عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-01-2021, 10:00 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي المسلم في عالم الإقتصاد


الكتاب: المسلم في عالم الإقتصاد
المؤلف: مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن نبي (المتوفى: 1393هـ)
المحقق: (إشراف ندوة مالك بن نبي)
الناشر: دار الفكر-دمشق سورية
الطبعة: 1420هـ - 2000م
عدد الأجزاء: 1
أعده للمكتبة الشاملة / العبد الضعيف الراجي عفو ربه: أبو ياسر الجزائري
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
.
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
المسلم في عالم الاقتصاد

دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان
دار الفكر دمشق - سورية
(1/1)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المسلم في عالم الإقتصاد
(1/2)
________________________________________
مالك بن نبي

مشكلات الحضارة
المسلم في عالم الإقتصاد

بإشراف ندوة مالك بن نبي

دار الفكر
دمشق - سورية
(1/3)
________________________________________
إعادة
1420هـ - 2000م
ط3: 1987م
(1/4)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391 هـ الموافق 10 حزيران 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجاً في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أوغير مترجم. فقد حمّلني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.

طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ
15 شباط (فبراير) 1979م
عمر مسقاوي
(1/5)
________________________________________
(1/6)
________________________________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة
لم يكن المسلم عندما فتح عينيه في عالم الاقتصاد، بعد أن نالته الصدمة الاستعمارية، سوى قنّ يُسخَّر لكل عمل يريده الاستعمار، فينتج المطاط في حقول الهند الصينية (فيتنام)، والفول السوداني في إفريقيا الاستوائية، والأرز في بورما، والتوابل والكاكاو في جاوه (إندونيسيا)، والخمور في الشمال الإفريقي.
لم تكن له في هذه الأعمال صلة موضوعية بعالم الاقتصاد، ولا تربطه بعمله صلة ذات طابع مشروع، لم يكن (المنتج) الذي يُرعى حقه، ولا (المستهلك) الذي ترعى حاجته؛ لقد كان أداة عمل مستمر فقط، فلم يتكون لديه (وعي اقتصادي)، ولا تجربة ولا خبرة في عالم اقتصاد غريب عليه بكل مفاهيمه، وبنائه ومصالحه الأجنبية. ثم من ناحية أشمل، ومهما كان حظه في محيطه الاستعماري، كان يجري عليه قانون التقليد كما يجري على كل كائن، فقد صلته بعالمه الأصيل ففقد أصالته. فكان عندئذ أميَل لتقليد (الحاجات) منه إلى تقليد (الوسائل) لأنه فقد وعيه الحضاري أيضاً، فيصير في مرحلة أولى مقلداً بقدر استطاعته للحاجة التي أفرزتها حياة غيره، دون أن يفكر في صنع وسيلة إشباعها، ثم في مرحلة ثانية، إذا تحقق استقلال بلاده، يصير إلى تقليد الحاجات الواردة وتقليد الوسائل المستوردة كيفما اتفق له، ولو على حسابا سيادة البلاد.
(1/7)
________________________________________
وإذا ما تابعنا هذا الوضع في خطوات أخرى، نراه في المجال السياسي يتحول إلى مشكلات سياسية لابد أن تواجهها الحكومات الإسلامية؛ وفي المجال الاقتصادي يتحول إلى قضية نظرية تحاول نخبة مثقفة معالجتها على أسس علم اقتصاد، وضعت على تجارب وخبرات العالم الذي أنجب (آدم سميث) و (كارل ماركس)، وهكذا تبتدئ قصتنا في صورتها الجديدة.
فالإنسان الذي استسلم للتقليد في العادات والأذواق، وبصورة عامة في تقليد ما يكتظ به عالم أشياء شيّده غيره، يصبح في المجال النظري مقلداً للأفكار التي صاغتها تجارب وخبرات غيره. فإذا ما عدنا لموقف نخبتنا المثقفة في المجال الاقتصادي، نرى هذه النخبة تقف مجرد موقف اختيار بين ليبرالية (آدم سميث) ومادية (ماركس)، كأنما ليس للمشكلات الاقتصادية سوى الحلول التي يقدمها هذا أو ذاك، دون وقوف وعبرة عند أسباب الفشل، أو نصف النجاح لخطط التنمية التي طبقت على أساس الليبرالية أو المادية، في العالم الثالث ما عدا الصين، بعد الحرب العالمية الثانية.
بينما نرى تجربة مثل التي أجريت في إندونيسيا قد تضمنت كل شروط النجاح، سواء من ناحية الإمكانيات المادية في أغنى بلاد الله من حيث الثروة الطبيعية والبشرية، أو من الناحية الفنية لأن واضع خطتها الدكتور (شاخت)، الرجل الذي نهض باقتصاد ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية من نقطة الصفر تقريباً، ومع ذلك نراها فشلت فشلاً ذريعاً.
ولو وقفنا على الأقل متأملين أسباب هذا الفشل لاستفدنا منه درساً اقتصادياً، لا تقدمه لنا الدرسة الليبرالية ولا المدرسة المادية، ولأدركنا أولاً أن المخططات الاقتصادية تتضمن شروطاً ضمنية أو شرطاً ضمنياً على الأقل ليس من اختصاص واضعيها الالتفات إليه، فالدكتور (شاخت) كان بلا جدال، أجدر
(1/8)
________________________________________
من يضع مخططاً اقتصادياً مثل الذي وضعه لبلاده قبيل الحرب، ولكنه خطط لإندونيسيا فوضع ضمناً خطته، على قاعدة (معادلة اجتماعية) خاصة بالشعب الألماني، وأجنبية عن الشعب الإندونيسي (1). فما كان إذن لخططه أن ينجح لأنه فقد منذ لحظته الأولى شرطاً أساسياً.
والآن إذا عدنا للحديث عن مثقفينا في المجال الاقتصادي، نرى أنهم وقفوا موقف اختيار وتفضيل بين (آدم سميث) و (ماركس)، بينما كانت القضية ولا زالت قضية تطعيم ثقافي لمجتمع الإسلامي، يمكّنه من استعمال إمكانياته الذهنية والجسمية؛ وبصورة عامة تجعل كل فرد فيه ينشط على أساس (معادلة اجتماعية) تؤهّله لإنجاح أي مخطط اقتصادي.
أو بعبارة أخرى فالديناميكية الاقتصادية ليست هي هذه النظرية أو تلك الخاصة بعلم الاقتصاد، بل هي مرتبطة بجوهر اجتماعي عام قد نجده، على حد سواء، في تجربة اليابان الرأسمالية أو تجربة الصين الشيوعية بعد 1949، خصوصاً بعد أن عدلت ثورتها الثقافية بين 1966 - 1968، (المعادلة الاجتماعية) في الفرد الصيني ذاته.
ثم إذا عدنا مرة أخرى إلى موقف مثقفينا من القضية الاقتصادية نراهم يصنَّفون صنفين، لا على أساس فني بل على أساس أخلاقي، صنف لا يبالي بعقيدته في انحيازه لنظرية اقتصادية معينة، ويلقَّب أو يلقب نفسه بالتقدمي لأنه يدعي الماركسية، وصنف ينحاز مبدئياً إلى الليبرالية لأنه يتجنب المادية والإلحاد بحافز إسلامه.
فهذا الصنف الأخير هو الذي يهمنا بالذات، لا لأنه مسلم فحسب، بل لأنه كان أخصب من الصنف الأول في الدراسات الاقتصادية، كما يدل على ذلك عدد
__________
(1) سنبين في أحد الفصول أثناء الدراسة ما نعني بالمعادلة الاجتماعية.
(1/9)
________________________________________
الأطروحات ودسامتها، مثل الأطروحة التي قدمها أمام جامعة أميركية طالب مسلم، ذكر لكي اسمه وعنوان أطروحته أثناء رحلتي إلى الولايات المتحدة آخر السنة المنصرمة.
فهذا الطالب ذُكر لكي بإعجاب زملائه وبتقدير أساتذته لأنه تفوق في معالجة موضوع (الاستثمار بلا ربا).
وهذا الموضوع الشائك يستحق فعلاً كل الإعجاب والتقدير، وإنما يبقى لنا أن نلاحظ أن هذا الاجتهاد الفذ قد انصرف ضمناً إلى محاولة توفيق بين الإسلام والرأسمالية، ويا حبذا لو بذله صاحبه في اكتشاف طريق آخر ما عدا الاستثمار المالي، لدفع عجلة الاقتصاد.
وبالتالي نرى الاقتصاديين الإسلاميين وكأنهم بعد أن اختاروا ضمناً المبدأ الليبرالي، يريدون وضع المسحة الإسلامية عليه، لنرى الجهود الحميدة تنصرف بصورة عامة، إلى دراسة النظم المالية في الاقتصاد، كأنما هي الأمر الأساسي في الاقتصاد.
بينما نرى أن هذه النظم Banques سواء أكانت متعاملة على أساس الربا أم لا، ليست إلا جانباً من عالم الاقتصاد الحديث، لأنه لو فقد هذا الجانب أو تضاءل مثلما يحدث الآن في التوجيه الاقتصادي الصيني، فلأن النشاط الاقتصادي يستطيع مواصلة حركته الديناميكية، وسيبقى قائماً أو يعيد قيامه بفضل مقدراته الأخرى، مثلما حدث في ألمانيا بعد الحرب الثانية عندما انطلقت تجربة المستشار (إيرهارت) في خطواتها الأولى بلا رصيد من ذهب أو فضة، أعني بلا تدخل مالي قائم أو غير قائم على الربا.
وهذه الظروف الصعبة التي يواجهها مجتمع ناشئ مثل الصين أو مجتمع يعيد بناءه مثل ألمانيا، هي الظروف المواتية التي تقدم أصدق صورة عن الجوانب
(1/10)
________________________________________
الأساسية في عالم الاقتصاد، قبل أن تتم بناءاته المكتملة سواء في صورة اقتصاد ليبرالي أو في صورة اقتصاد ماركسي.
يجب إذن على شبابنا المهتم بالاقتصاد أن يخلي أولاً ذهنه من الجوانب الذهبية الإضافية في المنطلق، أو التنظيمية التي تكتسبها القضية الاقتصادية في الطريق، بصفتها وسائل إدارة أو إشراف ورقابة.
وهذه الدراسة بالذات هي مجرد محاولة تصفية لموضوع الاقتصاد في الأذهان من الجوانب الإضافية التي تطرأ عليه سواء في صورة ضرورة فنية تنشأ في الطريق، أو في صورة ضرورة سياسية تتسلط عليه لرقابة عمليتي الإنتاج والتوزيع طبقاً لمبادئ ومسلمات مذهبية معينة.
فإن وفقنا في هذه التصفية فهو ذلك وما أجرنا إلا على الله، وإن كان غير ذلك فلنا أجر من لفت النظر إلى ضرورة هذه التصفية، سواء بالنسبة لمفاهيم أو لبعض النظم الاقتصادية، ويبقى أجران لن يوفق فيها كل التوفيق.
ولا نختم هذه المقدمة دون أن نقول كلمة، (وربما هي تصفية في مجال آخر يتصل بالاقتصاد) بصدد الحوار الذي نشأ في العالم الإسلامي حيث نرى المختصين بالاقتصاد، يوجهون العتاب أو اللوم إلى الفقهاء ويرمونهم أحياناً بالجمود.
يجب أن ننزه فقهاءنا عن هذا العتاب، ونقول إنه ليس من اختصاصهم أن يدلوا على الحلول الاقتصادية سواء مستنبطة من القرآن والسنة أو غير ذلك، وإنما اختصاصهم أن يقولوا في شأن الحلول التي يقدمها أهل الاختصاص، هل هي تطابق أو لا تطابق الشريعة الإسلامية وعلى الله نتوكل وهو حسبنا.

بيروت في 7/ 3/ 1972
م. ب. ن
***
(1/11)
________________________________________
(1/12)
________________________________________
الجزءُ الأوّلُ
عوميات البحث
صورة العلاقات الاقتصادية الراهنة في العالم
الاقتصاد والاقتصادانية
حدود الاختيار الإسلامي بين المناهج الموجودة
(1/13)
________________________________________
(1/14)
________________________________________
صورة العلاقات الاقتصادية الراهنة في العالم
إن النظرية الماركسية التي تَرُدّ المشكلة الإنسانية كلها إلى العوامل الاقتصادية، تغفل بعض الأشياء الجوهرية في الظاهرة الاجتماعية أو تغض من شأنها؛ ولكن هذه النظرية صادقة في الحدود التي يمكن أن تفسر فيها الظاهرة الاجتماعية تفسيراً اقتصادياً.
وفي هذه الحدود الواسعة يعد (الإطار الإنساني) الممتد من طنجة إلى جاكرتا شاشة من المباني والتكوينات الاقتصادية، ويعد (النموذج الاجتماعي) - الجائع العاري- الذي نراه في شرق المحور في كلكتا وفي غرب المحور في تونس ثمرة لهذه المباني وتلك التكوينات.
وعليه فمن الممكن أن نتحدث في هذه الحدود عن حتمية اقتصادية تضغط بثقل قضائها على مصير الشعوب الإسلامية، ولكن هذا القضاء لا دخل فيه للميتافيزيقا، وهو ليس قضاء مطلقاً نهائياً، بل هو عارض طارئ من أعراض التاريخ أو هو بمثابة الزمن الميت في النمو المادي لتلك الشعوب، يتفق مع تلك الأوضاع الشخصية الموروثة التي تتنافى مع الأوضاع الاقتصادية التي حددتها وفرضتها الحضارة الغربية.
ولقد ظهرت الآثار الاجتماعية لهذا التنافي منذ اللحظة التي وقع فيها الرجل المسلم في الأحبولة الاستعمارية، فأصبح العميل المستعبد المستغل للاقتصاد الحديث، دون أن يجد في نفسه، وفي تقاليده وفي عاداته الوسيلة الكافية كما ينتزع نفسه من تورطه، وهكذا بدأ عصر الحتمية الاقتصادية بالنسبة له مع بدء
(1/15)
________________________________________
العصر الاستعماري. ولم يخلصه تحرره السياسي بصفة عامة من التورط الاقتصادي، فإن المشكلة أولاً ذات طابع نفسي؛ لأن المعنى الاقتصادي لم يظفر في ضمير العالم الإسلامي بالنمو نفسه الذي ظفر به في الغرب، في ضمير الرجل المتحضر وفي حياته.
والحق أن الاقتصاد في الغرب قد صار منذ قرون خلت ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية، وقانوناً جوهرياً لتنظيمها.
أما في الشرق فقد ظل على العكس من ذلك في مرحلة الاقتصاد الطبيعي غير المنظم، حتى إن النظرية الوحيدة التي تناولت تأثير العوامل الاقتصادية في التاريخ وهي نظرية ابن خلدون قد ظلت حروفاً ميتة في الثقافة الإسلامية، حتى نهاية القرن الأخير.
فلم يُقبل المجتمع الشرقي تحت تأثير احتياجاته الداخلية، على أن يضع نظرية اقتصادية كما حدث في المجتمع الغربي، حين وضع الرأسمالية أو الشيوعية.
إنه لم يقبل على هذا بسبب ما انطوى عليه من نفسية خاصة منعقدة على (الزهد) كمثل أعلى منذ قرون، وإن فقهاً اقتصادياً يستلهم خطته ومفاهيمه من مثل كهذا ويصدر عنه، لا يمكنه بداهة أن يعبر بالدقة العلمية نفسها عن فكرة (المنفعة) الخاصة بالرأسمالية، أو عن فكرة (الحاجة) الخاصة بالنظرية الماركسية؛ فالزهد والمنفعة والحاجة ثلاث حقائق لا يمكن أن تدخل في اطراد اجتماعي واحد، وفي واقع اقتصادي واحد. فقد كان هناك إذن عنصر تنافر أساسي بين الأوضاع الشخصية الموروثة في البلاد الإسلامية وبين التكوينات الاقتصادية التي وضع أسسها العصر الاستعماري.
وهناك عنصرآخر يتمتع بالطابع النفسي نفسه، ويجب أن نحسب له حسابه في هذا التنافي، ذلك العنصر هو فكرة الزمن التي تعد أساسية جداً في تنظيم
(1/16)
________________________________________
العمل في العالم الحديث تبعاً لنظرية تايلور Taylor، فقد سيطرت هذه النظرية على مفاهيم المقدرة الإنتاجية، فساعة (الكرونومتر) التي تستخدم في حساب الثواني تستخدم في الوقت نفسه في تسعير الإنتاج. وليس قولهم (الوقت عملة Times is Money) من قبيل اللعب بالكلمات، بل هو تعبير دقيق عن الواقع المادي في نظر الإنجليز. فجميع ألوان النشاط في المجتمع الصناعي الحديث تنمو في حدود الزمن المادي، وتتقوَّم بساعات عمل؛ أما في البلدان المتخلفة فإنهم لم يجربوا هذه العملة الخاصة إذ تنمو ألوان النشاط والعمل بصورة تقليدية، في حدود الزمن الميتافيزيقي أي في نطاق الأبدية، لأنه لا يهدف إلى تشييد صرح (القوة)، ولا يطبق مبادئها المتنافية مع الأوضاع النفسية، كما نرى ذلك في تاريخ الصين، فقد ظلت الثقافة الصينية الكلاسيكية مثلاً تعلن احتقارها البالغ زمناً طويلاً لقواد الحرب، أولئك (الأدوات) التقليدية (للقوة).
وإذن فلقد كان التنافي بين هذه المباني الموروثة، وبين ألوان العمل المنظم الموقت في المجتمع الحديث، كان هذا التنافي أمراً محتوماً.
وبذا نفهم من أول وهلة كيف تتبدد الأوهام أثناء محاولة بعض البلدان الإسلامية تحقيق استقلالها الاقتصادي بعد أن حققت استقلالها السياسي، فأخذت تستشير لهذه الغاية بعض الخبراء الاقتصاديين، ولم تلبث التجربة أن برهنت لهم على أن (الحالة) في علم الأمراض الاقتصادية ليست كما يحدث في الطب من (اختصاص الدكتور). ولقد رأينا في الواقع الدكتور (شاخت) وهو يعطي مثل هذه الاستشارات، ولقد كان بكل تأكيد خير من يقوم بهذه المهمة لما رشحه به نجاحه في (حالة) سابقة، وهو نجاحه الهائل في تخطيط الاقتصاد الذي تحمل جهداً ضخماً لبلد دخل الحرب العالمية الثانية، دون أن يكون لديه رصيد كبير من الذهب.
لقد تمنوا عموماً أن يكرر الدكتور (شاخت) هذه المعجزة خارج بلاده،
(1/17)
________________________________________
ولكنهم رأوا أنه لم يستطع تكرارها، وإنما رأينا في مقابل ذلك ما يعد أكثر إفادة في نظرنا، وهو أن المعجزة قد تكررت من تلقاء نفسها، أي بدون مساعدة الدكتور (شاخت) في ألمانيا الغربية كما في ألمانيا الشرقية، دون رصيد كاف من الذهب في كلا البلدين، وأيضاً دون الاعتماد على المصانع التي استمد منها الرايخ الثالث قوته، ثم هدمها المنتصرون في الحرب أو فككوها. واليوم وبعد عشر سنوات من الانهيار التام ينهض الاقتصاد الألماني، ويستعيد مكانه في العالم على جانبي ما سمي (بالستار الحديدي)؛ وعليه فلو كان هناك درس نستفيده من هذا البعث الرائع فلن يكون سوى أن نقول: إن مبدأ اقتصادياً لا يمكن أن يكون له أثره، ومقدرته التامة على التأثير إلا في الظروف التي يتفق فيها مع تجربة اجتماعية معينة.
والواقع أن هذه القدرة لا تصدر عن ظروف اقتصادية محضة، كما ترينا التجربة الألمانية، تلك التي بدأت سيرها من الصفر في الناحية الاقتصادية، منذ عشر سنوات. فإن هناك معادلة شخصية هي التي تهمنا إلى أقصى حد في مضمون هذه المقدرة، ولا شك في أن الدكتور (شاخت) قد أعطى في (استشاراته) الأفرسيوية خير آرائه التي يمكن أن تصدر عن معادلته الشخصية، تلك المعادلة التي شكلتها الظروف النفسية والزمنية للوسط الألماني، هذه الظروف التي تكون مقياساً ضمنياً لا تؤتي معها نصائح الخبير واستشاراته تأثيرها الكامل إذا خرجت عن حدوده؛ وأي فن اجتماعي أو مبدأ اقتصادي لا يمكن أن يكون صادقاً إلا إذا وجد في وضع، لا يتعارض فيه مع عناصر المعادلة الشخصية السائدة في الوسط الذي يراد تطبيقه فيه، ولكي تؤتي النظريات الاقتصادية تأثيرها الاجتماعي يجب ألا يقتصر في دراستها على منصة الجامعة بوصفها علماً وقفاً على بعض المتخصصين، بل يجب أن يطبق هذا العلم على التجارب الجماعية التي يقف فيها وعي كل فرد وإدراكه أمام المشاكل المادية، مقدماً بذلك لعلم المتخصصين ظروف صلاحيته للتأثير.
(1/18)
________________________________________
وعملياً يجب أن تسير النظرية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع النظرية السياسية، كيما تحيل المبدأ النظري إلى قانون للعمل والنشاط، فتضمه بذلك إلى دوافعه وإلى نسقه وأسلوبه. والطريقة الوحيدة التي يصبح بها المبدأ أو الفكرة جزءاً من التاريخ هي أن يتحول إلى (عمل)، إلى دافع عمل، إلى طاقة عملية، إلى إمكانية عمل. ولقد تكوَّن (علم) الاقتصاد الاشتراكي على يد (ماركس) و (أنجلز). ولكن تأثيره بدأ مع تكوين (الضمير) الاشتراكي منذ ثورة تشرين الأول (أكتوبر) عام 1917، فلقد صب نشاط لينين ومدرسته مبدأ الاقتصاد الاشتراكي في نفسية الشعب الروسي وفي عقليته، وفي حركته أو ديناميكيته. فالاقتصاد الاشتراكي إذن هو ثمرة التوفيق بين (علم) هو العلم الماركسي وبين (ضمير) هو وعي الطبقات. وبدون أن نصدر هنا حكماً مطلقاً، أي حكماً على هذا التوفيق بوصفه قيمة إنسانية وإنما بوصفه حقيقة، فإننا نقرر أنه هو الذي ولّد ما يسمونه (الطفرة الإنتاجية Economie de choc) .
فطريقة (الاستخانوفية Stakhnovisme) التي كانت عنصراً جوهرياً في خلق الواقع الاقتصادي الراهن في الاتحاد السوفييتي، هي قبل كل شيء نتيجة للظروف النفسية الجديدة، ونتيجة للبناء العقلي الجديد.
فأي (مشورة) تهدف إلى وضع نظام اقتصادي أو إصلاح نقائصه، ينبغي إذن من حيث المبدأ- ويصعب عند التطبيق- أن تضع في حسابها العناصر غير الاقتصادية، وبهذا نلتقي مرة أخرى مع أسبقية (عالم الحياة الاجتماعي) على (المهندس الاجتماعي)، عندما نبدأ من الأساس؛ وفي هذا المستوى، أي في بداية أي تجربة اجتماعية لا يكون الأمر فقط أن نحل معادلة اقتصادية، بل أن نكيفها طبقاً لمعادلة شخصية معينة. وأي تجربة تغفل في بدايتها هذه العلاقة الأساسية لا تكون سوى تجربة نظرية مقضي عليها بالفشل. ولو أردنا أن نستخلص من هذا الكلام نتيجة صادقة لبناء اقتصاد إسلامي، فمن الضروري أن
(1/19)
________________________________________
نفكر في الشروط الفنية التي يتطلبها التوفيق بين معادلة إنسانية معينة خاصة بالبلدان المتخلفة، وبين المعادلة الاقتصادية للقرن العشرين. إن الاستعمار لم يحاول تحقيق هذا التوفيق في استثماره للبلدان المستعمَرة، فقد كان العمل استرقاقاً وعبودية يستهدف إثراء المستعمِر أكثر من أن يهدف إلى إعاشة المستعمَر، وبذلك انحطت فكرة (العمل) على يديه أخلاقياً واجتماعياً، فليس العمل وسيلة لكسب العيش، بل هو طريقة لإرضاء مطالب السلطة التي توزع الخبز، علماً بأن (الخبز) الذي يحصلون عليه بهذه الكيفية ليس حقاً، وإنما هو منحة؛ وبذلك هدمت تصرفات الاستعمار الوضع التعارَف عليه؛ ولكنها حين أدخلت الرجل المستعمَر في خضم العصر الاقتصادي لم تترك له أي وسيلة لحل مشاكله، وهكذا انحط الاستعمار برجل التأمل والنظر. وبدلاً من أن يدخله في جهاز نظامه الخاص فيجعل منه الرجل ذا الوعي الاقتصادي Homo économicus إذا به يتخذ منه آلة في هذا الجهاز، أي في الاقتصاد الاستعماري، وبهذا ينتقل الرجل المستعمَر فقط من المرحلة التأملية إلى المرحلة النباتية التي لم تكن له فيها (حاجة)، فأصبحت له حاجات لا يملك أي وسيلة منظمة وعادية لإشباعها.
فلقد نمّى الاستعمار في نفسيته خوف الجوع الذي يظهر في جميع طبقات المجتمع المستعمَر، خلق منه الرجل الجائع دائماً، وخلق منه الرجل الذي يخاف دائماً من الجوع، وهاتان الصورتان من صور الخوف، قد حطمتا عند الكائن المستعمَر كل إمكانية للتكيف مع التكوينات والأوضاع الاقتصادية في القرن العشرين.
ففي إفريقيا الشمالية مثلاً تخشى الطبقة البورجوازية الجوع، ويتجلى خوفها في صورة (بطنة Hypergastrisme) تدل عليها حالة تلك الأسرة الجزائرية التي تستهلك لاستعمالها الخاص مئة كيلو من الزبدة في الشهر (عام 1931). ويتجلى خوف الجوع في الطبقة الكادحة في صورة (مسغبة
(1/20)
________________________________________
hypogastrisme) ولا سيما عند هؤلاء الآلاف من العمال في إفريقيا الشمالية، الذين يذهبون للعمل في فرنسا، ويموتون نتيجة نقص التغذية، الذي لا يتلاءم مع وسائلهم الجديدة أو مع المناخ والعمل في المصانع.
وهكذا لم يقدّم الاستعمار نظاماً للتلمذة الاقتصادية إلى البلاد المستعمَرة، فلم يعدّل في الواقع التكوينات الشخصية طبقاً للتكوينات الاقتصادية الجديدة، بل إنه فرض في هذه البلاد حكم العبودية الاقتصادية فحسب، ذلك الحكم الذي ترك طابعه البارز على نفسية الطبقات البورجوازية، كما تركه على نفسية الطبقات الكادحة.
فاللجوء إلى (استشارات) المتخصصين في هذه الظروف لإنهاض حالة اقتصادية متعثرة أو منهارة، يجعلها استشارات لا أثر لها لأنها لا تكون سوى طريقة (سحرية) تستمد مبدأها من الثقة التي نخلعها على صاحبها (الدكتور). إن من الواجب أن ننظر إلى المشاكل الاقتصادية في طبيعتها البشرية، وإلا انتهى بنا الأمر إلى نتائج نظرية.
فهناك ظاهرة أثارت دهشة المراقبين وهي أن الدخل قد هبط في بعض البلاد التي تحررت من نير الاستعمار بحوالي 16% إثر تحررها، ومن الممكن بلا شك أن نفسر هذا الهبوط بإرجاعه جزئياً إلى الأوضاع والتكوينات الاقتصادية العالمية؛ وبناء على العوامل السياسية التي تؤثر في مرحلة انتقال مضطربة، فإن للعوامل ذات الطابع الاستراتيجي تأثيراً على السوق العالمية. وبالتالي على الأسواق المحلية وهو تأثير لا يمكن إغفاله هنا، ولكن في هذا الهبوط جزءاً متصلاً بالعوامل النفسية، أي بعناصر المعادلة الإنسانية الخاصة بتلك البلاد، التي تتجلى فيها النزعات المحلية وتأثيرها المعطل، الذي لا يظهر طالما وجدت قواها الإنتاجية تحت سيطرة النظام الاستعماري عوامل منشطة أخرى.
(1/21)
________________________________________
ولا سيما العمل الإجباري الذي ذاقته إندونيسيا، والذي لا زال يطبق في بعض مناطق إفريقيا الغربية الفرنسية على الرغم من صدور (دستور العمل) الجديد.
وتبرز الأهمية الاقتصادية لهذا التعطيل بصورة جلية إذا ما وضعناها بجانب رقم (2%) وهو الذي يمثل النسبة التقريبية المستثمرة من الدخل في تلك البلاد. فمن الواجب إذن أن نتناول المشكلة الاقتصادية في هذه البلاد من أساسها: أي ابتداء من عناصرها النفسية.
وفي هذا المستوى يكون حلها منحصراً في تكوين (وعي اقتصادي) بكل ما يستتبعه في التكوين الشخصي للفرد وفي عاداته، وفي نسق نشاطه وفي مواقفه أمام المشاكل الاجتماعية.
وفي هذا الميدان أكثر من أي ميدان آخر يدخل الرجل المسلم مرغماً، في عالم حديث تسيطر عليه مقاييس معينة لها القدرة على التأثير، وربما احتجنا أن نخفف من حدة هذه المقاييس التي خلقت في المجتمع الصناعي الإنسان الآلي. ولكن القدرة على التأثير كما لاحظ أحد الصحفيين السويسريين إن لم تكن الهدف الأسمى للإنسانية فإن قدراً معيناً منها ضروري على أية حال، إذ بدونه لا يكون المجتمع منتجاً. حتى من الناحية العقلية ... (1)
فالأمر بالنسبة للفرد، كما هو بالنسبة للمجتمع، يتعلق بأن نحقق أقصى حد ممكن من القدرة التأثيرية؛ ولكن العكس يحدث غالباً في البلدان المتخلفة، التي تقل فيها الوسائل بسبب درجة النمو الاجتماعي، وهي فضلاً عن ذلك معطلة عن الاستعمال بفعل بعض النقائص النفسية، ولقد قدمنا هذا المعنى في مكان آخر (2)، حيث بيّنا في ضوء بحث قمنا به إذ ذاك في مدينة جزائرية صغيرة أن نسبة ميزانية
__________
(1) (هربرت لوشي) La France à l'heure de son clocher فرنسا في العهد القروي.
(2) بحث منشور في فصل من كتاب (وجهة العالم الإسلامي) للمؤلف.
(1/22)
________________________________________
الضروريات إلى الكماليات والتوافه هي نسبة 5% إلى 95%، وربما أدى البحث مع اختلاف الأرقام إلى النتائج النسبية نفسها سواء في المستوى القومي أو في المستوى الفردي. ففي الحالتين كلتيهما نكون قد جمعنا الآثار السلبية التي ينتجها المعامل نفسه Cofficent، لأنه على علاقة بالمعادلة الشخصية التي تبرز فيها مع عناصر النمو في البلاد التي لم يتكوّن فيها بعد (الوعي الاقتصادي). فليست إذن الوسيلة المادية فحسب هي التي تفتقدها هذه البلاد لصناعة (جورب نقودها) بل إنها تفتقد أيضاً الاستعداد العقلي الذي يبلغها هذه الغاية.
فلكي يحدد الرجل المسلم وجهته الاقتصادية يجب أن يتخلص من المعامل (المقلل) الذي يهبط بمقدرة وسائله التأثيرية. ولن يستطيع الدخول في أي اطراد للنمو الاقتصادي إلا إذا حققنا انتقاله غير المشروط من المرحلة النباتية إلى الوضع الإيجابي الفعال، باعتباره مبدأ، فنوفر له دون شرط كمية الوحدات الحرارية اللازمة لهذا الانتقال، والضمان الأولي لكرامته النفسية، أي أن من الواجب أن نضع المشكلة أولاً في مصطلحات (البقاء). ووضع مشكلة الغذاء في هذا الإطار ينتج لنا مشكلة أخرى، هي مشكلة التوظيف الكامل لموارد تلك البلاد المادية والبشرية، فالمسألتان تندمجان منذ البداية في مشكلة واحدة تعبر عن المشكلة الاقتصادية في المجال الإنساني والأخلاقي (1)، فإن أي نظام اقتصادي إنما توجهه القوى الأخلاقية التي تخلع عليه تفسيراً إنسانياً وغاية تاريخية. فهو في بدايته يحمل طابع اختيار بين (المنفعة) و (الحاجة) وفكرة التوزيع فيه، أعني أن وظيفته الاجتماعية الجوهرية تكتسب تحديدها من هذا الاختيار الأولي.
فالمذهب التجاري أو الاحتكاري القائم على أساس المنفعة، أي الذي يقوم
__________
(1) ويبدو أن البلاد العربية بدأت تواجه المشكلة في وضع (البقاء). كما برهنت على ذلك التقارير الأخيرة التي اتخذتها الجزائر في قضية التشغيل العام.
(1/23)
________________________________________
توازنه على قانون العرض والطلب يتنافس مع الذهب القائم على فكرة (الحاجة)، أي الذي يتوازن على أساس مبدأ الإنتاج والاستهلاك.
فنظرية اقتصاد قائم على أساس (الحاجة) هي التي تقرر في صورة فرض (الحق) غير المشروط لكل فرد، في أن يحصل على خبزه اليومي، وبالتالي تعد العمل في النهاية (واجباً) يومياً عليه.
وهذا الاتجاه للاقتصاد الذي يسود شيئاً فشيئاً جميع البلاد الإسلامية، يؤيده التطور العالمي الذي يتخذ الاتجاه نفسه شيئاً فشيئاً. بل إن هذا الاتجاه قد بدأ يظهر خاصة في بعض البلدان الغربية، فإذا بالإنتاج والتوزيع اللذين كانا يخضعان حتى عهد قريب لمجرد الاعتبارات التجارية الدائرة حول محور المنفعة، إذا بهما ينجرّان نحو مذهب يدور حول فكرة (الحاجة). ويظهر هذا في فرنسا في صورة محاولات تحمل طابع المشاريع الخيرية، ولكن هذه الصورة أيضاً تترجم لنا عن تطور المفهوم الاقتصادي. ولقد كانت الصناعة الفرنسية في عام 1936 تطبق مناهج (مالتوس Malthus) لكي تتخلص من فائض الإنتاج، واليوم نجدها تحاول أن توزعه عن طريق الدولة، تلك التي توزعه دون مقابل، كما حدث أن بدأت توزع في مطلع كل شتاء كيلو جرامين من السكر على الفقراء (1)، وهم يوزعون خمس ليتر من اللبن يومياً على تلاميذ المدارس الابتدائية.
وتلتزم مناجم الفحم أيضاً بضمان توزيع بالمجان للفحم طبقاً لشروط متفق عليها مع السلطات العامة.
ولا شك في أن للبلدان الإسلامية مصلحة خاصة في أن تأخذ بعين الاعتبار هذا التطور، كما يمكنها أن تطابق بين الطفرة الاقتصادية والطفرة الإنتاجية الضرورية لبعثها في الميدان الاقتصادي.
__________
(1) منذ شتاء 1955 - 1956
(1/24)
________________________________________
فبصرف النظر عن التخلف الناشئ عن عوامل نفسية في هذا الميدان مما يجب على الشعوب أن تتداركه، فإن عليها أن تتدارك تخلفها الناشئ عن عوامل اقتصادية بحتة، وهو التخلف الناشئ عن اقتصاد ما زال في مرحلته الابتدائية، فلكي يصل تجهيزها إلى المرحلة الثانوية أي مرحلة التصنيع، فليس له ما يعتهد عليه سوى الزراعة من ناحية، والمواد الأولية (الخام) من ناحية أخرى، وهذان هما ثديا الاقتصاد الإسلامي على العموم ووسيلتا بعثه.
وإذا قابلنا من الوجهة الفكرية بين الحالين: على محور واشنطن - موسكو من ناحية، وعلى محور طنجة - جاكرتا من ناحية أخرى، حين نعرف المحور الأول بما نسميه (نفسية القوة)، وحين نعبر عن الآخر بلفظ (البقاء)، يمكن أن نقابل بينهما أيضاً مما له صلة بطبيعة وضعهما الاقتصادي. فمن الناحية الاقتصادية نجد أنفسنا أمام محور الصناعة من جهة، ومحور المواد الأولية من جهة أخرى.
فكل برنامج للتصنيع في البلاد الإسلامية يواجه مشكلة الإنتاج الزراعي من جهة، ومشكلة تسويق المواد الأولية من جهة أخرى. ولقد ورد في أحد الأبحاث الحديثة التي وضعت تحت إشراف الأمم المتحدة، أن مشكلة الجوع في العالم تنتج خاصة من نقص الإنتاج الزراعي في البلاد الاستوائية وما وراء الاستوائية، أي على وجه التحديد في البلاد الإسلامية. وبهذا ندرك أن هذا النقص يؤثر أولاً بصفة لا مباشرة على (مشكلات الأساس أو القاعدة) في هذه البلاد نفسها، وعلى نهوض اقتصادها، وخاصة فيما يتصل بإقحام الرجل المسلم في النشاط الاقتصادي مستهلكاً ومنتجاً.
ومن البديهي أن عملية إقحامه تتطلب أن نعطيه أولاً لقمة الخبز قبل أن نسلمه الفأس والمعول.
(1/25)
________________________________________
ومن هنا تظهر المصلحة التي تحققها المحاولات التي قامت بها حديثاً بعض الحكومات، مستهدفة علاج أوجه النقص في الإنتاج الزراعي، الناتج عن استعمال وسائل الزراعة العتيقة من ناحية، وعن طبيعة الملكية العقارية من ناحية أخرى، فالمشكلتان مرتبطتان ببعضهما إلى حد بعيد، واستعمال الوسائل العتيقة مثلاً في إفريقيا الشمالية قد كان يفسره لنا إنشاء الاستعمار للإقطاعيات الضخمة، التي لم تدع للفلاح الوطني أي إمكانية مادية لتعديل طريقته العتيقة. ولكننا نجد الفلاح في مصر ذلك الذي ارتبط بالأرض منذ القدم، نجده حتى ثورة تموز (يوليو) 1952 وليس لديه من الإمكانيات المادية ما يكفيه لتعديل وسائله، وربما إلى الآن.
ومن هنا يأتي تفسير مشروع الإصلاح الزراعي الذي قام به القادة الجدد في مصر، وقد كان من نتائجه المباشرة أنه غيّر حالة الفلاح، ذلك الذي كان يعيش في صورة منبوذ مرتبط بالأرض برباط الاسترقاق، فأصبح عاملاً يربطه بالأرض (وعي اقتصادي) لوضعه بوصفه منتجاً ومستهلكاً؛ وإن هذا الإقحام الاقتصادي ليمس 82% من مجموع الشعب المصري، وهو يعد بهذا، الإجراء الأول في تحويل اقتصاد البلاد، والخطوة الأولى الضرورية في طريق التصنيع؛ وفضلاً عن ذلك فإن نتائجه الاقتصادية الخالصة ستؤكد أهميته من الناحية النفسية والأخلاقية.
وإن انتزاع ملكية 500،000 فدان مشتراة من الملاك الكبار، ومصادرة 175،000 فدان من أملاك العائلة المالكة السابقة، ليعد- إلى جانب كونه إجراء للإصلاح الزراعي، يحول الرقيق إلى فلاح- علية تكوين رأسمال تُحَوّل رأس المال العقاري- بما يحتوي من قوة فعالة- إلى ميدان الاستثمار الصناعي، مغيرة بذلك الأوضاع الاقتصادية في البلاد ومحتمة وجهتها الصناعية. وفي حدود التفاصيل الخاصة بكل بلد تعد البلدان الإسلامية في هذه المرحلة من مراحل
(1/26)
________________________________________
التطور الاقتصادي التي اجتازتها نهائياً البلدان الغربية، حين دخلت العصر الصناعي منذ قرن من الزمان. ولكن ظروف هذا التطور قد تغيرت منذ قرن تحت تأثير بعض العوامل النفسية والصناعية. فلقد تحقق اقتصاد القرن التاسع عشر في الغرب في المستوى القومي، ولقد فات أوان هذا المستوى الآن، أو على الأقل هو في طريقه إلى الزوال. فالاقتصاد يتطور شيئاً فشيئاً نحو صورة (الاتحاد الاقتصادي)، وما (البول Pool) وهو الاتحاد الذي يتشكل من أكثر من قومية، و (الاتحاد الصناعي Combinat) إلا معالم جوهرية لهذا التطور نحو اقتصاد جماعي، يوحد الحاجات والوسائل في عدة بلاد.
ولقد أعطتنا الصين والاتحاد السوفييتي مثالاً فذاً في هذا الميدان، حين بدأتا في دراسة مشروع مشترك وهو يتصل بإنشاء (امبراطورية زراعية Empire agricole) مشتركة في مقاطعة (كازاخستان) السوفييتية ومقاطعة (سنكيانج) الصينية، يقوم الإنتاج فيها على القمح الروسي والقطن الصيني، ويستغلان أساساً لتدعيم اتحاد صناعي تشكل على أساسه وحدة اقتصادية مهمة في العالم الشيوعي (1). وبديهي أن مصلحة البلدان الإسلامية هي في أن تضع نصب أعينها عند أي تخطيط لاقتصادها هذا التطور، سواء لخلق أوضاع اقتصادية متكاملة، كالاتحاد الصيني الروسي الذي تحدثنا عنه، أم لتمويل مشروع ذي مصلحة عامة كخزان أسوان، إذا لم ننظر إليه من وجهة الاقتصاد المصري فحسب، فإن من الممكن أن يفيد هذا المشروع المملكة العربية السعودية من الناحية الزراعية؛ لأن هذا البلد لا يمكنه أن يقيم في أرضه الصحراوية وسائل الإنتاج الزراعي التي يحتاج إليها.
ومن الممكن أن يتكفل اتفاق ثلاثي بين السعودية ومصر والسودان، بِرِيّ
__________
(1) ترك طبعاً هذا المشروع أثناء الأزمة بين البلدين.
(1/27)
________________________________________
وإخصاب منخفض (القطارة) الممتد من غرب الاسكندرية إلى حدود ليبيا لمصلحة الدول الثلاث، وذلك خارج نطاق الري المصري.
وعلى كل، فإن فكرة الاقتصاد الموحد تنمو وتزدهر شيئاً فشيئاً في العالم، وهي التي ألهمت في المجال الأفرسيوي واضعي مشروع (كولومبو) (1)، فعلى الرغم من أنه وضع بوصفه ملحقاً اقتصادياً لنظرية الحد من التسرب الشيوعي Containment، ويهدف فضلاً عن ذلك إلى القيام بتحسينات زراعية، فإن هذا المشروع يعد من وجهة خاصة مثلاً مفيداً على التعاون الاقتصادي الإقليمي، والمعروف أن ميزانيته كانت تشكل على خمسة مليارات من الدولارات تدفع 60% منها الدول الخمس عشرة الأعضاء، والباقي وقدره 40% يدفعه البنك الدولي للإنشاء والتعمير. فنظرية الاقتصاد الموحد تقدم إذن أمثلة عملية في صورتين مختلفتين، صورة خاصة بالعالم الشيوعي مثل الاتحاد الصيني السوفييتي الذي ذكرناه آنفاً، وصورة أخرى خاصة بالعالم غير الشيوعي كمشروع كولومبو. وأكثر من ذلك فإن هذه النظرية التي تجد فيما ذكرنا تبريراً عملياً، يمكن أن نجد منها الآن أسسها النظرية في بعض الأبحاث الأخيرة عن اقتصاد البلدان المتخلفة، وبخاصة تلك الأبحاث التي قام بها في فرنسا (معهد علم الاقتصاد التطبيقي I.S.E.A) وهي تعد في هذا الباب نوعاً من التحديد للموضوع، يحلل أصحابها- عن قصد وبصفة منهجية- عوامل نمو البلدان المتخلفة، ولقد استطاعوا أن يبينوا أن من بين الظواهر المعوقة لهذا النمو (إبقاء الاقتصاد في نطاق قومي محدود) فالقومية الاقتصادية كالقومية السياسية، فات أوانها بتأثير الحقائق الراهنة. لأن الاقتصاد يتطور نحو الاشتراكية (2) القومية في الداخل والاشتراكية الدولية في
__________
(1) مشروع إنجليزي لإنعاش اقتصاديات بلدان الكومنولث الداخلة في نطاق الاسترليني في جنوب شرقي آسيا.
(2) على شرط أن نقدر هذا المفهوم على أساس منهج عملي لا بوصفه مذهباً إيديولوجياً.
(1/28)
________________________________________
الخارج، وفضلاً عن ذلك، فإن هاتين المشكلتين تحتفظان باستقلال كلي إزاء السياسة، وأياً ما كانت الحلول التي نرى صلاحيتها لهما، فإن هذه الحلول لا تستتبع بالضرورة أي اتجاه مذهي.
ولسنا نستطيع أن نقوم بفصل قاطع خير من هذا بين الاقتصاد والسياسة، لنحتفظ في الوقت نفسه بحرية الاختيار بين الاتجاهات العالمية، فإن الحجج المذهبية لا تدعم فناً اجماعياً أو صناعياً، ولا تحط من قيمته، إذ الفن يعتمد على قيمته الذاتية، وعلى مقدرته على التأثير في ظروف معينة.
فاشتراكية وسائل الإنتاج لا ترجع إلى أي مبدأ مذهبي، بل إلى ضرورة تحددها ظروف خاصة بالوسط، وبإمكانياته الحالية. وفي هذه الظروف يستطيع الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الأفرسيوي عامة في ميدان التطبيق أن يستلهم سياسة مخططة من نظام المزارع الحماعية Système Kholkhozien توفر له القدرة على التأثير. كذلك لا يمكننا في الميدان النظري أن نغض النظر عن أفكار المهندس الزراعي (تيرانس مالتسيف Térence Maltsev)، الذي تخصص في استغلال الأراضي القاحلة أو نصف القاحلة، تلك الصفة التي تنطبق على مساحات شاسعة من الرقعة الإسلامية وتنطبق على كل حال على أراضي الشمال الإفريقي. لأن عجز الإنتاج الزراعي في هذه المنطقة لا ينتج في الواقع عن استعمال الوسائل العتيقة أو عن التنظيم الزراعي فحسب؛ بل إنه ينتج أحياناً عن الظروف الطبيعية القاسية. وقد لا يكون العلم قد توصل حتى الآن إلى التحكم في هذه الظروف لكي يفرض بطريقة علمية توجيه الأراضي في الزراعة، ولكن البلاد القاحلة- وأغلب البلاد الإسلامية في هذه الحالة- تستفيد كثيراً من متابعة نمو الأفكار التي أبدعها (تيرانس مالتسيف).
وعلى كل، فإن ما تتصف به هذه المشاكل من التسلط على الاقتصاد الإسلامي لا يفتأ يزداد مع ضغط زيادة السكان من ناحية، ومع ضرورات
(1/29)
________________________________________
الاستثمار من ناحية أخرى، مادام الانتقال إلى المرحلة الصناعية لا يمكن أن يتم دون فائض في الإنتاج الزراعي؛ والمفروض أن هذا الانتقال سيحدث مع تطبيق الاشتراكية على وسائل الإنتاج، ولكننا نصادف هنا المشكلة الثانية في الاقتصاد الإسلامي، وهي مشكلة المواد الأولية؛ وكما حدث في الأولى، يحدث في هذه المشكلة، فتتراكب العناصر الاقتصادية المحضة فوق العناصر النفسية، التي لا نحتاج أن نعود هنا إلى الحديث عنها. ويبقى علينا أن ننظر إلى زيادة الإنتاج الزراعي الذي يشمل بقدر كبير جميع برامج التجهيز الصناعي، من الزاوية الاقتصادية المحضة.
ومن هذه الزاوية تواجهنا مشكلة تسويق المواد الأولية، فالبلاد الإسلامية مضطرة في الظروف التي توجد فيها الآن إلى أن تصدر المواد الخام، تلك التي لا تملك وسائل تغييرها وتصنيعها في بلادها؛ ومن هنا تكون مرحلة جديدة في مواجهة هذه البلاد لمحور واشنطن - موسكو، هنالك حيث تقوم صناعات التحويل والتغيير، وتلك هي المواجهة الاقتصادية التي تظهر نتائجها بصورة طبيعية في الميزان التجاري لتلك البلاد، وخاصة في الخسارة التي بلغت 16% في دخلها الكلي خلال السنوات التي أعقبت تحررها.
ونحن نصادف مرة أخرى هنا مشكلة (الوعي الاقتصادي) والتخصص الفني، أعني مشكلة توجيه الثقافة وتكوين الإطار الاجتماعي. ولكن بصرف النظر عن هذه العناصر الداخلية التي يجب أن نضيف إليها نتائج الأحداث الثورية التي أدت إلى التحرر، مع تفاوت في درجتها الثورية، فإن الخسارة تنتج أيضاً بقدر ما عن ظروف السوق الدولية. وبالنسبة لهذا الجزء من المشكلة تواجهنا مشكلة تسويق المواد الأولية، وهي تواجهنا أولاً بمنطق الأسواق المالية، بكل ما يحمل هذا المنطق من اصطناع ومكيافيلية وتزييف. وبدهي أن تسعير السوق المالية يبدأ من علاقة (المادة الأولية بالعملة) تلك العلاقة التي يحددها
(1/30)
________________________________________
سر هذه السوق ولكن السعر لا تحدده العناصر الاقتصادية الخاضعة لقانون العرض والطلب فحسب، بل إنه يتحدد أيضاً بعناصر غير اقتصادية تفصح عن اعتبارات مالية وسياسية واستراتيجية، أعني: الإرادة الخاصة لأحد الأطراف وهو مَن في حوزته العملة، وهذا ينطبق انطباقاً تاماً على البترول مثلاً، فإن هذه العناصر الأخيرة المذكورة هي التي تحدد وحدها أسعاره، دون أن يكون للبلاد المنتجة للمادة حق إبداء رأيها، فإذا انتقلنا عملياً إلى السوق الدولية، وجدنا الأمر قريباً من هذا. إذ تتحدد العلاقة بين المادة الأولية والعملة عملياً من طرف واحد: هو الاحتكار Trusts الذي يحدد الأسعار بنسب تناسبه. وهكذا تخضع سوق المادة الأولية- دون مقابل- لسوق المال ولإرادة رأس المال. وإنه من طبيعة هذا الوضع أن نرى في تلك الإرادة، المقدرة بالدولارات والاسترليني، الفلسفة التي كانت تقود منذ عهد قريب الاستغلال الاستعماري، فهي تحاول اليوم لأسباب مالية واستراتيجية إبقاء (منطقة رهو) في البلاد المنتجة للمادة الأولية، تتفق مع التيارات التجارية ومع التيارات السياسية العالمية أي مع مصالح البلاد ذات الطاقة الاقتصادية العالمية: وتسعير القطن المصري، والكاوتشوك والتوابل في إندونيسيا، والأرز في بورما، إنما يتحدد طبقاً لمقتضيات هذه التيارات، وفي خضم هذه الظروف التي تموج بها السوق العالمية تواجهنا مشكلة تسويق المادة الأولية. والضرر الذي يصاب به الاقتصاد الراهن القائم على أساس النقد إنما يأتي من أن العلاقة بين المادة الأولية والعملة إنما تحددها العملة نفسها.
فمثلاً ليس هناك أي سبب ظاهر لأن يكون سعر (الحلفا) الجزائرية - وهي مادة أولية- أقل ثلاثين أو أربعين مرة من سعر منتجاتها- عجينة السليلوز والورق- المصنوعة في إنجلترا، ليس هناك سوى سبب واحد يتصل بالعلاقة بين الحلفا والجنيه الاسترليني، وذلك هو فائدة الصناعة الإنجليزية والعامل الإنجليزي. وهكذا تكبد ساعة العمل التي يؤديها العامل الإنجليزي
(1/31)
________________________________________
العامل الجزائري كثيراً، إذ أن الأول إنما يفضل الثاني بالعملة. على حين لا يمثل الثاني سوى المادة الأولية.
وقد لفت هذا الشذود أنظار بعض المراقبين لاقتصاد الشمال الإفريقي حين لاحظوا البون الشاسع بين سعر الطن المصدر من المادة الأولية وسعر الطن المستورد من المنتجات المصنوعة إلى بلد من العالم الثالث. وملاحظة هذه الأرقام باعتبارها متوسطاً كلياً لها دلالتها، ولكنها لا تترجم تماماً عن الواقع الاقتصادي في مستوى العامل المسلم، بل في مستوى رجل الأعمال الأوربي الذي يصدّر المادة الأولية بيد، لتغيرها يده الأخرى إلى مادة مصنوعة يشتريها العامل المسلم بالثمن الغالي، ليبخس حقه منتجاً ومستهلكاً.
وأياً ما كان الأمر، فلكي نعالج تسلط العملة على المادة الأولية، فإن من الواجب أن نحرر المادة من العلاقة التي تخضعها لظروف السوق الراهنة.
ويبدو أن بعض البلاد الإسلامية قد عقدت فعلاً عملياتها التجارية الأخيرة، على أساس علاقة لا تنفرد فيها العملة بتحديد قيمة المادة الأولية، فلقد تمت هذه العمليات على أساس مقايضة (مادة أولية بمادة أولية) أو (مادة أولية بتجهيز صناعي)، فبادلت سيلان على هذا الأساس محصول الكاوتشوك مقابل الأرز الصيني، وبادلت مصر قطنها مقابل التجهيز الصناعي، وبصفة عامة تقوم عمليات تبادل البلاد الإسلامية مع الشرق على أساس ذي طبيعة أخرى، وهو ما يمكن أن يتضح بقدر كبير في هذه العلاقة:
مادة أولية - عمل
ومن الممكن أن تتم المبادلات مع الغرب على الأساس نفسه، وإنما هنا نصطدم (بكتلة نقدية)، تلك الكتلة التي كشفت في قضية البترول الإيراني والجزائري أخيراً (1) عن إرادتها في أن تظل سيادة العملة على المادة الأولية، ولكن
__________
(1) ومن هنا قدرت قيمة التعديلات التي قررتها الحكومة الجزائرية في هذا المجال.
(1/32)
________________________________________
البلاد الأفرسيوية عامة، ومن ضمنها البلدان الإسلامية خاصة، تستطيع أن تستلهم من هذه السياسة الاقتصادية سياسة أخرى معارضة لها. بأن تنشئ في مواجهة (الكتلة النقدية) (كتلة المادة الأولية). وبعبارة أخرى، إذا كان مبدأ الاقتصاد الموحد صادقاً في الميادين الزراعية والصناعية في الاقتصاد الإسلامي، فإنه أيضا صادق في ميدان تسويق المواد الأولية لمواجهة الاستراتيجية المالية للأحتكارات Trusts بصورة فعالة، وبصفة عامة لمواجهة إرادة القوة، وخاصة إذا ما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لعلاج بعض ألوان الشذوذ المرضي في سوق المواد الأولية.
فعندما يتعرض الكاوتشوك- وهو عامل طفرة للنمو الاقتصادي في بلاد جنوب شرقي آسيا- لنكسة، في الوقت الذي تدل فيه الإحصاءات على زيادة مستمرة في منحى استهلاكه، فتلك ولا شك حالة تدل على وجود أعراض مرَضِيّة.
وفي ظاهرة كهذه يمكن أن ندرك- بداهة- تأثير العوامل غير الاقتصادية التي تحرف القانون الطبيعي للعرض والطلب، وهذه العوامل ترتبط- كما هو ظاهر- بتحكيم السياسة في مشكلة التبادل بين بلاد (الكتلة النقدية) والبلاد المنتجة للمادة الأولية، فإن بلاد (الكتلة النقدية) تريد أن تطبع على هذه المبادلات الاتجاهات المناسبة لخطها السياسي الخاص، ولا يمكن تعديل هذه الاتجاهات إلا بتنظيم حكيم لسوق المادة الأولية ولتسويقها بواسطة البلاد الإسلامية، تبعاً لمبدأ الاقتصاد الوحد. ولكنا نلاحظ أن هذا المبدأ- في جميع مناطق الاقتصاد الإسلامي وقد بيّنا ملأءمته لها- يتفق فعلاً مع المبدأ الأخلاقي الأساسي للفكرة الإسلامية أعني مع فكرة (المسلم العالمي). إذ لا يتصور في الواقع أن نواجه مشكلة اقتصاد موحد في منطقة لم يزل عنها خطر الحرب نهائياً. فإن المرء لا ينشئ شركة مالية مع رفيق لن يسير معه إلا جزءاً من الطريق.
(1/33)
________________________________________
وهذا الاعتبار يبرز شذوذ بعض الحكومات في الرقعة الإسلامية حين تنساق في سياسة الكبرياء، فتضع المشاكل في لغة القوة، في مجال ينبغي عليها فيه أن تصوغها بلغة (البقاء)، بحكم الضرورات الداخلية في تلك البلاد، وبحكم اتجاهها في الظروف الحاضرة المتسمة بإلحاح اعتبارات السلام.
وبالنظر إلى هذه الاعتبارات الملحة يصبح الاقتصاد عنصراً جوهرياً يحدد وجهة الفكرة الإسلامية. فهو يصبح في هذا المستوى- إلى جانب كونه وسيلة الشعوب الإسلامية للحياة- وسيلة لها كما تتحمل رسالة الإسلام الداعية إلى السلام، التي تقع على عاتقها في مواجهة الكتلتين.
ويستطيع الاقتصاد الإسلامي- حين يجر هذه البلاد إلى منافسة تحمل طابع التعايش- أن يتحاشى تحول المنافسة الاقتصادية إلى وضع انفجاري، ولقد أوضح مشروع بناء خزان أسوان أن هذه المنافسة يمكن أن تكون مثمرة خصبة، لو فهمتها الدول الكبرى، وذلك عندما ينفون عنها ما يمكن أن يخلع عليها صبغة حادة منفعلة، وذلك هو ما فعلته الحكومة المصرية؛ ومن بين الاقتصاديين المشهورين الذين يفكرون في تأثير هذه المنافسة الاقتصادية في علاقات الكتلتين إحداهما بالأخرى، نرى مثلاً مسيو (ألفريد سوفي Alfred Sauvy) في فرنسا يقول: " إن من الممكن وجود نقطة التقاء بينهما في الجنوب البائس" (1).
فمن الممكن أن تلتحم وحدة الحضارة الإنسانية في الرقعة الإسلامية، وبهذا تتلاحم حلقة الوحدة الإنسانية على محور طنجة - جاكرتا في الميدان الاقتصادي. وحبذا لو أدركت الشعوب الإسلامية في الوقت الذي تكوّن فيه (وعيها الاقتصادي) القيمة التاريخية لهذا الوعي، في العالم الخالي، بصفته عنصراً من عناصر التقدم والسلام.
__________
(1) يشير بهذه إلى البلدان الواقعة في محور طنجة - جاكرتا.
(1/34)
________________________________________
الاقتصاد والاقتصادانية
* ( Economie et Economisme)
في دراسة خلت بدا لي ضرورة أن أشير إلى التعارض الشديد في المشهد الإنساني بين محور واشنطن - موسكو ومحور طنجة - جاكرتا.
وقد بيّنا أن هذا التعارض راجع في جانب منه إلى بنى اقتصادية مختلفة، مفسرين هذه البنى تفسيراً قائماً على جذورها النفسية الثقافية لا على أصولها الاقتصادية.
فالمشكلة نفسية بادئ ذي بدء، ذلك بأن الوعي الاقتصادي لم ينمُ في شعور العالم الإسلامي النموَّ الذي نماه في الغرب في شعور الإنسان المتحضر وحياته.
الواقع أن الاقتصاد في الغرب قد أمسى منذ قرن دعامةً أساسية للحياة الاجتماعية، وقاعدةً جوهرية لتنظيمها، ومبدأ تصرف للفرد، ومثلاً أعلى للأسرة رمزه (جورب الصوف) (1) المشهور في كل بيت (2).
أما الحضارة الإسلامية في الشرق فقد نزلت في فترة من تطوّر البشرِ العام بين الحضارات العتيقة وحضارة الغرب. فاقتصادها يمثل معبراً من الاقتصاد
__________
* ترجم هذا الفصل السيد مروان قنواتي.
(1) كانت الأسرة الريفية الفرنسية تكتنز ما تقتصد في جورب من الصوف، ويقابله عند العرب (الصرة).
(2) Cf. L'Afro-Asiatisme p.179 et suivants, édition Cairo
(1/35)
________________________________________
المألوف إلى الاقتصاد المنظم تنظيماً تايلورياً (1).
زد على ذلك أنه منذ عصر ما بعد الموحدين نجد أن الفكر الإسلامي، المسرّح من مهماته التاريخية من وجه ما، فقد وظيفته على وجه العموم فأمسى آلة تدور في الفراغ نسمع جعجعتها ولا نرى طحناً. حتى إن اتجاهاً أو مذهباً اقتصادياً إسلامياً خاصاً لم يكن ليقوى على البزوغ، ذلك بأنه لا يملك أن يتعلق بفكرة (الربح الحر) التي هي دعامة الرأسمالية ولا بفكرة (الحاجة) التي هي نواة الماركسية.
فدعائم المفاهيم للنشاط الاقتصادي القديم- من وضوح ودقة ونظام وتنظيم وثقة ... - للمجتمع المسلم، انحلت في التفسخ العام الذي أصابه ساعة كانت أوربا على عتبة عصر اقتصادي جديد، بما أوتيت من اكتشافات جغرافية كبرى في القرن السادس عشر الميلادي.
ولم يكن المجتمع المسلم، وقد أثقله عبء حضارة آفلة، بقادرعلى أن يقتفي آثار حضارة ناشئة أخرى على عتبة انقلابات، لم تقتصر على أن تؤدي بالعالم الحديث إلى إحياء دعائم المفاهيم القديمة للاقتصاد، بل أدّت به أيضاً إلى إيجاد دعائم مفاهيم جديدة كساعة العمل والقدرة على الإنتاج، وإلى إيجاد دعائم مادية تندّ عن التصور- كالبخار والكهرباء والآلة- دخل البشر بها الثورة الصناعية الفنية.
حتى إن العالم الثالث كله غداة الانسلاخ من الاستعمار لم يكن عليه أن يتخلص من سلبيته الموروثة وحدها، بل من عواقب ركوده أيضاً ساعة وثبة أوربا في الميدان الاقتصادي.
__________
(1) نسبة إلى (تايلور) صاحب النظرية الاقتصادية التي أدخلت فكرة ضبط الإنتاج بترتيب الحركات حسب الوقت وترتيب الوقت حسب الحركات (دراسة العمل والزمن).
(1/36)
________________________________________
وقد جاوزت هذه العواقب في سوئها حداً، جعلها تمثل صعوبات مادية كبرى في طريق البلدان المستعمرة، وعقداً نفسية تحكم على هذه البلدان بضربٍ من الصبيانية الاقتصادية.
إن إنسان العالم الثالث عامة والمسلم خاصة، يظنان أنهما بارئان من أسقامهما بدواءٍ جديد يشفيهما من كل داء. وقد تكلما عن الاقتصاد كلامهما عن حجر جديد للفلاسفة يملك أن يجعل الفقر غنى برمشة عين، فوقعا في ضرب من الصبيانية الاقتصادية Economisme.
وما يزيد الطين بلة أن حجر الفلاسفة الذي يزعمان المداواة به، لا يصنع المعجزات في البلد الذي يتخذه علاجاً، بل يدسّ له من مخابر البلدان المتقدمة التي همّها الأكبر ضمان مصالحها لا تخفيف عبء البلدان المتخلفة.
وهذا الدواء الشافي من كل داء في العالم الإسلامي لم يكن له من أثر، إلا أن جعله فريسة شر أدوائه بإيقاعه في (الاقتصادانية L'Economisme).
والاقتصادانية إنما هي فقاعة غاز لا تحوي أي واقع اقتصادي، بل هي أسوأ. إنها ظرف يبدي ألوان قوس قزح لألاءة براقة، إنه يحوي أوهاماً خلابة ضائعة وتناقضات تدعو للسخرية.
إن الاقتصادانية أو المعاشية لم ينزلْ بها قرآن من السماء، بل أفرزتها كائنات أميبية جسّدت القابلية للاستعمار وتجسد التخلف اليوم. وهي عموماً تعني بادئ ذي بدء استبداداً، أي تقييداً جديداً لحرية التصرف، فيه يلتهم المشرّع الاقتصادي القيمَ الأخلاقية والمدنية كلّها لأبناء الشعوب المستعمرة حتى يعززوا كما يزعمون، الاستقلال السياسي الذي اكتسبه الشعب.
حتى إن الاقتصادي لا يحيي القرية بإعادة كرامة المواطن التي داستها الأقدام ووطئتها قروناً طوالاً، بل يلبسه ثوب الذل كرة أخرى ويخنق أنفاسه ويضيق
(1/37)
________________________________________
عليه الحريات المدنية، أي يثقل مشكلة الإنسان من جديد بعناصر سالبة جديدة.
وإن ابتغت الاقتصادانية أن تفعل خيراً فإنها تتصور شؤون المجتع الإنساني تصور تسيير لمطعم حقير حسابه يتم بعمليتين اثنتين: جمع لا يدخل من مال، وطرح للنفقات.
عندما يمسي مذهب اقتصاداني نفيا لسنن التاريخ البشري، فيجرد تجريداً مذهبياً من القيم الثقافية التي تنشد كل جهد للنهوض الاجتماعي القائم على الإنسان، نجد أن (منهج التنمية) المزعوم يؤكد ما هو أسوأ من أدواء التخلف كلها.
ويا ليت التسيير الاقتصادي يخلو من العقد! فمولى المطعم الحقير يصب فيه مع الأسف أوهامه الطفولية وتناقضاته التي يزهو بها معاً.
إن المجتمع الإسلامي في اللحظة الراهنة يقوم في البلاد كلها بجهود مشكورة ويضحي تضحيات نبيلة لإيجاد أطر أو ملاكات صناعية فنية ضرورية هنا وهناك، ولزيادة جهد النهوض الاقتصادي. بيد أن عالماً اجتماعياً إيرانياً يبين لنا مع ذلك في بحث رعته هيئة الأمم المتحدة، عظم هجرة أدمغة العالم الثالث أو العالم الإسلامي خاصة إلى البلدان المتقدمة.
فهل نظروا في بلادنا إلى هذا التقرير التحليلي فاتخذوا التدابير المناسبة؟ وفي هذا الصدد ينبغي لنا أن نصغي إلى متخصص عربي في النفط هو الشيخ (أحمد الطريقي) الذي يعطينا تعليمات قيمة حول موقف البلدان العربية المنتجة في ميدان الانتفاع بالأدمغة العربية المكوّنة في البلدان الغربية.
إنه موقف التعالي الصلف الذي يذل. حتى إن (الدماغ العربي) يبحث
(1/38)
________________________________________
فيجد خير منتفع بكفاءته في مواطن أخرى (1).
فحيثما كانت (الاقتصادانية) وما يتبعها من حاجة عظمى للأدمغة جاء بلد متقدم فامتصها. وما هذا إلا تناقض قليل الشأن، ذلك بأن الاقتصادانية تفعل أكثر منه أيضاً. فعندما يحط الدماغ المكوّن بنفقات عظيمة في مسقطه يصبح مصيره رهناً للنزوة الطائشة. فقد يرى نفسه، بعد إذ تكوّن في مدرسة كبرى، كاتباً في إدارة على سبيل المثل. وقد يرى نفسه، بعد إذ غدا مهندساً في مؤسسة صناعية فنية ألمانية، عاملاً إدارياً وراء مكتب في هذا القطاع العام أو ذاك.
حتى إن التخلف الذي هو نقص في الوسائل على الصعيد الاقتصادي، ينوء حمله الاقتصادي بجانب سلبيّ جديد من الوجهة النفسية: هو سوء الانتفاع بالوسائل.
ولقد انتصرت الصين الشعبية انتصاراً كاسحاً على هذا الجانب، الذي كان يفرض عليها الخيار بين (الصنع والشراء)، ولكنها لم تنتصر عليه ذلك الانتصار إلا بما قامت به من ثورة ثقافية.
فينبغي للبلدان الأخرى في العالم الثالث أن تقوم هي أيضاً بثورتها الثقافية، حتى تذلل المصاعب ولا سيما العقد التي تعوق سبيل تنميتها الاقتصادية.
وليس بضربة لازب أن تختار لذلك قدوة معينة في التنمية أياً كان شأنها، فالاقتصاد يسلك سبله الخاصة التي ليست بالضرورة سبل الرأسمالية ولا سبل الماركسية.
إن المجتمع في منطلقه يتمتع دائماً بسلطان اجتماعي، يمثله الإنسان والأرض والزمان الذين يملكهم في الحالات جميعاً، لكنه لا يملك سلطاناً مالياً دائماً.
__________
(1) مقابلة في الرائي الجزائري ( Television) في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1971م.
(1/39)
________________________________________
فينبغي لخطط تنميته والحال هذه أن تعتمد اعتماداً أكثر على السلطان الاجتماعي، حتى لا تعبر عن وسواس نقص المال الذي يهلكها من البداية بإخضاعها إلى إرادة المال.
وفي البلاد الإسلامية خاصة ليست المسألة بأن نعطي المال سلطاناً لم ينزل به الله، بتركيزه في أيد قليلة يتبعه انخفاض في مستوى المعيشة، ونقص من القوة الشرائية وإفقار للجماهير الكادحة، وليست المسألة بأن ينتزع منه كل سلطان كذلك بإذابته في ضرب المساواة الطوباوية يذهب بنجعه النافع في دفع الإنتاج.
فينبغي لنا أن نجعل للمال قيمة نسبية، ولكن ينبغي لنا أيضاً أن نكشف النقاب عن مفهوم (الإنتاج)، فلا ينبغي أن يغدو المثل الأعلى للمجتمع كما فعلت (الستاخانوفية) في الاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية، بل ضرورة ملحة، تلبيتها شرط كل حياة اجتماعية. ولئن ابتغى قوم صوغ هذا الشرط في حكمة قلنا: نحن لا نعيش لنأكل، بيد أننا نهلك إذا لم نأكل.
وبعبارة أخرى إن خطط التنمية أياً كان إلزامها الاقتصادي الذي نقدره حق قدره، ينبغي لها مع ذلك أن تطوي كشحاً عن هذا الإلزام لضرورات عليا، حتى لا تهوي في الاقتصادانية، وهم أولئك الذين يظنون أنهم يحلون المشكلات البشرية كلها بسبل اقتصادية.
يبدو أن العالم الإسلامي في هذه الآونة مصاب بهذا الداء. وهو داء نكأته الحربان العالميتان في هذا القرن، فانتقل من عدم الوعي الاقتصادي الشامل إلى الحصر (1) ( Obsession) الاقتصادي، كأنما ليس للمسلم إلا سبيل واحدة للتفتح: أن يكون بشراً اقتصادياً ( Homo économicus) وألا يكون غير هذا.
__________
(1) هذا مصطلح وفق إليه أحمد عزة راجح أستاذ علم النفس في جامعة الاسكندرية جزاه الله خيراً، رجع فيه إلى قوله تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ..... }.
(1/40)
________________________________________
ولا يخفى علينا أن التعليم الإسلامي كله في القرآن والسنة يدعوه إلى الحلول الوسطى دائماً:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... }. [البقرة 2/ 143].
فتوعية الإنسان المسلم في الميدان الاقتصادي، يجب ألا تجره إلى وثنية جديدة ليصير من عبّاد صنم جديد اسمه (الاقتصادانية) أو حتى الاقتصاد.
***
(1/41)
________________________________________
حدود الاختيار الإسلامي بين المناهج الموجودة
إذا تأملنا الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة المشكلات الاقتصادية، نرى أنه يضيّق على نفسه مجال اجتهاده، بمقتضى مسلمات ضمنية يمكن حصرها تقريباً فيما يلي:
1) إنه يفكر أولاً على أساس أن الموجود من المناهج الاقتصادية هو ما يمكن إيجاده.
2) إن النشاط الاقتصادي لا يمكن من دون تدخل المال، سواء في صورة استثمار، تنظمه وتشرف عليه قطاعات خاصة أو استثمار تهيمن عليه سلطة سياسية، فيما يسمى القطاع العام.
ومن هنا يبتدئ تعثر الفكر الإسلامي بصعوبات تنشأ من طبيعة موقفه من الأشياء، لا من طبيعة الأشياء ذاتها.
فالمسلمة الأولى، مثلاً، تضطره إلى الاختيار بين الرأسمالية وبين الشيوعية.
وإذا به يجد نفسه- مهما كانت ميوله- أمام مشكلات فنية أو مذهبية أو على الأقل أخلاقية، تضيف إلى متاعبه ما شاء الله، لأنه لا يجد لها حلاً في نطاق اختياره في كلا الاتجاهين، إلا على حساب مبادئه الأولية، وبالتالي على حساب شخصيته وهويته من التاريخ.
فإن جنح إلى الرأسمالية فسرعان ما يصطدم بإباحيتها، القائمة على المبدأ الذي عبر عنه (آدم سميث)، في بداية العهد الاقتصادي الحديث، في عبارته الشهيرة "دعه يعمل، دعه يسير".
(1/42)
________________________________________
والآن بعد قرن ونصف، يرى المسلم بكل وضوح أين يؤدي هذا، إلى أي اضطراب اجتماعي يؤدي بالمجتمع الذي يسير هكذا، إلى أي انحرافات ثقافية تنشأ فيه متخذة ردود أفعال ضرورية أمام إفراط في الإنتاج وتفريط في التوزيع، فتنشأ الماركسية مثلاً وتقوم على أساسها الثورات الشيوعية لتعيد المياه لمجاريها في عالم الاقتصاد حسب زعمها.
ولا يصطدم المسلم في هذا الاتجاه، بإباحية الرأسمالية فحسب، أي بروحها فقط، بل سيصطدم أيضاً بشروطها أو بعض شروطها الفنية؛ لأن الرأسمالية تقتضي استثمار المال بوصفه الوسيلة الوحيدة لدفع عجلة الاقتصاد، وإذا بها تلجأ لعملية تجميع الأموال وتركيزها في مؤسسات معينة كالبنوك، لتقوم هي بتوزيعها وتوظيفها في القطاعات الإنتاجية المختلفة، على أساس الربا في عمليتي التجميع والتوزيع.
وإذا بالمسلم الذي يختار هذا الاتجاه يغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا، لأنه محرم في شريعته.
وكأنه من الناحية الفنية يحاول تخليص جسد من روحه، ويرجو أن الجسد سيبقى حياً وسيقوم بمهماته.
وإن نجح في إيجاد حل نظري في قضية الربا يطابق الفقه الإسلامي، فيكون كأنه وجد روحاً لا يضمه جسد، أو تناقض مع جسده؛ لأن نظام البنوك يرفض هذا الروح وهو يرفضه، فيبقى الحل النظري معلقاً عملياً، لأن صاحبه انطلق على أساس مسلمة استثمار المال بصفته منطلق للديناميكا الاقتصادية، دون أن يراجع هذا المبدأ نفسه.
وربما يلتفت المسلم، بعد خيبة أمله في الرأسمالية، في الاتجاه الأخير، في اتجاه الاقتصاد الشيوعي، وبكلمة ألطف: في اتجاه الاقتصاد الاشتراكي، لا لأنه
(1/43)
________________________________________
يحبذ منطلقاته المذهبية غالباً، بل لأنه بعد أن شاهد مساوئ الرأسمالية وتناقضها أخلاقياً وتقنياً مع الفقه الإسلامي، يشاهد نجاح الخطط (الاشتراكية) في الاقتصاد.
وهنا أيضاً، سرعان ما يصطدم المسلم ببعض جوانب هذه الخطط المتعارضة مع الفقه الإسلامي، مثل تحديد الملكية أو إلغائها، بقطع النظر عن التعارض الأساسي بين المادية والإسلام، تعارضاً أعمق من التعارض مع الليبرالية، أو قضية الربا.
وفي هذا الاتجاه، لم يبق على الاختصاصي أو السياسي المسلم إلا أن يطبق المنهج (الاشتراكي)، دون مراجعة أسسه المذهبية البعيدة، وأسباب نجاحه في البلاد التي طبقته على نسبة تمسكها بالفكرة الماركسية بصفتها عقيدة، كما يراها دارسون مثل (سيرج بردائيف S. Berdaef) أو (فالتر شوبرت W. Shubart)، ودون نظرة في نتائج أو توقعات الفتور عندما يعتري (العقيدة) الماركسية، بدورها، ويجعلها غير قادرة في الميدان الاقتصادي، على تعويض أو تغطية بعض الجوانب السلبية في النظرية الاقتصادية الماركسية، التي أثرت من دون جدال علم الاقتصاد بمفاهيم جديدة مثل فائض القيمة ( Plus-value) أو الإنتاج على أساس الواحد أو الوحدة ( Productivité) دون أن تشعر أنها مست الطاقة الإنتاجية في جوهرها.
عندما مست مبدأ الملكية الفردية، أعني عندما ألغت أو خفّضت من قيمة وازع الامتلاء الذي يتصرف حسب مدرسة (بافلوف) الروسية (السوفييتية كان نعلم)، في الربع- على الأقل- مما أسميه بالطاقة الحيو ية Energie vitale الموزعة في إمكانيات الحيوان عامة والإنسان خاصة عندما حصل ذلك جاء هذا الأخير منتجاً أومستهلكاً على نسبة ما فيه من هذه الطاقة البيولوجية.
بينما الفتور- أو الشيخوخة الاجتماعية- متوقع في المجتمع (الاشتراكي) كما هو
(1/44)
________________________________________
شأن كل المجتمعات، وإذن سينكشف الضباب عن الحقيقة الاقتصادية الماركسية المجردة من جانبها العقيدي الذي يحقق نجاحها اليوم، فينتهي المجتمع الشيوعي الحديث، مثل المجتمعات الشيوعية السابقة كمجتمع القرامطة الذي انهار في ومضة بصر، بعد أن هدّد الدولة العباسية في عز قوتها، وكالمجتمع الذي سبقه بإيران قبل البعث الإسلامي.
فإذا كانت ظاهرة (الفتور) تصيب كل المجتمعات في عصر شيخوختها، فإنها تستعجل الشيخوخة في المجتمعات التي تفقد مسبقاً عوامل الاستقرار النفسي، ولا تستطيع الاستمرار إلا في حالة تغير متواصل وحركة ديناميكية مستمرة، مثل المجتمعات الشيوعية السابقة التي لم تستقر أوضاعها إلا في فترة نشوئها وتشييدها.
لذلك لا نرى اختيار المسلم- على أساس مسلمته- إلا محدوداً في الاتجاهين كليهما بعوامل بعضها فني وأخلاقي وبعضها فني ونفسي وعقائدي.
وفي الاتجاهين كليهما نراه في محاولة تركيب روح إسلامية على جسم أجني يرفضها وترفضه؛ لأنه حتى في تجربته (الاشتراكية) المطبقة في بعض البلدان العربية، فهو يحاول تسخير جسم مفصول عن (روحه الشيوعي). ولا يضير المسؤولين العرب الذين يطبقون هذه التجربة في بلادهم، إذا لم يقدر لها النجاح الذي حققته في بلدان أخرى، مثل ألبانيا ورومانيا التي انطلقت من المنطلق نفسه.
فللمجتد أصاب أوأخطأ، أجر بحسن نيته، ولا أحد يشك في حسن نية من حاول تطبيق خطة (اشتراكية) في البلاد العربية. خصوصاً إذا عددنا- في حالة الخطأ- أنه ليس من رجال السياسة، ولا من رجال الفقه، وإنما هو في جوهر الاختيار على أساس مسلمة كان من واجب صاحب الاختصاص الاقتصادي ألا يسلم بها في منطلق تفكيره، ولعلّه يجدر القول هنا، إن من العوامل التي
(1/45)
________________________________________
عطلت نمو الفكر الاقتصادي في العالم الإسلامي ما نراه من طرف بعض علماء الدين من تشدد في الاعتراض على الاجتهاد الاقتصادي، اعتراضاً يُجمّده أحياناً منذ المنطلق.
ولا شك في أن هذا الاعتراض يحدث غالباً حرصاً على ***** الدين، ولكننا وجدنا أحياناً لهذا الحرص صوراً لا تتسم بالحكمة، عندما يطغى الاعتراض طغياناً يصل إلى درجة التعطيل، فيسأل مثلاً من يقوم بدراسة في الاقتصاد. هل يلتزم فيما يكتب النظرة الفقهية، لا بالنسبة للكليات فحسب، بل بالنسبة لكل تفصيل سيواجه النظرية في المستقبل، كأنما صاحب النظرية ليس مطالباً بالبحث عن أصول تنتج التخلص من التخلف، بل مطالب أيضاً بكل التفاصيل التي قد تنشأ في الطريق كأنه يدعي علم كل شيء.
بينما واقع العالم الإسلامي يفرض على من يتصدى لمحاولة فقهية أن يحدد موقفه على أساس الاهتمام بشروط الانطلاق Décollage أكثر من شروط الاستمرار، حتى إذا كانت ضرورية لمراجعة الأشياء، بعد أن يتحقق الانطلاق، إذا ما اقتضت المرحلة الأولى تعطيل بعض التصرفات الفردية من أجل نجاة أصحاب السفينة.
فاليوم يجب سواء على الفقهاء أو على أصحاب الاختصاص تقدير مسؤولياتهم، على أساس أن القضية المطروحة ليست قضية تحقيق استمرار الحياة الاقتصادية، بل هي قضية دفع العجلة من أجل إنقاذ السفينة وأهلها، ولو تعطلت من أجل ذلك بعض المصالح الفردية.
***
(1/46)
________________________________________
الجزءُ الثّاني
صورة المشكلات
خريطة توزيع الإمكانات الاقتصادية في العالم
حدود التفسير الاقتصادي البحت لتوزيع الإمكانات
الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد
(1/47)
________________________________________
(1/48)
________________________________________
خريطة توزيع الإمكانات الاقتصادية في العالم
إن الأقدار لم تظلم أحداً، وإنما تقوم الأمور على سنن لا تغيير لها، تربط المسبَّبات بأسبابها، سنة الله في خلقه، ولغيرنا أن يسميها القوانين، فلا يضيرنا.
إلا أن موقفنا الفكري قد ينحرف تجاهها إما بطريقة أو بأخرى، عندما نقف منها الموقف *****ي ( Attitude magique) الذي يهدف إلى تعطيل تلك السنن أو القوانين، أو عندما تكون على فكرنا غشاوة، تجعله يربط الأشياء بغير أسبابها.
فمن يعتقد أنه يعطل الأسباب يبوء بالفشل على حد سواء هو ومن يخطئ في ترتيبها الطبيعي في اطراد جدلي لا يسمح بوضع النتيجة قبل سببها، كما لا يسمح بوضع المحراث قبل الثور.
إن هذه الاعتبارات تتطرق إلى ذهننا، عندما نتابع بالتبصر والتحليل ما يدور في الفكر الإسلامي تجاه عالم الاقتصاد الذي نراه: إما ينغمس في الغموض *****ي كأنه معطِّل للأسباب، أو نراه يربط النتائج- كاليسر المادي في حياة الفرد والضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها في مجتمع متقدم- بأسباب قد تبدو لنا- في النظرة الأولى- صحيحة، ثم نتبين عدم جدواها في عملية تطبيق نقوم بها نحن أو يقوم بها غيرنا، فتفشل لأنها قعّدت الأشياء على أسباب سطحية.
فلو سألنا أنفسنا عن كيفية توزيع متوسط الدخل السنوي في العالم، ونحن نعلم قيمة هذا المفهوم الاقتصادي بوصفه دلالة على درجة التقدم في بلدٍ ما، ماذا سيكون جوابنا عادة؟
(1/49)
________________________________________
إننا قد نتناول الإحصائية لمتوسط الدخل التي تصدرها هيئة الأمم كل سنة، ونتلو الأرقام التي تتضمنها، ومن بينها على سبيل المثال الرقمان الخاصان بالولايات المتحدة أي 3020 دولار وبالكويت أي 3400 دولار (1).
إنني لا أرى بمجرد ذكرهما هكذا، دلالة واضحة على أوضاع البلدين سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية، على حد سواء.
إذن علينا: إذا أردنا أن نستفيد في موضوعنا من إحصائية متوسط الدخل السنوي الفردي، علينا أن نتناولها بطريقة أخرى.
إنها تتضمن قرابة مئة وخمسين رقماً، على عدد البلدان المنتظمة في هيئة الأمم المتحدة، فلو رسمنا كل رقم منها على علم صغير ورشقنا كل علم في مكان العاصمة للبلاد التي يخصها الرقم، نكون قد صورنا على الخريطة، على طريقة هيئة أركان الحرب التي تستعمل أعلاماً صغيرة ملونة مرشوقة على طول الجبهة على الخريطة، حتى يتيسر لها متابعة ومراقبة الحركات العسكرية المتقابلة، ونكون بدورنا قد صورنا على الخريطة الصورة التي ستعطينا فكرة عن كيفية توزيع متوسط الدخل الفردي السنوي، في العالم، وربما أوضحت للناس هذا التوزيع.
إنني أترك جانباً رقم الكويت الذي ذكرناه (3400) لأسباب أشرحها فيما بعد.
فالإحصائية تبتدئ إذن برقم 3020 دولار للولايات المتحدة، وتنتهي برقم 70 دولاراً لإندونيسيا.
وعلينا إذن أن نرشق المئة والخمسين علما في عواصم العالم، فإذا تمت هذه
__________
(1) أتناول هذه الأرقام من إحصائية سنة 1967 لأنها تحت يدي، والإحصائيات التالية قد تغير الأرقام بعض التغيير، دون أن تغير دلالتها العامة.
(1/50)
________________________________________
العملية، فإننا سوف نفاجأ بأمر هو أنَّ الأرقام أو الأعلام، لم تتوزع بطريقة عفوية فوضوية على الخريطة أو على الترتيب الأبجدي، لأنه قد يكون الرقم (جـ) بجانب الرقم (جـ) الذي هو بجانبه فعلاً في الإحصائية وقد جاءت مرتبة بطبيعة الحال ترتيباً أبجدياً حسب أسماء البلدان، ولكنه سوف يكون على العكس في الخريطة بجانب حرف آخر ربما يكون حرف (ي) أو غيره، على ترتيب لا صلة له بحروف الأبجدية.
فإذا وزعنا المئة والخمسين علماً هكذا، أي المئة والخمسين رقماً، نجد أنها ترتبت ترتيباً آخر، فمجموعها يصوّر لنا توزيعها على الخريطة على شكل قارتين يفصلهما خط عرض 30° تقريباً، وذلك عند رقم 520 $، أي متوسط الدخل الفردي السنوي الذي يعد عتبة نصعد منها إلى القارة الشمالية، أي إلى البلدان التي لديها إمكان تقديم كل الضمانات الاجتماعية لسكانها، أو ننزل منها إلى قارة الجنوب حيث البلدان التي لا تستطيع، في المرحلة الراهنة، أن تتكفل الضمانات الاجتماعية لسكانها.
فإذا اعتمدنا هذه الخريطة، فقد يتطرق إلى أذهاننا بعض الحالات الشاذة، توهمنا في طبيعة الظاهرة التي نحاول جلاءها في هذا الفصل، خصوصاً لدى من يهوى تعطيل القاعدة بسبب وجود حالة شذوذ. وما أكثر هؤلاء الهواة في البلاد الإسلامية والعربية على وجه الخصوص!
إننا طرحنا جانباً متوسط الدخل الفردي السنوي في الكويت، بينما يأتي رقمه، أي 3400 دولار، على رأس الإحصائية التي تناولها تحليلنا في هذا الفصل. لذا يجب الآن أن نقدم بعض التفسير لموقفنا هذا الموقف، فنقول إن متوسط الدخل في الولايات المتحدة 3020 دولار لا يخضع لشروط خارجة عن الأرض التي تتمتع به، ولا عن سياستها ولا عن ثقافتها، ولا عن كل الظروف القاسية مثل حرب عالمية كل صلاتها مع الخارج، فإنها لا تفقد بذلك سوى 5% من إمكانياتها
(1/51)
________________________________________
الاقتصادية، هذا على تقدير أنها لا تتلافى مثل هذا الخطر بتعديل تستطيعه بكل سهولة، في عمليتي إنتاجها وتوزيعها.
بينما كل الموارد التي يتكون منها متوسط الدخل الفردي في الكويت هو تحت رحمة يد أو أيد في الخارج تستطيع، في كل حين، أن تغلق أو تفتح صنابير البترول أكثر أو أقل.
وقصة البطل الإيراني مصدق، ليست بعيدة عن أذهاننا، لتصور ما تستطيع أن تفعله في الكويت، الأيدي التي حطمته سنة 1953 في طهران.
ثم قد يلاحظ علينا هواة الحالات الشاذة: أننا لم نحدد مكان أوستراليا ونيوزيلاندة في خريطة التوزيع.
فنلاحظ بدورنا أننا لا نقدم هنا درساً في الجغرافيا، وإنما نقدم عرضاً عن قضية اقتصادية، نرى فيه أن مكان أوستراليا ونيوزيلاندة ليس في القارة الاقتصادية الجنوبية بل في القارة الشمالية، مستندين في ذلك على كل الأسباب التاريخية الثقافية والعنصرية التي تربط هذين البلدين بأوربا وأمريكا.
ولو خصصنا نظرتنا في الموضوع إلى أهالي البلدين الأصليين ( Natives) لربطناهما بالقارة الجنوبية بطبيعة الحال.
***
(1/52)
________________________________________
خريطة
توزيع متوسط الدخل السنوي الفردي في العالم
طبقاً لإحصائية الأمم المتحدة لسنة 1967

متوسط الدخل
في الولايات المتحدة
3020$
•طوكيو •موسكو •برلين •روما •باريس •لندن •واشنطن
القارة الاقتصادية الشمالية
------------------ خط عرض 30° ------------------
520$
في اليونان
•كابول •جاكرتا •طهران •بغداد •دمشق •القاهرة •طنجة

70$
في أند ونيسيا
(1/53)
________________________________________
حدود التفسير الاقتصادي البحت لتوزيع الإمكانات
إنه لجدير بنا أن نتأمل الخريطة التي قدمناها في الفصل السابق، ونتساءل عن سبب التوزيع الغريب الذي نجد صورته في شكل قارتين.
ومن طبيعة الحال أن يأتي جوابنا إذا تسرعنا على أساس تقدير الأشياء من الزاوية الاقتصادية البحتة، قد نقول: إن السبب في ذلك يعود إلى وجود الصناعة في القطاع الشمالي من الكرة الأرضية وفقدانها في الجنوب.
فهذا الجواب وجيه إلى حد ما، وتترتب عليه النتيجة النظرية التي تخللت كل الدراسات التي استهدفت النهوض بالجنوب، وكل المخططات السياسية التي طبقت من أجل ذلك في العالم الثالث، بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن.
ولكن الإحصائية التي تناولناها في الفصل السابق تدل دلالة واضحة أنه لم يتغير شيء نسبياً في صورة توزيع الإمكانيات المادية في العالم، على الرغم مما بذلته، في تلك الفترة، البلدان المتخلفة من أجل نهضتها الاقتصادية.
بل يلاحظ بعض المراقبين للشؤون الاقتصادية في البلدان المتخلفة أنها قد ازدادت تخلفاً، في الفترة نفسها، وأن البلدان المتقدمة ازدادت تقدماً، دون أن يشذ على هذه الظاهرة إلا الصين.
إذن يجب علينا أن نعيد النظر في القضية سواء بالنسبة للبلاد المتقدمة أو البلاد المتخلفة، وأن نستفيد من التجارب الأخيرة في العالم، التي تعطي وجوه، لموازنة سليمة بين بلد إسلامي مثل إندونيسيا في الجنوب، وبلد آخر في الشمال مثل ألمانيا، إذ نرى البلدين يشرعان في النهوض الاقتصادي، من نقطة انطلاق
(1/54)
________________________________________
نراها أسوأ بالنسبة لألمانيا إذا ما قدرنا أنها تنطلق من نقطة الصفر، فاقدة كل وسائل الإنتاج الصناعي التي حطمتها الحرب؛ وما تبقّى منها إلى يوم 8 أيار (مايو) 1945، نرى الحلفاء يفككونه وينقلونه خارج البلاد، طبقاً لاتفاقية (بوتسدام)، فبقيت ألمانيا فاقدة كل وسيلة إنتاج صناعي، بل فاقدة سيادتها أيضاً ومضطرة أن تعيش على أرض فقيرة من الناحية الفلاحية، ترزح تحت أكبر احتلال عسكري في التاريخ.
بينها نرى إندونيسيا في الفترة نفسها تستعيد سيادتها الكاملة، حرة في كل تصرفاتها الداخلية والخارجية، وتشرع في تطبيق مخطط أجدر خبير هو الدكتور (شاخت)، الذي وضع لها خطة تنمية قائمة أساساً على موارد أخصب بلاد الله على وجه الأرض.
إن نتيجة الانطلاقتين والموازنة بينهما، ستكون واضحة في برهة وجيزة من الزمن، إذ سنرى:
1) ألمانيا لا تستعيد مركزها الاقتصادي في العالم فحسب، بل تضيف إليه مكتسبات جديدة، تجعلها من الدول الرائدة اقتصادياً، وتضع عملتها في مصف العملات الصعبة التي ينتظر منها أحياناً نجدة الدولار، عندما يفقد النفس في السوق العالمية.
2) بينما تخرج إندونيسيا من تجربتها في تطبيق مخطط (شاخت)، ليس فحسب من دون أي حصيلة في الميدان الاقتصادي، بل متورطة نفسياً في الشعور بالهزيمة أمام واقع مرير.
فهذه الموازنة الجزئية تجعلنا، إذا ما أردنا أن نقرر شيئاً، أن نقرر عن جدارة أن فقدان الصناعة لا يفسر كل شيء في عالم الاقتصاد.
ويبدو إذن منذ الآن أن التفسير الاقتصادي وحده، لا يفسر الظاهرة التي
(1/55)
________________________________________
انطلقنا منها في الفصل السابق، ومن هنا نبدأ ندرك أن حدود هذا التفسير وحده ضيقة جداً، كما سنزيد في توضيح ذلك. فإذا عدنا للسؤال الذي أوردناه في صدر هذا الفصل، نجد أننا قد قدمنا له ما يسمى (جواب البديهة) أي الجواب الذي قلما يصيب وكثيراً ما يخطئ في المجال العلمي، ولكنه أعطانا فرصة التنقيب في تجربتين متعاصرتين ومعاصرتين لنا.
ويبقى السؤال مطروحاً بصدد كيفية توزيع الإمكانيات الاقتصادية في العالم، لماذا وعلى أي أساس يقوم ذلك التوزيع؟
إن جوابنا بـ (التصنيع) لم يقنعنا، لأن سؤالاً آخر يبقى بعده: لماذا انطلق العهد الصناعي في القارة الشمالية منذ بدايته، أي منذ اكتشاف الطاقة البخارية؟
إن ظاهرة البخار تحت الضغط صاحبت تاريخ الإنسانية منذ اكتشاف الآدميين للنار، دون أن يلتفت أحد منهم إلى إمكان استخدام هذه الظاهرة مصدراً للطاقة حتى أتى عصر (دنيس بابان Denis Papin) و (واط Watt) اللذين سخرا تلك الطاقة الهائلة التي دفعت الإنسان في العهد الصناعي.
إن أحداً لا يتصور حدوث هذا الاكتشاف فقط في حدود عقل إنسان اسمه (دنيس بابان) أو (واط)، وإنما وقع بسبب تغيير جدري حدث في المناخ العقلي الأوربي كافة، منذ ما يسمى بـ (النهضة) وخصوصاً منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، أي مباشرة بعد اكتشاف أمريكا وآلة الطباعة.
وإذا كان (ديكارت) في القرن السابع عشر، أو من ترجم هذا التغيير الشامل في المناخ العقلي الأوربي إلى منهج تفكير، فلأنه ولد في هذا المناخ وترعرع فيه، وتأمل فيه فكان من الطبيعي أن تأتي نتيجة تأملاته في كتابه (مقال عن المنهج) كما أتت، في تلك العبارات التي تعلن المنعطف الجديد الذي اتخذه الفكر الأوربي.
(1/56)
________________________________________
يقول (ديكارت) مما يقول في (مقال ... ):
" إنه لمن الممكن الوصول إلى معرفة تطبق تطبيقاً نافعاً في الحياة، فتترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستسية، وتعلم فلسفة تقبل التطبيق، وتتيح لنا، بعد معرفة تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية، وكل الأجرام التي تحيطنا، أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة، لنتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها".
إن هذه الكلمات ليست إلا عصارة المناخ العقلي الجديد يعصرها رجل عبقري، ما كان يصفيها قبل أوانها في التطور العالمي الشامل، أحد غيره، وما كان أيضاً لأحد قبل (دنيس بابان) و (واط)، أن يستخرج منها نتائجها التطبيقية، مثل الطاقة البخارية وما استتبعت في عالم الاقتصاد حتى عهد التوزيع لمتوسط الدخل الفردي السنوي، على الشكل الذي قدمنا صورته في الفصل السابق.
وإذن فالتفسير الاقتصادي للأوضاع الموجودة في العالم، من تقدم وتخلف، لا يعطينا فكرة صحيحة عن كيفية معالجة التخلف، لأنه يربط الأشياء بأسباب قاصرة، لا يمكن لتجربة ناجحة أن تقوم على أساسها، لا في إندونيسيا ولا في غيرها من البلاد الإسلامية.
ومن هنا يتضح لنا، كم يجدر بمن يتصدى لقضية التخلف في العالم الإسلامي ألا يطرحها ضمن نطاق اقتصادي يضيق غالباً عن تقديم الطريق الأيسر لحلّها، خصوصاً إذا اقترنت النظرة الاقتصادية بانتظار المال من الخارج، حتى إذا أتى يكون غالباً ورطة سياسية، وإن لم يأت يكن بمثابة معطل لقيام النهضة.
بل يحسن بمن يهتم بهذه القضية أن ينظر فيها النظرة الشاملة، حتى ترتبط الأشياء الاقتصادية بجذورها الاجتماعية الثقافية البعيدة، على الأقل في أذهان
(1/57)
________________________________________
أصحاب الاختصاص كي تشمل نظرتهم في التصنيع، الذي لابد منه، فكرة واضحة عن القيم الإنسانية الضرورية لنجاح المشروع.
فإذا فكرنا، على سبيل المثال، فيما يسمى (تغطية) المشروع ( Amortissement) ندرك مباشرة عن طريق الأرقام أن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان.
ويمكن القول بقدر ما استفدنا من تجارب العالم الثالث في العقود الأخيرة، إن إهمال أو تجاهل قضية الإنسان هي من الأمور التي أفقدت هذه التجارب الشرط الأساسي لنجاحها مثل ما حدث لمخطط (شاخت) بإندونيسيا.
***
(1/58)
________________________________________
الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد
إن التغيرات التي نشاهد نتائجها بعد مدة طويلة في عالم الاقتصاد، أحياناً، هي في جوهرها تغيرات حضارية تعتري القيم والأذواق والأخلاق في منعطفات التاريخ، فتتغير معالم الحياة بتحول الإنسان نفسه في إرادته واتجاهه عندما يدرك معنى جديداً لوجوده في الكون.
وهذا التحول لا يؤثر في عالم الأشياء، ولا في المعقولات التي يتضمنها عالم الأفكار بوصفه أنماطاً تطبيقية ( Modalités opératoires)، أي لا يؤثر في عالم الاقتصاد بنوعيه- الشيء المصنوع والفكرة الدالة على طريقة صنعه- ما لم يؤثر في محتوى النفوس ذاتها، طبقاً للآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 13/ 11].
ولو تدبر أهل الاختصاص في الاقتصاد من المسلمين هذه الآية، أدركوا أنها تضع هذه القضية وغيرها مما يخص أوضاع المجتمعات أولاً في مستوى تغير مسوّغات الوجود في المجال النفسي، وفي كلمة واحدة وبصورة أوضح في المستوى الحضاري.
ولو تدبروا أيضاً بعض الدراسات المتعمقة في البحث عن جذور الاقتصاد، لوصلوا إلى النتيجة النظرية نفسها، أي أن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصانع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات.
إن دراسة من هذا النوع تفيد قطعاً في تطعيم بعض الأفكار الاقتصادية، إن
(1/59)
________________________________________
لم يكن في تعديلها، حتى تكون في الحالتين كلتيهما أقرب من واقع الإنسان الذي نحاول تدعيمه أو تغييره في المجال الاقتصادي، حسب الظروف.
إن مصادفة سعيدة، جعلت تحت يدي، وأنا أحرر هذا الفصل دراسة لـ (جون نيف J. nef) ألفها محاضرات ثم نشرها في كتاب تحت عنوان (الأسس الثقافية للحضارة الصناعية).
إن هذا الأستاذ تناول موضوع الاقتصاد من جذوره، فتراه يعالج في صلب موضوعه قضايا، ربما لا يتفق كثير من أصحاب الاختصاص في بلادنا، بأن لها اتصالاً وثيقاً بموضوع الاقتصاد، لأنه سبق في أذهاننا أنه موضوع (الكم) والإحصائيات، فتراه مثلاً يعقد فصله الأول لـ (حركات الفكر) بين 1570 - 1660، ويعقد فصلاً آخر لـ (الإصلاح الديني ... ).
ولكنني لست بصدد تعريف المسلم المتورط في عالم الاقتصاد، كيف نشأ هذا الاقتصاد على أسس حضارة غيره. بل أحاول أن أدله على طريق لحل أزمته الراهنة. على الأقل في المجال الفكري، لتكون له بعد ذلك الخيرة بين أفكار واضحة.
إن الدارس الغربي مثل (جون نيف)، يدرس الأشياء من الناحية الوصفية كما هي، لأنها واقع شاخص أمام عينيه، وكل أسباب هذا الواقع سابقة في التاريخ عن جيله، فيكفيني أن يصف الأشياء بصدق، أي أن يحللها بدقة، ليفيدنا بقدر توفيقه في الوصف والتحليل.
ولكننا نواجه القضية من زاوية أخرى، يضطرنا لذلك واقعنا الخاص، أي يجب علينا أن نواجه هذا الواقع لا بأسلوب من يصف شيئاً موجوداً، بل بأسلوب من ينشئ شيئاً مفقوداً، أو يحاول إنشاءه طبقاً لأسباب ما زالت فاقدة التأثير في مجتمعنا.
(1/60)
________________________________________
إن الاقتصاد- مهما كانت توعيته المذهبية- هو تجسيم لحضارة، على شرط أن نحددها بصفتها مجموعة الشروط المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يقدم جميع الضمانات الاجتماعية لكل فرد يعيش فيه.
فهذا التحديد الوظيفي يجعلنا نرى في الحضارة جانبين: الجانب الذي يتضمن شروطها المعنوية، في صورة إرادة تحرك المجتمع نحو تحديد مهماته الاجتماعية والاضطلاع بها، والجانب الذي يتضمن شروطها المادية، في صورة إمكان، أي أنه يضع تحت تصرف المجتمع الوسائل الضرورية للقيام بمهماته، أي بالوظيفة الحضارية.
فالحضارة هي هذه الإرادة وهذا الإمكان. وبهذا نستطيع الآن التعبير عن الاقتصاد على أنه الصورة المحَسّة، لهذه الإرادة ولهذا الإمكان، في ميدان خاص هو ميدان الاقتصاد.
كما نستطيع أيضاً تقديم متوسط الدخل الفردي السنوي، الذي أعطانا مدخلاً لهذا البحث، على أنه مجرد تعبير عن الإمكان الحضاري، أو على الضمانات الاجتماعية بطريقة الأرقام.
وهنا يجدر بنا الوقوف عند العلاقة النسبية بين الإرادة الحضارية والإمكان الحضاري في الظروف الموضوعية، أي في الظروف الواقعية التي تواجه مجتمعاً منذ نقطة الانطلاق، أو في الحالات الشاذة التي تشبه نقطة انطلاق.
فلدينا تجربتان، الواحدة في تاريخ الأمة الإسلامية العربية، والأخرى في تاريخ أمة معاصرة هي ألمانيا.
فالأمة العربية في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - انطلقت من نقطة الصفر من حيث الإمكان، لم يكن لديها شيء للاضطلاع بمهماتها الجسيمة، في المجال الاجتماعي والسياسي والعسكري، على حد سواء.
(1/61)
________________________________________
ولكننا نراها، ولا أحد ينكر هذا، تقوم بهذه المهمات دون إهمال ولا إرجاء حتى يكتمل إمكانها، نراها منذ اللحظة الأولى، وبالإمكان البسيط الذي بيدها في تلك اللحظة، وكأنها قادرة على كل شيء، وإذا بها تنفذ فعلاً كل خططها في كل المجالات، كأنما معامل ضرب Coefficient تدخّل في فعالية وسائلها البسيطة، فجعلها كافية لإنجاز المهمات من ناحية وجعلها تكتمل في آن واحد من ناحية أخرى.
يجدر بنا إذن، أن نقف عند هذا المعامل المضاعف، بوصفه شيئاً أساسياً في سر عمليات الإنجاز، فلا تتوقف هذه العمليات على شروط مادية مفرطة، كأنما تخلص إنجازها من شرط الإمكان.
نرى هذه الظاهرة أيضاً في عالمنا الحديث، فنرى دولة محطمة مثل ألمانيا تعيد بناءها من نقطة الصفر، أي بلا إمكان يعد بالنسبة إلى ما أنجز فعلاً.
وهنا أيضا نرى تدخل معامل مضاعف للإمكان، جعله منذ اللحظة الأولى في مستوى المهمات المنجزة. فهذا المعامل المضاعف هو الإرادة الحضارية بالذات، حتى إنه لو فقد في نشاط مجتمع، نراه وكأنما تجمدت وسائله مهما كان كلّها، وكأنما تعطل إمكانه مهما كان حجمه المادي.
فالعلاقة النسبية بين الإمكان الحضاري والإرادة الحضارية علاقة سببية، تضع (الإرادة) في رتبة السبب بالنسبة للإمكان.
ولو عدنا إلى عالم الاقتصاد بهذه الاعتبارات، فإننا لا نراه عالم الكميات وعالم الأرقام إلا في الرتبة الثانية، أي بعدما تبعث فيه الإرادة الحضارية الحركة والحياة.
وإنما تتدخل الكميات والأرقام عندما تنطلق عمليات الإنجاز، ويتطلب إنجازها إشرافاً وتنظيما ورقابة، أي بقدر ما يكتمل الإمكان.
(1/62)
________________________________________
ولكن هذا الإشراف والتنظيم والرقابة، مع اعتبارها شروطاً ضرورية بقدر ما يتضخم الإمكان، لا تحقق على أية حال النجاح المضمون للاقتصاد إن افتقد إلى عامل نفسي أو روحي ينهض به على أنه التجسيم لإرادة حضارية.
ومن هنا تبدو لنا أهمية كتاب (جون نيف) في خاتمته، حيث يقول:
" إن اقتصاد الوفرة الذي يقاس بالكميات، والذي بدأ يسود خلال القرن التاسع عشر، في أجزاء من أوربا؛ الامبراطورية البريطانية وأمريكا، لم يكن، كما يعتقد علماء العصر الحديث عامة، السببَ الأساسي للتقدم الروحي والأدبي الذي حصل في الأزمنة الحديثة، إذ يبدو أن التقدم الروحي والأدبي الذي بدأ أثناء احتدام الحروب الدينية كان عاملاً رئيسياً في نشوء اقتصاد الوفرة هذا، إذ كان يتعذر حصول مثل هذا التقدم لولا المساعدة الإلهية التي منحت للروح، لكن كان لا بد لإرادة الإنسان، هذه الإرادة الحرة، من أن تطلب هذه المساعدة، وأن تجندها طوعا لمواجهة المسائل في تلك الميادين من التجربة الدنيوية- أي ميادين الدين والفن والأخلاق- التي أثبتت الأساليب العلمية الجديدة عجزها فيها. وسعى أجدادنا إبان الثورة العلمية التي بدأت عند ملتقى القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى الوصول بالإنسان كله إلى الكمال، لا إلى مجرد تحسين معرفته عن العالمين المادي والحياتي، ولو أن هؤلاء الأجداد ركزوا جهودهم بلا استثناء على تلك الجوانب من الطبيعة البشرية التي تقع في مجال التفكير العلمي والاقتصادي الجديد، لوجدت الأجيال التي ولدت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أمر تأسيس اقتصاد الوفرة ( ... ) أصعب حتى مما كان قد حدث بالفعل ... ".
إنني تعمدت اقتطاف هذا المقطع من خاتمة كتاب (جون نيف)، لأنه يدل بأوضح ما يمكن التعبير به على الجذور البعيدة لا يسميه اقتصاد الوفرة، دون أن نبيح لأنفسنا سوى تعديل بسيط في المصطلحات لمراعاة وحدة البحث.
(1/63)
________________________________________
فما يسميه (إرادة الإنسان) ينبغي ضبطه بالتاريخ، أي بالقرن السادس عشر والسابع عشر، أي هي (إرادة الحضارة) الجديدة في منطلقها.
وما يسميه (اقتصاد الوفرة) ما هو سوى (الاقتصاد) الذي يستند على (إمكان) يكتمل بفضل الوسائل الجديدة التي تهيأت لاكتشافها السبل، منذ العصور السابقة عن الحضارة الأوربية.
ومهما يكن فإننا نرى كيف يرتبط عالم الاقتصاد بالقيم الحضارية ارتباطاً لا يمكن معه أن نتصور نجاح خطة اقتصادية، تقتنع بأرقام وإحصائيات وأدوات مادية، إن لم يكن إنجازها آخذاً في الاعتبار قيمة الإنسان ذاته في رتبة القيمة الاقتصادية الأولى، على شرط أن تكون إرادته شرارة مقتبسة من (إرادة حضارية).
***
(1/64)
________________________________________
الجزءُ الثّالِثُ
شروط الانطلاق
دور المال في اختزان العمل
الاستثمار المالي والاستثمار الاجتماعي
تحقيق الديناميكا الاقصادية على أساس مبدئي
الأساس الأخلاقي لعمليتي الإنتاج والتوزيع
المعادلة البيولوجية والمعادلة الاجتماعية للفرد في التجارب الحديثة
ضرورة الاكتفاء الذاتي والتطور من الاقصاد الوطني إلى اقتصاد جهوي لتحقيق الاكتفاء
(1/65)
________________________________________
(1/66)
________________________________________
دور المال في اختزان العمل
إننا منذ الخطوة الأولى نقرن، في أذهاننا أو في مشروعاتنا، قضية العمل بقضية المال، فقد أصبح العمل مقيداً بشروط مالية لا ينطلق بدونها حتى في البلاد الشيوعية الكلاسيكية، حيث لم تتغير هذه الشروط إلا في ملكية المال لا في دوره أساساً.
تحولت فعلاً ملكية المال في هذه البلاد الشيوعية من الأيدي الخاصة أو المصرف إلى يد واحدة يد الدولة، ومن المصرف إلى الخزينة.
ويكفي الزائر لموسكو، على سبيل المثال، أن يرى تلك الدكاكين الخاصة، فيستطيع شراء ما يريد بأثمان محددة ولكن بالعملة الصعبة، ولا يستطيع المواطن ذلك بالعملة المحلية.
إننا لا نرى أن العمل تخلص، على هذه الصورة من القيود المالية، ولا تخلصت منها الأذهان أيضاً. فلا يزال المال مهيهناً على تسخير العمل، مع بعض التخفيف في درجة القيود عندما ننتقل من البلاد الرأسمالية الصريحة، إلى بلد شيوعي كلاسيكي، حيث يصبح المال وكأنه يخفي دوره أو لا يخفيه كما هي الحال في يوغوسلافيا ورومانيا.
ربما كان ينتظر من هذه البلاد أن تقوم هي بتصفية أخطر مسلمة، في الاقتصاد تصفية كاملة، فقد تخلص العمل من كل الشروط الثانوية.
ولكن هذه التصفية لم تقع إلى الآن، لا في المجال الثقافي ولا في المجال الاقتصادي البحت.
(1/67)
________________________________________
فقضية المال بالنسبة للعمل لا زالت قائمة حتى في البلاد الشيوعية، لأن المال له روابط وعلاقات قرابة عالية، كأخطبوط مدّ أذرعه على الكرة الأرضية، فلا يكفي أن تقطع له ذراعاً قبل أن تقطع رأسه.
وهذه القضية نشأت منذ نشأ في العالم، أي منذ زمن بعيد جداً، اقتصاد التبادل بمقتضى التطورات التي حدثت في غرّة العهد التاريخي وقضت على الاقتصاد المنزلي، فقد كان الناس يكونون وحدات إنتاجية صغيرة autarcies domestiques مستقلة مكتفية في كل بيت، لأن الاستهلاك لم يكن يشمل إلا الحاجات الضرورية لكل أسرة من قوت وملبس.
وعندما تنوعت الحاجات وتكاثرت بمقدار التطور وتكاثف السكان في أماكن معينة من قرى ومدن، أصبح من الضروري توزيع العمل على أيد مختصة تعمل خارج البيوت، في ورشات مجهزة تجهيزاً خاصاً لإنتاجها.
هكذا ظهر اقتصاد التبادل الذي أصبح يضمّ عمليتي الإنتاج والتوزيع على نطاق أوسع من البيت، ثم أوسع من القرية، ثم أوسع من المدينة والوطن.
وبقدر ما اتسعت رقعة التبادل هكذا، أصبح التفكير في إيجاد عامل تيسير للتبادل أمراً طبيعياً.
وهكذا تقرر اختيار الذهب والفضة (العملة الصعبة في ذلك الوقت) ليقوما بدور تيسير المعاملات، وفي الحقيقة نشأ (المال) ليقوم بدورين:
فالدور الأول لم يتفرع عن عملية التوزيع، بل عن عملية الإنتاج؛ فالمنتج الذي كان يكتفي بجزء من عمله لسد حاجاته اليومية، وهو يعمل كل يومه، كان من الضروري بالنسبة له أن يفكر في وسيلة اختزان (توفير كما نقول اليوم) للجزء الباقي من عمله، حتى يستطيع رده على حاجات أخرى، أو على أيامه الأخرى إن كان توقف عمله بسبب مرض مثلاً.
(1/68)
________________________________________
فـ (المال) مهما كان نوعه ذهباً أو فضة، كان الوسيلة لاختزان العمل حتى يعود لصاحبه في حاجات أخرى أو في أيام صعبة، تماماً كما تخزن الكهرباء فيما يسمى (المدخرات).
وهو بذلك يمثل فائض العمل عن حاجات البيت، أو عن مقتضيات إنتاج الورشات ( Artisans)، الفائض الذي يخزن بطبيعة الحال في خزان يرده لصاحبه أو أصحابه إذا اقتضى الحال؛ فكان الذهب يتعين عليه أن يقوم بهذا الدور.
ولكن التطورات في المجال الاقتصادي لم تقف عند هذا الحد، بل تبين في ظروف معينة مثل الحروب، أن هذا الفائض للعمل المختزن في الذهب، قد يتعرض للضياع.
فنشأت فكرة تجميع هذه الكميات من الذهب، في خزانات أو خزائن من نوع جديد هي المصرف، تتخذ لها الاحتياطات الضرورية للحفاظ على الودائع التي توضع تحت ضمانها، من بينها توزيع هذه الودائع بين الأيدي المختلفة لتستعملها في جو من الإنتاج، في المكان نفسه أو في أماكن غيره.
وبقدر ما تراكمت وتجمعت الأموال، في منشآت المصرف، تحول أولاً طابعها الاجتماعي، وأصبحت تمثل شيئًا جديداً هو (الرأسمال)، ثم تحولت طبيعة الصلة بين المال والعمل، فبعد أن كان مجرد خزان للعمل أصبح سجّاناً له، السجان الذي لا يعترف لسجينه بحق سوى العمل في مصلحته.
واليوم بعد أن تنوسي دور المال بوصفه مجرد خزينة يودع فيها فائض العمل، لتعيده لصاحبه عند الحاجة، أصبحت أذهاننا لا تستطيع أن تفكر في مشروع اقتصادي، دون أن تقعّده على شروط مالية، كأن العمل أصبح فعلاً سجيناً لا يتحرك إلا بإذن صاحب السجن أي الرأسمال.
وربما لا يضير هذا الوضع البلاد المتقدمة، لأنها صاحبة الرأسمال العالمي، فلا
(1/69)
________________________________________
يضرها أن تضع خططها الاقتصادية طبقاً لشروط مالية، لا تخالف مصلحتها، ولا سياستها ولا مبادئها في شيء.
كما لا يضيرها أيضاً أن تكون بلدان العالم الثالث تحذو حذوها في وضع خططها بالأسلوب نفسه، وهي تعلم أن هذه الخطط لا تنفذ إلا على شروط الرأسمال أي على شروط الدول الرأسمالية، ولن تخلو هذه الشروط من بعض الرواسب الاستعمارية، حتى في المشروعات التي تقدم تحت إشراف هيئة الأمم، مثل النقطة الرابعة التي قدمت بزعم النهوض بالبلاد المتخلفة اقتصادياً، ففشلت فشلاً ذريعاً، لأنها كانت تحتوي منذ البداية كل بذور الفشل.
أما أن تختار البلاد المتخلفة نفسها أسلوب التنمية الرأسمالي، فهو أمر أغرب، لأنها تكون كما لو قررت مبدئياً أن تضع عملها من أجل النهوض الاقتصادي، تحت رحمة الآخرين، في سجن المؤسسات المالية العالمية.
وإن بدأت بعض المجهودات، في المجال الفكري على الأقل، في البلاد المتقدمة من أجل تقديم (مشروع مرشال) جديد للبلاد المتخلفة (1)، فبعد ما نرحب بهاته الفكرة كخطوة تقدم في مجال التعاون الأولي، يجب أن نلاحظ أن نجاح مشروع كهذا ليس مشروطاً فقط بحجم المال الذي سيبذل من طرف الدول التي ستقدمه، بقدر ما سيكون مشروطاً بتحويله إلى وسيلة عمل بين الأيدي التي تحركها إرادة بقاء، كالتي حركت الشعب الألماني أيام أتاه مثل هذا المدد من أمريكا، بعد الحرب العالمية الثانية.
لم يكن هذا المدد السبب الرئيسي في نهضة ألمانيا، وإنما كان أحد المنشطات لعملها الجبار، في تلك التجربة الرائدة المعبرة عن إرادة حضارة، استطاع
__________
(1) يبدو هذا من خلال بعض الدراسات مثل التي نشرت بجريدة لوموند Le monde تحت عنوان (مشروع مرشال للعالم الثالث) لموريس جرنييه، عدد 2 أذار (مارس) 1972م.
(1/70)
________________________________________
بفضلها الشعب الألماني استعادة مكانه الذي يفرض وجوده في عالم الاقتصاد، بصورة تجعل المراقبين ينعتون هذه التجربة بـ (معجزة).
ويجدر بنا القول إن هذه التجربة ليست خاصة بـ (الدم الألماني) أي العرق كما كان يعتنقه (روزنبرج)، صاحب كتاب (الدم والذهب) في العهد الهتلري، بل هي معجزة تتكرر كلما تحرك النشاط البشري على أساس إرادة حضارية، كما تكررت فعلاً في أقصى البلاد الشرقية، تجربة اليابان الرائعة التي لم تعد هذه الدولة إلى مركزها الدولي قبل الحرب، بل أصبحت تحتل اليوم رتبة (الدولة الاقتصادية الثالثة) في العالم.
فـ (المعجزة) إذن لا تتوقف على حقنة مالية لأن اليابان لم يتلق أي حقنة من نوع (مشروع مرشال)، ولا تتوقف أيضاً المعجزة على العرق، لأننا ما نعلم أن الشعب الياباني من عرق آري.
فالقضية إذن، بالنسبة للعالم الإسلامي، ليست قضية إمكان مالي، ولكنها قضية تعبئة الطاقات الاجتماعية، أي الإنسان والتراب والوقت، في مشروع. تحركها إرادة حضارية لا تحجم أمام الصعوبات، ولا يأخذها الغرور في شبه تعالي على الوسائل البسيطة التي في حوزتنا منذ الآن، ولا ينتظر العمل بها حقنة من العملة الصعبة، ولا أي مشروع من نوع مرشال.
إن الصين الحديثة، صاحبة المعجزة الكبرى في هذا القرن، خرجت من العدم فتحوّلت معالمها، كما حولت، من أجل بناء سدودها وطرقها، المليارات من الأمتار المكعبة من التراب، لا بالآلات الحافرة والناقلة، المفقودة في بلد ينشأ، ولكن بفضل سواعد أبنائها وعلى أكتافهم. تحدوهم الأسطورة المعبرة عن طاقة الإنسان عندما تحركه إرادة حضارية، فتذكروا أو ذكروا أن جدهم (يوكنج) حوّل الجبال.
(1/71)
________________________________________
وإذا دلت هذه الأسطورة على شيء، فإنما تدل على استقلال العمل، استقلالاً مبدئياً بالنسبة إلى المال، الذي كثيراً ما يتحول من مجرد (مدخرة) لتخزين العمل، يتمرد عليه ويصبح سجانه فلا تعود فائدته على صاحبه، بل على صاحب السجن.
فإن كان هذا ما يعني ماركس بما يسميه (اغتراب العمل) ( Aliénation du Travail) فنحن نشاطره رأيه، بقدر ما يتفق مع التحليل الذي قدمناه عن الأزمة التي اغترب فيها الإنتاج عندما نشأ اقتصاد التبادل.
***
(1/72)
________________________________________
الاستثمار المالي والاستثمار الاجتماعي
لو دمرت مدينة كبرى مثل نيويورك، على أثر زلزال شديد، فإننا سوف نرى بكل تأكيد إعادة بنائها.
ولو سألنا أحد: هل الولايات المتحدة تستطيع ذلك؟ فلا نتردد في الجواب بنعم، دون أن نقدر في ذلك على أي أساس قررنا جوابنا، بينما لو تأملنا في السؤال المطروح حسب المقتضيات الاقتصادية التي يفرضها مشروع ضخم كإعادة بناء مدينة نيويورك لترددنا قليلاً وما تسرعنا في جواب يحتمل صورتين:
1) هل تستطيع الولايات المتحدة القيام بالمشروع الذي نعنيه بمجرد طاقتها المالية؟
2) أم تستطيع ذلك بفضل وسيلة أخرى؟
يجب للتوضيح أن نصوغ الاحتمال الأول صياغة أخرى تفيدنا أكثر من الناحية العملية.
فنقول:
- هل تستطيع أميركا شراء مدينة مثل نيويورك بكل محتوياتها الإسكانية، والصناعية والفنية لتعوض بها ماحطمه الزلزال؟
فالسؤال في هذه الصورة، يفرض علينا بعض التريث حتى لا نتورط في جواب لا يقره الواقع.
إن واقع الولايات المتحدة بالنسبة للقضية المطروحة، هو أن رصيدها
(1/73)
________________________________________
لا يتعدى منذ سنة 1969، عشرة مليارات دولار من الذهب، أي إن طاقتها المالية المقدرة بما لديها من ذهب، لا تفي بمبالغ المشروع ولا تغطيها، لأن تثمين مدينة نيويورك، مع محتوياتها الاجتماعية، سوف يكون فوق هذا الإمكان المالي مقدراً بالذهب.
ومن هنا يتبدى لأذهاننا أمران:
1) إن أميركا لا تستطيع بإمكانها المالي أن (تشتري) مدينة نيويورك.
2) بينما تستطيع بإمكانها الاجتماعي بناء أو إعادة بناء مئات مدن مثل نيويورك.
إننا نقرر الأمر الأول على أساس الأرقام التي قدمناها بخصوص الرصيد الذهبي الأمريكي، أما الأمر الثاني فإننا نقرره على أساس تجارب متنوعة، وبوجه خاص تجربة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
إن الشعب الألماني وجد نفسه بعد عام 1945، في وضع يجعله يعود إلى الحياة من دون أي سلطان مالي، أو لا يعود إن كان المال هو الوسيلة الوحيدة لإعادة بناء وطن كثيف الصناعة، قد دمرته الحرب تدميراً شاملاً.
وإذا بنا نراه قد عاد، وأعاد بناء كل مدنه المدمرة وصناعاته الضخمة وكل نشاطه الاقتصادي، وذلك بما تبقى لديه من وسائل بسيطة تمثل الإمكان الاجتماعي في الظروف العصيبة، أو ظروف الشر على حد سواء.
وعليه وعلى أساس تجربة واقعية، تجربة ألمانيا، أو على أساس تقديم الرصيد المالي الأمريكي بالنسبة إلى إمكان إعادة بناء مدينة نيويورك، فرضاً، نرى - بالأرقام أو بما رأينا في ألمانيا- أن الإمكان الاجتماعي هو الذي يقرر مصير الشعوب والمجتمعات والدول.
(1/74)
________________________________________
ومن هنا تبتدئ ملاحظاتنا على موقف البلدان، في العالم الثالث على العموم، وفي العالم الإسلامي خاصة، تجاه هذه القضية.
إننا رأينا بعض المشروعات تقوم، بعد الحرب العالمية الثانية، في عدد من هذه البلدان، من أجل النهوض بها اقتصادياً؛ ورأينا على الرغم من فقر هذه البلدان من الناحية المالية، أن المشروعات قامت فيها، في الحقيقة، على أساس الاستثمار المالي، حتى في البلاد التي تبنت المبدأ الاشتراكي.
والمناقضة التي تلفت نظرنا في هذه القضية ليست من الناحية النظرية، بوصفها تعارضاً بين تقرير مبدأ مذهبي كالاشتراكية مثلاً، وبين اختيار وسيلة تطبيق تخالف هذا المبدأ، وإن كانت هذه المناقضة أيضاً تلفت النظر، وإنما تهمنا قبل كل شيء المناقضة العملية- البراجماتية- عندما نرى بلاداً فقيرة ترسم خطة نهضتها الاقتصادية على أساس المال، وهي تفقده فلا يمكنها إلا السير البطيء في إنجاز مشروعاتها، أو الاستسلام إلى إرادة الرأسمال كي يقدم لها القروض المناسبة على شروطه، لتسلم المبادرة في تحديد طبيعة الخطة إلى إرادة خبراء أجانب، غير مرتبطين بمصير البلاد التي يخططون لها، مثل أولئك الذين أنيطت بهم (النقطة الرابعة) بعد الحرب العالمية الثانية فطبقوها في العالم الثالث بطريقة لم تحقق أي نتيجة في المجال الاقتصادي، لأنها لم تحرك الإمكانيات الطبيعية في البلاد، وليس هذا فحسب، بل جمدت حتى الإمكان المالي المتخصص لمشروعاتها، لأنها صرفته في جوانب إدارية لا تسمن ولا تغني من جوع، عندما ينطلق النشاط الاقتصادي من نقطة الصفر.
لذلك لم تكن بالتالي لهذه المشروعات نتيجة تعد، سواء بالنسبة إلى بداية نشاط اقتصادي يرفع بالتدريج كابوس التخلف عن هذه البلاد، أو بالنسبة إلى تكوين خبرة ما، تكون في صورة وعي اقتصادي ينمّي حتى في التجارب
(1/75)
________________________________________
الفاشلة، رصيداً نفسياً تنطلق منه تجارب أخرى يتأكد فيها أكثر فأكثر، النجاح.
إن الصين تقدمت اقتصادياً بسرعة مرموقة، لأنها طبقت منذ اللحظة الأولى في خطط تنميتها، مبدأ الاتكال على الذات، أي بالتعبير الاقتصادي مبدأ الاستثمار الاجتماعي من الإنسان الصيني، والتراب الصيني، والزمن المتوفر في كل أرض.
كما طبقت من ناحية أخرى مبدأ الاستفادة حتى من التجارب الفاشلة، مثل تجربة التعدين ( Métallurgie) الريفي، في نطاق ما أسموه (الوثبة إلى الأمام)، فقد استفادت الصين من هذه الخطوة الخاطئة على الأقل مزيداً من المعلومات الفنية في تكنولوجية الحديد، كما استفادت من الناحية النفسية، ما كوّن بين أهالي الريف وأهالي المدن المصنعة، شبه قاسم مشترك في مجال التصنيع، فارتبطت المزرعة والمصنع في نشاط ينهض بالريف والمدينة على حد سواء.
وإنما كانت المزرعة الصينية، ولا تزال فيما أعتقد في المرحلة الحالية، رائدة النهضة الاقتصادية في البلاد، فقد استطاعت بفضلها الصين أن تستثمر 16% من المحصول الوطني السنوي ( PNB) في التصنيع، ولا ندرك تماماً ما يعبر عن هذا الرقم إلا إذا قرنّاه بما استثمرت الهند، مثلاً، في الفترة نفسها أي 20%.
ولن نستفيد، كل الاستفادة، من هذه الموازنة إلا إذا أخذنا في الاعتبار نوعية الاستثمار الذي يتصل به الرقمان كلاهما: فالصين خططت طريقة تنميتها على أساس الاستثمار الاجتماعي، بينما الهند خططت على الأساس المالي.
فالصين وضعت كل تبعيات التنمية على كاهل الشعب، فعوضت بطاقاته الحيوية الموجودة بقدر الإمكان، الطاقات الميكانيكية المفقودة، حتى في المشروعات الكبيرة الحجم، أي أنها عوضت، بقدر الإمكان، الإمكان المالي
(1/76)
________________________________________
بالإمكان الاجتماعي تعويضاً جعلها رائدة العالم الثالث بلا جدال، وجعلها عامة، تحصل على خبرة فريدة في العالم في مجال توظيف الإنسان والتراب والزمان.
والعبرة في هذا ليست فحسب من الجانب الاقتصادي، بل ومن الجانب التربوي، لأن الإنسان الذي يمارس هذا العمل المشترك يدرك من خلال ما يتحقق على يده في المزرعة أو في المصنع أو في ورشات التشييد، أنه يستطيع فعلاً تحويل الجبال مثل جدّه الاسطوري (يوكنج Yukong) ليذوب في مفهومه المستحيل، وتزول من نفسه العقد التي تعطل النشاط منذ المنطلق، ومن فكره المسلمات الوهمية التي تضع على عمله نوعاً من الرصد، يجعله عملاً مشروطاً، أي مقيداً بشروط غير طبيعية.
فالعالم الإسلامي ليس بيده أن يغير أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تفتق أبعاده النفسية، وتخلصه من تركة عصر ما بعد الموحدين، من خرافاتها وعقدها ومسلماتها الوهمية.
يجب أن تتضمن النهضة الاقتصادية هذا الجانب التربوي الذي يجعل من الإنسان القيمة الاقتصادية الأولى، بوصفه وسيلة تتحقق بها خطة التنمية، ونقطة تلاقٍ تلتقي عندها كل الخطوط الرئيسية في البرامج المعروضة للإنجاز.
وتجدر هنا الملاحظة بأن برامج الاستثمار في البلاد الإسلامية، لا زالت بعيدة على وضع الإنسان في هذه الرتبة، بوصفه وسيلة تتغير هي ذاتها في فعاليتها بقدر ما تحدث، من تغيرات في نطاق النمو الاقتصادي.
ويكفينا لتأييد هذه الملاحظة، أن نلفت النظر إلى المشروعات التي تنشأ فكرتها تحت شعار الاشتراكية أحياناً، بينما نراها تدخل حيز الإنجاز على أساس الاستثمار المالي، كأنما أفكارنا لا تستطيع بعدُ التفاعلَ مع الواقع.
(1/77)
________________________________________
وربما يفسَّر هذا، على نحو التفسير الذي قدمناه في كتاب سابق (1) لحالات شبيهة، أي أن عمرنا النفسي لا يزال يضع فاصلاً بين عالم أفكارنا وبين واقعنا الاجتماعي، فتفقد حتى أفكارنا المقررة في السياسة وظيفتها في التطبيق والعمل.
وإن كان هذا التفسير صحيحاً نُضف: إن الأمر طبيعي. لأن مجتمعات أخرى- مثل الهند- تعاني العرض المرضي نفسه (2).
ولكننا لا نجد في ذلك عذراً للبقاء على ما نحن عليه، وإنما نريد فقط ألا يوضع المسلم تحت كابوس، عندما نكشف على بعض جوانبنا المرضية.
بل يجب علينا، خصوصاً في هذا المجال الاقتصادي، أن تكون أفكارنا متصلة بواقعنا: فلا نقول بأفواهنا إن اثنين واثنين أربعة، ثم في التطبيق نتصرف كأنما تساوي ثلاثة.
لا يكفي كذلك أن نشيد في عالم الاقتصاد بأفكار معينة- مثل الاستثمار الاجتماعي- إذا كانت مشروعاتنا تطبق ما يخالفها، مثل استسلامها إلى سلطان المال.
...
__________
(1) كتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
(2) تدل على ذلك بعض التحقيقات تحت إشراف هيئة الأمم على طرق الفلاحة في الهند 1968
(1/78)
________________________________________
تحقيق الدِّيناميكا الاقتصادية على أساس مبدئي
منذ عهد تقسيم العمل أي منذ بداية اقتصاد التبادل، تركزت المجهودات المبذولة في تنشيط وتدعيم حركة مسكرة تقوم على توازن معين بين عليتي الإنتاج والاستهلاك، تتوسطهما حلقة وصل مملية ثالثة هي التوزيع.
وإذا تأملنا شيئاً ما عبر حلقة اقتصادية كاملة ( Circuit) نراه يتسم بوجه خاص بالطابع الذي تضفيه عليه عملية التوزيع، فهي التي تطبع الحياة الاقتصادية، وتميز أسلوبها الخاص لأنها تحدد هدف الإنتاج من ناحية، ورقعة الاستهلاك من ناحية أخرى، لتنشأ بواسطتها حركة التفاعل بين المنتجين والمستهلكين.
فهذا التفاعل هو ما يسمى الديناميكا الاقتصادية.
إننا عندما نحدد طبيعة الحاجة التي يلبيها الإنتاج نحدد طبيعة التوزيع وحجم شبكته. والحاجة من الوجهة الاقتصادية نوعان: الحاجة التي يغطيها مال ( Solvable)، والحاجة التي تغطيها إرادة حضارية، مثل الإرادة التي فرضت الزكاة للفقير وللمسكين وابن السبيل الذين ليس لهم مال يغطون به حاجاتهم اليومية.
ويتقرر على أساس كيفية تلبية الحاجة كل أسلوب الاقتصاد، إما طبقاً لطبيعة المال الذي يقتضي نظماً خاصة بتوزيع محدود يحده الإمكان المالي، أو طبقاً لإرادة حضارية تفرض شبكة توزيع شاملة تشكل السكان كلهم منذ اللحظة الأولى.
(1/79)
________________________________________
فإذا تقرر هذا النوع الأخير لتلبية الحاجة، دون إخضاعها لشرط الإمكان المالي، نستطيع مبدئياً رسم شروط الديناميكا الاقتصادية في صورة مسلمتين:
1 - لقمة العيش حق لكل فم.
2 - العمل واجب على كل ساعد.
فالمسلمة الأولى يفرضها الاختيار لمبدأ معين يلتزمه المجتمع ويسجله في دستوره بوصفه أساساً لعقده الاجتماعي (1).
أما المسلمة الثانية فليست اختياراً بل هي ضرورة تفرضها المسلمة الأولى شرطاً لاستمرار التفاعل بين الإنتاج والاستهلاك، تفاعلاً جدلياً نستطيع صياغته في صورة منطقية إذا قلنا: إنه لا إنتاج من دون استهلاك ولا استهلاك من دون إنتاج.
ولكن هذه الصورة النظرية لترابط طرفي الديناميكا الاقتصادية لا تعني أن صورة التطبيق ستكون بسيطة.
إنه ليس يسيراً من الناحية الفنية أن نوفق بين الإنتاج والاستهلاك، على أساس المسلمتين إذا لم نستوعب الشروط النفسية والتقنية الضرورية كافة، لتحقيق عملية الانطلاق أو الإقلاع الاقتصادي ( Décollage) ، في البلاد التي تعاني منذ أمد هذا الكساد للطاقات الاجتماعية الذي يطلق عليه اليوم اسم (التخلف).
يجب أولاً على من يخطط لإطلاق هذه الطاقات الكاسدة، أن يكون مقتنعاً بضرورة إطلاقها وبإمكانه دون شروط إضافية، خارجة عن المسلمتين.
__________
(1) (العقد الاجتماعي)، هو المصطلح الذي استعمله (جان جاك روسو) عنواناً لكتاب كان أثره كبيراً في توجيه الثورة الفرنسية.
(1/80)
________________________________________
بينما تجدر الملاحظة بأن الاعتراض الأول ينشأ تجاه المسلّمة الأولى، في صورة استحالة تطبيقها في البلاد التي تعاني في ظاهر الأمر نقصاً في التغذية، فلا يتصور المنطق الاقتصادي المعتاد أن هذه البلاد تتكفل حق لقمة العيش لكل فم.
وقد حدث لي أن سجلت مثل هذا الاعتراض من قبل أصحاب أفكار متنورة كنت أتحدث إليهم في هذا الموضوع، عندما حللت بمصر سنة 1956، فكان يعترض على وجهة نظري بأن البلاد فقيرة، لا تستطيع أن تتكفل بلقمة العيش لكل فم، بينما كانت من الواضح أنها كانت تتحمل عبء كل الأفواه من دون مقابل في عملية الإنتاج، أي أنها كانت في الواقع (تتكفل) دون أن تعود عليها فائدة، لأن كل فم يتناول حتماً لقمة العيش ولو بالطرق غير المشروعة.
فالقضية ليست في الحقيقة، قضية قصور في الإمكان، بل قصور في التصرف والسياسة والتخطيط.
فالاعتراض لا يزيد، هو الآخر على أن يكون نوعاً من الكساد في المجال الفكري، يجب رفعه لتحريك الطاقات المعطلة الأخرى.
ونقول مرة أخرى إن مجرد رفعه لا يعني في التطبيق أن أمر مخطط اقتصادي شامل على أساس المسلمتين أمر بسيط.
فالانتقال من اقتصاد سائب يسير كيفما اتفق له، أو يسير طبقاً لمخطط يترك على الهامش بعض الطاقات الاجتماعية، إلى اقتصاد يحقق تعبئة كل الطاقات، يقتضي عمليات تقنية ربما تتطلب أولاً تغيير خريطة الإسكان في البلاد، للتوفيق بين متطلبات التموين والعمل.
ولا يبدو هذا غريباً، فهذا ما يحدث عرضاً أو قصداً، في كل تخطيط شامل في مرحلة الطفرة أو فيما يسمى في الصين (الوثبة إلى الأمام).
فألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية غيرت إلى حد ما خريطة الإسكان داخل
(1/81)
________________________________________
حدودها، لتحقق الشروط الأولية لتطبيق مخطط الدكتور (شاخت)، الذي استهدف لأسباب استراتيجية وفنية، إشادة مراكز صناعية كبرى في مناطق جديدة لتيسير التموين بالمواد الخام مع اقتصاد ما يمكن من الوقت ووسائل النقل.
فاستتبع هذا التغيير لخريطة الصناعة، تغييراً لخريطة الإسكان ولخريطة التموين بالغذاء، ولخريطة المواصلات.
وهذا الأمر هو ما يتكرر اليوم في الصين منذ بداية (الوثبة إلى الأمام)، وإنني مع حرصي ككل مسلم على مراعاة شروط الفقه الإسلامي لا أرى مسوغاً لتدخل مذهي في قضية ذات طابع تقني بحت. وهي تحت هذا الطابع لا تناقض الشرع كما لا تناقض الماركسية إلا من الناحية المذهبية، عندما يحدد (ماركس) مرحلة التطبيق الذي نحلله في هذه السطور، غاية أخلاقية للتطور الاقتصادي الاشتراكي عندما يصير العمل والتوزيع قائمين على مبدأ: "من كلِّ بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته".
بينما لا تقرر هذا التوزيع (لقمة العيش لكل فم) لمجرد غاية أخلاقية بل بوصفها نقطة انطلاق فنية وأخلاقية معاً، يقرها ضمناً الإسلام في مبدأ الزكاة وتفرضها اعتبارات اقتصادية استثنائية، ترمي إلى خلق جو اجتماعي تنمو وتتحرك فيه كل الطاقات، في عمل مشترك من شأنه أن يغير الأوضاع النفسية في الفرد، وملامح الحياة حوله.
وبهذا يكون العمل المشترك أولاً وقبل كل شيء المدرسة التي تكوّن المسلم الجديد، الذي يستطيع مواجهة كل الظروف الاستثنائية، مثل التخلف؛ لأن مدرسة العمل المشترك تعلمه أن الإرادة إذا حركت الإنسان تجعله يكتشف الإمكان. فالوطن أو المجتمع المسلم الذي يتحول إلى ورشة، سرعان ما يكتشف أن الإمكان الذي ينتظره مما في يد الآخرين لتغيير مصيره هو في يده منذ الآن.
(1/82)
________________________________________
إن الإرادة تكتشف الإمكان.
هذا القانون في المجال الاقتصادي هو في المجال النفسي ما تشير إليه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 13/ 11] وما نعبر عنه في المجال الاجتماعي بقولنا: إن الإرادة الحضارية تصنع الإمكان الحضاري.
فالعالم الإسلامي متى تكونت لديه إرادة واضحة للتخلص من التخلف، سيجد أولاً في المجال النظري أن اختياره ليس محدوداً بالرأسمالية ولا بالماركسية، وأنه بالتالي يستطيع التعويض للاستثمار المالي المفقود لديه بالاستثمار الاجتماعي، الموجود على أساس المسلمتين المعروضتين في هذا الفصل، سواء كان ذلك في نطاق مخطط مرحلي خاص بظروف ما أسميناه الإقلاع ( Décollage)، أم كان المخطط يعني أيضاً الاستمرار، إذا ما رأى المجتمع مصلحته في ذلك.
وإذا كان هذا أو ذاك فالمجتمع العصامي الذي يقلع بمجهوده الخاص، سيدرك أن القصور ( Inertie) الذي يفرضه التخلف في المجال الاقتصادي، إنما هو نتيجة لتصوره الأشياء لا لطبيعة الأشياء ذاتها، وسوف يرى طاقاته الذاتية قادرة على تغيير كل الظروف في جو يسوده الإخاء والطمانينة.
وإذا ما كان لنا درس نستخلصه من تجربة الصين، فإنما هو أن المعارك الاقتصادية عندما تدور رحاها، فهي تدور حول قطب القيم الأخلاقية، وإن وَسَّعْنا المصطلح قلنا: حول القيم الثقافية.
والمجتمع الإسلامي أجدر من يحقق له وللإنسانية التجربة، التي تعيد إلى عالم الاقتصاد أخلاقيته، ويتلافى بذلك الانحرافات الإباحية التي تورطت فيها الرأسمالية، كما ينجو من ورطة الماركسية المادية التي سلبت الإنسان ما يميزه عن الآلات والأشياء.
(1/83)
________________________________________
وأجدر من يقوم بهذه التجربة الرائدة للبلاد هي الجزائر وليبيا ومصر وسوريا، التي دخلت فعلاً المعركة الاقتصادية على نهج معين، تستطيع توسيع أفقه بخبرة جديدة وتطعيمه بروح إسلامي، يعيد المال إلى وظيفته بوصفه خادماً مطيعاً للمجتمع لا سيِّداً له، ويرفع عن الإنسان الأسر الذي قيدته به المادية الماركسية التي أقحمته في عالم الاقتصاد مجرد آلة للإنتاج.
***
(1/84)
________________________________________
الأساس الأخلاقي لعمليتي الإنتاج والتوزيع
إن الأساس المذهي الذي يقرره (آدم سميث) بوصفه قاعدة للديناميكا الاقتصادية، قد أطلق العنان لإرادة المال وفتح الباب لتصرفات الرأسمالية، على حساب المصلحة العامة في المجال السياسي والمصالح الخاصة بالمنتجين والمستهلكين. فكانت النتيجة ماسة أيضاً بالجو الثقافي العام، عندما أصبحت قاعدة (دعه يعمل دعه يسير) الأساس الذي يقوم عليه سلوك الأفراد باسم الحرية.
بل كانت النتيجة أم من ذلك إذا ما اعتبرنا التطورات الخطيرة والأحداث الكبيرة، التي غيرت وجه القرن العشرين على أنها مجرد انعكاسات، في المجال الثقافي والسياسي لما كان يدور في عالم الاقتصاد.
إن إباحية الرأسمالية كانت التمهيد العملي للمادية الجدلية، أي لحركة الإلحاد في العالم.
فرأس المال قام بالتالي بدور الحاجب الذي فتح الباب أمام الثورة الشيوعية مهما يبدو في هذا التقرير من مناقضة ظاهرة.
هل أراد رأس المال الانتحار أم أنه استسلم فقط لمنطق السهولة؟ إن الوجه الأول لا يعنينا في هذا الفصل، فحسبنا أن نقول: إن المجتمعات تموت غالباً منتحرة.
وإنما يعنينا الوجه الثاني وهو أن من طبيعة المادة القصور إلا في الحيوان، وإذا تحركت المادة فإنها تتبع أيسر السبل: فالماء لا يجري من أسفل إلى فوق إلا إذا سلطنا عليه ضغطاً.
(1/85)
________________________________________
والإنسان مجبول أيضاً على اتباع المنحدر إذا لم تكن وراءه قوة دافعة إلى أعلى. وربما وجدنا توضيحاً وتأكيداً لهذه الملاحظة البسيطة في الآية الكريمة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد 90/ 10، 11].
فالإنسان يفضل بطبيعته المنحدر على العقبة، إلا إذا حفزه أمر يجعله يقتحم العقبة، ولم يكن المسلم عندما دخل المعركة السياسية- يطالب بحقوقه في أواخر القرن الماضي- سوى الإنسان الذي يتبع طريق السهولة، الذي سيؤدي إلى تحقيق بعض الرغبات الرخيصة الثمن، حيناً في الركض وراء استقلال لا تؤيده مقومات، السيادة الحقيقية، لأنه لم يجهد نفسه في التفكير فيها، وحيناً في البحث عن وجود يتناقض مع شروط الاستقرار ومع مصالح عليا، مثلما حدث بباكستان، فقد تقرر وجود هذه الدولة على أسس خيالية وعلى نقيض مصلحة الإسلام.
وقد يسمى هذا الانحراف في المجال السياسي خطأ سياسياً، ولكننا إذا تابعنا البحث عن سببه الحقيقي، سنجده مستقراً في العالم الثقافي، وفي الأساس الأخلاقي بالضبط.
إن المقاييس السياسية، حتى إذا لم تتقرر بوضوح وبطريقة إرادية على أساس قيم أخلاقية، لا تخطئ أو تصيب إلا بسبب طبيعة روابط الواقع السياسي مع القيم الأخلاقية.
فالسياسة التي تنهض أساساً بالطالبة بالحقوق وتهمل جانب الواجبات، لا تعدو أن تكون قد اتجهت هذا الاتجاه على أساس اختيار ضمني أو صريح، بين مفهومين أخلاقيين: الواجب والحق.
وبمجرد اختيارها أو تفضيلها لأحد الطرفين تكون قد وضعت في أساس الحياة الاجتماعية كلها- بما فيها الاقتصاد والثقافة- علاقة جبرية بين الحق
(1/86)
________________________________________
والواجب، فلو اصطلحنا على المدلول العام للمفهومين أن (الواجب) هو ما نعطيه (مثلاً للمجتمع) وأن (الحق) هو ما نأخذه، وأنهما يمثلان على محور القيم الجبرية قيمتين مختلفتي العلاقة على طرفي الصفر، لو اصطلحنا على ذلك لجاءت صياغة العلاقة بينهما في صورة متراجحة هكذا:
واجب + حق <> صفر
ولا نتعدى حدود هذه العلاقة الجبرية الأخلاقية إذا نقلناها إلى مجال الاقتصاد، بعد اصطلاحنا أيضا على أن (الإنتاج) هو ما نعطيه للمجتمع وبأن الاستهلاك هو ما نأخذه، لتضم العلاقة الجبرية هاتين القيمتين الاقتصاديتين في صورة متراجحة ذات احتمالات ثلاثة كأي معادلة متراجحة:
إنتاج + استهلاك <> صفر
ويجدر بنا منذ الآن أن نلاحظ الترابط بين القيم الاقتصادية والأخلاقية، هذا الترابط الذي أهملته الرأسمالية في نظرتها الإباحية إلى الاقتصاد، بينما نرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعطينا في قضية المتسول الذي أتى يسأل يوماً (لقمة عيش) كان من (حقه) أن يأخذها من المجتمع، بنص من القرآن الكريم في الزكاة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أدرى الناس بتطبيقه، كما كان - صلى الله عليه وسلم - أجود من الرياح السخية في الربيع لتقديم هذه اللقمة لمسكين جاء يطلبها.
ولكن أعمال الني - صلى الله عليه وسلم - تشريع أو عبرة لأمته، فأشار الرسول على من حوله من الصحابة رضوان الله عليهم بأن يجهزوا هذا الفقير ليحتطب، وأشار على الرجل بأن يحتطب ليأكل من عمل يده.
فإذا حللنا هذه الأبعاد الخلقية لهذه القصة، نرى كيف يحل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أزمة اجتماعية تعرض عليه صورة متسول من المساكين، فيفضل صلوات الله عليه
(1/87)
________________________________________
حلها في نطاق (الواجب) على (الحق)، أو إذا قدرنا الأبعاد الاقتصادية فإننا نراه - صلى الله عليه وسلم - يفضل الحل في نطاق (الإنتاج).
وكل مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأخرى تدعم هذا الاتجاه، بل هذا التوجيه لأمته إن شئنا في مجال الأخلاق، أو في مجال الاقتصاد.
كما نراه - صلى الله عليه وسلم - في موقف آخر يعطي لصحابي يطلب ممن كان حاضراً، ثم يتكرر الطلب فيتكرر العطاء، ثم يتكرر الطلب والعطاء للمرة الثالثة، ويأتي التوجيه في صورة بارزة فيقول - صلى الله عليه وسلم - للطالب: " ... إن اليد العليا خير من اليد السفلى".
اليد التي تعطي خير من اليد التي تتقبل، هذا هو التوجيه، إن شئنا فسرناه خلقياً أو اقتصادياً سواء.
والآن إذا عدنا إلى العلاقة الجبرية بين الإنتاج والاستهلاك، وعددناها في ضوء ما قدمنا، علاقة أخلاقية اقتصادية نستطيع النظر في احتمالاتها فنراها تدل على حالات ثلاث، يحقق المجتمع إحداها حسب اتجاهه الثقافي.
فحسب تركيزه على مفهوم (الواجب) أو على مفهوم (الحق)، تكون معادلته الاقتصادية إيجابية بفائض الإنتاج على الاستهلاك، أو متعادلة إذا استوى الطرفان. أو سلبية إذا كان الاستهلاك أرجح في الميزانية.
ففي الحالة الأولى يستطيع المجتمع استثمار فائض إنتاجه في العمليات والميزانيات المقبلة فهو مجتمع نام.
وفي الحالة الثانية فإن كفتي ميزانه متعادلتان فلا ترجح واحدة على الأخرى، فهو لا يصعد ولا يهبط، فهو مجتمع راكد.
أما في الحالة الثالثة فكفة استهلاكه أرجح لا يصعد ولا يستقر، فهو مجتمع ينهار.
(1/88)
________________________________________
وتحويل التركيز من (الحق) إلى (الواجب) ليس بالأمر الذي يأتي عفوياً أو بالمصادفة، لأنه تحويل لعادات وطبائع منسجمة مع ما في الإنسان من ميل طبيعي إلى منطق السهولة، مدعماً من ديماغوجيا القرن العشرين التي نصبت من (الأنا) وثناً جديداً يعبده الفرد في المجال السياسي باسم الحرية، وفي المجال الاقتصادي باسم الحقوق. وحتى في المجال الرياضي حيث يعبد (الأنا) المجسم في ملاعب الرياضة. فتحويل التركيز الموروث ليس إذن بالأمر السهل بل لا يتأتى إلا بصراع مع كل التيارات التي تنهي الأنانية بشكليها: الأنا ونحن.
وربما تقوم، في وجه ثورة ثقافية- من أجل تعديل التركيز في صالح الواجبات- ثورة مضادة لتدعيم البناء المنحرف.
فهذا ما حدث بالضبط في الصين عندما قامت فيها محاولة لتخفيف ضغط الحقوق على الإنتاج، فسرعان ما قامت في وجهها مطالبة بمزيد من الحقوق، في حصة الأرز مثلاً وفي الأجور؛ وغالب الظن أن هذه المشاغبة كانت موجهة من الخارج من طرف جهات تريد تعطيل حركة التنمية، فاستعملت ضد العمال القائمين بتنفيذ خطة (الوثبة إلى الأمام) ما في نفوسهم من ميل طبيعي إلى السهولة.
إنه لمن أشد المكر أن يحطم الإنسان، أو يعطل نفسه بيده دون أن يشعر، لأن الماكر استطاع أن يخدعه بلغة الحقوق والحريات.
***
(1/89)
________________________________________
المعادلة البيولوجية والمعادلة الاجتماعية للفرد في التجارب الحديثة
يعرض لمجتمع أن يُعدّ، من أجل مشكلة، ما يراه صاحب اختصاص ملازماً وكافياً لحلها، ثم يفاجأ بأنها لم تحل على هذا الأساس.
ونستطيع أن نقول إن المجتمع الإندونيسي عاش في أواخر الأربعينات مثل هذا الظرف، وعاشه معه خبير يشار له بالبنان في مجال التخطيط الاقتصادي هو الدكتور (شاخت).
ولا شك أن فشل مخططه في النهوض باقتصاد إندونيسيا كان أمراً لم يتوقعه، لما التزم فيه من دقة فنية من ناحية، ولما توافر في نظره من وسائل مادية وبشرية كفيلة بتحقيقه. في رقعة منّ عليها الله بأخصب تربة تنبت من كل أنواع الخيرات، في مناخ يجعلها تنتج من ثمراتها في ثلاثة مواسم، وأسكن فيها مئة مليون من العباد يعجب الإنسان من ذكائهم ومن ذوقهم الجمالي المرهف.
ومع كل هذه المعطيات فشل المخطط، فشلاً ربما جعل صاحبه يراجعه ولكن لم يترك لنا الدكتور (شاخت)، فيما أعلم، نتيجة هذه المراجعة.
فيبقى لنا الحق إذن في طرح سؤال: ما هو الأمر الذي تعثّر به مشروع شاخت حتى فشل؟
إننا، في الحقيقة، نراجع تكوين شاخت بوصفه عالم اقتصاد تكونت خبرته في نهوضه بالاقتصاد الألماني خلال الفترة مابين 1933 - 1936، إذ كان المخطط
(1/90)
________________________________________
مستمداً من تراب ألمانيا الفقير ومن استعدادات الشعب الألماني ليفي بشروط النجاح كلها، وقد نجح فعلأ النجاح الذقي خؤلط ألمانيا أن تواجه اقتصادياَ أقسى الظروف العسكر ية والدنية أثناء الحرب العالمية الثانية، وتصد فيها.
ولا شك أن (شاخت) وضع نحططه على الشروط التي يقدمها الشعب الألماني مباشرة وبطريقة آلية أثناء مرحلة التطبيق، ثم لاشك في أنه طبق هذه الشروط آلياً في التجربة الإندونيسية، أي أنه وضع نحططه على معادلته الشخصية بوصفه فرداً من المجتمع الألماني؛ بينما ستجري التجربة الإندونيسية بطبيعة الحال على أساس معادلة الفرد الإندونيسي فتعثرت التجربة الإندونيسية بسبب خطأ مخططها (شاخت) في تقدير المعطيات البشرية في المجال الاقتصادي، لأن ذهنه يحمل لهذه المعطيات صورة واحدة تطبق في أي تجربة تجري داخل ألمانيا أو خارجها.
بينما الواقع الإنساني لا يفسر على أساس معادلة واحدة بل حسب معادلتين:
1) معادلة بيولوجية تسوي بين الإنسان وأخيه الإنسان في كل مكان، ليستطيع هذا كل ما يستطيع الآخر، إلا فيما فضل فيه بعض الأفراد عن الآخرين.
2) ومعادلة اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر وفي مجتمع واحد تختلف من عصر إلى آخر حسب الاختلاف في درجة النمو أو التخلف.
فأما المعادلة الأولى فهي موهوبة من الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وميزه على العالمين بالتكريم، فهي منحة منه، عز وجل، إلى البشر كافة.
أما المعادلة الثانية فهي هبة المجتمع إلى أفراده كافة، بصفتها القاسم المشترك يطبع سلوكهم ويحدد درجة فعاليتهم أمام المشكلات تحديداً يميزهم عن أفراد مجتمع
(1/91)
________________________________________
آخر، أو عن جيل آخر من مجتمعهم، إذا كان الفاصل الزمني كافياً لطبع المجتمع بأسلوب آخر يتفق مع معادلة اجاعية أخرى.
ويجب القول إن مصادر المعادلة الاجتماعية، من الناحية الاقتصادية، اثنان: 1 - المجتمع الذي أسميناه القارة الاقتصادية الشمالية 2 - والمجتمع الذي أسميناه القارة الجنوبية، كلاهما يطبع سلوك الأفراد فيه بدرجة معينة من الفعالية، وبذلك نستطيع أن نعدّ هذه الفعالية مقياساً لقدرة الفرد، بحسب بيئته، على الهيمنة على أسباب الحياة الاجتماعية، قدرة تختلف اليوم من محور واشنطن- موسكو (القارة الشمالية) حيث يسود الإمكان الحضاري، إلى محور طنجة - جاكرتا حيث يفقد هذا الإمكان، كأنما تتدخل ضمناً مجموعة شروط أولية في تحديد مواقف الفرد أمام المشكلات، وبالتالي في تحديد نتائج هذه المواقف.
فهذه المجموعة من الشروط تكوّن ما نسميه المعادلة الاجتماعية، التي تشرط بطريقة ضمنية مواقف الفرد ونتائجها، لتخضع هذه النتائج إلى نوع من الحتمية ربما تمجها حساسيتنا.
ولكن لعلنا إذا أدركنا طبيعة هذه الحتمية، ندرك مدى سلطانها على تصرفنا في الوقت الراهن، ومدى حريتنا معها إذا ما صممنا على تغيير معادلتنا الاجتماعية على الطريقة التي أتاحت تغييرها لمجتمعات أخرى، مثل اليابان في أواخر القرن الماضي والصين في منتصف هذا القرن.
فلنفترض فرضين:
1) إن مولوداً أتى على محور واشنطن - موسكو: سيخضع قطعاً، منذ اللحظة الأولى، إلى قانون الأعداد الكبرى، أي إلى القانون الإحصائي. إنه سيكون له- في التعليم ورعاية الصحة طفلاً، وفي العمل رجلاً- حظ من نسبة نشر التعليم، ورعاية الصحة والعمل على محور ولادته، أي فوق 90%.
(1/92)
________________________________________
2) إن مولوداً أتى على محور طنجة - جاكرتا: سيخضع أيضاً إلى القانون الإحصائي: أي إن مصيره سيتحقق على نسبة ما دون 40% من التعليم ورعاية الصحة والعمل، أي أنه سيتحقق على مستوى مواهبه المطابقة لمعادلته البيولوجية، ولكن على نسبة المعادلة الاجتماعية لمن سبقه في مجتمعه، فإذا ولد في الهند، مثلاً، فإن له 25% من الحظ أن يكون منبوذاً و 75% من الحظ أن يكون عاطلاً عن العمل، مهما كانت مواهبه الشخصية، لذلك يتبين من خلال هذين الفرضين بأن تصرف الفرد مقيد بشروط اجتماعية سبقته إلى الوجود، وبالتالي إن فعاليته مشروطة بمعادلة اجتماعية يجدها في مهده، وهي تفرض على سلوكه نوعاً من الحتمية لا يتخلص منه إلا بعملية تغيير لمعادلته الاجتماعية، كما حدث ذلك في اليابان أثناء ما يسمونه بالعهد الميجي، وفي الصين أثناء الثورة، والثورة الثقافية بوجه خاص.
فالشعوب التي تعيش على محور الشمال قد سوّت مشكلة المعادلة الاجتماعية بطريقة تلقائية، مع التجارب التي تتابعت منذ بداية العصر الصناعي، حتى أدت إلى ظهور (تايلور)، الذي وضع مذهبه (التايلورية) تتميماً لما صنعته الأيام في جوهر المعادلة الاجتماعية التي كان هو نفسه وأفكاره في تنظيم الإنتاج، إحدى نتائجها.
ولم يكن الدكتور (شاخت)، هو الآخر، إلا إحدى هذه النتائج، قد تلقى تلقائياً المعادلة نفسها كأي فرد ألماني، وأصبح يطبقها تلقائياً حتى في غير مكانها، مثلاً في مخططه الإندونيسي، دون أن يفكر أن المجتمع الإندونسي لا زال في حاجة إلى من يصنع له معادلة اجتماعية تخوله القيام بإنجاز أي عمل يقتضي نسقاً وتنسيقاً فردياً أو جماعياً.
فنستطيع القول إن مخطط (شاخت) قد فشل في إندونيسيا، مع توافر
(1/93)
________________________________________
الشروط الفنية والمادية كلها، لأنه فقد شرطاً ضمنياً ليس من اختصاص رجل الاختصاص في الاقتصاد أن يفكر فيه.
وإنما يبدو أن الدراسات التي قامت منذ العقد الأخير في مجال التنمية الاقتصادية في العالم الثالث، بدأت خصوصاً بباريس، كأنها تعنى بهذا الجانب الذي نسميه المعادلة الاجتماعية، مهما يكن الاسم الذي تخصصه لهذا الجانب، ومهما كانت طريقة تفسيره عندهم.
ومما يجدر بالذكر أن بعض الجهود من أبناء العالم الثالث بدأت تسهم في هذا الاجتهاد الجديد وتثريه بنتائج تجارب تفيد بفشلها أو بنصف نجاحها، كالتجربة التي يذكرها بالتفصيل رجل اختصاص في الزراعة في الهند؛ يذكر كيف عمل مع مستشارين فنيين من هيئة الأمم المتحدة، طوال خمس سنوات، تحققت فيها بعض النتائج الإيجابية على أساس الطرق الفنية التي طبقت أثناء إشراف المستشارين بينما تعود التجربة- حسب تقرير الاختصاصي الهندي الذي نشير إليه- إلى الطرق التقليدية فور انسحاب الخبراء الأجانب.
وإذا كانت هذه التجربة تعني شيئاً من الناحية التي تعنينا، فإنما تعني أنها سارت على أساس معادلة اجتماعية خاصة بالخبراء الأجانب المشرفين عليها، وأنها عادت تسير طبقاً لمعادلة أخرى، معادلة المجتمع الهندي، مجرد أن انسحب الخراء.
وقد تتكرر هذه الظاهرة في صور مختلفة، في كل مجالات النشاط، حتى في المجال العلمي، كما ذكر لي ذلك أحد إخواننا المهندسين الجزائريين وهو يحضر رسالة دكتوراه بأوربا، وكانت بيني وبينه صلة فكرية، وقد سبق أن كان بيني وبينه حديث في الموضوع، فأراد أن يذكر لي ما عنده شخصياً في مختبره إذ كان يلاحظ، على الرغم من تفوقه من الناحية النظرية على زملائه، أنه كان في الناحية التطبيقية، أي من ناحية استخدام أدوات التجربة العملية، يعاني شيئاً
(1/94)
________________________________________
من عدم الثقة في تلك الأدوات، فكانت عقدته أو عقده تعطل النتيجة أو النتائج التي يصل إليها عقله قبل الآخرين.
فهذه القصة هي أخت القصة التي يذكرها الاختصاصي الهندي، على الرغم من الاختلاف الظاهر بين المجالين؛ فالقصتان لا تختلفان إلا في الشكل، هذه كتجربة في مختبر مواد بلاستيك، وتلك في مجال الالكترون المطبق في الفلاحة، ولا تختلفان في المصدر الاجتماعي- النفساني، لأن كل واحدة تدل على أن تكوين الخبير الهندي والخبير الجزائري لم يمنحهما الهيمنة الكاملة على أدوات عملهما العلمي، بينما مستواهما العلمي النظري- على الأقل فيما يخص الخبير الجزائري- يبدو رفيعاً جداً.
ويجدر الذكر هنا بأنني كنت معجباً بالخبير الجزائري، وهو يقص لي قصته، إذ كنت أراه يشعر كامل الشعور بالعقدة التي كان يعانيها، كمن يعيش محنة.
وعلى أية حال فالقصتان تعبر كلتاهما على أن العمل العلمي أيضاً يتطلب معادلة اجتماعية لا تتكون تلقائياً في الدرجات الجامعية، بل يهبها المجتمع نفسه للأفراد، بين العادات والتقاليد التي يفطر عليها الطفل منذ مهده، ويحرم منها الطفل الذي يولد في مجتمع آخر لم تتكون فيه بعد معادلة اجتماعية، أو فقدها لأسباب تاريخية- اجتماعية معينة مثل المجتمع الإسلامي اليوم.
إذا طرحنا مشكلة كيفية تكوينها، نراها تتكون بطريقتين: إما أن تصنعها الأيام بتكرار التجارب التي تتحول بالتدريج إلى عادات مستقرة تطبع تلقائياً السلوك الفردي والجماعي بطابع الفعالية، وإما أن تتكون تحت إشراف إرادة هادفة تريد ما تفعل وتفعل ما تريد لمواجهة ظروف وضرورات قاسية.
فلا شك أن المجتمع الغربي يتمتع بمعادلة اجتماعية صاغتها بالتدريج الأيام،
(1/95)
________________________________________
بل القرون، وربما تكملها أفكار جديدة مثل أفكار (تايلور) في القرن الماضي.
أما المجتمع الصيني فإنه يصنعها اليوم بيده، تحت إشراف إرادة متوترة، أعني تحت ظروف قاسية تضع الضمير في كل فرد فيما نسميه (حالة إنقاذ).
وقد سبق في هذا المضمار المجتمع الياباني، الذي صنع هو الآخر بيده معادلته الاجتماعية لمواجهة (حالة إنقاذ) كان واجهها منذ قرن، عندما دق بابه (الكمودوربيري) سنة 1853م.
فالمجتمع الإسلامي في حيرة بين أمرين:
1) إما أن يترك الأيام تصوغ معادلته الاجتماعية أو تعيد صياغتها لتمكينه من مواجهة التحدي الذي يوجهه له عالم اقتصادي غريب عنه، وهذا طريق طويل تعبّده تجارب ومحن مثل التي عاشها الخبير الجزائري في مخبره، أو مثل التي عاشها الشعب الإندونيسي أيام تطبيق مخطط (شاخت).
فهذه التجارب، حتى الفاشلة منها، تكوّن بتكرارها وبالتدريج العادات المستقرة التي تصير بالتالي (معادلة اجتماعية)، تطبع النشاط بالفعالية الضرورية في عالم اقتصاد خاضع لمقاييس الضبط والإنتاج.
2) وإما أن تطرح المشكلة صورة منهجية مثلما فعلت اليابان والصين، أو مثلما فعل (تايلور) ومدرسته في الغرب الذي اكتملت معادلته الاجتماعية في صورة النظرية (التايلورية).
فالعالم الإسلامي يواجه اليوم "حالة إنقاذ" أو- كما يقال في مصطلح العسكريين- يواجه (حالة طوارئ) تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة في المجال الاقتصادي، كما تتخذ قيادة عسكرية قراراتها لمواجهة ظروف استثنائية.
***
(1/96)
________________________________________
ضرورة الاكتفاء الذاتي
والتطور من الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد جهوي
لتحقيق الاكتفاء
( Autarcie)
اكتشف العالم، مع الاستعمار، كل أنواع السيطرة من جانب القوي على الضعيف، فهو يقيد حرية تصرفاته بقيود عسكرية واقتصادية، ويحاول أحياناً إحكام شبكتها حتى من الجانب الروحي، ببعثات تبشيرية لا همّ لها إلا تدعيم السيطرة بوسائل تخفى على الأبصار.
فاليوم، في عهد تصفية الاستعمار تحت إشراف لجنة من هيئة الأمم تحمل هذا الاسم، لم يبق على العموم، مجال للسيطرة العسكرية على مصير شعوب العالم الثالث، أي على أغلبية شعوب العالم الإسلامي؛ ولكن الاستعمار استنبط طريقة تعويض للسيطرة العسكرية بسيطرة اقتصادية تخوله البقاء في مناطق نفوذه السابقة، بل تخوله بسط نفوذ جديد لا يقابل بالرفض بل بالقبول والرضا والتعاقد.
هكذا نرى أن المظهر قد تغير، لأن الرجل المستعمر استبدل بالسيف الذي كان بيده عرقاً من زيتون رمز السلام، بينما نشعر من خلال ما شاهدناه في حبك العلاقات الجديدة بين قارتي الاقتصاد، أن شيئاً لم يتغير في أعماف ضمير رجل الشمال، فهو ما زال على مذهب (ليبنيتز Leibnitz)، الذي كان - وهو يضع الأسس الجديدة لعلم الرياضيات- يفكر أيضاً في احتلال مصر، ويقدم من أجل
(1/97)
________________________________________
ذلك تقريراً مفصلاً للويس الرابع عشر، وما زال على مذهب (ارنست رينان) الذي كان يرى "أن الأوربي خلق للقيادة، كما خلق الصيني للعمل في ورشة العبيد وكل ميسر لما خلق له".
فتعويض السيف بعرق من زيتون لم يغير سوى المظهر.
إن أوربا التي تكتلت في القرن الحادي عشر من أجل الزحف الصليبي، وتكتلت في القرن التاسع عشر في الميثاق الاستعماري تحت إشراف (بسمارك) ببرلين سنة 1881 من أجل الزحف الاستعماري، تعود اليوم إلى تكتل جديد في صورة (السوق المشتركة) في الظاهر من أجل الصمود في وجه الاقتصاد الأمريكي والياباني والصيني، وفي الواقع من أجل الزحف الاقتصادي على مناطق الحضور الأوربي سابقاً لترسي فيها دعائم وجود أوربي جديد بوسائل الاقتصاد.
وعليه يترتب على كل من يهمه أمر النهوض الاقتصادي في بلد إسلامي أو في العالم الإسلامي على العموم، أن يأخذ في الاعتبار الضرورات الداخلية، كما بينا بعض ملامحها في الفصول السابقة، كما يترتب عليه أن يأخذ أيضاً في الاعتبار الضرورات الخارجية، كان نشير إليها في هذا الفصل.
يجب أن نصفي أولاً منطق القضية فنتساءل: ما هي حدود الإمكانيات الفردية- نعني بالنسبة إلى وطن بمفرده- لمواجهة الضرورات الداخلية والخارجية؟
إننا نعني حدود حرية التصرف في الداخل، في نطاق دفع الطاقات الاجتماعية على أساس المسلمتين المذكورتين في فصل سابق بوصفهما شرطين ضروريين لدفع عجلة الديناميكا الاقتصادية، ومن ناحية أخرى من أجل الصمود في وجه الزحف الاقتصادي من الخارج.
(1/98)
________________________________________
يجب أن نلاحظ أن شروط الاقتصاد التكاملي ( L'autarcie) لا تتوافر إلا في أوطان معدودة مثل الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي والصين.
فالولايات المتحدة مثلاً تستهلك 95% من إنتاجها داخل حدودها، أي أنها تستطيع إلغاء علاقتها الاقتصادية مع الخارج دون أن يتصدع اقتصادها إلا بنسبة 5% ودون أن يشعر العامل بقطع العلاقات إلا على النسبة نفسها.
وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة تتمتع بالحرية الاقتصادية المطلقة، على وجه التقريب، وذلك بسبب اتساع رقعتها وقاعدتها الإسكانية (الديموغرافية)، أي يُسرها من ناحية الثروة الطبيعية والعدة البشرية.
والصين، بعد الثورة الثقافية، أصبحت هي الأخرى، تستطيع قطع العلاقات الاقتصادية مع الخارج دون تضرر، على أساس من التقشف تفرضه ضروراتها الداخلية الحالية في مرحلة الإقلاع التي لا زالت تمر بها.
وكذلك الاتحاد السوفييتي، على نسبة من اليسر أقل من أمريكا وأكثر من الصين اليوم، أما الأوطان الأخرى كلها، فهي لا تستطيع حل مشكلاتها الاقتصادية كلها، داخل حدودها الخاصة.
فاليابان على الرغم من أنها الدولة الاقتصادية الثالثة، لا تستطيع أن تقطع علاقاتها مع الخارج، أي أن تكوّن داخل حدودها حلقة اقتصادية مغلقة، إلا في حالات شاذة مثل ألمانيا التي استطاعت، على الأقل في السنة الأولى من الحرب العالمية الثانية أن تعيش في اقتصاد مغلق، أي مستقل ( Autarcie) على أساس مخطط الدكتور (شاخت).
والبلد الإسلامي الوحيد الذي يستطيع مواجهة الضرورات الداخلية والخارجية داخل حدوده، هو دون أي شك إندونيسيا، ومع ذلك رأيناها تفشل في تطبيق مخطط (شاخت)، لأنه طبق على أسس غير موضوعية، أي على
(1/99)
________________________________________
أسس موجودة في ألمانيا مفقودة في إندونيسيا، كما بيّنا.
فيجب أن نمضي خطوة أخرى في تصفية منطق القضية: إن كل وطن، مسلم أو غير مسلم، يستطيع حل بعض مشكلاته داخل حدوده، مثلاً كل ما يتعلق بالعدل والإدارة والأمن، كما يستطيع حل مشكلات أخرى في نطاق تنظيم جهوي، مثل إنتاج وتسويق البترول بالنسبة للدول العربية لو يتم اتفاقها بهذا الصدد، ثم هناك مشكلات لا تحل إلا على مستوى عالمي مثل قضية السلم، وتنسيق البريد إلخ.
فاتجاه الأوطان الأوربية نحو فكرة تأسيس السوق المشتركة الأوربية، ما هو إلا تقرير واقع، يمليه تطور العلاقات الاقتصادية في العالم، بعد تصفية الاستعمار، أي بعد أن فقدت الدول الأوربية، مثل فرنسا وإنجلترا وهولاندا، الرقعة التي كانت في إفريقيا أو آسيا، تكمل اقتصادها، فاتخذت هذه الدول اتجاه الاقتصاد التكاملي لمواجهة ضرورات داخلية وخارجية جديدة.
وإذا ماحللنا العوامل التي شجعت رؤساء دول أوربية، مثل الجنرال (دوغول) على احتضان فكرة السوق المشتركة، وعلى النضال في سبيلها على حساب بعض القيم التي كانت مقدسة قبل قرن، مثل الوطنية المفرطة ( Chauvinisme) فسنجد أن أوربا وجدت هذا التشجيع أولاً وقبل كل شيء في تراثها العتيد، أيام كان (شارلمان)، معاصر هارون الرشيد ينشئ على أساس العقيدة المسيحية الموحدة، ما يسمى (الامبراطورية المقدسة).
وبالتالي نرى كيف أن أوربا العلمانية المادية، لا تخشى في سبيل تنظيم اقتصادها تنظيماً جديداً أن تعود إلى عهدها القديم، إلى عالم مقدساتها لتعزيز عالم مصالحها المادية.
كذلك نرى أن الدول المتقدمة لا تخشى أن ترجع أحياناً خطوة إلى الوراء من
(1/100)
________________________________________
أجل تصحيح خطأ أو تدارك إسراف، بينما نرى أوطاناً متخلفة يعتري مسؤوليها ومثقفيها الخجل إذا ما سمعوا كلمة عن ضرورة تلافي تفريط أو إفراط، كأنهم من القوم الذين يشير إليهم القرآن الكريم: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة 5/ 79].
فاليوم نرى كثيراً من إخواننا في البلاد العربية الإسلامية يسمون المراجعة رجعية، دون أن يشعروا بأن تقدميتهم شاخت وهرمت، قد أكل عليها الدهر وشرب، لأنها فقدت ثقة الناس في مهدها، في البلاد الغربية.
بينما الأوطان العربية والإسلامية على العموم، أحوج من غيرها إلى إعادة النظر في اقتصادها حتى لا تتبع قدوة أوربا القرن التاسع عشر، ثم تكتشف خطأها بعد قرن، لتعود مرة أخرى، بعد قرن، لقدوة أوربا القرن العشرين.
يجب على البلاد العربية بوجه خاص أن تعيد النظر في تنظيم حياتها الاقتصادية، على شروط تحقيق حلقة اقتصادية كاملة داخل حدودها، متخذة أساساً شروط الاستثمار الاجتماعي التي قدمناها في صورة مسلمتين ربما يكون تطبيقهما في حدود الوطن الواحد، على درجة من الصعوبة، ولكنها تنخفض بمقدار ما تتسع رقعة التطبيق.
فأمريكا لا تستطيع تحقيق شروط الحلقة الاقتصادية الكاملة بنسبة 95% لو افترضنا أنها فقدت بعض ولاياتها: فأي تغيير في الخريطة الطبيعية- الإسكانية لوطن يغير قطعاً شروط تطبيق المسلمتين: 1) كل فم يأكل و 2) كل ساعد يعمل.
وإذن التغيير يحدث إلى أسوأ (حسب فرضنا بخصوص أمريكا) فإنه يحدث إلى أحسن حسب فرض مناقض، مثلاً بالنسبة إلى الرقعة العربية إذا ما توحدت وبقدر ما تتوحد هذه الرقعة أي بقدر ما تجمّع إمكانياتها وحاجاتها.
(1/101)
________________________________________
ولكن قضية مثل هذه لا يمكن الفصل فيها بالارتجال وإنما بالدراسة على الخريطة.
إن ليبيا، على سبيل المثال، لها متسع من التراب، ومصر لديها فائض من العدة البشرية، وللكويت فائض من المال المعطل؛ فلو اجتمعت هذه العوامل الثلاثة في خطة تجريبية لأدرك العالم العربي كله أن شروط الإقلاع والاكتفاء الذاتي هي تحت يده، عندما يريد النهوض الاقتصادي بتعميم التجربة الثلاثية التي أشرنا إليها، حتى تصير هذه التجربة لبنة عربية في أساس الحضارة الإسلامية الجديدة.
إن العالم العربي يتمتع بإمكانيات اقتصادية مهملة، مثل هذه الأراضي التي أنبتت الحضارة الإنسانية الأولى على ضفتي الدجلة والفرات، حيث ترعرعت أيضاً الحضارة الإسلامية الأولى بفضل الخيرات التي كان يمدها بها، منذ خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، التراب المطعم بطمي الآلاف من السنين، ذلك (السواد) الذي عاد مرة أخرى مستنقعات تنبت الحمى، بعد أن كان ينبت الأقوات.
إن في استطاعة العالم العربي أن يعيد للتراب وظيفته الاقتصادية، وذلك منذ اليوم، بوسائله الموجودة بيده منذ الآن، حتى في الميدان الفني إذا قرر من ناحية أخرى استعادة العقول العربية المغتربة لأسباب مختلفة، منها الأسباب الثقافية التي تتصل بفقدان المسوغات الكفيلة بشد العزائم ورفع الهمم، إلى مستوى المسؤوليات المنوطة بالعلماء والمثقفين، في نطاق مشروع شامل تتحد فيه الأيدي والعقول والأموال في الرقعة العربية، أو في أكبر جزء ممكن منها بقدر ما تكتمل فيه شروط الاقتصاد التكاملي، حتى يستأنس الناس، والقادة بوجه خاص، بأن الأوطان التي لا تستطيع مواجهة الظروف الاقتصادية العالمية بمفردها، تستطيع الصمود لها والنمو، إذا تكاتفت عقولها وأيديها وأموالها في ورشة عمل مشترك من أجل اقتصاد متحرر لا يخضع لضغط خارجي.
(1/102)
________________________________________
ومهما تكن من صعوبات في طريق إنشاء حلقة اقتصادية كاملة، عربية في خطوة أولى, إسلامية بالتالى، فيكون تحقيقها أحسن دليل على الاعتدال في التفكير وفي التطبيق، على نحو مما كان يشير إليه (خروثوف) في قوله: "إن أحسن دليل على صحة أفكارنا لهو نجاحنا الاقتصادي"، على شرط أن نغير في هذا الحكم كلمة (صحة) بكلمة (صلاحية).
ففي نطاق هذه الأفكار التي تخضع إلى تطبيق اجتماعي فالنتائج لا تترتب على (صحة) الأفكار المطبقة بقدر ما تترتب على (صلاحيتها).
فحتى الشيوعية قد يكون لها آثار اجتماعية أعمق من أفكار هي أكثر صحة منها إذا أسيء تطبيقها، فإذا استطاعت أن تؤسس في الاتحاد السوفييتي حلقة اقتصادية تستطيع الانغلاق على نفسها، بينما لا نرى العالم الإسلامي يسعى إلى تحقيق اقتصاد تكاملي، فلا يعني هذا إلا أن الشيوعيين يطبقون الفكرة الماركسية بجدية أكثر مما يطبق المسلمون إسلامهم.
فالنتائج خصوصاً في الحقل الاقتصادي، تتحقق على أساس عوامل اجتاعية صرفة تضفي على الأفكار المطبقة أكثر أو أقل صلاحية.
وحسبنا أن نقول إن الأسباب التي تطبع سلوك المسلمين لتكون أفكارهم أقل فعالية في الحقل الاقتصادي من أفكار غيرهم، نقول إنها أسباب مرحلية، أعني ملازمة للمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع الإسلامي اليوم.
وعلى المسلمين أن يتخلصوا منها في أوجز مدة ممكنة، بالطرق التي يفرضها عصر تسريع التاريخ، وهذا يعني، في مجال الاقتصاد، أن يوحدوا إمكانياتهم وحاجاتهم حتى يحققوا في أسرع ما يمكن شروط الاكتفاء الذاتي ( Lantarcie) أي الحلقة الاقتصادية التي تستطيع الانغلاق على نفسها، إذا ما اقتضت الضرورات الداخلية والخارجية ذلك.
(1/103)
________________________________________
(1/104)
________________________________________
خاتمة
إننا حاولنا، فيما قدمنا، أن نخلص الفكر الإسلامي من بعض العقد التي تستولي على اجتهاده في مجال الاقتصاد فتجمده، لأنه يرى في هذا المجال حتمية اختيار، لا فرار منه، بين أفكار ونظم الرأسمالية والأفكار والنظم الناتجة عن المذهب الماركسي.
فحاولنا أن نبين أن هذه الحتمية ليس لها من مسوّغ، سوى تسليمنا مسبقاً بأن ليس هناك مجال للاجتهاد في اكتشاف طريق ثالث، بينما مجرد المراجعة لوظيفة المال في الاقتصاد، بلونيه الرأسمالي والماركسي، تكشف عن آفاق جديدة في كيفية تشغيل الطاقات الاجتماعية، آفاق يتأتى الانطلاق منها لاقتصاد يمكّن المسلم من مواجهة ظروف التخلف، وضرورات العصر في الحدود المشروعة، على سنة الله ورسوله.
لم يكن موضوعنا سوى محاولة فك قيود، وضعتها أفكار أجنبية على اجتهادنا، والسير في اتجاه جديد بعض الخطوات، مثل التي سميناها الاستثمار الاجتماعي أو مشكلة المعادلة الاجتماعية، حتى يألف فكرنا مواصلة السير بخطوات أخرى، ليس لدينا إمكان الآن سوى أن نلمح إليها.
وحتى لو كانت الخطوات التي سرناها، مع القارئ في هذه الصفحات، غير مجدية من الناحية التطبيقية، هذا على أسوأ تقدير، فإننا مقتنعون بأن القضايا التي أثرناها وكيفية خوضنا فيها لا تفقدان الجدوى على الأقل كتمرين للفكر الإسلامي على حرية التصرف أمام معضلات الاقتصاد.
(1/105)
________________________________________
إن حركة الأفكار، مهما كانت وجهتها، تدفع الفكر لتدعيمها أو لتصحيحها، أو حتى لمقاومتها، وأعتقد أن الفكر الإسلامي مدعو إلى خوض معركة كبرى لمواجهة تحدي عالم الاقتصاد.
فهذا الكتاب يدعوه إلى خوضها بصفته رجلاً حراً لا يطأطئ الرأس أمام عجل الذهب، ولا أمام زخرف القول الماركسي.
***
(1/106)
________________________________________
المسارد
_______________
1 - مسرد الآيات القرآنية
_______________
الآية .................................................. .................................... رقمها ....................... الصفحة
سورة البقرة (2)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ........... 143 ....................... 41

سورة المائدة (5)
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} .................................................. ........ 79 ......................... 101

سورة الرعد (13)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ............................................ 11 ......................... 59، 83

سورة البلد (90)
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} .................................................. ....... 10و11 .................... 86
________________
2 - مسرد الأحاديث النبوية
________________
الحديث .................................................. .................................................. الصفحة
" إن اليد العليا خير من اليد السفلى" [صحيح البخاري] .................................................. ..... 88
دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحابته أن يجهزوا فقيراً ليحتطب فيأكل من عمل يده ................. 87
[انظر الحديث بتمامه في سنن أبي داود 2/ 120 (الحديث 1641)].
(1/107)
________________________________________
___________________
3 - مسرد الأعلام (1) والأماكن
__________________
"أ"
آدم سميث 8، 9، 42، 85
ابن خلددن 16
الاتحاد السوفيتي 19، 27، 40، 99، 103
أحمد الطريقي (متخصص عربي في أمور النفط) 38
أحمد عزة راجح (أستاذ في علم النفس) ح 40 (1)
أرنست رينان 97
الإسكندرية (جامعة) ح 40
ألبانيا 45
الفريد سوفي (مفكر اقتصادي فرنسي) (34)
ألمانيا 8، 10، 54، 74،55، 91، 99
ألمانيا الشرقية 18
ألمانيا الغربية 18
إنجلترا 31، 100
أنجلز 19
إندونيسيا (جاوة) 7، 8، 9، 22، 31، 50، 53، 54، 55، 57، 58، 90، 93، 100
أوستراليا 52
ايران 45
إيرهارت (مستشار ألماني) 10
باريس ح 22، 94
بافلون (عالم روسي) 44
برلين 53 (الرسم) 98
بسمارك 98
بغداد 53 (الرسم)
بورما 30،7
بيروت 11

"ت"
تايلور (نظرية) 17، ح 36، 93، 96
تونس 15
تيرانس مالتسيف (مهندس زراعي) 29

"ج"
جان جاك روسو ح 80
جاكرتا 15
الجزائر ح 23، 84
جون نيف 60، 63

"خ"
خرشوف 103
__________
(1) الرموز: ح: حاشية، ك: كتاب، ص: صحيفة، ك- م: من كتب مالك.
(1/108)
________________________________________
___________________
"د"
دجلة 102
دشق 53 (الرسم)
دنيس بابان 56
دوغول 100
ديكارت 57،56

"ر"
روزنبرج 71
روما 53 (الرَسم)
رومانيا 45، 67

"س"
سنكيانج (مقاطعة صينية) 27
السودان 27
سوريا 84
سيرج بردانيف 44

"ش"
شاخت (عالم اقتصاد ألماني) 8، 17، 18، 55، 58، 82، 90، 91، 93، 96، 99
شارلمان 100

"ص"
الصين 9، 17، 27، 39، 54، 76،71، 81، 89،

"ط"
طرابلس (لبنان)
طنجة 53،15 (الرسم)
طنجة - جاكرتا (محور) 25 - ح 34، 35، 93
طهران 52 - 53 (الرسم)
طوكيو 53 (الرسم)

"ع"
العربية السعودية 27
عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) 102
عمر مسقاوي 5

"ف"
الفرات 102
فالترشوبرت 44
فرنسا 21، 24، 34، 100
فيتنام (الهند الصينية)
"ق"
القاهرة 53 (الرسم) ح 78
القطارة (منخفض بمصر) 28

"ك"
كابول 53 (الرسم)
كازاستان (مقاطعة روسية) 27
كلكتا 15
كولومبو (مشروع) 28
الكومودور بيري 96
الكويت 52

"ل"
لندن 53 (الرسم)
لويس الرابع عشر 98
(1/109)
________________________________________
___________________
ليبنتيز 97
ليبيا 28، 84، 102

"م"
ماركس 8، 9، 19، 72، 83
مالتوس 24
مرشال (مشروع) 70، 71
مروان قنواتي ح 35
مصدق (رئيس الوزراء الإيراني الذي أمم البترول) 52
مصر 26، 27، 81، 84، 97
موريس جرنييه ح 70
موسكو 53 (الرسم) 67
نيوزيلاندة 52
نيويورك 73، 74

"هـ"
هربرت لوشي ح 22
الهند ح 78، 94
هولندا 100

"و"
واشنطن 53 (الرسم)
واشنطن موسكو (محور) 25، 30، 35، 92
واط 56
الولايات المتحدة 10، 50، 53 (الرسم)، 73، 99

"ي"
اليابان 9، 71، 92، 99
يوغوسلافيا 67
يوكنج (جد أسطوري لدى الصينيين) 71، 77
اليونان 51، 53 (الرسم)
(1/110)
________________________________________
________________________
4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب
________________________
"أ"
الاستخانوفية 19
الاشتراكية 45، 75
الألماني (الشعب) 9، 70، 74، 91
الأندونيسي (الشعب) 9، 96

"ر"
الرأسمالية 9، 10، 16، 42، 43، 44، 67، 83، 85، 105

"ش"
الشيوعية 9، 16، 42
الشيوعية (الثورة) 85

"ق"
القرامطة 45

"ل"
الليبرالية 8، 9، 44

"م"
المادية 8، 9، 44
الماركسية 9، 36،15، 44، 82، 83، 103، 105

"ي"
الياباني (الشعب) 71
______________________
5 - المؤتمرات والمعاهدات والاتفاقيات
______________________
"أ"
الأمم المتحدة (هيئة) 25، 38، 50، ح 78، 94
_____________
6 - المراجع والمصادر
_____________
"أ"
الأسس الثقافية للحضارة الصناعية (ك) 60
الدم والذهب (ك) 71

"ع"
العقد الاجتماعي ح 80

"ف"
فرنسا في العهد القردي (ك) ح 22

"ل"
لوموند (ص) ح 70

"و"
وجهة العالم الإسلامي (ك-م) ح 22
(1/111)
________________________________________
______________
7 - مسرد الموضوعات
______________
الموضوع .................................................. ......................................... الصفحة
المقدمة .................................................. ........................................... 7

الجزء الأول: عموميات البحث .................................................. ...................... 13
1 - صورة العلاقات الاقتصادية الراهنة في العالم .................................................. ... 15
2 - الاقتصاد والاقتصادانية .................................................. ....................... 35
3 - حدود الاختيار الإسلامي بين المناهج الموجودة .................................................. 42

الجزء الثاني: صورة المشكلات .................................................. ..................... 47
1 - خريطة توزيع الإمكانات الاقتصادية في العالم .................................................. ... 49
2 - حدود التفسير الاقتصادي البحت لتوزيع الإمكانات .............................................. 54
3 - الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد .................................................. ............. 59

الجزء الثالث: شروط الانطلاق .................................................. ..................... 65
1 - دور المال في اختزان العمل .................................................. ..................... 67
2 - الاستثمار المالي والاستثمار الاجتماعي .................................................. ....... 73
3 - تحقيق الديناميكا الاقتصادية على أساس مبدئي ................................................. 79
4 - الأساس الأخلاقي لعمليتي الإنتاج والتوزيع .................................................. .... 85
5 - المعادلة البيولوجية والمعادلة الاجتماعية للفرد في التجارب الحديثة ................................. 90
6 - ضرورة الاكتفاء الذاتي والتطور من الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد جهوي لتحقيق الاكتفاء .......... 97

خاتمة .................................................. .............................................. 105
المسارد .................................................. ............................................. 107
(1/112)
________________________________________




http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59