#1  
قديم 11-03-2012, 12:50 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي إدغار آلان بو - العبقري سيء الحظ


لا يُعد الأدب الأمريكي عريقاً وأصيلاً تاريخياً كباقي الآداب العالمية، لأنه أدب حديث جداً، فمع أن أمريكا تم اكتشافها من قبل (كريستوفر كولومبوس) عام (1492) إلا أن بدايات الأدب الأمريكي تعود إلى السنوات الأولى من القرن السابع عشر، وكان كتَّابه الأوائل من الإنكليز، أو من الأوروبيين المتأثرين بالآداب الأوروبية، ولم تكن كتاباتهم أدبية بالمعنى المعروف لنا، وإنما كانت على شكل تقارير وأوصاف للأراضي الجديدة المكتشفة. وكان أسلوبها جاداً وبلغة رسمية تميل للنمط السياسي أو الصحفي أكثر الأحيان، وإن شاب بعضها مسحة أدبية ظاهرة.. ولم يأخذ الأدب الأمريكي صبغته الأمريكية الخاصة إلا في القرن الثامن عشر وما بعد، حيث أخذ ينتشر ويزدهر ويصبح معروفاً للعالم، وخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين.. وأول ما اشتهر منه الرواية والقصة ثم تبعها المسرح والشعر. وقد ظهرت أسماء أدبية عديدة في سماء أمريكا، من روائيين وقصصيين وشعراء ومسرحيين ونقاد كلهم نالوا الشهرة الواسعة داخلياً وخارجياً، ومن الصعب جداً تعدادهم كلهم، ولكننا سنتناول من هذه الأسماء اسم شخصية أدبية مرموقة ومعروفة وهي شخصية (إدغار آلان بو) حيث سنحاول إلقاء الضوء على سيرته وعلى أعماله الأدبية والشعرية، فهو من الأدباء الذين تفتخر بهم أمريكا اليوم. والغريب أنه لم تكن له هذه الشهرة العظيمة في حياته، وإنما جاءته بعد موته، وقد جاءته ليس عن طريق بلده، وإنما عن طريق نقاد وأدباء أوروبيين، عرفوا قيمة أدبه وشعره فاهتموا به وامتدحوه.

العبقري 6-504a00d694e3d.jpg


ويعود الفضل الأول، في التعريف به، وتقديمه إلى أوروبا والعالم، إلى الشاعر الفرنسي الشهير (بودلير)، الذي ترجم أعماله إلى اللغة الفرنسية. ففي مقدمة ترجمته لقصص بو والتي سماها (قصص جديدة خارجة عن المألوف) يجعل (بودلير) من بو مثالاً لفكر ما قبل الرمزية، ونموذجاً يحتذى لأنصار الفن للفن، إنه يرى فيه ما يثير اهتمامه شخصياً. أما (فاليري) فيرى أن بو يجسد حتى الكمال الاتجاه القائم على السيطرة على سيرورة الإبداع واختزاله، ليغدو تلاعباً بالقواعد، بدلاً من أن يدع سلطة المبادرات في يد الإلهام الأعمى. وكرست (ماري بونابرت) من أجل بو واحدة من دراساتها الأكثر شهرة، والأكثر إثارة للجدل، في مجال النقد التحليلي النفسي، ويصور هذا العمل تصويراً جيداً كافة التعقيدات النفسية الكبرى المكتشفة حديثاً. وقرأ (باشلار) بو على أنه سيد الخيال المادي. أما (جان ريكاردو) فرأى فيه أحد أشياع فن الجناس التصحيفي، وكان (بودلير) و(دوستوفسكي) من أكبر المعجبين بـ(بو)، لكنهما لم يقدِّرا على ما يبدو أهميته كلها. كانت ترد على لسان (بودلير) كلمة (الاستثناء) لكنه يضيف قائلاً بعدها على الفوز: (في النظام الأخلاقي). ويؤكد قائلاً: "ما من رجل آخر روى استثناءات الحياة البشرية والطبيعة بسحر أكبر". ولكنه كان يكتفي إثر ذلك بتعداد بعض العناصر الموضوعية. ويقول (دوستوفسكي) شيئاً مماثلاً: "إنه يختار على الدوام تقريباً الواقع الأشد ندرة، ويضع بطله في موقف موضوعي أو نفسي غير مألوف على أبعد حد".
إن بو هو مؤلف الأقصى والمتطرف والمتفوق. إذ يمضي بكل شيء حتى حدوده القصوى، بل إلى ما ورائها، إن كان ذلك ممكناً. ولا ينصب اهتمامه إلا على الأكبر أو الأصغر على النقطة التي تبلغ فيها صفة ما درجتها القصوى، أو النقطة التي توشك فيها أن تتحول إلى عكسها. إنه المبدأ نفسه الذي يحدد مظاهر عمله الأكثر تنوعاً. وقد يكون ذلك ما قام (بودلير) بتلخيصه على أفضل وجه في العنوان الذي ابتكره للعمل (قصص خارجة عن المألوف).
لقد أسهم بو بإسهامات هامة في الأدب الأمريكي، عبر ثلاثة مجالات، هي القصة القصيرة والنقد الأدبي والشعر. وقد كانت له ابتكارات وإبداعات جديدة في هذه المجالات سنأتي على ذكرها من خلال سيرة حياته ودراسة قصصه وشعره ونقده.
حياته وأعماله:
ولد إدغار آلان بو في( 19/كانون الثاني/1809) في مدينة( بوسطن)، وكان أبواه يعملان ممثّلين، وقد توفيا وهو في الثالثة من عمره، فكفله تاجر تبغ في (ريتشموند) بولاية (فرجينيا) وكان من الأثرياء ويدعى (جون آلان) فأخذ عنه ثاني أسمائه. وقد عني التاجر بتعليمه حتى وصل إلى المرحلة الجامعية. ولكنه عانى كثيراً من ظلمه وقسوته، حتى أنه كان يضربه بالعصا. ولعل هذه المعاملة القاسية هي التي جعلت بو ينصرف إلى الخمر والميسر، وإلى القراءة والمطالعة بشكل نهم.
كان بو قد اجتاز العام الأول في دراسته الجامعية حين اختلف مع التاجر، بسبب انصرافه للخمر والميسر، فطرده التاجر من منزله ورفض أن يوصي له ببنس واحد من ماله، رغم ثرائه. فهاجر بو إلى (بوسطن) في سنة( 1827) وهو معدم. وهناك نشر أشعاره فلم تلق نجاحاً. وفي عام 1833 ظهرت قصته بعنوان (سيدة موجودة في زجاجة)، وهي تظهر كيف أنه برع في فن القصة القصيرة، سيما وأنه كتبها حين كان يبلغ العشرين من العمر. وقد تكرر موضوع هذه القصة البحرية الغريبة في العديد من قصصه فيما بعد: مغامر وحيد تصادفه أشياء نفسية ومادية مرعبة.
في هذه الفترة التحق بو بالكلية الحربية الأمريكية في (وست بوينت) إلا أنه سرعان ما طُرد منها، بعد إحالته إلى مجلس عكسري، لأنه تجاهل جميع القواعد المرعية، وجلس في غرفته بالمعسكر يقرض الشعر، في الوقت الذي كان يتعين فيه عليه أن يحمل بندقيته ويكون في طابوره في ساحة العرض العسكري. وعاش، بعد ذلك، مع عمة له في (بلتيمور) ثم تزوج من ابنتها (فرجينيا كليم). وكان زواجه منها من أغرب القصص. فقد تزوج منها في وقت لم يكن يملك شيئاً، كما وقد ارتاب بعض الناس في أنه هو بدوره نصف مجنون. واجتمع فيه إدمان الخمر والفقر، فكان يحتسي كحولاً رديئاً. على أن أغرب ما في قصة زواجه أن سنّه كانت ضعف سنّ زوجته. فقد كان هو في السادسة والعشرين وهي في الثالثة عشرة. وطبعاً كان من المتوقع أن ينتهي زواجه هذا بكارثة سريعة محققة. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. بل حدث نقيضه. إذ كان زواجه تجربة عاطفية ناجحة كل النجاح. فلقد أحب زوجته الطفلة إلى درجة الجنون. وألهمه حبه الخالد لها أروع المقطوعات الشعرية التي أضافت ثروة إلى الأدب الأمريكي. وفي هذه الفترة نجح بو ككاتب قصصي. وأفسحت له المجلات صدرها. وقد اشتهر بقصص الرعب أولاً، حيث كانت طريقته تبدأ بوضع الشخصية في موقف غير عادي، ثم يصف بعناية أحاسيسها المتعلقة بالرعب، أو الذنب، كقصته التي كتبها عام (1841) بعنوان (الحفرة والبندول) والتي أتبعها عام (1843) بقصتين هما (القلب الواشي) و(القطة السوداء). وتعتبر روايته (انهيار منزل أشر) الصادرة عام (1839) من أفضل رواياته، وهي مثال ناجح على نظريته في القصة القصيرة: "وحدة الأثر هي كل شيء".
وكما اشتهر بو بقصص الرعب، اشتهر أيضاً بقصصه البوليسية، ويعتبره النقاد أول من كتب القصة البوليسية، وفتح الباب على مصراعيه لمن أتى بعده من كتاب القصة البوليسية. وسوف نتحدث عن ذلك عند الحديث عنه ككاتب قصصي. ومع أنه اشتهر وذاع صيته كأديب وشاعر، وبرع في قصص الذعر والخوف، وفي القصص البوليسية، إلا أنه ظل يعاني من الفقر والفاقة، وسوء الحظ، وهذا زاد في إفراطه في احتساء الخمر، وأخذت صحته تتأثر وتضعف.
وكان قد انتقل مع زوجته إلى (جران كونكورس) في (نيويورك)، وأقاما في كوخ متداعي الأركان، والشيء الجيد والوحيد في الكوخ هو أنه كان، آنذاك، في منطقة ريفية تحتضنه أشجار التفاح. وعندما كان الربيع يزحف قادماً من الجنوب، كان الهواء يهب مشبعاً بعبير زهر البنفسج، وأريج الكرز والتفاح. وقد أستأجره بو باثني عشر شلناً في الشهر. وحتى هذا المبلغ الضئيل لم يكن يستطيع دفعه، فقد كان في أغلب الشهور لا يدفع إيجاراً على الإطلاق. بل إنه كان عاجزاً حتى عن توفير الغذاء لزوجته، رغم مرضها بالسل. فكانا يقضيان الأيام تلو الأيام على الطوى. حتى إذا بدأ العشب ينمو في فناء المنزل اقتطفاه وسلقاه ثم أكلا منه أياماً متوالية. وأخيراً اكتشف الجيران أن بو وزوجته على شفا الموت جوعاً، فقدموا إليهما سلالاً محملة بالأغذية.
كان بو يجد السلوى في ملكة الشعر، وزوجته تجد السلوى في ملكة الحب، وقد كانا سعيدين برغم فقرهما المفجع. ومن المضحك المبكي أنه باع قصيدته الخالدة والمشهورة (الغراب) إلى إحدى الصحف بجنيهين اثنين. ونسختها المخطوطة الأصلية بيعت، بعد موته، بعشرات الألوف من الجنيهات. فهل هناك أسوأ من حظ بو؟!
في ذلك الكوخ، في (نيويورك)، ماتت زوجة بو، في شهر كانون الثاني من عام 1847. وقد ظلت قبل موتها، شهوراً طريحة في فراشها المصنوع من القش، لا يستر جسدها من الملابس ما يكفي لدفئها. فكانت إذا اشتدت عليها وطأة البرد والمرض، عمدت أمها إلى تدليك يديها وزوجها إلى تدليك قدميها، ثم غطى بو جسدها المنتفض بردائه العسكري القديم البالي، الذي بقي له من مخلفات أيام دراسته في الكلية الحربية في (وست بوينت). فإذا ما جن الليل تحايل المسكين على قطه الأليف كي يصعد فيرقد عند قدمي المريضة ليدفئهما. وعندما ماتت زوجته، لم يكن بو يملك نفقات دفنها، ولولا عطف محسن من الجيران لأرسلت جثتها إلى مدافن (بوتر) حيث كانت تدفن جثث المعوزين. كان موت زوجته ضربة قاصمة وقعت على رأس بو، وكأن الحظ التعس الذي واجهه طول حياته لم يكتف بكل ذلك حتى سلبه زوجته ******ة. لقد حزن عليها حزناً لا يوصف، ومن حزنه هذا وشوقه الدائم إليها، انبثقت أجمل قصيدة حب جاشت بها مشاعر رجل نحو زوجته:
لا يسطع القمر إلا ويعيد إليّ أحلام حسنائي الجميلة (أنابيل لي)...
ولا تتألق النجوم إلا وأشعر بصفاء عيني حسنائي الجميلة (انابيل لي...)
وهكذا، طوال الليل، أرقد بجوار حبيبتي... حبيبتي،
حياتي وعروسي... في ضريحها هناك بجوار البحر
في قبرها بقرب البحر الصاخب.
وازدادت على بو الآلام الأحزان، وأخذت صحته تتدهور أكثر فأكثر، وزاد في كل ذلك إقباله على الخمر والمخدرات بشكل مفرط. وفي السابع من شهر تشرين الأول عام (1849) وفي أحد شوارع (بلتيمور) وجد بو ميتاً.
وهكذا انتهت حياة إنسان عبقري كان من أنبغ الروائيين العاطفيين، ذوي الأسلوب الأخاذ الذين نظموا الشعر الغنائي أو ألفوا القصص الغامضة المحبوكة. وكان مقدراً له أن يقف بخطى جبارة عبر صفحات الأدب الأمريكي، ولكن سوء الحظ الذي لازمه طوال حياته كان يقف سداً منيعاً أمام سعادته ونجاحه.
إدغار آلان بو القصصي:
نسج بو من القصص، ونظم من الشعر، ما قدر له أن يحتل مكانة رفيعة بين روائع الأدب، وكنوز العالم الفكرية. ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يبيع هذه الأمجاد الأدبية الخالدة بما يكفيه لشراء الخبز القفار. وقد تجاهلت أمريكا القرن التاسع عشر، أو حاولت أن تتجاهل، أهمية بو. لأن الأمريكيين، في ذلك الوقت، كانوا مغرقين في وطنيتهم. وكانوا يشعرون في أغلب الأوقات أن فن بو هو فن غريب جداً عنهم، حتى أنهم لم يتمكنوا من فهم تلك الإثارة التي صنعها في فرنسا، خاصة وأنه كان له تأثير مهم على عدد من الشعراء الفرنسيين الكبار، أمثال (بودلير) و(رامبو).
يعود الفضل في التعريف بعبقرية بو إلى (بودلير)، كما ذكرنا سابقاً، فإذا ما قرأنا للمرة الأولى المجلدات الثلاثة لحكايات بو، التي ترجمها (بودلير) إلى الفرنسية بعنوان (قصص جديدة خارجة عن المألوف، سمجة وجادة)، استرعى انتباهنا تنوعها الكبير جداً. فنحن نجد إلى جانب الحكايات الخارقة والشهيرة جداً مثل (القط الأسود، أو متزنجر شتاين) حكايات تبدو صادرة عن توجه معاكس، كان بو نفسه يصفها بالمشاكسة، مثل (الخنفسة الذهبية) أو (الرسالة المسروقة) وتتجاور في المجلد نفسه قصص تمثل مقدماً جنس الرعب او الهلع مثل (هوب – فروغ، قناع الموت الأحمر). مع قصص أخرى تنتمي إلى جنس (السمج) مثل (الملك طاعون،الشيطان في برج الكنيسة). وقد تفوق بو في حكاية المغامرات الخالصة مثل (البئر والرقاص، نزول إلى ميلستروم) على قدر تفوقه في جنس وصفي وسكوني مثل (جزيرة الجنية، مجال أرنهايم). وليس ذلك كل شيء، إذ ينبغي أن نضيف حوارات فلسفية مثل (قدرة الكلام، محاورة بين مونوس وأونا). وكذلك حكايات رمزية مثل (الصورة البيضوية، ويليام ويلسون).
كان بو، أيضاً، واحداً من الذين أوجدوا القصة البوليسية الحديثة، فبدلاً من أن تقوم هذه القصص بدراسة الشخصيات والأحاسيس، فإنها تعمل على دراسة المشاكل والغموض، وتشمل هذه الأمثلة (جرائم قتل في شارع مورغ) الصادرة عام (1841) و(سر ماري روجيت) الصادرة عام (1842) و(الرسالة المسروقة) الصادرة عام (1845) و(الخنفسة الذهبية) الصادرة عام (1843). وباستثناء (الخنفسة الذهبية) فإن كل قصة من هذه القصص بطلها نفس بطل القصص الأخرى، وهو المفتش الفرنسي اللامع (دوبان). وتعتبر هذه الشخصية واحدة من مبتكرات بو الرائعة. ويرينا المؤلف كيف يعمل عقل (دوبان) بذكاء لامع. وقد كتبت هذه القصص بأسلوب واقعي سهل. وربما كان هذا هو السبب الذي يقف وراء شهرة وذيوع صيت هذه القصص أكثر من قصص الرعب التي كتبها.
وبو، كذلك، كان رائداً في قصة الخيال العلمي مثل (مغامرة لا مثيل لها، لواحد يدعى هانس بيغال). وتنوع قصصه هذا من شأنه أن يضلل هاوي التصنيفات. وقد عبر (دوستوفسكي) عن سر هذا التنوع قائلاً: "هنالك خاصية في قدرته على التخيل، ليست متوفرة لسواه. والذي يدقق في معظم قصص بو يجد أنها متشائمة سوداء، تفوح برائحة الموت والقتل. ولعل ذلك يعود إلى حياته البائسة الشقية. فهو يستخدم الأداة القاطعة في القتل في قصة (القط الأسود)، والخنق في (القلب الكاشف) والسم في (شيطان الانحراف)، والحبس انغلاقاً في (برميل أمونيلا دو)، والنار في (هوب – فروغ)، والماء في (سر ماري روجيه).
أما قدرية الموت الطبيعي فموضوع متكرر باستمرار، جماعياً كان أم فردياً. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتهديد بموت قريب. وغالباً ما تدور رموز بو حول الموت. أما حوارياته الفلسفية فموضوعها الحياة بعد الموت. وهناك، أيضاً، وجه من وجوه الموت، يمارس على بو سحراً خاصاً، ذلك هو دفن شخص ما حياً. إنه دفن ناجم عن الرغبة في القتل، كما في (برميل أمونتيلا دو) أو في إخفاء الجثة كما في (القلب الكاشف) و(القط الأسود). أما الحالة الأشد تأثيراً، فالدفن يقع فيها عن طريق الخطأ، حيث يجري دفن الحي على أنه ميت. فتلك هي حال (مادلين أشر) في رواية (انهيار منزل أشر). وفيها تعود (مادلين) ثانية من القبر إلى المنزل. إن بطلات بو دائماً يعدن من القبر بوسائل مختلفة. ففي قصة (ليجيا) الصادرة عام (1838) نرى أن شبح زوجة البطل الأولى يعود إلى الحياة عبر سرقة جسد زوجته الثانية.
ومن العبث البحث لدى بو عن لوحة تصور الحياة الأمريكية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. فسير الأحداث يقع عادة في قصور ريفية صغيرة وقديمة، أو في قلاع مشؤومة، أو بلاد بعيدة ومجهولة. وأما الديكور لدى بو فهو شرطي على نحو تام. إنه ما يتطلبه سير الأحداث. هنالك مستنقع على مقربة من منزل أشر، كي يمكن للمنزل أن يهوي فيه، لا لأن المنطقة تشتهر بكثرة مستنقعاتها. لقد أبدع بو أشكالاً جديدة، واستكشف أماكن مجهولة.. ومن المؤكد أن إنتاجه هامشي بالضرورة. ولحسن الحظ، يبقى في كل عصر، قراء يفضلون الهوامش على المركز.
إدغار آلان بو الشاعر:
انعكست حياة بو البائسة والمتشائمة على شعره. لذلك نلمس الحزن والألم والمعاناة في معظم قصائده. وبو يعتبر من الشعراء الكبار الأمريكيين. وشعره الرائع مألوف ومشهور، ليس في أمريكا وحدها فقط، وإنما في خارجها أيضاً. وهو دقيق في اختيار كلمات قصائده وتنقيحها باستمرار، حتى لتشعر بحرارتها وموسيقاها تنساب من بين كلماتها وأسطرها. فقد استغرق في كتابة قصيدته الخالدة (الغراب) وفي تنقيحها حوالي عشر سنوات، وقد صدرت عام (1845)، وهي قصيدة طويلة رائعة، يقول فيها:
والغراب الجاثم دون حراك،
ما يزال رابضاً على تمثال (بالاس) النصفي الشاحب
فوق باب حجرتي،....
وفي عينيه كل مخايل شيطان يحلم...
وضوء المصباح الذي ينساب فوقه
يلقي ظله على الأرض.
أما أهمية الأشعار التي كتبها بو فإنها تكمن في الناحية الصوتية أكثر من محتواها، فقد كان يقوم بالكثير من التجارب، وباستخدام العديد من الطرق ليجعلها موسيقية. وحدد الشعر على أنه "إبداع موزون للجمال". حتى أن الأسماء التي يستخدمها كانت ذات جرس موسيقي، مثل: ليونور، أولالوم، أولالييه. ففي قصيدة (أجراس) الصادرة عام (1840) نراه يختار كلماته بسبب نوعية أصواتها، وما عليك إلا محاولة قراءتها بنفسك بصوت عال، وكذلك سماع رنين أجراس المركبة الجليدية، وموسيقى وقع أقدام الخيول فوق الثلوج:
كيف ترن، ترن، ترن
في هواء الليل المثلج!
حين انتثرت النجوم
كانت السماء كلها تتوهج
بحبور كانت تتبلور.
وبنفس الأسلوب، وفي قصيدة (الغراب)، يسمح لنا الإيقاع الشعري بسماع صوت منقار الطائر وهو ينقر الباب:
حينما كنت أحني رأسي، غافياً تقريباً،
أتاني صوت نقر، كأن شخصاً لطيفاً يقرع باب غرفتي
ويسأل الشاب التعيس فيما إذا كان سيلتقي
ثانية محبوبته التي توفيت (ليونور)،
ويأتيه جواب الطائر الأسود بشكل آلي: "بعد ذلك لا.
كان بو يشعر أن الهدف الحقيقي للشعر هو "السرور وليس الحقيقة". غير أن السرور بالنسبة له لا يعني السعادة. فضلاً عن ذلك فإن القصيدة الجيدة تخلق في القارئ شعوراً بالحزن الرقيق. ففي قصيدته الصادرة عام (1847) بعنوان (أولالوم) والتي تتحدث مثل قصائده الأخرى عن امرأة جميلة هي الآن في عداد الأموات، نجد بو يمزج الحزن والرعب. ومرة ثانية نجد أن الإيقاع الصوتي هو أكثر أهمية من الموضوع (الصراع بين الحب الروحي وبين الحب المادي).
إدغار آلان بو الناقد:
إن النقد الأدبي عند بو هو ناحية مهمة جداً أيضاً. وكتاباته النقدية لمجلة (رسول الأدب الجنوبي) كانت تقرأ في كل مكان في أمريكا. لقد أراد أن يقدم مساعدته من أجل تطوير الأدب القومي لبلد ناشئ، وأحس أن النقد الفكري هو المفتاح لذلك. فكان يكره الكتب والكتابات السيئة. وغالباً ما كان نقده صحيحاً. غير أنه مثل (جيمس رسل لوويل) تشكّى من هؤلاء الكتاب، ووصفهم بأن لهم "برودة براهين ومظاهر الرياضات" وهذا الأمر خلق له أعداءً عديدين، حتى أن العديد من الكتاب تابعوا الهجوم عليه بعد وفاته، ورووا العديد من الأكاذيب عن حياته الخاصة.



المصدر : الباحثون العدد 63 - أيلول 2012
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
آلان, الحظ, العبقري, سحم, إدغار


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع إدغار آلان بو - العبقري سيء الحظ
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الحظ ي*** لـ 3 صيادين 3 ملايين دولار Eng.Jordan أخبار منوعة 0 11-14-2016 11:14 AM
آلان غريش: السيسي باع الوهم للمصريين Eng.Jordan شذرات مصرية 0 10-09-2016 08:49 AM
دليل أمان فيس بوك Eng.Jordan مواقع التواصل الاجتماعي 0 11-21-2012 02:23 PM
الحظ Eng.Jordan الملتقى العام 0 11-19-2012 01:04 PM
نـمْ فالحوادث كلهن أمان ! جاسم داود شذرات إسلامية 3 07-18-2012 11:01 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:24 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59