الموسوعة العربية : الكاتب : محمد عبدالشافي القوصي: مصر
(المذكرات الشخصية) كثيراً ما تكون شاملة لحياة أصحابها، أو تعنى بفترة من فترات الحياة أو قطاع من قطاعات الفكر، وتضم هذه التراجم رأي أصحابها في الحياة وتضم أبرز الأحداث، وترسم صورة البيئة التي عاشوا فيها، وتحولاتهم من اتجاه إلى اتجاه، ومن وضع إلى آخر!
ومنذ عهد بعيد، انتبه بعض الناس إلى كتابة مذكراتهم الشخصية، خصوصاً في أواخر حياتهم، وقد كتب هؤلاء مذكراتهم
الشخصية ونشروها في مقالات عبر الصحف والمجلات، أو أصدروها في كتب، سواء كانوا ساسة أو مفكرين أو علماء أو قادة رأي عام. ومن هؤلاء الأعلام الذين كتبوا مذكراتهم: الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والعقاد، وطه حسين، والدكتور محمد حسين هيكل، وإبراهيم عبدالقادر المازني، ومحمد كرد علي، وأحمد حسن الزيات، وطنطاوي جوهري، ولطفي السيد، وعبدالعزيز فهمي، وعبدالله النديم، وعبدالرحمن الرافعي، وأحمد شوقي، والشيخ مصطفى عبدالرازق، وغيرهم.
ولعل مذكرات الزعيم الوطني (محمد فريد باشا) تصور جانباً من الحياة السياسية المصرية في فترة من أدق الفترات في الصراع ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي لمصر والعالم العربي.
تخليص حسابات فقط
عندما كتب الفيلسوف الراحل عبدالرحمن بدوي مذكراته التي صدرت قبل موته بسنوات قليلة، أثارت حفيظة الناس ضده، لما فيها من اتهامات صارخة وتجن واضح على رموز عصره الأفذاذ، كالإمام محمد عبده، وعباس العقاد وغيرهم! وقيل: إنه كتبها كتخليص حسابات وانتقام من رموز عصره الذين خطفوا منه الأضواء، ونالوا من الشهرة ما لم ينله هو بالرغم من عبقريته وكثرة مؤلفاته!
وكان تحامل عبدالرحمن بدوي واضحاً وشديداً على أعلام عصره، فيقول مثلاً: محمد عبده لم يكن يعرف أي شيء عن الإسلام! ويقول: العقاد لم يكن مثقفاً ولم يكن لديه شيء يقدمه للقراء! وكثير من هذه العبارات الفجة التي يكذبها الواقع والتاريخ والشهود.
سيرة لم تكتمل
أما المفكر الدكتور حسن حنفي، فنظراً لطبيعته
الشخصية القلقة التي لا تستقر على حال كسائر الفلاسفة، فقد كتب سيرته بطريقة تحليل نفسي ونقاش فلسفي، وكأنه يريد أن يقول: ليست هذه هي كل سيرتي! فأطلق عليها (سيرة شبه ذاتية) يقول فيها: «لدي طبيعة ثورية منذ صغري، فأنا أكره الاستبداد، وأهوى التغيير.. فلقد خرجت في المظاهرات وأنا صغير السن، وكنت أثناء الجامعة عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وكانت مهمتي جمع المعونات لأسر المعتقلين. وهناك موقف لا أنساه حدث في أثناء أدائي لامتحان اللغة الألمانية في سنة الامتياز، جاءتني ورقة قسم اللغة العربية، وأنا أدرس مع قسم الآثار فكتبت طلباً إلى العميد، وكتبت فيه: (الأخ الفاضل) -مخاطباً العميد- فاتهمني قائد الحرس بقلة الأدب وتم تحويلي إلى مجلس تأديب تحت القبة وسألوني: (هل العميد أخ فاضل)؟ فقلت لهم: نعم، وأنا شهيد على أن عباد الله إخوان، لا فرق بين رئيس الجمهورية وكانس الطريق إلا في أداء الواجب»!
البذور والجذور والثمار
على خلاف ذلك، جاءت مذكرات الدكتور (عبدالوهاب المسيري) مكتملة وشاملة كل شيء، وعنوانها دال عليها (رحلتي الفكرية من البذور والجذور والثمار) كشف فيها الكثير من تفاصيل حياته الخاصة، كقوله: «أقترب كثيراً من طقوس الأستاذ العقاد في طريقة قراءته وكتابته، فلا أجلس إلى مكتب مطلقاً، وأقرأ دائماً على السرير، وأكتب على رجلي، وبعدما تعرضت لآلام بالظهر اشتريت كرسياً خاصاً للقراءة، ومن عاداتي التي حافظت عليها أنني أحب الموسيقى الهادئة سواء كانت شرقية أو غربية. ولعل من أهم المطربين الذين أستمتع بأصواتهم عبدالحليم حافظ، فهو مطربي المفضل، كما أنني أعشق أداء كاظم الساهر، والمطربة ماجدة الرومي، والمطرب الكبير محمد عبدالمطلب، لكن لا يفوتني أن أذكر المطربة اللبنانية (فيروز) التي لها مكانة خاصة في قلبي، والتي كانت أمنية حياتي هي الزواج بها في شبابي، لكنني فشلت لأنني لم أقابلها، وقد أخبرت ابنها بذلك حينما قابلته مؤخراً».
ماذا علمته الحياة؟
كما سجل الدكتور (جلال أمين) مذكراته
الشخصية في كتابه (ماذا علمتني الحياة؟) والذي جاء أشبه بسجل وتاريخ عائلة (أحمد أمين) وكشف فيها عن كثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبها والده في حق نفسه وحق أسرته ومجتمعه! مما جعله مثار جدل مازال محتدماً بين أهله وأصدقائه.
وقد ألح (جلال أمين) كثيراً على مسألة عدم التوافق الأسري في بيت أحمد أمين، فمثلاً نراه يقول: «أمي كانت بخلاف والدي، فليس لديها الحس الأخلاقي القوي الذي كان عند أبي، فقد كانت أخف ظلاً من أبي، ولكنها كانت أيضاً أشد دهاءً ومكراً.. وكانت بخيلة جداً، فقد كان حصول أحد منا على بضعة قروش منها عملية مستحيلة تشبه محاولة استخراج الماء من الصخر! وكانت أيضاً حريصة جداً على مواجهة الحياة بتدبير الأموال اللازمة لذلك، وكانت كثيرة الشك وتردد المثل الشعبي (يا مآمنة للرجال.. يا مآمنة للماء في الغربال)! ولذلك سيطرت عليها فكرة الاستقلال المادي بعيداً عن والدي، فاشترت بيتاً باسمها يغنيها عن أبي إذا ما تنكر لها في يوم من الأيام»!
البحث عن الذات
وكتب الرئيس (أنور السادات) مذكراته في كتاب (البحث عن الذات) لكنها خلت من الأشياء والمواقف المهمة التي ينبغي أن يعرفها الناس، لأنه كتبها قبل رحيله بسنوات كثيرة!
سـيدة من مصـر
كما كتبت السيدة (جيهان السادات) مذكراتها في كتاب (سيدة من مصر) وتحدثت بصورة وردية عن حياتها، خصوصاً ارتباطها مع زوجها الراحل الرئيس السادات، وتعرض هذا الكتاب للنقد اللاذع، خصوصاً من (الشيوعيين واليساريين والناصريين) وأكثروا من التعليق عن كلامها بأن المصريين يزورون قبر زوجها أنور السادات مثلما يزورون الأهرامات والمعالم التاريخية!
مذكرات المشير الجمسي
أكثر من كتبوا مذكراتهم
الشخصية هم ضباط ثورة يوليو، أمثال: حسين الشافعي، وزكريا محيي الدين، و(عبدالمحسن أبو النور) الذي كتب (الحقيقة عن ثورة يوليو) وغيرهم. كما كتب كثير من العسكريين مذكراتهم الشخصية، مثل: المشير الجمسي.. وركزت هذه
المذكرات على الفترات العصيبة في تاريخ مصر، خصوصاً منذ حرب حزيران 1967م- حرب تشرين 1973م، ولعل هذه
المذكرات كانت أهم ما كتب من مذكرات في النصف الثاني من القرن العشرين، لأنها أفادت القراء والباحثين عن كيفية الإعداد والتجهيزات والاستعدادات التي كانت تقوم بها الدولة في تلك الحقبة، كما كشفت عن الجوانب المضيئة، والأخطاء والخطايا التي ارتكبت في تلك الحقبة.
مذكرات ثروت عكاشة الساخنة
هذا، وقد كانت مذكرات وزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور (ثروت عكاشة) ساخنة جداً، وهي التي جاءت تحت عنوان (مذكراتي في السياسة والثقافة). فقد حمل فيها بشدة على ثوار يوليو، وما اقترفوه في حق المجتمع. فكان يتمنى أن يتولى القيادة البطل أحمد عبدالعزيز، بدلاً من جمال عبدالناصر، فيقول: «إنه لو قدر لأحمد عبدالعزيز أن يقود الثورة آنذاك لاختلف الأمر تماماً. لكننا لم نفكر يوماً بكل ما حدث بعد الثورة، ولكننا كنا نطالب بتجديد الجيش وإدخال الحكم النيابي، وإصلاح شأن البلد، وتأكيد العمل الديموقراطي، ولكن للأسف انحرفت الثورة ولم تحقق الديموقراطية».
كما يتهم الدكتور عكاشة الضباط المصريين ويكشف أخطاءهم الفادحة في حرب 48 فيقول: «حكاية الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين عام 1948 أكذوبة ودعاية مكشوفة، لأن ضباط يوليو ليسوا معصومين، بل كانت لهم أخطاء فادحة، فسلوكهم -مثلاً- اتسم بالشذوذ حين عاملوا الملك فاروق برفق وإجلال عند رحيله، بينما عاملوا قائد الثورة محمد نجيب بفظاظة وعنف وامتهان لكرامته عند الانقلاب عليه! فمن أسف أن أبطال الثورة الحقيقيين صاروا ضحاياها بينما استولى عليها المنافقون والانتهازيون، فالثورة بدأت تأكل أبناءها الواحد تلو الآخر بعد عدة شهور من اندلاعها!».
الآن.. أتكلـم
قبل سنوات خرج علينا (خالد محيي الدين) عضو مجلس قيادة ثورة يوليو وأحد الضباط الكبار بكتابه: (الآن.. أتكلم) وظن البعض أن هذا الكتاب سيكشف أسراراً لا يعرفها أحد عن العهد الناصري! وكانت الصدمة الكبرى أن الناس لم يجدوا شيئاً ذا بال يقرأ في هذا الكتاب الضخم، والذي كانت الجماهير تترقبه بشوق جارف!
سنوات الانكسار والانتصار
منذ سنوات كتب الدكتور عصمت عبدالمجيد -الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية- مذكراته في كتابه الشهير (سنوات الانكسار والانتصار) والتي أسهب فيها الحديث عن طفولته وعائلته وتعليمه ودراسته، وعلاقاته بالرؤساء عبدالناصر، والسادات، وحسني مبارك، وغيرهم من الزعماء والقادة العرب، ويقول عن هذه المذكرات: «لقد أنجزت كتابي (زمن الانكسار والانتصار) وهو أشبه بمذكراتي الشخصية، وسجلت من خلاله أهم المراحل التي عايشتها في الداخل والخارج بعيداً عن السيرة الذاتية أو سرد أحداث ووقائع بعينها، أدري بأن كتابتها ستثير أزمات بين أشخاص ودول في المنطقة العربية، إيماناً مني بأن كثيراً من الأحداث لا يعالجها النشر وأساليب التشهير التي لا نجني منها سوى الشر والقلاقل التي نحن في غنى عنها، وفي ظروف كتلك التي نمر بها..».
ويقول أيضاً: «أنا كرجل دبلوماسي أعلم أن في حياتي كثيراً من الأحداث الخارجة التي واجهتها من خلال عملي، لكن لا يليق بالدبلوماسي أن يذكرها، لعدم جدواها.. وليس إخفاؤها جبناً، أو خوفاً من أحد، أو طمعاً في منصب ما.. إنما التزام بدبلوماسيتي التي أعتز بها، والتي أصبحت جزءاً من شخصيتي الحياتية».
مذكرات الطنطـاوي
من العلماء الذين كتبوا مذكراتهم الشخصية، الشيخ (علي الطنطاوي) والتي جاءت بعنوان (مذكرات) ألم فيها بما حواه النصف الأول من القرن العشرين، خصوصاً في مسيرة الأدب والثقافة والشعر، ومما امتازت به مذكرات الطنطاوي أنه كتبها بأسلوب ساخر جداً. تحدث فيها عن حافظ وشوقي والرافعي والمنفلوطي والزيات وزكي مبارك والعقاد وطه حسين وغيرهم من أعلام الفكر ومشاهير الأدب.
ابن القريـة والكتـاب
وفي السنوات الأخيرة، سجل الشيخ (يوسف القرضاوي) مذكراته بعنوان: (ابن القرية والكتاب) تناول فيها مسيرته الحياتية منذ طفولته، ثم التحاقه بالأزهر الشريف، وتحدث عن شيوخه وأبرز مواقفهم، وسجنه، وأسفاره، والشخصيات التي التقاها عبر مسيرته الحياتية، والعقبات التي واجهته في طريق الدعوة، إلى غير ذلك مما سجله في هذا الكتاب المكون من جزأين.
عيوب
المذكرات الشخصية
إذا كانت
المذكرات الشخصية لا تستطيع أن تعطي كل شيء عن حياة كاتبها، فلا أقل من أنها تلقي أضواء على هذه الحياة وتكشف عن الطوايا والغايات.
وحول جدوى كتابة
المذكرات الشخصية، يقول الدكتور محمد رجب البيومي: «إن من عيوب
المذكرات الشخصية أن مؤلفها لا يبوح بكل ما يعرف، خصوصاً إذا كان البوح متصلاً بأشخاص لا يزالون أحياء. ولا أدل على ذلك مما قاله الأديب المهجري (ميخائيل نعيمة) في كتابه (سبعون): ليس ما انكشف لك من حياتي كان كل ما في حياتي، إن الذي انكشف فيه الرغوة وفيه الصريح».