عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-26-2013, 12:25 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

الجزء الأوَّل


القســم الأوَّل
مقدمات ظهور علم النفس واستقلاله








الفصل الأول:
لماذا علم النفس؟



قد يكون الاعتراض على الحديث عن أهمية علم النفس وسماته في هذا المقام صحيحاً فيما لو كانت المسألة التي نعالجها تتعلق بأحد موضوعات هذا العلم أو بفرع من فروعه، خاصة وأن معظم كتب علم النفس المنشورة بلغتنا تتناول هذه القضايا في فصولها الأولى بصرف النظر عن مهمتها وعناوينها. وهذا ما خبره القراء في بلادنا، ولم يجدوا، في كثير من الحالات، مسوغاً منطقياً له. غير أن الأمر يختلف إلى حد كبير حين تكمن مهمة العمل في تتبع مراحل تطور علم النفس، وعرض أهم مدارسه و أشهر تياراته والتعريف بزعماء تلك المدارس والتيارات وأنصارها، وتحديد الموقع الفكري لكل منهم. ففي حالةٍ كهذه يبدو ضرورياً أن يقوم المؤلف، في البداية، بإبراز الخصائص العامة لهذا العلم، التي ينبغي مراعاتها والنظر إليه على أساسها.
إنَّ الفهم الخاطئ لخصائص علم النفس يعدّ واحداً من الأسباب التي تدعو إلى العودة إليها من أجل توضيحها، وتحفز على تحديد غايات هذا العلم ووسائله. فقد شهد هذا العلم، وما يزال يشهد، تبايناً في وجهات نظر العاملين فيه، مثلما عانى، ويعاني حتى الآن، من آراء بعض المفكرين والمثقفين القاصرة حيناً، والسلبية أحياناً. وهذا ما يميز "مناخ" علم النفس عن "مناخات" العلوم الأخرى: الطبيعية منها والاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة.
صحيح أن التباين في الآراء الذي يصل في بعض الأحايين إلى حدّ التناقض في مضمار علم النفس كان سبباً للمواقف السلبية والقاصرة خارجه، وأن ما كان قائماً وما هو موجود الآن على "خطوط التماس" أو بعيداً عنها قليلاً إن هو إلا صدى أو، على الأصح، ردّ فعل على ما يجري في داخله، ولكنه صحيح أيضاً أن يكون التأثير عكسياً. ذلك أن موقف الآخرين من علم النفس وخلافاتهم تؤثر، على نحو ما، على ممثلي هذا العلم عبر العديد من القنوات، وفي مختلف الأطوار والمراحل التي يمرون بها قبل نشاطهم العلمي وأثناءه.
ولعل تأثير الوسط الثقافي للباحث السيكولوجي لا يقتصر على مرحلة عطائه العلمي، ولا ينحصر ضمن حدود معرفية معينة، وإنما يتعدى ذلك ليشمل جميع سني حياته وكافة عناصر وعيه وأشكاله. وربما وضع البعض مسألة تأثير الثقافة الاجتماعية على العالم السيكولوجي في مرحلة نضجه الذهني والفكري على هامش الصفحة، ريبةً في صحتها أو، في أحسن الأحوال، محاولةً لإعمال الفكر فيها وتحليلها والتأكد من صدقها. وهذا ما لا نستغربه حينما نعرف أنَّ ما يمليه إجراء كهذا هو النظر إلى الموضوع المطروح بنظرة أحادية الجانب، أي من زاوية الأثر الذي يحدثه فكر العالم السيكولوجي ونظرته إلى مادة نشاطه وموضوعه في وسطه الاجتماعي، دون الاهتمام إلى الحدّ الكافي بالجانب الآخر المتمثل في دور ذلك الوسط بمختلف حلقاته ودوائره، وخاصة القريبة والضيقة منها، في هذا الفكر. فمن خلال هذا الدور تتحدد آراء الباحث وتتشكل مواقفه.
إنّ مرحلة النضج والعطاء عند الإنسان عامة، والباحث خاصة، ما هي إلا نتاج التفاعل والتواصل الاجتماعيين وثمرة من ثمار التربية بأوسع معاني هذه الكلمة عبر المراحل العمرية السابقة. ومهما حاول بعض العلماء تجاهل أو تجاوز كنه هذه العلاقة واتجاهها، فإن المعاينة الدقيقة تكشف عن وجود بصمات الوعي الاجتماعي على مجمل نشاطهم كمظهر من مظاهر الوعي الإنسانيّ. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف البريطاني برترند راسل حين قال: "إن كل الحيوانات سلكت سلوكاً يتفق مع الفلسفة التي يعتنقها الشخص الملاحظ قبل أن يبدأ ملاحظاته. بل وأكثر من ذلك، فإنّ هذه الحيوانات قد أوضحت الخصائص القومية لصاحب الملاحظة. فالحيوانات التي قام الأمريكيون بإجراء الدراسات عليها تندفع في حالة من الهياج وبنشاط واستثارة واضحة غير عادية، وفي النهاية تصل إلى النتيجة المنشودة عن طريق الصدفة. أما الحيوانات التي قام الألمان بملاحظتها فتقف ساكنة وتفكّر، وفي النهاية تصل إلى الحلّ الذي يكون بعيداً عن شعورها الداخلي"،(منصور طلعت وآخرون، 1978، 101).
وما يهمنا من قول راسل، ونحن بصدد الحديث عن علم النفس وتاريخه، هو ضرورة العودة إلى الفلسفات التي كانت المنطلقات النظرية لعلماء النفس على اختلاف نزعاتهم، للوقوف على دورها الكبير في نشاطهم العلمي والنتائج التي توصلوا إليها. ومن غير هذا الإجراء، وما لم توضع النظرية في سياقها التاريخي –الفكري تظل في الكثير من جوانبها ومفاهيمها مجردة بصورة ما، ويتحول التأريخ لها إلى مجرد وصف أقرب للتصوير منه إلى العلم.
ومن المفيد أن نسوق مثالاً لا يقل أهمية من حيث قيمته التعبيرية وقدرته على إبراز العلاقة المذكورة عمّا قاله راسل. فقد كرس أصحاب "الأنتروبولوجيا السيكولوجية" أو "علم النفس الأنتروبولوجي" نشاطهم لخدمة النظرية العرقية النازية. فوجد الألماني آرنولد في كتابه "البنى السيكوفيزيائية عند الدجاج" أن سلوك الدجاج الذي ينتمي إلى المناطق الجنوبية من الكرة الأرضية يغلب عليه الخضوع السريع للدجاج الشمالي الذي يظهر على سلوكه الميل إلى التفوق وحب السيطرة والرغبة في إخضاع الأنواع الأخرى من الدجاج لسلطته. ويقول زميله ومواطنه ينيش بوجود خصائص عرقية موروثة عند الكائنات الحية تجعل من تفوّق بعضها على البعض الآخر أمراً حتمياً وطبيعياً.(منصور ف، 114-116).
إنّ هذه الأحكام لا تحتاج إلى تعليق. فهي، أياً كانت الزاوية التي يُنظر إليها من خلالها، تبرز بجلاء آثار المنطلقات النظرية للباحث السيكولوجي على تفسيره لمظاهر السلوك المختلفة.
كما تؤكد على ضرورة وضع الواقعة العلمية السيكولوجية، مهما كان حجمها وامتدادها، في مسارها الصحيح، ودراستها وفقاً لذلك.
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن من غير الممكن معرفة جوهر الظاهرة من غير تتبع مراحل تطورها، والوقوف على كمية ونوعية الصلات التي تربطها بغيرها من الظواهر القريبة منها والبعيدة عنها، والوصول، أخيراً، إلى القانون الذي ينظم حركتها. وهذا ينطبق على ظواهر الطبيعة، مثلما ينطبق على الظواهر الاجتماعية والإنسانية. ومن خلال هذا الفهم يكون التشديد على أهمية دراسة تاريخ علم النفس. فعندما يتم تناول مراحل تطور هذا العلم، وإبراز سمات كلّ مرحلة منها، وربط هذه السمات بعضها ببعض من جهة، وربطها بالشروط الثقافية لنشأتها وتبلورها من جهة ثانية، يصبح واقع هذا العلم وأهميته واتجاهه من الأمور الواضحة إلى حدّ يمكّن الدارس من معرفة ما لهذا العلم وما عليه، والتنبؤ بما يمكن وما ينبغي أن يكون حاله في المستقبل.
لقد نشأت وتطورت مدارس سيكولوجية عديدة. وتأتي مدرسة التحليل النفسي في طليعة هذه المدارس من حيث انتشارها وذيوعها. إذ تعدى أثر هذه المدرسة في فترة ما بين الحربين العالميتين خصوصاً ميدان علم النفس إلى ميادين أخرى كالأدب والتربية والفن.
إن لظهور هذه المدرسة أو تلك أسبابه الموضوعية المتعلقة أساساً بثقافة المجتمع(أو المجتمعات) التي عرفته. وهذا يعني ببساطة أن أياً من هذه المدارس هي الابنة الشرعية للمجتمع الذي ولدت فيه. وتبعاً لتوجهاته وتوجيهاته(المباشرة وغير المباشرة) ومستوى قبوله بها وتقبله لها تنمو وتتطور. وانطلاقاً من ذلك يمكن تفسير ظهور السلوكية وتعديل تعاليم مؤسسها ونشوء السلوكية الجديدة، وكذلك ضعف صدى حركة التحليل النفسي بعد الحرب العالمية الثانية... الخ.
وما قيل يؤلف –بالنسبة لنا- المبدأ العام الذي سوف نعتمد عليه في عرضنا التاريخي لعلم النفس في القرن العشرين. ويتجسد هذا المبدأ، مرةً أخرى وباختصارٍ، في وحدة الفكر الإنساني بما يحمله من تناقضات أولاً، ووحدة شخصية الإنسان ووعيه ثانياً، وأثر هذا الفكر في الشخصية والوعي ثالثاً.
لقد تحدثنا، حتى الآن، عن جانب واحد من المسألة المطروحة. أما الجانب الثاني فيحتوي على الصورة التي يحملها جمهور المثقفين والمتعلمين من غير المشتغلين في حقل علم النفس عن هذا العلم. ونبادر للقول بأن هذه الصورة ما زالت تتسم حتى الآن بالكثير من المغالطات والتشويهات، على الرغم ممّا كتب ونشر حول علم النفس.
إننا لا نجد كبير عناء في البرهان على وجود مثل هذه الصورة لدى الأغلبية الساحقة من الناس. فالحياة اليومية تزخر بالأمثلة والشواهد. وهي تقدمها لنا في كل حديث، وعبر أي حوار أو مقابلة نجريها مع الآخرين. ولكي لا يظل كلامنا نظرياً وتعسفياً فإننا نستعين بالنتائج التي انتهى إليها الدكتور مصطفى سويف.
قام الدكتور سويف بدراسةٍ مسحية على عينة تمثل مختلف قطاعات المجتمع المصري، وذلك من أجل معرفة نظرة الناس إلى علم النفس، من حيث موضوعه وأهميته على الصعيد العملي.
وقد كشفت الدراسة عن وجود أكثر من 1/5 أفراد العينة البالغ عددهم 500 شخصاً، يحمل تصوراً يضع علم النفس في صف واحد مع السّحر والشعوذة، وأن 3/5 المستجوبين قصروا موضوع علم النفس على جانب واحد فقط، هو الجانب الانفعالي. واعترف خمسهم بعدم وجود أي تصور لديه عن الموضوع. ولم يستطع تقديم إجابة قريبة من الواقع، حول مجال اهتمام علم النفس سوى عشرة أشخاص فقط.
وبيّنت الدراسة أيضاً أن 47% من العينة لا يعرفون أي عالم أو باحث يشتغل في حقل علم النفس، وأن 40% أوردوا اسم فرويد(ومعظمهم لم يذكر إلا اسمه). بينما صرح 53% من المجموعة بأنهم لا يعرفون شيئاً عن علم النفس، ولم يقرؤوا أو يطلعوا على أي شيء يتعلق به. واقتصرت مطالعة 18% من العيّنة على كتب ليست ذات صلة بتراث علم النفس، ككتاب "كيف تكسب الأصدقاء؟..."، ومطالعة 10% على بعض ما كتبه فرويد أو بعض ما كُتب عنه.(سويف، 1978، 3-20).
وتدلّل هذه المعطيات على أن علم النفس لم يتبوأ بَعْدُ مكانته الصحيحة لدى فئة المتعلمين والمثقفين في مجتمعنا، وأن معالمه وموضوعات اهتمامه غير معروفة إلى حدّ بعيدٍ من قبلهم.
وما دمنا نتكلم عن التصور العام حول علم النفس فمن الضروري أن لا ننسى ما يعكسه هذا التصور من فهم لدور الاختصاصي النفسي ومهماته. إننا لو رجعنا إلى العيّنة التي وزع على أفرادها الاستبيان وطرحنا عليهم سؤالاً عن طبيعة عمل الاختصاصي النفسي، لألفينا أن نسبة من الإجابات التي يمكن أن يدلي بها هؤلاء تعبر عن فهم ضيق أو مشوه لهذا العمل. فقد يتصور الكثير منهم أن المشتغل في علم النفس أشبه ما يكون بالساحر أو المنجم أو المشعوذ، وأن علم النفس يمدّ الإنسان بقدرة عجيبة على معرفة ما يجري في أذهان الآخرين وما يفكرون به، أو ما يرغبون بالتحدث عنه، أو معرفة أسرارهم لمجرد إجراء حوار قصير معهم. وفي أحسن الأحوال قد يرى بعضهم أن مهمة الاختصاصي النفسي تتمثل في تشخيص الأمراض النفسية وعلاجها.
إن لكل واحدة من الحالتين المذكورتين بعداً ثقافياً تتأثر به وتقوم عليه في تقديم مثل هذه الإجابات. فالحالة الأولى تعكس –كما هو بيّن- فهم ممثليها لوظيفة علم النفس من زاوية أحد فروعه فقط، وهو الطب النفسي، دون غيره من الفروع الأخرى، أو من وجهة نظر التحليل النفسي دون غيره من الاتجاهات السيكولوجية. في حين ينطلق هؤلاء في الحالة الثانية من نظرتهم إلى الاختصاصي النفسي إلى أنه يتعامل مع موضوعات غير محسوسة. وهي بالتالي –حسب اعتقادهم- ذات طبيعة غريبة لا يُعرف مصدرها ولا تدرك نشأتها. وواضحٌ ما تحمله هذه النظرة في طياتها من رواسب الفكر القديم.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود عوامل موضوعية وأخرى ذاتية تدفع بحالات كهذه إلى الوجود. فمن غير الإنصاف أن نُحمّل المتعلم وحتى المثقف مسؤولية ذلك كله، ونعفي الدوائر الثقافية والإعلامية والتربوية في المجتمع منها، إذا لم يكن هدفنا تجريد هذه الدوائر من صلاحياتها وإلغاء دورها أو تقزيمه بحكم قبلي.
إن ما ذكرناه حتى الآن يعتبر أحد الأسباب التي جعلت من هذا الفصل أمراً لازماً. ومن خلاله نعتقد بأننا أجبنا على الاعتراض الذي استهلينا به الحديث. ونوجز ما قلناه في هذا الشأن بعبارات أوضح. إن مهمة هذا الفصل تتجسد في تناول دور علم النفس وأهميته، ومع التأكيد على الروابط القائمة بين هذه المسألة ومسألة تكون الظواهر النفسية وتطورها والقوانين التي يخضع لها إبان ذلك، فإننا نعتبر أن دراسة الأولى منهما هي مهمة تاريخ علم النفس، بينما تشكل الثانية المهمة المركزية التي يجب على علم النفس العام أن يضطلع بها.
ويمكن أن يدور الحديث عن دور علم النفس وأهميته على محورين رئيسيين يرتبط كل منهما بالآخر، ويتضمن الأول فروع هذا العلم وأقسامه، والثاني –علاقته بالعلوم الأخرى.
فمن المعروف أن علم النفس –كعلم قائم بذاته- هو علم حديث. وعلى الرغم من حداثته فقد استطاع أن يطال باهتماماته معظم مناحي الحياة، إن لم نقل جميعها على الإطلاق.
ومضى قدماً في دراسة الخصائص النفسية لأوجه النشاط المختلفة التي يمارسها الإنسان وأثرها في سلوكه، ومحاولته الوصول إلى أدق القنوات التي تربط الفرد بالآخرين خلال مراحل حياته. وهذا ما يعكسه تعدد فروع هذا العلم وأقسامه.
إن ظهور هذه الفروع والأقسام لم يكن تجسيداً لقرار أو إرادة فرد أو مجموعة من الأفراد، وإنما أملته الحاجة المتزايدة إلى معرفة أشمل وأعمق وأدق بالنفس البشرية. فقد كان من نتائج التقدم السريع للعلم والتقنية في عصرنا، ونشوء ضروب جديدة من النشاط الإنساني، أن وقف علم النفس أمام زيادة كبيرة في حجم اهتماماته تكافئ ما استجد من قطاعات إنتاجية وخدمية وسواها وما سُخر في سبيلها من أدوات ووسائل وآلات. وكان عليه أن ينهض بمسؤولياته ويواكب، بل ويسهم، في تهيئة أسباب التطور اللاحق وتحسين شروطه وأدواته. ومن خلال هذا المسعى ظهرت فروع علم النفس وتشعبت استجابة لمتطلبات العصر وأهداف المجتمعات وحاجات الأفراد المتزايدة.
وهكذا يمكن تصنيف فروع علم النفس بالاعتماد على أسس ثلاثة، وهي:
1-النشاط الذي يمارسه الإنسان.
2-النمو النفسي.
3-علاقة الإنسان(الذي ينشط وينمو) بالآخرين.
فلقد أدى اهتمام علم النفس بدراسة الظواهر النفسية من خلال أوجه النشاط الإنساني المختلفة إلى ظهور عدد من الفروع والأقسام، ومن بينها:
-علم النفس التربوي: الذي يدرس القوانين النفسية للنشاط التربوي والتعليمي عبر محاولاته لحل المسائل المرتبطة بتوجيه عملية اكتساب المعارف والمهارات والقدرات والعوامل التي تؤثر في نجاحها، والفروق الفردية بين الدارسين... الخ.
وينقسم هذا الفرع إلى: علم النفس التعليمي، وعلم نفس المعلم، وعلم نفس الأطفال الشواذ وتربيتهم... الخ.
-علم نفس العمل: ويتناول دراسة الخصائص النفسية للنشاط العملي للإنسان والأساليب والأدوات الواجب استخدامها في تنظيمه تنظيماً علمياً.
-الهندسة البشرية: ويدرس هذا النوع نشاط العامل في منظومات التسيير المؤتمتة، وتعيين الوظائف التي يؤديها كل من الإنسان والآلة وسبل إحلال الانسجام والتناغم إلى الحدود القصوى بينهما.
-علم النفس الطبي: ويهتم بدراسة نشاط الطبيب وسلوك المريض. ويشتمل هذا الفرع على عدة أقسام، منها: علم النفس العصبي(النيروسيكولوجيا) الذي يدرس علاقة الظواهر النفسية ببنية الدماغ، وعلم نفس الصيدلة(السيكوفارموكولوجيا) الذي يتتبع الآثار التي تتركها العقاقير الطبية على سلوك الإنسان، والطب النفسي الذي يبحث في علاج الأمراض عن طريق إحداث التأثيرات النفسية.
-علم النفس العسكري: ويُعنى بدراسة سلوك المقاتل وعلاقة الرئيس بالمرؤوس في ظروف السلم والحرب، وطرائق تكوين الصفات الإرادية الإيجابية والمهارات والقدرات الضرورية عند أفراد الجيش والقوات المسلحة، وزيادة كفاءتهم على تمثل الأسلحة العصرية واستخدامها بفعالية ونجاح. وتقع "الحرب النفسية" أو "الدعاية والدعاية المضادة" ضمن اهتمامات هذا الفرع.
-علم نفس الطيران: ويدرس التغّيرات التي تطرأ على سلوك الطيار أثناء التدريب والقتال الجوّي. ويعمل على الكشف عن أسبابها بقصد التخفيف، ما أمكن، من آثارها السلبية.
-علم نفس الفضاء: ويبحث في الخصائص النفسية لنشاط رجل الفضاء، وظهور حالات التوتر النفسي والعصبي في ظروف انعدام الجاذبية الأرضيّة.
-علم النفس التجاري: ويتولى البحث في مسائل الشروط النفسية للإعلان وأساليب التأثير على الزبائن والخصائص السيكولوجية للطلب.
-علم نفس الإبداع الفني وعلم نفس الإبداع العلمي: ويهتم الأول ببحث السمات النفسية لشخصية الفنان، والعوامل المؤثرة في نشاطه الفّني. بينما يهتم الثاني بدراسة هذه السمات عند العالم والعوامل التي تؤثر في نشاطه العلمي.
-علم النفس الرياضي: ويدرس الخصائص النفسية عند الرياضي، ويعالج شروط ووسائل إعداده.
-علم النفس القانوني: وينظر في المسائل التي تضمن تطبيق القانون واحترامه. وينقسم هذا الفرع إلى أقسام عديدة، منها: علم النفس القضائي الذي يهتم بدراسة الخصائص النفسية للمجرمين وأقوال الشهود وسلوك المتهمين وكيفية إجراء التحقيق معهم، وعلم النفس الجنائي الذي يدرس سلوك المجرم والقضايا المرتبطة بتكوين شخصيته، ولا سيما الدوافع التي تكمن وراء ارتكابه للجريمة، وعلم نفس الجانح الذي يدرس الصفات النفسية عند الأحداث الجانحين والعوامل الذاتية والبيئية التي تدفعهم إلى الجناح، وعلم نفس إعادة تربية المجرمين الذي يهتم بالكشف عن السمات النفسية لدى السجناء ومعالجة القضايا السيكولوجية المتعلقة بتربيتهم.
ومن خلال متابعة علم النفس لسلوك الإنسان وتطور صفاته النفسية في مختلف مراحل الحياة ظهرت فروع أخرى لعل أهمها ما يلي:
-علم النفس النمائي أو النشوئي: ويدرس الحالات والعمليات النفسية وخصائص شخصية الإنسان عبر مراحل نموه المتعاقبة. وتبعاً لهذه المراحل نجد الأقسام التالية: علم نفس الطفولة وعلم نفس المراهقة وعلم نفس الشباب وعلم نفس الرشد وعلم نفس الكهولة والشيخوخة.
-علم نفس الشواذ أو علم النفس الخاص: ويتفرع عنه علم النفس المرضي الذي يدرس الظواهر النفسية في ظل مختلف أمراض الدماغ، وعلم نفس الضعف العقلي الذي يُعنى بدراسة الإصابات الدماغية(الموروثة والمكتسبة) وأثرها في الحياة النفسية عند الإنسان، وعلم نفس العاهات السمعية والبصرية.
-علم النفس المقارن: وموضوعه مقارنة سلوك الحيوانات بالنشاط النفسي عند الإنسان، والوقوف على أوجه الشبه والتباين بينهما. كما يتولى البحث في أنماط وأساليب الحياة النفسية عند الإنسان عبر تاريخه المديد. ويتفرع عن هذا الفرع علم النفس الحيواني الذي تعتبر دراسة سلوك الحيوانات على اختلاف أنواعها ومستوى تطورها(النحل، الأسماك، الطيور، الفئران، الكلاب، القردة...) ومعرفة أصوله وآلياته موضوعاً رئيسياً له.
ومن الضروري الإشارة إلى أن تتبع الظواهر النفسية عند الإنسان وتحديد فترات نشوئها والأطوار التي تمر بها لا يعنيان إهمال الشروط والعوامل التي تؤثر فيها. فمن مهمات الباحث أن يكشف عن العلاقة القائمة بين هذه الظواهر من ناحية، وبينها وبين الظواهر الأخرى، البيئية والفيزيولوجية وسواهما من ناحية ثانية.
وانطلاقاً من مبدأ علاقة الفرد بالمجتمع يمكن تمييز فرعين اثنين، هما: علم نفس الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، ويحمل علم نفس الشخصية اسم علم النفس الفارقي. وموضوع هذا العلم هو الخصائص النفسية عند الفرد كالطبع والمزاج ونمط السلوك والنشاط العصبي العالي والدوافع والقدرات وغيرها، بالإضافة إلى العوامل المؤثرة فيها.
وتقع الظواهر النفسية التي تنشأ خلال تفاعل الإنسان مع الآخرين، سواء أكان الآخر فرداً أم جماعة(الأسرة، الجماعة المنظمة، الجماعة غير المنظمة...) ضمن اهتمام علم النفس الاجتماعي. ويتولى هذا الفرع أيضاً دراسة الرأي العام والإشاعة والصرعة والقيم والمعتقدات والتقاليد الاجتماعية وأثر ذلك كله في سلوك الفرد.
وتظهر هذه اللوحة بوضوح المساحة الواسعة التي يغطيها علم النفس. فهو، باختصار، يتولى دراسة النشاط النفسي للإنسان أينما وجد وأياً كان عمله ومهما كان عمره الزمني وموقعه الاجتماعي. والباحث السيكولوجي من خلال وجوده في المؤسسات الإنتاجية ومراكز الخدمات الثقافية والتربوية والصحية يتصدى لمعالجة موضوعات محددة متسلحاً بالمناهج: العيادية والتجريبية والرياضية ومستخدماً أدوات ووسائل عصرية. وهذا ما يطبع نشاطه بطابع العلميّة، ويبتعد به عن التصورات ما قبل العلمية والمنهج الميتافيزيائي والتأملية. وهو، إذ يقوم بنشاطه هذا، إنما يسعى إلى حلّ مشكلات الوعي عند الإنسان بهدف تطويره، وزيادة قدرته على العمل والعطاء والتعاون و الانسجام مع الآخرين.
إن تصنيف فروع علم النفس وأقسامه على نحو ما تقدم يطرح سؤالاً حول علم النفس العام وموقفه. فالإجابات التي يقدمها المشتغلون في علم النفس ما زالت متباينة: حيث أنه في الوقت الذي يرى فيه البعض([1]) أن علم النفس العام هو فرع من فروع علم النفس، يعدّه آخرون([2]) أصل هذه الفروع جميعاً. بينما يقف طرف ثالث موقفاً مخالفاً لهؤلاء وأولئك في ضوء نظرتهم إلى أن علم النفس العام، يُعنى قبل كل شيء بتعميم القوانين والمفاهيم التي يتم الكشف عنها في إطار الفروع الأخرى والمبادئ التي تعتمد عليها، ومناهج البحث والطرائق التي تستخدمها. إن مهمة هذا العلم، من وجهة النظر هذه، تنصب على تنظيم نشاط العاملين في مختلف ميادين علم النفس والتنسيق بينها. ولعل أخذ هذه الخصوصية التي يتمتع بها علم النفس العام بالاعتبار يجعل من الأصوب أن لا ينظر إليه كفرع مستقل، مثلما هو الشأن بالنسبة لعلم النفس التربوي أو علم النفس النمائي أو علم نفس الشخصية... الخ أو كأصل تستمد منه بقية الفروع وجودها.
والسؤال الثاني الذي يطرحه التصنيف السابق يتضمن العلاقة بين فروع علم النفس المعاصر وأقسامه. إن هذه الفروع، وإن اتخذت من الظواهر النفسية موضوعاً لها –كما سبقت الإشارة إلى ذلك- فإنها تختلف من حيث ميادين عملها واتجاهها نحو العلوم القريبة منها، كالطبّ وعلم الحيوان والتربية والرياضيات وغيرها. ويرجع السبب في ذلك إلى اختلاف هذه العلوم وتباعدها بعضها عن بعض إلى حدّ يصعب معه إيجاد "قواسم" مشتركة فيما بينها.
وإلى جانب هذه السمة(التباين والاختلاف) تتصف فروع علم النفس بالتكامل. فتبعاً للنشاط الذي يمارسه علماء النفس تقترب هذه الفروع أكثر فأكثر من العلوم المتاخمة، مثلما هو الحال بالنسبة لعلم النفس والطب من خلال الطب النفسي أو علم الطب النفسي، أو بالنسبة لعلم النفس وعلم الحيوان عبر علم النفس الحيواني، أو بالنسبة لعلم النفس والأرغنوميا عن طريق علم النفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس والرياضيات والإحصاء لدى إخضاع ما يؤول إليه بحث هذه الظاهرة النفسية أو تلك من معطيات للمعالجة الرياضية والإحصائية.
إن هذه الإجابة تنقلنا مباشرة إلى الكلام عن المحور الثاني: علاقة علم النفس بالعلوم الأخرى. وإذا كانت هذه العلاقة هي واقع لا يختلف، من حيث المبدأ، حوله العلماء والباحثون اليوم، فإن دور علم النفس فيها لا يزال موضوع جدل وحوار. ويُشير الكثير من المؤلفات إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى وجود اختلاف في فهم تاريخ الفكر الإنساني وتطور أدواته ووسائله وموضوعاته كماً ونوعاً، والنظرة إلى القوانين التي خضعت لها عملية انعكاس هذه المسيرة الفكرية في تراثه الثقافي. ولما كنا قد خصصنا مكاناً لمعالجة هذه المشكلة في فصول لاحقة، فإننا سوف نقصر كلامنا، هنا، على جانب واحد من جوانبها، بالقدر الذي يقتضيه تحديد الموقف من السؤال الذي طرحناه من قبل حول مهمة علم النفس ودوره.
تبيّن النظرة المتأنية إلى بنية علم النفس المعاصر ونشاطاته والنجاحات التي أحرزها حتى الآن حضوره الإيجابي والفعّال داخل مؤسسات الإنتاج والمصالح العامة والخاصة، وفي المدارس والعيادات والمستشفيات ومراكز التدريب المهني والعسكري وقواعد إطلاق الصواريخ والمركبات الفضائية وغيرها. وهذا ما يعكس، من الناحية العملية، حاجة المجتمع المتزايدة إلى علم النفس أولاً، وقدرة هذا العلم على تلبية هذه الحاجة ثانياً.
إن التطور العلمي والتقني بما يجسده من آلات وأجهزة إلكترونية ومركبات فضائية وأقمار صناعية، وما يخلّفه من "انفجار" معرفي وإعلامي يطرح سلسلة من المشكلات المعقدة التي تتوقف ديمومته واستمراره على معالجتها وحلها. فما هي الجهة(أو الجهات) التي يترتب عليها القيام بذلك؟ وما هي العوامل التي تكمن وراء هذا التطور والشروط التي يضمن توافرها الحفاظ على إيقاعه ووتيرته؟.
لقد أصبح معروفاً أن مهمةً كهذه تقع على عاتق المؤسسات والمصالح والإدارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية... الخ. إذ بها جميعاً تناط مسؤولية تهيئة العوامل والشروط التي من شأنها أن تمهد السبيل أمام تقدم العلم والتقنية. ومن بين هذه الشروط والعوامل تحتل عملية تنظيم الإمكانات البشرية والتحكم بها وتوظيفها بصورةٍ عقلانيةٍ أهمية قصوى. وعندما يدور الكلام حول هذه العملية، فإن ما يقصد به هو قدرة المجتمع، متمثلاً بمؤسساته وإداراته ومصالحه المتعددة، على الإفادة من معطيات العلوم الإنسانية، وفي مقدمتها علم النفس. ولتوضيح ذلك نسوق مثالين نستقيهما من ميدانين مختلفين.
والمثال الأول يترجم أهمية التعرف على آليات النشاط الدماغي(التذكر، التفكير..) أثناء قيامه بحل المشكلات والمسائل المطروحة، باعتبارها شرطاً من شروط التقدم العلمي والتقني.
فالبحث في هذا المجال والوقوف على مركباته ودقائقه بصورة أعمق وأشمل يؤلف حجر الزاوية في تطوير الأجهزة والعقول الإلكترونية، طالما أن اختراعها يقوم على أساس محاكاة الدماغ البشري وعملها تقليد لنشاطه. زد على ذلك أن استخدام الأجيال المتطورة منها يفرض وجود خصائص نفسية نامية لدى الإنسان كطرف رئيسي في علاقة الإنسان- الآلة. وهنا ينبغي أن يتدخل علم النفس(الإبداع، التفكير المبدع) للحصول على مزيدٍ من المعارف والمعلومات حول نشاط الدماغ الإنساني(في الحالة الأولى)، ومعالجة الخصائص النفسية الجديدة التي تستدعيها تقنيات العصر(في الحالة الثانية).
ويبرز المثال الثاني قيمة البحث في الطرائق والوسائل التي تتمكن الأجيال الصاعدة بفضلها من استيعاب المعطيات العلمية والتقنية استيعاباً صحيحاً ومنظماً ومنطقياً، والإسهام في زيادة هذه المعطيات وإثرائها بنشاطهم العلمي والعملي في المستقبل.
لقد كشف علم النفس التربوي في ظلّ معارف هذا العصر ومعطياته المتعاظمة والمتجددة باستمرار عن ضعف الطرائق التربوية وقصور مضامين المواد التعليمية القائمة حالياً. ولذا وجد نفسه أمام ضرورة إعادة النظر في موقفه من الطفل والمدرسة والمعلم والمنهج الدراسي والعلاقات القائمة بينهم. فلم يعد مقبولاً بالنسبة لهذا العلم اليوم أن يكون الطفل صفحة بيضاء يسجل عليها المعلم ما يريد، أو أن يبقى المنهج الدراسي مليئاً بالمعلومات التي يطلب من التلاميذ حفظها واسترجاعها أثناء الامتحان. وبينت الدراسات الحديثة التي أجريت في العقود الأخيرة، أن إمكانات الطفل وقدراته هي أكبر بكثير ممّا كان يعتقده علم النفس قبل هذا التاريخ. ولكن اكتشافها يتطلب تحويل المدرسة إلى معهد للبحث، يعتبر كلّ فصل فيه مخبراً.
ويتوجب الأمر كذلك وضع مضامين جديدة للمواد الدراسية وطرائق فعالة من شأنها إيصال هذه المضامين إلى أذهان الدارسين.
وممّا ينبغي التأكيد عليه هو أن من الخطأ حصر الهدف الذي يرمي إليه علم النفس التربوي، كنتيجة لما قلنا، في إكساب الناشئة القدرة على تحقيق مستوى مقبول من التكيف مع المجتمع العصري. فعلى الرغم مما يحمله هذا الجانب من أهمية على صعيد الفرد والمجتمع على حد سواء، إلا أنه ينبغي عدم نسيان الجانب الآخر، المتمثل في تزويد التلاميذ بأنماط جديدة من النشاط النفسي تمكنهم من التفاعل الإيجابي مع منجزات عصرهم والمشاركة في تحسينها وتطويرها.
إن بالإمكان تقديم طائفة من الأمثلة التي تدل حسياً على أهمية علم النفس في تطور الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية عن طريق ما تكشف عنه هذه المجالات من إمكانات لبناء الحياة الداخلية للفرد بناءً علمياً. كتب م. غ. ياروشيفسكي في هذا الصدد يقول: "إن الظواهر التي يدرسها علم النفس غاية في التعقيد، متعددة الجوانب. فعلم النفس حينما يدرس الإنسان، إنما يلاحظ سلوكه ويغيّره تجريبياً ويصممه ويخضعه للتحليل الكمي. والهدف من ذلك كله هو بناء النظرية القادرة على أن تصبح الأساس لتوجيه الأفعال النفسية للناس من خلال التعليم والعمل والمعاشرة".(ياروشيفسكي، 1971، 7).
وعندما يمارس علم النفس نشاطه، فإنه يعتمد على منجزات علم الأحياء والفيزيولوجيا وعلم الاجتماع والرياضيات والفلسفة والمنطق وغيرها. ذلك لأن من غير الممكن أن يحقق أي تقدم أو نجاح في عمله خارج هذا الإطار. تلكم هي طبيعة هذا النشاط العلمي السيكولوجي ووظيفة علم النفس التي تبرهن عليهما دراسة كل طور من أطوار هذا العلم.
لقد نشأ علم النفس –كما سوف نرى- في مخابر الطب وعلوم الطبيعة والفيزيولوجيا، واعتمد في تطوره على الفلسفة والأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والمنطق، واستخدم المعادلات والقوانين الرياضية وهذا ما عناه عالم النفس المعروف جان بياجيه في محاضرته أمام المؤتمر الثامن عشر لعلماء النفس الذي عقد في موسكو عام 1966، حين أكد على أن مستقبل علم النفس يتوقف على صلاته بالرياضيات والفيزياء وعلوم اللغة والاقتصاد السياسي وعلم الأحياء والمنطق وسواها من العلوم التي تؤلف –حسب رأيه- معارف العصر المعقدة. إن إقامة مثل هذه العلاقة والسعي إلى تدعيمها وتعزيزها على الدوام مسؤولية تمليها النظرة إلى موقع علم النفس بين سائر العلوم. وقد وجد بياجيه أن هذا العلم يتبوأ مكاناً حساساً بين العلوم. وهذه حقيقة تؤلف في نظره مصدر فخر واعتزاز للمشتغل فيه. وهذا ما أعرب عنه في المحاضرة المذكورة حين قال: "... أود أن أعرب عن شعوري بشيء من الاعتزاز لأن علم النفس يشغل موقعاً مفتاحياً في منظومة العلوم".(سمير نوف، 1969، 152).
ونجد هذه الآراء أو ما يشبهها لدى علماء النفس، كما نجدها عند المؤرخين والفلاسفة والمربين وغيرهم. وإذا كان التقدم العلمي والتقني قد وضع بين أيدي هؤلاء جميعاً الأدلة والأمثلة على أهمية علم النفس وموقعه المتميز، فإن ذلك لم يكن بعيداً أو غريباً عن بصائر الأجيال السابقة من العلماء والمفكرين. فقد أكد الكثير منهم على أهمية علم النفس في تقدم العلوم، ودوره في حياة الإنسان. فها هو ك. د. أوشينسكي يتحدث في أكثر من مناسبة عن المكانة الرفيعة التي يحتلها علم النفس بين كافة العلوم عامة، وقيمته الكبيرة بالنسبة للتربية خاصة. وانطلاقاً من ذلك وجد أن الشرط الأساسي لتربية الإنسان من كافة النواحي يكمن في معرفة خصائصه النفسية معرفة شاملة ودقيقة. ويتجلى موقفه هذا بوضوح في ندائه إلى المربين، حيث قال: "ادرسوا قوانين الظواهر النفسية التي تودون توجيهها، وتصرفوا بمقتضى هذه
القوانين وتلك الظروف التي تريدون تطبيقها من خلالها".(أوشينسكي، 1950، ج1، 55).

ويجد الفيلسوف ب. م. كيدروف، بدوره، أن علم النفس يحتل مركز المثلث الذي تمثل زواياه العلوم الطبيعية والاجتماعية والفلسفية.(كيدروف، 1965، ج2).
إن تمثّل العلاقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي، بين الشروط الداخلية والشروط الخارجية، بين السبب والنتيجة يمكننا من التعريف بموضوع البحث، أياً كانت طبيعته، وتحديد معالمه وتخومه. وهذا يعني، بالنسبة لنا، أن الوقوف على العلاقة القائمة بين ما هو فردي وما هو اجتماعي، بين ما هو طبيعي وما هو تاريخي يشكل الزاوية التي ينبغي النظر منها إلى موقع علم النفس بين العلوم الأخرى وعلاقته بها. وهو الأساس المنهجي الذي يجنبنا الوقوع في خطأ المبالغة في دور علم النفس أو التقليل من شأنه.
ويؤلف هذا الأساس، إضافة إلى ما سبق، المدخل السليم لفهم طبيعة النفس الإنسانية الذي يمدنا بالقدرة على تجاوز الصراعات الدائرة بين الميتافيزياء والميكانيكية أو العدمية، أي بين النظرة إلى الوقائع النفسية كحقيقة قبلية وجوهر مستقل، والنظرة إليها كعمليات عضوية أو فيزيولوجية بحتة.
ولا يفوتنا أن نشير في هذا السياق إلى الارتباط الوثيق بين النظرة إلى النفس والموقف من العلم الذي يعنى بدراستها ومكانته العلمية والاجتماعية والأخلاقية. فالنظرة إلى مشكلة البحث تدفع الباحث ليس إلى استخدام أدوات ووسائل وطرائق محددة فحسب، بل وإلى تحديد أهمية نشاطه وغايته على هذا الصعيد أو ذاك. كما أن موقف الباحث من علمه وعمله ينعكس من خلال رأيه في مادة بحثه وتقنياته مهما كانت طبيعة هذه المادة وجدوى تلك الأداة.
ولعلَّ فهم اتجاه هذا الارتباط على النحو الذي ذكرناه يمكننا من تحديد مكانة علم النفس ورسم مراحل تطوره، وإبراز هوية كلَِّ واحدة من مدارسه ونظرياته.


¾¾

([1]) انظر على سبيل المثال، معالم علم النفس، د. عبد الرحمن عيسوي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1984، ص 13، وأسس علم النفس العام، د. طلعت منصور وآخرون، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1978، ص17.

([2]) انظر، مثلاً، علم النفس المعاصر، د. حلمي المليجي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط2، بيروت 1972، ص 32.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59