل إنه يضيف إلى ذلك شخصيته، إذ يعيد تنظيم كل شيء ويخرجه إخراجًا جديدًا، عليه طابعه، وقد يضيف أشياء تبد صغيرة ولكنها هي العبقرية مجسمة.

تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها
وتتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها:
فقد يقصد الباحث إلى البحث عن مصادر مؤلف واحد من مؤلفات كاتب ما، وفي هذه الحالة ربما يكون الكاتب قد استعار من أدب آخر موضوع الكتاب، أو بعض المواقف الخاصة فيه، أو بعض الأفكار والتعبيرات، أما عن الموضوع فيغلب أن يستعار في باب القصص وفي المسرحيات، وقد استعار الأدب الفرنسي الكلاسيكي أكثر موضوعاته المسرحية والقصصية، إما من الآداب القديمة اللاتينية واليونانية، وإما من الأدب الأسباني ومع ذلك صبغها الأدباء الفرنسيون بصبغة وظهر بها طابعهم الخاص.
وقد أفاد كِبارُ كُتّابنا أيضًا مثل الدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم من آداب الغرب في ميدان القصص والمسرحيات، وظهرت أصالتهم إلى جانب تأثرهم، بل ظهرت تلك الآثار -كما يقول الدكتور غنيمي هلال- بفضل تأثرهم؛ لأنهم لو لم يتأثروا ويقرءوا ويطلعوا على أدب الآخرين؛ فكيف كانوا يستطيعون أن يبدعوا؟ وكيف كانت عبقريتهم قمينة أن تظهر؟
وقد يكون موضوع الكاتب جديدًا، ولكن لا يستغنى فيه عن أن يستعير بعض المواقف أو بعض الأفكار الخاصة والتفصيلات من أدب لآخر، وقد يدهش القارئ ليرى
(1/548)
________________________________________
أحيانًا البعد شاسعًا بين الكاتب والأدب الذي اقتبس منه، في الزمن والبلد والموضوع، فقد اقتبس الكاتب البلجيكي "مترنك" في مسرحيته التي ظهرت عام ألف وثمانمائة واثنين وتسعين واسمها "بلياس وميليزان" من الشاعر الفارسي الفردوسي في "الشاهنامه" التي يرجع تأليفها إلى أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الميلاديين.
وإليكم مثلين من "الشاهنامه" استعارهما الكاتب البلجيكي لمسرحيته المشار إليها، ففي المثال الأول يذكر الفردوسي كيف بكر القائد "لياتوس" مرحًا إلى الصيد على صياح الديكة في جمع من رفقته، فلما توغلوا في الغابة بصروا بفتاة فاتنة الخدين رائعة الجمال في طلعة كالبدر، وقامة كشجر السرو فتوجه "لياتوس: قائلًا: أنت يا ذا الطلعة الفاتنة، لماذا جئت هذه الغابة؟ فأجابت: قد ضربني البارحة أبي، فهربت هائمة على وجهه كانت قد عاد ثملًا في جنح الظلام، من حفلة عرس، فما إن رآني حتى علاه الغضب فأخرج خنجرًا ماضيا يريد به أن يفصل رأسي من جسدي، ثم تشرح كيف هرب من مال كثير، وبتاج من ذهب أخذه منها الحرس بعد أن ضربوها بقراب السيف.
وفي المثال الثاني يذكر الفردوسي أن "ذال" البطل ذا الشعور الفضية التي ربته العنقاء فوق ذروة الجل كان يحب "روات بي" وهي الفتاة ذات المحيَّا *****ي، وذات يوم قد ذهب إلى قصرها ولم يكن قد رآها من قبل وظهرت "روات بى" ذات العيون السوداء، والخدود الوردية في شرفة من شرفات القصر وقف تحتها ذال فأضاءت بطلعتها الشرفات كلها، وبدت الأرض مثل ياقوتة تحت إشعاع خديها، ثم حلت
(1/549)
________________________________________
ضفائر شعرها ونشرتها فاسترسل، ووصل من أعلى القصر حتى غطى وجه "ذال" كأنه ضفائر مجدولة من المسك، وأخذ "ذال" يغطي شعرها بقبلاته حتى كانت تسمع صوت تلك القبلات من أعلى القصر.
وفي رواية الكاتب البلجيكي نجد أن الأمير "جولوا" يكتشف وهو يصيد في الغابة فتاة جميلة على شاطئ بحيرة، وتلك الفتاة هي "ميلزاند" فيسألها عن سبب بكائها وعما إذا كان قد نالها بالأذى أحد، فتجيبه نعم، فيسألها من؟ فتجيبه كل الناس، فيسألها وماذا نالك منهم من شر؟ فتجيب: لا أريد أن أقول ولا أستطيع، فيسألها من أين أنت؟ فتجيب قد هربت قد هربت، فيسألها: وما هذا الشيء يتلقى بريقه في ماء البحيرة فتجيب: إنه التاج الذي أعطانيه قد سقط أثناء بكائي، فيقول: تاج ومن أعطاك هذا التاج؟ سأخرجه من الماء، فتصيح لا لا لقد زهدت فيه، وأفضل أن أموت في الحال على أن أضعه فوق رأسي.
ثم يذهب باليأس ****** إلى البرج الذي تسكنه "ميلزاند" فتطل عليه من إحدى الشرفات وتميل برأسها نحوه، فتتهدل شعورها الطويلة عليه وتسترسل حتى تصل من أعلى البرج إليه، ويقول: إن شعورك تنزل نحوي إنها تنسدل كلها من البرج علي أمسكها بيدي، وأمسها بشفتي، وأحتضنها بذراعي، وأنثرها حول عنقي، لم أر من قبل شعورًا مثلها "ميلزاند"، انظري إنها تهبط من الأعلى وتغمرني حتى قلبي، إنها ترعش وتضطرب وتخفق بيدي كأنها طيور ذهبية.
إن التشابه -كما يقول الدكتور هلال- واضح بين النصين تمام الوضوح، ولا مجال للشك في أنّ الفردوسي كان مصدر الكاتب البلجيكي فيهما، ولا يتسع المقام هنا لشرح الطريق الذي عرف منه "ماترنك" الشاعر الفارسي، ولا لبيان
(1/550)
________________________________________
البون الشاسع بين الموقفين في ملحمة الفردوس وفي مسرحية الكاتب "البلجيكي" ولا لتوضيح الطابع الشخصي لهذا الكاتب فيما اقتبس.
وأحيانًا تقتصر استعارة الكاتب في مؤلفه على أفكار خاصة أو تعبير من التعبيرات ذات الصبغة المعينة، وقد كثرة الطبعات النقدية بكثير من المؤلفات الغربية وبينت مصادر أفكار الكاتب ما يرجع منها إلى الأدب القومي، أو إلى الآداب الأجنبية، وخير مثل على ذلك هو طبعة الرسائل الفلسفية لـ"فولتير" التي قام بشرحها والتعليق عليها العلامة "لارسن".

البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك
وقد لا تقتصر دراسة المصادر على البحث عن مصدر الموضوع والتعبيرات في إنتاج الكاتب، بل يُبحث في مصادر إنتاجه كله من الآداب الأخرى، وفي هذه الحالة قد يقتصر البحث على بيان مصادر ذلك الإنتاج في أدب أجنبي واحد، بل قد لا يتعدى مجرد إحصاء وسرد لما قرأ المؤلف من ذلك الأدب، وهذا النوع من الإحصاء الدقيق كثير الرواج في ألمانيا، وله أهمية كبرى في تنوير النقود حيال الكاتب أو الشاعر، فهو يبين الجو الفكري الذي عاش فيه الكاتب وكيف اتسع أفقه قليلًا قليلًا؟ أو كيف أنه على عكس ذلك قد انطوى على نفسه؟ وكيف تركز اهتمامه حول تلك المسائل أو حول بعض الأجناس الأدبية؟ وكيف كان يتطور تبعًا لقراءته؟.
ربما ينظر بعض الناس إلى مثل هذه الإحصاءات على أنها جهد قليل القيمة؛ لكن لا؛ لأننا لا نستطيع أن ننطلق فنقوم دراساتنا في الأدب المقارن ما لم يكن هؤلاء الذين قاموا بتلك الإحصاءات قد مهدوا لنا الطريق وصلتوا الضوء على
(1/551)
________________________________________
الأركان المظلمة، التي لولا انكشافها أمام عيوننا في هذا الضوء الوهاج، لما استطعنا أن نعرف ماذا نفعل؟ ولا إلى ما نتجه.
وإذا تَجَاوزت الدراسة الإحصاء إلى شيء من التفصيل، يبين فيه الباحث تأثير كل مصدر من مصادر الكاتب في مؤلفاته ففي هذه الحالة قد يقتصر على دراسة وتأثر الكاتب بأدب واحد من الآداب الأجنبية، فمثلًا يمكن أن يدرس تأثر شوقي بالأدب الفرنسي في مؤلفاته، كما درس تأثر فولتير في الأدب الإنجليزي، وعلى الباحث في هذه الحالة أن يدرس أولًا المؤلف نفسه دراسة دقيقة، ثم يقرأ من الأدب الأجنبي ما يمكن أن يكون قد أثر في إنتاج ذلك المؤلف.
ويبدأ بقراءة ما اعترف المؤلف بقراءاته من ذلك الأدب، ثم بالموضوعات المشابهة للموضوعات التي عالجها المؤلف، وربما يُسفر كل ذلك عن آفاق جديدة أمام الباحث تنير له السبيل، وقد تجعله يعثر على ما له قيمة جديدة في تعرف نواحي الكاتب وتأثره بالأدب الأجنبي الذي استعار منه.
وأوسع دراسات المصادر وأكثرها أهمية هو ما يبحث فيه عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وعن مبلغ ما استفاد منها في مؤلف واحد من مؤلفاته أو في مؤلفاته كلها، وهذه الدراسات خير ما يلقي الضوء على مواهب الكاتب وعلى نواحي نشاطه المختلفة.
وقام "فيرد ناند براد روسيه" بمثلًا طيب في ذلك حين درس المصادر المختلفة للكاتب الفرنسي "بلزاك" وبين في دقة وتعمق كيف استفاد بلزاك من مختلف الآداب التي أتيح له أن يتطلع عليها في فترات متعاقبة من حياته؟ وكيف لم يطغ ذلك على الطابع الشخصي للكاتب، وعلى دقة ملاحظته؟
وكذا قام الباحث "سي تولو" بمثل هذه الدراسة بحثًا عن مصادر "ألفريد ديفينيه".
(1/552)
________________________________________
ويدهش القارئ إلى هذه البحوث حين يرى تعدد قراءات كبار الكتاب وسعة آفاقهم، ثم حين يرى كيف أخرجت تلك الموسوعة الكبرى من مختلف ثقافاتهم وإطلاعاتهم ثمارًا متنوعة مختلفة الألوان يرجع كل لون منها إلى أصله، ويعجب كيف انتظمت كل هذه الألوان لتألف وحدة منسجمة كحديقة غناء أبدعت فيها يد التنسيق فألفت بين زهورها وأشجارها على الرغم من اختلاف ألوانها وتنوع ورودها.
وليس في هذا أي عجب، فنحن عندما نبني بيوتنا نأتي بالرمل من مكان وبالظلط من مكان آخر، ومن أسمنت من مكان ثالث، وقد نستورد أشياء من بلاد مختلفة، ثم إذا بهذا كله ينتظم في أيدي البناء بناء جميلًا متناسقًا عليه طابع شخصيته وشخصية المهندس الذي صممه، وهكذا.
وفي مكتبتي كتب من أماكن مختلفة من قرية من القرى في المنوفية، ومن مدينة من المدن، وبعضها من لندن وبعضها من باريس، وبعضها جاءني من إفريقيا، وبعضها من الإنترنت، وكل ذلك أقرأه وأهضمه وأتمثله ثم أخرجه كتب مختلفة عليها طابع شخصيتي، صحيح أن الميدان هنا ميدان النقد الأدبي والتاريخ الأدبي وما إلى ذلك، ولكن هو مثال يستطيع به الطالب أن يتعرف من خلاله على ما يحدث في عالم الإبداع الأدبي.
يضرب الدكتور هلال مثلًا فيه شيئًا من التفصيل فيما يختص بمصادر شوقي الفرنسية والإنجليزية في مسرحيته "مصرع كليوباترا"، وأول ما يلاحظه في مسرحية شوقي أنها قد توافر لها وحدة الزمن، ذلك أنها تبدأ بعد موقعة "أكتيوم" بمدة تهيئ فيها لكليوباترا أن تصل مصر بعد فرارها من ميدان الحرب بأسطولها، وأن تُشيع وصيفتها "شيرنيون" في الشعب أن الأسطول عاد منتصرًا خوفًا على الملكة من أعدائها الكثر.
(1/553)
________________________________________
ويظل الشعبُ يردد هذه الإشاعة مبتهجًا بالنصر، في وقت عصيب تطلب الحداد إذ إن جيش "أكتافيوس" يحاصر ال إ سكندرية و"أنطونيوس" مختبئ في سكنة رومانية يعبئ فيها للحرب فلول جيشه من الرومان لينتقم لشرفه من هزيمته في "أكتيوم"، وهذا طابع كلاسيكي في بدء الحديث في المسرحية لقرب نهايتها.
وهذا هو المنهج الذي سلكه "دريفن" في مسرحيته ذات الطابع الكلاسيكي كذلك فبدأ المسرحية حيث بدأ شوقي بل إن شوقي متأثر به كذلك في بدء المسرحية، إذ إن دريفن يجعل سرابيون كاهن إيزيس يظهر على المسرح بعد بدأ المسرحية بقليل؛ ليعلن للشعب أن عليه أن يبتهج ويعلن ابتهاجه بمواكب النصر لأن اليوم عيد ميلاد "أنطونيوس" السيد العظيم، ويعارضه شخص آخر بأن اللعنة على من يعلن البهجة في هذا اليوم العصيب.
على أن شوقي يجعل موقف كليوباترا فريدًا فهي تفر من "أكتيوم" وتأبى أن تشترك مع "أنطونيوس" ضد "أكتافيوس" في الحرب الدائرة في أرجاء الوطن، وعلى هذه الحرب يتوقف مصير البلاد، وغايتها أن تترك البطلين يضعف كلاهما الآخر حتى تكون هي قوية ضد المنتصر منهما إذ إنه سيخرج وقد أنهكته الحرب.
وقد خيل لشوقي بذلك أنه يبرر نظرة "كليوباترا" وهي نظرة طائشة، لا مظهر فيها للوطنية الرشيدة، على أنها تعلنها لخاصتها مستبدة برأيها لم تستشر أحدًا، زاعمة أنها بذلك تقدم حبها لوطنها على هيامها بحبيبها، وهو تفسير لفرارها من حرب "أكتيوم" يخالف ما قيل: من أنها فرت خوفًا أو غدرًا ولكنه تفسير لا يستند إلى حصافة رأي أو تدبير وطني كما تزعم هي في قولها على حسب ما جاء في مسرحية شوقي:
(1/554)
________________________________________
قلت: روما تصدعت، فترى شطرًا من القوم في عداوة شطري
بطلاها تقاسما الفلك والجيش، وشب الوغى ببحر وبري
وإذا فرق الرعاة اختلاف علَّموا هارب الذئاب التجري
فتأملت حالتي مليًّا وتدبرت أمر صحوي وسكري
فتبينت أن روما إذا زالت عن البحر يسد فيه غيري
كنت في عاصف سللت شراعي منه فانسلت البوارج إثري
فنسيت الهوى ونصرت "أنطونيوسا" حتى غدرته شر غدري
علم الله قد خذلت حبيبي وأبى صبيتي وعوني وذخري
موقف يعجب العلا كنت فيه بنت مصر وكنت ملكة مصر.
وهذه السياسة القاصرة المستبدة من جانب كليوباترا -كما صورها شوقي- لا يمكن أن تقنع أحدًا بوطنيتها.
هذا ما قاله الدكتور هلال، وأنا أشاطره الرأي، كما عبرت عنه بكل وضوح في درس من الدروس السابقة قبل قليل.
على أنّ الفكرة في ترك البطلين يقضي كلاهما على الآخر مأخوذة كذلك من "درايدون" إذ إنه يترك شخصية شخصيات مسرحيته يقول: لو كان لي ما أريد لوددت أن يُهلك هؤلاء الجبابرة المسيطرون على البشر من كل جنس بعضهم بعضًا بسيفه، ولكن ما دامت عزيمتنا تابعة لقوتنا العرجاء علينا أن تبع واحد منهم نعلوا معه أو نهبط.
ولكن شوقي يجعل هذه الفكرة محور سياسة كليوباترا في مسرحيته، في حين يذكرها "دريدون" فكرة عابرة على لسان شخصية ثانوية،
(1/555)
________________________________________
ولذا كانت مسرحية كيلوباترا مجموعة متناقضات إذا نرى في المسرحية عاطفتها نحو حبيبها قوية.
ونراها تستسلم للملذات، غافلة عما يتهددها هي ووطنها من أخطار وتزعم في الوقت نفسه أنها مخلصة لمصر فتقول في لغة المغرور المستبد متوجهة لأروس: "الحرب فك أروس وسياسة فني". كما تقول لحابي: "دع الذود عن مصر لي إنني أنا السيف والآخر العصا".
وخُطّتها السياسية لا تعدوا أن تكون أمنية حال في غفوة من نعاس لا سياسة ملكة رشيدة كما يُريد شوقي أن يلهمنا باقتباساته من المسرحيات الغربية، وفي مسرحية شوقي بعد ذلك تختلط المأساة بالملهاة، فشخصيةُ المُضحك "آنشو" وشخصية "زينون" أمين المكتبة، من العناصر اللاهية في المسرحية وهذا طابع "رومانتيكي" ولكن شوقي لم يتأثر فيه مباشرة بشكسبير في مسرحيته "أنطون" وكليوباترا.
والحدث في مسرحية شوقي غير بسيط فهو مزدوج ذو حلين، فحب جابي لـ"هلينا" يقابل حب البطلين أنطونيوس ****وباترا وينتهي الحب الأول نهاية سعيدة، في حين ينتهي الحب الثاني بانتحار البطلين، وازدواج الحدث مألوف في مسرحيات الرعاة، وفي بعض المسرحيات الكلاسيكية.
وقد عاب أرسطو المسرحيات التي تتعدد فيها الحلول، ودعا على من حببوها ورأى أن هذا النوع من المسرحيات لا يتلاءم إلا مع الجمهور ذي الذوق الفني الضعيف، لأنه لا يقوى على تحمل المأساة المحضة.
(1/556)
________________________________________
ويعتقد الدكتور محمد غينمي هلال أن شوقي بهذا الازدواج قد قصد إلى إرضاء جمهوره في عصره، ومنظر الوليمة يشمل معظم الفصل الثاني من مسرحية شوقي وهو متأثر "بشكسبير" فيما يسوده من طابع المرح من الشراب والرقص، وللمنظر أصل تاريخي في "بلوتارخ" في كتابه حياة العظماء، ويتبع شكسبير ما روي في التاريخ فيجعل منظر الوليمة يدور في سفينة في المياه الإيطالية قريب من سينا، ويكشف فيها عن قوة خلق "أكتافيوس" في امتناعه عن الشراب، وعن تحرق "أنطونيوس" شوقًا لرحيله إلى مصر لكي يرى كيلوباترا بعد زواجه من "أكتافيا".
على حين يجعل شوقي منظر الوليمة في مصر بعد الموقعة الأولى في حرب "أكتافيوس" مع "أنطونيوس" في الإسكندرية وهي الموقعة التي بدأ فيها شبح النصر الخادع "لأنطونيوس"، وشوقي يربط منظر الوليمة بمصير البطلين، ويكشف فيها عن جوانب استهتارهما وهزلهما في ساعات الجد، وفي المنظر تثير كليوباترا غضب جنود أنطونيوس فيظهرون سخطهم على حرب تجني "كليوباترا" ثمراتها، فنسمع جنديا منهم متأثرًا بما تفوه به الملكة من إهانة روما يقول زميله:
أتسمع ما ما تقول عدو روما قد اجترأت على روما البغي
أتحت لوائها وبجانبها يخوض الحرب من روما كمي
وقد أطال شوقي في منظر الغناء في الوليمة إرضاء للذوق الجمهور المصري آنذاك، الذي كان يُحب الغناء ويكلف به ولا يقبل على المسرحيات في كثير من الأحياء إلا إذا كان مسرحيات غنائية، لأنه شعب يحب الطرب.
وفي التاريخ طبقًا لما كتبه "بلوتارك": أن كليوباترا أرسلت إلى "أنطونيوس" بعد الهزيمة تخبره كذبًا بانتحارها فينتحر أنطونيوس على الأثر؛ ولكن شوقي يلقي
(1/557)
________________________________________
بالتبعة على هذا الخبر الكاذب على "ألنبوس" لأنه يجعله هو الذي يسوق "لأنطونيوس" هذا النعي الكاذب، ويطلب أنطونيوس من كليوباترا آنذاك قبلة يسلم على آثارها الروح، وهذا أثر من مسرحية "دريدن" الذي يجعل هذا النعي يساق على لسان "ألكساس".
وتستنكر كليوباترا ما فعله "ألكساس"، ويطلب "أنطونيوس" منها قبلة هي أغلى عنده من كل ما سيتركه "لأكتافيوس"، ثم يسلم على أثرها الروح، وهذا مسلك كلاسيكي عام يتمثل في إظهار نبل أبطال المأساة، وإلقاء تبعة النقائص على الوصيفات أو الشخصيات الثانوية.
والكلاسيكيون يتبعون في ذلك قاعدة عامة وضعها لهم "أرسطو" وقد انتهج شوقي نفس الطريقة في إشاعة خبر انتصار كليوباترا في "أكتيوم" كذبًا؛ فقد جعل الخبر مسوقًا بتدبير وصيفة "شيمبيون"، وكذلك فعل شوقي في إلقاء التبعة الفشل السياسي لكليوباترا على العناصر الوطنية التي كانت لا تتجاوز في نقدها لتلك السياسة الحمقاء مجال الكلام، ولا تفكر في الاشتراك في توجيه الأحداث حتى إن حابي يرضى عن كليوباترا؛ لأنها صفحت عنه، ومنحته ضيعة يتمتع فيها مع حبيبته "هيلانة"، وهذا ما يتناوله أنوبيس في كلامه لحابي عقب الهزيمة الفاصلة في مصير البطلين:
وأين كنت يا فتى وأين فتيان الحمى
وأين فرسان المقال هل مضوا إلى الوغى
تركتمُ أنطونيوس وحده يلقى العدى
من أجلكم سل الحسام وإلى الحرب مشى
أبعد أن حل على النيل وواديه انقضى
ولم يجد من شيبه ولا شبانه الفدا
أتيت تدعوني كما تدعو العواجز السما
الرأي ليس نافعًا إذا أوامره مضى
وشوقي يُطيل فيما تقوله كليوباترا من أشعار قبيل انتحارها، تُبرر موقفها وتأسى على ماضيها، وتهيئ نفسها للإقدام على الانتحار، وهي أشعار طابعها غنائي،
(1/558)
________________________________________
وقد سبقه إلى ذلك "جودل" في مسرحيته سابقة الذكر فجعل الملكة أيضًا تُسهب كثيرًا في أشعارها في نفس للغاية ذاتها.
ومنظر توديع كليوباترا لأولادها له نظيره في مسرحية "روبير جارنيا" التي عنوانها: "مارك أنطوان" في الفصل الخامس منها، وشعر شوقي في هذا الموقف أروع من شعر جودل من ناحية الصياغة.
وفي مسرحية مدام "دي جيرلدا" تظهر كليوباترا في صورة المستهترة التي أخذت على نفسها عهدًا بحياة الملذات ثم الموت، وفي جسمها الأنثوي نفس كبيرة، يتراءى سلطانها من ثنايا ضعفها ويتقهقر من بحضرتها أمامها لروعة جمالها، ولكن يلذ له التقهقر وتطيب له الهزيمة؛ حتى إن عبدًا يتطلع إلى الظفر بها ساعة، على أن يتجرع السم عقب ذلك، وهي في استهتارها واستغراقها في صبواتها تستجيب له، ويتجرع العبد السم بعد أن ينشد نشيد الموت، يتغنى فيه بالبطولة وصدق العاطفة، وحين يشرف على الموت بعد تناول السم، يَسقيه "ديويت" و"فانتديوس" ترياقًا ينجو به من الهلاك ليتخذه أداة انتقامية ومثار غيرة، ولكن هذا العبد هو الذي ينقذ كليوباترا من ذل الأسر إذ هو الذي يحمل إليها الثعبان في سلة من زهر.
وواضح شبه إنقاذ العبد من الموت بعد تناول السم، بإنقاذ "هلامي" بترياق بعد تجرعها السم لتموت مع سيدتها في مسرحية كليوباترا لشوقي، ثم إن نشيد الموت في مسرحية شوقي له كذلك نظيره في مسرحية مدام "دي جيرلدا".
ولا سبيل هنا لمقابلة جميع الصور الجزئية في شعر شوقي بنظائرها من المسرحيات الغربية، فحسبنا أن نضرب أمثلة من ذلك
(1/559)
________________________________________
فما يخص تأثر شوقي بمسرحية "شكسبير"، ففي آخر الفصل الأول من مسرحية "شكسبير" تتخيل كليوباترا أن "أنطونيوس" يهمس إليها قائلًا: أين رقطائي ثعبانة النيل القديم، ثم تقول: إنه كان هكذا يدعوني.
وفي مسرحية شوقي تُدعى كليوباترا رقطاء على لسان "زينون" ثم إنها في آخر المسرحية تتحدث الأفعى هكذا:
تعالي عانقي أفعى قصور بها شوق إلى أفعى التلال
وفي المنظر السادس ثم السابع من مسرحية "شكسبير" نرى كليوباترا تدعى بغيًّا، ثم نرى "أنطونيوس" يعصي قائد جيشه العام "كانيديوس" ويُفضل عليه رأي كليوباترا بالاشتراك في حرب "أكتيوم" بحرًا لا برا، فيغضب القائد العام ويقول: إن قائدنا مقود، وجنودنا خاضعون لأوامر النساء. ثم يقول: الساعة حبلى بأحداث تتمخض كل آونة عن واحدة منها.
ويقرب هذا من قول القائد الروماني في آخر الفصل الثاني من مسرحية شوقي:
أنطونيوس سيدي أفي الخير أننا نبيت سكارى والعدو مبيت
ألا إنه يوم له ما وراءه غرامك حي فيه والمجد ميت
وفي المنظر الرابع عشر من الفصل الرابع من مسرحية "شكسبير" يطلب "أنطونيوس" من "إيروس" أن يقيه ذل العار بالضربة القاضية وبعد محاورة يقتل العبد نفسه، فيقول "أنطونيوس": إن "إيروس" أراه في بطولته أنه لا يستطيع أن يقوم بما عليه وأن يفعل، وأنه هو سيده، وأنه هو سيده بمثابة تلميذ له في هذه الميتة، فما سأفعله فقد تعلمته منك. وهي خواطر يجعلها شوقي تدور بين "أنطونيوس" و"إيروس"،
(1/560)
________________________________________
حين يطلب "أنطونيوس" منه أن يشفيه بضربة سيف أو بطعنة خنجر، فيقتل العدو نفسه على أثر، فيقول أنطونيوس:
أوروس عفوًا قد ذهبت ضحية ... وجنى عليك تردد الممقوت
فعلمت مني كيف يجني قيصر ... وعلمت منك العبد كيف يموت
وفي مسرحية شكسبير حين يدخل "أكتافيوس" على أنطونيوس بعد موته منتحرًا يأسى على أن ألجأه إلى هذا المأزق، ويقول: إن في الجسم بعض آفات تتطلب بعض الجراح. ثم يعبر عن آساه في شبه رثاء لرفيقه قائلًا: لكن دعني أنتحب بدموعي القدسية من كلام القلب أن يا أخي ويا شريكي، ويا ذا المكان الأول في كل ما شرعنا فيه، وندي في الإمبراطورية وصديقي ورفيقي في جبهة الحرب، والذراع لجسمي أنا، والقلب الذي تضيء أفكاره أفكاري.
وصدى هذه الخواطر يتراءى في شعر شوقي حين يودع "أكتافو" رفيقه المنتحر قبل دفنه متوجهًا إلى كليوباترا.
وأخيرًا يطلب "أكتافيوس" في أواخر مسرحية شكسبير فيرى كليوباترا ووصيفتها ميتتين على أثر لدغات الأفاعي التي انتحرتا بها، وكان مما قاله: ما طريقة موتهن، إني لا أراهن يدمين. يدع شوقي "أكتافيوس" يعبر عن نفس المعنى حين دخل حجرة كليوباترا عقب انتحارها متوجهًا إلى الطبيب قوله:
عجيب يا طيب أرى قتيلًا ولكن لا أرى أثر الجراح.
وقد أفاد شوقي من كل مصادره التي قد أشرنا إلى بعضها، وأخرج منها خلقًا فنيًّا مُتّسمًا بطابعه، فأراد أن يصور كليوباترا تصويرًا جديدًا خالف فيه كل من سبقوه؛ ليصحح جناية التاريخ عليها كما قال.
(1/561)
________________________________________
تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة
والنوع الأخير من دراسات المصادر هو ما يكون أدب شعب ما، وبيان وجوه تأثره بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة، كما فعل الباحثان "توكر" و"مجنوس" في شرح علاقات الأدب الإنجليزي بالآداب الأخرى، وكما فعل دو بي في بحثه علاقات الأدب الفرنسي بالأدب الألماني.
ومِثلُ هذه الدراسات كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: قد تفقد شيئًا من الضبط، والتحديد والدقة، لسعة أطراف البحث فيها، وإلى حاجتها إلى اطلاع وإلى ثقافة قد يعي بهما مجهود باحث بمفرده؛ ولكنها حتى في رسم الخطوط الكبيرة في التأثير بوجه عام ذات أهمية كبيرة للباحثين ودارسي الأدب.
ثم إن الآداب المختلفة لا تتعرض للتأثير بآداب أجنبية بنسبة واحدة في كل العصور، فقد يبقى الأدب القومي لدولة ما مقطوع الصلة بغيره في عصر ما، ثم يجدد صلاته بالآداب المختلفة على حسب أحوال العصر لكل دولة، وتبعًا لنشاط رجالها الفكري والسياسي.
لقد ظل الأدب الفرنسي مثلًا يستمد من الآداب القديمة اللاتينية واليونانية، ومع ذلك طغى عليه في القرن السادس عشر تأثير الأدب الإيطالي حتى غلب على كل تأثير سواه، وقد اتسم القرن السابع عشر في فرنسا بغلبة تأثير الأدب الإسباني عليه، ولما جاء القرن الثامن عشر التجأ أدباؤه وجهة الأدب الإنجليزي أولًا، ثم وجهة الأدب الألماني في النصف الثاني من ذلك القرن وفي أوائل القرن التاسع عشر، أما في أواخره، فقد ظهر تأثير الأدب الروسي والأدب الأمريكي وبخاصة في مؤلفي القصص والمسارح.
(1/562)
________________________________________
ويُجمل الدكتور محمد غنيمي هلال مظاهر التأثر والتأثير العامة المتبادلة بين الأدبين العربي والفارسي، فيقول: إن أول مظهر لهذا التأثير يتمثل في الترجمة؛ سواء من الإيرانية القديمة للعربية منذ العباسيين، أو من العربية الفارسية بعد الفتح الإسلامي، على أن الترجمة من العربية إلى الفارسية كانت أعمق أثرًا في أدب الفرس بعد الفتح، إذ بفضلها وجد النثر الفارسي وتطور، واتبع في تطوره نفس المراحل التي مر بها النثر العربي.
وعلى رغم صعوبة تحديد نشأة النثر الفارسي بعد الإسلام؛ فإن أقدم ما وصل إلينا منه يرجع إلى عصر الدولة السامانية في أواخر القرن التاسع إلى أوائل القرن الحادي عشر، وقد اعتمد في نشأته على أصول عربية، مثل ترجمة (تفسير الطبري)، و (تاريخ الطبري).
ومن المقطوع به أن اللغة الفارسية ظلت حتى بعد الفتح الإسلامي لغة الكلام وكانت تنظم بها الأغاني والأقاصيص الشعبية ولكنها ارتقت إلى المكانة الأدبية بفضل احتذائها اللغة العربية في صورة الترجمة، ولا بد أن تكون هذه الترجمة قد سبقتها جهود عديدة لإغناء تلك اللغة، تمهيدًا لصعودها إلى المكانة الأدبية، ومن هذه الجهود ما اعتمد قطعًا على شروح النصوص القرآنية والدينية أول العهد بالإسلام، وهي نصوص تتناول كثيرًا من شئون الحياة السياسية والمدنية.
وسند ذلك ما يحيكه المؤلف الفارسي أبو جعفر المرشخي في كتابه (تاريخ بُخارى)، عن أهل تلك المدينة من أنهم كانوا في أول العهد بالإسلام يقرؤون القرآن في ترجمته الفارسية، وكانت تلك القراءة تتبع حتمًا شروطًا وتعليقات لفهم معاني النصوص الأصلية، ولا يتأثر ذلك بدون إدخال كثير من الألفاظ العربية والمعاني التجريدية والصور الدينية، مما ترتب عليه حتمًا إغناء تلك المواد في أول عهدها بممارسات مثل تلك الموضوعات.
(1/563)
________________________________________
ويظهر ذلك الجهد واضحًا في ترجمة الوزير الساماني أبي علي محمد البلعمي لتاريخ الطبري في أواخر القرن العاشر الميلادي، متصرفًا على حسب حاجته وما يراه، ولا أدل على ذلك من قول البلعمي في مقدمته لترجمته الكتاب إلى الفارسية، إذ قال: لما وجدت ذلك الكتاب يحتوي على كثير من الحكم والأمثال، وعلى شرح آيات قرآنية وأشعار جميلة، وعلى سير الأنبياء والملوك، اجتهدت في ترجمته إلى اللغة الفارسية طالبًا من الله العون.
وبهذه الترجمة تحقق للغة الفارسية أسلوب الأدب النثري كما قال الدكتور هلال، وأسلوب بلعمي في ترجمته سهل خال من الحلية اللفظية إلا ما ندر من سرش وإلا ما يذكر أحيانًا من جمل أو من مفردات تتوالى على معنًا واحد، محاكاة للأسلوب العربي.
ونسبة الألفاظ العربية في هذه الترجمة ضئيلة تتفاوت ما بين ثلاث في المائة وخمسة وعشرين في المائة، وتكثر في الاصطلاحات والتعبيرات الدينية والكلمات التجريدية، وقلما تكون الألفاظ العربية في هذه الترجمة أسماء لأشياء محسة.
وبالترجمة أيضًا ظهر النثر الفني الفارسي، وذلك بترجمة أبي المعالي نصر الله لـ"كليلة ودمنة" من العربية لابن المقفع إلى الفارسية، حوالي عام خمسمائة وتسعة وثلاثين هجرية، وقد تصرف أبو المعالي في ترجمته تصرفًا خلق في لغته النثر الفني بخصائصه العربية.
وقد وصل هذا التأثير العربي أقصاه في العناية بالحلية اللفظية والسجع، بترجمة "الجربذقاني" كتاب (يمين الدولة) لأبي نصر محمد بن عبد الجبار العتبي إلى الفارسية عام أربعمائة واثنين وثمانين للهجرة.
(1/564)
________________________________________
وزادت نسبة الألفاظ العربية في الأصول فتراوحت في هذه المرحلة ما بين ثمانين وخمسين في المائة، حتى كادت تكون الكلمات عربية مرتبة على حسب قواعد النحو الفارسي، بل إن النحو نفسه لم يسلم من التأثير العربي، ومظهر ذلك حذف الفعل في بعض الجمل الفارسي أو تقديمه أو خلق الفعل المبني للمجهول على غرار ما في العربية وكذلك استعمال الحال كما في النحو العربي. وقد تم ذلك كله بفضل من يجيدون اللسانين العربي والفارسية.
وبفضل الترجمة على اختلاف صورها، تبادلت اللغتان التأثيرات فيما بينهما سواء في الأدب النثري أو التاريخ، أو المقامة، أو القصة على لسان الحيوان كما هو معروف.
ومن ذلك أيضًا أدب الحكمة والسلوك وهي حكم الملوك أو وصايا العظماء، أو حكايات خلقية عامة تمت بصلة إلى السياسة، وقد كثرت الكتب في هذه الموضوعات في الأدب العربي في العصر العباسي ومتأثرة بأدب النصائح الإيرانية، وكان هذا الضرب من الأدب قد لقي رواجًا كبيرًا في اللغة "البهلوية" في آخر العصر "الساساني".
وقد تكون لذلك صلة بنبوغ كثير من مسلمي إيران في القصص والمواعظ العربية ممن كانوا يجيدون اللغتين فيما يروي الجاحظ، مثل: الخطباء القاصين من أسرة الرقاشي، وكانوا خطباء الأكاسرة، ثم نبغوا في العربية نبوغهم في الفارسية، ومثل موسى الأسواري.
ولا شك أن هؤلاء كانوا ينتفعون في قصصهم ومواعظهم بثقافتهم الإيرانية؛ مما سوغ قول بعض متقدمي المسلمين من ذوي الميول الإيرانية فيما يروي الجاحظ: "من احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعبر والمثلات والألفاظ الكريمة
(1/565)
________________________________________
والمعاني الشريفة فلينظر إلى سير الملوك". أي كتب تاريخ الملوك الإيرانية وكتب "الشاهنامه" وهي تفيض بهذه الحكايات والنصائح ذات الطابع التاريخي، مما جعل بلعمي يعتقد أن الأخلاق هي لب التاريخ وجوهره، ومثالها ما كان في كتاب (التاج) لابن المقفع، وهو مفقود الآن، وقد بقيت لنا منه شواهد ساقها ابن قتيبة في عيون الآخبار في مواضع متفرقة كما بقي لنا منه شاهدان آخران في كتاب (تاريخ البيهقي) كما يذكر الأستاذ الدكتور محمد غنيمي هلال.
وكثير من هذه النصائح كان يساق في صورة توقيعات، وهي العبارات والجمل التي كان يُذيل بها الخلفاء والوزراء، ما يرفع إليهم من رقاع، فكانوا يوقعون عليها بإمضائها أو بإهمالها ومن هنا جاءت كلمت توقيع، وهي أن يكتب الشخص منا اسمه تحت الوثيقة أو تحت الرسالة أو ما إلى ذلك. ولكن التوقيعات في العصر العباسي لم تكن تقتصر على أن يكتب الخليفة أو الوزير اسمه أو يضع إمضاءه تحت الرسالة، وإنما يوقعها بمعنى يكتب تحتها عبارة أو جملة تُفيد موقفه مما جاء فيها.
والتوقيعات بهذا النحو من تقاليد الفرس القدماء، ومن ذلك ما يرويه ابن قتيبة من أن "آنوشروان" كان إذا ولَّى رجلًا أمر الكتاب أن يترك في العهد موضع أربعة أسطر؛ ليوقع فيه بخطه، فإذا أوتي بالعهد وقع فيه مثلًا: "أسِسْ خيار الناس بالمحبة، وامزج العامة الرغبة بالرهبة، سُس سفلة الناس بالإخافة". وعلى هذا النحو جرت عادت حكام العرب في توقيعاتهم، وهم متأثرون في ذلك بحكام إيران. ومن حكام العرب من نقل بعض هذه التوقيعات الإيرانية فترجمها كما هي إلى العربية.
وفي الرسالة "المعزولة إلى تنس رئيس الكهنة في عهد "أردشير" طائفة من هذه النصائح تذكر بناظرتها في الأدب العربي مما عزي إلى "بزرج هر"
(1/566)
________________________________________
ومن هذه النصائح الباقية من الأدب الدهلوي النصائح المعزوة إلى "آزرباز مهر سندان" رئيس الكهنة رعاية الشهبور الثاني في القرن الرابع الميلادي، وكذلك نصائح الحكيم "أشنر"، وهو شخصية أسطورية قديمة، ثم نصائح الخسرو الأول.
وكتاب ابن مسكويه في العربية صورة لهذه النصائح والوصايا الإيرانية، ولا شك أن لهذه النصائح صلة بالكتب العربية المؤلفة في المواعظ والآداب والحكم التي أوردها النديم في الفهرست.
وقد أثر الأدب الإيراني القديم والأدب العربي معًا في أدب الحكمة عند الفرس بعد الفتح، مما نراه في بعض أشعار "الشاهنامه" للفردوسي وفي "قابوس نامه" الذي ألفه "كيكاوس بن إسكندر بن وشم كير" المعروف بعنصر المعالي، وسياسة ناما لنظام الملك، وما إليها وإنما راج هذا الجنس الأدبي لدى العرب بتأثير الإيرانيين القدماء ثم لدى الفرس من المسلمين فيما بعد؛ لأن النصائح فيه عملية غير فلسفية ولها مساس بشئون الحياة اليومية، فهي أقرب إلى طبيعة العرب الأولى التي كانت لا تميل فطريًّا إلى التعمق في النظريات.
ثم إن هذه الحكم مسوقة في أصلها مباشرة من غير قرائن مسرحية أو ملحمية طويلة، وهذا طابع شرقي للحكم ومخالف للطابع اليوناني، وهذا مما يضعف احتمال تأثير اليونانيين في هذا الجنس الأدبي.
وأما الرسائل الديوانية والرسائل الإخوانية بأسلوبهما الأدبي وتقاليدهما؛ فتأثير العربية فيهما أوضح وأظهر، كما يتضح ذلك بالنظر إلى الرسائل التي جمعها وألفها بهاء الدين محمد بن مؤيد البغدادي المتوفى أواخر القرن السادس الهجري في كتابه المسمى (التوسل إلى الترسل) تلك هي أهم الأجناس الأدبية النثرية.
(1/567)
________________________________________
أما أجناس الأدب الشعري: فمنها ما يخص الحوار، والوقوف على الأطلال، وكذلك ما يخص أوزان الشعر، ويكتفي الدكتور محمد غنيمي هلال بأن يضيف أن القصيدة الغنائية في الفارسية سارت على نظام تتطورها في العربية؛ فكان الغزل فيها تابعًا للمدح، ثم صار الغزل جنس أدبيًّا مستقلًّا، ثم وُجد الغزل الصوفي.
والشعر القصصي في القصص الطويلة انفردت به الفارسية بوصفه جنسًا أدبيًّا مستقلًا؛ ولكن الأدب العربي أثر فيه في موضوعاته الدينية، كقصة "يوسف وزليخة"، أو موضوعاته الفلسفية الدينية كقصة "ليلى والمجنون"، أو في التيارات الفكرية الفلسفية التي غزته بتأثير الدين الإسلامي.
ومعلوم أن أدبنا الحديث اتصل بالآداب الكبرى العالمية وتأثر بها صنوف من التأثير، وينبغي للباحثين أن يقبلوا على دراسة هذه الألوان، وهو باب يجب على الدراسين المقارنين أن يقتحموه وأن يتخذوا من ميادينه موضوعات لدراساتهم المقارنية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/568)
________________________________________
الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة.
(1/569)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي والعشرون
(المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة)

الكلاسيكية
درسنا المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة.
تدخل المذاهب المذاهب الأدبية في الدراسات المقارنة بوصفها تيارات فكرية وفنية واجتماعية، تعاونت الآداب الكبرى العالمية في نشأتها ونموها، وقد مثل كل مذهب منها روح العصر الذي نشأ فيه خير تمثيل، وقد ازدهرت هذه المذاهب في الآداب الغربية منذ أسفر عصر النهضة الأوروبية عن الاستقرار الكلاسيكي بما ساد فيه من أسس فنية وفكرية، وأهميتها واضحة من ناحية تأثيرها العميق في أدبنا الحديث؛ إذ لا نستطيع أن نفهمه حق الفهم ولا أن نتبع جوانب التجديد فيه بدون القيام بهذه الدراسة.
ومقصدنا هنا بيان سير المذاهب بما يجلو معناها في مفهومها الكامل في الآداب الغربية لنشير بعد ذلك إلى مقدار إفادتنا منها.
وقد سبق الإيطاليون إلى التمهيد لنشأة المذهب الكلاسيكي، فقد كثرت عندهم ترجمات فن الشعر لأرسطو عن الأصل اليوناني في القرن السادس عشر، وكذلك فن الشعر لهوراس، وتوالت شروحهما، ثم ألفت كتب كثيرة أخرى عنوانها (فن الشعر)، وهي تنهج منهج هذين الكتابين، وتتأثر بهما، ولكن مع تأويل تبعد به قليلًا أو كثيرًا على المعنى الدقيق فيهما، كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال.
ومن الناحية الفنية: سارت الكلاسيكية على فصل الأجناس الأدبية بعضها عن بعض، وحافظت بعامة على الوحدات الثلاث في المسرحية، على حسب تأويل الإيطاليين لها عن أرسطو وعلى نظرية "محاكاة الأقدمين".
وتقوم الكلاسيكية على العقلية، والعقلية أساس لفلسفة الجمال في الأدب عند الكلاسيكيين؛ إذ الأدب في نظرهم انعكاس للحقيقة، وهم يرون أن الحقيقة هي
(1/571)
________________________________________
هي في كل زمان ومكان لا تتغير، والعقل هو الذي يحدد رسالة الشاعر الاجتماعية ويعززه القواعد الفنية الأخرى، وهو عماد الخضوع للقواعد عامة، ثم إنه هو الذي يوحد بين المتعة والمنفعة، ولا يصح أن يحاكى الأقدمون إلا بقدر إتباعهم للعقل، والعقل عند الكلاسيكيين يرادف الذوق السليم والحكم السليم، ومن هذه الناحية اتخذوه وسيلة لتثبيت دعائم التقاليد والقواعد المقررة، وهم يعارضونه بالذوق الفردي ويفضلون العقل عليه لأنه ثابت غير متغير؛ إذ أساس الجمال في الأدب أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان، وهم يترجمون العقل في النقد بخلق الجماهير التي يتوجه إليها الشاعر وبعاداتها، وهذا هو معنى التطابق بين العقل وما سموه الذوق السليم أو مراعاة ما يليق.
وجمهور الكلاسيكيين محدودٌ أرستقراطي، وليس أدب الكلاسيكيين أدبًا شعبيًّا، وحتى في (الملهاة) كان يقصد الكلاسيكيون إلى إرضاء السادة قبل الأرجوازيين وقبل سواد الناس، وهم يصرحون بأنه لا يتوجهون إلا إلى الخبراء بمهنة ربات الفنون، وفي ظل القواعد الكلاسيكية راج الشعر المسرحي وضعف الشعر الغنائي وانمحت الذاتية تحت سلطان المجتمع الإرستقراطي، وقد ساعد أدبهم على دعم القيم والتقاليد السائدة.

الرومانسية
أما الرومانسية: فهي اتجاهٌ في الفنون الجميلة والأدب يركز على العاطفة أكثر من العقل وعلى الخيال والبديهة أكثر من المنطق، ويميل الرومانسيون إلى حرية التعبير عن المشاعر أكثر من التحفظ والترتيب، وقد أظهر الفنانون والكتاب على مر العصور اتجاهات رومانسية، غير أن تعبير الحركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
(1/572)
________________________________________
وتلح الرومانسية على حرية الفرد، ولا تؤيد الأعراف الاجتماعية المقيدة ولا الحكم السياسي المستبد الظالم، وفي مجال الأدب يكون البطل الرومانسي عادة رجلا ثائرا وإذبان الحركة الرومانية لم يكن أغلب الكتاب راضين عن عالمهم؛ حيث كان يبدو لهم عالمًا تجاريًّا جامدًا وغير إنساني، وللهروب من الحياة الحديثة حوّل الرومانسيون اهتمامهم إلى أماكن بعيدة وخيالية، فاتجهوا نحو القرون الوسطى وإلى الفنون الشعبية والأساطير وإلى الطبيعة وعامة الناس، ويظهر في أعمال الشاعر الإنجليزي ويليم ويلز ويرث الكثير من السمات الرومانسية البحتة؛ إذ كان يفضل الذهن الخالي المستغرق في التأمل على البحث الدءوب عن المعرفة العلمية، وكان يرى أن الإنسان يتعلم من اندماجه مع الطبيعة أو الحديث مع أهل الريف أكثر مما يتعلم من قراءة الكتب، وكان يرى أيضًا أن الانسجام مع الطبيعة مصدر الفضيلة والحقيقة.
إن الرومانسية ذلك المذهب الأدبي الذي أخذ يظهر في أوروبا بعد قرن ونصف من ظهور الكلاسيكية، ولم تكن الرومانسية في الواقع ثورة على الآداب الإغريقية واللاتينية والكلاسيكية فحسب، بل كانت كذلك ثورة على جميع القيود الفنية المتوارثة التي حدّت من التطور الأدبي وحيويته، كانت ترمي إلى التخلص من كل الأصول والقيود التي أثقلت الأدب الكلاسيكي؛ لتطلق العبقرية البشرية على سجيتها دون ضابط لها سوى هدي السليقة وإحساس الطبع، وهناك قصيدة للشاعر الفرنسي ألفريد ديموسيه أجمع النفاد على أنها من روائع الرومانسية وعنوانها (ليلة أكتوبر) وتجري على صورة حوار بينها وبين ربة الشعر حول تجربة حقيقية عاشها الشاعر بكل أبعادها في حبه للكاتبة الفرنسية جورج صاند التي سافر معها إلى مدينة البندقية بإيطاليا؛ حيث سقط مريضًا
(1/573)
________________________________________
فعاده طبيب إيطالي وقعت جورج صاند في حبه وهجرت موسيه ليعود وحده إلى باريس كسير القلب، وفي خلال تلك المحنة أتته ربة الشعر فجرى بينهما الحوار التالي الذي أورده الدكتور محمد مندور في كتابه (فن الشعر):
الشاعر: لقد تبدد الألم الذي أضناني كما تتبدد الأحلام حتى لا تشبه ذكراه البعيدة ما يبعث الفجر من ضباب خفيف يتطاير وندى الصباح
ربة الشعر: ما بك إذًا يا شاعري، ما هذا الألم الخفي الذي أقصاك عني حتى ما أزال أشقى به، ما هذا الألم الذي خفي عني وإن طالما أبكاني
الشاعر: كان ألمًا مبتذلا مما يصيب الجميع، ولكننا نحسب دائمًا لخبرنا الجدير بالرحمة أن ما يتسرب إلى قلوبنا من ألم لم يتسرب مثله إلى قلب أحد سوانا
ربة الشعر: لا، ما في الألم من مبتذل إلا ألم نفس مبتذلة، دعْ عزيزي هذا السر ينطلق من فؤادك، افتح لي نفسك، وتكلم واثقًا من أمانتك فإن الصمت أخ للموت، ولكم شكى متألم ألمه فتعزى عنه، ولكم نجى القول قائله من وخزات الضمير.
الشاعر: إذا كان لا بد من الكلام عن ألمي، فو الله لا أدري بأي اسم أسميه، أكان حبًّا أم جنونًا أم كبرياء أم محنة، وما أدري من سيفيد من سماعه وأنا بعد قاصٌّ عليك نبأه، وقد خلونا إلى أنفسنا في جلستنا هذه إلى جوار الموقد، خذي قيصارتكِ وتعالي إلى جانبي ثم أيقظي ذكرياتي بعذب نغماتك.
ولا شك أن ذلك المعاني الذاتية لا تلاءم إلا الشعر الغنائي؛ حيث يجد فيه الشعر المنطلق الرحيب، إلا أن الرومانسيين لا يقتصروا على الشعر الغنائي فحسب، وإنما كانت لهم مشاركات في الأدب الموضوعي، وبخاصة الأدب التمثيلي، وبرزت في هذا الأدب أسماء لامعة وكانت مسرحياتهم روائع خارزة في المذهب
(1/574)
________________________________________
الرومانسي من أمثال ديموسيه وفيكتور هيجو الذي قام بترجمة مسرحية ويليم شكسبير إلى الفرنسية وأخذ في دراستها واستنباط خصائصها ومهاجمة الكلاسيكية خلال تلك الدراسة كما في مقدمة مسرحيات كرومويل التي هاجم فيها وحدة الزمان والمكان في المسرحية عند الكلاسيكيين؛ إذ المقصود من وحدة الزمان جعل المسرحية مشاكلة للحياة وكأنها صورة منها؛ ومن الأجدر إذا كان ذلك كذلك أن تحدد بساعتين أو ثلاث وهو الزمن الذي يستغرقه تمثيل المسرحية لا بأربع وعشرين ساعة، كما هاجم مبدأ فصل الأنواع الذي يقتضي في المسرحية الكلاسيكية عدم اجتماع مشاهد المأساة إلى جوار مشاهد الملهاة في المسرحية متحججًا بأن هذا المبدأ لا وجوه له في واقع الحياة؛ إذ الحياة كثيرًا ما تنقلب من جد إلى هزل ومن هزل إلى جد، وتنقلب معه عواطف الناس ومشاعرهم تبعًا لها الانقلاب.
وكان الأدب العربي الحديث له أيضًا حظه ونصيبه من الرومانسية التي على أساسها قام فيه عدد من المدارس الأدبية كمدرسة الديوان ومدرسة أبولو ومدرسة المهجر، بل إن مدرسة الديوان ممثلة في زعمائها الثلاثة "العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري" قد صدرت في نقدها لمسرحيات شوقي وشعره ونثر المنفلوطي عن الرومانسية ومبادئها وتعاليمها، متأثرة في ذلك بالرومانسية الإنجليزية، وتحت رايات هذه المدارس الأدبية في أدبنا العربي الحديث سطعت نجوم في سماء الشعر الرقيق الحالم من الأستاذ الدكتور إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأبو القاسم الشابي وعمر أبو ريشة وصالح جودت وميخائيل نعيمة، ومن قبل هؤلاء جميعا خليل مطران، حسبما جاء في مادة الرومانسية في (الموسوعة العربية
(1/575)
________________________________________
العالمية) وفي كتاب (الأدب ومذاهبه في الأدب والنقد) للدكتور محمد مندور وفي كتاب (الرومانتيكية) للدكتور محمد غنيمي هلال.
هذا في الشعر، أما في ميدان القصص فعندنا مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران وإبراهيم المازني وطه حسين وكرم ملحم كرم ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي، وكانت الرومانسية هي صرعة العصر في وقت من الأوقات، قبل أن تترك الساحة للواقعية عند انتشار الفكر اليساري في البلاد العربية، وبخاصة بعد اتخاذ ثورة يوليو المصرية الخط الاشتراكي سياسة لها.
وبرغم خلو آدابنا القديمة من الرومانسية مذهبًا يتخذه الأدباء عن وعي وقصد تبعًا لفلسفة يعتنقونها وظروف تدفع جموعهم إليها كما هو الحال في تاريخ الآداب الأوروبية، فمن السهل على من لديه معرفة بتاريخ الشعر العربي بالقديم أن يمدّ يد إلى أي عصر أدبي بدءً من العصر الجاهلي ذاته، فيقتطف بكل سهولة باقةً من الشعر الفوّاح بعبق الرومانسية.
أليست الرومانسية في جانب من جوانبها ثورة على العقل وسلطانه وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية والاجتهاد في تقليدها ومحاكاتها؟
أليس الأدب الكلاسيكي هو أدب العقل والصنعة الماهرة وجمال الشكل والمواضيع الإنسانية العامة واتباع الأصول الفنية القديمة، ثم جاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال والتمرد الوجداني والفرار من الواقع والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب؟
ألم يظهر الفنانون والأدباء على مر العصور اتجاهاتهم الرومانسية رغم أن مصطلح الحركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت في أوروبا من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؟
(1/576)
________________________________________
فلنأخذ مثلًا قصيدة "عبد يغوث" التي نظمها وقد وقع أسيرًا في يد أعداء قبيلته، فقيدوه وشدوا لسانه بنسعة كي لا يقول شعرًا في هجائهم فيفضحهم بين القبائل، وأسروا على أن يقتلوه بفارس من فرسانهم سقط في معركة دارت رحاها بينها وبين قبيلة الشاعر الذي كان قائدًا قومه أو واحدًا من كبار قادتهم، ففي هذه القصيدة يسود جو من الأسى والألم وترفرف راية الموت السوداء وتنثال الذكريات على الشاعر حزينة تلذّع قلبه تلذيعًا، وبخاصة بعدما تبين له أنه لا فائدة ترجى من المفاوضات إلتي حاول أن يديرها بينه وبين آسريه عارضًا فيها دفع ما يريدون من دية حتى لو استغرقت ماله كله وتركته حريبًا -أي فقيرًا فقرًا مدقعًا لا يملك شرو نقير-.
أليس هذه القصيدة تخلو من نهج القصيدة التي ذكر ابن قتيبة أنه واجب الاتباع بحذافيره من بدئها بالوقوف على الأطلال ثم التثنية بركوب البعير والانطلاق في رحلة الصحراء والتثليث بوصف كل ما يمر به الشاعر في رحلته تلك التي أمضى فيها بعيره وأرهق نفسه وصفًا لا بد من التزامه التزامًا صارمًا، دون أي خروج عنه في اشد التفاصيل دقة، تُرى أي فرق بين تلك القصيدة وبين أية قصيدة رومانسية مما نعرف من شعر العصر الحديث، وبحق يكتب أحدهم في بعض المنتديات المشباكية قائلًا:
قريبة إلى نفسي هذه الياء التي اختتمت بها قصيدة عبد يغوث بن وقاص تجربة الشاعر الجاهلي اليمني عبد يغوث كانت عند هزيمة قومه حينما يجره سوء حظه إلى أن يقع أسيرًا في صفوف أعدائه بعد أن كان قائدا لقومه مذحج، ويحاول الأسير أن يفدي نفسه ولكن أني له ذلك وقد تمادت تميم في حرصها عليه بل أبت إلا قتله بالنعمان بن جساس قتيلهم في يوم القلاب الثاني، وهو موضع أسر عبد يغوث بن وقاص الحارثي، ولم يكن عبد يغوث قاتله، ولكن تميمًا تنتهي بالرأي
(1/577)
________________________________________
إلى إجماع الرغبة على قتله كفارس مذكور في قومه وشاعر ذائع الصيت بينهم، وكانوا قد شدوا لسانه لئلا يقدم على هجائهم أو التعريض بهم أو رصد مثالبهم، ولما ذاق الفارس الأسير أنه مقتول لا محالة طلب إليهم أن يطلقوا لسانه لعله يذم أصحابه. ممن تركوه وغدروا به أو لعله يرثي نفسه قبل موته، كما طلب منهم أن يختاروا له قتلة كريمة تليق بمكانته وفروسيته، فأجابوه إلى رغبته وسقوه الخمر وقطعوا له عرقًا يقال له الأكحل، وتركوه ينزف حتى مات، ويقال: أنه نظم يائيته المشهورة وقد جُهّز للقتل، فراح من خلالها يحكي قصة ألمه إزاء ما كان من قومه وقد تركوه حين هزموا ولو شاء الفرار لسهل عليه أمره، ولنجا من مأزق أسره، ولكنه آثر الثبات من أجل حماية قومه، فإذا به في موقف لا يحسد عليه بين مهادنة ومذلة يترجمها موقف نساء تميم منه وهن يهزأن به ويسخرن منه ويراودنه عن نفسه.
وهناك كذلك رثاء الخنساء لصخر أخيها ذلك الرثاء التي وقفت حياتها كلها عليه، لا تريد أن تتوقف أبدًا عنه رغم تمادي الزمن، ومنه كذلك أشعار العذريين وكثير عزى، المفعمة بالحرمان والعذاب والعكوف على المشاعر الباطنية يجترها الشاعر في ألم لا يعدله ألم صارخًا حيث لا يسمع صريخه ولا يمد يده إليه أحد، ولا ننسى مثلا أبيات ابن خفاجة في وصف الجبل المتوحد في قلب الصحراء؛ حيث لجأ إليه ذات ليلة ومد أذنه ليسمع الكثير من أخبار ماضيه وما مر به من أحداث وناس ومفارقات، فسمع حديثًا عجبًا، أو أبيات البحتري في وصف الربيع وهو يستيقظ من رقدته الشتوية مختالًا ضاحكًا ابتهاجًا بما حباه الله به من الحسن والجمال، حتى أوشك أن ينطق من الفرح والابتهاج.
(1/578)
________________________________________
الواقعية
أما بالنسبة للواقعية: فكما يقول الدكتور مندور في كتابه (الأدب ومذاهبه): نشأ هذا المذهب في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي تحت تأثير الحركة العلمية والفلسفية؛ ردّ فعل على الإفراط العاطفي الذي اتسمت به الرومانسية، وقد عمد الواقعيون إلى تشخيص الآفات الاجتماعية وتصوير معاناة الطبقة الدنيا، وبالغوا في ذلك حتى اتسم أدبهم بطابع تشاؤمي ومسحة سوداء.
ويعد بلزاك الرائد الأول للواقعية في فرنسا، وقد خلّف أكبر موسعة في الأدب الواقعي تشمل نحو مائة وخمسين قصة أطلق عليها اسم (الكوميديا البشرية)، تمثل قطاعات مختلفة من الحياة، كما نجد عدة أدباء آخرين من فرنسا مثل الجوستاف فلوبير.
ويقول الدكتور مندور: إن الواقعية كمذهب أدبي ليست هي الأخذ عن واقع الحياة وتصويره بخيره وشره كالآلة الفوتوغرافية، كما أنها ليست معالجة لمشاكل المجتمع ومحاولة لحلها، بل هي فلسفة فهم الحياة والأحياء وتفسيرهما لها وجهة نظر خاصة ترى الحياة من خلال منظار أسود، وتؤمن بأننا لو نقبنا عن حقيقة الشجاعة والاستهانة بالموت مثلًا لوجدناها يأسا من الحياة أو ضرورة لا مفر منها، مثلما أن الكرم في حقيقته أثرة تأخذ مظهر المباهاة والمجد والخلود؛ تكالبٌ على الحياة وإيهام للنفس بدوامها أو استمرارها، وهكذا الأمر في كافة القيم المثالية التي نسميها قيمًا خيرة فهي ليست واقع الحياة الحقيقية. وتمثل الواقعية الجانب الواقعي من المجتمع والحياة إذ ترى أن الحياة كلها شرّ ووبال، وأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كان ماكرًا مخادعًا.
(1/579)
________________________________________
لكن هناك في ذات الوقت لونا آخر من الواقعية كانت تعرفه الآداب الاشتراكية أيام كانت هناك اشتراكية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي والدول التابعة له جراء ثورة الشعوب على أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا اللون من الواقعية يركز على ما في الحياة من أوضاع تدعو إلى التفاؤل وتؤدي إلى نتائج إيجابية بدلًا من تلك النظرة المتشائمة السوداوية التي تسبق الواقعية الغربية؛ ذلك أن الاشتراكيين كما ذكر الدكتور مندور يؤكدون أن الأدب اختيار وأن الأدباء الذين يختارون الشخصيات الشريرة المؤذية أو السلبية المتخاذلة إنما ينمّون عن ضعف وشيخوخة في رؤيتهم للحياة، ولو كانت رؤيتهم للحياة رؤية متفائلة ما ركّزوا على الجانب الأسود منها، ذلك الجانب الذي من شأنه أن يثبط الهمم ويدعو إلى اليأس وينشر روح الهزيمة والانهيار أمام عوائق الحياة، بخلاف ما لو اجتهدوا في إبراز الطاقات البشرية المذخورة القادرة على صنع الأعاجيب، فعندئذ تسود مشاعر التفاؤل بين أفراد الشعب ويبذلون غاية جهدهم ويستطيعون التغلب على عقبات الحياة، ويحققون نتائج مذهلة.
والواقع، أنه لا هذه النظرة ولا تلك هي النظرة الصحيحة للوجود؛ ففي الوجود ما يدعو إلى التشاؤم وفيه في ذات الوقت ما يدفع إلى الابتهاج والتفتح للحياة والتفاؤل بالمستقبل، بيد أن الظروف تختلف من شخص إلى آخر ومن فترة تاريخية لأخرى ومن مجتمع إلى مجتمع غيره، وهكذا، على انه ينبغي أن لا يستسلم الأدباء لمعوّقات الحياة والمجتمع في الفترات التي تنتشر فيها العيوب والسلبيات، بل عليهم إلى جانب تصوير تلك المعايب والشرور ألا يغفلوا عما في الحياة من جوانب الخير والأمل حتى لا يكونوا بدورهم عبئًا على المجتمع والقوى الناهضة المكافحة، ولكن بشرط ألا يزيفوا الواقع ويقدموا صورة براقة لا تساعد الوقائع اليومية على تصديقها وتقبلها، كما كان يحدث في أحيان غير قليلة في الأدب
(1/580)
________________________________________
الاشتراكي على أيام الاتحاد السوفيتي؛ حين كان الناقد سيمينوف مثلا يعلن أن أدبهم يهدف إلى تغليب عوامل الخير والثقة في الإنسان وقدرته وأن واقعيتهم واقعية متفائلة تؤمن بإيجابية الإنسان وقدرته على الإتيان بالخير والتضحية في سبيله بكل شيء في غير يأس ولا تشاؤم ولا مرارة مسرفة كما يقول الدكتور مندور في كتابه السالف الذكر، وكانت الأعمال القصصية تبالغ في تصوير نفوس الخيرة مبالغة لا يستطاع هضمها.
ورغم أن مصطلح الأدب الواقعي يعني ما قلناه من قبل فليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك قط أدب واقعي قبل الفترة التي ظهرت فيها الواقعية بالمعنى السابق إذ هناك فرق بين الواقعية بهذا المفهوم المحدد وبين الواقعية بالمعنى الواسع الذي لا يرتبط بفترة تاريخية ولا بظروف اجتماعية وسياسية معينة، والذي يقوم على ملاحظة الواقع وتسجيله لا على صور الخيال وتأويله، فيكون ذلك معارضًا للرومانسية إذ يستقي الأدب مادته من حياة عامة الشعب ومشاكله، وكل ذلك معارضًا لما يسمى أدب البرج العاجي؛ أي أدب أرستقراطية الفكر والخيال الذي يناقش القضايا الميتافيزيقية أو الموضوعات التاريخية المأخوذة من بطون الكتب لا من قلب الوقائع.
ولا يخلو أدبنا القديم من نصوص ذات عناصر واقعية، وإن لم يكن وراءها تنظيم نقدي كالذي واكب ظهور الواقعية في أوروبا، فلدينا مثلًا شعر عمر بن عبد ربيعة في التعرض للنساء حتى في مواسم الحج وتحمل ما يمكن أن يصيب المتعرض لهن مما يمس الكرامة أحيانًا وعدم المبالاة بأقاويل الناس وكذلك النظر إلى المرأة على أنها شيئًا يُستمتع به دون التقيد بشخص امرأة بعينها؛ بحيث إذا غابت أو هجرت أو غدرت اسودت الدنيا في وجه من يحبها واستحالة حياته جحيمًا لا يمكن احتماله.
(1/581)
________________________________________
وتزداد الأمور إيغالًا في الواقعية على يد شاعر كبشار بن برد الذي لم يكن يرى في المرأة أو يهمه منها إلا جسدها، وما يرويه هذا الجسد من شهوات دون المبالاة بالناحية الروحية فيه على الإطلاق.
ومن الشعر الذي ينحو منحًا واقعيّا ما نظمه أبو نواس مثلا من قصائد تقص مغامراته في عالم الحانات وتصف مجالس الشراب؛ حيث لا يترك تفصيلة من تفاصيل الواقع الحي إلا يسجلها ويبرزها، وكأننا رفقاء له في تلك المغامرة وهذه المجالس؛ يراه ويسمع ويشمه.
وفي ألف ليلة وليلة حكاية تقدم لنا كثيرا من المشاهد الواقعية مصوغة بلغة تخلو تمامًا من أي تأنق أو تكلف؛ لغة بسيطة بساطة اللهجة العامية، وإن اتبعت إلى حد معقول قواعد النحو والصرف، ولكن في أيسر صورها وأقلها مؤنة، كما هو الحال مثلا في حكاية احمد الدنف وحسن شومان مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة، وهي مجرد مثال وإلا فهناك عشرات القصص التي تتسم بالواقعية في التعبير والتصوير معًا.
كما أن هناك أنواع أخرى من القصص الواقعي غير ألف ليلة وليلة على ما هو معروف لمن يتصلون بالأدب العربي ويعرفونه درره ولآلئه.
أما في الأدب العربي الحديث فللواقعية فيه سجل واسع؛ إذ انصرف الأدباء عن الاهتمام بالقصص الغرام المسرفة في المثالية والخيال، وكذلك عن الطبيعة بحقولها وطيورها وجداولها التي يتجاوب معها أبطال الشعر والقصة، إلى درجة الفناء فيها، وتحولوا إلى رصد الواقع البائس للعمال والفلاحين وهتفوا لأوطانهم وثاروا في وجه المحتلين الغاصبين، ومجّدوا بطولات المقاومة، وبدلا من "زينب" لهيكل مثلا و"إبراهيم الكاتب" للمازني و"عودة الروح" و"آل الكهف" للحكيم
(1/582)
________________________________________
و"دعاء الكروان" لطه حسين و"نقطة ضوء"، و"لقيطة" لمحمد عبد الحليم عبد الله، والأشعار الوجدانية المجنحة التي يعكف فيها الأدباء على ذواتهم يجترّون أتراحهم وأفراحهم كما هو الحال بأشعار المازني وشكري وناجي والهمشري مثلا- أصبحنا نقرأ "عاصفة على مصر" لعصام الدين حفني ناصف و"مليم الأكبر" لعادل كامل و"بداية ونهاية" لمحمود محفوظ و"حواء بلا آدم" للاشين و"الشاعر الجديد" للسحّار و"وطني عكا" للشرقاوي، وأشعار فوزي العنتيل وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم، ثم تنامي هذا الاتجاه إلى أقصاه في عهد عبد الناصر حين ولى وجهه نحو الكتلة الاشتراكية، فتحول كل شيء تقريبًا من فن وأدب إلى الشعب وقضاياه، وسار كل من يكتب على الطريقة الحالمة القديمة عُرضة للتهكم ويُسمى أدبه أدب البرج العاجي، وإن انقلبت الأمور بعد ذلك حين ركب الموجة كل من هبّ ودب، فأطلق النقاد على هذا اللون الدعائي الفاقع "الأدب الهاتف" بدلا من "الأدب الهادف" أي أدب الواقعية الذي يهدف إلى إيقاظ المظلومين والمطحونين واستفزازهم للثورة من أجل نيل حقوقهم المهدرة، وهذا في مصر وحدها، وقس عليها ألوانًا أو كثير ًا من الدول العربية الأخرى.

الرمزية
ونص ل ل لرمزية؛ والرمزية حركة أدبية بدأت بمجموعة من الشعراء الفرنسيين، في الفترة من 1885 إلى 1895 كان قائدها ستيفان مازر ميه، وتتضمن القائمة المنظّرين للرمزية كلٍّ من رينيه جِل وجوستاف كان وجيم موريس وتشارلز موليز، وتبعهم في تبني أسلوب الرمزية بعد ذلك الكثير من الشعراء الأوروبيين في بداية القرن التاسع عشر، واهتمت رمزية الجانب الروحي والأحاسيس المعنوية
(1/583)
________________________________________
الأخرى، وشعراء الرمزية يُعنون بالإيقاع الموسيقي للألفاظ ويعبرون عن أنفسهم بصورة مجازية، وقد رمى بعضٌ من النقاد هذه الحركة بالانحلال والانحطاط؛ نظرًا لتسلط فكرة الموت والتشاؤم بصورة عامة عليها.
والحق أن الأدب الرمزي إنما هو محاولة من الأديب للإفصاح عن العواطف المكبوتة في أعماق النفس البشرية، والإتيان بالصور من العقل الباطن إلى قارئه إلى مستعينا في ذلك بدرس الألفاظ وإيقاع الوزن وتراسل الحواس، وقد قام الشاعر الفرنسي بول فيرلين في سبعينيات القرن التاسع عشر الميلادي بجولة في مناطق متعددة من بريطانيا وهولندا وبلجيكا، بصحبة أرثر رامبو واصفًا المناظر الطبيعية هناك في إطار من التخيلات الواسعة الشبيهة بالأحلام تحت عنوان "أغان بدون كلمات" صدرت عام ألف وثمانمائة وأربعة وسبعين ميلادية، وعكست قصائده الشجية العفوية وما فيها من صور غريبة كالسموات الرمادية والقمر الشاحب والكمال الحزين- نوعًا من السمات الحزينة المتشائمة.
والمبادئ الرمزية: الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال؛ بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية، والبحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي ويعوضهم عن غياب العقيدة الدينية، وقد وجد الرمزيون ضالتهم في عالم اللاشعور والأشباح والأرواح، واتخاذ أساليب تعبيرية جديدة واستخدام ألفاظ موحية مثل لفظ الغروب الذي يوحي بالزوال والانقباض، وكذلك تعمد الرمزية إلى تقليب الصفات المتباعدة رغبة في الإيحاء، مثل تعبيرات: الكون المقمر والضوء الباكي والشمس المرة المذاق وتحرير الشعر من الأوزان التقليدية.
(1/584)
________________________________________
لقد دعا الرمزيون إلى الشعر الحر التي تساعد الموسيقى في دفقات الشعور غذ كانوا يعتقدون أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعرية العميقة، فلم يبقَ إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره، والواقع أن هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوروبي وضياعه بسبب طغيان النزعة المادية وغيبة الحقيقة والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها من خلال علومٍ توهم بالخلاص؛ إنه ثمرة من ثمرات لفراغ الروحي والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرمز في التعبير عنها فضلا عن الضيق من المذهب الواقعي الذي اتجه نحو الواقع المادي الملموس، وكذلك التقدم الذي أحرزه علم النفس على يد فلوريد وأتباعه الذين اتجهوا إلى قرار النفس الإنسانية.
فالرمزية كما نرى مذهب أدبي يعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح؛ نأيًا عن عالم الواقع إلى عالم الخيال، وبحثًا عن مثالية مجهولة تعوّض الشباب عن غياب العقيدة الدينية باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة والألفاظ الموحية وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية، كذلك لا تسمو الرمزية على الأقل في بعض الحالات بالمبالغة في الأسلوب ولغة الأداء، فتدون عناصرها بألفاظ وصور بعيدة عن المألوف حتى تكاد أن تلحق بالطلاسم.
ونلحظ في كثير من الأعمال الرمزية الغموض والتناقض وإرغام لغة الأديب على التقريب بين الأشياء المتباعدة، يقول ستيفن مازر ماي مثلًا عن الربيع:
لقد طرد الربيع الشاحب في حجر الشتاء الظامئ
وفي الجسمية الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى الفجر في تثاؤب طويل
(1/585)
________________________________________
إن شفقًا أبيض يبرز تحت جمجمتي
التي تعضها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم.
وهناك أيضًا تركيز الرمزيين على العنصر الموسيقي في شعرهم؛ إذ عدوه جزءًا من تكوين النص الرمزي فضلا على اعتمادهم إلى حد بعيد على تراسل الحواس في التعبير الأدبي، وإيمانهم الراسخ بمبدأ الفن للفن؛ أي أن يكون الأدب غاية في ذاته لا يوظف من أجل تحسين الواقع.
أما المقصود بتراسل الحواس فهو أن يوصل الشاعر دلالات مبتكرة من خلال تبادل معطيات الحاس؛ كأن يستخدم حاسة اللمس لما يقتضيه السمع، وهو ما يعني أن يشم الشاعر من خلال حاسة السمع أو يتذوق بحاسة البصر، أو يرى بحاسة اللمس؛ أي أن الشاعر يحطم المنطق العلمي المحسوس ويفرض منطق الحلم والوهم، بهدف نقل مشاعره وأحاسيسه إلى المتلقي.
وقيل عن الرمزية: إنها أدب الصفوة؛ فأصحابها لا يحفلون بسواد الشعب، بل يتوجون إلى الصفوة بحيث يغدو فهم الأدب الرمزي مقصورا على الذين تمكنوا من بعض العلوم الإنسانية كعلم النفس الجماعي الذي بيشرحه كل من يونج وأدلر، وعلم التحرير النفسي الذي اكتشفه وعرفه العالم النمساوي فرويد.
ومن مبادئهم أيضًا الإيمان بالصنعة دون الإلهام، وفي تقديري وفي ذلك يقول فاليري: إذا آمن الشاعر بالوحي قَتل الإبداع.
كذلك نراهم يلجئون إلى الأساطير وذلك عندما يصفون موضوعات إنسانية لها علاقة مباشرة بالفلسفة أو الأخلاق.
والرمزيون بالإضافة إلى هذا يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية بأساليبها الواضحة المشرقة ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية
(1/586)
________________________________________
على التعبير القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير، ويرون أنه لابد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية؛ لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير؛ كي تستوحي من الصورة معاني وخواطر جديدة؛ إذ الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل ويثير ما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة والأجواء النفسية فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها.
على أنه لا بد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء وانسيال الخواطر لا أن يكون من نوع ألأحاجي والألغاز، ولعل هذا ما يعبر عنه الشاعر بول فيرلين بقوله: أحب شيء إلي هو الأغنية السكرى؛ حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللامحدود، ويقول أيضًا تتمة لهذا المعنى: الأهمية الأولى للظلال لا للألوان كما تتراءى العيون السحابة من خلف النقاب، فعبر بالظلال عن الصور الشعرية الغامضة الموحية، وبالألوان عن الصور الشعرية الواضحة.
والملاحظ، أن الرمزيين يحرصون على اختيار الألفاظ المشعة، التي توحي بأجواء النفسية خاصة وانفعالات عاطفية رحيبة؛ مثلا لفظة الربيع توحي بمنظر المياه الدافقة والخضرة اليافعة والأشجار المورقة الباسقة، وتسمعك خرير الماء وزقزقت العصافير وتغريد البلابل وصدح العنادل وتشعرك بالمتعة والانبساط والارتياح وانشراح النفس ونقاوة الضمير؛ ولهذا لا يُسمى الشعر عند الرمزيين شعرًا إلا إذا كان غامضًا موحيًا مهمًّا شافًّا عن أجواء نفسية غريبة متنوعة.
ولعلنا نستطيع أن نلم بمنهج الرمزية إذا رددنا النظر في قصائد الرمزيين، وفيما يلي قصيدة للشاعر ستيفن منرميه سبق أن استشهدنا منها ببعض الأبيات وفيها يقول:
لقد طرد الربيع الشاحب في حزن
(1/587)
________________________________________
الشتاء فصل الفن الهادئ الشتاء الضاحي
وهو في جنبي الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى العجز في تثاؤب طويل
إن شفقًا أبيض يبرز تحت جمجمتي
التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم
وأهيم حزينا خلف حلم غامض جميل
خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له
ثم أمرح منهوك العصب بعدة أشجار
وأحفر برأسي قبرًا لحلمي
وأعض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس
ومع ذلك فزقزقت السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ
حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس
ومنرميه في هذه القصيدة إنما يعبر عن الحالة النفسية التي يعيشها بسبب ما يرهقه -بل يخنقه- من ملل مقتنصًا من مظاهر الطبيعة صورا مزينة، وفي هذا الشأن شيء من غموض، لكنه الغموض الذي يوحي بإدراك المعنى والجو النفسي للشاعر، وليس بغموض أولئك الشعراء الناشئين المقلدين الذين يتنطعون ويتقعرون كما يقول الدكتور مندور، ويجعلون من ذلك الغموض شيئا أشبه بالألغاز، لا يدركون -حتى هم أنفسهم- معناه، وإنما يقصدونها سترا لعجزهم وإيهامًا للناس بشاعريتهم.
(1/588)
________________________________________
ويوضح مندور قائلًا: إنه قد يتبادر إلى ذهن القارئ: أن الرمزية لم تظهر إلا في الشعر، وأن الشعراء وحدهم هم الذين اهتموا بها نظرًا لما فيه من الغموض الذي بطبعه يناسب الشعر، لكنها في واقع الأمر لم تقتصر على الشعر الغنائي والنسوي، وإنما تعدته للأدب الموضوعي الذي يهتم بمشاكل الإنسانية والأخلاق الاجتماعية العامة تعالجها بوساطة الأخيلة والصور، ولكن يجب ألا يعزب عن البال أن الرمزية لا تأخذ في معالجة هذه المشاكل والأخلاق وتحليلها ونقدها كما في الكلاسيكية مثلًا، بل تأخذ في تقصير الأفكار النظرية المجردة وإلباسها شيئًا من الحوادث والأفعال، وتصبح ديناميكية متحركة، وتلمح من خلالها الحقائق الفلسفية والخفية.
ويضيف قائلا: إن الرمزيين كثيرًا ما يلجئون في علاج هذه الموضوعات إلى الأساطير القديمة، بل إنهم لينحون نحوها في ابتكارهم للحوادث والأعمال عند عرضهم أو مناقشاتهم أية قضية إنسانية، كما هو الملاحظ في القصص والمسرحيات التي ابتكروها من أخيلتهم كمسرحية "الأشباح" لأبسن ومسرحية "صفقة الشيطان" لجيروم، وتعرض المسرحية الأولى من خلال الوقائع مشكلة توارث الخطيئة على نحو يكاد يكون عضويّا لا دخل للوعي ولا للإرادة فيه؛ إذ نرى في هذه المأساة أبا يفسق بخادمته ثم يرث ابنه منه هذه الخطيئة فيهمّ هو الآخر بأن يفسق بخادمته على الرغم من أنه لم يعش في جو أسرته ولم يعش في جو الخطيئة بل أرسلته أمه بعيدًا عن ذلك المحيط الملوث ليتعلم ويتثقف، ولكنه همّ بفعلته تلك بعد عودته، فكأنها غريزة فيه وصفة فطرية ورثها من والده لا يستطيع عنها فكاكًا، وتصور المسرحية الثانية قضية صفقة تجارية يجريها شيخٌ شرير مع شابٍّ خيّر فيتبادل كل من روح صاحبه، ولكن كلا من الروحيين لا يستقر في جسم الآخر، فكأن هناك تلازمًا بين الجسم والروح.
(1/589)
________________________________________
وقد اتصل أدباء العرب المحدَثون بالأدب الرمزي لدى الغربيين، مما أدى إلى تأثرهم بذلك الأدب بدرجات متفاوتة، إلا أن الرمزية لم تشكّل مذهبًا واضح المعالم عندنا، ومن أهم الأدباء الذين نجدُ لديهم سمات رمزية جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومي زيادة ومصطفى صادق الرافعي. ويقول بعض الدارسين: إن أديب مظهر المتوفى عام ثمانية وعشرين في السادسة والعشرين من عمره هو أول شاعر عربي أدخل جذوة الرمزية إلى الشعر العربي في قصيدته "نشيد السكون" وكان مقدرا له أن يبرز لولا أن الموت عاجله وهو صغير السن، كما اشتهر في هذا الاتجاه الشاعر اللبناني سعيد عقل الذي كان من أوائل الأدباء العرب نقلا للرمزية الغربية، وكان يرى أن وظيفة الشعر هي أن لا يخبر بل يوحي ويلمِّح، وأصر على الإدراك اللامنطقي والحدسي للعالم، كما اعتبر أن الشعر موسيقى قبل أن يكون فنًّا فكريًّا.
ومن تأثروا بالرمزية أيضًا يوسف غصوب وجورج صيدح وإيليا أبو ماضي وبعد سنة ألف وتسعمائة وخمسين شاعت في الشعر العربي حركة جديدة تتسم ببعض الخصائص الرمزية، من أبرز أعلامها بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعد يوسف ونازك الملائكة وخليل الحاوي ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور، وكان للترجمة التي قام بها عدد من الأدباء ولاسيما تلك التي قامت بنشرها مجلات عربية مشهورة مثل المقتطف والمكشوف والرسالة والأديب أثرٌ واضحٌ في نقل الآداب الغربية التي أخذت بأساليب المدرسة الرمزية.
لقد لقيت الرمزية في وقت ما اهتمامًا من الشعراء العرب، وانتشرت على أوسع نطاق
(1/590)
________________________________________
ولم يكن ظهور الرمزية في أدبنا خاضعًا لنفس الظروف التي نشأت في كنفها الرمزية في الأدب الغربي.
ومن مظاهر الرمزية عند جبران خليل جبران قصيدته "المواكب" التي اعتمدتفي بعض صورها على تراسل الحواس كما في قوله:
هل تحممت بعطر
وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرًا في كؤوس من أثير
وفيه أخذ الحس النفسي للاستحمام مكان الحس الشمي العطر، والحس البصري النور مكان الحس اللمسي التنشف، والحس الذوقي الشرب مكان الحس البصري.
ومن هذا القبيل أيضًا قول الشاعر الجارم:
أسوان تعرف إذا اختلط الدجى
بالنبرة السوداء في أناته
فقد وصف النبرة وهي صوت بالسواد وهو لون. ولا شك أن وصف النبرة بالسواد في هذا المقام أقدر عن الإيحاء بالجو النفسي الذي يحسه الشاعر ويريد أن ينقله إلينا، وفي تبادل الحواس لصفاتها ما قد يساعد كثيرا على نقل أثر نفسي. ومن ذلك أيضًا قصيدة مرسلة للأستاذ ألبير أديب بعنوان "حياتنا" يقول فيها:
حياتنا شباب وفكر أخضر
وعواطف من عمل الربيع
وقلوب من ندى الفجر
نجمعها ونغسل بها أرض الأزقة
(1/591)
________________________________________
أو نروي رمال الصحراء
ثم هي ليلة وضحاها
فإذا الزوبعة تذهب بنا
فنأخذ معنا كل أحلامنا وأمانينا
ونحن على قدم من الهاوية أو أقل
ما زلنا نؤسس ونبني ونقيم
فما أسخفنا لا نجعل أيامنا ابتسامة
ونقيم علينا رب
لا يعرف كيف يجعلنا نبتسم حتى لأنفسنا
فنحن هنا أمام شيء فيه شفافية وفيه شيء من غموض ومن إيحاء، وفيه كذلك شيء مما يسمى بتراسل الحواس عند الرمزيين، فقد وصف الفكر بالاخضرار وجعل العواطف من عمل الربيع وصاغ القلوب من ندى الفجر.

السريالية
أما السريالية، فكما جاء في المادة المخصصة لها في الموسوعة العربية العالمية: هي مذهب في الفن والأدب أسسه في باريس عام أربعة وعشرين وتسعمائة وألف الشاعر الفرنسي أندريه بريتو، ويحاول أصحاب ذلك المذهب أن يكشفوا عن واقع جديد يتجاوز الواقع الفعلي، وهذا واضح من مدلول المصطلح ذاته؛ إذ هو كلمة تعني ما فوق الواقعية، وهم يدّعون أنهم يصنعون أشكالًا وصورًا، لا
(1/592)
________________________________________
بوعي وتفكير بل بإحساس فطري خالص وعن طريق المصادفة، وباستخدام هذا المنهج نراهم يزعمون أن بإمكانهم صنع عالم في مجال الفن والأدب أكثر جمالًا من العالم الحقيقي.
ويقول الدكتور محمد مندور في كتابه (الأدب ومذاهبه): إنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى تضافرت الفلسفة الفرويدية مع المحنة الإنسانية العاتية التي أصابت البشر بويلات الحرب، فتصدعت القيم الإنسانية وهانت الحياة على الإنسان بعدما رأى الفساد يتربص به في كل مكان، ونشأت رغبة جارفة للتحلل من الأخلاق وانتهاب اللذات قبل أن تفنى الحياة وتمضي إلى العدم، وسادت نزعة تحرير الغرائز المكبوتة في النفس البشرية والرغبة في إشباعها إشباعًا حرًّا طليقًا لا يخضع لأي قيد ولا تردعه أية مواضعة من مواضعات المجتمع، ولم تقتصر هذه النزعات على الحياة، بل امتدت إلى الفن والأدب اللذين يصدران عن هذا النوع من الحياة؛ مما أدى إلى ظهور المذهب المعروف بالسريالية -أي مذهب ما فوق الواقعية- وهو المذهب الذي يريد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية؛ زاعمًا أن فوق واقعنا هذا أو خلفه واقعًا آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعًا وهو واقع اللاوعي واقع المكبوتات في داخل الإنسان.
وإلى تحرير هذا الواقع وإطلاق مكبوتاته وتسجيلها في الأدب والفن وجه السرياليون جهودهم، وإن كان لابد من القول: بأن هذا الواقع الدفين كثيرًا ما ينتهي إلى ما يشبه هذيان الحواس، وبخاصة عندما يلجأ السرياليون إلى الطرق المصطنعة كالأفيون وغيره لإطلاق المكبوتات التي تعشش في أعماق
(1/593)
________________________________________
النفس، ثم عندما يحاولون تسجيل هذه المكبوتات في لوحات أو قصص أو مسرحيات غامضة مضطربة أو هاذية محمومة ربما لا يدركون هم أنفسهم لها معنى أو يحددون لها هدفًا وهي بالرموز والأحاجي أشبه منها بالأدب والفن مهما حاولوا أن يجعلوا من هذه الحمى مذهبًا أدبيّا أو فنيّا ومهما حاولوا تسويغ بعض اتجاهاته مثل تركهم مسرحياتهم أو قصصهم أحيانا بدون خاتمة بدعوى أنهم لا يقصدون غير الإثارة والإيحاء تاركين للقارئ أو المشاهد مهمة تصور الخاتمة التي يريدها حسبما ترسمها قواه النفسية المثارة أو المطلقة من كبتها.
والواقع أن مثل هذه السرياليات قد انتشرت في كثير من نصوص الشعر الذي يكتبه الحداثيون في الفترة الأخيرة، ويشيع فيه الاستغلاق، لقد صار الشعر على أيديهم فاقدًا للمعنى والوزن والقافية، واقترب في حالات كثيرة من الهلوسات والبهلوانيات، وهم في هذا إنما يقلدون بعض الشعراء الغربيين كعادتهم فيما يأتون وفيما يدعون، وهو سلوك كثير من المهزومين عسكريّا وسياسيّا واقتصاديّا، والمهزومين قبل هذا هزيمة نفسية وهي الهزيمة الفاصلة والحاسمة، فإذا اعترضت بأن هذا ليس بشعر؟! أجابوك بأن الشعر لم يخلق ليقول شيئًا؛ بل يلعب الشعر بالكلمات وحسب، ومع هذا تراهم مغرمين غرامًا عجيبًا بإذاعة شعرهم، كما تراهم يتهافتون أشد التهافت ليكتبوا عنه وعنهم، وكثيرا ما نرى أولئك النقاد الخصوم الذين يزعمون أن لغة الشعر ليست التوصيل ولا التفصيل وهم يسحرون ويتصببون عرقًا في تفسير ما يقصده الشعر من معنى، وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهم عن فن الشعر.
(1/594)
________________________________________
أما في نصوص هذا الصنف من الشعراء التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا، فقد انحدرت في كثير من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية التي نعتز بها كل الاعتزاز.
وهذا مثال على ما نقول وهو لأدونيس:
كنت في غرفتي البائسة في باريس
أحاول أن أجلس بلادي على ركبتي
لا لكي أعالجها كما فعل رامبو مع الجمال
بل لكي أتنشق رائحة خريف يستسر فيها
ولكي أقارنه بوجه الشاعر
وربما لكي أعلن حقوقا أخرى للإنسان
لا أزال أتردد في الجهل بها
طرق على الباب
لا سلاح لا شيء غير الكتب لا سلاح
من قال الحروف لا تحمل سلاحا
الواقع يشق جدل ماركس
وهي طبقة غيمة ضالة
وها هو الخيال يوشوشنا
أأشك في أننا آخر الأفق النباتي
(1/595)
________________________________________
وظني أنني حجارة تلقى في الماء رجمًا لشياطين التراب
غير أنني لا أزال منذ ما قبل الحادي عشر من أيول سنة ألفين وواحدة قبل الميلاد
أتعلم كيف ألون حبري بالرفت
وكيف أضع حيضي من النبوءات في جمعية الهواة
تحملها يمامة عاشقة
أذكر لم تكن القناديل تغار من الكواكب
كان الضوء صديقا لكل شيء
وكانت الألوهة بشرة الكون
ما أحوج شيخوخة كلامي إلى طفولة الأبجدية
إلى ذلك الوقت يجلس الموت باكيا
يمسح دموعه بأجساد الموتى.
وهنا نأتي إلى نهاية الدرس.
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/596)
________________________________________
الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى.
(1/597)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني والعشرون
(الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى)

جنس الملحمة
الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى:
وسوف نستعرض هذه الصلات من خلال الأجناس الأدبية المختلفة، ونبدأ بجنس الملحمة، والملحمة كما يعرفها كاتب المادة المخصصة لإبك بُئتري في موسوعة الويكيبيديا: هي قصيدة قصصية شديدة الطول تدور عادة حول أعمال بطولية ووقائع ذات دلالة لأمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات، ويفرق الكاتب بين نوعين من الملاحم؛ النوع القديم كـ"ملحمة الجامش السومرية" و"ملحمة الإلياذة" لهوميروس الإغريقي، والنوع الأحدث أو الثانوي مثل "الإنيادة" لفريجل الروماني و"الفردوس المفقود" لجون ميلتون الإنجليزي، وهذا الأخير هو من إبداع أدباء كبار معروفين، استعملوا له لغة أدبية راقية، ونسجوه عامدين على منوال تلك الملاحم القديمة التي كانت في الأصل شفوية غير مكتوبة، وإن كان قد تم تسجيلها كتابة بعد ذلك، ووصلت من ثمّ على هذا النحو إلينا.
والسؤال الآن: هل في أدبنا العربي ملاحم كتلك التي يعرفها كثير من الآداب الأخرى؟
فأما في الأدب الفصيح القديم فلا يوجد شيء يمكن أن يقال عنه إنه ملحمة أو يشبه الملحمة بالمعنى الذي عرفناه هنا، وقد أشاد ابن الأثير من أهل القرنين السادس والسابع الهجريين في كتابه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) بما يوجد في آداب الفرس من القصائد الطويلة التي تبلغ الواحدة منها عدة آلاف من الأبيات كـ"الشهنامة" وما إلى إليها فكان رد صلاح الدين الصفدي من أهل القرن الثامن الهجري في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) هو التذكير بما في أدبنا من منظومات وقصص طويلة.
ومن الواضح أنه ظن المسألة في الطول وحده، وإلا فإن الأمثلة التي ضربها على ما في بعضها من إبداع أدبي جميل ورائع- ليست من سبيل الملحمة في
(1/599)
________________________________________
شيء، وكان ابن الأثير في كتابه المذكور يوازن بين فني النثر والشعر، ويرصد الفروق بينهما، إلى أن أتى إلى مسألة التطويل والتقصير، فقال: إنه مما لا يحسن في الذوق العربي أن يطوّل الشاعر قصائده ويشقق المعاني ويستوفي الكلام فيها مما هو أليق بالنثر، ثم انطلق في موازنة بين العرب والفرس في تلك النقطة قائلًا: إن الشاعر إذا أراد أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثة مائة أو أكثر من ذلك- فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي، والكاتب لا يؤتى من ذلك، بل يطيل الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة، وهم مجيدٌ في ذلك كله، وهذا لا نزاع فيه؛ لأننا رأيناه وسمعناه وقلناه، وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها، فإن شعارهم يذكر كتابًا مصنفًا من أوله إلى آخره شعرًا، وهو شرح قصص وأحوال، ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بـ"شاهنامه" وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر.
إذًا ففي أدبنا الفصيح القديم، لا وجود لهذا الفن الشعري، ولكن لدينا مع هذا ما يسمى بالسير الشعبية، كسيرة عنترة وسيرة سيف بن ذي يزن والسيرة الهلالية وسيرة ذات الهمة وسيرة حمزة البهلوان وسيرة فيروز شاه وسيرة علي الزيبق وسيرة أحمد الدنف، وهي تقترب جدا من فن الملحمة، فهي قصص وهي شديدة الطول حتى لتتجاوز السيرة عنترة مثلا ثلاثة آلاف صفحة
(1/600)
________________________________________
وخمسين، إلا أن هذه السير ليست مصوغة كلها شعرا بل هي عمل نثري في المقام الأول تكلله الأشعار على ألسنة بعض أبطالها، وفي خلال السرد مع تفاوت في مقدار هذا الشعر بين سيرة وأخرى، ومع هذا لا يصح أن نغفل أنها مصبوبة في قالب السجع الذي يقترب خطوة من الشعر، كذلك لا يوجد لها مؤلّف معين؛ إذ هي من إبداع المخيلة الشعبية.
ولعلنا لم ننسَ أن الملاحم الأولى الموغلة في القدم هي أيضًا عارية عن أسماء مؤلفيها، بل إن من الدارسين من ينفي أن يكون هوميروس هو صاحب الإلياذة قائلا: إنها عمل شعبي عام اكتمل على مدار الزمان، ومن هنا كان أسلوب السير الشعبية مختلفا عن أسلوب الأدب الرسمي، رغم أنها مكتوبة بالفصحى؛ إذ هي فصحى تنفح بالنكهة الشعبية من حيث بساطتها وعدم احتفالها بالصياغة اللغوية بوجه عام، وفوق ذلك ففي السير تداخل بين الأماكن والأحداث والأزمنة التاريخية كما هو الحال مثلا في سيرة عنترة؛ حيث نرى عنترة في اليمن وفارس والشام ومصر وحيث تستغرق الأحداث عدة قرون وكما هو الحال في سيرة الظاهر بيبرس حيث يشتبك العصر العباسي والعصر الأيوبي والعصر المملوكي، ووجه الشبه بين السير الشعبية والملاحم أنها شديدة الطول، وأن الأبطال فيها يتميزون بالشجاعة الخارقة، كما تختلط الأحداث التاريخية بكثير من الخرافات والأساطير، فضلا عن اتساع رقعة الميدان الذي تتحرك فيه الوقائع والشخصيات، كذلك فالجن و***** والمعجزات والكرامات والرؤى والنبوءات الصادقة موجود في تلك السير وقد أشار إليها روجر ألن في كتابه "انتروداكشان تو أرابيك لترشر" بوصفها ملاحم شعبية، وللدكتور عبد الحميد يونس والدكتورة نبيلة إبراهيم والأستاذ فاروق خورشيد وغيرهم دراسات هامة حول تلك الأعمال.
(1/601)
________________________________________
أما في العصر الحديث، فقد ظهرت بعض الأعمال الشعرية العربية التي أطلق عليها ملاحم؛ لأن فيها بعض السمات التي تصلها على نحوٍ ما بذلك الجنس الأدبي، فهي أعمال قصصية طويلة يقع بعضها في عدة آلاف من الأبيات، كـ"ملحمة الغدير" لبولس سلامة اللبناني الذي لم تمنعه نصرانيته من الإعجاب ببطولة ختن الرسول الكريم -صلوات الله عليه- والعكوف على سيرته وشخصيته يدرسهما ويستوحيهما، حتى أخرج لنا في نهاية الأمر عملًا ملحميّا يصور بطولاته -رضي الله عنه- وإنجازاته الخارقة.
على حين يكتفي البعض الآخر بعدة مئات من الأبيات كما هو الحال في "ترجمة شيطان" التي صور بها العقاد ما حاق بنفسه عقب الحرب العالمية الأولى من شكوك في قدرة البشرية على مصارعة عوامل الشر والتغلب عليها ويأس من انتصار الخير في دنيانا هذه بسبب الأهوال وألوان الدمار والتقتيل التي أنزلتها تلك الحرب بجنس الإنسان، وكانت ترجمة سليمان البستاني الشعرية لـ"إلياذة هوميروس" إلى لسان العرب، ونشره إياها في أول القرن العشرين خير دافع لشعرائنا المحدَثين إلى دخول هذا الميدان الذي كان الشعر العربي يخلو منه قبل، وكان الدكتور يعقوب صروف قد شجع البستاني على ترجمة "الإلياذة" أثناء الأخير لمجلة المقتطب بالقاهرة سنة ألف وثمانمائة وسبع وثمانين ميلادية، وكان البستاني من جانبه مشغوفًا بالشعر القصصي هائمًا بأساطيره وخرافاته، وكان ينظم المقطوعات الشعرية فاختمرت الفكرة من يومها في ذهنه، وأخذ يطلع على ترجمة الإلياذة باللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، فضلا عن قيامه بتعلم اليونانية التي كتب بها ذلك العمل، ثم قام بتعريبها شعرًا مع آلاف الهوامش التي يشرح فيها كل ما يحتاج إلى توضيح، وصدرت الترجمة بالقاهرة سنة 1904 فأقام له المفكرون والأدباء في مصر حفلة تكريمية بفندق شبرد ذلك العام، ولم يكتفِ البستاني بترجمة "الإلياذة" وشرح ما يحتاج فيها إلى شرح، بل زاد فوضع
(1/602)
________________________________________
معجمًا ملحقًا بها، كما كتب مقدمة مطورة عرف فيها بفن الملاحم وقام ببعض المقارنات بين الشعر العربي وأشعار الأمم الغربية وغير ذلك من الموضوعات الشديدة الأهمية، وهذه المقدمة هي في واقع الأمر بمثابة كتاب قائم بذاته، ومع هذا كله لا ينبغي أن يفوتنا النص على أن ترجمة البستاني لملحمة هوميروس قد غلب فيها النظم على النفس الشعري.

فن المقامة
أما الصلات بين الأدب العربي وغيره من الآداب في فن المقامة مثلًا، فالمعروف أن المقامة قد عرفت منذ وقت مبكر خارج الأدب العربي؛ ففي الأدب الفارسي مثلًا ألف القاضي حميد الدين أبو بكر بن عمر البلخي ثلاث وعشرين مقامة على نسق مقامات الحريري، وأتمها سنة 551 هجرية، وكذلك عرفت في الأوساط اليهودية والمسيحية الشرقية فترجموها وصاغوها على مثالها باللغتين العبرية والسريانية، أما في أوروبا فقد عني المستشرقون بمقامات الحريري فتُرجمت إلى اللاتينية والألمانية والإنجليزية، إلا أنه يؤكد أن تأثيرها كان محدودًا وبخاصة إذا قارنا بينها وبين ألف ليلة وليلة في هذا المجال؛ ذلك أن المقامات كما يقول ليس القصة عمادها، بل عمادها الأسلوب وما يحمل من زخارف السجع والبديع.
ويقول الدكتور شوقي ضيف: إننا مع ذلك يمكن أن نرى أثرها في بعض القصص الأسباني الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين، وإن لهذا القصص عندهم بطل يسمى بـ كارون يشبه بعض الوجوه أبا الفتح الإسكندري في "مقامات بديع الزمان" وأبا زيد السروجي في "مقامات الحريري".
(1/603)
________________________________________
وفيما يخص تقليد القاضي المذكور بمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن) تناول فصل منه هذه المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب، والمقامة في بداياتها الأولى حسبما يقول: هي فن أدبي يقوم عادة على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء ذات بطل واحد ينتقل من مكان لمكان وموقف إلى آخر مغيّرًا هيئته في كل مرة متخذا الكدية -أي الشحاذة- وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله وافتضاح أساليب مكره وخداعه التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهة والتهكم والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي وكثرة التسجيع والجناس والتوازن والتوريات وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم مع حلاوة التصوير وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية، ثم تطور ذلك الفن ودخله التحويل في الموضوعات والأهداف، فاتسع لكل شيء حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية ... إلى آخره.
وبلغ من اتساع انتشار المقامات واهتمام الكُتاب بها أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تأليفها فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلِّفا، بدءًا من بديع الزمان الهمداني في القرن الرابع الهجري وانتهاء بنصيف اليازجي في القرن التاسع عشر الميلادي.
أما في الأدب الفارسي فلم يمارسها إلا أديب واحد وهو القاضي حميد الدين من أهل القرن السادس الهجري الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذا من تلامذة بديع الزمان فكفى الباحثين مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وأدبها، وإن كان
(1/604)
________________________________________
الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله في هذا الصدد كلٌّ من براون المستشرق الإنجليزي وكريم كشاورزي الباحث الإيراني، وإذا كان البطل في كل من المقامات الهمدانية والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير هو أبو الفتح الأسكندري عند بديع الزمان وأبو زيد السروجي عند الحريري وكذلك راوية كل منهما شخصًا واحدًا أيضًا، هو عيسى بن هشام في الأولى والحارث بن همام في الثانية- فإن البطل لدى القاضي حميد الدين يتغير في كل مقامة، أما الموضوع فيبقى ثابتا دون تغيير كما هو الحال عند الهمداني والحريري؛ حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول وكل مقامات الثاني.
وكما قامت المقامات في الأدب العربي ضمن ما قامت على المحسنات البديعية والإغراق فيها والاستعانة بالألغاز والحرص على إبراز سعة المعجم اللغوي وبخاصة ما يكثر في لغة العرب من غريب الألفاظ- فكذلك حاول القاضي حميد الدين أيضًا الجري في نفس المضمار، وإن لم يكن للفارسية ذات الثراء الذي تتمتع به لغة القرآن حسبما ذكر المؤلف.
ومن مظاهر تأثر الحميدي بمقامات بديع الزمان كذلك كثرة استخدامه للألفاظ العربية فضلًا عن الجمل والعبارات الكاملة المنقولة من لغة الضاد حتى في المواضع التي لا يكون ثمة داع لذلك من ضرب مثل أو سوق شاهد في أصله العربي، بل لقد قلد الحميدي تركيب الجملة العربية في كثير من الأحيان، فكان يأتي بالفعل في أول الكلام على عكس ما تقتضيه اللغة الفارسية، التي يقع فعلها في آخر الجملة لا في بدايتها، فضلا عن إيراده كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار والأمثال العربية كما هي، إضافة إلى بعض الأشعار التي نظمها هو
(1/605)
________________________________________
بلغة القرآن، ليس ذلك فقط، بل إنه اقتصر في عدد من الحالات على إيراد بعض المقامات الهمذانية كما هي بعد ترجمتها إلى الفارسية، مع زيادة بعض الإضافات بغية إظهار تفوقه وبراعته، مثلما هو الحال في المقامة الثقباجية التي تقوم على المقامة المضيرية لدى الحريري، كذلك تتشابه المقامات هنا وهناك في العدد إذ تبلغ كل منها أربعًا وعشرين مقامة.
هذه نقاط الاتفاق، أما الاختلافات فتكمن في أن بطل مقامات الحميدي يختلف من مقامة إلى مقامة، كما أن راويها وهو نفسه كاتبها، على حين أن بطل المقامات لدى الهمذاني واحد دائمًا، علاوة على أن راويها شخص غيره، كذلك ففي الوقت الذي نجد فيه البديع يسمي معظم مقاماته بأسماء البلدان فإن الحميدي لا يصنع شيئا من هذا، بل يطلق على كل مقامة اسمًا مشتقًّا من الفكرة التي تعالجها، وإلى جانب ذلك فإن في مقامات الأديب الفارسي كثيرًا من المناظرات، كتلك التي قامت بين السني والملحد، والأخرى التي دارت بين الشيب والشباب، ثم إنه بسبب انتشار التصوف في إيران في الفترة التي عاش فيها القاضي حميد الدين وجدنا الكاتب الفارسي يخلع على كثير من مقاماته خلعة صوفية بتعبير المؤلف كما في المقامة الثقباجية؛ إذ يوجد فيها شيخ ومريدون.
هذا وقد لمس الأستاذ الباحث مسألة جدّ مهمة؛ وهي أن فن المقامات لم يكتب له الرواج والانتشار في الأدب الفارسي؛ ذلك أنه لم يكرر محاولة أحد بعد الحميدي، وقد علل الأستاذ الدكتور هذا بأن الفارسية فقيرة في الكلمات المترادفة والمتساجعة بالقياس إلى لغة الضاد، ومن ثمّ لا تصلح كثيرًا لكتابة المقامات التي تلتزم السجع والمحسنات البديعية.
(1/606)
________________________________________
كذلك ذكر الدكتور زكي مبارك أن فن المقامة قد انتقل أيضًا إلى الأدبين السرياني والعبري؛ وذلك في مقالة له بعنوان "المقامات في الأدب العربي" نشرها في المجلة الجديدة في مارس سنة 1934، وهو ما أشار إليه الدكتور شوقي ضيف: ولعل الله يقيض المسألة انتقال هذا الفن من العربية إلى السريانية والعبرية من يدرسها هي كذلك.

ألف ليلة وليلة والموشحات
فإذا انتقلنا إلى ألف ليلة وليلة، والموشحات وتناولنا الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى في هذا المجال، فأول شيء نتحدث عنه هو التعريف بألف ليلة وليلة وهي كما جاء في المادة المخصصة لها في (الموسوعة العربية العالمية): مجموعة من الحكايات التي روتها شخصية تسمى شهرزاد للسلطان شهريار، وشهريار ملكٌ عاين خيانة زوجته فتحوّل إلى سفاح يأخذ بكرًا كل ليلة ويفترعها؛ أي يفض بكارتها، ثم يقتلها من ليلتها، حتى ضج الناس وهربوا ببناتهم، ولم يبقَ في تلك المدينة إلا شهرزاد ابنة الوزير، وشهرزاد حاكية هذه القصص شخصية قرأت الكتب وسير الملوك وأخبار الأمم فقالت لأبيها وزير السلطان زوجني هذا الملك؛ إما أن أعيش وإما أن أكون فداء للبنات وسبب لخلاصهن، وكانت تقص على الملك كل ليلة حكاية ثم تسكت عندما يدركها الصباح عند موقف مشوّق مما جعل السلطان يستبقيها لسماع حكاياتها الباقيات، وبفضل هذه الحكايات التي روتها شهرزاد تحولت شخصية شهريار من شخصية شريرة إلى شخصية خيّرة.
ومع أن المسعودي وابن النديم في القرن الرابع الهجري يشيران إلى كتاب فارسي بعنوان (هازار أفسانه) قريب الشبه في عنوانه وشخصياته الرئيسية بألف ليلة
(1/607)
________________________________________
وليلة، إلا أن ألف ليلة وليلة بتقاليدها القصصية الشفهية التي تناقلتها الأجيال واحتفاظها بصورة مميزة للحياة العربية ورموزها الحضارية عبر العصور خصوصا للعصر المملوكي- تؤكد براعة المخيلة العربية واستمرارية التقليد الشفهي القصصي، إلى أن تم تدوينها.
والملاحظ أن الكلام عن هذا الكتاب في التراث العربي شحيح غاية الشحة؛ حتى إننا لا نجد حديثًا عنه تقريبًا إلا في كتابين اثنين هما (مروج الذهب) للمسعودي و (الفهرس) لابن النديم، والنصان قصيران نسبيّا، وإن كان نص المسعودي أقصر كثيرًا من نص ابن النديم، ولا يشفي غليلًا.
فأما في (مروج الذهب) فيقول المسعودي: إنه قد ذكر كثير من الناس أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب للملوك بروايتها وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب (هازار أفسانه) وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة، والخرافة بالفارسية يقال لها أفسانه، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتها وهما شيرزاد ودنيا زاد ومثل كتاب (فارزه وسيماس) وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب (السندباد) وغيرها من الكتب في هذا المعنى.
وأما في كتاب ابن النديم فنقرأ تحت عنوان "الفن الأول في أخبار المسامرين والمخرفين وأسماء الكتب المصنفة في الأسمار": أن أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان الفرس الأُول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية،
(1/608)
________________________________________
وتناوله الفصحاء والبلغاء، فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه، فأول كتاب عمل في هذا المعنى كتاب (هازار أفسان) ومعناه ألف خرافة، وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال لها شهرزاد، فلما حصلت معه ابتدأت تخرّفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطؤها، إلى أن رزقت منه ولدها فأظهرته وأوقفته على حيلتها عليه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك كهرمانة يقال لها دنيا زاد، فكانت موافقة لها على ذلك، وقيل: إن هذا الكتاب ألف لحمان ابنة بهمن، وجاءوا فيه بخبر غير هذا، والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب (هازار أفسان) ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر؛ لأن السمر ربما حُدث به في عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو في الحقيقة كتاب غث بارد الحديث.
وابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب (الوزراء) بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه، وكان فاضلًا فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة كل ليلة سمرٌ تام يحتوي على خمسين ورقة وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي.
(1/609)
________________________________________
الشعر الغنائي
وهنا نصل إلى الشعر الغنائي فلنبحث الآن الصلة بين الأدب العربي وغيره من الأدباء من ناحية التأثير والتأثر في هذا الميدان، فنرى مثلا أن عدد البحور الشعرية التي كان ينظم عليها الإيرانيين القدماء قصائدهم كان محدودًا؛ إذ لم تكن تزيد عن بضعة أبحر تشبه بحور الهزج والرجز والمتقارب والدوبيت العربية، إلا أن الأمر اختلف بعد الإسلام وانتشار لغة القرآن وآدابها في بلادهم، فقد رأيناهم ينقلون جميع الأوزان العربية إلى أشعارهم، مع اختلاف مساحة انتشار كل منها هنا عنها هناك، فعلى حين يشيع في الشعر الفارسي بحور الهزج والرمل والخفيف والمتقارب نرى الطويل والكامل والوافر والسريع والبسيط والمتقارب أشيع البحور في شعر العرب، وهناك القافية أيضًا، وقد أخذها الشعر الفارسي من نظيره العربي، كما أن كثيرا من الألفاظ والصور البيانية قد انتقلت من الشعر العربي إلى الفارسي، وكان هناك رأي يقول بأن الشعراء الفرس القدامى لم يكونوا يعرفون الأوزان في نظم قصائدهم، بل كانوا ينظمونها مطلقة من الأوزان والتفاعيل، ثم نقلوا هذا عن العرب بعد الإسلام، إلا أنه ثبت أن الأمر خلاف ذلك وأنهم كانوا يعرفون بعض الأبحر - حسبما يقول الدكتور محمد غانم هلال في كتابه (الأدب المقارن).
وعلى الناحية الأخرى، فإن بعض الشعراء العرب القدماء يدخلون في أشعارهم ألفاظًا فارسية كقول أحدهم:
وولهني وقع الأسنة والقنا ... وكافر كوبات لها عجر قُفد
بأيدي رجال ما كلامي كلامهم ... يسومونني مردًا وما أنا والمرد
(1/610)
________________________________________
الذي يفسره الدكتور محمد غانم هلال بأنها هناك في الغالب تحريفًا من الناسخ جعله يكتب يسومونني بدلا من يسمونني، ويكون المعنى إذًا هو: أنهم حين رأوه قالوا: هذا رجل؛ لأن مرد معناها عندهم رجل، على حين ظن هو أنهم يظنونه وحيدًا من المرد غلاما أمرد.
ومن شواهد ذلك أيضًا قول العماني الشاعر في مدحه لهارون الرشيد:
لما هوى بين غياض الأسد ... وصار في كف الهزبر للورد
آلى يذوق الدهر أب سرد
أي حلف ألا يذوق الماء البارد أبد الدهر، وهو ما أرجعه الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) إلى أن الأعرابي قد يحب أن يتملح بإيراد شيء من كلام الفارسية في قصائده.
ومن المعروف أن الآداب العالمية لا تعيش منفصلة بعضها عن بعض، بل هناك طول الوقت تأثير وتأثر بينها حتى لو لم يظهر شيء من ذلك للعيان أو نرى نتائجه مباشرة، وأن الأدب العربي شأنه شأن الآداب الأخرى في العالم يتصل بغيره من الآداب ويتفاعل معها ويؤثر فيها ويتأثر بها.

بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى
وسوف نتناول الآن بعض مظاهر التأثير الذي يقع من هذا الأدب على بعض الآداب الأخرى وسنختار ذلك:
أولًا: المقامات:
ففي القرن السادس عشر والسابع عشر ظهر في أوروبا كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال جنسٌ جديد من القصص، خطا بالقصة خطوات نحو الواقع هو ما نطلق عليه قصص الشطار، ووجد أول ما وجد في أسبانيا وهو قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، وتسمى في الإسبانية بكاريسكا،
(1/611)
________________________________________
وتختص بأن المؤامرات فيها يحكيها المؤلف على لسانه كأنها حدثت له، وهي ذات صبغة هجائية للمجتمع ومن فيه، ويسافر فيها البطل المؤلف على غير منهج في سفره وحياته فقيرة بائسة يحياها على هامش المجتمع، ويظل يتنقل بين طبقاته ليكسب قوته ويحكم على المجتمع من وجهة نظره هو حكمًا تظهر فيه الأثرة والانطواء على النفس وقصر النظر في اعتبار الأشياء من الناحية الغريزية النفعية، فكل من يعارضه فهو خبيث ومن يمنحه الإحسان خير، وأول قصة من هذا الجنس القصصي في الأدب الإسباني هي قصة عنوانها "حياة لاسريو دوتورنس وحظوظه ومحنه" وهي قصة تنبع من واقع الحياة في الطبقات الدنيا وتصفها كما يمليها منطق الغرائز الصريح، وهي معارضة تامة لقصص الرعاة، وتسير على نقيضها؛ لأنها تصف واقعًا لا مثالية فيه ولا أمل.
ثم ينتقل الأستاذ الدكتور إلى القضية التي تهمنا هنا، ألا وهي قضية تأثر هذا الفن القصصي الجديد بالمقامة فيقول: ويوجد وجوه شبه قوية بين قصص الشطار السابقة الذكر وبين المقامة العربية كما نعلمها عند بديع الزمان الهمذاني ثم الحريري، ولم تبحث هذه المسألة بحثًا مقارنًا بعد، ولكن الأدلة التاريخية تقطع بأن مقامات الحريري عُرفت في الأدب العربي في أسبانيا، ومن كتاب العرب الأسبانيين يقصد الأندلسيين بطبيعة الحال من ألفوا مقامات على غرارها في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، مثل ابن القصير الفقيه ومثل أبو طاهر محمد بن يوسف السراقوسطي، وقد شرح مقامات الحريري كذلك كثير من العرب الأسبانيين من أشهرهم عقيل بن عطية المتوفى عامة 1211 ميلادية ثم أبو العباس أحمد الشريشع المتوفى عام 1222 ثم إن مقامات الحريري ترجمت إلى اللغة العبرية، ترجمها سالمون بن ساقبيل في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم ترجمها الحارثي وظهرت ترجمته عام 1205 ميلادية، وقد كانت هذه المقامات رائجة كل الرواج
(1/612)
________________________________________
لا بين العرب فحسب بل بين العبريين والمسيحيين أيضًا؛ ولهذا ترجموها إلى لغتهم.
وإذًا قد لقيت هذه المقامات حظًّا كبيرًا في أدب العرب في الأندلس وغير معقول أن تظل مجهولة لدى كتاب الأسبان وقصاصهم بعد ذلك، وهذا التلاقي التاريخي هو الذي يفسر وجوه التشابه الكثيرة الواضحة بين المقامات وجنس قصص الشطار في الأدب الأندلسي، وقد آثر كتاب الأسبان أن ينحو منحاها الواقعي على أن يسيروا على منوال قصص الرعاة المثالية، فكان جهدهم ذا أثر كبير في القضاء على قصص الرعاة وفي التقريب بين القصة وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرا في كتاب القصة في الآداب الأوروبية الأخرى.
ولا يكتفي الدكتور هلال بذلك بل يمضي فيبين امتداد تأثير المقامات ذلك التأثير الذي يقوم عليه ما بسطه من شواهد قوية مقنعة- إلى خارج الأدب الأسباني فيقول: وممن تأثر بهم -أي بالأدباء الأسبان المتأثرين بالمقامات العربية في الأدب الفارسي- شارل سوريل في قصته "تاريخ فرنسيون الحقيقي الهازل" وقد نشرها في باريس عام ألف وستمائة واثنين وعشرين، وهي أول قصة من قصص الشطار في فرنسا وهي على لسان شخصية فرانسيون يهجو فيها العادات والتقاليد بواسطة أشخاص من المتسولين ومن يعد في حسابهم في نظر المؤلف، كما يهجو مختلف الطبقات الأخرى، وقد كانت هذه القصة وأمثالها أصلا لما سلكه الكاتب الفرنسي لوثاج في قصته "جانبلا" التي ظهرت طبعتها الكاملة بفرنسا عام 1747 ميلادية، وفيها يهجو المؤلف العادات والتقاليد على لسان البطل الذي سُميت القصة باسمه، كما كان قد انتفع بهذا الاتجاه العام الأقرب إلى الواقع الكاتب الفرنسي الآخر بوتيه في قصته التي عنوانها "موت الحب" "مورد دامور" التي
(1/613)
________________________________________
ظهرت في باريس عام ألف وستمائة وستة عشر للميلاد، وفيها يصور حبّا ماديّا بين راع نفعي غليظ الطبع وراعية في صفاتهما الحقيقية بين الرعاة العاديين، وهو حب لا مثالية فيه.
ثم يخلص كاتبنا إلى القول بأنه بهذا الجهد المشترك لكُتّاب القصص في الآداب المختلفة قضي على قصص الرعاة كما قضي من قبل على قصص الفروسية والحب، وقامت على أنقاضها قصص العادات والتقاليد في معناها الحديث وخلت القصة بذلك من العناصر العجيبة الخارقة للمألوف واتخذت حوادث الحياة العادية مادة خصبة لموضوعاتها.
وهناك كذلك من الباحثين من يثير تأثير المقامة في "الكوميديا الإلهية" لدانتي إذ ليس من المعقول أن يكون هذا الكاتب بمعزل عن الثقافة العربية الإسلامية وهو الملم بجميع نواحي الثقافة والمعرفة آنذاك، وقد درس الموضوع بمزيد من الجدية والعمق المستشرق الأسباني بلاثليوث في كتابه (المعتقدات الإسلامية حول العالم الآخر في الكوميديا الإلهية) وهو خلاصة دراسة استغرقت عشرين عامًا، وازن فيها المؤلف بين قصيدة دانتي من جهة وبين الكتب الإسلامية والعربية كالقرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير والسيرة ومؤلفات المتصوفين ولاسيما كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي و (رسالة الغفران) للمعري وقصص الإسراء والمعراج - وانتهى المؤلف من دراسة كل هذا إلى القول: بأن دانتي كان مطلعًا على كثير من نواحي الثقافة الإسلامية، وأنه استقى من هذا المنبع بعض الصور والمعلومات التي وردت في الكوميديا الإلهية مما يتعلق بالبعث والحشر وخلود النفس ومشاهد الجنة والنار، ونشير إلى أنه وظف هذه المعاني الدينية وفق تصوره؛ إذ يقول الدكتور نذير طعمة: لقد تأثر دانتي بمعمارية المعراج فأفرغها من مضامينها الإسلامية وملأها بمضامين ومواقف تنسجم مع ثقافته ومعتقده.
(1/614)
________________________________________
وهذا يقودونا إلى الربط بين المقامة والفن الروائي:
فقد ذكر بير كاكيا أن الفن الروائي لم يجد متنفسًا له سوى في المقامة، وهي كلمة ترجمت إلى الإنجليزية بلفظة as samply وإلى الفرنسية بلفظة seyuns بما يفيد أنه يمكن قراءته في جلسة واحدة، وينقل بهذا الصدد الدكتور محمد رجب البيومي عن الفيلسوف الفرنسي أرست رينان إعجابه الشديد بالمقامة التي آثارها على مجموعة بلزاك الأدبية؛ بحيث إن الحريري قاد شحذه في خمسين موقفًا مختلفا بقوة اختراع عجيبة ودقة وتأمل في الأخلاق والعادات؛ لنعلم المهارة والغرابة التي تنطوي على فكرة المقامات، وأرادوا أن يضعوا للقرن التاسع عشر مهزلة بشرية وأشير هنا إلى مجموعة بلزاك المسماة بهذا الاسم، فلم يعرفوا -كما يقول رينان- كيف يجعلونها في قالب مقبول، في حين حقق الحريري هذه الفكرة للمجتمع الإسلامي في القرن الثاني عشر، كأنه يحقر أعمال بلزاك إلى جانب مقامات الحريري. أما بلزاك فقد نقصته شخصية أبي زايد التي لا تكاد تلمسها حتى تفلت.
وننهي حديثنا عن المقامة بالإشارة إلى أن التراث العربي الإسلامي ليس هو الوحيد الذي أثّر في فن السردي بأسبانيا، بل هناك تأثيرات مسيحية لا يمكن القفز عنها وتجاهلها، ويؤكد هذه الحقيقة عبد العزيز الأهواني بقوله: وحين تتجاوز الألفاظ إلى الأخبار والقصص سنجد في كتب التاريخ الأندلسي أمثال قصة "البيت المقفل في طليطلة" وكيف أمر الهزلي آخر ملوك القوط بفتحه، فكان نذيرًا بدخول العرب إلى أسبانيا وقصة "بنت ليان" صاحب سبتة مع ذلك المكان وكيف غرز التاريخ - وكلها قصص أخذت بغير شذا من التاريخ الشعبي المسيحي.
أما بالنسبة إلى المسرح:
فقد عرفته العربية بدءً من دخول الفرنسية مصر في أواخر القرن الثامن عشر؛ إذ أقاموا بعض المسارح الخشبية للترويح عن جنودهم وضباطهم وكان بعض
(1/615)
________________________________________
المصريين يستبقون النظر من خلال الأخصة التي بين الألواح، وإن كان ذلك كله قد انقضى بخروج أولئك المحتلين من مصر أول القرن التاسع عشر، ويقول ماريخول: إن مارون النقاش الشامي هو مؤسس المسرح العربي، وربما سبقه يعقوب صنوع الملقب بأبو نظارة إلى هذا، وكان مارون قد زار إيطاليا واطلع على فن التمثيل هناك، فأعجب به إلى حد بعيد، وفكر في نقله إلى بلاده، ومن بين رواة هذا الفن في مصر سليم النقاش الذي أنشأ مسرحا في الإسكندرية عام ألف وثمانمائة وستة وسبعين، وتلا ذلك ظهور فرق شامية أخرى منها فرقة أبو خليل القباني وفرقة يوسف خياط وفرقة إسكندر فرح ثم ظهرت فرق مصرية صميمة كفرقة سلامة حجازي وفرقة جورج أبيض وفرقة محمود تيمور وفرقة عبد الرحمن رشدي وفرقة نجيب الريحاني وفرقة يوسف وهبي وفرقة فاطمة رشدي، ثم أنشا معهد التمثيل بالقاهرة في أوائل الثلاثينات من ذلك القرن وبعدها بعدة سنوات تكررت الفكرة القومية، ثم تتابع المطر واستمر مريره في أرض الكنانة وفي بلاد العروبة كلها تقريب.
وقد بدأت الكتابة المسرحية أولًا باستيحاء المسرح الفرنسي والإيطالي والأخذ عنهما، مع إجراء بعض التعديلات التي تتقارب وذوق الجمهور وثقافته، كما ظهرت بعض الأعمال المسرحية المؤلفة مع وضوح تأثرها بالأسلوب الأوروبي في رسم الشخصيات وتطور الأحداث وغير ذلك من أساليب الكتابة المسرحية، وقد استمرت هذه البدايات هكذا إلى ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، ومن هذه المسرحيات مسرحية "السِّيد" لكورنيه التي ترجمها محمد عثمان جلال، وقدمها للمسرح تحت عنوان "السِّيد" أو "السَّيِّّد" ثم تناولها شاكر عزار بعنوان "تنازع الشرف والغرام" ثم عالجها نجيب حداد بطريقته وسماها "غرام وانتقام" ثم توالت ترجماتها فيما بعد عشرات المرات، ثم جاء الاقتباس عن اللغة الإنجليزية متأخرًا؛ حيث احتلت مسرحية شكسبير مكان الصدارة في هذا المجال، وكانت
(1/616)
________________________________________
أولى مسرحياته التي قُدمت على خشبة المسرح العربي هي "روميو وجوليت" عام 1891 ثم "هملت" عام 1905 ثم "عطيل" سنة 1908 ثم كثر المؤلفون المسرحيون العرب تباعًا.
فإذا قلبنا الصفحة لدراسة تأثير الأدب الغربي على الأدب العربي:
فإننا نقول: ظهر مع النصف الأول من القرن العشرين جيل جديد اتصل بالثقافة الأوروبية والإنجليزية منها بوجه خاص اتصالا أعمق من اتصال الجيل الأول، ومن ثم اختلفت رؤيتهم لمهمة الشعر عن تلك التي كانت الجيل السابق، فعابوا على من سبقهم معالجتهم للموضوعات التقليدية التي لا يتجاوزونها، أما جيلهم فيرى أن الشعر تعبير ورصد لحركة الكون وأثرها في الذات الشاعرة، وهو تعبير عن نفس معناها الإنساني العام وتعبير عن الطبيعة وأسرارها وتصوير للعواطف الإنسانية التي تثور بها نفس الشاعر، التف هذا الجيل حول حركة نقدية عرفت بجماعة "الديوان" وكان أشهر روادها عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني.
وأخذ تأثير الأدب الغربي عن الأدب العربي يزداد وضوحا منذ الثلاثينيات من القرن العشرين حين ظهرت مدرسة نقدية شعرية عرفت باسم جماعة "أبوللو" التي أسسها أحمد زكي أبو شادي، وكان الشاعر علي محمود طه من أبرز أعضائها، هذه الجماعة كانت أكثر مناداة بتطوير القصيدة العربية لمدرسة "الإحياء" ومدرسة "الديوان"، ويُرجع ذلك إلى تأثرها بالمذهب الرومانسي في الشعر الغربي كما تأثروا بشعراء المهجر أمثال إيليا أبي ماضي وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة، وقد تركت مدرسة "أبوللو" أثرًا لا يُنكر في عدد من
(1/617)
________________________________________
شعراء العالم العربي، فتأثر بها أبو القاسم الشابي من تونس والتيجاني يوسف بشير من السودان وحسن القرشي من المملكة العربية السعودية وإلياس أبو شبكة من لبنان وغيرهم.
وعلى يد هذه المدرسة أضحت القصيدة العربية تمتاز بسهولة في التعبير وبساطة في اللغة وتدفق في الموسيقى، كما غلب على موضوعاتها التأمل والامتزاج بالطبيعة وشعر الحب والغناء بالمشاعر مع نزعة الألم والشكوى.
ويمثل الشعر العربي في المهجر امتدادًا لهذا الاتجاه الرومانسي في الشعر الحديث؛ فقد قامت في المهجر الأمريكي الشمالي الرابطة القلمية، وفي الجنوبي العصبة الأندلسية، وظل شعرهم مثقلا بهموم الوطن والمناجاة الفكرية والنفسية والتهويمات الصوفية، ومن أشهر شعرائهم إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وإلياس فرحات ورشيد أيوب، أما في الأربعينيات من القرن العشرين فقد أخذت القصيدة العربية شكلها الذي استقرت عليه فيه قوالب الشعر الحر، وكان من فرسان القصيدة الحديثة صلاح عبد الصبور في مصر ونازك الملائكة والسياب والبياتي في العراق ونزار قباني في سوريا ومحمد المهدي المجذوب والفيتوري في السودان ويكتب الشاعران أدونيس ومحمود درويش ألوانًا من الشعر تختلف اختلافًا كبيرًا عمن كانت عليه بدايات تطور القصيدة العربية في العصر الحديث، وإذا بالمسافة تبتعد تمامًا بين البارودي وشوقي وبين بولند الحيدري ويوسف خان ونظير العظمة وأضرابهم.
ونبدأ بمدرسة "الديوان" وهي حركة تجديدية في الشعر العربي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين على يد عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري الذين
(1/618)
________________________________________
كانوا متأثرين بالرومانسية في الأدب الإنجليزي، ولديهم في ذلك الوقت اعتزاز شديد بالثقافة العربية، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى كتب ألفه العقاد والمازني وضعا فيه مبادئ مدرستهم واسمه (الديوان في الأدب والنقد)، وقد نهجت هذه المدرسة النهج الرومانسي في شعرها، ومن أبرز سماتها الدعوة إلى التجديد الشريف الموضوعات ووجوب تعبير الشاعر عن ذاته بعيدًا عن التقاليد الجامدة والاستفادة من الأدب الغربي إلى جانب الشعر العربي القديم والاتجاه إلى الشعر الوجداني والوحدة للموضوعية للقصيدة، وهناك وجه شبه قوي بين مدرسة "الديوان" والرومانسيين الإنجليز فقد تحدث ويلز ورث مثلا عن العملية الشعرية فقال: لقد قلت: إن الشعر انسياب تلقائي للمشاعر القوية، ويؤكد هذا التحليل مبدأين أساسيين في مذهب الرومانسية أولهما: أن الشعر حقّا تعبير عن النفس ومشاعرها، ثانيهما: أن هذا التعبير مطبوع لا تكلف فيه، وهي نفس الرؤية التي يراها شكري تقريبًا في كلامه عن الانفعال العصبي الذي يسبق عملية الشعر، وإن عبارته التي يصف فيها الشعر بأنها تدفق الأساليب كالسيل تدل على أهمية الطبع في التعبير الشعري الرومانسي، وعند جماعة الديوان.
فالعواطف في نظر جماعة الديوان والرومانسيين الإنجليز هي المنفذ الوحيد الذي يطل منه الشعر على العالم الخارجي وشئونه، ولا العقاد أن الشعر يطلعك على ما لم تستطع الوصول إليه من أسرار تكمن وراء مظاهر الأشياء ويتغلغل
(1/619)
________________________________________
بك إلى اللباب ويكشف عن جوهر ما في الحياة، كما أن الشعر لا يعد شعرًا ما لم يعبر عن ذات الإنسان وأدق أحاسيسه ومشاعره تعبيرًا صادقًا لا تكلف فيه ولا تصنع.
وقد عكف أعضاء مدرسة الديوان على الأدب الإنجليزي، فوجدنا في أشعارهم تأثرًا بقصائد متعددة من شيلي وهون وأدسون وكارلايل وغيرهم من شعراء ديوان الذخيرة الذهبية جولدن تريجيري، لقد كان اتصال الغرب بالعرب سببًا من أسباب انتشار موجة الرومانسية في تلك الفترة، وكانت مطالعة كتاب (المختارات الشعرية الإنجليزية) المعروف بجولدن تريجيري والاهتمام بالناقد الإنجليزي ويليام هزلت من المؤثرات الواضحة في شعرائها.
لقد كان شكري الذي يعده بعض مؤرخي الأدب العربي الحديث مؤسس هذا الاتجاه متأثرًا منذ زمن دراسته في إنجلترا ما بين 1909 و1912 وعلى وجه الخصوص شيلي وبايرون ****ث ويلز ورث، وبعد عودته التقى بالعقاد والمازني وأطلعهما على إبداعات الأدب الإنجليزي؛ مما أثر تأثيرًا شديدًا على التوجه الشعري الجديد عند زميليه، فالتزما مفاهيم الشعر والنقد الإنجليزي ودافعا عنها بشدة، حتى لقد لاحظ بعض النقاد أن المعاني التي صدرت على النقاد والمازني في بعض أشعارهما هي نفس المعاني التي يجدها القارئ في عدد من المختارات الشعرية في كتاب (الذخيرة الذهبية) الذي وضعه مارجريف أستاذ الشعر في جامعة أوكسفورد.
ويرجع تأثر مدرسة الديوان بالرومانسية الغربية إلى إجادتهم اللغة الإنجليزية التي أفادتهم كثيرًا في دراسة الشعر الإنجليزي وخاصة شعر كل من بيرون وشيلي وويلز ويرث، الأمر الذي فتح أمامهم المفهوم الجديد للشعر.
(1/620)
________________________________________
ومن مظاهر تأثر مدرسة الديوان بالرومانسية الإنجليزية: مهاجمتهم لشوقي وحافظ وغيرهما باعتبار أشعارهم ضربًا من التقيد بأغلال الماضي في الفكر والأسلوب والموضوعات، وهناك تعريفهم لفن الشعر إذ هو انعكاس لما في النفس من مشاعر وأحاسيس لا تكلف فيه، علاوة على ما رسموه للشعر من غايات وأهداف، فالرومانسيون يرون أن من أهداف الشعر الكشف عن مظاهر الجمال في الوجود الإنساني وعن الحقيقة في أعمق صورها، وهو ما كانت تقوله مدرسة الديوان، ثم ينتقل الكاتب بنا إلى شعراء المهجر، فيقول: إن جبران خليل جبران كان نزّاعًا إلى الغرب الأوروبي حتى لقد حكى عنه بعض من يعرف أنه كان كلما انتهره وهو صغير يقول له: ما لك وما لي أنا إيطالي، كما كان يقص على أصدقائه أنه بلغ من الهيام بالأدب الإنجليزي أن تكررت رؤيته في المنام لكتث وشيلي وشكسبير، وإلى جانب هذا فقد تأثر بوليم بليك الأمريكاني إلى مدى بعيد، كما كان يحاكي في قصائده النثرية قصائد الشعر الأمريكي ولت ويتمن؛ مبتكرا فنًّا شعريًّا سماه فري فيرث، أما أمين الريحاني فقد عرف كما يقول دكتور المواسي بترجمته عددا من القصائد لشعراء أمريكيين من أبرزهم ولت ويتمن الذي اتخذه رائدًا له في الخروج عن الأساليب المتداولة، فتابعه وأدخلا في اللغة العربية ما اصطلح عليه باسم الشعر المنثور حسبما كتب في مقدمة ديوانه هتاف الأودية.
ومن مظاهر تأثر الأدب العربي بالآداب الأخرى: شعر بدر شاكر السياب الشاعر العراقي المعروف، الذي درس الإنجليزية في بغداد دراسة متخصصة واتسم شعره
(1/621)
________________________________________
في الفترة الأولى بالرومانسية وكان ينظم الشعر مع تنويع القافية، وفي سنة 1947 أصدر ديوانه "أعاصير" الذي حافظ فيه على الشكل العمودي مع الاهتمام بالقضايا الإنسانية، ثم ظهر تأثره بالشعر t s إليوت في ديوان "أزهار وأساطير"، وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر وفي بداية الخمسينيات قصر السياب كل شعره على هذا الشكل الجديد، ومن سمات شعره ما نلاحظه من استخدام واسع للأساطير البابلية والإغريقية، وقد ذكر بعضهم أنه عقب الحرب العالمية الثانية تعرفت مجموعة مثقفي العراق على نماذج متنوعة من الشعر الإنجليزي وأساليبه وأبنيته، وخصوصًا شعر تومس إيليوت صاحب قصيدة "أرض الخراب" وإديث ستوِل وجيل أودن روبرت فروست وولت ويتمن صاحب أهم مجموعة في تاريخ الشعر الأمريكي "أوراق العشب"، وقد تركت هذه النماذج الشعرية تأثيرًا عميقًا في نفوس الشعراء الشباب، وجعلتهم ينفتحون على أفق فني لما يعهدوه وهكذا كتب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي قصائدهم بشكل الشعر الحر، الذي انتقل بعدها من العراق إلى مصر فكتب به مجموعة من الشعراء المصريين منهم صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي؛ لذا انتشرت القصيدة الحرة في الوطن العربي وتصير كتابتها أمرًا مألوفًا بين الشعراء.
وإلى هنا نأتي إلى آخر دروس الأدب المقارن لطلاب مرحلة الماجستير، فأستودعكم الله متمنيًا لكم كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1/622)
________________________________________

http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة

أيمن أحمد رؤوف القادري 03-16-2024 02:10 PM

جزاك الله كل خير


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:01 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59