عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 02-15-2012, 04:48 PM
الصورة الرمزية يقيني بالله يقيني
يقيني بالله يقيني غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: جمهورية مصر العربية
المشاركات: 4,854
افتراضي

يكشفُ المسلمون الذين حُوِّلُوا عن دِينهم عن شُعورهم الغامر بالاضطهاد في بعضٍ من أكثر مخطوطات هذا الأدب المأساوي إثارةً للحُزن والأسى، تبكي المرأة العبيديَّة - التي فقدت عائلتها عندما سقطت غرناطةُ - قائلةً للرجل الشاب من أريفالو عن انهيار أمَّتها وسُقوطها هذه الكلمات الموجعة التي تتنبَّأ بالمستقبل:
"قالت لي - وهي تبكي هزيمةَ المسلمين وانهيارهم -: صَلِّ يا بني للطف الله العظيم ألاَّ يستمر عقابه لنا فترةً طويلة من الزمان كما تقولُ لي النُّبوءة... ادعُ لطفَ الله العظيم أنْ تكون محبته لمسلمي هذه الجزيرة الذهبيَّة بعظَمة قُدرته، وادْعُه أنْ يُحوِّل هذه المآذِن إلى مَناراتٍ شاهقة راسخة"[11].

لقد كان عالم المرأةِ العجوز المسلمة، التي أُجبرت على التحوُّل عن دينها، يَتداعَى أمامَ عينيها، وهي تتفجَّع، في خلاصة قصيرة موجزة[12] تُثِيرُ الأسى والحزن اللذين يسحَقان القلب، على ما حلَّ بكتب الإسلام المقدسة من دَمار: "لقد رأيت القُرآن الكريم بين يدي تاجر يصنع منه ورقًا لاستعمال الأطفال، وقد التقطت تلك الأوراق المطويَّة وأنا حزينة القلب..."[13].

شكوى مُتفجِّعة أخرى تثيرُ الأسى نسمَعُها من بين شفتي يوسي بانيغاس (Banegas Yuse) المستعرب العظيم[14]، الذي يَبكِي أيضًا على سُقوط غرناطة، كما أنَّه كان يشعُر أنَّ ما هو أسوأ من ذلك سيُصِيب المسلمين الذين كان يعيشُ بين ظَهرانيهم؛ إذ بسبب الثورة التي وقعت عامي 1500-1501، أعادَ فرديناند وإيزابيلا التفكيرَ بالامتيازات التي مَنَحاها لمسلمي الأندلس الذين استسلَمُوا بعد هزيمة المسلمين، وقد انتشرَتْ فيما بعدُ عمليَّات التعميد الجماعي [للمسلمين]؛ وهكذا فإنَّ يوسي يكتُب للرجل الشاب من أريفالو، الذي كان يعيشُ في أفيللا؛ وبالتالي فإنَّه كان جاهلاً بما حصل وكان يحصل في غرناطة، ويخبره بتخوُّفه الفعلي من أنَّه "إذا لم يكن قائد الفتح - يقصد فرديناند - سوف يُحافظ على كلمته فإنَّه ليس بمقدورنا أنْ نأمل الكثير ممَّن سيَخلُفونه في الحكم".

وفيما يلي المرثاة التي يَكتُبها يوسي:
"اعلم يا بني أنَّك لا تعرف شيئًا عمَّا حلَّ بغرناطة؛ وعليك ألا تفزع حين أُخبِرُك بما حَلَّ بها؛ لأنَّ صدى ما حدَث يترجم بقلبي في كلِّ لحظةٍ من اللحظات، ولا تمرُّ برهةٌ من الزمن إلا وتهرُّ أمعائي من هول ما حدث... أي بني، إنَّني لا أبكي الماضي لأنَّ الماضي لن يعود، لكنَّني أبكي على ما ستشهَدُه عيناك إنْ كُتِبَ لك العيش على هذه الأرض وفي الجزيرة الإسبانيَّة، ادعُ لطفَ الله، إكرامًا فقط لقُرآننا العظيم، أنْ تذهب هذه الكلمات التي سأقولها إلى عالم النِّسيان، وألا تسمع هذه الكلمات التي تنبَّأتُ بها أبدًا، خُصوصًا أنَّ دِيننا الآن محتقرٌ ومُزدَرى إذ يقول الناس: أين ذهبت صلواتكم وأدعيتكم؟ ما الذي حدَث لدِين آبائنا؟ وسوف يحسُّ الإنسان ذو الشُّعور الرقيق بأنَّ كلَّ شيءٍ فج وشديد المرارة.

وما يُؤلم أكثر أنَّ المسلمين سيُقلِّدون المسيحيين ولن يَرفُضوا ارتداء لباسهم، ولن يزدَرُوا طَعامهم، ادعُ لطف الله أنْ يرفض المسلمون أعمالَ المسيحيين وألا يلقوا بالاً إلى قَوانين المسيحيين في قُلوبهم... وها أنت ترى أنَّني أقولُ ذلك وأنا مَفطورُ القلب فادعُ لطف الله ومحبَّته التي تَفُوقُ الوصف أنْ يكون قولي بعيد الاحتمال والحدوث، وأنا أقوله لأنَّني لا أرغبُ أنْ أبكي بكاءً [مرًّا على ذلك الحال]... إنَّا لا نستطيعُ في هذا المكان الضيِّق أنْ نمدَّ أنفسنا بأسباب البَقاء إلا عَبْرَ المواجهة، فما الذي سيكونُ بأيدينا فعلُه إذًا عندما تأتي أيَّام الخريف الأخيرة؟ ما الذي سيفعَلُه الأبناء والحفَدَةُ عندما سيحقرُ الآباء الدِّين ويفترون عليه؟ وإذا لم يكن الملك الفاتح سيَفِي بوعْده فما الذي ينتظرُنا على أيدي مَن سيَخلُفونه في الملك؟

أي بني، إنَّني أقول: إنَّ هزيمتنا سوف تكبر ويصيرُ حالنا من سيِّئ إلى أسوأ، فادعُ لطف الله العظيم أن يُنزل رحمته علينا ثانية، وينعم علينا، ويمدَّنا بأسباب البَقاء"[15].

لقد مَرَّ [المسلمون] بأوقاتٍ صَعبة، ومِئاتٌ من مخطوطات الأدب الإسباني المكتوب بالحروف العربيَّة، التي مُنعت طباعتها بغير وجهِ حقٍّ، تشهدُ مرَّة بعد مرَّة على الحال المتوتِّر والكرب الذي عاناه المسلمون المحصنون وراء الأسوار في المجتمع الأندلُسي المسلم الذي كان آيلاً إلى الزَّوال.

ويكتُب الرجل الشاب من أريفالو واحدةً من أكثر صفحات كتابِه دراميَّة وإثارة للمَشاعر عندما يُخبِرُنا بالتفصيل عن اجتماعٍ سري حضَرَه "رجال من المسلمين وعلمائهم" في سرقسطة (وفي ذلك الاجتماع ولدت فكرةُ كتاب الرجل الشاب الذي أطلق عليه اسم "الشرح").

في هذا المقطع من كتابه يُخبِرُنا عن الإحساس باليأس والغضب الذي كان يشعُر به هؤلاء المسلمون، والذين كان العديد منهم غيرَ قادر على معالجة الوضع؛ ومن ثَمَّ فإنهم كانوا مُتَشائمي النَّظرة بسبب الصُّعوبات التي كانت ستُواجِههم بِخُصوص الإبقاء على دِين الإسلام حيًّا [في تلك الديار]:
"... لقد بدأ الرجال المجتمِعون في الحديث عن الأحزان والمِحَنِ، وكلٌّ منهم ألقى علينا خُطبةً رنَّانة: ومن بين الأشياء العديدة التي ذكَرَها أحدُهم هو أنَّ الضَّياع الذي نحنُ فيه كان عظيمًا، ويدعو إلى الرثاء والشفقة؛ بسبب صغر شأن العمل الذي يمكننا القيام به، عالم آخَر قال: إنَّ ما ينبغي علينا عمله، وما نحس كلَّ يوم أنَّ علينا عمله، سيبرهن على جدارتنا واستحقاقنا، لكنَّهم أنكروا عليه كلامه قائلين: إنَّ ما سنفعله سيكونُ من غير طائلٍ من منظور العقيدة؛ لأنَّ العمل كان ينقصه أمرٌ جوهري وهو الدعوة والتضرُّع الرسميان إلى الله؛ وبالتالي فلن يكون العمل مقبولاً عند الله...

__________________


رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59