مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم
أولا : من أخطاء أرسطو المتعلقة بالإنسان و الحيوان
ثانيا : حقيقة موقف أرسطو من المنهج التجريبي .
مظاهر جناية أرسطو على العقل و العلم
توسع أرسطو في علم وظائف الأعضاء عند الإنسان و الحيوان ، ضمن كتاباته في علوم الطبيعة ، كعلمي الفلك و الجغرافيا . فوقع في أخطاء كثيرة جدا ، بعضها يتعلق بالحقائق العلمية ، و بعضها الآخر يتصل بالانحرافات المنهجية المتعلقة بأبجديات و شروط منطق البحث و الاستدلال في مجال علوم الطبيعة: التزاماً و ممارسة و نتيجة .
أولا : من أخطاء أرسطو المتعلقة بالإنسان و الحيوان:
نُخصص هذا المبحث لأخطاء أرسطو و انحرافاته المنهجية المتعلقة بالإنسان و الحيوان من جهة علم وظائف الأعضاء و ما يتصل به . و سنذكر منها نماذج كثيرة جدا ، و سنوردها في ثماني مجموعات ، بحول الله تعالى .
الأولى تتعلق بالمني و الحمل، و الجنين و الولادة ، و تتضمن ثمانية نماذج . الأول مفاده أن أرسطو قسّم المني إلى نوعين من جهة كثافته : رقيق ، و جامد يشبه البَرَد ، الأول موافق لولادة الإناث ، و الثاني موافق أكثر لولادة الذكور. و قبل كلامه هذا نصّ على أنه (( ليس يكون ولد من المني الرقيق )) [1] . لكنه وصف المني أيضا بأنه لا يجمد بما فيه من الهواء ، لأن الهواء لا يجمد[2] .
و وصف المني بأنه رطوبة من الرطوبات ، و هو فضلة طعام يُحتاج إليه ، و فضلة الغذاء الأخير. و قد سوى بينه و بين طمث النساء ، فقال : (( إن الطمث الذي يعرض للنساء فضلة من الفضول، و المني أيضا فضلة )) [3] . ثم قال : إنه تبين بالوجوب بأن المني (( هو فضلة غذاء ، و فضلة الغذاء الأخير )) ، بمعنى أن المني يتكون من فضلة الغذاء الدمي الأخير الذي اكتمل نضجه و طبخه ، فيخرج بغير لون الدم ، لكن عندما يُكثر الرجل الجماع و يُجهد نفسه فيه يخرج المني دميا غير ناضج . فالمني يتكون من فضلة الغذاء الدمي الأخير- أي الناضج – و هو الذي يفترق في أعضاء الجسم[4] .
و أقول: أولا إن نوع الجنين لا علاقة له بكثافة المني من رقته ، لأن المسئول عن نوع الجنين هو الرجل ، لأن منيه يحمل الخاصيتين ، و هذا سنفصله لاحقا إن شاء الله تعالى . و هذا يعني أنه لا دخل هنا لكثافة المني من رقته ، في تحديد نوع الجنين ، و لهذا معظم الرجال لهم أطفال من الجنسين . و عليه فإن قول أرسطو و تعليله لا يصح و غير علمي . علماً بأن كلام أرسطو فيه تناقض ، فهو نفى أن يكون ولد من المني الرقيق ثم عاد و نقض ذلك .
و ثانيا إنه لا تصح المقارنة بين الطمث و المني ، لأن الطمث انتهى دوره عندما يخرج من المرأة ، فيخرج ليُرمى ، لكن المني لم ينته دوره ، فهو يخرج أساسا للقيام بمهمة الإخصاب ، فهو ليس فضلة ، كحال الطمث من جهة ، كما أن الطمث هو بقايا فاسدة من دم و مكونات بطانة الرحم ، لكن المني يخرج حيا كاملا طازجا لم يفسد ، و لم يحدث له ما حدث للطمث من جهة أخرى . و المني ليس فضلة من جهة أصل تكوّنه ، ولا عند خروجه ، و لا هو فضلة بمعنى أنه يُرمى للتخلص منه كالفضلات و السموم التي يرميها الجسم ليتخلص منها ، كالعَرَق ، و البراز ، و البول ،و دم الحيض .
و الرجل مُخلّط و مّضطرب في وصفه للمني بأنه فضلة ، فمرة سوى بين المني و الطمث بأنهما فضلة ، و هذا يعني أنه قصد بهما أنهما فسدا و فقدا وظيفتيهما ، و يجب التخلص منهما . و مرة أخرى وصفه بأنه فضلة غذاء ، و فضلة الغذاء الأخير الدمي ، الذي اكتمل نضجه ،و هذا يُخالف الوصف الأول !!.
و الحقيقة أن الرجل أخطأ في تفسيره لطريقة تكوّن المني ، فزعم أن المسألة هي مسألة طبخ و نضج في الدم ، فإذا لم ينضج جيدا فهو مني دمي ناقص ،و إذا نضج فهو مني كامل غير دمي . و هذا لا يصح ، لأن الرجل أغفل ما تقوم به الخصية في تكوين المني ، لأن الدم ليس هو الذي يكوّن المني ،و إنما هو يُغذي الجسم و يُطهره من سمومه . و الخصيتان- كغيرهما من أعضاء الجسم- تأخذان منه الغذاء ، ثم تتوليا إنتاج النُطاف- المني -، و الهورمونات الذكرية التي تحتاجها[5] .
و ثالثا ليس صحيحا أن المني لا يجمد ، فهذا الرجل يتكلم بلا تثبت و لا تجربة،و إنما يتكلم من رغباته و تأملاته ، و ظنونه و تحكماته . و هو كان قد وصف النوع الثاني من المني بأنه جامد، و هذا يُناقض قوله بأن المني لا يجمد . و ربما يُقال : إنه قصد بذلك أنه كثيف جدا، و ليس أنه يجمد . و هذا مبرر له وجه صحيح ، لكنه لا يعفي صاحبه من التناقض في التعبير ، و هو مسئول عنه . و المهم هو أن المني يتجمد كغيره من السوائل مع اختلاف درجات تجمدها ، و في زماننا يُجمد مني الرجل و يُخزن في المخابر ، لأغراض كثيرة ، كإجراء التجارب ، و استخدامه مُستقبلا ،و نقله لاستخدامه في مكان آخر[6] .
و ليس صحيحا أن وجود الهواء ضمن مكونات المني هو الذي يمنعه من التجمد . لأن الهواء يتكون من عدة غازات ، و هي قابلة للتجمد ، كما يحدث في الماء و هو مُكون أساسا من غازين ، هما : الأكسجين و الهيدروجين ، و مع ذلك فهو يجمد . و نفس الأمر ينطبق على السوائل الأخرى ، فهي كلها مُكونة من غازات . و يبدو أن أرسطو قال ذلك و أخطأ فيه ، بسبب تأثره بإلهياته الزائفة ، فقد سبق أن ذكرنا أنه جعل الهواء من العناصر الأزلية البسيطة التي لا تقبل التغير و لا الفناء ،و لهذا قال بأن الهواء لا يجمد . و هذا مثال واضح على تأثير إلهيات أرسطو في صاحبها ، فأوردته الموارد ، و أفسدت عليه جانبا كبيرا من فكره و سلوكه .
و النموذج الثاني- من أخطاء المجموعة الأولى – مفاده أن أرسطو زعم أن أرحام جميع الحيوانات مُجزأة إلى قسمين مثل (( تجزّئ أنثى الذكورة بجزأين )) . و عندما تكلم عن الحيوان الكثير الأرجل قال : (( و لذلك يُظن أن يكون رحمه واحدا ليس مُجزءاً ، و عِلة ذلك عِظم الجسد لأنه متشابه من ناحية ))[7] .
و أقول: قوله هذا غير صحيح ، و فيه تناقض صارخ ، لأنه أصدر حكما عاما بأن أرحام جميع الحيوانات مُجزأة إلى قسمين دون أن يستثني من حكمه أي حيوان ، ثم يعود و ينقضه بظن يتعلق بالحيوان كثير الأرجل بأنه ربما كان له رحم واحد !! . و الرجل قد أخطأ في حكمه الأول من جهتين : النتيجة ، و القياس ، فمن جهة النتيجة فرحم المرأة ليس مُجزءاً إلى قسمين، و إنما هو مُكوّن من قسم واحد كما هو موضح في الصورتين رقم : 01، 02 . و كذلك رحم أنثى الفيل ، فرحمها يتكون من قسم واحد فقط ، كما هو مُبين في الصورة رقم : 03 . هذا فضلا عن أن الحيوانات البياضة ليس عندها رحم واضح كأرحام الثدييات ، لأنها لا تحتاج إليه ، و كثير منها رحمها عبارة عن قناة لا غير، كما هو في الأسماك مثلا [8].
[1] أرسطو : طباع الحيوان ، حققه عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1977 ، ص: 464 .
[2] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 62 .
[3] أرسطو : كتاب طبائع الحيوان ، المقالة : 14 ، ص: 127 . و في كون الحيوان ، 32، 35 .
[4] في كون الحيوان ، ص: 35 ، 36 .
[5] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : التكاثر البشري ، الخصية :
[6] الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الاستيلاد .
[7] أرسطو : في كون الحيوان ، ص: 6 .
[8] أنظر : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الأسماك .