عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 01-30-2012, 12:09 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي أبجديات البحث في العلوم الشرعية


أبجديات البحث
في العلوم الشرعية



فريد الأنصاري

















* التلخيص من إنجاز شكيب بنيس *




مقــدمـــة



إن المنهج هو جوهر مشكلة الأمة ، فلو استقامت عليه لاستقام لها كل شيء ، فالمنهج ضد الارتجال ، ولا يستقيم أمر بغير ترتيب ، ولا يقوم بناء بغير نسق وتركيب .
وهكذا يصير التعلم الحق ، ليس هو جمع المعارف واحتطابها ، بقدر ما هو بحث في مناهجها ، لاقتناص أسراره ، بإدراك كيفيات انبنائها ، وطرائق تركيبها .
وفرق في مقامات العلوم بين من يروي أشكالها ورسومها ومن يستنبط ويخترع أحكامها وقواعدها ، إذ العالم ليس هو الذي يحمل في رأسه خزائن ومكتبات ، ولكنه الذي يعرف كيف يوظف ما في رأسه ، وما في الخزائن والمكتبات ، من أجل إضافة بعض الإضافات . ولعل من أصعب الأزمات التي تعاني منها الأمة اليوم ، هي غياب العقل المنهجي ، أو التفكير الناهج ، أي الواضح والبين والمستقيم . إن الارتجال ، والتلقائية غير الواعية في معالجة شؤون الحياة ، دليل قاطع على غياب الممارسة المنهجية .
بيد أن الترتيبات ، وتقسيم الاحتمالات ، وسبر التعليلات للمتوقع قبل أن يقع ورسم خطط التعامل معه من أول نقطة البداية حتى النهاية ، حتى إذا حضـر
إبانه ، وصار نازلة واقعة ، كان لديك التصور الكامل لتفسيره وتعليله ، والأدوات الكافية لنقده وتوجيهه ، كل ذلك وما في معناه ، هو مقتضى العقل المنهجي ، أو التفكير الناهج ، الذي يفترض أن يكون شاملا لكل نشاطات الحياة الإسلامية على العموم .
وبما أن البحث العلمي هو أحد أهم خصائص العقل المسلم ، فيجب أن يكون من أول ما يخضع لإعادة التشكيل المنهجي ، وأن يترتب ) لهذا الغرض ( في

-1-
مصارف الضروريات ، ومقدمات العزائم ، ذلك أنه : " إذا جاز الترخص في شيء فإن البحث العلمي لا ينبغي أن يكون من ذلك بحال ، لأنه بمثابة القلب من جسد الأمة ".
الفصل الأول : عملية البحث في العلوم الشرعية.
المبحث الأول : ضوابط البحث العلمي :
أصل ) البحث ( في اللغة ) طلبك الشيء في التراب : بَحَثَهُ يَبْحَثُهُ بَحْثاً وابْتَحَثَهُ ( ومنه استُعمل ) البحث ( بمعنى ) أن تسأل عن شيء وتستخبر ( .
إن معنى البحث في اللغة إذن ، هو طلب أمر غائب ! فما وراء التراب لا شك يكون قد غبر عن الأنظار ، فهو متغيب ، وكذلك ما غاب عن العقل أيضا هو غابر عن التصور ، لذلك يجري البحث عن هذا أو ذاك ، للكشف عن حقيقته أو طبيعته .
أما البحث العلمي فهو : عمل منظم يهدف إلى حل مشكلة معرفية باستقراء جميع مكوناتها التي يظن أنها أساس الإشكال . إن المشكلة ليست هــي تعريف ) البحث ( بقدر ما هي في ممارسته بدءا بتصور الموضوع حتى الدخول فيه ، ولذلك فإن أول عقبة عملية ، تواجه الباحث هي مشكلة الاختبار .
1-الضابط التعبدي :
قد يستغرب الكثير وضع " التعبد " ضابطا من ضوابط البحث العلمي ، غير أننا نحن المسلمين نستغرب إقصاءه ليس من مجال البحث العلمي فحسب ، ولكن من كل أنشطة الحياة ، داخل المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام ! . لقد كان علماء هذه الأمة يبدؤون في استهلال دروسهم وأعمالهم العلمية عادة بحديث : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل مريء ما نوى " رجاء رفع عملهم ذاك إلى مقـام التعبد . إنه إذا كان الغرب يشجع البحث العلمي في مجتمعه ، بخلق هالة كبرى

-2-
حول رجالات العلم والأدب عامـة ، فيسميهم " عظماء " فإننا نحن المسلمين لدينا وسيلة أجدى وأنفع من وسيلتهم . إن " العظمة " صورة لحدود مدارك الإنسان الغربي ، وهي مدارك مادية عاجلة دنيوية محضة ، ولذلك فلا ائتمان على الشخص في أن يرائي أو يستكبر أو يطغى بعلمه ، أو يستعمله في غير قصد شريف ، فيدمر به البشرية جمعاء كما يفعلون هم ! إن " ضابط التعبد " بالنسبة للمسلم هو صمام الأمان الذي يضمن له ولغيره الإخلاص في العمل والنصـح فيه ، لنفسه ولمجتمعه وللبشرية كلها . ومن هنا كان حرص علماء الإسلام على سلامة " المقاصد " في كل قـول وفعل ، يقول أبـو إسحـاق الشاطبي : ) المقاصد أرواح الأعمال ( .
2-الضابط الإشكالي :
وذلك أن البحث العلمي هو في حد ذاته ، طلب المجهول ، غير متحدد في ذاته ، وإن كنا نعلم بعض معالمه ، أو آثاره ، لكن حقيقته لا تُعلم بالظن الراجح ، وإلا لما كانت هناك حاجة إلى بحثه . ثم لا بد من تنقيح ) الإشكال العلمي (
بتجريده من الشوائب وتحقيق أركانه ، أعني العوائق المعرفية التي يتكون منها ، وبيان الزائف منها من الصالح ، حتى يتأكد في النهاية من كون هذا الإشكال حقيقيا لا وهميا . فالحرص على قيمة البحث إنما يكون بالحرص على أهمية إشكاله العلمي . وما أصدق الدكتور أحمد بدر حين قال :
) يؤكد المشتغلون بالبحث العلمي ، أن اختيار مشكلة البحث وتحديدها ، ربما يكون أصعب من إيجاد الحلول لها ( .
3-الضابط الشمولي :
ذلك أن الباحث إذا استطاع أن يؤسس إشكاله ، فإن عليه أن يؤطره ضمن رؤية شمولية لمسيرته العلمية في الدراسة والبحث . وأعني بالضبط أن يؤسس لنفسه

-3-
مشروعا . وهذا هو الضابط الحضاري للبحث العلمي ، وهو أجدر بباحث ينتمي إلى حضارة الإسلام ، التي هي في نهاية الأمر عبارة عن مشروع رباني يُقَدَّمُ إلى الإنسانية جمعاء ! ولا شك أن أي إعادة إحياء للدور الريادي لهذه الأمة ، هو في ذات الوقت إحياء للمشروع الإسلامي المتعدد الجوانب وليس البحث العلمي إلا جانبا منه . فالناظر في واقع العلوم الإسلامية يتضح له أن هناك صروحا علمية يجب أن تقام ، ومشاريع كبرى يجب أن تُنجز ، حتى يتسنى لهذه الأمة الانطلاق على الصعيدين :
العلمي والمنهجي . فقد يبدو للباحث بعد التحقيق والتدقيق ، أن علما ما من العلوم الإسلامية غير قائم الأركان ، ولا مبني على نسق دقيق ، فيهب عمره لهذا الأمر الجليل ، ويُنذر أن يقوم بهذا البناء والتركيب ، حتى يتم له المقصود أو يهلك دونه ، وذلك بإنجاز كل بحوثه في هذا الاتجاه ، خطوة خطوة ، حتى يصل إلى نهاية المشروع أو نهاية أجله ، ولعل الله بعد ذلك ييسر لهذا البناء من يتممه .
4- ضابط الأولويات العلمية ، أو مراحل المشروع التراثي .
قبل أن تبدأ أي عمل مهما كان ذلك العمل ، لابد لك أن تسأل نفسك : بم أبدأ وبم أنتهي ؟ وهذا يتجلى بشكل طبيعي في الحياة اليومية للإنسان ، فالمسلم خاصة ، إذا استيقظ فجر يومه ، فإنه يعرف أن عليه أولا أن يستعد لصـلاة الفجر ، وأول الاستعداد هو الوضوء ، وإنما وجب الوضوء لأنه شرط في صحة الصلاة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهكذا فكل عمل له سوابق ولواحق ، ولا يمكن أن تُنجز اللواحق قبل السوابق . والإسلام نظم حياة المسلمين تنظيما ، فهو بحق " منهج حياة " ، وأي خرق للترتيب أعني لمبدأ " الأولويات " هو خرق للمنهج . وهذا أساسا ، ما يجب أن ينطبق على الميدان العلمي ، وترجمان ذلك في الدراسات الإسلامية ، أن الباحث في أي مجال من

-4-
المجالات العلمية ، يواجه تراثا ضخما ، ولا بد له من فهم هذا التراث ، فهما دقيقا حتى يتسنى له ربط قنوات الاتصال به ، مهما اختلفت أشكال هذا الاتصال وأهدافه . وهكذا ففي إطار ترتيب أولويات البحث في العلوم الشرعية يمكن أن نتحدث عن مراحل ثلاث هي :
أ- المرحلة التحقيقية :
ذلك أن العائد إلى النصوص التراثية لا بد له أن يتأكد من صحتها أولا ، سندا ومتنا ، أعني أن يتحقق من صحة النص ، المقصود للدراسة أو الاستشهاد وهذا ما يفترض أن يكون من منجزات " المرحلة التحقيقية " التي هي أولى الأولويات ، إذ لا يُعقل أن يُنجز الطالب دراسة عن شخصية من الشخصيات العلمية مثلا ، معتمدا في استخراج آرائه من كتاب له لم يتم تحقيقه بعد ! ثم يُطلق الأحكام الجازمة القاطعة عن منهج الشخص المدروس مثلا ، أو مذهبه العقدي ، أو
موقفه السياسي ، أو رأيه الفقهي إلخ. وإذا علمت أنه قد صدر من كتاب مـا ، نسختان الأولى محققة والثانية غير محققة ، فاحرص كل الحرص على اعتماد الأولى دون الثانية .
ب- المرحلة الفهمية :
وهي ثاني مرحلة بعد التحقيق ، ويتعلق أساسا بالعلوم الناهضة ، التي استقامت قواعدها وأصولها ، ونضجت مصطلحاتها ، فصارت مجالا مناسبا لبروز العوائق والإشكاليات ، وذلك نحو علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلوم الحديث .
وهذه العلوم قد بلغت درجة من النضج والتركيب ، لم يبق معها من السهل أن نقطع " بعد قراءة نص من النصوص " بأن مقصود المؤلف هو كذا وكذا ، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالقضايا الإشكالية التي طُرحت في مجالاتها . إنه لا

-5-

مفر من القول بأن النص القديم في العلوم الإسلامية ، لا بد " من أجل إستعماله واستثماره " من أن يمر في مرحلة ثانية أساسية ، بعد مرحلة التحقيق ، وهي مرحلة الفهم ، المبنية أساسا على الدراسات التفسيرية قصد اكتشاف وتحديد مقاصد الخطاب العلمي في هذا المجال أو ذاك ، وتعتبر دراسة المصطلح في نظرنا البنية الأساس التي تصلح أن تكون أداة الفهم الأولى ، والتي عليها ينبني فهم باقي التركيب للنص التراثي .
ج- المرحلة التركيبية :
وهي المرحلة الأخيرة للنص التراثي ، ونعني بالتركيب هاهنا : الاستعمال المركب للنص ، ذلك أن الدارس له في الإطار التفسيري ، إنما يدرسه في إطاره البسيط ، ثم بعد ضبط مصطلحاته وتحديد مقاصده يصبح صالحا للاستعمال في الدراسات
التاريخية والمقارنة ، والنقدية والاستنباطية التي تُعنى ببناء النظريات والتجديد في العلم والإضافة إليه ، وهذا قصدنا بالتركيب . إن النص بعد مرحلتي التحقيق والفهم يصير أداة علمية جاهزة للاستعمال متى طُلبت ، وإنما يبقى الحساب بعد ذلك في طريقة الاستعمال !
فالأصل إذن ألا تُدرس الإشكالات التركيبة في مجال أو كتاب ما تزال الإشكالات الفهمية فيه قائمة ، أو ربما الإشكالات التحقيقية !
إن على الدارس التركيـبـبي مثلا أن يشرع في عمله ، حتى يطمئن إلى أن جميع إشكالاته التحقيقية قد سُويت ، وأن جميع إشكالاته الفهمية قد حلت ، اللهم إلا أن يكون الموضوع غير ذي إشكال تحقيقي أو فهمي . وهذا هو غالب طابع الدراسات الإسلامية المعاصرة ، أما التراث فيندُر أن يسلم مجال من ضرورة إنجاز هذه الثلاثية المذكورة : التحقيق فالفهم ثم التركيب .






يتبع .................

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59