الكاتب : محمد الفوز: الخبر
المجلة العربية
يشابه الخط العربي في جمالياته وأسراره الخيل ذلك الجامح بالدهشة والانفلات فلابد من صهوة لركوبهما، والانطلاق إلى عوالم منسابة في شساعة الأماني، فكلما توكأت على طاولة اللحظة كي ترى خطاطاً عربياً يهيم في زركشة الحروف والتباهي برقصة تانغو مع القصب، تكاد تخرج من الوعي وتترنم بحلم موسيقي يسبو مشاعرك، الخط هو حالة انعتاق لروح كاتبه واعتقال ناعم لمن يتأمل مخطوطة تحدو الأبجدية والحبر والزمن والموسيقى والرقصات في آن واحد، هو مشهد آسر، ويبدو أسطورياً عندما تنتهي اللوحة بمقاس كبير، وبخطوط متداخلة وكأن الأعين شاردة فيما وراء اللوحة، والتساؤل الجم هو: كيف يستلهم الخطاط شكل اللوحة وأبعادها؟!
رغم هذا كله إلا أن الخطوط الحديثة أو الرقمية استطاعت أن تبني جسراً حيوياً وهو تحايل جميل لتقريب من ليس لهم علاقة بالخط العربي إلى مضماره الشاسع، ومهما يكن من مناداة بعض الخطاطين إلى أن الخط الرقمي كان متعسفاً، وأبعد الناس عن أصالة الخط والتمتع بلذة الورق إلا أن التطور التكنولوجي لا ينتظر أحداً، وسلطة الزمن أقوى من سلطة الحضارات لذلك أن تتلاقى وجهات النظر بإيجابية أكثر أهمية من النوح والبكاء على الخط والتندر على ضياعه.
استطاع الخط العربي أن يواكب التقنية الحديثة وأن يكون نداً حميماً للفنون الرقمية الأخرى، مثل: الرسم الرقمي والتصوير الرقمي والخطوط الحديثة التي يتم تركيبها بواسطة الاستفادة من تشكيل الكلمات بحروف أجنبية وما إلى ذلك من مستجدات كبيرة في عالم البرامج التي أحدثت طفرة خيالية فيما يتعلق بالفن واستعادة مفاهيمه والتغيير في جدوى كلاسيكية الفنون كي تواكب التكنولوجيا وتستفيد من النظريات الحديثة بلا انغلاق وتشدد في استقبال ثورة الفن.
وبما أن الخط العربي يشكل علامة فارقة في روح الأصالة، فإنني أمام (التايبوغراف) أقف صامتاً كحالة الذهول التي تنتابني كلما شاهدت خطاطاً منزوياً وهارباً من ذاته للدخول في حالة سكر مع رائحة الحبر، والرقص-دون هوادة- مع فاتنة الورق -أعني (القصبة)- تلك المياسة والمهفهفة والماجنة، فمن يدرك لوعة العلاقة السرية بينها وبين البياض سيكون على مسافة حلم، وكأن ستارة المسرح تخبئ مشهداً متمايزاً لا يمكن التكهن به.
التايبوغراف هو فن تشكيل الحروف داخل النص، هكذا يعبر عنه في الساحة الإلكترونية، ولكن لا توجد مصادر جادة لنقفو أثر هذا الفن وظهوره وأبطاله أيضاً، والمتتبع لذاكرة الخط العربي يرى أن الخط التناظري هو بداية ونواة حقيقية لهذا الفن وما هو إلا استدعاء لصورة قديمة ومنجزة وبلورتها في شكل معاصر، وبأسلوب مختلف، ومهمة الآلة أو التقنية الحديثة أن تعكس البعد الجمالي الخفي للفنون الكلاسيكية، فلا يعني أن نقتل الرمز القديم أو نستبدله؛ فالرسم الثلاثي الأبعاد هو كشف لملامح أبعد مما نراه في لوحة زيتية مؤطرة، هكذا يبدو الفن المعاصر لافتاً ما يدور خلف الورق وهو احتشاد واصطفاف لعين ثالثة لم نبصر بها إلا في زمن التكنولوجيا.
ما هو التايبوغرافي؟
Type هو الحرف المطبعي، Graph أي التمثيل من خلال الرسم، وأما Typography فهو تمثيل الأشياء من خلال الأحرف، وبتعبير جرافيكي إنه فن التصميم وتشكيل الكائنات من خلال الأحرف بدلاً من الرسم بالفرش أو استعمال الصور حيث يمكن إضافة صورة صغيرة إلى جانب التصميم لإكماله، غير أن العنصر الرئيسي في هذا النوع من التصاميم هو الأحرف، وبذلك يرى البعض أن
التايبوغراف هو إخراج لوحة فنية بواسطة الأحرف ولذلك فإن الخطاطين الكلاسيكيين لا يعتبرونها لوحة خطية بمقدار ما هي لوحة جرافيكس، وأن الرسامين الرقميين يتناولون الأحرف بعيداً عن كونها رمزاً خطياً كما أنهم لا يراعون أصالة الأحرف ولا يلتزمون بقواعد الخط العربي القديم، كما أنهم بمعزل تام عن احترافية الخط، فالأحرف مجرد أداة للوصول إلى لعبة فنية وتشكيل لوني لا قواعد له سوى أنه إبداعي وتكوين شكلي لأحرف عربية يمكن مزاوجتها أيضاً بحروف أجنبية وهذا يلغي الاعتبار كون
التايبوغراف فناً خطياً، وهو قادم من الغرب الذين أتوا ببرامج التصاميم استنفدوا ذاكرتهم وحفزوا خيالاتهم الخصبة لابتكار تطبيقات وأفكار إبداعية تضيف للفن الرقمي جوانب متعددة من الدهشة والإبهار.
وسأضع شرحاً (منقولاً)، لطريقة عمل لوحة تايبوغرافية للتعرف على خصوصية هذا العمل قبل أن نسرد الكثير من مرئياتنا حوله واقترانه بباقي الفنون الرقمية التي لا تتعرى عن بعض حيث تعتمد اللوحة التايبوغرافية على ثلاث نقاط رئيسية (تطبيقية)؛ وهي:
أولاً: اختيار الخطوط
يعتمد في هذا الفن الخطوط ذات الحواف الناعمة، تلك التي تتميز بانحناء ثابث للقطاع الدائري أو القطاع شبه الدائري (بيضاوي، مفلطح) عند نقاط الانعطاف، مع امتدادات مستقيمة لباقي مساحة الحرف. أو تلك التي تتمتع بانعطافات حادة (أقل من 90) أو منفرجة (أكبر من 90) في الزوايا عند مناطق الانعطاف في النقطة، وأما لوحات النقاط شديدة التداخل (خطوط انحناء كامل المساحة المستقيمة للحرف) تظهر بشكل كبير، شرط انسيابية الانحناء ويرفض هذا الفن في الغالب الخطوط ذات النتوء الظاهرة للخارج بشكل كبير، والقطاعات ذات الانحناءات المتكررة .
ثانياً: حجم النقطة (الحرف)
هو مقدار ما يحتله الحرف الواحد المكون بتكراره للكلمة أو الجملة أو الشكل الفني من مساحة، ولا توجد ضوابط تحكم حجم النقطة إلا في بعض مخطوطات الخط العربي، ذلك أن النقاط متشابكة مع الإشارة إلى أن عشوائية حجم النقطة هو أحد مميزات هذا الفن.
ثالثاً: طول النقطة
وتظهر هذه الخاصية في مخطوطات الخط العربي فقـط، وتعتمد على نوع الخــط المستخدم ومقدار المساحة المراد تغطيتها، والحاجة إلى إظهار الناحية الجمالية للنقاط.
أمام ذلك كله حاول بعض المصممين العرب تمجيد الحرف العربي لإخراج لوحة رقمية خطية بالضرورة، وهو استدعاء لتجربة الخطاطين القدامى في لوحاتهم التناظرية، وهنالك تجارب كثيرة تجسر الهوة بين الأعمال الإبداعية القديمة والحديثة، وبالتالي يعيش المصمم أحلامه وأوجاعه وهواجسه، وكلما أوغل المبدع في الألم واستدعائه بكل ما يمتلك من رهافة وذوق سوف تخرج ملامح لوحته من ذاته، من أعماقه المكبوتة، من ذلك الحس الخفي الذي دوماً يعصف بالوجدان، ويقتلع كبرياء العزة لتنعكس على التجربة وتتماهى بامتياز لتأطير المعاناة ووضعها في قالب حي وملون وذو دلالات أكبر.
وتختلف جودة العمل التايبوغرافي باختلاف وعي المصمم، وأقول –المصمم- الذي لا ينطلق بالضرورة من موهبة خطية ولا يمكن أن نعتبره خطاطاً بالمعنى اليدوي فهو مجرد مصمم مهووس باحتراف الفرشاة والأدوات الفنية من خلال برامج التصميم بشكل عام، كما أن الحروف لا تدل على الرسمة، والرسمة لا ترمز إلى حرف معين، فهي عشوائية وغرضها المباشر هو إنجاز لوحة معبرة، سواءً كان الحرف المستخدم يعود إلى خط الثلث كخط قديم وأصيل أو مقترناً بخط حديث كخط زمرد مثلاً أو غيرها من الخطوط التي يقترحها مبتكر الخط إما باسمه الشخصي أو باسم مقترح، والأهم أن تتشكل لنا لوحة ذات دلالة مباشرة أو غير مباشرة بالحرف العربي أو بالأجنبي وأحاول أن أقترب من الحروف العربية لننظر جمالية الحرف بعيداً عن اتصاله في كلمة أو عبارة.
الموضوعات نجدها متباينة، وأهم تجربة في التايبوغرافي أنها منفصلة عن الأخرى، وبالتالي لدينا أفكار كثيرة، وثرية، مهما كانت دقة العمل وإتقانه إلا أننا في معترك الاختبار والتمرين الحثيث على الفكرة يجعلها أكثر رسوخاً، وأعمق روعة، وهو يشي بحالة التمرد والخروج عن المألوف والأيدولوجيات والفلسفات الفنية القديمة التي يتوارثها الفنانون، ففي عصر التقنية تلاشت العودة وهو ما يؤكد قولنا إن العقل هو المستقبل وأن المستقبل هو العقل الإلكتروني المحض الذي تدور في فلكه حقيقة التغيير والتكهن بالجديد يفيض من حشاشة الغد.
فأيهما أجمل.. أن نرى الحرف العربي متصلاً ومتناغماً في كلمة أو عبارة، أو نجده تائهاً وعشوائياً يتشكل عبر منظومة لا متناهية من الأحرف المكررة بغير هدى؟!!
التشكيل بالأحرف لم يكن عبر الكلمات، بل الرموز الحاسوبية قد استخدمت من قبل في تكوينات نقطية أو شكلانية أو حروفية وبما أننا نتكلم عن الخط ومكانته اللامعتبرة لدى المصممين، وأزعم أن مكانة الحرف العربي تحديداً غائبة لدى المصمم الجرافيكي لأن ثقافة الحرف ميتة، وهنا يكمن اللعب بالأحرف حتى يغدو الحرف مجرد خطوط عادية ولا قيمة لها، ومسوغ ذلك أنهم لا يكترثون بمعنى الحرف ولا ماهيته ولا للمعنى بل المراد النهائي لديهم هو اللوحة أو الشكل الخارجي الذي يتم تجريده من الأحرف، وهذا يحيلنا إلى ما يسمى Oat lain أو الخط الخارجي لدى الرسامين، فعندما نضع الخط الخارجي ونفرغ أي لوحة من ملامحها الداخلية سيكون لدينا إطار ودلالته رمزية بالتالي، ومهما أنتجنا مفهوماً فنياً جديداً أشك في أننا نهدم مفاهيم أصيلة وقديمة وهنا خطورة ما تجترحه التقنية بحيث أنها لا تلتفت إلى أصالة القيم الفنية الأولى بل تتعداها وتزيلها من أجل قيم حديثة ومعاصرة تتناسب مع جيل اللحظة.
هنالك من يعتبر التايبوغرافي والتكست آرت **** art فناً واحداً، ولكن ثمة اختلاف بينهما وإن كانت الصبغة الشكلانية تتقارب إلا أن التكست آرت معني باستخدام الرموز والنقط في تكوين لوحة جسمانية وشكلانية بينما التايبوغرافي يستخدم الأحرف المتناثرة ويصوغ منها عملاً إبداعياً سواءً دلالته رمزية أو افتراضية أو خيالية أو واقعية.
إضافة إلى أن الفنان العربي لا يكترث بدلالة الأحرف مقارنة بالصورة بعكس الفنان الأجنبي الذي يكرر الجملة أو الكلمة أو العبارة لتدلل على شكلانية الصورة التي يريد إنجازها كي تكون ملائمة وتعد إضافة معرفية للعمل بين اللوحة ودلالة الحروف.
في المقابل لا أنكر أن هنالك محاولات جادة على مستوى عربي، ولكن احترافية التصميم الجرافيكي لدى الغربيين لا يمكن إنكاره أيضاً على اعتبار أنهم أصحاب تكنولوجيا ولديهم معاهد متخصصة في ذلك، ومشكلتنا في الوطن العربي هي أن المواهب والاعتناء بها يتصل بالفرد ذاته إما أن يطورها ويعززها بالمثابرة في التجربة والبحث عن منافذ للتنفيس عن موهبته أو يحوم حول نفسه أو تتهاوى شيئاً فشيئاً هذه الموهبة أياً كان مستواها، فالبداية صعبة والاستمرار أصعب ما لم يكن الطريق سالكاً ورحباً.
وللتعبير بسهولة من خلال فن
التايبوغراف هنالك مسافة أقرب لمحاكاة هذا الأسلوب الجديد وهو أن تضع صورة أمامك، وبالتالي أن تنقطها أو تشكلها ووضع الحروف على أطرافها بشكل احترافي كي تتضح معالم الصورة المراد اقتفاء أثرها، والمتتبع لهذا الفن يجد أن البورتريه النقطي أو الرقمي أو الحرفي أياً كانت تسميته هو أبرز سمة للتجريب، فكل من يخوض هذه التجربة يلجأ إلى صورة ما سواءً كانت شخصية أو حتى صورة لكائن ما أو صورة لجماد أو أي شيء آخر لمحاكاتها وسبر عوالمها بالتشكيل الحروفي وتمرير الحروف بأحجام مختلفة على الشكل المراد حتى تتضح تلك المعالم، وقد تبدو ملامح الفنانة الهندية الشهيرة ايشواريا راي مثالاً واضحاً لما أريده.
ويمكن الاستشهاد ببعض التجارب العربية في الخط القديم فيما يتعلق بتجذير هذا الفن حتى لو كان على سبيل المقاربة مع العلم أن
التايبوغراف هو فن رقمي بامتياز ولكن من يمتلك ملاحظة وذاكرة معرفية لابد أن يعود أدراجه كي تكون معرفته الحديثة ذات مرجعيات موازية للفن المعاصر، وقد وجدت في لوحات الخط التناظري والخط الشكلي أو الشكلاني ما يعزز هذا المفهوم، ولست بائساً كي أحيل المتلقي إلى ضرورة الماضي وما هو نكوص مني بل هي زيادة الإلمام بالموضوع وتضمينه بعداً ثقافياً وفكرياً وحضارياً.
يذكرني فن
التايبوغراف برسم شجرة العائلة فهو بمقدار التعقيد إلا أنه ممتع ويعكس رغبة ملحة وكامنة في إنتاج صورة معبرة ودالة على شيء محدد مع المفارقة في التشبيه ولكن المكابدة والصبر على لوحة كهذه هو مغامرة مجنونة حيث يموت الزمن بين يدي الفنان وتتلاشى قيمة الوقت، حيث تكمن قيمته فيما بعد إنجاز العمل والتباهي بدقته ومستوى إبداعه، ولكن بعد كل هذه الإشارات والأمثلة أعتقد أن الفن الرقمي قادر على احتواء الزمن واستدراك الوقت الضائع بين يدي الفنان وذلك بعمل برنامج متخصص لإنجاز لوحة تايبوغرافية لاسيما وأن التايبوغراف لا يعتمد على نظام محدد ولا قواعد فنية بل هو بعثرة شكلانية ورص للأحرف بطريقة فنية، بمعنى آخر يمكن الاشتغال على برنامج خاص لأداء هذه المهمة التقنية ذات الطابع الفني أو عمل فلتر خاص لبرنامج الفوتوشوب أو غيره من البرامج الفكتورية التي تدعم هذه التقنية وبما أن هذا الفن رقمي فالبرنامج الرقمي أولى بإنجازه وبالتالي نبتعد قليلاً عن لغط الخطاطين وعشوائية الرقميين والانتقال بهذا الفن إلى مرحلة جديدة ومزدهرة بالأفكار التقنية البحتة، وليس أبرز من عشوائية هذا الفن ولا أعني العشوائية كمنظر قبيح بل بالعكس هذه عشوائية الجمال وربما يسميها آخرون تلقائية أو عفوية أو إلهاماً، ولكن النتيجة واحدة حيث تعبر الصورة أكثر من الكلمات وهذه الأحرف المكتنزة دليل على أن الفن غير مألوف دائماً وأن المبدع الحقيقي هو الذي يكسر من حدة النظرية ويلوي عنق اللحظة المتخيلة لتغدو واقعاً ملموساً وليس محض افتراضية مهملة.
لقد استفاد الفنان الغربي أو المصمم أياً كان لقبه أو صفته من التقنيات الحديثة وتراكم الخبرات والمشاهد البصرية المفتعلة بالكاميرا أدت إلى تغير واضح في سياق التفكير ومآل هذه المتغيرات وصدمة الغرابة هو أن يستحث عقله بجنون مبرر، وأن يستبق الزمن وأن يأتي بالجديد، كما أننا كعرب لابد أن نسهم في تطويع التقنية الحديثة لخدمة الخط العربي وإنجاز لوحات أقل تكلفة وبإمكانية متناولة وعلينا أن ننظر للقيمة الحضارية والمعنوية للخط وليس مجرد لوحة أو رائحة حبر نسكبها على صدر الورق لحظة الكتابة، أن نتجاوز ذلك كله إلى أن الخط العربي هو حالة فريدة من التعقيد والجمال في نفس الوقت ولذا يجب أن نهزم التعقيد وننتصر للجمال بوسائط تقنية لا تقلل من شفافية الروح لدى الخطاط الكلاسيكي بل تدعمها والتجربة خير برهان، ومن إفرازات الخط العربي لا ننسى الخطاط جلال أمين صالح في لوحاته التي اشتهر بها عندما رسم بعض الملوك والشخصيات العربية البارزة بتكراره لاسم الشخص منذ عام 1984م حيث سجلته وزارة الثقافة السعودية كأول من يرسم الصور بالكلمات في العالم، كما في صور بعض ملوك المملكة العربية السعودية بدءاً بالمؤسس الملك عبدالعزيز وباقي أبنائه من الملوك والأمراء.
كما أن استخدام شركات الدعاية والإعلان فن
التايبوغراف أدى إلى تطويره وتطويعه حتى وصل إلى قمة الاحترافية كي يؤدي الغرض الإعلاني والرفاهية في مفهوم الصورة والتميز بدرجة أساسية، حتى أنه بات جزءاً من الهوية وأن اللوحة التايبوغرافية لم تعد كتلة في فراغ النص ولا مجرد حروف عشوائية بل هنالك معنى وحكاية إعلانية تجاوزت الفن الجرافيكي إلى اللعبة الإعلانية وقد أبدع المصممون مجموعة من الإعلانات التي تعد علامة فارقة فيما يتعلق بدمج الحروف النصية مع صورة من أجل حكاية مقترحة كما سنلاحظ في إعلان شركة BMW، وليس عبثاً أن تستخدم شركة عالمية كهذه فن
التايبوغراف إلا عندما وجدت حداثة المفهوم وغرابته وفائدته للصورة الإعلانية الجديدة التي تبتعد عن النمطية والكلاسيكية في المفهوم.
بما أننا لا نمتلك مرجعيات حول هذا الفن ألا يمكن أن يكون (الوشم) بغض النظر عن طقوسه وروحانيته أو شيطانيته إلا أنه كنحت للجسد يلهمنا نحت الحروف في شكل وقالب له تعبيره الخاص وسمته البصرية التي تتمايز عن الأشكال المألوفة ولاسيما أن
التايبوغراف يخلو من امتلاء الكتل وبالتالي هذا الفراغ والأحرف المتباعدة والمتقاربة هي على سبيل الكي والتلاحم يكمن في المشاهدة؟!!
هي مجرد إحالة وتشبيه وليس تشابهاً أو اعتقاداً ضمنياً بأن
التايبوغراف هو وشم رقمي ولكن تمرين الفكر على تقويض المفاهيم السابقة واستدعائها لا يعني التقريب ولكن يعني التقارب، فيما أنطلق برؤاي التي سرعان ما تتبخر أمام هول الغرابة وكثافة الصور التي تدخلني في معترك المرجعية ومحاولة الاشتباه فيما لا يكون أن يكون.
بإمكانك أن ترسم قصة أو تتخيل قصة أو تكون قصة من جمل وتعبر عنها بأشكال عبر الحروف، وهنا تأتي صعوبة أخرى، فأن تتخيل أسهل من أن ترسم، وأن ترسم أسهل من أن تكون عبارات وأشكالاً دالة على حكاية واضحة وذات أهداف محددة، ولكن دعونا نبتكر حكاية من هذا التصميم.. لنجرب حكاية أو نصاً أو أي عبارة إزاء هذا التصميم المشبوه بين الجرافيكي والتايبوغرافي وإن كنت أرى أن التصميم الرقمي متداخلاً في مفاهيمه كالكتابة التي لا تقبل التجنيس في بعض الأحيان، لنجرب:
«تؤلمنا حرارة الزمن
فنتأوه..
كلما خلعنا ثياب المشيئة
في مصائر الوجع
نرتعش أكثر
ونبلل أطراف المنايا بالعدم
حتى نقتل الدروب البعيدة بموال السأم»
هذه محاولة للتعبير عن الصورة، فالحروف عاجزة على التشكل، إنها تبحث عن معنى، وتتسامر فيما بينها للخروج من مغبة الألم، حتى تتبرأ من الاحتمالات، وتترك للعين أن تدلل على ما تريد بلا إحالة مفرطة أو كلام يشوبه الصمت المدقع كما في الصورة/القصة التي تختزل معاني كثيرة:
أمام هذه الغرابة والحيل الإبداعية نتجاوز حتى أنفسنا كي نعبر بما نتصوره أو ندعيه، فحسب الصورة والحروف الكامنة أو الطائشة أن تنقلنا من لحظة ساكنة إلى لحظة متحولة بل تحيطنا بموقف مفترض، وحالة لا يمكن الفرار منها إلا عندما نقوم باختطافها والمثول بنقد أو تصريح أو شتيمة وهذه الحالات المرتبكة ذات اعتلال سببه المغامرة والانكسار كذلك. فلا يوجد مفكر أو نظرية تمنح الآخرين وشاية لنقدها أو تقويضها أو العبور –بسلام- بعد اجتراح مكانتها ومفرداتها ولنقل قدسيتها أيضاً، إلا أن ميزان الخط العربي يتيح للخطاط أولاً و للمتلقي ثانياً أن يرى أبعاداً وجماليات كثيرة في النقط والأحرف المتباينة لحظة التدريب، وبما أننا نرى جماليات كثيرة قد تنشأ من تجريبنا للخط والتدرب على طرق معينة ينبغي لنا اكتشاف الضوء العابر بين أصابعنا لا أن نتوكل على طريقة معينة ونخشى الميل وندرس بصرامة تامة كل قوانين الخط، أي نعم على المتدرب أن يتقن الأساسيات ولكن لمن يمتلك موهبة فذة ومتمردة أن يخرج قليلاً.. بل يخرج كثيراً على أنماطه وكلاسيكيته، ويتحلى بالصبر على التمرد بدلاً من الصبر على إتقان الحرف الأصيل، وهذه مجرد نزعة تحريضية المراد منها تحقيق ريادة لافتة في الخطوط المعاصرة حتى لو عارضني الكثيرون فلا بأس أن نتجادل ونختلف. ألا يمثل (ميزان الخط العربي) خطوة جادة لانقلاب المفهوم السائد؟!!
لقد اكتسب الخط العربي صفات قدسية لاقتران كثير من مخطوطاته بآيات القرآن الكريم، وهذه صبغة الفن الأولى عندما يحاول اكتساب شرعية والتلبس بمهابة حالمة نجده يتشبث بالديانات، والنقوش السومرية والبابلية كانت تمثيلاً وتجسيداً للطقوس الدينية آنذاك، ولو عدنا –قليلاً- إلى أصل الكتابة وأصل الرسم والتدوين لوجدنا أن (النقطة) هي الأثر الخالد والأول والمتفرد للأشياء، وهذه النقطة باعتبارها بداية كونية ألهمتنا كل المخطوطات والمعارف والتداعيات حيث لا قيمة للنقطة سوى تحديد الموقع في بدهيات إقليدس تصبح كل الأهمية هاهنا، وبالعودة مرة أخرى إلى أدبيات الخط العربي نجد ضرورة امتلاء الفراغات في الجلي الديواني وخط الطغراء إلى حد ما.
أيضاً حاول الخطاط العربي أن يصنع من الكلمات رسوماً، وأن يختلق فضاءات كونية عبر الفواصل وتحلية الكتابة ببعض الرموز التي تتناسب مع بعض الخطوط كالثلث والديواني والطغراء، بينما لا تنفع مع خطوط أخرى كالنسخ أو الرقعة بشكل خاص، وكما يقال دوماً إن «الفنان الإسلامي عدو الفراغ». هنالك لوحات تغطي مساحات كبيرة من اللوحة، حيث أن الكلمات تتحول إلى كتلة واحدة وذات سبك عال لمحاصرة الفراغ واستلاب البياض من الورقة إلى حد العتمة أحياناً، ولذلك نجح الفنان العربي في العصور الأولى سواء عبر الهندسة المعمارية الإسلامية أو عبر المخطوطات أو النقوش على اعتبار أن الخط هو جزء من المفهوم الفني آنذاك كما أنه يشكل ملمحاً بارزاً لدارسي العمارة والتاريخ الإسلامي، والجدير بذكره أن المفهوم ذاته انتقل إلى الخطاطين المعاصرين حتى بات مفهوم الكتلة اللونية وشغل فراغات اللوحة عابراً ونافذاً في جميع اللوحات كما أنه اقتحم مجالات التصميم الرقمي والخطوط الرقمية وبما أن الذاكرة لا تتجزأ فإنني أجد التشكلات الحروفية في لوحات الخط العربي ذات صدى تايبوغرافي، وأنها سبقت كل التجارب الأجنبية على اختلافها ولا يعني التقليل من شأنها، لكن الاعتراف بأسبقية الفنون العربية في مجالات محددة ينبغي أن يشار له.
سنلاحظ أن الخط العربي يصبح غير مقروء وغامضاً جداً عندما يتشابك بينما وضوح الخط الإنجليزي عادي ولا بأس بدرجة وضوحه؛ ما السر؟!!
لا غرو أن هنالك سهولة في التعامل مع الحرف اللاتيني أكثر من الحرف العربي، وذلك أن الحرف اللاتيني يعتمد الشكل الهندسي والزوايا الحادة والحواف المصقولة التي تخفف من تعقيده وتسهل عملية تركيبه على أي شكل وبالتالي تمرير الرؤية الفنية بدقة وانسيابية عالية فلنقارن صعوبة الصورة التي تم استخدامها في تكوينات خطية بالحرف اللاتيني إزاء لوحة خطية عربية أقل تعقيداً في الصورة ولكنها عويصة ومستحيلة الفهم.
البعض يرى أن الفن مضيعة للوقت، فما بال من لا يؤمن بحساسية الفن، وأنه علاج روحي وانعكاس معرفي وحضاري ووجودي أيضاً. وماذا سيقول عن التايبوغرافي؟!!
الفن هندسة روحية ومكنون ضخم في الذات ولا يجب أن نطلق عليه سهام اللعنة مادمنا لا نعي فلسفة الفن إجمالاً، فالذي يرى أن الفن عبث ببساطة متناهية عليه أن يرى هندسة الشوارع وبناء البيوت ومعمار الفضاء وانسيابية السيارة وأناقة اللباس كلها تأتي من مخيلة الفنان، ومن عبثه ومن جنونه، ومن الصبر الذي يكتم أنفاسه حتى ينتج للبشرية قيماً جديدة وأفكاراً لا تضاهى، فالخيال أشد وطأة من المستحيلات الثلاثة، لكنه يصبح عادياً وتافهاً ربما عندما ينزل من عليائه إلى الواقع، فهل نكون معلقين بين الحالتين أو نتجرد من حيل الفكرة، ونصمت حتى تتبدد رغبتنا في احتواء الأسرار الغامضة؟!