عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-10-2020, 10:49 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

وصار الذين ارتدوا عن الإسلام في هذا الكولوخوزعونا للداعية يمارسون نشر الإلحاد بين أفراد المؤمنين.
ويكتسب العاملون في ميدان الطبِّ نفوذًا كبيرًا بين المسلمين, وفي نقط العلاج الطبيّ يستقبل الأطباء مرضاهم للعلاج الصحيّ والاجتماعيّ، وهكذا يقدِّم الأطباء المساعدة الطبية, ثم يدور الحديث حول موضوعات العلوم الطبيعية, وقد حققت نقط العلاج الطبيّ هذه, فوائد جمة لقضية تربية السكان تربيةً إلحاديةً في مدن أوزبكستان وقراها, ولذا، فإن الطبيب ومساعده من أجود المرشحين لممارسة الإلحاد بين أفراد المسلمين.
ويختص المعلمون في المدارس بدورٍ كبيرٍ في الدعاية إلى الإلحاد؛ فالبداية الأولى للتعرف إلى الطفل تجعل في إمكان المعلم تحديد التأثير الدينيّ للعائلة, ومهمته الأولى حينئذ, هي إقناع الآباء بالامتناع عن تربية الأولاد تربيةً دينيةً, ويمكنه في الوقت نفسه أن يؤثِّر تأثيرًا إلحاديًّا كبيرًا على الآباء أنفسهم, بإقامة اتصال مباشر بينه وبين أسرة التلميذ.
كثير من المعلمين لا يقصرون دورهم على تنشئة تلاميذهم بحيث يشبون غير متدينين, بل إنهم يربون فيهم رسوخ العقيدة في الإلحاد, والقدرة على مساعدة المؤمنين على التحرر من أغلال الدين, وقد نشرت صحيفة الكوسمولي الأوزبكستاني واقعةً طريفةً عن رجل عميق الإيمان, اسمه: غلام أكا, أحْضرَ إلى طشقند ماء مقدسًا من بخارى, وكم حاول أقاربه أن يقنعوه بأن هذا الماء لا يحوي أيّ شيء مقدَّس, فلم يقتنع العجوز, غير أن ابنته كانت تلميذة في الصف العاشر, وضعت نقطة من الماء المقدَّس تحت الميكروسكوب, ودعت أباها أن.. يحدق النظر، فقال الرجل في دهشة, ما هذه الديدان؟ إن نقطة الماء أكبر بمئات المرات، يا إلهي, لم أكن أتصور على الإطلاق أن في الماء المقدَّس يمكن أن يوجد مثل هذا العدد من الميكروبات, إنها معدية.. ميكروبات.. ألقي هذا الماء يا ابنتي على الأرض في الحال, هذه تجربة بسيطة قامت بها تلميذة أدت النتيجة المرجوة, ولم يفلح في تحقيقها محاولات الإقناع والشروح المسهبة.
وتؤدي اللجان النسائية دورًا كبيرًا في ممارسة نشر الإلحاد بين الأفراد من النساء المؤمنات, وقد أثَّرت تأثيرًا طيبًا في كثير من مناطق سمرقند, حين نظمت اللجان النسائية في نهار رمضان حفلات الشاي
(1/143)
________________________________________
للنساء الصائمات في الشقق والنوادي، ولم يكن المؤمنات يرفضن الإفطار في مثل هذه الأحوال, وبذلك كن يخطون الخطوة الأولى في سبيل الانعتاق من الدين.
ومن الأمور التي لها أهمية في نشر الإلحاد بين النساء, تكوين رأي عامٍّ ضد الحجاب, وضد تزويج صغار السن من البنات، وضد المعاملة المهينة للمرأة، ففي كولخوزالاتو في جمهورية كيرغيزيا, يتحدث الملحدون إلى الرجال أمام الزوار الآخرين, قبل بداية أي اجتماع, أو عرض سينمائيّ, يقولون لهم: على سبيل المثال يا حسن, قل للناس لماذا أتيت إلى الحفل بدون زوجتك, وأنت ياموزا أيضًا, بَيِّنْ للناس لم فعلت ذلك؟؟ وهنا كان بعض الرجال يصمتون, ولكن كثيرًا منهم كانوا يخرجون, ثم يعودون ومعهم زوجاتهم, وهكذا استطاع الملحدون أن يجعلوا كل الرجال يحضرون إلى أماكن الاجتماعات العامة ومعهم زوجاتهم.
وربما كان عميق الإيمان من المسلمين أكثر عزوفًا عن حضور الأمسيات والمحاضرات والمحادثات الإلحادية من أتباع أيِّ نظام دينيٍّ آخر, ذلك أن القرآن يستنكر تناول الدين بالنقد؛ لذلك كانت المناقشات المضادة للدين, والكلمات العامة عنه لا تجدي نفعًا، ذلك أن أيَّ طعن على الإسلام يعتبر إهانةً صارخةً لإنسان رضع من لبن أمه التصورات الدينية التي يشاركه إياها أجداده وأجداد أجداده, وفي مثل هذه الأحوال نجد مثل هذا الإنسان إما أن ينغلق على نفسه, وإما أن يعبئ كل إرادته وعقله من أجل المقاومة, ولكنه لن يميل إلى قبول حديث عن الإلحاد, فليس سهلًا على الإنسان أن يتخلى عن العقيدة التي نشأ عليها.
لهذا كله لا يمس الدعاة المجربون الدين مسًّا مباشرًا في محادثاتهم أثناء ممارستهم نشر الإلحاد بين أفراد المؤمنين, ولكنهم بعد أن يمهدووا بإثارة فضول المؤمن, يتحولون إلى نقد الدين, وها هو ذا مثال نسوقه للمعلمة ب. وليفا من كولخوز "أكتوبر" في ضواحي سمرقند؛ ففي المنزل عندما تجري هذه المعلمة محادثات مع المتدينات حين يفدن عليها كل مساءٍ لشرب الشاي والاسترواح, وذلك دون أن تشعر أيًّا من المشتركات في الحديث أنها دعو ة لكي تنبذ دينها, ويدور الحوار في يسر, وبلا تكلُّفٍ عن أحداث العالم, وأنباء الكولوخوز, لكن ربة المنزل هي التي تحدد لون الحديث, ثم توجه الكلام تدريجيًّا ودون أن تلحظ الأخريات إلى الموضوع
(1/144)
________________________________________
المقصود, فتطرح الأسئلة ثم تتولى هي بنفسها الإجابة, وحينما يستولي موضوع الحديث على ألباب المؤمنات, حنيئذ فقط, تبدأ في الكلام بحرارةٍ وإقناعٍ عن ضرر الرواسب الدينية.
وهذه قصةٌ يرويها ملحد من موسكو يسمى: ل. خ. جوميروف، تمكن من إخراج العاملة رحيمة بارنجلوفا من دينها، يقول الملحد: "أخذت بصفتي ملحدًا أزور العاملة المتدينة رحيمة, وكنت أحادثها طويلًا, وأقرأ الكتب جهرًا, وكانت رحيمة تصمت في أكثر الحالات, ولكنها كانت تصغي إليَّ بإهتمام, وكان واضحًا أن هذه القصص تجذب اهتمامها, من العسير أن تتصور الأمر, لقد سمعت مني لأول مرةٍ عن الأبطال من النساء السوفيت, وعرفت لأول مرةٍ أسماء المشتغلات بالعلم من السوفيت, وتكلمنا معها عن غزو السوفيت للفضاء, وقد أزعجها كثيرًا هذا الموضوع, وأذهلها على وجه الخصوص, أن رجال الفضاء لم يخافوا الله, بل ربما خافهم الله ما دام لم يحل بينهم وبين أن يصعدوا إلى مثل هذا الارتفاع, وكان على ل. ح جوميروف أن يحادثها طويلًا إلى أن خلعت رحيمة ربقة الدين من عنقها نهائيًّا.
ومن الأيسر على الداعية إلى الإلحاد أن يحقق النجاح عندما يكون الرأي العام بين المجموع مكيفًا على نحوٍ لا يفخر فيه الناس بتعليق آيات القرآن في منازلهم, بل يكون مدعاةً للخجل أن يعلقوا الآيات, أو أن يقسموا المنزل نصفين؛ نصف للرجال ونصف للنساء, أو أن يرفضوا الغذاء في نهار رمضان، أو أن يقوموا بختان أولادهم.. إلخ.
والملحد نفسه يشكل الرأي العام إلى حدٍّ كبيرٍ, يقص علينا أ. ب. أفكسينتوف, وهو أحد الملحدين في شمال القوقاز, أن عليمه جاجير زونفا شيبزوخوفاو وهي من المشاركات في النشاط الاجتماعيّ, كانت أول من امتنع عن إقامة المراسم الدينية في زواج ابنتها, وقد وجدت لها في الحال أتباعًا, ويدلنا هذا على أن تلك المراسم قد فات أوانها منذ زمن بعيد, وما أسرع ما انتشرت الأنباء في المنطقة عن زيجات جديدةٍ تتم بمشاركة الأوساط الاجتماعية, وبدون مراسم دينية، وهكذا انتهت مثل هذه الزيجات الدينية في اركينخالكي وغيرها من المناطق.
ولابد في العمل على نشر الإلحاد بين المؤمنين المسلمين, من أن تستغل في براعة اللهفة إلى المعرفة، ذلك أن الإسلام إذ يقوم على أساس
(1/145)
________________________________________
القرآن, إنما يضيق اهتمامات معتنقيه, ويحددها لكي يثبت الجهل, ولا بد أن نضع الإسلام من ناحية, والعلم والحضارة من ناحية أخرى؛ كطرفي نقيض؛ إذ أن العلم والحضارة وحدهما هما الكفيلان بحق تبلبية رغبات السوفيت في المعرفة.
وليس من قبيل المصادفة تلك النتائج الإيجابية التي حققتها أحاديث الملحد قادر بيرنييسوف, وهو من كولخوز كيزيل يولدوز, في جمهورية تركمانيا مع المتدينين, لقد استطاع أن يستخدم إنجازات العلم في تفنيد التصورات الدينية, أما الملحد رحمن خوجا ميردييف -وهو مدير مدرسة كيرفا, في جمهورية أوزبكستان, فقد سمع مرةً أحد عمال الكولخوز, واسمه رسول جمعاييف- يقول في حوار معه: "لا قدر الله علينا بنزول البرد, وهكذا تبين مدير المدرسة أن المتحدث إليه رجل مؤمن, أدرك هذا ولكنه لم يعر الأمر اهتمامًا, وأجرى الحديث معه لا عن الله, بل عن ظواهر الطبيعة, وعن ماهية المطر والبرد, وكان يتكلم بطريقةٍ مشوقةٍ جذبت انتباه عامل المزرعة, فأخذ هذا يرجو أن يزوره ضيفًا, وشرع الملحد يزور عائلة جمعاييف، وكان يبرهن للعائلة باستعمال أمثلةٍ من الحياة بسيطةٍ سهلة الفهم, على عدم وجود قوة ما فوق الطبيعة تمنح الإنسان خيرات الحياة, وأن الإنسان نفسه هو خالق سعادته, وهكذا قطع "رسول" علائقه بالدين, وقد أجرى ب. خوجا ميردييف أحاديث مع أحد المشايخ, واسمه "تور" كانا يتقابلان عشرات المرات, وفي هذه اللقاءات كان يحدثه عن سفن الفضاء, كما كان يحدثه عن المجتمع الشيوعيّ, ثم إن الملحد أطلعه على الجوهر الطبقيّ للإسلام, وفي مصلحة مَنْ كانت عقيدة القضاء والقدر, وهنا أعلن الشيخ "تور" في اجتماعٍ عامٍّ لعمال الكولخوز أنه لا يريد بعد الآن أن يعيش هذه الحياة الطفيلية, وأنه بالرغم من كبر سنه, يود أن يعمل في الكولخوز.
وهكذا تعمل الماركسية ضد الدين في روسيا وفي خارج روسيا, وإن زعمت غير ذلك.
(1/146)
________________________________________
الباب الثالث: الصهيونية "اليهودية العالمية"
الفصل الأول: التعريف بالصهيونية ومنشؤها
المبحث الأول: التعريف بالصهيونية
لا جرم أن الصهيونية أخطر المذاهب الدينية والسياسية التي منيت بها البشرية، بما تفرض من قهرٍ سياسيٍّ، وقسر فكريٍّ، وتمايز عنصريٍّ، واحتكار للقوى المادية والفكرية على مستوى البسيطة، وبما تنزغ بين البشر أبدًا بالشحناء والبغضاء، تنزع بهم كل منزع في الإحن والكيد والملاحاة، وترين على الكون غاشيات مدلهمة تنبهم في قتامها معالم الإنسانية، وتستغشي القيم الأخلاقية التي تواضعت عليها الديانات السماوية، والمذاهب الفكرية، والفطرة البشرية على السواء. فهي ليست قاصرةً على افتعال دولةٍ يهوديةٍ في فلسطين كافة، وإنما هي تستدف سيادة الدنيا بأقطارها قاطبة, واسترقاق شعوبها كافةً, وإخضاعها لنير اليهود والشرائع اليهودية.
فالصهيونية في جوهرها ومناطها: عقيدة دينية متطرفة، يذعن لها أشياعها، يسوقهم التعصب والغرور العنصريّ قسرًا، بلا وعيٍ ولا إرادةٍ، وأساسها -في زعمهم- تعاليم التوراة التي تنص على أن الله -سبحانه وتعالى- قد وعد اليهود بملك عالميٍّ أبدىٍّ, واستخلفهم في الأرض خالصةً لهم من دون الناس.
وطريقهم إلى تحقيق السيطرة على العالم مخوفة منكرة، كما رسمتها مناهجهم العملية في بروتوكولات صهيون، فهي تعتمد أساسًا على تقويض أركان المجتمع العالميّ، وبَثِّ عناصر الانحلال تعبث في خلاله, وتستشري في أوصاله، وإشاعة الفوضى الاجتماعية والفكرية الغامرة، حتى إذا تداعت قيمه، وفقد مقوماته، فتهاوى خائرًا مستسلمًا في خواء فكريٍّ وفراغٍ سياسيٍّ.
انبعث اليهود من غمار الفوضى التي يتردى فيها العالم ليمسكوا
(1/149)
________________________________________
بزمام حكمه، ويقيموا دولةً عالميةً تضم أطراف الدنيا, يكون قوامها من طبقتين:
اليهود: الشعب المختار, يتربعون على عرش السيادة, وفي يدهم صولجان الحكم، ومن دونهم من الناس قاطبةً عبيد لليهود يخضعون لحكمهم..
تلك هي الصهيونية, الداء الوبيل الذي يهدد العالم ويقض مضاجعه، وليست الصهيونية فكرةً حديثةً, وإن لم تتكشف سماتها وتتضح للعالم إلّا في القرن الماضي, تحت اسم: اليهودية العالمية، بل هي عقيدةٌ قديمةٌ, ما برحت تجول في أفكار اليهود منذ العصور اليهودية الباكرة، ويتناقلونها جيلًا بعد جيلٍ, في كتمانٍ شديدٍ، خورًا وقصورًا وتحينًا للفرص، ويعملون لها مصابرين مستوفزين، لا يفتأ أحبارهم وكهتهم يذكون جذوتها آنًا فآنًا، فلا تخبو بين جوانحهم ولا تفتر.
وفي مطلع هذا القرن الرابع عشر الهجريّ -أواخر القرن التاسع عشر الميلاديّ- واتتهم الفرصة، فدعا "هرتزل" لعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897-1315هـ, بمدينة بال بسويسرا, وكانت مقرراته هي الدستور العمليّ لهذه المرحلة من الآمال الصهيونية، ثم حدد هرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" فلسطين باعتبارها أرض الميعاد، وقد عمل الصهيونيون على تحقيق حلمهم في خطوات ومراحل زمنية, يتم من خلالها استيعاب أطراف أرض الميعاد التي تشمل المناطق الممتدة من النيل إلى الفرات، وتضم إقليم الوجه البحريّ من مصر, وسيناء, وفلسطين, وشطر العراق الغربيّ, وسوريا, ولبنان, وبادية الشام, والأردن, وشمال الحجاز حتى المدينة المنورة.
وفي عام 1367هـ-1948م, أعلن اليهود -بالتواطؤ مع الدول الكبرى- قيام دولة إسرائيل، وقال بن غوريون حين ذاك: "إن الصهيونية قد حققت هدفها في 14مايو سنة 1948 ببناء دولة يهودية أكبر مما كان متفقًا عليه, وبفضل قوات "الهاجاناه", وليست هذه نهاية كفاحنا، بل إننا اليوم قد بدأنا، وعلينا أن نمضي لتحقيق قيام الدولة التي جاهدنا في سبيلها من النيل إلى الفرات" ويعني بن غوريين أن الدولة إسرائيل قامت على مساحاة أكبر مما منحتها مشروعات التقسيم لفلطسين بين العرب واليهود.
وقد استمرت إسرائيل في الإعداد لتحقيق توسعها, واستغلت انشغال الدولة العربية عنها حتى تمكنت من احتلال سيناء والجولان وجميع أراضي فلسطين.
(1/150)
________________________________________
المبحث الثاني: منشأ الصهيونية
تنسب الصهيونية Zionism إلى جبل صهيون بفلسطين، وهو أحد جبالٍ أربعةٍ أقيمت عليها دولة أورشليم -أي: مدينة السلام, وهو الاسم القديم لبيت المقدس, ويعتقد اليهود أن إلاههم "يهوه" يقيم في جبل صهيون، وفي رحابه يظهر "المسيح المخلص" الذي ينتظره اليهود، بشيرًا بغفران الله وتوبته عليهم، وخلاصهم مما يقاسون من بأس وأعنات، بعد تطهرهم من أدران الموبقات والمعاصي التي ظلوا عليها عاكفين أمدًا طويلًا.
والصهيونية مذهبٌ دينيٌّ استعماريٌّ متطرفٌ جدًّا, يتمذهب به غلاة اليهود، تهدف إلى السيطرة السياسية على العالم بتقويض النظم السياسية للمجتمع الدولي بأسره، وإخضاعه لنير اليهود وحكمهم، ويزعم اليهود أن الله استخلفهم في الأرض, وأروثهم أقطارها وشعوبها حقًّا مقدسًا مقضيًا، وأن الدول القائمة كافة دعية مغتصبة, وأن على اليهود المجاهدة لاسترداد حقهم في فلسطين أرض الميعاد، تحت امرة ملك من نسل داود، فإذا استتب لهم الأمر فيها, عملوا على تنفيذ الشق الثاني من الوعود الإلهية، واتخاذهم ملكهم في فلسطين قاعدة لملكهم, والاستسلام لمشيئتهم المستمدة من مشيئة الله, ينتهي الأمر بظهور المسيح المنتظر الذي أفاضت التوراة في ذكره.
ويستند اليهود في دعواهم العودة إلى أرض الميعاد فلسطين, بأن ذلك ثابت من أحداث التاريخ في:
محاولة موسى -عليه السلام- دخول فلسطين مع الأسباط الهاربين من مصر, ثم غزوة يوشع لتخوم فلسطين, ثم تأسيس مملكة اليهود الأولى في عهد شاؤول, ثم عودة اليهود من بابل بعد السبي بزعامة زرو بابل.
(1/151)
________________________________________
ثم ثورات اليهود في فلسطين ضد حكم البطالسة والرومان, ثم محاولات اليهود في العصور الحديثة شراء أراضٍ في فلسطين يمارسون فيها حياة الاستقرار, ويزعمون أن هذه كلها حركات صهيونية خالصة.
وبالنسبة للشقِّ الثاني من الوعود الإلهية -على زعم اليهود- فإن من الحركات الصهيونية البحتة حركة سبتاي زيفي, الذي قام في سالونيك عام 1666م, مدعيًا المسيح المنتظر، ابتغاء تجميع اليهود تحت زعامته لتحقيق نبوءات التوراة.
وعلى هذا, فإن جذور الصهيونية تمتد إلى أعماق التاريخ اليهوديّ، والطابع الدينيّ هو السمة الأصلية لنظرية الصهيونية، ويعترف الدكتور سلوموز شختر1 بهذه الحقيقة حيث يقول: "حيثما يكون الصهيونيون عاملين نشيطين, تكون اليهودية حيةً عاملةً".
وعلى أثر الثورة الإسلامية العربية في فلسطين عام 1355هـ-1936م, ضد المؤتمرات الاستعمارية والصهيونية فيها، شكلت حكومة الانتداب البريطانيّ اللجنة الملكية البريطانية لعلاج مشكلة فلسطين, وكان هدفها تقسيم البلاد بين العرب واليهود، وقد صرَّح زعيم الصهيونيين "وايزمن" أمام هذه اللجنة, أن مبنى حق اليهود في فلسطين إنما هو وعد الله بأرض إسرائيل، وهذا هو سند اليهود الوحيد الذي لا سند سواه, لجأ إليه وايزمن بعد أن خذلته سائر المزاعم والأسانيد المنطقية والقانونية, وتأييدًا لذلك يقول "دافيد بن غوريون" مؤسس دولة إسرائيل: "إن الصهيونية الحقيقية لم تبدأ بهرتزل ومؤتمر بال، ولا بوعد بلفور، ولا بقرارات الأمم المتحدة عام 1948م، لكنها بدأت يوم وعد الله أبانا إبراهيم وعده".
وقد ظلت دعوة اليهود لإحياء آمالهم في العودة إلى أرض الميعاد مستخفيةً طوال ثمانية عشر قرنًا، إلّا ما كان من بعض حاخاماتهم مثل: "سبتاري زيفي" الذي سبقت الإشارة إلى حركته في ظلال ما أتاحه الحكم الإسلاميّ المتسامح لليهود في سالونيك, التي كانت مدينةً تابعةً لدولة الخلافة العثمانية.
__________
1 1847 - 1915.
(1/152)
________________________________________
وفيما يلي وثيقة نشرتها مجلة "فرنسا القديمة", تكشف عن طرفٍ من نشاط اليهود وتدبيرهم الخفيّ1:
"في عام 1880 نشرت مجلة الدروس اليهودية التي تتقاضى نفقاتهامن جيمس روتشيلد استنادين, يوضحان أن حكماء صهيون يعملون منذ القرن الخامس عشر -التاسع الهجري, في سبيل الفتح اليهوديّ.
ففي 13 كانون الثاني سنة 1489م, كتب شامور رباني مدينة أرل -من أعمال مقاطعة البروفنس الفرنسية- إلى المجمع اليهوديّ العالميّ القائم في الأستانة -وهي إسلامبول عاصمة العثمانيين- يستشيره في بعض حالات حرجة، قال: إن فرنساويى أكس, وآرل ومارسيليا، يتهددون معابدنا فماذا نعمل؟ فورده الجواب الآتي:
أيها الأخوة الأعزاء بموسى، تلقينا كتابكم، وفيه تطلعوننا على ما تقاسونه من الهموم والبلايا، فكان وقع هذا الخبر شديد الوطأة علينا، وإليكم رأي المرازبة -الحكام, والربانيين:
* بمقتضى قولكم أن ملك فرنسا يجبركم أن تعتنقوا الدين المسيحيّ فاعتنقوه، فإنه لا يسعكم أن تقاوموا، غير أنه يجب عليكم أن تبقوا شريعة موسى راسخةً في قلوبكم.
* بمقتضى قولكم أنهم يأمرونكم بالتجرد من أملاككم، فاجعلوا أولادكم تجارًا ليتمكنوا رويدًا رويدًا من تجريد المسيحيين من أملاكهم.
* بمقتضى قولكم أنهم يعتدون على حياتكم, فاجعلوا أولادكم أطبَّاء وصيادلة ليعدموا المسيحيين حياتهم.
* بمقتضى قولكم أنهم يعتدون على حياتكم, فاجعلوا أولادكم وكلاء دعاوى، وكتبه عدل، وليتداخلوا دومًا في مسائل الحكومة ليخضعوا المسيحيين لنيركم, فتستولون على زمام السلطة العالمية، وبذلك يتسنى لكم الانتقام.
سيروا بموجب أمرنا هذا, فتتعلمون بالاختيار أنكم من ذُلِّكُم وضعفِكم تتوصلون إلى ذروة القوة والعظمة.
في 21 كاسلو "تشرين ثاني" 1489.
التوقيع: أمير اليهود.
V. S. S. V. F. F.
__________
1 من كتاب "مؤامرة اليهود على المسيحية", تأليف: إميل الغوري, ص40-42.
(1/153)
________________________________________
الفصل الثاني: مقومات الصهيونية
المبحث الأول: المقومات الدينية
أولًا: امتلاك فلسطين والأقطار المجاورة لها
يعتقد اليهود أن مُلْكَ فلسطين حقٌّ مشروع لهم، حيث وعد الله به ذرية إبراهيم -عليه السلام- في التوراة: "واجتاز إبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حنيئذٍ في الأرض، وظهر الرب لإبرام، وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحًا للربِّ الذي ظهر له1".
ثم وجه هذا الوعد، ولما يتحقق بعد، إلى إسحق بن إبراهيم، عليهما السلام: "وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم، فذهب إسحق إلى أبي مالك ملك الفلسطينيين إلى جرار، وظهر له الرب وقال: لا تنزل إلى أرض مصر، اسكن في الأرض التي أقول لك، تغرب في هذه الأرض، فأكون معك، وأباركك، لأني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد، وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك2".
ومفهوم هذا النص أن الله قد اختص اسحق -عليه السلام, ونسله بجماع ما وعد به أباه إبراهيم ونسله، فيما عدا مصر التي أمره بعدم النزول فيها، والتي ينبغي أن تؤول بناءً على هذا إلى إسماعيل -عليه السلام، لولا أن الله قد استثناه من ذرية إبراهيم -عليه السلام فيما وعد به -كما يزعم محرفو التوراة.." وقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله: بل أمراتك تلد لك ابنًا وتدعو
__________
1 الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين 6، 7.
2 الاصحاح السادس والعشرين من سفر التكوين 1-3.
(1/154)
________________________________________
اسمه إسحق، وأقيم عهدي معه أبديًّا لنسله من بعده, وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًّا, اثني عشر رئيسًا بلد، وأجعله أمة كبيرة، ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية1".
ثم وجَّه هذا الوعد مرةً أخرى إلى يعقوب, ثم إسحق -عليهما السلام, في صورة حلمٍ تراءى ليعقوب وهو نائم في أرض حاران، وورد ذكر تمليك أرض كنعان لموسى وهارون -عليهما السلام2, وبعد وفاة موسى وجَّه الله وعده إلى خليفته يوشع بن نون في صورة أكثر تفصيلًا: "موسى عبدي قد مات، فالآن قم اعبر هذا الآردن، أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم -أي: لبني إسرائيل, كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته، كما كلمت موسى، من البرية ولبنان, هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض الحيثيين, وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخومكم3".
وجاء الوعد الإلهيّ أخيرًا إلى داود -عليه السلام, ونسله, على لسان ناثان النبيّ4، وتكرر ذكر الوعد الإلهيّ في أسفار شتَّى، كما أوردته المزامير في أكثر من موضع، ومن ذلك: "لأن الله يخلص صهيون، وبين مدن يهوذا، فيسكنون هنالك ويرثونها، ونسل عبيده يملكونها، ومحبو اسمه يسكنون فيها5".
هكذا تكررت الوعود الإلهية بملك اليهود لفلسطين، وكأنما وجهت متتالية لمجرد التشويق والإثارة لا للتنفيذ، فهي توجه لهذا تارةً ولآخر تارةً أخرى, من غير أن تتحقق لا لهذا ولا لذاك.
__________
1 الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين 18-22.
2 في الإصحاح الرابع عشر من سفر اللاويين 33، 34.
3 الإصحاح الأول من سفر يشوع 2-4.
4 الإصحاح السابع سفر صموئيل الثاني 4-6 و12-16.
5 المزمور التاسع والستين.
(1/155)
________________________________________
ثانيًا: فكرة المسيح المنتظر:
يعتد اليهود أن عودتهم إلى أرض الميعاد سوف تتم على يدي المسيح المنتظر، Paraclet ويقصد به المنقذ أو المخلص؛ إذ سوف يبعثه الله من صهيون من نسل داود، لينقذهم من المحن والشدائد والهوان، جزاء عصيانهم أوامر الله، ومروقهم عن طاعة أنبيائه، وإمعانهم في الآثام والموبقات، وينتقم لهم من جميع الشعوب، ويفرض عليها سلطان اليهود.
وجا في التوراة1: إنه ظهر في مملكة إسرائيل في عهد الملك أخاب ابن عمري النبيّ إيليا التشبي, داعيًا إلى تطهير البلاد من أدران الوثنية والمفاسد الخلقية التي تَرَدَّى فيها المجتمع الإسرائيلي، إلّا أن دعوته صادفت أزورارًا وإنكارًا, فصعد إلى السماء في غمار عاصفةٍ عاتيةٍ، مستقلًا مركبةً ناريةً, تجرها خيل من نار كذلك.
ويعيش اليهود على أمل هبوط النبيّ إيليا من السماء، بشيرًا بمقدم المسيح المنتظر هاديًا ومخلصًا.
__________
1 الإصحاح الثاني من سفر الملوك الثاني.
(1/156)
________________________________________
ثالث: اخضاع العالم لسلطان اليهود-شعب الله المختار
...
ثالثًا: إخضاع العالم لسلطان اليهود -شعب الله المختار
حرص اليهود على إخفاء أطماعهم الاستعمارية الخيالية، وتكتموا الأسباب التي يعزون إليها حقهم في حكم العالم وسيادة البشر، فلا يتناجون بها إلّا في خاصة مجالسهم ومجتمعاتهم، متخافتين حتى لا يستثيروا السخط العالميّ، ويوجهوا عداوة, ولهذا بادر الصهيونيون إلى إنكار دستور اليهودية العالمية "بروتوكولات صهيون"، متبرئين منها فور إماطة اللثام عنها، وحاولوا إحراق الطبعات الأولى منها قبل تداولها وذيوعها، ولكنهم فشلوا؛ إذ تكرر طبعها في أنحاء العالم بمختلف اللغات.
وقد سار الصهيونيون في تحقيق أهداف البروتوكولات الخطيرة -رغم إنكارهم لها- مترسمين تعاليمها ومناهجها بدقة وإصرار ودأب متصل، وكان الزعيم الصهيونيّ الكبير "هرتزل" قد صرح في عدة بيانات أصدرتها اللجنة الصهيونية في عام 1901م-1319هـ, أن بعض الوثائق الخطيرة قد سرقت من قدس الأقداس، وما كان ينبغي لها أن تنشر قبل الأوان، مشيرًا بذلك إلى تلك البروتوكلات دون ريب، وكان أمرها قد افتضح للعالم, مما أثار الرأي العام العالميّ ضد اليهود.
ويستند اليهود في ادعائهم حق السيطرة على العالم إلى ما جاء
(1/156)
________________________________________
في التوراة من أنهم شعب الله المختار الذي فضَّلَه الله على العالمين، واستخلفه في الأرض، ومن ثَمّ كان من حقه السيطرة على شعوب الأرض, والقوامة على حكوماتها، ومما جاء في التوراة: "ويقف الأجانب ويرعون غنمكم، ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أما أنتم فتدعون كهنة الرب, تسمون خدام إلاهنا، تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتأمرون1".
وفي التوراة أيضًا: "إني أخبر من جهة قضاء الرب، قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك، تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزف تكسرهم2".
وقد كان الكاهن "عزرا" يعتقد أن العالم قد خُلِقَ من أجل بني إسرائيل -شعب الله المختار، وأن مآله إلى الخضوع لحكمهم، وأن بني إسرائيل يمرون في ذلك الوقت من عصر عزرا بمرحلة تمهيدية ضرورية للوصول بهم إلى الملك العالميّ الموعود.
والعجيب أن هذه المرحلة التمهيدية لم تنته بعد، رغم مرور أكثر من أربعةٍ وعشرين قرنًا من الزمان.
ونكتفي بالرد على أوهام الصهيونية بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 3.
__________
1 الإصحاح الحادي والستين من سفر التكوين4-6.
2 المزمور الثاني 7-9.
3 سورة البقرة 134.
(1/157)
________________________________________
التعاليم السرية في التلمود والكبالا:
هذا, ولا تقتصر النصوص الدينية لدى الصهيونيين على أسفار التوراة فحسب، فالصهيونية تنتمي بعقيدتها إلى طائفة اليهود الربانيين الذين يؤمنون بالتلمود كتابًا مقدسًا، ويعتقدون أنه منزل من عند الله على موسى -عليه السلام, كالتوراة سواء بسواء، ولا يختلف عن التوراة إلّا في أنه أنزل على موسى مشافهة، بينما كتبت نصوص التوراة على لوحين حجريين بيد القدرة الإلهية، وأكمل موسى -عليه السلام- تدوينها في كتاب.
(1/157)
________________________________________
ولئن نسب كثير من تعاليم التلمود إلى حاخامات اليهود الربيين، فإن ذلك مما يؤكد قداستها في عرفهم؛ لأن كلام الحاخامات كما يقول التلمود هو كلام الله, وله عند الله المقام الأسمى، حتى أنه -سبحانه وتعالى- يستشيرهم كلما أعضلته مشكلة مستعصية1. -تعالى الله عما يقولون..
ومبنى تعاليم التلمود, أن بني إسرائيل صفوة الخلق، اصطفاهم الله على العالمين، واستخلفهم في الأرض يتملكونها ويسودون أهلها، حقًّا مقضيًّا لهم, وقد بشَّر التلمود اليهود بملك العالم في قوله: "كل مكان تطؤه أقدامكم يكون لكم، كل الأماكن التي تحتلونها فإنها لكم، فأنتم سترثون الجوييم -أي: الكفرة والأنجاس غير اليهود- المستكبرين في الأرض، وبعد ذلك كل مكان بعد أرض إسرائيل التي يجب أن لا تكون نجسة تحت أقدام الجوييم، إنكم بعد أن تحتلوا أرض إسرائيل يحق لكم أن تحتلوا غيرها".
وجاء في التلمود أيضًا: "يجب على كل يهوديٍّ أن يسعى لأن تظل السلطة على الأرض لليهود دون سواهم، وقبل أن يحكم اليهود نهائيًا باقي الأمم, يجب أن تقوم الحرب على قدمٍ وساقٍ، ويهلك ثلثا العالم، وسيأتي المسيح الحقيقيّ ويحقق النصر المرتقب، وحينئذٍ تصبح الأمة اليهودية غايةً في الثراء؛ لأنها تكون قد ملكت أموال العالم جميعًا، ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجيء إسرائيل، وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجيء المسيح".
ويحلق بالتلمود -وهو كتاب اليهود السريّ المقدس- كتاب سريّ آخر, يعرف "بالكبالا" لا يقل عنه خطورةً، بما يثير من التعصب العنصريّ العنيف، ويروج له بغلظة ووحشية.
والكبالا كتاب يتوارثه اليهود منذ القدم، يعالج التصويف اليهوديّ عن طريق ***** الذي يمثل شطرًا من الطقوس الدينية التي يمارسونها خفيةً, خشية اطلاع أحدٍ من الشعوب الأخرى عليها، لما فيها من التفنن في الكيد لتلك الشعوب, والتحريض على اغتيالها لاستنزاف دمائها، واستخدامها في ممارسة هذه الطقوس، ويحقق الكبالا لليهود الأهداف التالية:
__________
1 كتاب الكنز المرصود في قواعد التلمود, للدكتور روهلنج, ترجمة الدكتور: يوسف نصر الله ص32 و33.
(1/158)
________________________________________
1- الحفاظ على مباديء اليهود العدوانية المتطرفة حيال الشعوب الأخرى، بإيجاد المناخ النفسيّ الملائم لتعيش هذه المبادئ، وذلك بإشعال نار الحقد والتعصب العنصريّ في صدور اليهود, بما تتضمنه من فنون الكيد والانتقام التي تحضهم عليها كشعائر دينية مقدسة.
2- إشباع ثائرة اليهود العدوانية، وشفاء غليلهم باستنزاف دماء أعدائهم، واستخدامها في الطقوس *****ية الدموية.
3- يحس اليهود في ممارسة تعاليم الكبالا طمأنينةً وراحةً نفسيةً عميقةً, ويستشعرون أنهم إنما يمارسون شعائر مقدسة تقربهم من الله, وترفع عنهم ما حاق بهم من غضبٍ إلهيٍّ منذ الحقب الخالية.
وقد كانت تعاليم الكبالا نواةً للنشاط السري الهدَّام, الذي توفر عليه اليهود دائبين, متمثلًا في مختلف الجمعيات والمؤتمرات التي سعوا من خلالها إلى تحقيق آمالهم وأطماعهم، كما كان لتلك التعاليم تأثير مباشر في صياغة أفكار اليهود الصهيونيين على الصورة الشائعة القائمة، والأسلوب الدمويّ الجانح الذي يمارسه الصهيونيون الآن1.
__________
1 في كتاب "اليهودية العالمية وحربها المستمرة على المسيحية"، للأستاذ إيليا أبو الروس, تفصيل وقائع محددة عن ممارسة اليهود طقوسًا وحشيةً على تقديم الضحايا البشرية بقتلهم بفنونٍ من التعذيب والوحشية, بقصد استخدام دمائهم المسفوحة في أغراضٍ دينيةٍ تقربًا إلى الله.. وقد ورد في الكتاب المذكور كثير من الوقائع التي أوقعها اليهود في أقطار العالم الشرقية والغربية, وكشفت عنها التحقيقات الرسمية التي أجرتها الحكومات المختصة, وكذلك أورد عبد الله التل في كتابه "خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية" كثيرًا من الوقائع المشابهة.
(1/159)
________________________________________
المبحث الثاني: المقومات السياسية
لم يفصح اليهود عن نواياهم الاستعمارية؛ لأن مقوماتها دينية محضة، ومبناها على نصوص التوراة وتعاليم التلمود والكبالا، كما رأينا، ومن تلك المصادر الدينية، وضعت الصهيونية الحديثة قواعد دستورها المعروف بـ بروتوكولات حكماء1 صهيون, وقد كانت هذه التعاليم من أسباب تألب الرأي العام الأوربيّ على اليهود، وما أصابهم من اضطهادٍ وتعذيبٍ، لما تضمنته من أطماعٍ عدوانيةٍ, وتعاليم فاسدة جانحة, تثير الحقد والبغضاء, وتعيث في الأرض بالفساد والخراب.
وفي القرن الماضي استغل اليهود رواج النظريات القومية, وتفجر الحركات الاستقلالية في أوربا، فالتمسوا الذرائع التي توسلت بها الشعوب لتحقيق مطالبها القومية، وقد ساعد اليهود في الوصول إلى هدفهم ما ظفروا به من حريةٍ في ظلال الحكومات الكبرى؛ كبريطانيا وفرنسا، أسوةً بسائر الشعوب المهضومة الحقوق، وبذلك تمكَّن اليهود من الجهر بمطالبهم، واستدرار الشفقة والعطف عليهم, بعد ما عانوه من صنوف الذل والاضطهاد.
وقد استهدف الصهيونيون في حركتهم العلنية مطلبًا يعتبر بالنسبة لأطماعهم الأصلية متواضعًا محدودًا؛ إذ اقتصر على السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين باعتبارها وطنًا قوميًّا لهم، يماسرون فيه حقوقهم القومية بمنجاة من ويلات الاضطهاد والتعذيب.
وقد استندوا في تبرير هذا المطلب إلى دعوى القومية اليهودية الخاصة التي يزعمون أنهم يتمتعون بها، ويدين بها كافة اليهود في بقاع الأرض، وأن من حق هذه القومية اليهودية التوطن في فلسطين بالذات؛ لما لهم فيها من حقوق دينية وتاريخية رددتها كتبهم المقدسة، ومن
__________
1 لفظ "حكماء" جمع حكيم يقابل: حاخامات, جمع حاخام باللغة العبرية، وما أبعد تلك التعاليم عن الحكمة.
(1/160)
________________________________________
شأن هذا الوطن القوميّ أن يعصمهم مما يحيق بهم من اضطهادٍ عنصريٍّ لا حقهم على مدى التاريخ.
وكان موسى هيس1 اليهوديّ الألمانيّ أول من نادى بالقومية اليهودية، يحاول أن يربط بها بين أشتات اليهود أينما استقروا، وجعل منها الدعامات السياسية للحركة الصهيونية.
والمسوغات الاجتماعية والسياسية التي استحدثها اليهود الصهيونيون للاستيلاء على فلسطين, تتلخص في ثلاثة أنواعٍ رئيسية من الحقوق:
1- حق القومية اليهودية في التوطن في صعيد واحد يجمع شمل اليهود.
2- حق اليهود التاريخيّ في العودة إلى فلسطين, وطن أسلافهم الذين شُرِّدُوا منه.
3- الحق الإنسانيّ في تجنيب اليهود ما يلاقون من اضطهادٍ عنصريٍّ أينما استقر المقام بأوزاعهم في فجاح الأرض.
والأسباب السياسية والاجتماعية التي يدَّعيها اليهود الصهيونون, لم تكن هي دعامة النظرية الصهيونية وعمادها، وإنما هي تعللات محدثة, ومسوغات طارئة غير أصلية, ابتدعوها تكأةً يعتمدون عليها في الإسفار عن دعوتهم, وقناعًا تبدي به للعيان ظاهرة الجرم, مستخفية المعالم المريبة, تموه به أطماعها الخفية, وقد استمدت المسوغات السياسية والاجتماعية اعتمادًا على:
1- ما قررته الثورتان الأمريكية والفرنسية من حقوقٍ طبيعية للإنسان, حفز اليهود على المطالبة بحقوقهم الفردية والجماعية المسَّلَّمِ بها, والتي تواتر اعتراف الدول بها لمواطنيها، تلك الحقوق التي منحتهم حرية الرأي, وشجعتهم على إنشاء الجمعيات الخاصة, وتنظيم الحملة الدعائية المركزة التي وطأت لهم أذهان العالم, والضمير العالميّ, واستمالت الرأي العام على أوسع نطاق.
__________
1 1812-1875.
(1/161)
________________________________________
2- نشاط الحركات القومية خلال القرن التاسع عشر الميلادي -الثالث عشر الهجريّ, وتقرير حق المصير للقوميات المختلفة، مما وجدت فيه الصهيونية مسوغًا لادعاء حقوق قوميةٍ لهم, أسوة بالقوميات الناهضة.
3- قيام المذابح اليهودية في شرق أوربا وفي روسيا القيصرية خاصة، وانتهاز فرصة انفعال الرأي العام في أوربا عطفًا وإشفاقًا على اليهود، مما أتاح لهم المبرر لطلب التجمع في وطن قوميٍّ يلوذون به.
ولم تكن الأهداف الاقليمية اليهودية مرتبطة بفلسطين بالذات، فقد كان هدف اليهود المضطهدين تجميعهم في دولةٍ يهوديةٍ بمتنعون فيها، ويمارسون فيها حياتهم العنصرية بمنجاة من الاضطهاد، أيًّا كانت هذه الدولة، دون التقيد بأقليمٍ معيّن، غير أنهم ما إن استشعروا تعاطفًا من المجتمع الدوليّ حتى ظهرت رغبتهم الدفينة في امتلاك فلسطين، وفشلت كل المشاريع والعروض في جعل وطنهم القوميّ في الأرجنتين أو كندا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو جنوب أفريقيا أو استراليا أو أوغندا.. إلخ.
وكان تيودور هرتزل, قد اقترح أن يجمع شتات اليهود من أرجاء العالم في الأرجنتين أو في فلسطين، ولكن المؤتمر الصهيونيّ الأول الذي انعقد في مدينة بال بسويسرا عام 1897م, قرر تخصيص فلسطين، وقد حاول هرتزل عام 1901م, إغراء الخليفة العثمانيّ, السلطان عبد الحميد, ببيع فلسطين لليهود، ولكن السلطان رفض التنازل عنها بأيِّ ثمنٍ، وأصدر أمر بحظر دخول اليهود إلى فلطسين، ولما كرر الصهيونيون المحاولة برئاسة هرتزل, وبَّخَ السلطان عبد الحميد رئيس ديوانه لسماحه بدخول هرتزل عليه، وطرده شر طردة.
وبعد سنواتٍ قليلةٍ قام أعوان اليهود من ضباط حزب الاتحاد والترقي بالانقلالب على السلطان عبد الحميد كما هو معروف, وقام الحكام الذين خلفوا عبد الحميد من الاتحاديين -ومعظمهم من أعضاء المحفل الماسوني أو من الدونمة1 بفتح باب الهجرة لليهود إلى فلسطين, وعملوا على الإسراع في تصفية الدولة العثمانية, وإلغاء منصب الخلافة..
__________
1 هم طائفة من اليهود الذين نزلوا مدينة سلاتيك في الدولة العثمانية, وتظاهروا باعتناق الإسلام نفاقًا ليتمكنوا من الهدم من الداخل.
(1/162)
________________________________________
الفصل الثالث: مناهج الصهيونية ووسائلها
المبحث الأول: مناهج الحركة الصهيونية
السيطرة الفكرية
...
الفصل الثالث: مناهج الصهيونية ووسائلها
المبحث الأول: مناهج الحركة الصهيونية
يعتمد اليهود في تنفيذ سياستهم الاستعمارية على ركائز أربعة:
1- السيطرة الفكرية:
وسبيلها الدعاية العريضة المنظمة عن طريق أجهزة الإعلام الفعالة؛ لتهيئة الأذهان وتطويعها لأهوائهم، سواء كانت هذه الأجهزة منظمات يهودية سافرة، أم منظمات اجتماعية مموهة، سريةً كانت أم علنيةً، كالجمعيات الماسونية، وفرسان المعبد, وجماعات الصليب الورديّ, وشهود يهوه والكبالا, وغيرها من الهيئات والمنظمات والجمعيات التي بثوها في أقطار العالم مكامن لهم، يعملون فيها على وأد الشعور الدينيّ والوطنيّ لدى المنتمين إليها من شتى الأجناس والأديان، ومباءات لعملائهم الذين سخروهم عيونًا لهم وإرصادًا، ثم سائر وسائل الإعلام الصحفية والدعائية؛ كالإذاعة والسينما ووكالات الأنباء التي أخضعوها لنفوذهم الماليّ، يشنون بها على أعدائهم حربًا نفسيةً شعواء، توهينًا لقواهم، وتصديعًا لشملهم، وإضعافًا لروحهم المعنوية، بإثارة الفتن، وإشاعة الفوضى الفكرية، والبلبلة الذهنية، وإفساد العقائد، وإفقاد الثقة بالنفس، وبالقيم الأخلاقية.
وهم يمارسون نشاطهم الإعلاميّ بدهاءٍ وحذقٍ، فلا يكتفون بإذاعة وجهات نظرهم في إطار مغر مدو، وإنما يترصدون شديد ما يذاع في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى, فيحولون بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة -من ضغط وتشهير ورشوة وإغراء- دون إذاعة مايسيئ إليهم, أو يخالف وجهة نظرهم، أو ما يفيد منه أعداؤهم بوجه عامّ.
(1/163)
________________________________________
ويعتمد الصهيونيون اعتمادًا كبيرًا على وسائل الإعلام، ويرون في الدعاية الصاخبة المدوّية مفاعلًا أبلغ تأثيرًا وأقوى نفاذًا، يقول هرتزل في مذكراته: "الضجة هي كل شيء، والحق أن الضجيج يؤدي إلى الأعمال الكبيرة" وذلك لأنها تستلفت الأنظار، وتعبئ الأنصار، وتضعف الأعداء، وتنقل المعركة إلى جوٍّ عالميٍّ تتوفر لها فيه مزايا ماضية حاسمة.
(1/164)
________________________________________
2- السيطرة المالية:
وتتحقق عن طريق البنوك وبيوت المال، التي يهيمن عليها اليهود، ويوجهون بها النشاط الصناعيّ والتجاريّ لمصلحتهم, ويتحكمون في الاقتصاد الفرديّ والاقتصاد الجماعيّ بما يدعم نفوذهم السياسيّ، فيبتزون بها الثروات الخاصة والعامة، ويمتصون الأموال من المجالات الحيوية، وهي عصب الحياة في المجتمع حتى يتحطم وينهار, وذلك عن طريق الاحتكار والمضاربات المالية والإقراض بالربا الفاحش، وإشاعة الفقر والدمار والإفلاس، وشراء ضمائر الساسة والحكام توصلًا إلى ما يبتغون من مآرب وأطماع.
ووسيلتهم إلى احتكار الأسواق العالمية إغراق الأسواق الجديدة بالمنتجات بسعرٍ يقل عن سعر التكلفة, على أن يعوضوا خسارتهم برفع الأسعار في الأسواق التي تَمَّ لهم احتكارها من قبل, مما يعرض منافسيهم للكساد والإفلاس، حتى إذا ما خلا لهم الجوّ الاحتكاريّ في السوق الجديدة، رفعوا الأسعار فيها إلى درجة فاحشة تجزل لهم الربح أضعافًا مضاعفة.
والمال اليهوديّ سلاحٌ خطيرٌ, فإن سيطرتهم على مصادره وموارده مكنتهم من مخانق الاقتصاد والسياسة معًا، كوسيلةٍ للتهديد والإفلاس وانهيار الاقتصاد الخاص والعام, مما يؤثِّر على كيان الدولة ذاته, وهو من ناحيةٍ أخرى سبيلٌ للإغراء تستمال به الدول عن طريق القروض, إبَّان الأزمات والحاجة إلى تمويل المشروعات الاقتصادية والحربية، وأخيرًا فالمال في أيدي اليهود أداةٌ فعالةٌ لشراء الذمم والضمائر والأصوات في المجتمعات المحلية والمحافل الدولية.
(1/164)
________________________________________
3- السيطرة السياسية:
وسبيلهم إليها التغلغل في الأوساط السياسية، واكتساب التأييد الدوليّ، وضم كبار الساسة والمسؤولين إلى صفوفهم بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، فتراهم في الدول الرأسمالية يمالئون النظام الرأسماليّ ليكونوا من دعائمه وزعمائه, ثم هم في روسيا الشيوعية دعاتها المتحمسون, رواد الثورة البلشفية الحمراء.
ورغم حرص اليهود على اعتزال الحياة الاجتماعية والسياسية واقتصار نشاطهم على شؤون المال والاقتصاد التي توفروا عليها، وتخصصوا فيها، وملكوا زمامها، فإنهم لا يظهرون على مسرح الحياة الدولية العامة إلّا في وظائف السلطان التي يتسللون إليها بدهاءٍ خارقٍ، وفقًا لسياسة مرسومة، حتى تتاح لهم السيطرة على دفة الحكم فيوجهوها الوجهة التي يبتغون, والتي تحقق مناهجهم الصهيونية، سواءً بتسخير سلطات الدولة لتأمين الحياة الرخية لليهود، وتوفير الطمأنينة لهم، أو بإفساد مجتمع الجوييم، وإشاعة الانحلال في أوصاله، تمهيدًا لسيطرة اليهود وسيادتهم، فكانوا يتسللون عبر التاريخ الطويل إلى المناصب الإدارية العليا، والمراكز السياسية المرموقة, سواء في الدولة الإسلامية أو المسيحية، في المشرق والمغرب، فكان منهم خواص الأطباء الماليون.. وقد استطاعوا عن طريق رجالهم الذين وصلوا إلى المناصب الدولية الهامة أن يحصلوا من الحكومة البريطانية على وعد بلفور, بقيام وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين، وأن يهيئوا لأنفسهم في ظل احتلال بريطانيا فلسطين الدعامات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي قامت عليها دولة إسرائيل.
واستطاعوا بعد ذلك أن يحصلوا -وعن طريق رجالهم وعملائهم أيضًا- على تأييد الولايات المتحدة الأمريكية لكل مشروعاتهم وسياساتهم, وأن يظفروا بأصوات الكثرة من أعضاء هيئة الأمم المتحدة, حين طرح عليها الاعتراف بدولة إسرائيل المغتصبة.
(1/165)
________________________________________
4- السيطرة العسكرية:
وهي المرحلة الأخيرة في مناهج الحركة الصهيونية، ومؤداها العمل
على إعداد جيش يهوديٍّ مزود بأحدث الأسلحة والعتاد الحربي لحماية دولتهم، والتوسع العدوانيّ بالغزو المسلح.
وقد بدأت الصهيونية بالإعداد لتكوين الجيش إبَّان الحرب العالمية الأولى, عندما شكلت فيلقًا يهوديًّا من تسعمائة جنديّ, انضم إلى فرق النقل في الجيش البريطانيّ, وعرف باسم فرقة البغّالة الفلسطينية, واشتركت في عملية غاليبولي في تركيا, ثم سرحت سنة 1335هـ-1916م, وعلى إثرها انضم آلايات من اليهود إلى فرقة حملة البنادق الملكية البريطانية، كما انضمت فصائل من اليهود إلى جيوش اللورد اللبني, التي غزت فلسطين في نهاية الحرب العالمية الأولى.
وكانت الظروف مواتيةً لهم أثناء الحرب العالمية الثانية, حين غزا الجيش الألمانيّ الشرق الأدنى بقيادة روميل، فشكل اليهود سنة 1360هـ-1941م فرقة عسكرية من عصابة هاجاناه, وأطلق على الفرقة اسم البالماخ -أي: الصاعقة؛ لتساعد في المقاومة خلف خطوط القتال في حالة احتلال الألمان لفلسطين، وينتسب إلى هذه الفرقة كثير من زعماء إسرائيل مثل: موسى ديان، وإسحق رابين، وحاييم بارلييف, كمنا ساهمت القوات اليهودية مع الجيوش الإنجليزية والفرنسية الموالية للحلفاء في غزو سورية ولبنان, وأنشئت فرقة يهودية أخرى ألحقت بالجيش البريطانيّ واشتركت في غزو إيطاليا.
وهكذا أتيح لليهود المبرر الرسمي لتكوين كتائب عسكرية مدربة تدريبًا حديثًا، ومزودة بالسلاح والعتاد، وتمكنوا في ظلال الاحتلال الإنجليزيّ لفلسطين, من تحويل مستعمارتهم فيها إلى ثكنات عسكرية يحميها حرس يهوديّ، وسمح الإنجليز لليهود بتشكيل منظماتٍ عسكريةٍ تحمل طابعًا اجتماعيًّا أو رياضيًّا أو كشفيًّا، مثل: المكابي، والترميلد، وشباب إسرائيل، والطلائع، وأبناء صهيون, بالإضافة إلى المنظمات العسكرية: هاجاناه، وأرجون زفافي ليومي1 وشترن2.
وحين انسحبت بريطانيا من فلسطين سنة 1367هـ-1948م, وأعلن اليهود قيام دولة إسرائيل، كان لديهم جيش مدرب، ومستعمرات محصنة، وعصابة من الدول الاستعمارية تؤيدهم وتعترف بهم، ومازال
__________
1 أي: التنظيم القوميّ الحربيّ، وهي مشكلة من اليهود الأوربيين.
2 وهي مشكلة من اليهود الشرقيين.
(1/166)
________________________________________
الجيش الإسرائيلي موضع الحدب والرعاية من دول الغرب -وخاصة أمريكا, تمده بأحدث الأسلحة, وبكميات ضخمة جدًّا، بحيث يتفوق بمعداته على الدول العربية المحيطة بإسرائيل مخجتمعة, كما تمده روسيا الشيوعية بالطاقة البشرية من المحاربين والخبراء ممن يرغب في الهجرة من اليهود المقيمين في روسيا.
(1/167)
________________________________________
المبحث الثاني: وسائل تنفيذ المناهج الصهيونية
مدخل
...
المبحث الثاني: وسائل تنفيذ المناهج الصهيونية
من أبرز خصائص الصهيونية الالتزام بوصايا التوراة التزامًا حرفيًّا، والإيمان المطلق بتعاليم التلمود، ولهذا فهي تمعن في الشر، وتعرف في العنف والتنكيل والولوغ في الدماء بضراوة ووحشية، تبتغي من ذلك أولًا القضاء على كل مقاومة، وإبادة أعدائها، ثم إشاعة الهلع, وبث الرعب في القلوب؛ لتفتيت القوى المعنوية، ودفعها للاستسلام، فإن عجزت الصهيونية عن ممارسة هذا الأسلوب من العنف، اصطنعت الختل والنفاق والغدر والغيلة، وهي أسلحة خبيثة لا يلجأ إليها إلّا الضعيف المخذول.
واليهود هم أول من وضع قواعد الفلسفة الميكافيلية الوصولية، التي تبرر كل وسيلة تحقق الهدف، دون اعتداد بالقيم الخلقية أو الفضائل الإنسانية، كما يظهر ذلك من مطالعة تاريخ اليهود في أسفار التوراة، فالصفة المميزة لهم هي الاجتراء على كل قيمة مشروعة في سبيل مصالحهم، وكل وسيلة مهما كانت داميةً، أو ملتويةً، أو مشينةً مزريةً، فهي مشروعة, يمطئن إليها الضمير اليهوديّ, بل يسبغ عليها البركة.
ولقد تبلورت قاعدة الغاية تبرر الوسيلة في البروتوكولات التي سنعرض لها قريبًا، وكان الإغراء النسائيّ أقدم الوسائل التي سجلت التوراة -المحرفة طبعًا- على العبرانيين استغلالها لتحقيق مآربهم، ونسبت إلى إبراهيم -عليه السلام -وحاشاه -استغلالها, فقد روت التوراة مع التأييد والإعجاب في الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين، كيف تخلى إبراهيم -عليه السلام، عن شهامته وغيرته عن طيب خاطر، لقاء أجر؛ إذ قدَّم زوجته سارة إلى فرعون مصر، وأغراها بقبول التضحية بعرضها, وأمرها أن: "قولي إنك أختي؛ ليكون لي خير
(1/168)
________________________________________
بسببك، وتحيا نفسي من أجلك.. فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبراهيم خيرًا بسببها, وصار له غنم وبقر وحمير وإماء وأتن وجمال".
وينسب اليهود فيما سطروه في التوراة إلى أنبيائهم كل مخزية من الصفات والأعمال، مما هو معروف، كما تضمنت التوراة نصوصًا تدعوا إلى البطش بأعدائهم والتنكيل بهم، والتخلي عن الرحمة والشفقة في معاملتهم, ولو كفّوا أيديهم عنهم واستسلموا لحكمهم: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك, وإن لم تسالمك, بل عملت معك حربًا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلاهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك, وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة جدًّا التي لست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيها الرب إلاهك نصيبًا, فلا تستبق منها نسمة ما1"..
ولا يتسع المقام لذكر فظائع اليهود التي سجلها التاريخ، ويكفي أن نشير إلى ما قام ويقوم به اليهود من العدوان الصهيونيّ على الفلسطينيين، الذين طردوهم من ديارهم شر طردة، ونهبوا أموالهم، وانقضوا عليهم غيلة وغدرًا في مجازر مروعةٍ في دير ياسين سنة 1367, التي ذبح بها مائتان وخمسون من الرجال والنساء والأطفال، وفي قرى: ناصر الدين, وبلد الشيخ, وسكرير، وعيلوط, وغيرها, وفي سنة 1374 أعادوا الكرة في مدينة غزة، وفي سنة 1381 أباد الصهيونيون قرية التوافيق بمن فيما, وقرية السموع, وبعد ذلك استمرت الغارات الصهيونية على الجليل، والجولان، ومدن منطقة قناة السويس, وعلى معسكرات اللاجئين الفلسطينيين؛ حيث فتكت بهم ودمرت أكواخهم، وبعثرت أشلاءهم, مستخدمةً أشد الأسلحة الحديثة فتكًا2.
__________
1 الإصحاح العشرين من سفر التثنية 10-17.
2 سجلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تقريرها سنة 1967م-1386هـ, التي حملها عنف الصهيونيين وضراوة وحشيتها إلى إذاعة التقرير الذي سجلت فيه تلك الفظائع الرهيبة. راجع خلاصة هذا التقرير في كتاب "الصهيونية بين الدين والسياسة" ص77-78.
(1/169)
________________________________________
بروتوكولات صهيون:
أشرنا فيما سبق إلى البروتوكولات التي تعتبر دستور الحركة الصهيونية العمليّ، ويه تمثل المبادئ الصهيونية المبعثرة مصاغة في تبويب موضوعيّ مركز، وذلك هو القدر المتيقن من أمر البروتوكولات الذي لا مجال للجدل أو الشك فيه، بعد أن ظهر تنفيذه في خطوات الصهيونية التي نفذتها بعد المؤتمر الصهيونيّ الأول، وحتى الآن, وهذه خلاصة ما جاء في البروتوكولات:
1- إشاعة الفوضى الشاملة:
جاء في البروتوكولات الخامس: "إننا نقرأ في قاموس الأنبياء أن الله اختارنا لحكم العالم، وقد وهبنا الله العبقرية لنقوم بهذا العمل"، وقد تركزت هذه العبقرية -مع الأسف- في الافتتان في وسائل الفساد والتخريب، وفساد الحكومات والمجتمعات، وتخريب الدول والنفوس، وعلى هذا الأساس, فصَّلَت البروتوكولات المناهج العملية لتقويض الحكم القائم في شتّى الدول، وإقامة حكومة يهودية جامعة على أنقاضها: "أروع النتائج التي يمكن الحصول عليها في سبيل حكم العالم, يتحقق باستخدام العنف والتهديد لا بالمناقشات الأكاديمية", "وإن الذي يحكم، يجب أن يلجأ إلى الحيلة والنفاق، وفي السياسة تستحيل الصفات الإنسانية من أمانة وصدق إلى رذائل تؤدي إلى سقوط الملك عن عرشه", "يجب أن يكون شعارنا: جميع وسائل القوة والنفاق يتحتم أن يكون البطش هو المبدأ، والحيلة والنفاق هما القاعدة لدى الحكومات التي لا تريد أن تضع تاجها تحت أقدام أعوان أيّ حكم جديد, وهذا الشر هو السبيل الوحيد لبلوغ الخير، فعلينا أن لا نتردد أمام شراء الذمم والغدر والاحتيال إذا كان ذلك يخدم قضيتنا".
وتنشأ عن هذه الخطط والوسائل الصهيونية إشاعة الفوضى في العالم, والتسلل اليهوديّ من خلالها، وهذا ما تعانيه البشرية اليوم: فوضى عاتية جائحة؛ سياسية وفكرية وروحية واجتماعية واقتصادية.
2- إثارة الفتن والوقيعة بين شعوب العالم ودوله:
كشف الحاخام عمانوئيل رابينوفتش عن خطة الصهيونية في خطابه بمؤتمر الربانيين بمدينة بودابست سنة 1954م-1373هـ, حيث
(1/170)
________________________________________
قال: "هل تذكرون حملاتنا الدعائية الناجحة عام 1930، لقد أثارت الحقد على الأمريكيين في ألمانيا, والألمانيين في أمريكا، وهذا هو ما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، وقد شرعنا في شن حملات مماثلة في سائر أنحاء العالم، فأثرنا في روسيا موجة من الحقد ضد الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت أثرنا في الولايات المتحدة شعورًا بالخوف والتوجس إزاء الشيوعيين، وتؤدي هذه الحملات إلى دفع الدول الصغيرة إلى تحديد موقفها, إما مع روسيا, وإما مع أمريكا".
وهذا تطبيق لما رسمته البروتوكولات صراحة، ففي البروتوكول العاشر: "يجب بث الاضطرابات بصفة مستديمة في العلاقات القائمة بين الشعوب والحكومات، وإشاعة الأعمال العدوانية والأحقاد، وحتى عذاب الجوع والحاجة والأمراض، لدرجة لا يرى معها غير اليهود مخرجًا للأرزاء التي تحل بهم سوى الالتجاء إلى أموالنا وإلى سيادتنا المطلقة".
وفي البروتوكول الحادي عشر: "غير اليهود كقطيع من الأغنام, أما نحن فإننا الذئاب، وهل تعلمون ما تفعل الأغنام إذا اقتحم الذئاب حظيرتها؟ إنها تغمض عينيها، وسندفعهم إلى ذلك".
ويتضح في البروتوكول الخامس عشر كيف يعمل الصهيونيون لتحقيق أهدافهم: "وإذا ما تولينا السلطة بما نكون قد أعددناه من انقلابات تحدث في جميع الدول في وقت واحد -بمجرد أن يعلن رسميًّا عجز حكومات تلك الدول عن حكم الشعب، وقد يمضي على ذلك وقت طويل, ربما يبلغ قرنًا- سنبذل كل جهدنا لمنع المؤامرات ضدنا".
وإعمالا لهذه التعاليم نلاحظ أن اليهود دائمًا ضالعون مع كل حركة تخريب في العالم، فقد كانوا وراء الحرب العالمية الأولى، يظاهرونها ويذكرون أوارها انتقامًا من روسيا التي تصدت لليهود وانتقمت منهم, وقد استغل اليهود تلك الحرب الضروس لفائدتهم المالية، بإقراض الدول بالربا الفاحش، وترويج تجارتهم في مواد القتال التي يحتكرونها، والقضاء على شعوب أوربا وتقويض دولها.
كما حاول اليهود استغلال الثورة البلشفية في روسيا, وفرضوا وصايتهم عليها، لتحقيق مآربهم العنصرية التي فشلوا في تحقيقها في عهد القياصرة.
(1/171)
________________________________________
وقد نجحت العناصر الصهيونية في حكومة البلاشفة في ممالأة اليهود, والتستر على ما قد يسيء إليهم ويفضح نواياهم، فلما طبعت البروتوكولات في روسيا سنة 1917 باللغة الفرنسية, صودرت هذه الطبعة رسميًّا ولم يسمح بطبعها بعد ذلك.
3- الإرهاب الفكريّ وإفساد الرأي العام:
يشرح البروتوكول الخامس كيفية إفساد الرأي العام وبلبلة الأفكار, فيقول: "ولكي نطمئن إلى الرأي العام يجب أن نربكه تمامًا، فنسمعه من كل جانب، وبشتّى الوسائل آراء متناقضة, لدرجة يضل معها غير اليهود الطريق" ويوصي بـ: "مضاعفة الأخطاء التي ترتكب, والعادات والعواطف والقوانين الوضعية في البلاد لدرجة يتعذر معها على الناس التفكير تفكيرًا سليمًا وسط تلك الفوضى, وهكذا يكف الناس عنفهم بعضهم بعضًا, وسوف تساعدنا تلك السياسة على بَثِّ الفرقة بين جميع الأحزاب، وعلى حل الجماعات القوية، وعلى تثبيط عزيمة كل عمل فرديٍّ يمكن أن يعرقل مشروعاتنا".
وفي البروتوكول السابع: "يجب أن نقوم بالتأثير على الحكومات غير اليهودية عن طريق ما يسمونه الرأي العام الذي هيأناه عن طريق أعظم قوة, وهي الصحافة التي -فيما عدا بعض الحالات الاستثنائية التي لا قيمة لها- توجد كلها في قبضتنا".
وفي البروتوكول الثامن: "لا يتيسر إسناد المناصب الرئيسية في الحكومة إلى إخواننا اليهود، فإننا سنسند المناصب الهامة إلى أناسٍ من ذوي السمعة السيئة حتى تنشأ بينهم وبين الشعب هوة سحيقة، أو إلى أناس يمكن محاكمتهم, والزج بهم في السجون إذا ما حالوا دون تنفيذ أمرنا".
ولقد بلغ من جرأة اليهود أن استباحوا جلال العالم لإشباع حقدهم ونزواتهم، بإفساد العقول والأخلاق، والعبث بالقيم والفضائل الإنسانية؛ فابتدعوا نظرياتٍ علمية تسوغ لهم ما يبيتون من مكر وكيد, وما ينفثون من آراء هدَّامة؛ فاليهود وراء كل دعوة تستخف بالقيم الأخلاقية, وترمي إلى هدم القواعد التي يقوم عليها المجتمع الإنساني؛ فاليهوديّ: كارل ماركس, وراء الشيوعية التي تهدم قواعد الأخلاق والأديان..
(1/172)
________________________________________
واليهوديّ دركيم, وراء علم الاجتماع الذي يلحق نظام الأسرة بالأوضاع المصطنعة، ويحاول أن يبطل آثارها في تطور الفضائل والآداب، واليهوديّ سارتر, وراء الوجودية التي جنح بها إلى حيوانيةٍ تصيب الفرد والجماعة بآفات السقوط والانحلال1.
وفي البروتوكول الثاني: ".. نحن الذين هيأنا دارون وماركس ونيتشه، ولم يفتنا تقدير الآثار السيئة التي تركتها هذه النظريات في أذهان غير اليهود".
4- إشاعة الفوضى والفساد في المجتمع:
رسم البروتوكول الأول لليهود كيف يكيدون لسائر شعوب الأرض، ويبذرون الفوضى والانحلال فيقول: "إن الشعب لدى المسيحيين أضحى متبلد الذهن تحت تأثير الخمر، كما أن الشباب قد انتابه العته لانغماسه في الفسق المبكر الذي دفعه إليه أعواننا من المدرسين والخدم والمربيات اللاتي يعملن في بيوت الأثرياء، والموظفين والنساء اللواتي يعملن في أماكن اللهو, ونساء المجتمع المزعومات اللواتي يقلدونهن في الفسق والترف".
وفي البروتوكول التاسع: "لقد أتلفنا الجيل الحاضر من غير اليهود, وأفسدنا خلقه بتلقينه المبادئ والنظريات التي نعلم أنها مبادئ ونظريات فاسدة, وعملنا على ترسيخها في ذهنه، ودون أن نعمل على تعديل القوانين القائمة فعلًا أمكننا التلاعب بها, وتفسيرها التفسير الذي لم يخطر على بال واضعيها للحصول على نتيجة فعالة".
5- افتعال الأزمات الاقتصادية:
يُفَصِّلُ البروتوكول الثالث السلاح الاقتصاديّ الذي يستعين به اليهود على تقويض الحكومات: "وسنعمد إلى خلق أزمة اقتصادية عالمية بكافة الطرق الملتوية الممكنة, بواسطة الذهب الذي يجري بين أيدينا".
وفي البروتوكول الرابع: "يجب أن نقيم التجارة على أسس
__________
1 العقاد: "الصهيونية العالمية".
(1/173)
________________________________________
المضاربة، ويكون نتيجة ذلك منع غير اليهود من الاحتفاظ بالثروات التي انتجتها الأرض, وعن طريق المضاربة تدخل تلك الثروات خزائننا".
ويوضح البروتوكول السادس كيف يعمل اليهود على الإضرار بالإنتاج: "وسنعمل على تقويض الإنتاج من أساسه, عن طريق نشر الفوضى بين العمال, وتحريضهم على شرب الخمر، كما أنه لابد من استخدام جميع الوسائل الممكنة لطرد الأذكياء من غير اليهود من وجه البسيطة".
6- القضاء على الأديان:
في البروتوكول الرابع عشر: "عندما نصبح أسياد الأرض لا نسمح بقيام دين غير ديننا, من أجل ذلك يجب علينا إزالة العقائد، وإذا كانت النتيجة التي وصلنا إليها مؤقتًا قد أسفرت عن خلق الملحدين، فإن هدفنا لن يتأثر بذلك، بل يكون ذلك مثلًا للأجيال القادمة التي ستستمع إلى دين موسى، هذا الدين الذي فرض علينا مبدأه الثابت النابه وضع جميع الأمم تحت أقدامنا"..
وفي البروتوكول السابع عشر: "لقد عنينا عنايةً خاصةً بالعيب في رجال الدين غير اليهود، والحَطِّ من قدرهم في نظر الشعب، وأفلحنا كذلك في الإضرار برسالتهم التي تنحصر في تعويق أهدافنا, والوقوف في سبيلها, حتى لقد أخذ نفوذهم ينهار مع الأيام..
وإن حرية العقيدة معترف بها اليوم في كل مكان, ولا يفصلنا عن إنهيار المسيحية إلّا بضع سنوات، وسيكون القضاء على الأديان الأخرى أيسر من ذلك، ولكن الوقت لم يحن بعد لمناقشة هذه المسألة..
وسنعمل على أن يكون دور رجال الدين وتعاليمهم تافهًا، ونجعل تأثيرهم في نفوس الشعب فاترًا إلى حَدٍّ يجعل أثر تعاليمهم عكسيًّا".
ومن هنا كان الإسلام بعد المسيحية المجال الرئيسيّ الذي كرست له الصهيونية نشاطها للنيل منهما بدأب حثيث، وكانت محاربتهما هدفًا لليهود منذ أزمان سحيقة، ففي التلمود: "حيث إن المسيح كذاب, وحيث إن محمدًا اعترف به، والمعترف بالكذاب كذاب مثله، فيجب أن نقاتل الكذاب الثاني كما قاتلنا الكذاب الأول1".
__________
1 د. محمد الزغبي: "دفائن النفسية اليهودية" ص128.
(1/174)
________________________________________
وقد جاهر حاخام إسرائيل في الحفل الوضع الحجر الأساسيّ للمحفل الماسوني في تل أبيب سنة 1377 هـ, بقوله: "إننا نعمل جميعًا لهدفٍ واحدٍ, هو العودة لكل الشعوب إلى أول دين محترم أنزله الله على ظهر هذه الأرض، وما عدا ذلك فهي أديان باطلة، أديان أوجدت الفرقة بين أهل البلد الواحد، وبين أيِّ شعب وشعب، ونتيجة لمجهوداتكم سيأتي يومٌ يتحطم فيه الدين المسيحيّ والدين الإسلاميّ، ويتخلص المسلمون والمسيحيون من معتقداتهم المتعفنة، ويصل جميع البشر لنور الحق والحقيقة".
وينبغي ألّا ننسى أن الحاخام يوجه خطابه, ويوعز بتحريضه إلى أعضاء المحفل الماسوني الذي تزعم تقاليده أنه بنجوة من التعصب الدينيّ، وأنه يتحلى بالحياد تجاه العقائد.
(1/175)
________________________________________
محاربة الصهيونية للإسلام:
حرصت دولة إسرائيل على محاربة الدين الإسلاميّ في نطاقها المحليّ، تطبيقًا للمبادئ التي نَصَّ عليها البروتوكولان السابقان، فعمدت إلى إجبار التلاميذ المسلمين على دراسة اللغة العبرية والديانة اليهودية وحفظ التوراة، ومنعتهم من حفظ القرآن الكريم ودراسة التاريخ الإسلاميّ.
وتطاولت إسرائيل على القرآن الكريم؛ فطبعت في عامي 1380 و1388هـ نسخًا مزورةً من المصحف الشريف, أسقطت منها بعض الألفاظ, أو بعض الآيات, وأحيانًا سورةً بحذافيرها، أو تناولت بعض الألفاظ بالتحريف -تبتغي بذلك تحريف بعض المعاني القرآنية, والتشكيك في سلامة كتاب الله- بيد أن المسلمين كانوا بالمرصاد, حريصين على تعقب كل ما يصدره أعداء الله من طبعاتٍ محرفةٍ من المصحف, والحيلولة دون تداولها.
ودأب اليهود، منذ ظهور الإسلام على محاولة إفساد شرائعه، وتشويه مصدر أحكامه، فدسوا كثيرًا من البدع المضللة، ومنهم من انتحل الإسلام نفاقًا ورياءً ليفتري على الإسلام مزاعم ما أنزل الله بها من سلطان؛ ليكيد بها الإسلام, ويثير الفتنة بين جمهرة المسلمين،
(1/175)
________________________________________
وقد عرفت هذه الزيوف عند المسلمين بالإسرائيليات، وهي كل ما دَسَّه اليهود على تفسير القرآن الكريم, أو الحديث النبويّ؛ من تأويلات فاسدة, وأساطير خرافية, فيها أغراب وزيغ عن المعنى المقصود، قصد بها التضليل والإرجاف والبلبلة, وإثارة الشبهات بتشويه حقائق الإسلام الناصعة1.
ومن دهاة اليهود عبد الله بن سبأ الحميريّ "ابن السوداء" الذي ترجع إليه طوائف غلاة الشيعة، وهو القائل بمذهب الرجفة, ومذهب الحلول, يزعم أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليًّا، وإنما المقتول شيطان تصور للناس في صورة عليّ، أما عليّ -رضي الله عنه, فقد صعد إلى السماء, على أن يرجع إلى الأرض بوصفه -المهديّ المنتظر؛ حيث ينتقم من أعدائه, ويقيم العدل والحق.
(1/176)
________________________________________
الفصل الرابع: المنظمات الصهيونية
مدخل
...
الفصل الرابع: المنظمات الصهيونية
جاء في التوراة أن الله أوحى إلى موسى -عليه السلام- أن يتخذ مجلسًا من سعبين شيخًا من شيوخ بني إسرائيل1 ويسمونه: "مجمع السهندرين"، وهو يتألف من حاخاماتهم بزعامة الكاهن الأكبر, وقد ظل مجمع السهندرين قائمًا حتى انفض عام 70 بعد الميلاد، بعد تدمير هيكل سليمان، وتمزق اليهود وتشتتهم في شعاب الأرض, ولكن حلت محله هيئات سرية ترعى شئون اليهود، وتعمل مستخفية.
وفي عام 1807م حاول نابليون بونابرت إحياء السنهدرين القديم في هيئة تضم الحاخامات والعلمانيين؛ لجمع شمل اليهود تحت لوائه، بغيه الإفادة منهم في تحقيق مشروعاته الاستعمارية في الشرق خاصةً، غير أن إخفائه في تحقيق أطماعه أحبط تلك المحاولة.
وأخيرًا تولت الكيهيلا قيادة اليهود -ومعناها في العبرية: المحكمة العليا- وهي تضم أقطاب اليهود من رجال الدين والفكر والمال والسياسة، وتشرف على كافة الأنشطة اليهودية التي تقوم بها المنظمات المختلفة في العصر الحديث، فتتلقى منها ما تستجمع من بياناتٍ ومعلوماتٍ, وتتولى التنسيق بينهما, ومتابعتها واستغلالها، وتعرف هيئة الكيهيلا حاليًا بالمؤتمر اليهوديّ العالميّ، الذي يعمل على احتواء اليهود في أقطار الأرض, والتوفر على تحقيق ما وعدت به التوراة من سيادة اليهود لشعوب العالم، وسيطرتهم على أرجاء المعمورة باعتبارهم شعب الله المختار.
ويعترف الحاخام دراهما بانتظام الهيئات اليهودية السرية المختلفة تحت شعار واحد، وهدف موحد، أيا كان نشاطها، وأينما باشرته؛ حيث يقول في كتابه "التناسق": "إن جميع الجمعيات السرية موسومة بطابع واحد، إذ كلها تعمل بقيادتنا2".
__________
1 الأصحاح 24 من سفر الخروج.
2 دفائن النفسية اليهودية للزعبي ص 158.
(1/177)
________________________________________
منظمات يهودية علنية:
بعد أن ظفر اليهود بحقوق المواطنين في القرن الثالث عشر-الثامن عشر والتاسع الميلاديين- سارعوا بإنشاء جمعياتٍ يهوديةٍ سافرةٍ في عدة أقطار، مثلًا جمعية عشاق صهيون, التي أنشئت في أوديسا سنة 1882م -1298هـ، وحركة التنوير "الهاسكالاه" في ألمانيا، والتي أنشأها موسى مندلسون، وجمعية الاستعمار اليهوديّ التي أنشأها البارون أدموند دي هيرش، وجمعية كاديناح النمسوية, التي كان يرأسها ناتا بيرنباوم، وجمعية صهيون النمسوية, التي تولى رئاستها تيودور هرتزل.
وبمجهود هرتزل التأم أول مؤتمر عالميّ في مدينة بال بسويسرا في 29 أغسطس 1897، يضم أقطاب اليهود من أقطار الدنيا؛ حيث توفروا على توحيد جهودهم، والسعي لتحقيق آمالهم.
وبالنظر لنجاح هذا المؤتمر من وجهة النظر الصهيونية, فقد تقرر عقده بصفة دورية، وأنشئت المنظمة الصهيونية العالمية في ألمانيا تنفيذًا لقرار ذلك المؤتمر، وهذه المنظمة هي أعلى سلطة تشرف على النشاط الصهيونيّ بمختلف صوره وأدواته، وتتولاه بالتوجيه والتمويل والمتابعة، دعمًا لإسرائيل, باعتبارها محور هذا النشاط وهدفه الأول.
وإلى جانب هذ المنظمة يقوم الؤتمر اليهوديّ العالميّ, ويمثل الهيئة العليا التي تتولى شتات اليهود بالرعاية، وتهيئ لهم السيطرة على أنحاء المعمورة، وتعمل على إنشاء الحكومة اليهودية العالمية.
وقد باشرت المنظمة الصهيونية مهمتها إلى عام 1348هـ-1929م؛ حيث تكونت الوكالة اليهودية في فلسطين وحلت محلها، فلما أعلن قيام دول إسرائيل سنة 1367هـ-1948م, تكونت الحكومة اليهودية من بين أعضاء الهيئة التنفيذية للوكالة اليهودية.
ومن المنظمات اليهودية السافرة: منظمة بنادي بريث ومهمتها
(1/178)
________________________________________
الدعوة الصهيونية, وجمع التبرعات لإسرائيل، ومنظمة الهداسا النسائية الصهيونية, ومقرها نيويورك, ولها فرع في مدينة القدس، ويشمل نشاطها الشئون الطبية, وتقوم بالإشراف على جمع التبرعات لتمويل النشاط الصهيونيّ، ومثلها المنظمة الصهيونية النسائية العالمية, المعروفة باسم: "ويرز" التي تنتشر فروعها في شتى أنحاء العالم, والمجلس القوميّ لجماعة شباب إسرائيل, وقد اعتمدته هيئة الأمم المتحدة بوصفه منظمة غير حكومية للشباب اليهوديّ، ويمتد نشاطه إلى الأمريكتين فضلًا عن إسرائيل, واتحاد عمال إسرائيل "الهستادورت" ومنظمة سندات إسرائيل في نيويورك؛ لتمويل المشروعات الصهيونية.
(1/179)
________________________________________
المنظمات السرية
المحافل الماسونية
...
المنظمات السرية:
من المنظمات الصهيونية السرية الخطيرة التي اكتشف أمرها: الماسونية والبهائية، وجمعية شهود يهود، ونادي الصلبان, والمزدهرة، ونوادي الروتاري, ونكتفي بالإلمام بالمحافل الماسونية.
المحافل الماسونية:
هي من أقدم المنظمات اليهودية التي بثها اليهود أينما حلُّوا في أقطار الأرض، لتكون مثوى اجتماعاتهم التي يتناقشون فيها ويتبادلون الرأي والمعلومات, ويكفي لبيان الصلة الوثيقة بين الماسونية والصهيونية أن بروتوكولات صهيون -الدستور الصهيوني- قد صدرت مذيلةً بإمضاء ثلاثمائة من كبار الماسونيين الحائزين للدرجة الثالثة والثلاثين الماسونية.
ولا يزال منشأ الماسونية طي الكتمان، بل لغزًا من الألغاز الغامضة1, ورغم ذلك, فإن تاريخ الماسونية الذي تتداوله معارف الماسونيين ينبئ عن أصالتها الدينية لليهودية، فهم يزعمون أن الملك سليمان -عليه السلام, كان الأستاذ الأعظم في محفل القدس، كما عثر على مخطوطة يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر الميلاديّ
__________
1 كتاب "كيف أنشئ المحفل الأكبر الوطني السوري اللبناني" تأليف حسين اللاز, وأحمد مختار نجاة, ص28.
(1/179)
________________________________________
يستدل منها على أن الماسونية دخلت انجلترا على يد اليهود في مصر والقدس1.
شعار الماسونية:
والمساونية أو جمعية البنائيين الأحرار, منظمة اجتماعية عالمية, شعارها الذي يتسم بها نشاطها الظاهر: العدل, الإخاء, الحرية, وهدفها: التعاون الإنسانيّ بين أفرادها على أوسع مدى، وقد اتخذت من صناعة البناء وأدواته كثيرًا من شعاراتها ورموزها، فالبركار والزاوية هما الرمز العام للماسونية, وعلامة الأستاذ الأعظم: البركار والقوس وصورة العين المشعة داخل مثلث, وعلامة المنبهخ الأول الأعظم: ميزان البناء, وعلامة المنبه الأعظم: خيط الشاقول, وعلامة المهندس الأعظم: البركار.
ويشار إلى الله -سبحانه وتعالى- باسم: مهندس الكون الأعظم, ويسمى كل تنظيم ماسونيّ محفلًا، يجتمع فيه الأعضاء، ويضم المحفل الأكبر مجموعة من المحافل, وتتبع المحافل المقامة في مجموعة من الدول محفلًا عامًّا يسمى: شرقًا, وتتكون الماسونية من طبقات ثلاثة متدرجة:
الطبقة الأولى:
وتعرف بالماسونية الرمزية العامة، وهذه الطبقة متاحة لجميع الأجناس والأديان، ويُقَسَّمُ أعضاؤها إلى ثلاث فئات: المتبدئين أو الأخوة, ثم الأساتذة، ثم الأساتذة الأعاظم الذين يرأسون محافلها, وتتكون المراتب المساونية في هذه الطبقة الرمزية من 33 درجة, تتدرج صعودًا حتى مرتبة الأستاذ الأعظم.
__________
1 المرجع السابق.
(1/180)
________________________________________
الطبقة الثانية:
وتعرف بالماسونية الملوكية, أو العقد الملكي, ويسمى العضو فيها رفيقًا كما يعرف رئيس المحفل بالرفيق الأعظم, وكان أعضاؤها جميعًا من اليهود، ثم سمح للأساتذة العظام للمحافل الماسونية الرمزية العامة بالاندماج فيها، على ألّا يتجاوزوا فيها مرتبة الرفيق، وهي أدنى مراتبها.
الطبقة الثالثة:
وتعرف بالماسونية الكونية، وتتكون من رؤساء محافل العقد الملوكيّ، وهي محفل واحد, جميع أعضائه من اليهود، ولا يعرف مقره ولا رئيسه الملقب بالحاخام الأعظم، غير أن المشهور أن الماسونية الكونية يديرها المحفل الأمريكيّ المؤلف من اليهود الصهيونيين الرومانيين.
ولكل درجة من درجات الماسونية رموز خاصة، وشارة خاصة، وتحية معينة، وأسرار محددة تتسع دائرتها كلما ارتقى العضو إلى درجة أعلى، وتختلف باختلاف طبقات المحافل، ولا يجوز لدرجة أن تطلع على أسرار وتعاليم الدرجة تعلوها.
ولا يقبل العضو الجديد في أدنى درجات الماسونية إلّا بعد تزكية عضوين له، وثبوت جدراته بما يجري حوله من التحريات السرية التي تبعث على الاطمئنان إليه، ونجاحه في اختيار نفسيٍّ عسير, يجري في غرفة مظلمة رهيبة؛ حيث يمكث فترةً طويلةً في تابوتٍ من توابيت الموتى بين الجماجم والهياكل العظمية، ثم يتم قبوله في حفل تكريس تجرى فيه طقوس غريبة على مشهد من جميع أعضاء المحفل.
ولا يرقى الماسونيّ إلى درجة أعلى حتى يَمُرَّ باختبارات وتجارب قاسية, تثبت جدارته بالترقية, وتلقي أسرار الدرجة الجديدة، وتتفاوت هذه الاختبارات في الدقة والقسوة بتفاوت الدرجات المكرس لها العضو؛ بحيث تمعن في القسوة كلما علت الدرجة, والقصد من ذلك التأكد من قدرة العضو على تحمل أنواع التعذيب والأذى الذي قد يتعرض له في سبيل كتمان أسرارها.
(1/181)
________________________________________
وقد اتخذت الماسونية ستارًا لأغراضها الحقيقية -وهي خدمة الصهونية- تلك النشاطات الإنسانية والاجتماعية، باعتبارها تعمل للبِرِّ والتعاون الاجتماعيّ, وتنفي عن نفسها التعرض للمباحث الدينية والأمور السياسية, فالماسونيّ يلقى دائمًا من صنوف المعونة والمساعدة ما قد يحتاج إليه، سواءً كان ذلك في وطنه أو البلاد الأخرى، حيث يقابل من إخوانه الماسونيين المنتشرين في جميع الأقطار بمزيد البشر والترحاب، والاستعداد لخدمته، والعمل على راحته، حالما يلتقي بهم, ويتعرف إليهم بمقتضى الإشارات المصطلح عليها فيما بينهم، وكلمات السر المضنون بها على غيرهم, بل يزيد الدعاة في نشر الدعوة الماسونية بقولهم: إن الموظف الماسونيّ لابد أن يلقى من عناية الرؤساء الماسونيين بأمره ما تقرَّ به عينه؛ حيث تكون ماسونيته خير مؤهل للترقي وتخطي الأقران, وإذا أجرم الماسونيّ, ثم حوكم أمام القاضي الماسوني, فإن البراءة مضمونة له، حالما يظهر له الإشارة الماسونية, وهكذا التاجر ورجل الأعمال1.
ومعلوم أن الماسوني يقسم عند التحاقه بالعشيرة الماسونية أمام الرئيس المحترم -خليفة الملك سليمان- أن يتخذ من إخوانه الماسون أولياء له في جميع أموره وأحواله، وأن يأتمنهم كذلك على أعراضه، وأن يتخذ القومية الماسونية دون سواها شعارًا له مدى الحياة2.
وقد أفصح البروتوكول الثالث من بروتوكولات صهيون عن الدور الجديّ للمحافل الماسونية في سبيل إنشاء الدولة اليهودية العالمية التي يدين لها سكان المعمورة، ويخضعون لسلطانها حيث يقول:
إن المحافل الماسونية تقوم في العالم أجمع -دون أن تشعر- بدور القناع الذي يحجب أهدافنا الحقيقية، على أن الطريقة التي ستستخدم بها هذه القوة في خطتنا، بل في مقر قيادتنا, لازالت مجهولة من العالم بصفة عامة.
وفصَّل البروتوكول الحادي عشر الأهداف التي ترمي إليها الصهيونية؛ من إفساح المجال لغير اليهود للانضمام إلى المحافل
__________
1 "الجمعية الماسونية حقائقها وخفاياها" للدكتور أحمد غلوش, الرئيس السابق للمحفل الأكبر الماسوني بالاسكندرية, والحائز على الدرجة 32, ص4.
2 المرجع السابق ص8.
(1/182)
________________________________________
الماسونية العالمية، فقد جاء فيه: ماهو السبب الذي دفعنا إلى أن نبتدع في سياستنا، ونثبت أقدامها عند غير اليهود، لقد رسخناها في أذهانهم دون أن ندعهم يفقهون ما تبطن من معنى، فما هو السر الذي دفعنا إلى أن نسلك هذا المسلك، اللهم إلّا أننا جنس مشتت, وليس في وسعنا بلوغ غرضنا بوسائل مباشرة، بل بوسائل غير مباشرة فحسب, هذا هو السبب الحقيقيّ لتنظيمنا "الماسونية" التي لم يتعمق هؤلاء الخنازير من غير اليهود في فهم معناها، أو الشك في أهدافها، إننا نسوقهم إلى محافلنا التي لا عداد لها ولا حصر، تلك المحافل التي تبدو ماسونية فحسب، ذرًّا للرماد في عيون رفاقهم.
وفي البروتوكولات نصوص كثيرة تبين دور المحافل الماسونية في العمل لخدمة الصهيونية؛ منها ما جاء في البروتوكول الخامس عشر: "يلتحق غير اليهود بالمحافل الماسونية مدفوعين بمجرد الفضولية, أو أملًا منهم في الحصول على المزايا التي توفرها لهم، ويلتحق بعضهم بها لكي يتمكنوا من مناقشة أفكارهم السخيفة أمام جمهور المستمعين، ويتوق غير اليهود إلى ضروب الانفعالات التي يهيئها النجاح والهتافات، وها نحن نوزعها عليهم دون حساب، ولذلك نتركهم يحرزون نجاحهم، ونفيد من الرجال الذين يتملكهم الغرور، والذين يستسيغون أفكارنا, وكلهم ثقة في عصمتهم, وفي أنهم وحدهم قادرون على التفكير وغير خاضعين لغيرهم.
وهكذا كان الماسونيون أكبر معوانٍ للحركة الصهيونية في شتَّى الأقطار, يعملون على تحقيق أهدافها السياسية والاستعمارية بحماس ودأب، ومنهم على سبيل المثال "ونستون تشرشل" الذي عمل على تأييد الحكومة الإنجليزية للمطامع الصهيونية في فلسطين، وكان "هاري ترومان" رئيس الولايات المتحدة ماسونيًّا أعظم, وقد أكدت ذلك مجلة "شيكاغو أفنجر" في عددها الصارد في 13 يوليو 1955م، وهو الذي سارع إلى الاعتراف بدولة إسرائيل ساعة ولادتها المشؤومة.
وتعزي الحركات الثورية العاتية، والفتن المخربة التي اندلعت في شتَّى الدول في العصر الحديث إلى النشاط الماسونيّ الهدام؛ كالثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، والانقلاب العثمانيّ
(1/183)
________________________________________
سنة 1327هـ-1908م" والثورة الشيوعية في روسيا سنة 1336هـ-1917م, وغيرها1.
__________
1 ويمكن لمن يرغب في المزيد من التفصيل الرجوع إلى الكتب التالية:
"أسرار الماسونية" للجنرال جواد رفعت أتلخان. "الماسونية في العراء" للدكتور على الزغبي. والكتاب النفيس الذي صدر أخيرًا: "الصهيونية بين الدين والسياسة" للأستاذ عبد السميع الهراوي، وعليه عولنا في هذا البحث.
(1/184)
________________________________________
الباب الرابع: اتجاهات إسلامية
مدخل
...
الباب الرابع: إتجاهات إسلامية
اتجاهات إسلامية:
نحن نتحدث عن العالم المعاصر, ومن ثَمَّ فإننا نتحدث عن القرن العشرين, ولئن كنَّا أوغلنا قرنًا أو بعض قرنٍ حين تحدثنا عن الاتجاهات الدخيلة: غربية وشرقية, فذلك لنبين جذورها ليعلم قومنا أن ما هم فيه ليس قصدًا إلى تمدينهم ولا إلى رقيهم, إنما هو عروةٌ من عرى حربٍ ضروسٍ شنها أعداؤهم عليهم, فلمَّا لم تفلح حرب السلاح, لجأوا إلى حرب الفكر والعقيدة.
وكانوا في الثانية أخبث وأنجح, بيد أنهم وإن نجحوا, فإن نجاحهم محدود..محدود كمًّا, فلا تزال القاعدة العريضة من المسلمين بعيدة عن تأثيرهم, لا تزال الفطرة في البادية وفي الريف هي الغالبة, برغم كل ما بذله الغرب والشرق من فساد وإفساد.
وهو كذلك محدود كيفًا:
فإن ما غيروه قليلٌ إلى جوار ما بقي, حتى في نفوس أتباعهم, ولا يزال الإسلام في كلِّ يومٍ يضم إلى صفوفه كثيرين ممن كانوا عندهم روادًا, وهذا محمد حسين هيكل يعلن عودته لحظيرة الإسلام, وهذا طه حسين يتجه في أخريات حياته إلى الإسلام, وإن بقي فكره مشوبًا بكثير من المؤثرات الأولى.
(1/187)
________________________________________
وهذا جلال كشك، ومصطفى محمود, وغيرهم كثير.
يفتح الإسلام ذراعيه فرحًا بهم, أشد فرحًا من فرحة الأم بعودة وحيدها الغائب, أو أشد فرحًا من ظاعنٍ بالصحراء وجد بعد لأي بعيره الشارد, وهذا النجاح لا يأمن بعد ذلك رد الفعل إن لم ينتهوا ويتركوا أرض الإسلام وأبناء الإسلام, وبعض الذي سنقدم إن لم يكن أكثره كان رد الفعل, وقد بدأ, أو بدا أثره قاصرًا,
لكنه يوشك بإذن الله أن يعرف طريقه, وأن يبلغ غايته؛ ليتم الله نوره ولو كره المشركون.
ونحن نكتفي في الحديث عن الاتجاهات الإسلامية بما كان منها في هذا القرن الرابع عشر الهجريّ؛ لأن هذا هو معنى المعاصرة الذي نقصد إليه, ولن نشغل أنفسنا, ولا نشغل الناس بالحركات التي لبست ثياب الإسلام وهي تضمر له الشر, وتحمل له الحقد, فإن صبغها بصبغة الإسلام خطأ كبير1.
لكنا قد نشغل أنفسنا, ونشغل الناس بالحركات والاتجاهات القاصرة؛ لأنها وإن كانت لا تمثل الإسلام الصحيح, فإنها خطوات إليه, حَسْبُ أصحابها منها حسن النية، وحسبهم اجتهادهم, وإن أخطأوا فلهم الأجر -إن شاء الله, ثم لابد من دراستها لنتبين ما فيها من خير فنستثمره, وما فيها من سوء فنرفضه, ثم لندعوا أصحابها أن هلموا إلى الإسلام الصحيح {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} 2.
ونبدأ -بإذن الله- بهذه الاتجاهات, ثم نثني -بإذن الله- بالاتجاه الصحيح, والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليِّ العظيم.
__________
1 مثل القاديانية, التي قامت في الهند عمليةً للاستعمار البريطانيّ, محاولة تحريف العقيدة الإسلامية, وهي وغيرها من الحركات المشبوهة موضع دراسة مادة الأديان والفرق.
2 آل عمران 105، 106.
(1/188)
________________________________________
الفصل الأول: إتجاهات قاصرة
مدخل
...
الفصل الأول: اتجاهات قاصرة
مقدمة:
وفي حديثنا عن الاتجاهات القاصرة قد نغفل تسمية أصحابها, ليس خوفًا منها, ولا ملقًا لغيرها, فيعلم الله أن خوفنا منه, ورجاءنا إليه.
ولكنه أدب علَّمَنا إياه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين كان يصعد المنبر فيقول: "ما بال أقوام فعلوا كذا وكذا", ثم هو بعد ذلك دعوة لأولئك الذين أحبوا الإسلام وإن لم يفهموه الفهم الصحيح أو المتكامل, دعوة إليهم من غير جرح لمشاعرهم, فهم أقرب إلينا من الذين شردوا, وهم أعز علينا منهم, بل قد يكونون أعز علينا من أنفسنا.
وأول هذه الاتجاهات القاصرة: ما اقتصر على العقيدة وغالى فيها.
وثاني هذه الاتجاهات القاصرة: ما اقتصر على النسك وغالى فيه.
وثالثها: ما اقتصر على محاولة إصلاح بعض المؤسسات, ولم يستطع, حتى أن يغالي فيه, ونكتفي بهذه الاتجاهات لتجمع تحتها كثيرًا من الحركات التي ظهرت في هذا القرن, ولنجمع تحتها كذلك كثيرًا من الجمعيات التي حملت اسم الإسلام, أو جزءًا من اسمه.
وكل ذلك بغير تسميةٍ كما أشرنا..
(1/189)
________________________________________
المبحث الأول: اتجاهات نحو العقيدة
أولا: صواب البدء بالعقيدة
...
المبحث الأول: اتجاهات نحو العقيدة
لا شك أنها نقطة بداية صحيحة أن نبدأ من العقيدة, فإنها الأساس, لكن الخطأ والخطر أن نقف عندها, أو أن نتغالى فيها.
وقبل أن نبين الخطأ والخطر فيها نبين الصواب فيها, مشيرين إلى ظروف نشأتها, فهذان بحثان بإذن الله.
أولًا: صواب البدء بالعقيدة
البدء بالعقيدة عين الصواب؛ لأن الإسلام يقيم بناءً له أساس, وأساسه العقيدة, وبناء الإسلام ليس من حجارةٍ ولا من صخور, وإن كان بعد قيامه أثبت من الرواسي, وأصلب من الصخور.
إنه بناء معنويّ, بناء قيم ومُثُل, بناء شريعة أساسها عقيدة, وهذا البناء لا يقام في فراغ.
(1/190)
________________________________________
ولا يقام كذلك على جماد, لكنه يقام على أكرم ما خلق الله, على الإنسان, ثم هو يقام في أعز مكانٍ في الإنسان, وأغلى قطعة فيه, أنه يقام في قلبه.
"التقوى ها هنا وأشار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى قلبه"1.
"ألا وأن في الجسد مضغة, إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب"2.
والذين أقاموا الحضارات غير الإسلامية أخطأوا نقطة البدء, بل أخطأوا مكان البناء نفسه؛ فأقاموا بناء الحضارة خارج الإنسان؛ من الآلة, والمصنع, وناطحات السحاب, وهم حتى حين نظروا إلى الإنسان, نظروا إلى أحطِّ شيء فيه؛ غرائزه, فكانت حضارتهم إشباعًا لهذه الغرائز, وإثارةً لها, حتى شقي الإنسان بحضارتهم أيَّما شقاء.
وأهملوا في الإنسان أعزَّ شيء فيه, وأغلى قطعة منه, أهملوا قلبه, وهذا هو الفارق بين حضارتهم وحضارة الإسلام!
والظروف التي دعت للنداء بالعقيدة:
قريبة من الظروف التي دعت الإسلام للنداء بها أول مرة, فكثير من المجتمعات الإسلامية خلال القرنين الثاني عشر والثالث
__________
1 من حديث طويل رواه الشيخان.
2 رواه البخاري في كتاب الإيمان 39, ومسلم وابن ماجه.
(1/191)
________________________________________
عشر، وبعضها لا يزال حتى القرن الرابع عشر الحالي, يتنازعها تقاليد وأفكار, إن لم تكن هي الشرك فهي قريبة منه, بل إن بعض هذه المجتمعات أو شك يومًا أن يعبد شجرةً, أو مكانًا حاطه البعض بشيء من التقديس.
ولا يزال كثير مما يحدث حتى اليوم فيما يسمى بالموالد, له شكل الشرك, ولا ينقصه إلّا النية, والله أعلم بالنوايا.
وبرغم أن أصحاب هذه الموالد برءاء مما أحدث الناس, بل إن بعضهم لو كان على الحياة لحرق كثيرًا من أولئك الضالين, كما فعل عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمن ألهوه من دون الله -سبحانه وتعالى.
وبرغم ما يقال من أن إحياء هذه الموالد, إحياءٌ لمبادئ وقيم أصحابها وتذكير بها, فإن ما غلب عليها من بدع, وما يرتكب فيها, أو باسمها من آثام, كفيل بالانتهاء عنها.
فإن من أسباب تحريم الخمر والميسر, قول الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
فضلًا عن أن درء المفسدةِ مقدَّمٌ على *** المصلحة, وسَدُّ الذرائع كفيلٌ بترك ما لا بأس به, خشية أن يكون به بأس.
طواغيت:
والطواغيت التي أمرنا الله أن نكفر بها ليصحَّ إيماننا, ليست ولم تكن الأوثان والأصنام فحسب,
إن تلك الأوثان والأصنام مجرد صورةٍ واحدةٍ، أو مَثَلٍ واحدٍ, لكن صور الطواغيت كثيرة:
معتقدات..مبادئ..
(1/192)
________________________________________
أفكار..أشخاص..عواطف ومشاعر..سلوك..صور للتنسك.
وجماع هذه جميعًا أن تعطيها, أو تعطي شيئًا منها, بعض صفات الله, أو بعض أفعاله التي اختص بها وحده سبحانه.
ولا يَهِمُّ أن تفردها بهذا العطاء, أو أن تشركها مع الله فيه, فمن أعطى شخصًا, أوهيئًة مبدأ صفة "الحكم" أي: وضع القواعد والتشريعات ابتداءً, وهذا خالص حق الله, سواءً في مجال العقيدة، أو الأخلاق، أو العبادات أو المعاملات: اقتصادية، وسياسية، واجتماعية, فقد اتخذ الشخص أو الهيئة أو المبدأ طاغوتًا.
فإن أفرده بهذه الصفة, فقد اتخذه طاغوتًا من دون الله, وإن أشركه مع الله في هذه الصفة, فقد اتخذه طاغوتًا مع الله, وفي الحالين إن توافرت له الإرادة, فقد انتفى عنه الإيمان..
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} ..
إلى قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.
__________
1 النساء: 60 و65.
(1/193)
________________________________________
فلينظر الذين يقولون: "أنا مسلم العقيدة, ماركسيّ المذهب".
فإن العقيدة لا تصح حتى يسقط كل طاغوتٍ يعطيه الإنسان بعض حق الله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1 ولذا, كان النفي في شهادة التوحيد سابقًا على الإثبات: لا إله إلّا الله!
العقيدة الصحيحة:
والعقيدة الصحيحة ليست قاصرةً على نطق اللسان: لا إله إلّا الله, محمد رسول الله, إنها قبل ذلك علم القلب وعمله, وهي ليست قاصرةً بعد ذلك على عمل الجوارح, إنها إن اقتصرت على الأولى: شهادة اللسان, وانتفت الثانية, كانت نفاقًا, وإن اقتصرت على الثانية دون الأولى, كانت كفرًا, وإن اقتصرت على الأولى والثانية دون الثالثة, كانت فسقًا, ثم إنها ليست قاصرةً على جانب من صفات الله دون الجانب الآخر, إنها كما تشمل الاعتقاد بأن الله خالق, تشمل كذلك الاعتقاد بأنه رزاق, تشمل كذلك الاعتقاد بأنه: حكم أو حاكم..
والإخلال في جانب من هذه, كالإخلال بالجانب الآخر, سواءً بسواء2.
__________
1 البقرة 256.
2 تفصيلًا لذلك.. بحثًا مفصلًا "الإيمان الحق: شهادة وعقيدة وعبادة" الدكتور على جريشة, دار الشروق, الطبقة الأولى, سبتمبر سنة 1975م, والمراجع المشار إليها في هذا البحث.
(1/194)
________________________________________
ثانيًا: خطأ وخطر:
الذين نادوا بالعقيدة على ذلك النحو أصابوا كل إصابة, لكنهم أخطأوا من جانبين:
إنهم وقفوا عندها, أو أنهم غالوا فيها, أو فعلوا الخطأين معًا:
أما خطؤهم في الوقوف عندها:
فإن العقيدة أساس لايقوم بناء بغيره, وهذه أهميتها, لكن, أيصح لعاقلٍ أن يقيم الأساس ويكتفي؟ فلا يقيم بعده البناء؟..
وما يجديه الأساس إن أصابته حرارة الصيف, أو مسَّه برد الشتاء؟
وأما خطأ المغالاة فيها:
فقد جاء من اعتبارهم الائتمار بالأمر, والانتهاء عن النهي, جزء من العقيدة، وترتيبهم نفس النتيجة التي تترتب على تخلف الأجزاء الأخرى؛ كشهادة اللسان, أو اعتقاد القلب, واعتبار العمل -بتفصيله السابق- جزءًا من الإيمان صحيح.
(1/195)
________________________________________
لكن الترتيب نفس النتيجة عليه غير الصحيح, ذلك أن للإيمان درجات, كما أن في الجنة درجات, وللكفر دركات, كما أن في جهنم دركات1
أو هو كالكائن الحيّ, لا يستوي فصل رأسه مع فصل رجله أو يده, ومن ثَمَّ فلا يستوي في شرع الله تارك الشهادة: لا إله إلّا الله, مع تارك إطعام المسكين, ولا يستوي من داس مصحفًا, أو أنكر شيئًا ما فيه, مع مَنْ اغتاب، أو سعى بالنميمة، أو حتى قتل!.
والقرآن يسمي تارك الهجرة: "مؤمنًا" {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 1.
وسمى من قاتل أخاه: "مؤمنًا" {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 2.
وتداعي الناس وتتابعهم في المعاصي, لا يدفعنا إلى خطأ آخر, هو تكفيرهم, إنما ينبغي على المسلم أن يمسك في أحلك الظروف بالميزان الدقيق, يزن به الأفعال والأشخاص {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} 3.
__________
1 الأنفال 72.
2 الحجرات 9.
3 الشورى 17.
(1/196)
________________________________________
المبحث الثاني: الاقتصار على النسك
لا شك في فضل شعائر الله, ولا شك أنها عمد هذا الدين, لا يقوم بغيرها, ولا شك أن تعظيمها وتوقيرها من تعظيم الله وتوقيره, من تقوى القلوب {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} 1.
لكن هل نستطيع أن نقتصر عليها فقط, ونقول هي الدين؟
الرسول يرفض محاولة الاقتصار, أو محاولة التغالي:
بعض الذين يقتصرون اليوم على الشعائر يقولون: أنهم يشبهون بالصحابة، وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برءاء مما يقولون؛ فمنهجهم هو منهج الرسول -عليه الصلاة والسلام, الذي شجب مثل هذه المحاولات ليوضح سنته, حين قال بعض أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم, أين نحن من النبيّ -صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا, فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا, فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا, أما والله, إني لأخشاكم لله وأتقاكم له, ولكني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء..
__________
1 الحج 32.
(1/197)
________________________________________
فمن رغب عن سنتي فليس مني"! 1
وهذا حنظلة الكاتب التميميّ، يقول: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكرنا الجنة والنار, حتى كأنها رأي العين، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت, قال: فذكرت الذي كنّا فيه, فخرجت فلقيت أبا بكرٍ -رضي الله عنه- فقلت: نافقت، نافقت, فقال أبو بكر: إنا لنفعله، فذهب حنظلة فذكره للنبيّ -صلى الله عليه وسلم, فرد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رد المعلم الرؤوف الرحيم: "يا حنظلة: "لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فراشكم، "أو على طرقكم"، يا حنظلة, ساعة وساعة"2.
وحين علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رجلًا قد انقطع للعبادة, قال: ومن يطعمه ويسقيه, قالوا: أخوه, قال: أخوه أعبد منه, ثم أعطى معنى العبادة حقها, حين جعل "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" 3.
وحين قال: "إن من الذنوب ذنوبًا لا تكفرها الصلاة ولا الصوم ولا الحج, ويكفرها الهم في طلب المعيشة"! وفي لفظ: "عرق الجبين" 4.
الاستعمار يشجع فرق المتنطعين:
وحين جاء الاستعمار الأوربيّ إلى أرض الإسلام حارب الدين, وكل ما هو دينيّ, إلّا فرق المتنطعين, رافعي الرايات, وضاربي الدفوف, والهائمين على وجوههم, زاعمين أنهم من أهل الله, يتكففون الناس.
__________
1 رواه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ للبخاري.
2 رواه ابن ماجه.
3 وراه البخاري ومسلم والترمذي.
4 رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية.
(1/198)
________________________________________
وكان من بين ما شجعه المستشرقون "التصوف"1.
التصوف بهذا المعنى القاصر؛ لأننا لا نود أن نظلم المتصوفة كلهم, وإن كنا نود لهم ما ارتضاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له, ولكني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني"!
هل صحيح بعد ذلك الاقتصار على النسك؟
أظنه ليس بحاجة إلى جواب, إلّا أن تقول بصلاحية أعمدة تقوم؛ لأن تؤوي أسرة فتقيها حر الصيف وبرد الشتاء, وإلّا أن تقول بغير ما قال محمد -عليه الصلاة والسلام.
أما المغالاة:
فلئن كان الاقتصار خاطئًا, فالمغالاة أشد خطأ, حتى ولو كانت بقصد كريم شريف, فلابد مع القصد من الاتباع؛ لأن الإفراط في شيءٍ تمامًا كالتفريط فيه, كلاهما طرفا نقيض مذموم من الله -سبحانه وتعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 2.
وفي موضعنا نصوص كثيرة {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} 3.
__________
1 راجع ما سبق عند الكلام عن الاستشراق.
2 الفرقان 67.
3 الحجرات 7.
(1/199)
________________________________________
عليكم من الأعمال ما تطيقون, فإن الله لا يمل حتى تملوا1.
"إن هذا الدين متين, فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن لا أرضًا قطع, ولا ظهرًا أبقى"2.
"إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا, فأعط كل ذي حقٍّ حقه3".
وبعد ذلك, فإن الإغراق في جانبٍ واعنات النفس فيه, يؤدي بغير شكٍّ إلى الملل والسأم, مما يفضي بعد ذلك إلى الانقطاع! أو يرتد بالنفس إلى النقيض الآخر, أو يؤدي إلى خلل في الجسم أو العقل أو المال.
__________
1 الموافقات ج1 ص343.
2 رواه أحمد والبيهقي.
3 رواه البخاري والترمذي.
(1/200)
________________________________________
المبحث الثالث: مدارس العقل والعقلاء
مدارس العقل والعقلاء, نشأ أكثرها في فترة الاحتلال الأجنبيّ, وفي أوجِّ قوته.
لها فلسفتها:
إننا لسنا بقادرين على مجابهة قوة الاستعمار العسكرية, ومن ثَمَّ فلنؤجل الجهاد, ولنعمل العقل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه, أو باستعارة التعبير: "ما لا يدرك كله لا يترك كله".
إتهام ننفيه:
ونحن -على عكس كثير غيرنا- نحسن الظن بأصحاب هذه المدارس, ولا نقبل أن نسميهم: "عملاء"1.
وإن بدا منهم لون من الاتصال, أو التعاون, مع العدو المستعمر لهم عن ضعف استشعروه, فالاستعمار قهرهم, وقهر من كان أشد منهم قوةً وأعز نفرًا! فيكف بهم أن يقفوا في وجهه؟
سذاجة:
لكننا, وإن نفينا عنهم العمالة, فلا نستطيع أن ننفي عنهم السذاجة, إنهم ظنوا أنهم يستطيعوا أن يضحكوا على الاستعمار, ويمكروا به, فإذا به أشد مكرًا.
__________
1 شن الدكتور محمد محمد حسين حملةً شديدةً على الشيخ محمد عبده, وشيخه الأفغانيّ في كتبه: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، الحضارة الغربية.. إلخ.. وسار على نفس النهج الأستاذ غازي التوبة, في بحثه القيم الفكر الإسلاميّ الماصر, وفعل غيره كذلك..
(1/201)
________________________________________
ظنوا أنهم يستطيعون أن يمتطوه؛ ليسخروه لصالح الإسلام, وامتطاهم الاستعمار ليسخرهم لصالح التغريب، والتغيير الاجتماعي!
فبعضهم ظن أنه يستطيع أن يقنع الإنجليز بإصلاح التعليم الدينيّ "إن أعظم فاعل في نفوس المصريين أن يقال لهم: إن صاحب هذه المنفعة ليس من دينكم, وأنكم مأمورون ببعضه" ثم يقول: "الدين الإسلاميّ الحقيقيّ ليس عدو الألفة، ولا حرب المحبة, ولا يحرم المسلمين من الانتفاع بعمل من يشاركهم في المصلحة، وإن اختلف عنهم في الدين، والجملة, فهو أفضل كافلٍ لجعل الرعية صالحةً لأن تكون بدنًا في رأسٍ, أو آلة لعامل1.
وبهذه النية التي نحسن الظن بها, ألف صاحب مدرسة العقل جمعية التقريب بين الأديان, فيها المسلمون, والنصارى, واليهود, ولعله لم يكن قد اطلع على توصيات المبشرين والمستشرقين في التقريب بين الأديان, ولعله كذلك لم يدرك أن التقارب بين الإسلام والمسيحية واليهودية لا يمكن أن يكون إلّا على حساب الإسلام؛ لأنه الوحيد الدين الصحيح, وغيره مُحَرَّفٌ, ولابد في التقريب من تنازلٍ, وتنازل المحرف لا يضيره! أما تنازل الصحيح, فإنه يضيره, ويضره كل الضرر!!
ولعله لم يدرك أن المشركين حاولوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك التقارب, حين قالوا له: نعبد إلاهك يومًا، وتعبد آلهتنا يومًا, فأنزلها رب السماء والأرض قاطعةً حاسمةً {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} 2
__________
1 المرجع الأخير.
2 الكافرون 1,2.
(1/202)
________________________________________
وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 1
ولا أدري, هل قرأ "سيد العقلاء" ما كتبه أحد أعضاء جمعيته تحت عنوان: "الإسلام والمدارس المحمدية" التي جاء فيها: "وإحسان المسلمين لمواليهم، وإشفاقهم على البهائم التي ترجع أيضًا إلى الرب، وإنفاقهم في سبيل الخير، والسذاجة التي هي من خصال المؤمنين الصادقين, أحرى بأن تميلنا إليهم، من أن تصبح النبيّ الكاذب".
وما أحسن عمل مبشرينا لو جاهدوا في التوفيق بين الإسلام والمسيحية, توفيق أختين من أم واحدة"2 وهكذا أعطى الإمام من "السذاجة" ما يرغب فيه المبشرون!!
وقفة:
ولسنا نحاسب "الإمام" بعد ذلك على انضامه للمحفل الماسونيّ الفرنسيّ, فنحسب أنه في ذلك التاريخ لم يكن من الناس كثير يدرك حقيقة الماسونية، وحقيقة الدور الذي تلعبه، ولم يكن نيلوس قد نشر "بروتوكولات حكماء صهيون" التي صرحت باستخدام الماسونية لتحقيق أهداف اليهود، وإن إدراك نشرها في روسيا, فربما لم يدرك نشرها في إنجلترا, ولم تكن بالقطع قد ترجمت إلى اللغة العربية؛ لأن هذه الترجمة لم تتم إلّا بعد ذلك بكثير.
لا نحاسب الرجل على هذه النقطة, خاصةً وأن الماسونية لا تكشف عن حقيقتها لأعضائها إلّا في درجة سحيقةٍ من درجات الثلاثة والثلاثين.
__________
1 الكافرون 3-6.
2 للمفتش الإنجليزي جي ديلو أنيتر, بجريدة "الديلي تلغراف" اللندنية في 2 شباط 1888, وراجع تعليقًا على ذلك للأستاذ غازي التوبة, الفكر الإسلاميّ المعاصر, دراسة وتقويم.
(1/203)
________________________________________
ولا نحسب الرجل أشد حذرًا من رئيس عربيّ ظل ينتسب لمحفلٍ ماسونيٍّ حتى بعد أن صار زعيم ثورة, ورئيس دولة, فلمّا فاحت, أمر بحلِّ كل المحافل الماسونية في بلده, وأما الذي نأخذه على الرجل العالم:
أولًا: اقتصاره من الإسلام على الإصلاح عن طريق التعليم, فالإسلام -كما سنشير- ليس مجرد ثقافةٍ فقط, لكنه منهاج تربية، ومنهاج حياة, وليته في هذا الجانب استطاع أن يصلح!!
ثانيًا: أن الرجل وهو في موضع القدوة للمسلمين مالأ الكافرين الذين غصبوا الديار, وما بعد الديار!
وإنكار القلب أن كنا نكتفي به من الشيخ الإمام, يفرض مع الإنكار الاعتزال, وإلّا فَقَدَ السلامة من الإثم, والبراءة من الذنب, فليس وراء ذلك النوع من الإنكار حبة خردلٍ من الإيمان.
ولا ندري.. هل كان الإمام يحفظ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} 1.
وهل قرأ غيرها من الآيات في نفس المعنى, أم أن له فيه تأويلًا كتأويله في الملائكة, أو في سجودهم, أو في معصية آدم, أو في خلق عيسى -عليه السلام, أو في السجن، أو في *****, أو غير ذلك مما أعمل فيه عقله الكبير؛ ليقول بالرأي في كتاب الله؟ !! ".
لقد مضى الرجل إلى ربه, فنترك له حساب سره وعلانيته, لكننا إزاء الظاهر.
(1/204)
________________________________________
وعمره الذي أفني في محاولة إصلاح التعليم, بلوغًا إلى مقاومة الاستعمار, أو إلى النهوض بالإسلام, لا نملك إلّا أن نتلو قول الله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 1.
ونترك من قبل ذلك, ومن بعد ذلك, حسابه على الله, لكننا نسوق ما نسوق ليعتبر أولوا الأبصار, ويتذكر أولوا الألباب, فلا تتكرر الصورة مرةً أخرى!
__________
1 الكهف 103, 104.
(1/205)
________________________________________
الفصل الثاني: محاولة لخطٍّ إسلاميٍّ أصيل
المبحث الأول: ضلال وقصور
أولًا: ضلال الاتجاهات الدخيلة
لقد نقل البعض عن الغرب علمانيةً في التعليم والإعلام, وفي القانون, ونقلوا منه تحرير المرأة من بيتها ومن زيها, ونقلوا عنه إضعاف دور الدين, وإضعاف رجاله, وظنوا ذلك طريق المدنية والتحضر والنهضة, فهل تحقق لهم ذلك؟
إن المنطق أولًا يرفض ذلك النقل الآليّ.
إن شخصين قد يمرضان بمرض واحدٍ, ومع ذلك يعرضان على طبيب واحد, فيقضي لكل مريضٍ منهم بدواءٍ مختلف عن الآخر.
وإن نباتًا واحدًا, قد يزرع في أرضين كلاهما خصبة, فتنبت الواحدة وترفض الأخرى, وإن شخصين في سنٍّ واحدة, ودرجة ثقافة واحدة, قد يلقنان علمًا أو عقيدةً, فيورث أحدهما جهلًا والآخر علمًا, ويورث أحدهما إيمانًا والآخر كفرًا!!
إن الشعوب تمامًا كالأشخاص؛ لأنها مجموعة أشخاص, ما يطبُّ شعبًا, قد يمرض شعبًا آخر, وما يعلِّمُ شعبًا.. قد يورث الآخر جهلًا.
(1/206)
________________________________________
وما يدفع شعبًا إلى الإيمان, قد يدفع الآخر إلى الكفر والفسوق والعصيان!
بل إن النبات ليأخذ بالاختيار, فيتخير من عناصر التربة ما يصلح له؛ فما يختاره النخيل, قد لا يختاره شجر البرتقال, وهكذا..
فهل يؤتى النبات فطرة الاختيار, ويفقد الإنسان الذي أوتي الإرادة قدرة الاختيار؟؟
ثم إن الأصالة ترفض ذلك النقل؛ فالشعوب الأصيلة تستمسك بما لديها من تراث, باعتباره أحد عناصر استقلالها, بل أهم عناصره, وهي -حتى تحت الهزيمة- قد تستمسك به, ولدينا مَثَلٌ من الأمة الإسلامية الأولى حين غلبت على أمرها أمام زحف التتار, رفضت أن تأخذ بالياسق الذي وضعه الغالبون جزءًا من شريعة جنكيزخان, وجزءًا من شريعة الإسلام, وأجزاء من شرائع أخرى.
ومَثَلٌ من الأمة الألمانية, والأمة اليابانية, لم يفقدا برغم الهزيمة المرة العناصر المميزة لشعوبهما, ولم يذهبا إلى نقل كل وارد من غير تمحيص, وها هي الأمتان تعودان أقوى مما كانتا, تعودان لتقرضا أغنى دول العالم، ولتنشرا على مستوى العالم كله منتجاتهما!!
والإسلام بعد ذلك يرفض ذلك النقل الأعمى؛ لأنه هو الأعلى, والأعلى لا يمد اليد لما هو أدنى.
لأنه الطيب؛ والطيب لا يستبدل به الخبيث؛ لأن عنده ما ينفع الناس, ولا يستبدل بما ينفع الناس الزبد أو الغثاء.
(1/207)
________________________________________
ولا يتسع المجال لندلل من النقل والعقل أن الإسلام هو الأعلى, وهو الطيب, وأن عنده ما ينفع الناس.
فنحسب أنه لا ينكر على الإسلام ذلك إلّا معاندٌ, أو جاهل, وفي الإعراض عن كليهما خير, أيّ خير.
والماركسية في منهجها الأخير تحاول أن تقيم صلحًا بينها وبين الإسلام، والكفر والإيمان لا يصطلحان, والشر والخير لا يتقاربان, ولا يجتمعان.
ومن ثَمَّ كانت دعوةً مرفوضةً غير مشكورةٍ, ولتبحث لها عن دين آخر, يقبل الصلح أو التقارب أو الاجتماع.
فلقد شب أبناء الإسلام عن طوقهم, ولم يعودوا يقبلون ذلك التغفيل أو التضليل, والماركسية بتراجعاتها الكثيرة في مجال النظرية:
في التفسير الماديّ للتاريخ, وفي مفهوم المادة ذاته, وتراجعاتها الأكثر في مجال التطبيق العمليّ, بعد عدولها الجزئيّ عن إلغاء الملكية, وبعدولها المرحليّ عن إلغاء الأسرة, وبعدول بعض أجزائها الأوربية عن مبدأ دكتاتورية البروليتاريا, وبعدولها المرحليّ "التكتيكيّ" عن الهجوم على الدين, وبأخذها عن "الرأسمالية" نظرة الحوافز, وبمهادنتها للنظم الرجعية, بل إعلانها الوفاق مع بعضها..
(1/208)
________________________________________
كل ذلك, لم يعد معه من المقبول -علمًا ومنطقًا- ان نقول بوجود النظرية الماركسية.
وأخيرًا..
فماذا فعلت الماركسية حين أعطيت لها القيادة في بعض البلاد الإسلامية, هل حققت تقدمًا اقتصاديًّا؟
الواقع الأليم يحكم على الاشتراكية والاشتراكيين بالخراب, كل الخراب, هل حققت تقدمًا سياسيًّا؟
في ظل توجيهاتها العليا كانت أكبر محنة للشعب المسلم في المنطقة حين استذلته واستعمرت أرضه أذل أمة في الوجود.
هل حققت تقدمًا اجتماعيًّا؟
ليس سوى التمزق بين أبناء البلد الواحد، بل بين أبناء الأسرة الواحدة؛ من اتهامات باليمينية، والإمبريالية.
وغيرها من الألفاظ والمصطلحات الرنانة.
ثانيًا: قصور بعض الاتجاهات الإسلامية:
ماذا فعلت بنا الاتجاهات الإسلامية التي عرضنا لها, من اقتصار على العقيدة, إلى اقتصار على النسك، إلى اقتصار على محاولة إصلاح التعليم؟؟
كلها باقتصارها على جانبٍ واحدٍ, أشبه بجيش جرار معه سلاحه وذخيرته, لكنه يقف مكانه يحرك رجليه,
وليس له ثمة تقدم يذكر.
إنه يسير مكانه, والعالم كله يسير إلى الإمام, أو هي من ناحيةٍ أخرى.
تقيم جزءًا من البناء, وتهمل الباقي.
(1/209)
________________________________________
فما يتكون البناء المتكامل الذي يشد بعضه بعضًا.
وما يكون نصيب الجزء الذي بُنِيَ إلّا أن تعشش فيه الغربان, وتأوي إليه الحشرات, فلا يلبث أن يبدو بعد حين كريها لكل ناظر..
والإسلام أعز من ذلك وأكرم, إذن فأين الطريق؟؟
(1/210)
________________________________________
المبحث الثاني: أين الطريق
مدخل
...
المبحث الثاني: أين الطريق؟
من ابتغى نباتًا طيبًا, فلابد له من أمرين رئيسيين:
تربة طيبة, وبذرة طيبة, والباقي عوامل مساعدة.
والتربة الطيبة في رأينا هي الإنسان كله, والبذرة الطيبة -في رأينا- هي شريعة الله كلها؛ فإذا أحسن زرع البذرة الطيبة في الأرض الطيبة كان نبات طيب؛ كانت حضارةً ونهضةً يسعدان الإنسان, ويسعدان العالم كله.
ونتحدث عن كل عنصر بما يسمح به المقام.
(1/211)
________________________________________
أولًا: الإنسان كله:
أشرنا من قبل إلى أنه إذا كانت حضارات القرن العشرين, أو بالأصح, جاهلياته, قد لجأت إلى الآلة, وإلى المصنع, وجعلت الإنسان في الدرجة الثانية, فإن حضارة الإسلام تجعل الإنسان في الدرجة الأولى, صانعًا لها, ثم هدفًا لها, والإنسان بلا شكٍّ, هو أكرم المخلوقات في هذا الوجود.
ومن ثَمَّ كانت حضارة الإسلام باعتبار الإنسان صانعًا لها, ثم هدفًا لها, أكرم حضارة في الوجود, وقضية تكريم الإنسان وتفضيله على غيره من المخلوقات قد تبدو قضية بديهية، بالنسبة لعصرنا, لكنه قد أتى حين من الدهرلم يكن فيه الإنسان شيئًا مذكورًا.
حتى لقد استعبد في فترةٍ, وخضع للبيع والشراء في سوق النخاسة.
(1/211)
________________________________________
واستبعدت المرأة في فترةٍ, وكان ينظر إليها على أنها متاع؛ كسائر المتاع في البيت, وكانت تورّث من بين ما يورث من الأشياء.
ولا تزال المرأة في حضارات كثيرة مستعبدة, وإن علقوا على رأسها لافتة الحرية, لا تزال تباع وتشترى في سوق الرقيق الأبيض, ولا تزال تعرض سلعة رخيصة في كثير من الأماكن, تبيع النظرة وتبيع البسمة, وتبيع ما وراء ذلك بالدرهم والدولار!!
وفي زمانٍ نظر الناس إلى الملائكة على أنهم الجنس الأكرم, ونظر آخرون إلى الجن, وجاءت كلمة الإسلام قاطعةً {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.
وقصة سجود الملائكة لآدم التي حكاها القرآن, ليست للتسلي ولا للتلهي {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} 2.
لكن البعض قال فيها بغير علم، وتأول صريح ألفاظها، ودلالاتها، بما يخرجها عن معناها وهدفها..
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 3.
وتكررت في أماكن أخرى بألفاظ أخرى لكنها كلها من الوضوح بما لا يصرفها عن معناها الظاهر إلى معنى خفيٍّ أو ملتو, الله أمر الملائكة بالسجود لآدم, والملائكة كلهم سجدوا إلّا إبليس أبى واستكبر, وكان من الكافرين.
وسجود الملائكة على هذا النحو فعل حدث وتَمَّ, وهو يعني: التكريم الذي أشارت إليه آيات أخرى, بل هو أبلغ درجات التكريم..
وتكريم الإسلام لآدم وبنيه, ينصرف بلا شكٍّ إلى الجنسين, ولذا كانت ***** دمه وعرضه وماله, بل يبلغ التكريم والصون
__________
1 الإسراء 70.
2 يوسف 11.
3 البقرة 34.
(1/212)
________________________________________
غايته ومنتهاه, حين يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناظرًا لبيت الله المحرم, الذي زاده الله تشريفًا وتكريمًا: "ما أعظمك وأعظم حرمتك" لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة بيته المحرم.
حضارة القرن العشرين شهدت على أيدي بعض أدعيائها ممن جعلوا حرمة المؤمن دون حرمة الكلاب, فأهدروا جسده، ودمه، وماله، وعرضه, وحرموه من أدنى الحقوق, بل أدنى الضرورات, حرموه أن يقضي حاجته، وحرموه أن يسد رمقه!! قد يقال: وكل حضارات الدنيا لم تقم, ولا يمكن أن تقوم بغير الإنسان,
ونقول: ولكنها لا تجعله من الدرجة الأولى, ولا تنظر إليه نظرة الإسلام كلًّا لا يتجزأ, أشرف ما فيه قلبه,
الإنسان كله:
في هذا تفترق حضارة الإسلام عن سائر الحضارات, إنها لا تنظر للإنسان كجسد وحسب, كما تفعل الحضارة المادية شرقية وغربية, نزوعًا إلى ذلك المستوى الهابط الذي صوّر به فرويد الإنسان مجموعة غرائز تتحرك, أو نزوعًا إلى ذلك الأصل الهابط الذي تدرج به دارون إلى أن يجعل أصل الإنسان قردًا, أو ما وراء ذلك.
حضارة الإسلام لا تغفل واقع الإنسان أنه جسد, لكنها لا تغفل الجانب الآخر من الواقع, إن له روحًا, إن له عقلًا وقلبًا.
وهي تبدأ مع الإنسان, وفي هذا تفترق عن سائر الحضارات, من أعز مكان فيه وأشرفه, من قبله؛ فتودع فيه العقيدة والإيمان, وبهذا تكون نقطة التحول للإنسان.
بهذا يبدأ الإنسان معراجه إلى حضارة المثل والقيم والأخلاق, ولا تغفل بعد ذلك بقية القوى فيه.
إن لربك عليك حقًّا, وإن لبدنك عليك حقًّا, وإن لنفسك عليك حقًّا.
(1/213)
________________________________________
فأعط كل ذي حقٍّ حقه.
ويتحقق في الإنسان المسلم التوازنُ المفقودُ عند غيره؛ فلا الجسد ولا حاجاته يطغى, فينقلب الإنسان إلى حيوان تسيره غرائزه, ولا العقل ومنطلقاته يطغى؛ فينقلب الإنسان إلى خيالٍ بعيد عن الواقع والحياة, ولا القلب وأشواقه يطغى؛ فينقلب الإنسان إلى راهبٍ ينقطع عن الدنيا وما فيها, وإنما كل يسير بقدر, كما أن كلًّا خلق بقدر.
كلٌّ يسير في فلكه المرسوم, كما تسير الكواكب في فلكها المرسوم.
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1.
أما القدر الذي يسير قوى الإنسان, وأما الفلك المرسوم الذي يسير فيه, فهو هذه الشريعة التي أنزلها الله له,
وفيها هذا النظام الرائع المحبوك الذي لا يقل روعةً عن نظام هذا الكون المتناسق الغريب..
وحين تختل القوى أو تطغى؛ ففي توجيهات هذه الشريعة وأوامرها ونواهيها, ما يرد الأمر إلى توازنه؛ ليعود كلٌّ يسير بقدر, وليعود كلٌّ إلى فلكه المرسوم بغير طغيان ولا خسران, بغير إفراط ولاتفريط..
__________
1 يس 40.
(1/214)
________________________________________
ثانيًا: الشريعة كلها
الإنسان هو التربة الطيبة, والشريعة هي البذرة الطيبة, ومنها: يكون النبت الطيب بإذن ربه, ومنهما: تكون حضارة المثل والقيم والأخلاق..
ومحاولات النهضة
الإسلامية السابقةلم تؤت ثمارها المرجوة, إما لأنها اقتصرت على جانب في الإنسان تقيمه وتزكيه، وأهملت بقية الجوانب, وكما قدمنا, فالإنسان كلٌّ لا يتجزأ, ومخاطبة جانب فيه يخل بالتوازن الذي أودعه الله في هذا الإنسان, كما أودع التوازن في الكون كله..
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} 1.
والذين اقتصروا على النسك, اقتصروا على أعمدةٍ, وتركوا بقية البناء, والذين اقتصروا على التعليم, أخذوا جانبًا وتركوا بقية الجوانب, وشريعة الله بناءٌ متكاملٌ يشدُّ بعضه بعضًا؛ أساسه: عقيدة, وأخلاق, وعمده: شعائر ونسك, وبقية أركانه وجوانبه: أوامر ونواهٍ وتوجيهاتٍ تشمل جميع الحياة.
ونشير في إيجاز لهذه الجوانب, ثم نشير إلى أنها لا تقبل التجزئة, ولا التفرقة, ثم نختم بحثنا بتساؤل:
كيف نقيم بناء الشريعة في النفس وفي الناس؟؟
هذا ما نجب عليه -بمشيئة الله- في الفصل الثالث, تحت عنوان: جوانب شريعة الله.
__________
1 الرحمن 7-9.
(1/215)
________________________________________
الفصل الثالث: جوانب شريعة الله
مدخل
...
الفصل الثالث: جوانب شريعة الله
كان من نتائج إبعاد شريعة الله عن حياة المسلمين، وإبعادهم عنها, أن اختلفت نظرة الكثيرين إليها, حتى المخلصين الراغبين إليها.
وكان كلُّ مَنْ قبس منها قبسًا, ظن ذلك هو الإسلام, أو ذلك هو الشريعة؛ فراح يعكف عليه وحده, ويدعو إليه وحده, بيد أن شريعة الله كلًّا لايتجزأ, قد نقبس منها قبسًا, لكننا لا نقف عنده, بل نحاول أن نحيط بالنور كله؛ ليكون فيه الخير كله.
ولسوف نرى فيما بعد -إن شاء الله- أن تجزئة شريعة الله قد تكون فتنةً تمامًا كمنعها كلها, بل ربما أشد.
من هنا كانت أهمية محاولة الإحاطة بجوانب هذه الشريعة, وأولى هذه الجوانب وأشرفها هو البعقيدة, وثانيها المكمل لها, هو الأخلاق.
ومن هذين يصطبغ المسلم بصبغة الإيمان, لكن لابد من صقله, وتنمية هذا الإيمان بالشعائر والنسك, ثم باتباع سائر أوامر الله في سائر جوانب الحياة, ونشير لكل جانب بكملة:
(1/216)
________________________________________
المبحث الأول: العقيدة والأخلاق والشعائر
أولًا: جانب العقيدة
العقيدة أشرف جوانب الشريعة, ولذا كانت تخاطب أشرف جزءٍ في الإنسان, تخاطب قلبه, وبقيامها في قلوب الناس يقوم أساس هذه الشريعة متينًا قويًّا.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} 1..
وقد أشرنا -في معرض الحديث عن الاتجاهات القاصرة- إلى أن عقيدة الإسلام متمثلة في الكلمة الطيبة: لا إله إلّا الله, وهي بهذا -كما أشرنا- تتمضن نفيًا ثم إثباتًا.
نفيًا يقتضي إسقاط كل صفات الألوهية والربوبية عن سوى الله -سبحانه وتعالى- من طواغيت؛ بشرًا كانت أو حجرًا..
ولا نحسب الإنسانية -بعد أن شبت عن طفولتها- تَرْتَدُّ مرةً أخرى إلى جاهليتها الأولى؛ لتعطي بعض صفات الألوهية أو الربوبية لوثنٍ أو صنمٍ, لكنها لا تزال -حتى اليوم- تتردَّى في إعطاء بعض هذه الصفات للبشر؛ فتعترف لهم بحق وضع "منهاج الحياة".
كما اعترف الماركسيون بهذا الحق لماركس ومَنْ جاء بعده.
__________
1 التوبة 109.
(1/217)
________________________________________
ليفسروا لهم الكون، والتاريخ، والاقتصاد, ويضعوا لهم منهج السياسة والاجتماع والاقتصاد.
وكما اعترف غيرهم بهذا الحق لبشر مثلهم, يشرعون لهم قيمهم ومثلهم, وقواعد مجتمعاتهم, وسائر جوانب حياتهم.
وتردت من ورائهم الأمم الإسلامية تأخذ عن هؤلاء القيم والمثل والأخلاق والسلوك وسائر مناهج التعامل بين الناس, وفي مقدماتها القوانين.
ونسيت هذه الأمم أنها بهذا تتخذ أربابًا من دون الله, تعطيها بعض صفات الله وبعض حقوقه, تزعم أنها آمنت بالله, وهي تتحاكم إلى هذه الطواغيت؛ من قيمٍ ومبادئَ وقواعدَ وتشريعاتٍ, وإيمانها يقتضي أولًا إسقاط هذه الطواغيت.
عقيدتها تقتضي أولًا إسقاط هذا الحق عن تلك الطواغيت, وإثباتًا يقتضي الإقرار بكل صفات الربوبية والألوهية لله وحده.
وبذا تقوم عقيدة الإسلام واضحة قوية في قلوب المسلمين, يقوم الأساس متينًا؛ ليصح من بعده ومن فوقه بقية البناء.
(1/218)
________________________________________
ثانيًا: جانب الأخلاق
وهذا جنب يغفل عنه الكثير من المصلحين ومن الدعاة, مع أنه في ميزان الإسلام يقف إلى جانب العقيدة؛ ليقيم الأساس, وكيف لا؟ والرسول يجعلها غايةً لابتغاثه "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 1.
وكيف لا؟ وقد ظل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يربِّي المسلمين عليها مع العقيدة أكثر من نصف حياته الرسالية.
__________
1 رواه مالك.
(1/218)
________________________________________
وكيف لا؟ وبها انتشرت دعوة الإسلام في أكثر من نصف الأرض التي فتحها الله على المسلمين؛ لما رأى الناس من أخلاق تجار المسلمين في معاملاتهم.
وكيف لا؟ وبها يصير المسلمون مثلًا تتحرك وقيمًا تسعى على الأرض, ويسعى نورها بين أيديها وبأيمانها.
وكيف لا؟ وقد كان خُلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وكان بهذا الخلق أشرف من خُلِقَ {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} 1, {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 2.
وأمرنا أن نقتدي بهذا الرسول في خلقه العظيم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 3.
ولئن اختلفت مذاهب العالم في الأخلاق, واختلفت فيها اهتماماتهم, فإن السمة الواضحة في هذه المذاهب وتلك الاهتمامات أنهم لا يضعونها في المنزلة التي يضعها الإسلام, أساسًا مع العقيدة للبناء كله, ثم هي عندهم ليست نابعةً عن عقيدةٍ ولا متصلةً بعبادة, بينما هي في الإسلام كذلك, فأما نبعها من العقيدة, فهناك أمثلة منها: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" 4.
"والله لا يؤمن" "ثلاثًا" قيل من يا رسول الله؟ قال: "من لا يأمن جاره بوائقه" 5.
__________
1 القلم: 4.
2 الجمعة: 2.
3 الأحزاب: 21.
4 رواه البخاري.
5 رواه البخاري.
(1/219)
________________________________________
"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} .
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل} .
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ..} 1.
وأما إتصالها بالعبادة:
فإن إتيانها نفسه والاستمساك بها عبادة, اسمع إن شئت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم" 2.
"أقربكم مني منازل يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا"..
"ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن" 3.
ثم إنها بعد ذلك تزكو بالعبادة وتربو, فالصلاة من بين غايتها تنمية النظام، والطاعة، والطهر والنظافة, والعفة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 4 "لو أن بباب أحدكم نهرًا يغتسل منه في اليوم خمس مرات أيبقي من درنه شيء" 5.
وأداؤها في جماعة ينمي روح التعاون والتراحم والود والألفة؛ فيتحقق قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.." 6.
__________
1 الرعد 20 - 22.
2 رواه أبو داود.
3 رواه أحمد.
4 العنكبوت 45.
5 العنكبوت 45.
6 رواه الإمام أحمد ومسلم.
(1/220)
________________________________________
والصيام يزكي خلق الصبر، والاحتمال، والإحساس بالفقير والعطف عليه, وينمي في الوقت نفسه مراقبة الله في السر كمراقبته في العلانية, مما يولد التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ..} 1.
والزكاة تطهير للنفس من شحها, وتطهير للمجتمع من الأحقاد, وتزكيةٌ لأخوة الإسلام والمحبة في الله بين الغنيّ والفقير {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ..} 2.
وهي حقٌّ في مال الغنيّ، وليست مجرد إحسان، ومن ثَمَّ ينتفي فيها ما قد يجرح الفقير {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} 3 وفي المال -بعد ذلك- حقٌّ سوى الزكاة.
والحج فيه صبر وتطهر من الرفث والفسوق والجدال, وفيه تنمية لروابط الأخوة بين المسلمين, وتزكية للوحدة على الله الواحد, والقبلة الواحدة, والغاية الواحدة.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..} 4.
__________
1 البقرة 183.
2 التوبة 103.
3 المعارج 34 و35.
4 البقرة 197.
(1/221)
________________________________________
وهكذا, وهذه مجرد نماذج.
وأخلاق الإسلام بعد ذلك فيها الثبات, فهي لا تتغير بتغير الأزمنة, ولا تتأثر بالظروف ولا المصالح, وهي ترتفع بالمسلم إلى مستوى من "المثل" لا تدانيه أية قيم أرضية أخرى, ومن هنا وجب أن يربى عليها المسلمون، كما يربون على تقوى الله سواءً بسواء.
(1/222)
________________________________________
ثالثًا: جانب الشعائر
العقيدة والأخلاق أساس, ويأتي بعد الأساس: العمد, والشعائر هي العمد.
من هنا كانت صلتها وثيقةً بالعقيدة وبالأخلاق, فهي كذلك استمدادٌ من العقيدة.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} 1.
ثم إن العقيدة تربو بالشعائر وتزكو, ومن هنا كان قول السلف: الإيمان يزيد بالطاعات, وينقص بالمعاصي, وبينها وبين الأخلاق تأثير متبادل؛ فحسن أدائها تزكو به الأخلاق وتربو على نحو ما أشرنا.
كذلك الأخلاق تؤدي إلى حسن أدئها, فمن كان ذا وفاءٍ فهو مع الله أوفى, ومن كان ذا صدق, فهو مع الله أصدق, ومن كان ذا أمأنة؛ حفظ أمانة الله أول ما يحفظ, وهكذا..
__________
1 الحج 32.
(1/222)
________________________________________
المبحث الثاني: بقية الجوانب
مدخل
...
المبحث الثاني: بقية الجوانب
وهي ما تعالج بعد العقيدة، والأخلاق, والشعائر, جوانبَ الحياة توجيهًا وتشريعًا, ابتداءً من الفرد, ثم الأسرة, ثم المجتمع, وفي المجتمع كل نواحيه سياسية واقتصادية واجتماعية, ولئن فصل الإسلام في ثبات ووضوح جوانب العقيدة والأخلاق والشعائر, فإنه في بقية الجوانب فصل ما لا يتغير, وأجمل ما يتغير.
فمن أمثلة ما لا يتغير جوهر الإنسان وما يتصل به من زواجٍ وطلاقٍ وميراثٍ, فقد فَصَّلَ كل ذلك تفصيلًا وافيًا, يعترف فيه بالواقع, ثم يعرج بعد ذلك إلى معراج المثل والقيم التي يحرص عليها, وما يثيرونه حول هذه القضايا, إنما هي شبهات يثيرها جَهْلٌ بالإسلام, أو حقد عليه, وليس هنا مكان العرض لها.
ومن أمثلة ما يتغير: الظروف السياسية والاقتصادية, ولذا رسم الإسلام فيها الخطوط الرئيسية, وليس معنى ذلك -كما يتفوه البعض- أن ليس للإسلام نظامٌ سياسيٌّ أو نظام اقتصاديٌّ, فإن الإسلام يرسي المبادئ والإطار العام, ويضع الخصائص العامة المميزة لهذا النظام الربانيّ, ثم يدع لاجتهاد الإنسان تبعًا لتغير الظروف تفصيلَ بقيةِ الأحكام.
ولنأخذ النظام الاقتصاديّ والنظام السياسيّ كمثلين نؤيد بهما قولنا السابق، ونرد بهما ردًّا عمليًّا على أولئك الذين يستوردون لنا النظم السياسية والاقتصادية, بمقولة: إن الإسلام لا يتضمنهما.
(1/223)
________________________________________
النظام الاقتصاديُّ الإسلاميُّ:
قد يحتاج النظام الاقتصاديُّ الإسلاميُّ إلى حديث طويل, وقد يحتاج إلى مقارنةٍ مع أنظمةٍ متعددةٍ؛ شرقية وغريبة, ليس من قبيل مقارنة المثيل بالمثيل, ولكن قريبًا من مقارنة الظلام والنور، والظل والحرور, وبضدها تتميز الأشياء, لكن حسبنا في هذا المقام أن نرسم الخطوط العريضة لندع للدراسة الواسعة المتأنية التفصيل بمشيئة الله.
ويكتفي بالحديث عن أمرين:
1- خصائص النظام الإسلاميِّ الاقتصاديِّ.
2- الخطوط الرئيسية للنظام الاقتصاديِّ الإسلاميِّ.
وإن كان الفصل بين الأمرين مجرد فصل نظريٍّ.
أولًا: خصائص النظام الاقتصاديِّ الإسلاميِّ.
1- نظام ربانيٌّ:
بمعنى: أن مصدره هو الله سبحانه, بما جاء في كتابه, أو في سنة رسوله, أو ما أجمع عليه العلماء المسلمون, أو ما كان سابقهً ناجحةً في نظام الحكم الإسلاميِّ؛ لأنها مستقاة أولًا من معين ربانيٍّ، ولأنها ثانيًا اجتهاد صحابةٍ أو تابعين لهم بإحسان, يغني عنها اجتهادنا لو بلغنا إلى أفضل مما بلغوه, وربانية النظام تجعل له سحرًا آخر.
أولًا: أنه يستثير في النفس وازعًا لحفظه وحمايته أقوى من كل وازع, فلا تحتاج إلى كثير من الأجهزة الثقيلة المعقدة التي أثقلت بها كواهل الشعوب، وأثقلت بها ميزانيات الدول، وثقلت بها صدور الناس!
ومن هنا ندرك الفارق بين حصيلة الزكاة على عهد عمر بن عبد العزيز
(1/224)
________________________________________
التي وفت كل المحتاجين من الفقراء والمساكين، ثم العاملين عليها، ثم بقية المصارف الأخرى, حتى بلغت إلى الغارمين، فسددت الدولة عن المدينين ديونهم.
ندرك الفارق بين مثل هذه الحصيلة, ومجموع حصيلة الضرائب كلها, المتعددة التي لا تكاد تسد مصرفًا واحدًا من هذه المصارف!
ثانيًا: تجعل احترامه والخضوع له من المحكوم ومن الحاكم على السواء؛ لأنه من مصدر فوق هذا وذاك وأعلى وأسمى.
ثالثًا: يتحقق التكامل بين النظام الاقتصاديّ والنظام الاجتماعيّ والنظام السياسيّ؛ لأن الكل من مصدر واحد, والتجزئة بينها غير جائزة!
2- انتقاء الندرة:
مشكلة المشاكل في النظم الاقتصادية المعاصرة هو ما يتناولونه تحت عنوان: الندرة, ويقصدون به قلة الموارد بالنظر إلى تزايد الناس, أو ما يصطلحون عليه بالانفجار السكانيّ, وهذه المشكلة لا وزن لها, بل لا وجود لها في النظام الإسلاميّ.
أولًا: لأن هذا النظام تقوم عقيدة أصحابه على {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} 1 وعلى أنه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 2 وعلى أن الله قسم الرزق كما قسم الأجل، وإن الرزاق ليطلب المرء كما يطلبه أجله.
ومن ثَمَّ فلا يمكن أن يأتي وقت, أو يوجد مكان, تحقق فيه الندرة, اللهم إلّا أن يكون الأمر عقابًا من عند الله {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} 3 وكلما أقبلت الأمة على الله, كلما زاد لها في رزقها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 4.
__________
1 الذاريات 58.
2 هود 6.
3 الأعراف 130.
4 الأعراف 96.
(1/225)
________________________________________
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} 1.
أضف إليها بعد ذلك قول الحكيم الخبير: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} 2 فنعمة الله ليست نادرةً, بل هي أعظم من أن تحصى.
ثانيًا: من ناحية الواقع
فإن واقع الأمة الإسلامية يؤكد أمرًا هامًّا, أنها إن عادت أمة واحدة، وعادت إلى ربها, فلا يمكن أن تتحقق فيها ندرة أبدًا..
- إن المنطقة الإسلامية أخصب بقاع الأرض زراعيًّا..
- وأغنى بلاد الأرض بالمواد الأولية، وفي مقدمتها أنفسها، الذهب, واليورانيوم, والبترول.
- وهي أوسط بلاد العالم موقعًا تجاريًّا واستراتيجيًّا؛ إذ تشرف على منافذ البحار والمحيطات, ويمكن لها أن تتحكم فيها، وهي من ناحيةٍ أخرى تقع في مكان وسط بين قارات العالم, وهي من ناحيةٍ ثالثةٍ أكثر البلاد اعتدالًا وصلاحيةً لكل أنواع الإنتاج.
ومن ثَمَّ, فإن صح أن توجد الندرة في الشرق أو في الغرب بذنوب أهله وعصيانهم، وبافتقاد المكان الذي حبا الله به أمة محمد -عليه الصلاة والسلام.
- فإنه لا يصح بالنسبة للأمة الإسلامية إذا عادت مرة أخرى أمة الإسلام؟
3- ابتغاء الآخرة:
وقد كان يصح أن تكون هذه هي الخصيصة الثانية, لكنَّا فضلنا أن نشير إلى الربانية, ثم إلى الندرة باعتبار الأولى صبغة هامة عامة, وباعتبار أهمية الثانية عند أهل العصر, ومخالفة الإسلام لها..
__________
1 نوح 10-12.
2 إبراهيم 34.
(1/226)
________________________________________
أما ابتغاء الآخرة فهي خصيصة هامة, وتأخيرها لا يقلل من أهميتها, وابتغاء الآخرة يخفف كثيرًا من غلواء الأنظمة القائمة التي تتعامل وكأنه ليس في الحياة إلّا المادة, وكأن ليس بعد الدنيا آخرة يحاسب فيها المرء {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 1.
الدنيا.. إنما تصير الدنيا وسيلةً لا غايةً، مرتقًى وليست منتهًى، طريقًا إلى هدف, وليست هدفًا في ذاتها: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 2.
وهكذا يتضح وضع الاقتصاد, إن الاهتمام به واجب, لكنه لا يلهي عن الأخرة؛ لأنه نفسه طريق إلى الآخرة, وإذا ابتغى الإنسان الآخرة في اقتصاده؛ فردًا كان أو دولةً, وسار على الطريق الذي رسمه الإسلام, فإنه بلا شكٍّ يؤدي إلى عبادة من أجَلِّ العبادات؛ لأن العبادات ليست قاصرةً على النسك والتعبد, إنما تشمل كل أنشطة الحياة وكل مجالاتها3.
__________
1 النازعات 37-41.
2 القصص 77.
3 راجع "الإيمان الحق", الدكتور علي جريشة.
(1/227)
________________________________________
4- التوازن:
وهذه الخصائص المتقدمة تفضي إلى ما يسمى بالتوازن الاقتصادي, وقد كان ذلك يكفي لتقول إن النظام الإسلاميّ الاقتصاديّ يقوم على التوازن, لكن الإسلام أكد هذه الخاصية بأكثر من سبيل:
فجعل التوازن أمرًا ملزمًا للفرد {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 1.
وجعلها بعد ذلك صفةً للجماعة لازمةً {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" 2.
ثم جعلها أخيرًا صفةً للأمة التي أضفى عليها الخيرية في مكان آخر {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3.
وهكذا تكتمل حقلة التوازن أمرًا وتوجيهًا, ومن قبل ذلك نتيجةً لازمةً لخصائص أخرى!
وبهذا ينفرد النظام الاقتصاديّ عن أنظمةٍ كثيرةٍ تعاني انعدام التوازن!
5- النظام الاقتصاديّ الإسلاميّ يرفض الترف:
قد كان يكفي أن نقول أنه متوازن, فهو يعنيأنه يرفض الإسراف، والترف قَمَتَه1, لولا أن الله ينص على الترف؛ جعله قرين الفسق, أو جعل الفسق نتيجةً, وجعل الهلاك والدمار عاقبته {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} 4 ومعنى الآية الكريمة
__________
1 الإسراء 29.
2 الفرقان 67.
3 البقرة 143.
4 الإسراء 16.
(1/228)
________________________________________
أمرنا مترفيها أن يرجعوا ويلتزموا, لكنهم أبوا وفسقوا, فكان الهلاك والدمار.
وفي القراءة الأخرى بتشديد الميم, تعني معنى آخر، إنه إذا كان الأمر إلى المترفين, فسلام على الأمة, إنها لابد هالكة؛ لأنه إذا اجتمعت السلطة مع الترف, فإنها لا تنتج غير الفسق، ولا ينتج الفسق إلّا الهلاك والدمار1.
ولقد يكون الهلاك والدمار في صورة آيةٍ من آيات الله التي أهلك بها أممًا من قبل, قال فيها: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} 2.
كما قد يكون بتسليط أعداء الله عليها ليذيقوها ألوانًا من العذاب والهوان والإذلال, أو لتتقلب من الرأسمالية الطاغية التي يتحكم فيها الترف والمترفون, إلى النقيض من ذلك, إلى جحيم الشيوعية التي يتحكم فيها السفلة والكافرون!
إن الشيء إذا زاد عن حَدِّهِ انقلب إلى ضده!
الترف يؤدي إلى ضرر اقتصاديّ هامٍّ, أنه إذا شاع أدى إلى زيادة الاستهلاك على الإنتاج, وأدى إلى التضخم, وما يترتب على ذلك من اختلال التوازن الاقتصاديّ، وحدوث الأزمات الاقتصادية, وذلك كله فوق الأضرار الاجتماعية الخطيرة التي يؤدي إليها, وفوق الأضرار السياسية, وفي مقدمتها تمكن الشيوعية الكافرة من بلاد المترفين!
وجماع هذه الأضرار أو نتيجتها هو ما أكده القرآن: الهلاك والدمار، فليحذر المترفون, وليحذر الساكتون على المترفين.
__________
1 ورد الحديث عن الترف في آيات أخرى "بأن جعلت المكذبين من المترفين.. {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] وبعضها جعل المترفين من أهل النار {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيم} [الواقعة: 45، 46] .
2 الطلاق: 8، 9.
(1/229)
________________________________________
إن الهلاك والدمار يقترب منهم, فوق هلاك ودمار أشد وأكبر, إنه الجحيم يوم القيامة!
وخير للمترفين أن يضحكوا بشيء قبل أن يحرموا كل شيء, وخير لهم أن يملأوا أنصاف بطونهم, قبل أن تملأها الزقوم وشراب الجحيم {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} 1.
وحسبنا هذه الخصائص الخمس لننتقل إلى الحديث عن الخطوط العريضة للاقتصاد الإسلاميّ, فإنها إذا أزلنا الحاجز النظريّ, كذلك خصائص!
ثانيًا: الخطوط الرئيسية للنظام الاقتصاديّ الإسلاميّ
تنبع هذه الخطوط من التوازن الاقتصاديّ, وصبغ الأنشطة الاقتصادية المختلفة بالصبغة الربانية, ونكتفي بخطوط ثلاثة رئيسية:
1- ملكية متوازنة.
2- حرية اقتصادية متوازنة.
3- نظام مصرفيّ متوازن.
ونتناولها بإذن الله على التوالي.
1- ملكية متوازنة:
تَمَلُّكُ الإنسان أمرٌ فطريٌّ, حتى عدها علماء النفس إحدى غرائزه, والغريزة في علم النفس لا تقتل، ولكن يتسامى بها, ومن ثَمَّ فلا سبيل إلى قتل حب التملك في النفوس, والنظام الذي يفعل ذلك يقتل نفسه!
__________
1 الدخان 45، 46.
(1/230)
________________________________________
ومن هنا كان الخطأ الرئيسيّ في النظام الشيوعيّ النظريّ الذي لم يستطع حتى الآن أن يطبق نظريته تطبيقًا عمليًّا كاملًا، وإن انتحل التعلات والمعاذير!
لكن إطلاق العنان لهذه الغريزة شأن إطلاق العنان لأية غريزة أخرى, يهلك الإنسان ويحطمه، كما يهلك النظم كله ويحطمها, ومن هنا كان خطر الرأسمالية الطاغية التي تطلق العنان للملكية, حتى تغدو لونًا من الإقطاع يسلب الناس ويستبعدهم, ويأكل أو يشرب ثمرات جهودهم، وقطرات جبينهم, بل ويمتد إلى قطرات دمائهم1, ومن ثَمَّ كان خطأ الرأسمالية أو المذهب الفرديّ..
وبين هذا وذاك, كان نظام الإسلام قوامًا، وكان كذلك قوَّامًا, والأمر أوسع من أن نعرض له في هذه العجالة.
إن الملكية في الإسلام معترف بها؛ لأن ذلك يؤدي قدرًا كبيرًا من إنجاح النظام الاقتصاديّ, فإن سُلِبَ العامل ثمرات جهوده بحرمانه من التملك, يجعله والخامل سواء, ومن ثَمَّ يركن النشاط الاقتصاديّ إلى الركود, ويضعف الإنتاج, ويتهدد البلد البطالة والمجاعة, ومن بعدها الانهيار والهلاك!
وروسيا الاشتراكية مثل قريب, فإن إنتاج روسيا لم يزد طوال خمسين عامًا من الحكم الشيوعيّ القائم على إضعاف الملكية الفردية, والمنادى بإلغائها, لم يزد عما كان عليه في العهد القيصريّ أكثر من 4%, فقد كان إنتاجها في العهد القيصريّ 46% من الإنتاج الأمريكيّ، وصار إنتاجها في العهد الشيوعيّ, وبعد خمسين عامًا من حكمه 50% من الإنتاج الأمريكيّ.
فهل تستحق الـ4% الزيادة, كل هذا الفناء والإفناء الذي أحدثه الحكم الشيوعيّ الغاشم؟!
وبلوغ الإنتاج الروسيّ مثل الإنتاج الأمريكي, حلم قصرت دون
__________
1 مقومات الاقتصاد الإسلاميّ, للأستاذ عبد السميع المصريّ, مكتبة وهبة, ربيع الثاني 1395, مايو 1975.
(1/231)
________________________________________
تحقيقه برامجها الاقتصادية المختلفة, وخططها الخمسية والعشرية, رغم الأمانيّ التي كانت تداعب ساستها وقادتها, وكانوا يدغدغون بها عواطف الشعوب اللهثى والجوعى, التي شقيت بفردوس الشيوعية الكاذب!
لكن هذه الملكية المعترف بها للفرد في النظام الإسلاميّ, ليست طليقةً من كل قيد, بل إن كثيرًا من القيود تحوطها مما يحقق انضباطها، وبما يحقق أداءها لرسالة في المجتمع, يتحقق بها التوازن بين الفردية والجماعية, ولذا فالملكية تؤدي وظيفتين:
وظيفة فردية, بما تحقق للفرد من إشباع, ووظيفة اجتماعية, بما تحقق للمجتمع من فائدة.
وأول قيود الملكية ما أشرنا إليه سلفًا من تحريم الترف.
إن الملكية المترفة مذمومة, وإذا بلغت هذا الحد, فإما انتهى صاحبها من نفسه، وإلّا كان لوليِّ الأمر أن يقوَّمه, والسوابق الإسلامية في ذلك كثيرة, ودفع المفسدة في الإسلام مقدم على *** المصلحة, وتلك بعض غايات التشريع الإسلاميّ الحكيم.
ويلحق بالترف أمور أخرى حرمها الإسلام؛ كالاحتكار، والغش، والتطفيف في الكيل والميزان, ويلحق به كذلك الربا, وهو آفة نفرد لها الحديث عند تناولنا للمصارف بإذن الله, وهذه كلها فيها آثار كثيرة ومشهورة.
وثاني هذه القيود: ما أقامه الإسلام من ألوان الملكية الجماعية, وهي مرافق كان الإسلام أسبق في تقدير جعل ملكيتها في يد الجماعة لا الفرد؛ لأن خيرها يعم الجميع، وضرر تركها أو منعها كذلك يعم الجميع، ومن ثَمَّ كانت الجماعة -ممثلة في أولي الأمر فيها- أقدر على إدارتها لتحقيق غايتها.
(1/232)
________________________________________
والمثل التقليدي في ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاث: "الماء والكلأ والنار" لكن علماء المسلمين قاسوا عليه كل مرفق تظهر حاجة الجماعة إليه, وأهمية ملكيتها له.
وثالث هذه القيود: نظام الميراث
الذي قد يبدو لأول وهلة, أنه نظام رأسماليّ؛ إذ يعتد بالملكية وينقلها إلى ورثة صاحبها, لكن المتأمل فيه يجده قيدًا على الملكية؛ إذ يجري توزيعها وفق نظام دقيق يكفل:
1- تفتيت هذه الثروة وانتقالها إلى أيدٍ متعددةٍ بدلًا من احتواء يد واحدة لها.
2- أنه يجري توزيعه تبعًا للحاجة؛ فإذا كانت حاجة الأولاد أشد من حاجة الآباء باعتبار أولئك مقبلين وهؤلاء مدبرون, كان نصيب الأولاد أكبر, وإذا كانت حاجة الذكر أشد من حاجة الآنثى؛ إذ يقوم هو على عائلةٍ, بينما تكون الأنثى من بين عائلةٍ يُقَامُ عليها, كان كذلك نصيب الذكر أكبر.
3- فوق أن النظرة الاقتصادية السليمة تجعل وضع الملكية في يد الأبناء وهم أنشط -أولى من وضعها في يد الآباء, والأغلب أنهم طاعنون في السن- كذلك وضعها في يد الذكر أجدى النشاط الاقتصاديّ, من وضعها في يد الأنثى.
وهكذا يمضي نظام الميراث حكيمًا ليؤدي وظيفة اقتصاديةً عظيمةً, عجز البعض عن إدراكها, فراح يبدل كلام الله، وينتهك حدود الله, ويسوي بين الذكر والأنثى في الميراث؛ ليحقق بذلك الظلم, وهو يحسب أنه يحقق العدل، فليس البشر مهما كان بأعدل من الله, ولا هو أحنى على البشر من رب البشر, الحنَّان المنَّان، الرحمن الرحيم، الكريم الودود!
(1/233)
________________________________________
ورابع هذه القيود ما يجعله من حق في المال:
الزكاة بأنواعها, ولو أخذت هذه الزكاة ممن تجب عليهم، ووزعها ولي الأمر على من تجب لهم؛ لحققت لونًا من العدل الاجتماعيّ لم يبلغه نظام آخر, ولحققت كذلك لونًا من التقارب والتآخي, بل ولاقتربت بالنظام من التوازن الذي يحبه الله في كل شيء.
وقديمًا غطت حصيلة الزكاة -مع حياة الضمائر- غطت الفقراء والمساكين والعاملين عليها, وأعتقت الرقاب، وغطت كذلك المدينين الغارمين, وفي المال حق سوى الزكاة, قد يتمثل فيما يفرضه ولي الأمر المسلم من ضرائب, وقد يتمثل فيما يراه علاجًا للوضع الاقتصاديّ, قد يبلغ في بعض الظروف الاقتصادية الاستثنائية ألَّا يملك أحد شيئًا, وفي الذين كانوا إذا سافروا أرملوا, وفي امتداح الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم مَثَلٌ عظيم!
وخامس هذه القيود منع الضرر:
فملكيتك حق, وللآخرين حق, وحتى لا يطغى حق على حق, وجب أن يمتنع المسلم عن الضرر أو الضرار, حتى يقف عند حدود حقه, فلا يعتدي على حق الآخرين, وبهذا يمتنع تجاوز استعمال الحق.
لكن داخل استعمال الحق نفسه يمتنع لون من الأضرار كذلك, هو ما اصطلح على تسميته: بإساءة استعمال الحق, ويوم اكتشفت هذه النظرية في مطلع القرن العشرين التفت العالم
(1/234)
________________________________________
كله إلى مكتشفها, ونسي الناس -في غيبة الدعوة وغفلة الدعاة- أن الإسلام صاحبها الأول, فقد نَصَّ رسول الإسلام على قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار" وهو أساسها القانونيّ, وطبق الإسلام صورًا عديدة لمنع إساءة استعمال الحق, في مقدمتها: حق الشفعة الذي يؤكد هذا القول تأكيدًا عمليًّا.
وبهذه القيود تتحقق الملكية وظيفتها الجماعية إلى جانب وظيفتها الفردية, فكأن الملكية عملة ذات وجهين؛ أحدهما فرديّ, والثاني جماعيّ.
وهذا غير ما تتابع1 فيه بعض الكتاب جريًا وراء التعبيرات الحديثة؛ من أن الملكية في الإسلام ذات وظيفة اجتماعية, أن لها الوظيفتين الفردية والجماعية؛ ليتحقق بذلك التوازن لهذا اللون من النشاط.
2- حرية اقتصادية متوازنة:
تحدث الاقتصاديون عن الحرية الاقتصادية, فزعم أبناء الغرب أنها تتحقق في النظام الفرديّ, وأن هذا النظام أجدى لتحقيق وفرة الإنتاج وجودته، وأن القيود التي تفرض على الحرية الاقتصادية لا يجني أصحابها إلّا قلة الإنتاج ورداءته, وهرب رأس المال وبحثه عن أوطان أخرى غير وطنه، ومن ثَمَّ يتأثر الاقتصاد القوميّ تأثرًا بإلغاء بالاجراءات التي ترد قيدًا على الحرية الاقتصادية.
وزعم أبناء ماركس أن الحرية الاقتصادية في الغرب أورثت أزمات البطالة, والدورات الاقتصادية والاحتكار, وغيرها من المساوئ.
ومن ثَمَّ فلا سبيل إلّا بالقيد الثقيل الذي فرضوه, وهو أن تكون الحرية للجماعة لا للفرد, وللفرد قدر حاجته، ومنه قدر قدرته".
والحق أن الغرب أخطأ؛ إذ أطلق الحرية, والشرق أخطأ؛ إذ جعل القيد أصلًا, وفي الإسلام تتوازن الحرية الاقتصادية بين الفرد والجماعة
__________
1 أي: تساقط.
(1/235)
________________________________________
بما يحول دون طغيان طرف على طرف, وبما يحقق للنظام الاقتصاديّ أمثل ما يتمناه، مع نبذ مساوئ كل طرف غالى في الحرية, أو غالى في القيود!
3- نظام مصرفيّ متوازن:
في الغرب شاع النظام المصرفيّ القائم على سعر الفائدة, وهو تعبير آخر عن الربا, وأدرك الناس متأخرين أن اليهود كانوا وراء هذا النظام, وأن بيوت المال قد تجمعت مقاليدها في أيديهم, لما صارت النقود تلد النقود بغير جهد وبغير عمل!
وأدرك علماء الغرب ما في الربا من خطر, وراح البعض يحصي أثر الربا وغيره من ألوان الاحتكار على الجريمة في أمريكا, حتى قالوا: إن أربعة ملايين ونصف مليون جريمة خطيرة تقع كل عام.
- جريمة قتل كل 29 دقيقة.
- جريمة اغتصاب "زنا بالإكراه" كل 17 دقيقة.
- جريمة سرقة بإكراه كل دقيقتين.
- جريمة سرقة سيارة كل 41 ثانية.
- جريمة سرقة منزل كل 17 ثانية.
وهكذا..
وصدق الله سبحانه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} .
{وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} 1.
إلى أن حمل لنا الوعيد رعيبًا بعدها بآية:
__________
1 البقرة 275, 276.
(1/236)
________________________________________
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} 1.
ومع هذه الصراحة, راح البعض يتأول قول الله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 2.
بما يخرج عن مراد الآية الكريمة, ويفرِّق بين ربا الاستهلاك وربا الإنتاج, والبعض الآخر راح يُحِلُّ الربا للدولة, ويحرمه على الأفراد بحجة احتياج الدولة للخروج من أزمتها, بينما قادتها يرفلون في ترف داعرٍ، ونعيم حرام.
واشترى هذا الفريق من العلماء رضى الناس بغضب الله, واستحق ومَنْ وافقوه أو حرضوه أو سكتوا عنه حرب الله ورسوله, وبدلًا من أن يأمر بتحريم الحرام من ذلك الترف الداعر, راح يأمر بتحليل الحرام من الربا علاجًا لأوضاع أوجدوها هم, ولم يوجدها أحد غيرهم!!
ولقد كانت.. توصيات مجمع البحوث الإسلامية صريحة3:
1- الفائدة على أنواع القروض كلها ربًا مُحَرَّمٌ، لا فرق في ذلك بين مايسمى بالقرض الاستهلاكيّ, ولا ما يسمى بالقرض الإنتاجيّ؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
2- كثير الربا وقليله محرم, لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه إلّا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير ضرورته.
3- أعمال المصارف من الحسابات الجارية وصرف الشيكات
__________
1 البقرة 278, 279.
2 أل عمران 130.
3 المؤتمر الثاني المنعقد في القاهرة عام 1965.
(1/237)
________________________________________
وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التجار والمصارف في الداخل, كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
4- الحسابات ذات الأجل, وفتح الاعتماد بفائدة، وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة, كلها من المعاملات الربوية, وهي محرمة.
5- أما المعاملات المصرفية المتعلقة بالكمبيالات الخارجية, فقد أجل النظر فيها إلى أن يتم بحثها.
6- ولما كان للنظام المصرفيّ أثر واضح في النشاط الاقتصادي المعاصر، ولما كان الإسلام حريصًا على الاحتفاظ بالنافع من كل مستحدث, مع اتقاء أوزاره وآثامه, فإن مجمع البحوث الإسلامية بصدد درس بديل إسلاميّ للنظام المصرفيّ الحالي, ويدعو علماء المسلمين, ورجال المال والاقتصاد, إلى أن يتقدموا بمقترحاتهم في هذا الصدد1.
وفي مؤتمر الفقه الإسلاميّ المنعقد بالرياض, ذي القعدة سنة 1396, 2 أصدر في صدد الفائدة ما يلي:
- العمل على إلغاء المعاملات الربوية, ومنها الفوائد المحددة؛ لأنها ربًا صريح, وهي ضارة بالنشاط الاقتصاديّ؛ حيث لا يتم التوازن الاقتصاديّ إلّا بإلغائها.
- التوسع في إنشاء مؤسسات مصرفية غير ربوية, ودعم القائم منها، والعمل على تشجيع بقية المؤسسات المصرفية العاملة في البلاد الإسلامية على تطوير نظمها بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
__________
1 ص 401، 402 من كتاب المؤتمر الثاني للبحوث الإسلامية.
2 أكتوبر 1976.
(1/238)
________________________________________
النظام السياسيّ الإسلاميّ:
لا ينتظرن أحد أن نقدم له منهجًا مفصلًا لنظام سياسيٍّ إسلاميٍّ, فذاك لا يمكن قبل أن تقوم دولة الإسلام، ولا ينتظرن أحد أن نقدم صورًا من التاريخ الإسلاميّ, فذاك موضع دراسة أخرى.
إنما نقدم -بمشيئة الله- تخطيطًا لنظام سياسيٍّ إسلاميٍّ, يحوى خطوطه الرئيسية التي لا يصح -إن تخلفت كلها أو بعضها- أن يقال عن نظامٍ ما, أنه نظام إسلاميٌّ.
ونحن في هذا -بإذن الله -نقدم شيئًا بدون دليل, وفي اعتقادنا, أنه يلزم لنظام سياسيٍّ إسلاميٍّ ثلاثة خطوط:
أولها: شرعية الإسلام تظله.
ثانيها: أمة تحمله.
ثالثها: سلطة تحميه.
ونتناول كلًّا بكلمة:
أولًا: الشرعية الإسلامية
قد يظن أن هذا اللفظ مستعار من أنظمة أجنبية, لكن المتأمل يجد أنه في الأصل لفظ إسلاميّ من ناحية اشتقاقه, ثم من ناحية دلالته؛ فنحن أسبق من غيرنا إلى الشرعية، وأرسخ قدمًا والحمد لله, فالشرعية اشتقاق من فعل شرع, وبين الشرعية والشريعة جناس كامل من ناحية اللفظ, وكذلك من ناحية المعنى.
ففي فقه الإسلام لا شرعية بغير شريعة {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 1, {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2.
وحتى تظل الشرعية الإسلامية نظامًا ما لابد من ثلاثة شروط:
أولها: أن يكون لله الشرع ابتداءً:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
__________
1 الجاثية 18.
2 الشورى 21.
(1/239)
________________________________________
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1.
وألّا يشاركه هذا السلطان أحدٌ من البشر, وإلّا كان الشرك والكفر {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2.
ورَدُّ الشرع إلى الله ابتداءً لا يعني الجمود عن الاجتهاد فيما سكت عنه الشرع رحمة بنا غير نسيان، أو فيما جاء ظنيّ الدلالة، وذاك أمر الله إلينا {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 3.
والاجتهاد, وإن لم يكن شرعًا ابتداءً, إلّا أنه شرع ابتناءً لا ابتداءً, أي: استمدادًا من شرع الله, واستنباطًا منه, ومن ثَمَّ, ففي ظل دائرة الاجتهاد نحن كذلك في ظلال الشرعية الإسلامية.
الشرط الثاني: أن تكون شريعة الله هي العليا
وشريعة الله لا تكون عليا إلّا حين لا تكون معها شريعة أخرى, ولا تكون فوقها شريعة أخرى, وليست الشريعة -كما أشرنا من قبل- قاصرةً على مجال الأحكام, وإنما تمتد إلى كل المجالات, وتشمل جميع الأنشطة.
ولقد حرص الكتاب على التنويه بجعل شريعة الله هي العليا في أكثر من موضع, فقوله تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} 4 تعني: أن تكون شريعة الله هي العليا؛ لأن لفظ "كلمة" اسم جامع لكلمات الله, وبكلماته نزلت شريعته.
وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا, فهو في سبيل الله" 5 تعني: نفس الشيء.
__________
1 الشورى 53.
2 الشورى 21.
3 النساء 83.
4 التوبة 40.
5 رواه الستة.
(1/240)
________________________________________
وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} 1.
الآية الأولى تعني: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله, أي: لا يمكن لكم رأي ولا شرع ولا نظام فوق شرع الله ورسوله, وهو ما عنيناه بأن تكون شريعة الله هي العليا.
أما الثانية: فهي تحرم رفع الصوت فوق صوت النبيّ, وليس من المعقول أن يحرم رفع الصوت ماديًّا فوق صوت النبيِّ, ويجوز رفعه معنويًّا بجعل شرع أو رأيٍ فوق شرع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم, بل يمكن أن نقول: إن صوت النبيِّ هو الشرع {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2.
ولقد يكون هذا الشرط غريبًا على من قبلوا تطبيق شريعة الله, لكن يبدو لازمًا بالنسبة لقومٍ نصوا في بعض دساتيرهم على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسيّ؛ فأجازوا بذلك أن تكون معها شرائع أخرى, أو آخرون جعلوا الشريعة الإسلامية مصدرًا ثالثًا بعد التشريع الوضعيّ والعرف, فجعلوا فوق شريعة الله شرائع أخرى, كذلك بالنسبة لمن يطبقون, فقد يجعلون مع شريعة الله شرائع أخرى في بعض المجالات التي يظنون أن الشريعة سكتت عنها, وفي الحقيقة أنها لم تسكت، مثل النظم المصرفية, وكثير من النظم الاقتصادية والاجتماعية, بل والسياسية!
من هنا كان لابد من التنويه بهذا الشرط لنقول: إنه إذا لم تكن شريعة الله هي العليا, لا شريعة معها, ولا شريعة فوقها, فإنه لا شرعية للنظام الذي يزعم لنفسه أنه إسلاميّ.
__________
1 الحجرات 1، 2.
2 النجم 3، 4.
(1/241)
________________________________________
الشرط الثالث- أن تطبق شريعة الله شاملةً غير مجزأة:
وشريعة الله شاملة العقيدة والأخلاق، وشاملة الشعائر والمعاملات, وهي بهذا الشمول لا تقبل التجزئة:
فطرة:
لأنها بناء متكامل يشد بعضه بعضًا، وبتر بعض الشريعة كهدم بعض البناء, إن لم يؤد إلى هدمه كله, فعلى الأقل يعجزه عن أداء وظيفته كاملة.
أو هي شفاء متكامل، وترك بعض الدواء بؤدي إلى عدم الشفاء, إن لم يؤد إلى تفاقم المرض.
وهي لا تقبل التجزئة شرعًا؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- جعل الإسلام هو هذه الشريعة المتكاملة, وبتر جزء, أو استبدال غيره به, لا نستطيع معه أن نقول إنه هو الإسلام الذي رضيه لنا الله!
فضلًا عن أن الله سبحانه حذَّرَنَا هذه الفتنة, فقال: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 1.
وعقَّب على هذه التجزئة بقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2.
فالذي يأخذ كل نظامه من عند غير الله؛ كالذي يأخذ بعض نظامه من عند غير الله, قد رضي حكم الجاهلية, وأعرض عن حكم الله.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من حالت شفاعته دون حَدٍّ من حدود الله, فقد ضاد الله في حكمه "3 فجعل تعطيل حَدِّ واحدٍ من حدود الله, مضادة لله في حكمه، ومحادة له في أمره, فكيف بمن عطل أكثر من حَدٍّ، ومنع أكثر من حكم؟
وهكذا كانت تجزئة شريعة الله فتنةً.
__________
1 المائدة 49.
2 المائدة 50.
(1/242)
________________________________________
وجاهلية, ومحادة لله ورسوله, ومن ثَمَّ كانت مرفوضة غير مقبولة.
وهكذا تكتمل للشريعة شروطها, إذا كان لله الشرع ابتداءً, إذا كانت شريعة الله هي العليا, إذا طبقت شاملة غير مجزأة.
قَدِمَ سليمان بن عبد الملك المدينة, فأرسل إلى أبي حازم, فكان مما قاله سليمان:
- يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟
- لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب..
- فقال: يا أبا حازم: كيف القدوم على الله؟
- قال يا أمير المؤمنين: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء، فكالآبق يقدم على مولاه.
- فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما لي عند الله؟
- قال أبو حازم: أعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .
- فقال سليمان: فأين رحمة الله؟
قال: قريب من المحسنين..
- ثم سأله بعد ذلك؟ ما تقول فيما لحن فيه؟
- قال أو تعفيني؟ ثم قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين, ولا رضًى منهم1.
__________
1 تفصيل ذلك في تفسير القرطبي.
(1/243)
________________________________________
وقيام الشرعية الإسلامية على هذاالنحو، أو تطبيق الشريعة الإسلامية بهذه الشروط, يستتبع ويستلزم للنظام الإسلاميّ أن توجد أمة تحمله, وأن توجد سلطة تحميه, ولهذا وتلك من السمات والشروط ما يحتاج لشيء من التفصيل.
ثانيًا- أمة تحمل الحق:
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 1.
وهذه الأمة التي جعل الله لها الخيرية على سائر الأمم, جعلها بحقها وشروطها, وهي إن قامت فيها هذه الشروط كتب الله لها الخلود, ولقد بقيت الأمة الإسلامية رغم المحن والأزمات، ورغم تقلبات الحكم والحاكم, بقيت -بحمد الله- حافظة لكتاب الله, محفوظة بعناية الله, حتى لقد صح ما قاله أحد الأئمة من أن العصمة في الإسلام للأمة لا للإمام، وصحَّ ما نقوله: من أن الأمة الإسلامية كانت بعد الكتاب العزيز من أكبر آيات الله العزيز الحميد.
فلو أن أمة أخرى تعرضت لما تعرضت له الأمة الإسلامية؛ من كيد وبطش وعسف, لما كان لها اليوم وجود.
وإن الأمة التي أخرجت أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وعمر بن عبد العزيز من الحكام، وأخرجت من العلماء العاملين: أبا حنيفة ومالكًا والشافعيَّ وأحمد بن حنبل, ومن بعدهم الذين {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 2.
وحج الرشيد عامًا فلقيه عبد الله العمريّ في الطواف, فقال: يا هارون, قال: لبيك يا عم، قال: كم ترى هنا من الخلق لا يحصيهم إلّا الله, قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت واحد تسأل عنهم كلهم, فانظر كيف تكون, فبكي هارون وجلس, فجعلوا يعطونه منديلًا للدموع, ثم قال له: إن الرجل ليسرع في مال نفسه فيستحق الحجر عليه, فكيف بمن أسرع في مال المسلمين3.
__________
1 الأعراف 181.
2 الأحزاب 22.
3 سراج الملوك, للعلامة أبي بكر محمد بن الوليد, طبعة سنة 1311, وهامش مقدمة ابن خلدون ص66.
(1/244)
________________________________________
والأمة الإسلامية, وإن كانت اليوم تبدو مفككة ضعيفة, فإنها تحمل عناصر الابتعاث, وهي في ابتعاثها لا تحتاج إلى وقت طويل! وقد أدرك ذلك بعض المستشرقون فقاله وحذر منه.
ونحن بحاجة في هذه العجالة, أن نشير إلى سمات هذه الأمة, وتكملها أخرى أشرنا إليها في مكان آخر.
فهي أولًا: آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر
ولا يمكن أن تأمر بمعروف ولا تأتيه، أو أن تنهى عن منكر وتأتيه، ففاقد الشيء لا يعطيه, فأمرها ونهيها يعني: أنها تقيم هذا المعروف, وتلفظ ذلك المنكر, وكل ما أمر به الله ورسوله معروف, بل هو أعرف المعروف, وكل ما نهى عنه الله ورسوله منكر, بل هوأنكر المنكر.
وهي ثانيًا: تؤمن بالله
وإيمانها بالله يعني: أنها تقوم على التوحيد, ولا تقارب بين توحيد وتثليث, ولا تقارب يبن توحيد وشرك, ولا تقارب بين توحيد وغيره من العقائد الفاسدة.
وهي ثالثًا: تقوم مع التوحيد على الوحدة
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 1.
وهذه الجنسيات، وهذه الحدود دخيلة عليها, ليست من أمر الله في شيء, والأمة الواحدة هي التي انتصرت من قبل, ولقد رفض الله -صلى الله عليه وسلم- عصبية الجاهلية, وقال: دعوها فإنها منتنة، ورفض المناداة بالعصبية بين الأنصار والمهاجرين.
__________
1 الأنبياء 92.
(1/245)
________________________________________
حين نادى أحدهم: يا للأنصار, ونادى آخر: يا للمهاجرين, فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا, وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟
ونزل الكتاب العزيز يؤكد قول الرسول الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} 1.
وهكذا كانت الفرقة والجنسيات والحدود جاهليةً أو كفرًا, وكانت الوحدة أخت الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} 2.
وامتدح الرباط الذي وحد الأمة في كتابه، فقال عن المهاجرين: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 3.
وقال عن الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 4.
وهكذا قامت دولة الإسلام الأولى, تضم كل من قال: لا إله إلّا الله, بغير تفرقة لوطن, أو جنس, وبغير اعتراف بحدودٍ أو جنسية؟
وهكذا ينبغي أن نقوم مرة أخرى!
ثالثًا- سلطة تحمي الحق:
قلنا: لابد من أمة تحمل الحق, والسلطة تحمي الحق, هذه السلطة لابد لها من أمرين تقوم بهما:
1- إقامتها شريعة الله:
وهذه أساس شرعيتها الأولى.
__________
1 آل عمران 100، 101.
2 آل عمران 102، 103.
3 الحشر 8.
4 الحشر 9.
(1/246)
________________________________________
وبغيره تغدو سلطة غير شرعية يجب جهادها, وإقامتها شريعة الله لابد أن يكون على النحو الذي أشرنا إليه.
2- قيامها على رضى المسلمين بها:
والأدلة على ذلك كثيرة, نذكر منها:
أ- أن الرضى أساس المعاملات في الإسلام {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 1. والإمامة أو الخلافة عقد بين الخليفة والرعية يلزم له الرضى.
ب- أن الرضى لازم لصحة الإمامة الصغرى: إمامة الصلاة, فوجب الرضى من باب أولى لصحة الإمامة الكبرى: إمامة المسلمين.
ج- لقول الله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 2 فدلت الآية في الطاعة على الشرط الأول, وهو إقامة شريعة الله، ودلت بلفظ "منكم" على الشرط الثاني: وهو الرضى, فإنهم لا يكونون منا بغير رضًا منا.
د- لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قد حرص على غرس هذا الأصل في المجال السياسيّ بما فعله ببيعة العقبة الأولى والثانية, مع أنه رسول الله, وما كان بحاجة إلى رضى الناس؛ لكنه حرص حين مهد لإقامة الدولة أن تكون إمامته ورئاسته لهذه الدولة برضى من المسلمين.
هـ- ثم ما فعله حين ترك تعيين خليفة من بعده؛ ليتم اختياره برضى المسلمين, الأمر الذي حرص عليه الخلفاء الراشدون من بعده على تفصيل ليس هنا محله.
و لقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: "فمن بايع رجلًا من غير مشورةٍ من المسلمين, فإنه لا بيعة له, ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلَا".
ز- وهذا ما طبقه عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما, حين ولي أمر المسلمين فقال: "أيها الناس, لقد ابتليت بهذا
__________
1 النساء 29.
2 النساء 59.
(1/247)
________________________________________
الأمر من غير رضًا مني, ولا مشورة من المسلمين, وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعةٍ, فاختاروا لأنفسكم".
فأعاد بذلك تصحيح الوضع إلى ما كان عليه في عهد الراشدين, فلذا قامت السلطة على شريعة الله, ثم على رضى المسلمين, فلا يهم الشكل بعد ذلك:
لا يهم أن نسميها خلافة, أو أن نسميها إمامة, أو نسميها إمارة, أو غير ذلك من الأسماء, ما دام قد توافر لها هذان الركنان الأساسيان, فإن انهار أحدهما انهارت الشرعية التي تستند إليها السلطة, وفي الأمر تفصيل ليس محله هذا المقام1.
__________
1 راجع في تفصيل ذلك نظرية الخروج, المشروعية الإسلامية العليا: للدكتور على جريشة.
(1/248)
________________________________________
وبعد:
* فتلك شريعة الله, البذرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها, وهي كما أشرنا في أكثر من موضع لا تقبل التجزئة.
* وواجب الدولة بالنسبة لكل جوانبها واجب مزدوج؛ فهو إيجابيّ من ناحية, يرعى ويصون ويوجه ويدافع بالكلمة، والصورة، والسيف!
وهو سلبيّ من ناحية أخرى, يمنع ويحول دون أن يخدش عقيدةً، أو خلقًا، أو شعائرَ, أو نسكًا, بالكلمة المنشورة أو المنظورة, وبالتربية في المدارس والبيوت وبالحدود، والقصاص، والتعزير!
وهو تعريف الخلافة، وتعريف كل حكم شرعيّ، أو يريد لنفسه الشرعية!
* ومن ثَمَّ:
فعلمانية القانون.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية التعليم.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية الإعلام.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية المجتمع.. بعلمانية تقاليده، وخلقه، وعاداته.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية الاقتصاد.. بقيامه على الربا, أو افتقاره لخصائصه الرئيسية.. عدوان كذلك على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية الحكم..بقيامه على غير الشرعية، أو على غير رضى الناس.. عدوان صارخ على الشرعية الإسلامية.
تمامًا.. كما لا يقبل من الفرد أن يصلي ويترك الزكاة.
(1/249)
________________________________________
وكما لا يقبل منه أن يصوم, ويقول الزور أو يعمل به.
وكما لا يقبل منه أن يحج, ويرفث أو يفسق.
وكما لا يقبل منه أن يفعل ذلك كله, ثم يترك الجهاد, ذروة سنام الإسلام, أو يجاهد, ثم يستبيح لنفسه ما نهى عنه الإسلام؛ من كذب، أو خلف، أو خديعة، أو خيانة, إنها لكبيرة ممن وضع نفسه هذا الموضع.
كذلك هي كبيرةٌ ممن رفعوا شعارات الإيمان أو الإسلام, ثم أعرضوا عن حكم الله في الاقتصاد, أو في السياسة, أو في الاجتماع, أو في العقيدة, أو في الأخلاق!
* ويبقى -كيف لنا- أن نعود إلى تحكيم الشريعة كلها, كما كانت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته, ومن تبعهم بإحسان؟
والرد..
رسول الله بدأ من القاعدة, لكنه لم يغفل القمة؛ فكان تركيزه على الضعفاء والمساكين، وكانت رسله وكتبه إلى الملوك, ونحن كثيرًا ما بدأنا من القاعدة, وركزنا عليها, وتركنا القمة ليستعملها غيرنا في حربنا, وقامت أمامنا الصعاب في القاعدة.
فنحن نبني, وغيرنا يهدم؛ إذاعةً، تليفزيون، سينما، صحافة، رأي عام, وحرب القمم لنا -حرب مجردة من المبادئ والقيم الإنسانية التي كان يعرفها العرب في جاهليتهم، والتي دفعتهم أن يفكوا الحصار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, والذين معه, بعد ما ظنوا فيه ثلاث سنين، ودفعت أمثال أبي سفيان أن يشهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمَّا سئل عنه, وأمثال عتبة أن يشهد للقرآن شهادة حق..
(1/250)
________________________________________
فهل لنا أن نصبر على القاعدة حتى تخلص لنا قاعدة صلبة الإيمان, قوية اليقين؟
وهل لنا أن نبحث عن قمة عاقلة, تسمح لنا بالبناء دون أن تهدم, ودون أن تحارب من يبني, ولها ألّا تنازع الملك والسلطة؟
إن قناعة عريضة مؤمنة, وقمة عاقلة متبصرة, هي أمل الإسلام القريب, والله المستعان..
(1/251)
________________________________________
المراجع:
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم, لشيخ الإسلام ابن تيمية.
القرب من محبة العرب, للحافظ العراقيّ.
الفكر الإسلاميّ المعاصر: دراسة وتقويم, لغازي التوبة.
الفكر الإسلاميّ الحديث, وصلته بالاستعمار الغربيّ, للدكتور محمد البهيّ.
تهافت الفكر الماديّ بين النظرية والتطبيق, للدكتور محمد البهيّ.
الإيمان والحق: شهادة وعقيدة وعبادة, للدكتور المستشار على محمد جريشة.
في الزنزانة, للدكتور المستشار على محمد جريشة.
عندما يحكم الطغاة, للدكتور المستشار على محمد جريشة.
الإسلام يتحدى, مدخل علمي للإيمان, لوحيد الدين خان.
حاضر العالم الإسلاميّ, تأليف: لوثروب ستودارد, وترجمة: نويهض, وتعليقات: شكيب أرسلان.
حضارة العرب, لغوستاف لوبون, ترجمة: عادل زعيتر.
الغارة على العالم الإسلاميّ, ترجمة: محب الدين الخطيب, ومساعد اليافي.
الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر, للدكتور محمد محمد حسين.
الإسلام والحضارة الغربية, للدكتور محمد محمد حسين.
حصوننا مهددة من داخلها, في أوكار الهدامين, للدكتور محمد محمد حسين.
الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية, لأبي الحسن الندوي.
الإسلام في وجه التغريب: مخططات الاستشراق والتبشير, للأستاذ أنور الجندي.
العالم الإسلامي: الاستعمار السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ, للأستاذ أنور الجندي.
بين الرابطة الإسلامية والفكرة القومية, لأبي الأعلى المودودي.
مستقبل الحضارة بين العلمانية والشيوعية والإسلام, ليوسف كمال محمد.
لم هذا الرعب كله من الإسلام, للأستاذ جودت سعيد.
التبشير والاستشراق: أحقاد وحملات, للمستشار محمد عزت إسماعيل الطهطاوي.
المستشرقون والمبشرون في العالم العربيّ والإسلاميّ, لإبراهيم خليل أحمد.
أفيون الشعوب, للعقاد.
(1/252)
________________________________________
حقيقة الشيوعية -سلسلة اخترنا لك- الشيوعية والإنسانية, لعباس محمود العقاد.
الإسلام والشيوعية, للدكتور عبد الحليم محمود.
الخطر اليهودي -بروتوكولات حكماء صهيون, ترجمة: محمد خليفة التونسي.
الصهيونية بين الدين والسياسة, لعبد السميع الهراوي.
العالم العربي اليوم, لموروبيرجر.
أحجار على رقعة الشطرنج, لوليم غاي كار, ترجمة: سعيد الجزائري.
لعبة الأمم, لمايلز كوبلاند, تعريب: مراد سرخيس.
وجهة الإسلام لهاملتون جب وآخرين.
تقرير لورد كرومر سنة 1906.
أعمدة الحكمة السبعة, للورنس.
مقومات الاقتصاد الإسلاميّ, للأستاذ عبد السميع المصري.
الإسلام في وجه الزحف الأحمر, لمحمد الغزالي.
ماركسية القرن العشرين, ترجمة لكتاب جارودي: "التحويل الكبير في الاشتراكية" لنزيه الحكيم.
الخطر الصهيوني على العالم الإسلاميّ, لماجد كيلاني.
تجربة عربيّ في الحزب الشيوعيّ, لقدري قلعجي.
حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون, لعبد الحليم الخفاجي.
مستقبل الحضارة بين العلمانية والشيوعية والإسلام, ليوسف كمال محمد.
نحن والشيوعية في الآونة الأخيرة, للدكتور سعدون حمادي.
مؤامرة اليهود على المسيحية, لإميل الغوري.
الكنز المرصود في قواعد التلمود, للدكتور روهلنج, ترجمة الدكتور: يوسف نصر الله.
خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية, لعبد الله التل.
اليهودية العالمية وحربها المستمرة على المسيحية, لإيليا أبو الروس.
الماسونية في العراء, للدكتور محمد علي الزعبي.
الجمعية الماسونية: حقائقها وخفاياها, للدكتور أحمد غلوش.
(1/253)
________________________________________
الفهرس:
صفحة
5 باب التمهيد
8 الباب الأول: الاتجاه الغربيّ
10 توطئة
15 الفصل الأول: مراحل الغزو الفكريّ
16 المبحث الأول: مرحلة ما قبل إسقاط الخلافة الإسلامية
16 أولًا: الحروب الصليبية
18 ثانيًا: الاستشراق
30 ثالثًا: التبشير
35 رابعًا: تقطيع أوصال دولة الخلافة
37 المبحث الثاني: مرحلة إسقاط الخلافة الإسلامية
37 أولًا: فصل الدين عن الدولة
39 ثانيًا: نشر القومية في مواجهة الخلافة الإسلامية
40 ثالثًا: إسقاط الخلافة الإسلامية
44 المبحث الثالث: مرحلة ما بعد إسقاط الخلافة الإسلامية
45 الفصل الثاني: التغيير السياسيّ والاجتماعيّ في المنطقة الإسلامية
45 المبحث الأول: التغيير السياسيّ
55 المبحث الثاني: التغيير الاجتماعيّ
58 المبحث الثالث: أساليب التغيير الاجتماعيّ أو التغريب
59 أولًا: العلمانية
62 العلمانية في التعليم
70 العلمانية في الإعلام
73 العلمانية في القانون
(1/254)
________________________________________
الصفحة الموضوع
75 ثانيًا: القومية
85 ثالثًا: تحرير المرأة
92 المبحث الرابع: ما يفعل بنا الصليبيون؟
93 1- في الفلبين
94 2- في أثيوبيا
94 3- في تايلاند
101 الباب الثاني: الاتجاه الماركسيّ
106 الفصل الأول: الوعاء
107 المبحث الأول: البيئة
110 المبحث الثاني: مؤسس الفكرة
113 الفصل الثاني: المبدأ
115 المبحث الأول: المبدأ في أساسه
115 أولًا: المادة
117 ثانيًا: الجدل
120 المبحث الثاني: الماركسية والدين
125 الفصل الثالث: ماذا فعلت الماركسية بالمسلمين؟
125 المبحث الأول: المسلمون في الاتحاد السوفيتي
131 المبحث الثاني: المسلمون في البلاد الماركسية الأخرى
131 أولًا: في الصين
132 ثانيًا: في يوغوسلافيا
133 ثالثًا: من بلغاريا
136 رابعًا: من ألبانيا
137 خامسًا: من الصومال
139 المبحث الثالث: كيف يعملون الآن في العالم الإسلاميّ؟
147 الباب الثالث: الصهيونية "اليهودية العالمية"
149 الفصل الأول: تعريف الصهيونية ومنشؤها
(1/255)
________________________________________
صفحة الموضوع
154 الفصل الثاني: مقومات الصهيونية
163 الفصل الثالث: مناهج الصهيونية ووسائل تنفيذها
177 الفصل الرابع: المنظمات الصهيونية
185 الباب الرابع: اتجاهات إسلامية
189 الفصل الأول: اتجاهات قاصرة
190 المبحث الثاني: الاقتصار على النسك
197 المبحث الثالث: مدارس العقل والعقلاء
201 الفصل الثاني: محاولة لخط إسلاميٍّ أصيل
206 المبحث الأول: ضلال وقصور
211 المبحث الثاني: أين الطريق؟
216 الفصل الثالث: جوانب شريعة الله
217 المبحث الأول: العقيدة والأخلاق والشعائر
223 المبحث الثاني: بقية الجوانب
224 النظام الاقتصاديّ الإسلاميّ
238 النظام السياسيّ الإسلاميّ
252 المراجع
254 الفهرس
(1/256)
________________________________________





http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59