عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11-11-2012, 02:01 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي

و مع وضوح و معقولية ما قلناه ، فإن أرسطو يُغالط و يُسفسط عندما أصر على وجود نسبي ثالث للهيولى بين الوجود و العدم ، فلا هو موجود ،و لا هو معدوم ، فهو في منزلة بين المنزلتين حسب زعمه . و هذا زعم باطل مردود عليه ، لأنه لا يُوجد –عقلا و لا علما- شيء لا هو موجود و لا هو معدوم ،و لا يُوجد شيء بين الوجود و العدم ، فهو إما موجود و إن اختلفت طبيعته ، و إما غير موجود . و كلام أرسطو لا يقوله عاقل صادق يعي ما يقول ،و إنما يقوله مُتعصب ، أو جاهل . و نحن لا نترك بدائه العقول و حقائق الواقع ،و نتبع أرسطو في هذه الأوهام و الأباطيل من جهة ،و لا نعتذر له في هذه التُرهات و السفسطات من جهة أخرى . فالرجل لا للمنطق اتبع ،و لا للواقع المُشاهد احتكم !! .

و عليه فإنه لا يصح زعم أرسطو بأننا مُضطرون بأن نقول بالوجود النسبي للهيولى بين الوجود و العدم . لأنه بينا أنه لا توجد أية ضرورة تدفعنا إلى الاعتقاد بذلك من جهة ،و القول بها باطل عقلا و واقعا من جهة أخرى . و قوله بأننا نُدرك تلك الهيولى كما (( نُدرك الخط بغير صورة ، لأنه تارة يكون في صورة ، و طورا في أخرى )) ، هو مثال ضده ، و لا يصلح مثالا على زعمه . لأن الخط له صورة و حجم و مادة ، و إذا تغيّر الخط تتغير بعض أوصافه أو كلها ،و هذا ليس نفيا للوجود، و لا هو وجود بين موجود و معدوم ،و إنما هو اختلاف تنوع و تعدد للموجود . كما أن الرجل نسي أو تناسى أنه لا يصح تمثيل الهيولى المزعومة بالخط ، لأن الهيولى لا وجود حقيقي لها، و ليست مرئية لأنها بين الموجود و المعدوم حسب زعم أرسطو ، لكن الخط شيء موجود ، له صفات محسوسة ، لا هو معدوم ،و لا شبه معدوم . و لو كانت الهيولى مثله لكانت موجودة ،و ليست في منزلة بين الوجود و العدم ،و بما أنها ليست مثله ، فلا يصح ضربه مثالا للاستدلال على وجودها، و هي غير موجودة !! .

و بذلك يتضح أن الرجل قال بوجود تلك الهيولى المزعومة ، ليس لأنها موجودة حقيقة ،و إنما قال بوجودها لأنها ضرورية لنسقه الفكري الزائف الذي بناه على القول بأزلية الكون : وجودا ،و حركة . و هذا تبرير مرفوض ، من جهة ،و قد سبق أن بينا بطلان زعمه بأزلية الكون ،و قوله بهذه الهيولى الخُرافية من جهة أخرى .

و خامسا إنه كما بينا- بالمناقشة العقلية- بطلان قول أرسطو بتلك الهيولى المزعومة ، فهو باطل أيضا شرعا و علما . فأما شرعا فإن الله تعالى قد نصّ صراحة على أنه خلق العالم من مادة واحدة ، لها وجود موضوعي حقيقي ، كقوله سبحانه و تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ))- سورة الأنبياء : 30 - ، و ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ))-سورة فصلت : 11 -.

و أما علماً فإن العلم الحديث قال بأن الكون تكوّن من مادة واحدة بناءً على نظرية الانفجار العظيم، و هي-أي المادة- على تنوّعها فإنها تتكون من أصغر جزء معروف هو الذرة ، لها وجود حقيقي بذاتيتها و صفاتها و آثارها، و هذا أمر ثابت معروف ، من حقائق العلم الحديث لا يحتاج إلى توثيق [1].

و سادسا إن تقسيم أرسطو للموجود إلى قسمين: موجود بالفعل ،و موجود بالقوة ، هو تقسيم غير علمي و لا يصح ،و ليس تقسيما حقيقيا . و توضيحه هو أن الصحيح أن الموجود هو وجود واحد ،و هو الوجود- الموجود- بالفعل ،و أما الوجود-الموجود- بالقوة ، فهو وجود مزعوم لا حقيقة له في الواقع كموجود موضوعي ، و إنما هو عدم- معدوم- ،و العدم ليس له وجود يُمثله كموجود حقيقي في الواقع، و إنما يُمثله العدم بأنه معدوم .
و لتوضيح ذلك نضرب المثال الآتي: إذا قلنا : هذا الولد الصغير طفل بالفعل، و رجل بالقوة –بالإمكان- . معنى ذلك أن هذا الطفل له وجود حقيقي كطفل ، لكن ليس له وجود حقيقي كرجل ، و إنما له استعداد ليكون رجلا في المستقبل إن طال عمره . فهذا الاستعداد ليكون رجلا هو جزء من طفولة الطفل ،و ليس جزءا من مرحلة رجولته ، لأنه ما يزال لم يصل إلى مرحلة الرجولة . فالموجود بالفعل هو مرحلة الطفولة و من خصائصها الاستعداد ليكون الطفل رجلا إن عاش . لكن لا يصح وصف مرحلة الرجولة بأنها وجود بالقوة ، لأن هذا الولد ما يزال طفلا، و لم يبلغ مرحلة الرجولة التي لا وجود لها في الحقيقة ، و الاستعداد الذي في الطفل-ليكون رجلا- ليس هو الرجولة ،و إنما هو من خصائص الطفولة. فالقول بأن الرجولة وجود بالقوة ، هو قول فيه تحريف و تغليط و سفسطة ،و يتنافى مع ما يتطلبه الأسلوب العلمي في الدقة و الوضوح في التعبير .

و أما قوله بأن الإقرار بوجود طور ثالث للمادة بين الوجود و العدم ، هو أمر ضروري
و إلا يستحيل تفسير ظاهرة التغير و الصيرورة في الطبيعة . و هذا الطور هو طور القوة-الإمكان- ،و بدونه لا يُوجد فرق بين الممكن و الممتنع ،و لكان ذلك التغير أو الحدوث بطريقة الطفرة ، و هذا أمر يُكذبه الواقع[2] . فالأمر ليس كما قال أرسطو و دافع عنه ، و لا يستلزم ما نبّه إليه ؛ لأنه سبق أن بينا –في مثال الطفل- أن الوجود واحد فقط ، هو الوجود بالفعل ،و استعداده ليكون طفلا ليس وجودا بين الوجود و العدم ، و إنما هو وجود واحد تابع لوجوده الحقيقي كطفل ،و ليس وجودا مُستقلا عنه .

و بذلك يتضح أن التغير و صيرورته في الطبيعة هو تغير في إطار ثابت من جهة ، و تغير قائم على استعدادات الكائن من جهة أخرى . و هذه العملية مُستمرة و فاعلة في الطبيعة من دون افتراض ما توهمه و افترضه أرسطو من وجود ثالث بين الموجود و المعدوم ، لأنه غير موجود في الحقيقة ،و لا يصح القول به . و عليه فإن الموجود المُتغيّر يأخذ ذاتيته و خصائصه من طبيعته و حسب تحوّله من طور إلى آخر ،و في كل الحالات عندنا وجود و عدم ،و لا يُوجد وجود ثالث بينهما،و لا يصح توهمه و افتراضه . و قولنا هذا لا يُلغ الفرق بين الممكن و الممتنع ، لأن الممكن هو جزء من الموجود بالفعل الذي له استعداد على التغيّر ، و ليس مُستقلا عنه ،و لا جزءا من العدم ،و لا له وجود ثالث بينهما . و هذا يعني أن الفرق يبقى قائما بين الممكن و الممتنع ،و أن التغير سيستمر في الطبيعة سواء كان بطيئا ، أو سريعا ، أو فُجائيا .

و أخيرا- سابعا- إن قوله بأن الصورة أسبق من المادة ، فإن كان يقصد بذلك الصورة كوجود حقيقي مادي في الواقع ، فإنه لا مادة بلا صورة ،و لا صورة بلا مادة . و المادة قبل تحوّلها إلى هيئة أخرى ، فهي تحمل صورة مُسبقاً ، و لا يمكن أن توجد بلا صورة . و الصورة مهما تغيرت فهي لا توجد بلا مادة .

و أما إذا كان يقصد بالصورة كوجود صوري في الذهن ، كالنجار الذي له صورة في ذهنه و يعمل على تجسيدها بالخشب في صورة مادية ، فإن الحقيقة هي أن مادة الخشب لها صورة مُسبقة تمثل حالتها الخشبية الأولى . و الصورة الذهنية التي يحملها النجار ليُجسدها في الواقع هي أسبق ذهنيا لا واقعيا ، فهي ليست صورة حقيقية في الواقع ، و إنما صورة ذهنية فقط . فهي ليست ذات وجود حقيقي مادي في الواقع ، و عليه لا يصح القول أنها أسبق من المادة ، لأن كلامنا يتعلق بها و هي في الأعيان لا في الأذهان . و مع ذلك توجد حالات كثيرة تكون فيها الصورة المادية أسبق من الصورة الذهنية ، و ذلك عندما يأخذ الإنسان صورا من الطبيعة فيُجردها ذهنيا ، ثم يعمل على رسمها أو تقليدها .

و إنهاءً لما ذكرناه يتبين أن أرسطو أخطأ في معظم ما قاله عن العناصر الخمسة المكونة للعالم ،و ما يتصل بها من حالات أخرى . و اتضح أيضا أنه تكلم في أمور لم يكن في مقدوره رؤيتها ،و لا يُمكنه التأكد من صحتها بوسائل أخرى ؛ و مع ذلك تكلم فيها بأسلوب الجزم و الإثبات . و هذا فعل مرفوض شرعا و عقلا و علما ، و هو انحراف منهجي كبير عن منهج الاستدلال القويم ، و البحث العلمي الصحيح . و هذا يعني أن الرجل لم يكن حريصا على التثبت ، و التدقيق ، و التمحيص عندما خاض في موضوع العناصر الخمسة و ما يتصل بها ،و إنما كان مهملا لذلك ، متأثرا بخلفياته الذاتية و المذهبية.

و تبين أيضا أن أرسطو كان ذاتيا إلى درجة كبيرة من جهة ،و مهملا لجانب كبير من أساسيات البحث العلمي الصحيح من جهة أخرى . فعندما أراد أن يجعل العالم العلوي أزليا إلهيا ، زعم أنه يتكون من عنصر واحد بسيط لا يتغير ،و لا يفسد ، و لا يفنى ،و لا ضد له ،و أن الآلهة هي التي تُحركه حتى جعل عددها يُساوي عدد الأفلاك[3] !! . قال كل ذلك- و غيره- بلا دليل صحيح من العقل و لا من العلم ، و خاض فيه بظنونه و تأويلاته ،و اجتهاداته و رغباته .

و كما أنه أقام فكره على التناقض في موقفه من الإله و قوله بأزلية الكون ، فإنه هنا وقع أيضا في التناقض و بنى عليه موقفه من الهيولى . من ذلك أنه زعم أن الهيولى لا هي موجودة ،و لا هي معدومة !! . و أنها موجودة و ليست مفارقة للمادة ، لكنها- مع ذلك- لا ماهية و لا موضوع لها ، و لا كمية ،و لا كيفية ،و لا صورة لها ... !! .

قول أرسطو بألوهية العقول و الأجرام السماوية:
كان أرسطو يعتقد بتعدد الآلهة و يُسميها عقولا ، و يزعم أن عالم ما فوق فلك القمر-الأجرام السماوية- كلها ذات طبيعة إلهية . و تفصيل ذلك هو أنه قال بوجود عقول في العالم العلوي، و هي جواهر و محركات ، و عقول أزلية مفارقة للمادة ،و ليست هيولانية . و قد وصف العقول العشرة بأنها آلهة ،وهي خارجة عن الزمان ،و لا يُؤثر فيها . و جعل عددها يُساوي عدد الحركات و الكواكب، آخرها العقل الفعال ، الذي يُحرك فلك القمر[4] . و هي محركات الأجرام السماوية و الطبيعية ، تحركها حركة أزلية دائمة[5] .

و أما الأجرام السماوية و مكوناتها ، فقد كان أرسطو يُؤلّها ، و يزعم أنها جواهر ،و موجودات إلهية . و قد أشاد أرسطو بأجداده اليونان الذين نسبوا الألوهية إلى الأجرام السماوية[6] .
و أقول: إن قول أرسطو بتعدد الآلهة ،و ألوهية الأجرام السماوية ، هو قول باطل عقلا و علما و شرعا ، و ليس له في ذلك إلا الأوهام و الظنون ،و السفسطة ،و المزاعم . و هو خرافة من خرافاته التي أخذها عن المجتمع اليوناني و الحضارات القديمة . و تفصيل ذلك فيما يأتي :

أولا إنه قال بتلك المزاعم –أُلوهية العقول و الأجرام- من دون أي دليل صحيح ، و إنما قالها زعما ،و ظنا ،و رغبة . و متى كانت المزاعم و الظنون و الرغبات أدلة و براهين ؟ ! . إنها ليست حججا و لا أدلة ، و إنما هي مزاعم لا يعجز عنها أحد ،و من صفات أهل الظنون و الأهواء ، أنهم من الذين يصدق عليهم قوله سبحانه و تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }-سورة النجم:23- ،و {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }-سورة النجم:28- ،و{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }-سورة القصص:50- .
و من جهة أخرى أنه لا يُوجد أي مبرر صحيح للقول بتلك المزاعم و الخرافات ، انطلاقاً من فلسفة الرجل ،و من خارجها أيضا . فبالنسبة لفلسفته فبما أنه قال بأزلية العالم بما فيه من عقول و أجرام،و ذكر أن الإله هو الذي حرّكه، فهذا وحده كافٍ لجعل العالم يتحرك و يُؤدي وظيفته كاملة من دون أية حاجة إلى القول بتعدد الآلهة التي سماها عقولا مُفارقة . و أما من خارجها فالأمر أوضح و أصح ، فبما أن الكون مخلوق، و لا بد له من خالق عظيم كامل الصفات ، فهذا يعني أن كل ما سواه مخلوق ليس بإله ،و لا توجد أية حاجة ،و لا مُبرر للقول بوجود آلة غير الله سبحانه و تعالى .

فواضح من ذلك أن أرسطو لم يكن-فيما زعمه- مُتبعا للعقل الصريح ،و لا للعلم الصحيح ، و إنما كان مُتبعا لظنونه و أهوائه ،و رغباته و تناقضاته . فلماذا سمح لنفسه أن يتكلم في موضوع لا يُمكنه رؤيته ،و لا لديه من آثار صحيحة تُمكنه من الخوض فيه، حتى يزعم أنه توجد عقول إلهية تُحرك العالم ؟! . و من أين له بأن الأجرام السماوية هي أيضا ذات طبيعة إلهية ، مع أن الظاهر من صفاتها أنها كائنات مخلوقة كالإنسان و غيره ؟ ! . فالرجل جانب الصواب و قال بخرافات و حماقات ، و وقع في أخطاء فادحة و مُضحكة ، مع أنه كان في مقدوره تجنب ذلك ، لو أنه اتبع المنهج البديهي في الاستدلال . فلو طبقه و نظر به إلى الأجرام السماوية ، لتبين له أنها كائنات كالتي نراها على الأرض ، ثم يُطبق عليها مبدأ الجمع بين المُتشابهين ،و التفريق بين المختلفين . فسيتبين له أن تلك الأجرام هي كغيرها من الكائنات الأرضية ، ليست آلهة ،و لا أنصاف آلهة ،و إنما هي كائنات مخلوقة . و هذه النتيجة البديهية هي نتيجة صحيحة ، أوصلنا إليها المنطق الفطري البديهي الذي طبقناه في استدلالنا هذا ،و هي نفس النتيجة التي قررها الشرع ،و قال بها العلم الصحيح . لكن أرسطو أرادها عِوجا ، فتفلسف تفلسفا معوجا قرر به أمورا باطلة ،و أخرى خُرافية . و هذا إخلال كبير منه بمنطق البحث الاستدلال العلمي الصحيح ، فباع بذلك المنطق و العلم بالظنون و الأوهام،و الرغبات و الخرافات ، و هذه هي الميزة الغالبة على إلهيات أرسطو من بدايتها إلى نهايتها .

و ثانيا إنه كما أن أرسطو لم يُقدم دليلا صحيحا على قوله بتعدد الآلهة ،و ألوهية الأجرام السماوية ، فإنه أيضا هو قول مُخالف للوحي الصحيح ،و العقل الصريح ، و العلم الصحيح . فأما عقلا فلا شك أن العقل البديهي لا يعرف إلا الخالق و المخلوق ، و بما أن الله تعالى هو الخالق لهذا العالم فلا يصح، و لا يُعقل، و لا يُوجد أي مبرر مُقنع للقول بتعدد الآلهة. لأن الله تعالى كامل غني بذاته ، و على كل شيء قدير ، فلا يحتاج إلي تلك الآلهة المزعومة ، و القول بوجودها معه عبث ،و لا فائدة من وجودها من جهة . و بما أن الكون مخلوق ، فلا يُمكن أن يكون إِلهاً ،و لا يُمكن أيضا أن تكون بعض كائناته آلهة من جهة أخرى .

و أما شرعا فالأمر واضح جدا ، بأنه-أي الشرع- لا يقبل مزاعم أرسطو من أساسها ، و يرفضها رفضا مُطلقا ،و ينسفها نسفا . من ذلك قوله سبحانه : {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ }-سورة الشعراء:213- ،و {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }-سورة الذاريات:51 - ،و {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً }-سورة الفرقان:3- ،و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }-سورة الأنبياء:22- ،و {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }-سورة المؤمنون:91- .
و أما علما ، فإن العلم الحديث هو أيضا أثبت ما قرره العقل الصريح ،و الشرع الصحيح ، من أن هذا الكون مخلوق ، ليس أزليا ، و لا ربا ،ولا خالقا ،و لا إِلهاً ، و ليست أجرامه السماوية آلهة ، و لا تحركها آلهة ،و لا أنصاف آلهة . و إنما الكل مخلوق خاضع لسنن إلهية مُحكمة غاية في الدقة ، و لا يحتاج إلى آلهة لتحركه ،و هذه الحقائق هي من ثوابت الشرع و العلم معا ، لا تحتاج إلى توثيق .
و ثالثا إن أرسطو كما بنى أقواله على التناقض في موقفه من الإله ،و أزلية العالم ،و العناصر الخمسة ، فإنه هنا أيضا ضل التناقض سمة فكره و منهجه في الاستدلال . من ذلك أن أرسطو قال بوجود الإله الكامل ، ثم زعم أنه توجد آلهة أخرى كثيرة . و هذا نقض للقول الأول ، لأنه لا مبرر لوجودها مع وجود الإله الكامل .

و منها أيضا إن أرسطو ذكر أن الإله هو الذي حرّك تلك الآلهة- العقول- ،و هذا يعني أنها ناقصة ،و لم تكن قادرة على الحركة بذاتها . و هذا نقض لقوله بألوهيتها ، فلو كانت آلهة ما احتاجت إلى غيرها .

و من تناقضاته أيضا أنه قال بأزلية تلك الآلهة من جهة ، ثم قال بأن الإله هو الذي حرًكها من جهة أخرى . و هذا تناقض صارخ ، لأن الأزلي لا يحتاج إلى من يُحركه ،و إذا حرّكه غيره فهذا يعني أنه ليس أزليا ،و أن له بداية تحرّك فيها مهما تصورنا قِدم الفعل الإلهي .

و أخيرا يتبين-مما ذكرناه- صحة ما قلناه سابقا ، من أن أرسطو لم يُقم أقواله المتعلقة بألوهية العقول و الأجرام السماوية ، لم يُقمها على عقل صريح ،ولا على علم صحيح . فأخطأ أخطاء فاحشة أفسد بها جانبا من فكره و سلوكه ، و جنى بها على العقل و العلم ،و باعهما بالظنون و الرغبات ، و الأوهام و الخرافات .

ثالثا: حركة الكون في فلسفة أرسطو:
يُعد مبدأ الحركة من أهم أُسس إلهيات أرسطو ، فبها تحرّك الكون ،و بها أصبح أزليا أبديا ،و بها تستمر عمليات توالد الكائنات الحية ،و موقفه منها هو الذي أوقعه في أخطاء كثيرة ، جنى بها على العقل و العلم معاٌ . فما هو مصدرها ؟ ، و ما هي طبيعة تحريك الإله للكون ؟ ،و ما هو دليله على أزليتها؟ ،و ما هي تفاصيل تلك الأخطاء ؟ .

زعم أرسطو أن الإله هو الذي حرّك العالم بواسطة الفلك المحيط ،و العقول الإلهية المحركة للأجسام السماوية ، حرّكه بحركة أولى أزلية[7] . و قد تحرك بالاضطرار من المحرك الأول[8] . و الإله عند أرسطو غير مُنشغل بالعالم ، فهو منشغل بتأمل ذاتي لا نهاية له ، لذا فهو حرّك العالم كما يُحرك المحبوب محبه من دون قصد منه[9] . و لم يكن تحريكه علة فاعلة عن قصد و اختيار من الإله ،و إنما كان علة غائية بالنسبة للكون . فالإله يُحرك دون أن يتحرك كما يُحرك المعشوق عاشقه من دون أن يتحرك ؛ فالإله هو المعشوق يُحرك معشوقه عن طريق العشق . و بمعنى آخر أنه حرّك العالم على نحو ما تحركنا الأشياء المُشتهاة و اللذيذة ،و لاسيما المعقولة، من دون أن تتحرك هي[10].

و زعم أيضا أن الإله هو محرك الحركة الأولى الأزلية للكون ،و هي متصلة به دائما ، و تحريكه هو بالاضطرار ، فهو يفعل ضرورة لا اختيارا . و ينبغي أن يكون فعله دائماً ، و إلا لم تكن الحركة المنبثقة عنه أزلية[11] .

و تلك الحركة ليست حادثة ،و لا تفنى و لا تفسد ، و هي متصلة الحركة و الزمان ، فزمانها مُتصل أزلي ،و لا يُمكن تصور بداية لزمانها ، لأن كل توقف يستلزم زمانا قبله ،و هكذا . فهي حركة أزلية متصلة و واحدة ، لا بداية لها ،و غير مُمكن أن تكون لها بداية. و حركة السماء الأولى مستوية بدرجة واحدة لا اختلاف فيها من حيث الشدة و الضعف ، فلو كانت مختلفة لظهر لنا آثار ذلك ،و لو كانت كذلك لتباعدت الكواكب عن بعضها في طول الدهر[12] .

و عَلّل سبب أزلية الحركة و الكون بأن حركة العالم دائرية تجعل الكون يرجع على نفسه ، و بذلك لا يكون محدودا و لا بداية له . و لو كانت على خط مستقيم لكان محالا أن يكون الكون أزلياٌ، فوجب بذلك أن يكون الكون دائريا . لكن حركة التوالد التي تخضع لها الكائنات الحية في الأرض تتم على خط مُستقيم ، من أعلى إلى أسفل ،و بالعكس ، لذلك لم تكن نفس أفرادها تعود و تتكرر في الوجود. و زعم أن الجسم المستدير يتحرك حركة لا تسكن أبدا ،و هذا ليس من باب القول فقط، و إنما هو من باب العقل و الحس أيضا[13] . و زعم أيضا أن سبب أزلية الحركة المستديرة هو أنها حركة كاملة و غير متناهية ، لأن المستقيمة ناقصة و متناهية . و قرر أن الحركة المستديرة باقية دائما بالضرورة[14] .
و الحركة عند أرسطو هي حاملة الزمان ، و الزمان صفة لها ،و لا ينفصل عنها، و هو غير متناه من طرفيه: من القبل و من البعد ، و هما أزليان و متصلان[15] .
تلك هي طائفة من أقوال أرسطو و آرائه المعبرة عن موقفه من حركة الكون : مصدرا و نشأة ، مصيرا و زمانا . و رداً عليه أقول :

أولا إن قول أرسطو حول حركة الكون ، غير صحيح في معظمه ،و قد بناه على الظن و الرغبة ، و القول بلا علم . و ما هو إلا زعم ، و الزعم ليس دليلا ،و لا يعجز عنه أحد . و قد وقع الرجل في انحراف استدلالي كبير- هو امتداد لمنهجه السابق- فأوقعه في أخطاء و متناقضات ، سيأتي ذكرها تِباعاً فيما يأتي بحول الله تعالى . من ذلك أن قوله في الحركة قد بناه على ما قاله في الإله و أزلية الكون ، فهو فرع من أصل . و بما أنه سبق و أن أبطلنا معظم ما قاله عن الإله ،و بينا بطلان قوله بأزلية العالم ، فهذا يستلزم أن قوله بأزلية الحركة و الزمان هو باطلا بالضرورة . لكنا – مع ذلك- فإننا سنواصل مناقشته عقليا لمزيد من التوضيح و الإبطال لمزاعمه المتهافتة أصلا .

و ثانيا إن أرسطو لم ينطلق من مقدمات صحيحة ، و إنما انطلق من رغبات و تحكمات بنى عليها زعمه السابق . و هذا أمر مرفوض موضوعيا و علميا . من ذلك أنه زعم أن الحركة منها المستديرة ، و هي أزلية كاملة غير متناهية ،و تتعلق بالعالم السماوي . و منها الحركة المستقية ، و هي حادثة تتعلق بالعالم الأرضي ، حيث الكون و الفساد . و هذا زعم غير صحيح ، لأن الحركة ليست محصورة في المستديرة و المستقيمة ، فمنها مثلا الحركة المتعرجة . و كما أنه لم يُقدم دليلا عل ذلك التفريق بين الحركتين ،و كل ما قاله هو زعم و ليس دليلا ، فلم يُقدم حجة و لا شاهدا يُثبت بأن الحركة المستديرة أزلية و المستقيمة حادثة ،و إنما قال ذلك رغبة و تحكما منه . و هذا الانتقاد كافٍ وحده لرفض زعم أرسطو لأنه خطأ من الناحية الاستدلالية ،و ما بُني عليه فلا يصح . و الشواهد الآتية تزيد زعمه إبطالا و تهافتا .

أولها بما أنه سبق أن بينا: شرعا و علما و عقلا بأن الكون حادث مخلوق ، فهذا يستلزم إبطال زعمه بأزلية الحركة المستديرة ، لأنها هي جزء من أنواع الحركات في الكون ، و بما أنه حادث مخلوق فهي بالضرورة مخلوقة لا محالة .

و الشاهد الثاني هو أنه لا يُوجد في الحركة المستديرة ما يدل على أنها أزلية لا متناهية و لا فاسدة ،و أن غيرها حادث فاسد . فهي كما نراها في الطبيعة لا تختلف عن المستقيمة و لا عن المتعرجة ، فهي مثلهما. لأن كلا منها مُسخّر يتحرك في إطار ثابت ،و له دورة كاملة يُؤديها و يتحرك فيها . و العبرة هنا ليست في شكلها ،و إنما في دورتها الكاملة التي تقوم بها ، في إطارها الذي تتحرك فيه ، فهي هنا مُتشابهة تماما . و عليه فكل منها كامل في دورته من جهة ، و متناهِ في إطاره من جهة أخرى . فالمستديرة مثلا لها بدايتها و نهايتها في إطارها الذي تتحرك فيه، و يمكن تحديد نقطة بداية و نهاية لها ، و عندما تكملها تُعيد الدورة و هكذا ،و هذا الأمر ينطبق أيضا على الحركتين : المستقيمة و المتعرجة ، فلا فرق بينهما و بين المستديرة المُستديرة .

و الشاهد الثالث مفاده أنه لا يصح القول بأن الحركة المستديرة كاملة غير متناهية، و غيرها مُتناهٍ ،و ليس كاملا . فهذا زعم باطل ، لأن كل كائنات هذا العالم بما فيها الحركة المستديرة ، هي في ذاتها كاملة قبل فنائها ، و غير متناهية ما دامت حية ، فإذا ماتت انتهت . و عليه فإن كل كائن هو كامل في خلقته من جهة ، و ناقص في ذاته بحكم أنه مخلوق من جهة أخرى . و هذا يعني أن كل كائن له دورة حياة تبدأ من مولده و تنتهي بموته ،و هذه سنة كونية إلهية تنطبق على كل المخلوقات دون استثناء ، بما فيها الحركة المستديرة .
و من ذلك أن النجوم و الكواكب -مثلا- لها مدارات تدور فيها ، و مع ذلك فهي لها بداية و نهاية ،و قد ثبت هذا شرعا و علما ، بأنها تموت و تتلاشى كغيرها من المخلوقات الأرضية ،و هذا أمر لا يحتاج إلى توثيق[16].

و الشاهد الرابع مفاده أنه لا يُوجد أي اختلاف حقيقي نوعي بين الحركتين المستديرة و المستقيمة . فالإنسان يصنع الحركتين و يستخدمهما في آلاته الصناعية ، من دون أي فرق جوهري بينهما، فهو اختلاف تنوع ،و ليس اختلافا جوهريا من حيث الحدوث و عدمه،و لا من جهة التناهي و عدمه . فهما حادثتنا لهما بداية و نهاية بلا شك . و إنما أرسطو هو الذي يُفكر برغباته و تحكماته ، فعندما أراد أن تكون الحركة أزلية أخترع حكاية الحركة المستديرة ، فعجبا منه ،و من تفكيره المعوج !! .

و الشاهد الأخير- السادس- مفاده أنه من الثابت علماٌ أن الكون كله يتحرك حركة مستديرة ، من خلال أصغر وحدة مُكوّنة له هي الذرة ، و هي تتحرك دائريا في مداراتها . و مع ذلك فالكون كله حادث مخلوق كما سبق أن بيناه . فأين حكاية أرسطو المزعومة بأن الحركة المستديرة أزلية ؟ ! .

و ثالثا إن زعم أرسطو بأن الحركة التي حدثت بين الكون و المحرك الذي لا يتحرك ، حدثت من جهة الكون فقط ، كما يحدث بين العاشق و المعشوق من دون قصد من المعشوق . هو زعم باطل، و كلام فارغ، و عورة من عورات الرجل،و خرافة من خرافاته ، و قول بلا علم ، و رجم بالغيب . فمن أين له هذا الحكاية المُضحكة ؟! ، إنه مُطالب بالدليل الصحيح لإثباتها ، و رغباته و تحكماته مرفوضة مردودة عليه . و نحن نطالبه بالدليل اليقيني ،و إلا فقوله كلام باطل . إنه لن يستطيع الظفر به ، لأن زعمه هذا باطل أساسا من جهة ،و لأنه تكلم بلا علم في أمر غيبي لا يُمكنه معرفته من جهة أخرى .
و مما يُبطله هو أنه ليس صحيحا أن عملية العشق المزعومة تتم من طرف واحد ، فهي قد تحدث من الطرفين ، بل المعروف أنه إذا حدث ، فسيحدث بتفاعل الطرفين قصدا من العاشق و المعشوق . لكنه قد يحدث من طرف واحد ، لعدم علم المعشوق ، أو لرفضه . و عليه فمن أين لأرسطو أن عملية العشق التي حدثت و حركت الكون -حسب زعمه- كانت من جهة الكون من دون مشاركة الإله ؟ ! . بمعنى أن الإله كان علة غائية للكون من دون قصد منه ،و لم يكن علة فاعلة له . إنه-أي أرسطو- لا يملك أي دليل صحيح على زعمه ،و لن يستطيع الإتيان به أو إثباته ، لأمرين أساسيين : الأول هو أن زعمه هذا خرافة من خرافاته. و الثاني مفاده هو أنه لن يستطيع التأكد منه إلا إذا أستطاع أن يُعيد تاريخ حدوث تلك الحكاية ليراها ، أو أنه كان حيا حاضرا عندما حدثت فرآها مباشرة ، أو أنه يمتلك أدلة ملموسة تشهد بحدوث تلك الحكاية ، أو أن الإله اتصل به و أخبره بها . و لا شك أن كل هذه الاحتمالات مُستحيلة في حقه، فلا يتحقق و لا واحد منها فيه . فالرجل يتكلم بلا علم،و يُخرّف على نفسه و غيره، و زعمه باطل مردود عليه .

و من جهة أخرى فإنه بما أن ذلك العشق المزعوم تم من طرف الكون فقط حسب زعم أرسطو ، فمعنى هذا أنه الكون كان كائنا حيا واعيا يعشق و يُحب قبل حدوث عملية العشق المزعومة ، فاختار هو ممارستها. و هذا يعني أنه كان متحركا أصلا قبل عملية العشق ، لأن من طبيعة الحي الواعي العاشق أنه يتحرك حسب طبعه . فهو إذن مُتحرك بطبعه ،و لا يحتاج إلى عشق الإله ليتحرك ،و لا إلى الإله ليُحركه قصدا، أو بلا قصد . و بهذا يسقط زعم أرسطو بأن العالم تحرك بسبب عشقه للإله من دون قصد منه .
و إذا فرضنا جدلا أن الكون تحرّك بعد العشق ، فهذا أيضا يعني أنه كان قادرا على القيام بالعشق من تركه ، و لم يُكن محتاجا إلى من يُحركه ،و من ثم فحو مُتحرك أصلا، و له اختيار في الفعل من عدمه، و من هذه صفاته لا يحتاج إلى من يُحركه . و إذا افترضنا أنه لم يكن حيا و لا مُتحركا، فهذا يعني أنه كان ميتا، و الميت لا يُمكن أن يعشق أبدأ . و من ثم تسقط الحكاية المزعومة من أساسها . و إذا قيل : إن العشق تم من طرف الإله تجاه الكون . فهذا لا يصح ، لأنه مُخالف لقول أرسطو صراحة ، و يُنقضه أيضا ، لأنه يعني أن الإله هو الذي تحرك بسب عشقه للكون الجامد، فتحرك تجاهه: عشقا و فعلا ، و قصدا و اختيارا . و هذا مبطل تماما لحكاية العشق الأرسطية المزعومة .

و رابعا إن قوله بان حركة العالم أزلية ، هو قول لا يصح عقلا ،و لا شرعا ،و لا علما . فأما شرعا و علما فقد سبق أن بينا بطلان قوله بأزلية العالم، و هذا يستلزم بطلان قوله بأزلية الحركة ، لأنها جزء لا يتجزأ منه . و أما عقلا فهو لا يصح أيضا ، لأنه إذا كانت حركات العالم العلوي ، و حركة التوالد الحيواني في العالم الأرضي أزلية لا بداية لها ، فهذا يستلزم أن الكون لم يكن في حاجة أبدا إلى من يُحركه،و لا إلى من يعشقه لكي يُحركه . و سبب ذلك واضح ، هو أنه –أي الكون – كان موجودا كاملا بكل حركاته و كائناته ، و لم يكن يحتاج أبدا إلى من يُحركه .
و أما إذا لم تكن تلك الحركات العلوية و الأرضية موجودة ، فأوجدتها حركة حكاية العشق المزعومة، فهذا يعني بالضرورة أنها حادثة ، أوجدتها تلك الحركة ، التي تدخلت و أوجدت كل حركات العالم . و في الحالتين لا يصح زعم أرسطو في قوله بأزلية حركة العالم ، فهو باطل مردود على صاحبه .

و أما إذا قيل: إن أرسطو قال بأزلية الكون على أساس أنها قائمة على أزلية دوام الفعل الإلهي و أبديته . فهذا لا يصح أيضا ، بدليل الشواهد الآتية : أولها إنه ليس لأرسطو دليل صحيح يُثبت به زعمه، و لن يستطيع الحصول عليه أبدا . لأن الفعل الإلهي لا يُمكن أن يكون محصورا فيما قال به أرسطو ، و إنما هو قائم على القدرة و الاختيار ،و الإرادة المُطلقة ، والإله الذي لا يتصف بذلك فليس ربا ،و لا خالقا ،و لا إِلهاً رغم أنف أرسطو الجاهل بالله . فالله تعالى فعال لما يُريد ، ومن ثم فهو سبحانه إما أن يفعل دائما دون توقف باختياره، و إما أنه لا يفعل مُطلقا بإرادته، و إما أنه يفعل و يتوقف باختياره أيضا . فقول أرسطو لا يصح من وجهين : الأول أنه زعم أن دوام فاعلية الإله مفروضة عليه فرضا ،و هذا زعم باطل و مُضحك ، لأنه لا يصح عقلا و لا شرعا أن يفرض أرسطو و لا غيره أمرا ما على الله سبحانه و تعالى . و من يقول بذلك فهو جاهل، أو مريض ، و أو زنديق مُعاند مُكابر .
و الوجه الثاني مفاده أن قول أرسطو لن يستقيم إلا إذا جاء بدليل قطعي من عند الله ينص على أن فعله تعالى دائم أبدي . و هذا لن يحصل عليه أرسطو ،و من ثم فزعمه باطل ،و استدلاله بدوام الفاعلية لا يصح .
و الشاهد الثاني هو أنه بما أن الدليل الصحيح قد قام على أن الكون بكل ما فيه من مخلوقات و حركات حادث مخلوق ، فهذا يعني بالضرورة أنه ليس قائما على دوام الفاعلية الإلهية الأزلية كما زعم أرسطو ،و إنما هو قائم على الفعل الاختياري لله في الفعل من عدمه .

و الشاهد الثالث هو أن القول بتدخل الفعل الإلهي في التحريك، فإن هذا يستلزم أن هذا التدخل له بداية مهما تصورنا قدمه،و القول بخلافه هو تناقض ،و لا يصح الهروب و الاختفاء بحكاية دوام الفاعلية . لأن الأمر محصور بين أمرين : إما أن يكون الكون أزليا بكامله ،و من ثم فهو لا يحتاج أبدا إلى الإله ليخلقه،و لا ليُحركه . و إما أنه كان محتاجا إلى الإله ، ليُحركه أو لأمر آخر . و هذا يستلزم أن الكون كان موجودا ناقصا ينتظر من يُحركه، و هو بهذه الحالة قد سبق الفعل الإلهي في الوجود ، ثم تدخل الفعل الإلهي ليحركه ، و هذا يستلزم بالضرورة أن فعله له بداية مهما تصورنا قدمه، فهو حادث يُؤدي بالضرورة إلى حدوث الحركة .

و الشاهد الرابع-الأخير- مضمونه أن قول أرسطو بدوام فاعلية الفعل الإلهي ، لا يصح و يتناقض مع قوله بأن العشق بدأ من العاشق نحو معشوقه، بمعنى أنه بدأ من الكون نحو الإله . و هذا يعني أن الفعل لم يبدأ من الإله و إنما بدأ من الكون ،و هذا يستلزم أن الفعل له بداية بالضرورة ،و ليس أزليا من جهة ،و هو يُبطل القول بدوام الفاعلية الإلهية المزعومة من جهة ثانية،و لا يصح نسبة الفعل الأول الحقيقي إلى الإله ، و إنما يجب نسبته إلى الكون من جهة ثالثة . و كل هذا يُبطل زعم أرسطو في قوله بأزلية الحركة بدعوى دوام فاعلية الفعل الإلهي . فالرجل اخترع فكرة دوام الفاعلية للاختفاء من ورائها . ثم جعلها مقدمة بنى عليها زعمه بأزلية حركة الكون .

و خامسا إن زعمه بأن الزمان أزلي بسبب أزلية الحركة ، فهو زعم باطل، و بما أن الأمرين مترابطين ، على أساس أن الحركة حاملة الزمان كما ذكر أرسطو ،و بما أنه سبق أن أثبتنا بطلان قوله بأزلية الكون و حركته، فإن هذا يستلزم أيضا بطلان القول بأزلية الزمان . لكننا مع ذلك نقول : إن موقف أرسطو من الزمان غير صحيح، لأنه امتداد لقوله بأزلية العالم، و بما أنه سبق أن أبطلنا قوله بذلك، فهذا يستلزم خطأ و بطلان موقفه من الزمان . فالزمان ليس أزليا ،و إنما هو مخلوق من مخلوقات هذا العالم ، فخلق الله تعالى للكون أوجد الكون بمادته و زمانه و مكانه ، فالكل حادث مخلوق . و هذا الموقف لا يُثير أية مُشكلة حقيقية ، كالتي أشار إليها أرسطو عندما قال : إن القول ببداية للزمان ليس حلا، لأنه يستلزم وجود قبل و بعد للزمان . و هذا اعتراض لا يصح ، لأنه بناه على أساس القول بأزلية العالم ، و بما أنه حادث مخلوق ،و ليس أزليا ، فاعتراضه يسقط و لا يصح . لأنه لا وجود لزمان و لا لحركة، ،و لا لمكان و لا لمادة قبل الخلق ،و هنا يتوقف السؤال بطريقة طبيعية ،و لا يصح السؤال عن الزمان و لا عن غيره من المخلوقات . و بذلك يسقط زعم الرجل و اعتراضه .

و من جهة أخرى فقد ذكر الفيزيائي المعاصر منصور حسب النبي أن الفيزياء الحديثة نصت على أنه لا زمان دون مكان،و لا مكان دون زمان ، و لا وجود لزمان مُطلق ، و لا لمكان مُطلق ،و قد أُطلق على دمجهما مصطلح : الزمكان . و نصت أيضا على أن الزمن نسبي و ليس مُطلقا ، فالزمن الذي نحس به على كوكب الأرض يختلف عن الزمن المقيس على الكواكب الأخرى . من ذلك أن السنة على كوكب عطارد مثلا يُعادل 88 يوما من أيامنا ،و يومه يُعادل 59 يوما من أيامنا، فقصُر عامه و طال يومه بالنسبة لأعوامنا و أيامنا [17] .

و هذه المعطيات العلمية الحديثة كما أنها تُبطل قول أرسطو بأزلية الزمان من جهة ، فإنها من جهة أخرى تُبطل أيضا زعمه بأن حركة السماء مستوية واحدة .
و أخيرا – سادسا – أُشير هنا إلى أن أرسطو كما بنى موقفه من الإله ،و نشأة الكون و مكوناته على التناقض ، فإنه قد بنى موقفه من حركة الكون على التناقض أيضا . فأصبح التناقض سمة أساسية من سمات إلهياته ، لأنه لم يُقمها على عقل صريح ،و لا على علم صحيح، و إنما أقامها أساسا على رغباته و أوهامه ،و تحكماته و خرافاته . و أما تناقضاته المتعلقة بهذا المبحث فمنها :

أولها إنه زعم أن فعل الإله يجب أن يكون أزليا، ثم زعم أن الحركة بدأت من الكون كتحرك العاشق نحو معشوقه ،و هذا نقض للقول بأزلية الحركة الفاعلة .
و التناقض الثاني مفاده أنه – أي أرسطو – زعم أن فعل الإله دائم أزلي ،و هو الذي حرك العالم ، ثم زعم أن الفعل بدأ من الكون في عشقه للإله من دون أي قصد و اختيار من الإله . و هذا تناقض يتعلق بمن هو الفاعل الحقيقي ، فهل هو الإله ، أو الكون ؟ ،و أرسطو قد أسند إليهما الفعل معا ،و نفاه عنهما أيضا !! .

و الثالث إنه زعم أن الإله و الكون أزليان ، و لا يتحركان ، ثم قال: إن الإله لم يُحرك إرادة و قصدا، و إنما الكون هو الذي تحرك عشقا له . و هذا تناقض صارخ فكيف استطاع الكون أن يتحرك و هو لا قدرة له على الحركة ،ولا على التحريك ؟ ! . و من أين له ذلك ؟ ! .
و التناقض الرابع مفاده أن أرسطو زعم أن الكون لا يتحرك ، و مُحتاج إلى من يُحركه، ثم زعم أن الكون هو الذي تحرك بعشقه للإله من دون مشاركة من الإله . و هذا تناقض ، لأن القول بأن الكون هو العاشق يستلزم أنه كائن حي واعٍ يستطيع الحركة بذاته ،و لا يحتاج إلى من يُحركه . و هذا يعني أيضا أن الكون هو الذي حرّك نفسه، و من ثم فليس الإله هو الذي أوجده ، لأنه أزلي حسب زعم أرسطو ،و لا هو الذي حرّكه، و إنما الكون هو الذي حرّك نفسه بقصد و وعي و إرادة ، عندما عشق الإله . فالكون في الحقيقة هو الإله ، فهو كون و إله ،و هذا شبيه بفكرة وحدة الوجود. فأرسطو انطلق من القول بالثنائية : الإله و الكون ، و انتهي إلى القول بوحدة الوجود ،و هذا بسبب قوله بأزلية العالم .
و التناقض الرابع مفاده هو أن أرسطو أكد مراراٌ على أن الإله هو الذي حرّك ،و جعل التوالد الحيواني أزليا، و أن فعله في ذلك هو أبدي سرمدي ، لكنه زعم أيضا أن الإله ليس هو الذي أمر، و لا خلق، و لا له علم بالكون، و لا هو قادر على الفعل . فهذا تناقض صارخ واضح !! ، فهل يُعقل أن يقوم الإله بتلك الأفعال ، و هو لا علم له بالكون ،و لا قادر على الفعل ؟! . أليس هذا من أغرب تناقضات و مهازل فكر أرسطو ؟! ، و هل يصح أن يصدر هذا عن إنسان عاقل يعي ما يقول ؟ ! ، و أليس من يقول هذا لا يستحق الاحترام العلمي ؟ ! .

و التناقض الأخير- الخامس- مضمونه أن الرجل زعم أن الحركة المستديرة أزلية بذاتها، و أن الحركة المستقيمة المتحكمة في توالد كائنات الأرض هي حادثة بذاتها و ليست أزلية . لكنه سبق أن ذكرنا أنه زعم أن التوالد الحيواني في الأرض- الذي تحكمه الحركة المستقيمة- هو توالد أزلي على مستوى الأنواع . و هذا تناقض ، فكيف تكون الحركة المستقيمة حادثة من جهة ،و أزلية من جهة أخرى ؟ ! .

فواضح مما تقدم ذكره ، أن قول أرسطو بأزلية الحركة و الزمان هو قول غير صحيح، و أنه اخترع مبررات وهمية من عنده ، ثم جعلها مقدمات بنى عليها ذلك الزعم .. فهذا الرجل يفرض رغباته و تحكماته، و ظنونه و خرافاته على بدائه العقول ،و حقائق الطبيعة ، ثم يُوجهها كما يريد حسب أهوائه و خلفياته المذهبية . و بمثل هذا الانحرافات و الخرافات جنى أرسطو على نفسه و أتباعه ،و على العقل و العلم . و مسلكه هذا لا يصح و مرفوض عقلا ، و شرعا ، و علما ،و ليس هو من الموضوعية ،و لا من الاستدلال العلمي الصحيح في شيء .
رابعا : الغائية و الوظيفية في الكون عند أرسطو:
بنى أرسطو موقفه من الغائية و الوظيفية في الطبيعة على أساس إلهياته التي سبق أن ذكرناها . و انطلاقا منها فإن الكون عنده ليس له غاية محددة يعمل من أجلها ، فهو أزلي أبدي، يُكرر نفسه على أساس الحركة الدائرية . و ليس الإله هو الذي جعل للكون غايته، و إنما الكون هو الذي تحرك من ذاته وجعل لنفسه غاية هي عشق الإله من دون أي تدخل منه ، فلم يكن له دخل مباشر في تحريك العالم ،ولا في تحديد و توجيه مساره و غايته ،و العالم كله عاشق للإله [18] .

و عنده أن أسمى وظائف الإنسان في الحياة، هو ممارسته للتأمل النظري، و سعادته الكاملة يجدها في ذلك ،و به يقترب من الطبيعة الإلهية و يتشبه بها، لأن فعل الإله هو تأمل ذاته ، فهو عقل و عاقل و معقول[19] . و الإنسان- كغيره كائن من كائنات العالم الأرضي - يطلب دائما الكمال من الموجودات العلوية الأزلية، فهدفه في حياته الدنيوية أنه يسعى إلى تحقيق ذلك الكمال[20] .

و يعتقد أرسطو أنه ليس للإنسان خلود في هذه الأرض كفرد، و إنما له خلود كنوع ، فهو في ذلك كغيره من الحيوانات خلودها لأنواعها لا لأفرادها[21]. و عندما يموت الإنسان يُفارق عقله المادة ، و ينفصل عن الجسد و يصبح بذاته فقط ، و عندها فقط يكون خالدا و أزليا ،و مع ذلك لا نذكر حاله الأولى ، لأنه عقل غير منفعل ، و قد سماه أيضا بالنفس الناطقة ، لكن العقل المُنفعل قابل للفساد[22] .

وأما عن الغائية و الوظيفية العملية في الطبيعة ، فقد فسر أرسطو تنوع الكائنات الحية و وظائفها بالاضطرار و الحاجة و الطِباع ،و انتقد القائلين بالآلية في حركة الطبيعة ، و عنده أن الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا و لا عبثا . من ذلك أنه ذكر أن الطِباع هيأ للإنسان يدين ، بدلا من الرجلين الأماميتين ، لعدم حاجته إليهما. و أشار إلى أن الفيلسوف أنكساغورس لم يقل صوابا عندما قال : لما كان للإنسان يدان صار أحكم و أعقل من جميع الحيوان . ، فرد عليه بأن الأمثل هو أن نقول: لما كان (( الإنسان أعقل و أحكم من جميع الحيوان ، صارت له يدان )) . و قال أيضا : (( فليس الإنسان حكيما جدا لحال أن له يدين ، بل لأنه حكيم جدا صارت له يدان )). و خلاصة فكرة أرسطو هي أن الوظيفة توجد العضو و تعدمه [23] . و يرى أيضا أن الحاجة إلى الولادة بين الحيوانات هي التي دعت إلى الجماع ،و (( صيّر الطباع أعضاء مُختلفة موافقة بعضها لبعض ، فبهذا النوع يختلف عضو الذكر و عضو الأنثى ))[24] .

تلك هي نظرة أرسطو إلى الغائية و الوظيفية في الكون عامة،و العالم الأرضي خاصة . فأين خطأه في ذلك ؟ ،و كيف جنى به على العقل و العلم .
أولا ، لا يصح القول بأن العالم الأرضي - عالم الكون و الفساد – ناقص و يسعى دائما لإدراك الكمال في طلبه الأبدي له بفعل الموجودات العلوية الأزلية. فمن أين لأرسطو هذا الزعم ؟ ! و من الذي حدد للكون هذه الغاية ؟ ! . علماً بأن القول بذلك فيه تناقض مع أفكار الرجل نفسها ، لأنه بما أن العالم الأرضي أزلي بطبيعته حسب زعمه ، فمن المفروض أنه لا يختلف عن عالم الموجودات العلوية الأزلية ، و يجب أن يكون كاملا بطبيعته و أزليته ، على أساس أزلية الأنواع التي قال بها الرجل . فالعالم الأرضي إذن لا يختلف عن العالم السماوي ، فكل منهما كامل أزلي بذاته و بأنواعه ، و بذلك يكون الرجل قد ناقض نفسه .
فمن أين لأرسطو بأن العالم الأرضي يطلب ذلك الكمال المزعوم ؟ ! ، و من الذي أعلمه بذلك ؟ . واضح من مواقف الرجل السابقة، أنه لا الإله قرر ذلك،و لا أخبر به ، لأن الإله –حسب زعمه- لم يكن له دخل مباشر في ظهور الكون المتحرك،و لا كان له علم به . و لا الكون ذاته هو الذي حدد ذلك الهدف ، لأن أرسطو وصفه بأنه كان ناقصا غير قادر على الحركة،و إنما الإله هو الذي حرّكه و جعل حيواناته تتوالد أزلياٌ[25] . و أمام هذا التناقض الصارخ لم يبق إلا أن أرسطو هو الذي حدد تلك الغاية للكون ، فمن أين له ذلك ؟ و ما هو دليليه عليه ؟ . واضح بداهة أنه ليس لأرسطو أي دليل صحيح يُثبت به زعمه ، لأنه خاض في أمر لا يُمكنه أن يقول فيه قولا يقينيا . فتجاوز حدوده و تكلم بالظن و التخمين ، و اتخذ موقفا بناه على رغباته و تحكماته .

و بناء على ذلك فإن زعمه بأن غاية الكائنات في هذا الوجود أنها تطلب كمالها بعشق الإله . هو كلام غير ثابت و لا يُمكنه إثباته أبدا ، و يمكن معارضته بأن يُقال مثلا : لا ، إن الغاية من الكون و موجوداته هي عبادة الخالق . أو يُقال : لا ، إن الغاية من ذلك هي اللعب و اللهو ،و الاستمتاع بملذات الدنيا . و كل ذلك مُمكن نظريا، فهو ليس بمستحيل ، و لا بواجب ، لكن الذي يُبين الاحتمال الصحيح في هذا الأمر، هو الشرع وحده . و بما أن الله تعالى قد بينا لنا ذلك في قوله سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }-سورة الذاريات : 56-58- ،و {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }- سورة الأنعام:162- ؛ فإن الاحتمال الصحيح هو أن الله تعالى خلقنا لنعبده وفق شرعه بإخلاص و حب و التزام بدينه . فأرسطو قد أخطأ في موقفه هذا خطأين : الأول أنه قال : إن الغاية من الكون هي عشق الإله ،و هذا مُخالف للشرع . و الثاني أنه أكد على صحة رأيه و بنى عليه أفكاره دون دليل صحيح من جهة ،و لا يُمكنه إثباته بيقين من جهة أخرى .

و ثانيا إنه كما أن أرسطو أخطأ في قوله بحكاية العشق، فإنه أخطأ أيضا في قوله بخلود العقل الإنساني المفارق للمادة[26] . فمن أين له ذلك ؟ إنه قرر أمرا لا يُمكن إثباته إلا بدليلي يقيني ،و لا يُمكن لأرسطو الحصول عليه. فلم يُخبره به إلهه المحرك الذي لا يتحرك،و لا أخبره به الكون الذي عشق معشوقه !! . و إن قيل : إن أرسطو هو الذي قرر ذلك . فنقول : نعم في إمكانه أن يجتهد لمحاولة معرفة مصير عقل الإنسان بعد موته ، لكن الرجل لم يفعل ذلك فقط ، و إنما قرر موقفه على أنه حقيقة من دون أي دليل صحيح من جهة ، كما أنه لا يصح عقلا الخوض في ذلك المجال الذي لا يستطيع الإنسان إدراكه و تصوّره من جهة أخرى . و هذا خطأ كبير: منهجاً و نتيجةً ، كان قد وقع في مثله سابقا ؛ فهذا الرجل مواصل على نهجه في الانطلاق من رغباته و تحكماته و بناء أفكاره عليها .

علما بأن حقيقة غاية الإنسان في الدنيا و مكانتها في فكر أرسطو هي غاية زائفة ، و من ثم فهي خرافة بعد وفاته . لأنه زعم انه بعد الموت يحدث خلود للنوع لا للأفراد . و هذا تغليط و زعم باطل ، لأنه إذا كان الأفراد لا يخلدون ،و لا وجود لكائن مُطلق آخر اسمه الإنسان ، أو الإنسانية ، فهذا يعني أن لا يُوجد خلود للأفراد و لا للأنواع ، و إنما أرسطو يُغالط و يُسفسط ،و قد سبق أن بينا بطلان زعمه بحدوث الأفراد و أزلية الأنواع ، فلا نعيده هنا . و عليه فغاية الإنسان في هذا العالم عند أرسطو ، هي غاية عبثية جوفاء ، و تنتهي إلى عبث ،و ليست غاية حقيقية في الدنيا و بعد الممات .

و أما إذا قيل : إن أرسطو كان يقول بخلود العقل المفارق بعد الموت ، و لم يكن ينكره ،و لا شكك فيه . فنحن نقول: إن كلام أرسطو في ذلك لا يٌقدم و لا يُؤخر ،و ليس بجديد، لأنه يندرج ضمن قوله بأزلية الكون ،و أبدية توالد أنواع الكائنات الحية من جهة ،و هو خلود لا دليل صحيح عليه ، و إنما هو من أوهام و تخمينات و رغبات الرجل من جهة أخرى . و هو أيضا خلود زائف و لا معنى له، لأنه لا ينتهي إلى معادٍ أخرويٍ يتحقق فيه العدل المطلق بين بني آدم . فليس من العدل و لا من الحق القول بخلود لا قصاص فيه، و ليس من العقل و لا من العدل أن يعيش الإنسان في دنياه بعقله و لحمه ، و شحمه و عظمه ثم عندما يموت يخلد عقله فقط !!. فالعقل و العدل يقولان بخلود الإنسان بكل مكوناته ليحاسب عن أعماله كلها يوم المعاد الأخروي . و هذا الذي قلناه قد نص عليه الشرع الصحيح و يُرجحه العقل الصريح ،و العلم الصحيح .


[1] لكن سبق توثيقه .

[2] ماجد فخري : أرسطو ، ص: 89 ، 90 .

[3] سنتكلم عنها فيما يأتي .

[4]أرسطو : مقالة اللام ، ص : 3 ، 4 . و ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 352، 353 ، و تلخيص ما بعد الطبيعة ، حققه عثمان أمين ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ،1958 ، ص: 154 . . و ماجد فخري: أرسطو المعلم الأول ، ص: 56، 57 ، 98، 99 ، 84 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 114 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 205 .

[5] ديوجين لا يرتيوس : مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ، ص: 124 . و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 56 ، 57 ، 98 ، 99 . و تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 119 ، 120 . و يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 175 .

[6] أرسطو : مقالة الدال ، ص: 356 . ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 356 ، 357 .و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 55 ، 100 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ،ج 2 ، ص: 240 .

[7]سبق توثيق ذلك أكثر من مرة ، لكن أنظر مثلا :أرسطو : مقالة اللام ، ص: 7 . و ديوجين لاير تيوس: المختصر، 124 . علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 201 .

[8] أرسطو : نفس المصدر ، ص: 7 ، 8 .

[9] جفري بارندر : المعتقدات الدينية لدى الشعوب ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، عالم المعرفة ، رقم : 173 ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون ، الكويت ، ص: 60 .

[10]أرسطو : مقالة اللام ، ص: 5 ، 6 . ابن رشد : ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 305 و ما بعدها . و ماجد فخري: أرسطو ، ص: 96 ، 97 ، 170 . علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي، ج 2 ص: 192 .

[11] أرسطو : نفسه ، ص: 7 . و مقالة اللام ، ص: 6 . و ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 354 ، 355 . و ماجد فخري: أرسطو ، ص: 96 ، 97 . و علي أبو ريان : تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 2 ص: 201 .

[12] ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ط1 ، دار إدريس ، سوريا ، 2007 ، ج 3 ص: 285 . و شرح السماء و العالم ، ج 2 ص: 188، 204، 205 ،230.

[13] أرسطو : الكون و الفساد ، ص: 215 . و مقالة اللام ، ص: 4 ، 5 . ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 302 . يوسف كرم : تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 92 .

[14] أرسطو : الطبيعة ، ج 2 ص: 891 .

[15]ابن رشد : تفسير ما وراء الطبيعة ، ج 3 ص: 288، 302 . و ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص: 114، 115 ، 131 . و أرسطو : المعلم الأول ، ص: 48 .

[16] كما أن عدم أزلية الكون يستلزم أن الأجرام السماوية هي أيضا لها بداية و نهاية .

[17] منصور حسب النبي: الإشارات القرآنية للسرعة العظمى و النسبية ، دار المعارف، القاهرة ، 2002 ، ص: 81 ، 82 .

[18] سبق توثيق كل ذلك ، فلا نعيد توثيقه هنا .

[19] مصطفى النشار: نظرية المعرفة عند أرسطو ، ط 3 ، دار المعارف ، 1995، ص: 5 .

[20] ماجد فخري: أرسطو ، ص: 91 .

[21] سبق توثيق ذلك، و مناقشته ، لكن أنظر مثلا: ماجد فخري : أرسطو ، ص: 89 .

[22] أرسطو : كتاب النفس ، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، ط 1 ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1949 ، ص: 113 .و ماجد فخري : أرسطو ، ص: 84 ، 161 .

[23] أرسطو : في أعضاء الحيوان ،- من كتاب الحيوان – حققه كروك رمكة ، مجمع العلوم الملكية الهولندي، 1978 ،، ص: 49 . و طبائع الحيوان البري و البحري، المقالة : 14 ، حققه عزة سليم سالم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985 ، ص: 109، 110، 111، 112 ، 155 . و الطبيعة ، ج 1 ص: 142 و ما بعدها . إمام عبد الفتاح إمام : أرسطو و المرأة ، ص: 25 ، 29 .

[24] أرسطو : في كون الحيوان ، المقالات : 15 – 19 ، ترجمة يحيى بن البطريق ، حققه يان بروخمان ، و ويوان دروسات لولوقس ، مؤسسة دي خُوي ، رقم : 23 ، بريل ، بمدينة ليدن ، 1971 ، ص: 3 .

[25] سبق توثيق ذلك .

[26] ربما يقول بعض الناس : إن أرسطو عندما أشار إلى خلود العقل المفارق ، كانت إشارته غامضة ،و لم يقصد به الخلود الأخروي . و هذا الرأي فيه وجاهة، لكنه ضعيف جدا لأن كلام أرسطو في خلود ذلك العقل واضح كما نقلناه من كتاب النفس ،و من كتب أخرى .و سنذكر بعضه في الفصلين الثالث و الرابع بحول الله تعالى .
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
 
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59