#1  
قديم 02-01-2021, 09:55 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي المستشرقون والسيرة النبوية


الكتاب: المستشرقون والسيرة النبوية
المؤلف: عماد الدين خليل
الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1426 هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ـ[المستشرقون والسيرة النبوية]ـ
المؤلف: عماد الدين خليل
الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1426 هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
________________________________________
الكتاب: المستشرقون والسيرة النبوية
المؤلف: عماد الدين خليل
الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1426 هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
________________________________________
ملاحظات أساسية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

1
يجب أن نلاحظ في البداية أنّ المسلم- مهما كانت درجة ثقافته- يتعامل مع معطيات السّيرة وفق ما يمكن اعتباره شبكة من البدهيات والمسلّمات.. وهي لم تأت إليه مباشرة عن طريق الأخبار والروايات التاريخية التي قد يكون بعضها ضعيفا وبعضها الآخر مشكوكا فيه.. بل إن بعض المسلمين لم يقرأ في حياته كتابا تاريخيا واحدا عن محمد عليه الصلاة والسلام.. إنما جاءته بطرق أكثر حيويّة كانت أشبه بالروافد المتدفّقة التي تتشكّل لكي تصير نهرا، من خلال تعامله مع القرآن والحديث، ومن خلال تجربته الإيمانيّة التي تحتّم عليه أن يكون على معرفة طيبة بسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال عرف اجتماعيّ ثقافيّ عام، يقوم على خطوط عريضة وتفاصيل متفق عليها تماما بصدد أحداث السيرة.. من خلال تقليد زمنيّ؛ تتناقل بواسطته حقائق السيرة من جيل مسلم إلى آخر.. من خلال تعاطف وتقدير دينيّين إزاء كل ما يتعلّق بحياة الرسول عليه الصلاة والسلام..
وبالنسبة للمثقّف الأكثر تخصّصا، فإنّ توغّله في الحقائق التاريخيّة للسيرة يضيف رافدا آخر- ولا شك- إلى هذه الروافد جميعا.
(1/5)
________________________________________
ولكنّ هذه الروافد كافة، ما تلبث أن تتجمّع لكي تجعل موقف المسلم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا. أيّا كان موقع هذا المسلم، اللهم إلّا في حالات استثنائية تقتصر على الخارجين على الإسلام بهذه الدّرجة أو تلك، وعلى بعض الدارسين الذين تلقّوا تأثيرات مضادة عن مصادر غير إسلامية.
إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجا صريحا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور.
هذا مع أن معالجة واقعة تمتد جذورها إلى عالم الغيب، وترتبط أسبابها بالسماء، ويكون فيها (الوحي) همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله الكريم، ويتربّى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكونوا تعبيرا حيّا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعدهم.. واقعة كهذه لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرّات والعناصر في مختبر للكيمياء.. أو كما تعامل الخطوط والزوايا في المساحات على تصاميم المهندسين، بل ولا كما تعامل الوقائع التاريخيّة التي لا ترتبط بأيّ بعد دينيّ أصيل..
إننا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثّرات تندّ عن حدود مملكة العقل، وتستعصي على التحليل المنطقيّ الاعتياديّ المألوف، ومن ثم فإنّ محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينا، ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينا آخر فحسب، بل إنه يقوم بما يمكن اعتباره جريمة
(1/6)
________________________________________
قتل بشكل من الأشكال، أو محاولة تفحّص الجسد البشري كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدا عن تأثيرات الروح وتعقيدات الحياة..
إن الدين، والغيب، والروح، لهي عصب السيرة وسداها ولحمتها..
وليس بمقدور الحسّ أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلّا بمقدار.. وتبقى المساحات الأكثر عمقا وامتدادا، بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل والمنطق..
إنّنا- ونحن نناقش هذا المستشرق أو ذاك في حقل السيرة النبوية- يجب أن ننتبه إلى هاتين النقطتين مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخيّ وأصوله.
إنه من خلال رؤيته الخارجية، وتغرّبه، يمارس نوعا من التكسير والتجريح في كيان السيرة ونسيجها، فيصدم الحسّ الديني، ويرتطم بالبداهات الثابتة.. وهو من خلال منظوريه العقليّ والوضعيّ يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة ويعاملها كما لو كانت حقلا ماديا للتجارب والاستنتاجات، وإثبات القدرة على الجدل..
وهو في كلتا الحالتين لن يخدم الموقف الإسلاميّ الجاد من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أو يحتل موقفا جادا منها بوجه من الوجوه.

2
لنحاول أن نقرّب المسألة أكثر.. إنّ العمل المعماريّ الكبير إذا أقيم على أسس خاطئة فإنه سيفقد شرطين من شروطه الأساسية: التأثير الجمالي الذي يمكّنه من أداء وظيفته الوجدانية، والمقومات العلمية التي تمكّنه من أداء وظيفته الحيوية.
إن البحث في (السيرة) بوجه خاصّ، ليستلزم أكثر من أيّة مسألة أخرى في التاريخ البشري هذين الشرطين اللذين يمكن أن يوفّرهما منهج متماسك
(1/7)
________________________________________
سليم يقوم على أسس علميّة موضوعيّة لا يخضع لتحزّب أو ميل أو هوى..
ويمتلك عناصر جماليّته الخاصّة التي تليق بمكانة الرسول المتفرّدة، ودوره الخطير في إعادة صياغة العالم بما يردّ إليه الوفاق المفقود مع نواميس الكون والحياة..
وقد كانت مناهج البحث الغربيّ (الاستشراقيّ) في السيرة تفتقر إلى أحد هذين الشرطين أو كليهما.. وكانت النتيجة أبحاثا تحمل اسم السيرة وتتحدث عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحلّل حقائق الرسالة، ولكنها- يقينا- تحمل وجها وملامح وقسمات مستمدة من عجينة أخرى غير مادّة السيرة، وروح أخرى غير روح النبوّة.. ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة.
إن نتائجها تنحرف عن العلم لأنها تصدر عن الهوى، وتفقد القدرة على مسامتة عصر الرسالة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقل تأثيراتهما الجمالية بالمستوى العالي نفسه من التحقق التاريخي.. لأنها تسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس عصر تنسخ كل ما هو جميل، وتزيّف كلّ ما هو أصيل، وتميل بالقيم المشعّة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الظلمة، أو تؤول إلى البشاعة!!.

3
يجب أن نلاحظ أن الفهم الجادّ للسيرة يقتضي منهجا يقوم على طبقات أو أدوار أو شروط ثلاثة، وإن افتقاد أو تهديم أيّ واحد منها يلحق ضررا فادحا في مهمة الفهم هذه..
فأمّا الطبقة الأولى الأساسية فهي الإيمان، أو على الأقلّ احترام المصدر الغيبيّ لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة (الوحي) الذي تقوم عليه..
(1/8)
________________________________________
وأما الطبقة الثانية فهي اعتماد موقف موضوعيّ بغير حكم مسبق، يتجاوز كل الإسقاطات التي من شأنها أن تعطّل عمليّة الفهم.
وأما الطبقة الثالثة فهي (تقنية) صرفة تقوم على ضرورة الإحاطة الجيّدة بأدوات البحث التاريخيّ: بدا باللغة وجمع المادّة الأوّلية، وانتهاء بطرائق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب.. إلى آخره..
وإذا كان الغربيون قد بلغوا حد التمكن والإبداع في هذه الدائرة الأخيرة، فإنهم في نهاية الأمر لم يستطيعوا أن يقدّموا أعمالا علميّة بمعنى الكلمة لواقعة السيرة، ولا قدروا حتى على الاقتراب من حافّة الفهم، بسبب أنهم كان يعوزهم التعامل الأكثر علميّة مع الدائرتين الأوليين: احترام المصدر الغيبيّ، واعتماد الموقف الموضوعيّ.. بصدد النقطة الأولى فإنّه يصعب علينا أن نطلب من الغربيين النصارى والمادّيّين- وبخاصة الأخيرين منهم- التحقّق بإيمان كهذا.. بل إنه أمر يكاد يكون مستحيلا.. ولكن من ناحية علمية، بالمفهوم الشامل للعلم، فإنّه لا بدّ من هذا التحقق إذا أريد إدراك واقعة السيرة ومتابعة حبكة نسيجها ذي الخلفية الغيبية، باعتباره حركة دين سماويّ قادم من (فوق) وليس تجربة بشرية متخلّقة في تراب الأرض.
أما بصدد الدائرة الثانية، فإنّ مما يؤخذ على الباحث الغربيّ تجاوزه (الموضوعية) في مناهج تعامله مع السيرة.. فلو أنه حاول التزامها، وحرر عقله من عوامل الشد الزمنية والمكانيّة والمذهبيّة والنفسيّة، ولو أنه قدر على تجاوز النسبيّات وضغوط الإسقاطات المرحلية، فإنه كان سيتمكن من تقديم أعمال أنضج بكثير، وأقرب إلى روح الواقعة، وتركيبها، وإيقاعها..
إن منهج البحث في السيرة للمؤرخ الغربي أو المستشرق، يمثل بحد ذاته جدارا يصدّه عن الفهم الحقيقيّ لوقائع السيرة ونسيجها العام..
(1/9)
________________________________________
4
إن مناقشة أيّ من المستشرقين الذين تناولوا السيرة، على مستوى التفاصيل والجزئيات التاريخيّة والعقديّة، لا تغني شيئا، لأنها ستكون بمثابة نقد موقوت يتحرّك على السطح، ويستهلك نفسه في الجزئيات؛ دون أن يبحث عن الجذور العميقة التي تظلّ تنبت الشوك والحسك.
والجذور العميقة هي المنهج الخاطئ الذي تقوم عليه أبحاث هؤلاء المستشرقين فإذا استطعنا أن نضع أيدينا على عيوب المنهج وشروخه استطعنا معرفة المنبع الذي يتمخّض عنه تيّار الأخطاء الموضوعيّة، وخلخلة الأسس التي آتت هذه الثمار المرّة واقتلاعها.. لكي تنظّف الأرضيّة ويمهد الطريق.. ويحين اليوم الذي تعالج فيه السيرة وفق منهج عدل يعرف كيف يتعامل مع سيرة نبيّ ليست كالسّير يقينا..

5
هنالك ملاحظة جديرة بالالتفات، بالرغم أنها على قدر كبير جدا من الوضوح، لكن الوضح الشديد قد يؤدّي إلى الخفاء كما يقول المثل المعروف..
إنّ بحث المستشرقين- بصفة عامة- في السيرة لا يحمل عناصر اكتماله منذ البداية، بل إنه ليشبه الاستحالة الحسابيّة المعروفة بجمع خمس برتقالات مثلا- مع ثلاثة أقلام.. إذ لا يمكن أن يكون الحاصل ثمانية.. إن هنالك خلافا نوعيا لا يمكّن الأرقام من أن تتجمع لكي تشكّل مقدارا موحدا..
إنّ المستشرقين- بعامة- يريدون أن يدرسوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفق حالتين تجعلان من المستحيل تحقيق فهم صحيح لنسيج السيرة ونتائجها وأهدافها التي تحرّكت صوبها والغاية الأساسية التي تمحورت حولها..
(1/10)
________________________________________
فالمستشرق بين أن يكون علمانيا، ماديا، لا يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهوديا أو نصرانيا لا يؤمن بصدق الرسالة التي أعقبت النصرانية..
وإذ كانت السيرة، في تفاصيلها وجزئياتها، تنفيذا تاريخيا لعقيدة الإسلام ذات المرتكزات الغيبية، بل ذات التداخل بين المغيّب والمنظور في السدى واللحمة، وإذ كانت بمثابة دعوة سماوية أخيرة، جاءت لكي توقف النصرانية المحرّفة عن العمل وتحلّ محلّها، بما تتضمّنه من عناصر الديمومة والحركية والاكتمال.. فإنّ ثمّة جدارا فاصلا يقف بين المستشرقين- سواء أكان من الصنف الأول، أم من الصنف الثاني- وبين فهم السيرة.
ومهما أعمل المستشرق قدراته العقليّة، ومهما اجتهد في تحليلاته المنطقيّة، ومهما استنفر إمكاناته التقنيّة وحاول الإفادة مما يسمى بالعلوم المساعدة أو الموصلة للحقيقة التاريخيّة، ومهما ادعى من حياد وموضوعيّة، فإنه غير واصل البتّة إلى تقديم صيغة أقرب إلى الكمال لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولن يكون غريبا، أو يعد تجاوزا على الواقع، القول: إن أعمال المستشرقين في السيرة، على تألّق بعضها وعمقه وغنائه، لا يمكن أن ترقى بحال إلى المصاف الأول من الأبحاث الجادة، ولا يمكن إلّا أن تظلّ في الخطّ الثاني أو الثالث، وربما العاشر، إذا وجد المستشرق نفسه ينساق بفجاجة وراء تعصبه النصراني كما فعل لامانس، أو وراء تصوّره المادي للكون والعالم والحياة كما فعل بندلي جوزي.. إنها لا تغدو أبحاثا حين ذاك ولكن عبثا بمقدساتنا باسم العلم، وتحويلا للسيرة لكي تكون حقلا لتجارب العقل النقدي الغربي «1» ونحن يجب أن نرفض التعامل مع هذا العبث وأن نرفض حتى النظر فيه.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: مونتغومري وات: محمد في مكة، الصفحات 166- 178، 183- 189، 233- 235.
(1/11)
________________________________________
إنه يجب أن نضع هذه الحقيقة في الحسبان كي لا نسبح في بحر الجزئيات المتلاطمة دون أن نعرف الحدود النهائية، والملامح الأساسية، والصورة الشاملة (لوضع البحث الاستشراقي) إزاء سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ولن يرضى مسلم جاد أن يبقي عقيدته مفتوحة لدخول الريح الصفراء..

6
بما أن وقائع السيرة هي بمثابة التشكّل التاريخي والواقعي لعقيدة الإسلام: قرآنا وسنّة ورصيدا تشريعيا، وبما أنها البيئة الزمنية والمكانية لفعالية محمد صلى الله عليه وسلم النبي المبعوث عن الله سبحانه للعالم جميعا، فإنّه يصعب من الوجهة الإسلامية اعتبارها مسألة تاريخية صرفة تخضع لأساليب النقد والتحليل التي تعامل بها مراحل التاريخ المختلفة، والمناهج البشريّة النسبيّة التي تحاول أن تجعل الواقعة التاريخية مسألة مختبرية، أو معملا للتشريح..
إن السيرة، إذا اعتبرت كذلك، قاد هذا الاعتبار إلى خطأين أساسيين:
أما أولهما: فهو استحالة فهمها ما دام أنها أكبر من المناهج النسبية وأكثر شمولا، وما دامت تستعصي على أساليب النقد والتحليل المحدودة القاصرة.
وأما ثانيهما: فهو فتح الطريق أمام خصوم الإسلام لتدمير الثقة بمنطلقاته الأساسية، وأيّ منطلق، بعد القرآن الكريم، أكثر ثقلا وأكبر أهميّة من السيرة: بيئة التخلّق الإسلامي على كل المستويات، وتشكّله واكتماله؟
لذا فإنه- من الناحية المبدئية- يجب على المثقف المسلم رفض القبول النهائيّ لنتائج بحوث المستشرقين في حقل السيرة.. لأنها مهما تكن على درجة من الحياديّة والنزاهة؛ فإنها لا بدّ وأن تسقط الخطأين آنفي الذكر:
القصور عن الفهم وتدمير الثقة بأسس هذا الدين.
ولكن ما دام أن بحوث المستشرقين أمر واقع، وهي تغطي مساحات في السيرة واسعة في مجال البحث التاريخي، وتفرض ثقلها في الدوائر
(1/12)
________________________________________
الأكاديميّة التخصصيّة بعامة، وما دام أن في بعض هذه البحوث لمحات منهجية وموضوعية قد تمنحنا المزيد من الإدراك لنسيج السيرة، وتعطينا المزيد من الأدوات المعينة على الفهم، فلا بأس أن نتعامل معها على هذا الأساس، وليس أبدا على اعتبار أنها صيغة مقبولة في التعامل الدراسي مع سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام.
ومن أجل ألّا يختلط الأسود بالأبيض، وتمرّر على العقل المسلم معطيات المستشرقين المنحرفة وأخطاؤهم المكشوفة أو المستترة، كان لا بدّ من تقديم العديد من الدراسات النقدية لهذه المعطيات، تكون بمثابة مصدر إنارة للمسلم في هذا الدرب المعتم الطويل..

7
«إن (مونتغمري وات) يحاول ما وسعه الجهد أن يكون الباحث (الجديد) الذي يتجاوز أخطاء أسلافه ومعاصريه، بل إنه ليخطو خطوة أخرى، لم يسبقه بها أحد من أقرانه، فيسعى إلى التحقق بقدر من الاحترام والحيادية إزاء الجذور الغيبيّة لحقائق السيرة ووقائعها، يقول في مقدمة كتابه (محمد في مكة) : «فيما يتعلق بالمسائل الفقهيّة التي أثيرت بين المسيحية والإسلام فقد جهدت في اتخاذ موقف محايد منها، وهكذا بصدد معرفة ما إذا كان القرآن الكريم كلام الله أو ليس كلامه امتنعت عن استعمال تعبير مثل: (قال تعالى) ، أو (قال محمد) في كل مرة أستشهد فيها بالقرآن، بل أقول بكل بساطة: (يقول القرآن) .... وأقول لقرائي المسلمين شيئا مماثلا، فقد ألزمت نفسي، برغم إخلاصي لمعطيات العلم التاريخي المكرّس في الغرب، ألاأقول أي شيء يمكن أن يتعارض مع معتقدات الإسلام الأساسية» «1» .
__________
(1) المرجع السابق، ص 5- 6.
(1/13)
________________________________________
ويعلق المستشرق البريطاني المعروف (سير هاملتون جب) على الكتاب قائلا: بأنّه يجعل القارئ يشعر بأنه كتبه رجل عاش بالخيال تجربة محمد في مكة أكثر من أي كاتب سابق، يضاف إلى ذلك تنظيمه الدقيق لمواد البحث الذي يعد إضافة جديدة قيمة لدراسة أصول الإسلام. لقد اهتم الكتاب خاصة يقول جب- بالأرضية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعلاقاتها بنظريات القرآن الدينيّة. ولهذا يؤمّل أن يؤدّي إلى تقدير حق لهذا القائد العظيم أكثر في الغرب مما مضى «1» !!. من أجل هذا وقع الاختيار عليه، لأن الآخرين من المستشرقين الذين افتقدوا بعض شروط البحث الجادّ، قد نوقشوا كثيرا؛ فضلا عن أن بحوثهم لم تعد تستحق ذلك العناء الكبير الذي عوملت به في العقود السابقة بسبب وضوح تناقضاتها وإلحاحها في ملاحقة ما تتصوّره أخطاء والتشبّث بها، كالمغناطيس الذي يمسك بقطع الحديد المتناثرة..
ثم إن (الدفاع) عن الحقائق الإسلامية العقيدية والتاريخية إزاء أخطاء الآخرين وتحريفاتهم ليس أكثر أهمية من تقديم أعمال بنائيّة، وإنه ليجب التأكيد باستمرار على حقيقة أن العمل التاريخي الجادّ بحاجة إلى البناة، الذين يملكون الحسّ النقدي بطبيعة الحال، أكثر من النقاد، ذلك أن جوانب كثيرة من تاريخنا وحضارتنا لا تزال تنتظر من يكشف النقاب عنها، أو يعيد عرضها بالأسلوب الذي يقدمها كما تحققت فعلا، أما ملاحقة دراسات الآخرين كشفا عن خطأ فيها، ودفاعا عن قيمة ما في تاريخنا وفكرنا وعقيدتنا، فيبدو أمرا ثانويا يجب ألّا يحتلّ الخطّ الأماميّ إلّا بعد أن يتم القدر الأكبر من مساحات البناء وتكويناته.
ومع ذلك فإن العملية النقدية- ما دامت تتضمن قدرا من الإنجاز البنائي في جانب ما من جوانب العقيدة أو التاريخ- تغدو جديرة بالممارسة هي الآخرى، شرط ألّا تكون هدفا بحدّ ذاتها.
__________
(1) من تعليق جب الذي اعتمده الناشر على غلاف كتاب (محمد في مكة) .
(1/14)
________________________________________
باختصار فإنّ التوجّه الأكثر أهميّة وجدوى يجب أن يتجاوز الدفاع المتشنّج إزاء كل ما طرحه الخصوم حول هذه النقطة وأن تكون في مجرى التاريخ والعقيدة الإسلامية صوب أبحاث في تكوين التاريخ والحضارة والعقيدة والشريعة، نظما وصيرورة وأعمالا بنائيّة، في هذا الجانب أو ذاك لتقدّم بذاتها القناعات الموضوعيّة التي تتهافت عندها مقولات الخصوم «1» .
ومن ثمّ، واستنادا إلى ذلك كله؛ وقع الاختيار على (وات) في واحد من كتابيه المعروفين عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو (محمد في مكة) .. ولم أشأ أن أتناول الكتابين معا لسببين: أولهما: أن حجم المادة سيتضاعف ولا شك، مما لا يسمح به مجال كهذا الذي أتاحه المجلد الخاص بالمستشرقين.
وثانيهما: إني سأضطر- حينذاك- لوضع القارئ أمام حشد كبير من الشواهد والنصوص قد تمثل في جوهرها تكرارا لمعان محدّدة.. فما دام أن المنهج في الكتابين واحد، وأن الخلل الذي يعانيه هذا المنهج واحد كذلك في الكتابين، فإن التعامل مع أحدهما سيغني بالضرورة عن التعامل مع الآخر.
فهل قدر الرجل على تنفيذ أمنيته التي طرحها في مقدمة بحثه؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نقوم بعرض مركّز للأدوار التي مرّت بها الحركة الاستشراقيّة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والملامح الأساسية في مناهجها، لكي نعرف على وجه التحديد موقع (مونتغمري وات) على خارطة الاستشراق، وبخاصة على مستوى (المنهج) .
__________
(1) انظر: كتاب (فصول في المنهج والتحليل) للمؤلف، فصل (حول تداول السلطة في العصر الراشدي) .
(1/15)
________________________________________
تطوّر الموقف (الغربيّ) من السيرة
(1/17)
________________________________________
1
بدأ الموقف (الغربيّ) من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يتشكّل في إطار دينيّ صرف، مترع بالتعصّب والتشنّج والانفعال، مليء بالحقد والغضب والكراهية، تحيطه جهالة عمياء متعمّدة حينا وغير متعمّدة أحيانا جعلت بين القوم وبين شخصية رسولنا عليه الصلاة والسلام سدّا يصعب اختراقه، والنتيجة ليست أبحاثا تاريخية علمية أو موضوعية بحال.. إنما ذلك السيل المنهمر من الشتائم والسباب مارسها رجال دين من قلب الكنيسة النصرانية باتجاهاتها كافة.. ومارسها رجال علمانيّون لا علاقة لهم بالكنيسة من قريب أو بعيد، وقد استمر هذا التيار حتى العصر الراهن.
ماذا كانوا يقولون عن رسولنا عليه الصلاة والسلام، وعن رسالته؟
يصعب على المرء أن يسرد ما قالوه حتى على سبيل الاستشهاد ...
ولكن ما دام أن ناقل الكفر ليس بكافر، فلا بأس من الإشارة- بإيجاز- إلى بعض الشواهد، نتلقّاها عن أناس حديثي عهد بهذا العصر، بل إن بعضهم لا يزال حيا.
يقول المونيسنيور كولي في كتابه (البحث عن الدين الحق) : برز في الشرق عدو جديد؛ هو الإسلام الذي أسس على القوة وقام على أشد أنواع التعصّب، ولقد وضع محمد السيف في أيدي الذين تبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب. ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات في الجنة. وبعد قليل أصبحت آسية الصغرى وإفريقية وإسبانية فريسة له. حتى إيطالية هددها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسية لقد أصيبت المدنية؛ ولكن انظر!! ها هي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سدّا في وجه سير الإسلام المنتصر عند بواتييه (752 م) ، ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى قرنين تقريبا
(1/19)
________________________________________
(1099- 1254 م) في سبيل الدين، فتدجّج أوربة بالسلاح وتنجي النصرانية، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة «1» .
ويقول المسيو كيمون في كتابه (ميثولوجيا الإسلام) : «إن الديانة المحمّدية جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا. بل هو مرض مروع وشلل عام وجنون ذهني يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن معاقرة الخمور (!!) ويجمح في القبائح. وما قبر محمد في مكة (!) إلّا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع (الهستريا) ، والذهول العقلي، وتكرار لفظة (الله الله) إلى ما لا نهاية، وتعود عادات تنقلب إلى طباع أصيلة؛ ككراهية لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة، والفجور في الملذّات» «2» .
ويقول جويليان في كتابه (تاريخ فرنسة) : «إن محمدا، مؤسس دين المسلمين، قد أمر أتباعه أن يخضعوا العالم، وأن يبدّلوا جميع الأديان بدينه هو، ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيين والنصارى! إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح أراحوا النفوس ببرهم وإحسانهم. ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنا مسلمين كالجزائريين والمراكشيين» «3» .
__________
(1) عن النصوص السابقة ولمزيد من التفاصيل انظر: د. محمد البهي: الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 507- 521، ليوبولد فايس (محمد أسد) : الإسلام على مفترق الطرق، ص 60 فما بعد، عمر فروخ ومصطفى الخالدي: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، توفيق الحكيم: تحت شمس الفكر ص 18 فما بعد، مجلة البلاغ الكويتية، عدد 58 ص 12. مجلة البعث الإسلامي الهندية، عدد 9 السنة الثامنة.
(2) ينظر الهامش السابق.
(3) الهامش السابق.
(1/20)
________________________________________
وجاء في كتاب (تقدّم التبشير العالمي) الذي ألفه الدكتور غلوور ونشره في نيويورك سنة (1960 م) ، في نهاية الباب الرابع: «إن سيف محمد والقرآن أشد عدو وأكبر معاند للحضارة والحريّة والحق، ومن بين العوامل الهدّامة التي اطلع عليها العالم إلى الآن» «1» ، وقال: «القرآن خليط عجيب من الحقائق والخرافات، ومن الشرائع والأساطير، كما هو مزيج غريب للأغلاط التاريخيّة والأوهام الفاسدة، وفوق ذلك هو غامض جدا لا يمكن أن يفهمه أحد إلّا بتفكير خاص له.. والذي يعتقده المسلم أن المعبود هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فالله ملك جبّار متسلّط، ليست له علاقة مع خلقه ورعاياه، برغم أن الإسلام يذكر الرابطة الموجودة بينهما» «2» .
ثم ينتقد غلوور شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: «كان محمد حاكما مطلقا، وكان يعتقد أن من حق الملك على الشعب أن يتبع هواه ويعمل ما يشاء، وكان مجبولا على هذه الفكرة، فقد كان عازما على أن يقطع عنق كل من لا يوافقه في هواه. أما جيشه العربي فكان يتعطّش للتهديد والتغلّب، وقد أرشدهم رسولهم أن يقتلوا كل من يرفض اتباعهم ويبعد عن طريقهم» «3» .
ويعتقد سفاري الذي ترجم القرآن سنة (1752 م) «أن محمدا قد لجأ إلى السلطة الإلهية لكي يدفع الناس إلى قبول هذه العقيدة، ومن هنا طالب بالإيمان به كرسول لله، وقد كان هذا اعتقادا مزيّفا أملته الحاجة العقليّة ... » «4» .
__________
(1) الهامش السابق.
(2) عن النصوص السابقة، ولمزيد من التفاصيل انظر: د. محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص 507- 521، ليبولد فايس (محمد أسد) : الإسلام على مفترق الطرق ص 60 فما بعد، عمر فروخ ومصطفى الخالدي: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، توفيق الحكيم تحت شمس الفكر ص 18 فما بعد، مجلّة البلاغ الكويتية، عدد 58 ص 12، مجلة البعث الإسلامي الهندية، عدد 9 السنة الثامنة.
(3) انظر الهامش السابق.
(4) انظر الهامش رقم 2.
(1/21)
________________________________________
وهذا يكفي. لقد جاءت هذه الأقوال إفرازا طبيعيا للصراع المحتدم بين الإسلام والصليبيّة. وقد كان للنتائج التي تمخّضت عنها الحروب الصليبيّة طعم مر في حلوق الغربيّين ما ذاقوه أبدا.. إن ليوبولد فايس «محمد أسد» يتحدث عن التجربة التي استحالت معضلة في مناهجهم يصعب تجاوزها فيقول: «فيما يتعلق بالإسلام، فإن الاحتقار التقليديّ أخذ يتسلّل في شكل تحزّب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربة والعالم الإسلامي (منذ الحروب الصليبيّة) غير معقود فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزآ أساسيا من التفكير الأوربي. والواقع أن المستشرقين الأوّلين في الأعصر الحديثة كانوا مبشّرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوّهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيّين من الوثنيّين. غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير.. ولم يبق لعلوم الاستشراق هذه عذر من حميّة دينيّة جاهليّة تسيء توجيهها. أمّا تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية، بكل ما لها من ذيول، في عقول الأوربيّين «1» .
ليست الحروب الصليبيّة وحدها، لكنه الإسلام نفسه. إن الخطر الحقيقيّ، كما يقول لورنس براون في كتاب أصدره عام (1944 م) : «كامن في نظامه، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويّته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي» «2» .
ونقرأ في مجلة العالم الإسلامي (عدد حزيران سنة 1930 م) : «إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربيّ. ولهذا الخوف أسباب؛
__________
(1) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
(2) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
(1/22)
________________________________________
منها: أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عدديا، بل كان دائما في ازدياد واتساع. ثم إن الإسلام ليس دينا فحسب، بل إن من أركانه الجهاد، ولم يتفق قط أن شعبا دخل في الإسلام ثم عاد نصرانيا» «1» .
والمستشرق الألماني بيكر يقولها بصراحة: «إن هناك عداء من النصرانيّة للإسلام بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدا منيعا في وجه انتشار النصرانيّة، ثم امتد في البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها» «2» .
2
وفي موازاة هذا التيّار الكهنوتي المتعصّب الذي يفتقد أيّ قدر من الرغبة في التعرّف على حقيقة الإسلام وشخصيّة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي أعقاب عصر الإصلاح الدينيّ، وفيما بعد خلال عصر التنوّر وانفصال الدين عن الدولة، وحتى القرن العشرين، توالت على المسرح أجيال من المعنيّين بالدراسات الإسلامية عامة، وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم خاصّة، وقد عرف هؤلاء بالمستشرقين؛ كان بعضهم ينتمي إلى الكنيسة ويرتدي ملابس الكهنوت، ولكن كان أغلبهم مدنيا ولا تربطه بالكنيسة رابطة وظيفية.. وكان يتوقع أن تخف حملاتهم على رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن تتغيّر نظرتهم في تعاملهم مع شخصيته وتاريخه وتعاليمه..
نعم، لقد حدث شيء من هذا، ولكنه ما تعدى التشذيب والتهذيب، وتجاوز كلمات الفحش والسباب، أما المنهج فقد ظلّ هو المنهج: جهلا بتركيب السيرة، وتعصّبا في التعامل معها، وتحليلات واستنتاجات ما أنزل الله
__________
(1) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة 21.
(2) انظر الهامش رقم (2) في الصفحة 21.
(1/23)
________________________________________
بها من سلطان، يؤكدها الواحد منهم المرّة تلو المرّة، ويجتمع القوم عليها حتى لتكاد تغدو عندهم يقينا من اليقين على الرغم من أنها بنيت أساسا على الوهم الذي تستحيل معه رؤية الحقائق، بحجمها الطبيعي، وعلى الرغم من أنها انبثقت عن زاوية رؤية ضيّقة مترعة بالتعصّب، ونظر إليها عبر منظار قد دخّن عليه سلفا، وعلى الرغم من أنها في أحسن الأحوال، قد بنيت على شواهد تاريخية ولكنها ليست- بحال- الشواهد المتواترة ذات الثقل، وإنما هي الشاذ الغريب الذي يتشبثون به لكونه يشبع في نفوسهم وعقولهم حاجة.
وعموما فإننا نستطيع أن نضع أيدينا على عدد من الأخطاء والثغرات المنهجيّة لهذه البحوث الاستشراقيّة، ونشير هنا، على وجه التحديد، إلى ثلاث من هذه الثغرات:

أولا: المبالغة في الشكّ، والافتراض، والنفي الكيفيّ، واعتماد الضعيف الشاذّ:
يكاد يكون هذا الملمح الأساسيّ في مناهج المستشرقين قاسما مشتركا أعظم بينهم جميعا.. إنهم يمضون مع شكوكهم إلى المدى، ويطرحون افتراضات لا رصيد لها من الواقع التاريخيّ، بل إنهم ينفون العديد من الروايات، لهذا السبب أو ذاك؛ بينما نجدهم يتشبّثون- في المقابل- بكل ما هو ضعيف شاذ.. «لقد غالوا في كتاباتهم في السيرة النبويّة، وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك (في وقائعها) ، وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو تمكّنوا لأثاروا الشك حتى في وجوده، ولكنهم مهما قالوا في نسبة التاريخ الصحيح في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن سيرته هي أوضح وأطول سيرة نعرفها بين سير جميع الرسل والأنبياء» «1» .
ويشير درمنغهم إلى هذه المسألة فيقول: «من المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء المتخصّصين- من أمثال: موير ومرغوليوث ونولدكه وشبرنجر
__________
(1) د. جواد علي: (تاريخ العرب في الإسلام) : جزء 1 ص 9- 11.
(1/24)
________________________________________
ودوزي وكيتاني ومارسين وغريم وغولد زيهر وغود فروا وغيرهم- في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص، ولا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة ولن تقوم سيرة على النفي، وليس من مقاصد كتابي أن يقوم على سلسلة من المجادلات المتناقضة.. ومن دواعي الأسف أن كان الأب لامانس- الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّبا، وإنه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن؛ فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلا من أن يؤكّد أحدهما الآخر» «1» .
إنّ هذا يقودنا إلى موقف بعض المستشرقين من القرآن الكريم كمصدر أساسيّ من مصادر السيرة، وذلك أن اعتماد القرآن الكريم في هذا المجال يمكن أن يعدّ سلاحا ذا حدّين، ويتمثّل الحدّ السلبيّ بنفي الكثير من أحداث السيرة ما دامت لم ترد في القرآن الكريم، وكأن القرآن كتاب تاريخي خاص بتفاصيل حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا مكّنهم من عملية انتقاء مغرضة ذات طابع هدمي معاكس، وهي التشكيك، أو نفي كل رواية لم ترد مؤيداتها في القرآن، ولا سيّما إذا كان في هذه الرواية تمجيد للنبي صلى الله عليه وسلم، أو كان في نفيها تأكيد لإحدى وجهات النظر الاستشراقية، فمثلا نجد شبرنكر يرى أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم ورد في أربع سور من القرآن؛ هي: آل عمران والأحزاب ومحمد والفتح، وكلها سور مدنيّة، ومن ثم فإن لفظة (محمد) لم تكن اسم علم للرسول قبل الهجرة، وإنما اتخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتصاله بالنصارى «2» .
__________
(1) حياة محمد، المقدمة، ص 8- 11.
(2) انظر: جواد علي، تاريخ العرب: 1/ 78 وهوامشها.
(1/25)
________________________________________
وقد يتوجب أن نسأل شبرنكر هنا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد التقط اسم (محمد) من خلال قراآته لنبوآت الإنجيل، فأين ذهب- إذن- (محمد) الحقيقي الذي بشر به العهدان القديم والجديد؟!
هنالك مثل آخر: إن إسرائيل ولفنسون يشير، بصدد مهاجمة يهود بني النضير، إلى أنّ مؤرخي العرب يذكرون سببا آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهودية، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، (لكن المستشرقين يقول ولفنسون- ينكرون صحة هذه الرواية، ويستدلون على كذبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير) «1» .
إننا في مجال التشكيك والنفي الاعتباطي لا بدّ أن نذكر العبارة التي قالها (مونتغمري وات) - موضوع هذه الدراسة- بهذا الصدد: «إذا أردنا أن نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد محمد، فيجب علينا في كل حالة من الأحوال التي لا يقوم الدليل القاطع على ضدها، أن نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب ألاننسى أيضا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وأنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه «2» .
ونحن نستطيع أن نضع أيدينا على عشرات بل مئات من الشواهد على النفي الكيفي الذي مارسه المستشرقون، وبخاصة أجيالهم السابقة، إزاء وقائع السيرة؛ فبروكلمان- على سبيل المثال- لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة، ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أشد ساعات محنته، لكنه يقول: «ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضا على كل حال» «3» ، ويتغاضى إسرائيل ولفنسون عن دور نعيم بن مسعود في معركة الخندق كسبب في انعدام الثقة بين المشركين
__________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، ص 135- 137.
(2) محمد في مكة، ص 94.
(3) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 53- 54.
(1/26)
________________________________________
واليهود «1» ، ولعله يريد أن يوحي بذلك أن اليهود لا يمكن أن يخدعوا!
ليس الشكّ والنفي الاعتباطيّ وحدهما، ولكنه الاعتماد على الروايات الضعيفة الشاذّة التي قد لا تصمد أمام النقد: «لقد أخذ المستشرقون- كما يقول الدكتور جواد علي- بالخبر الضعيف في بعض الأحيان وحكموا بموجبه، واستعانوا بالشاذ والغريب وقدموه على المعروف المشهور. استعانوا بالشاذ ولو كان متأخّرا، أو كان من النوع الذي استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشكّ» «2» .

ثانيا: إسقاط الرؤية الوضعية، العلمانيّة، والتأثيرات البيئيّة المعاصرة على الوقائع التاريخيّة:
إنه من المتعذّر بل من المستحيل، كما يؤكّد آتيين دينييه «أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة. وأنهم- لذلك- قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يخشى على صورتها الحقيقية من شدّة التحريف فيها، وبرغم ما يزعمون من اتّباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد؛ فإننا نجد- من خلال كتاباتهم- محمدا يتحدّث بلهجة ألمانيّة إذا كان المؤلف ألمانيا، وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا.. وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب! وإذا بحثنا في هذه السيرة عن الصورة الصحيحة فإننا لا نكاد نجد لها من أثر.
إن المستشرقين يقدمون لنا صورا خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (وولتر سكوت) و (إسكندر ديماس) ، وذلك أن هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المستشرقون
__________
(1) تاريخ اليهود في بلاد العرب، ص 145- 146.
(2) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 8- 11.
(1/27)
________________________________________
فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة؛ فصوّروهم حسب منطقهم الغربي، وخيالهم العصري..» ، وما يلبث دينييه أن يضرب مثلا معاكسا فيقول: «ما رأي الأوربيين في عالم من أقصى الصين يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرّخي الفرنسيين ويمحّصها بمنطقه الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشليو) كما نعرفها ليعيد إلينا (ريشيليو) آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين وسماته وطبعه؟ إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويخيّل إلينا أننا نسمع محمدا يتحدّث في مؤلّفاتهم إما باللهجة الألمانيّة أو الإنكليزيّة أو الفرنسية ولا نتمثّله قط، بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّث عربا باللغة العربية» ، وينتهي المستشرق الفرنسي- الذي أعلن إسلامه- إلى القول: «إن صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقول الإسلامي تبدو أجلّ وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة التي صيغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد» «1» .
ويشير الدكتور جواد علي إلى أن كيتاني، وهو من كبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعتمد منهجا معكوسا في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفق منهج خاطئ من أساسه، إذ إنهم يبيّتون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعد ما دون ذلك، فلقد كان كيتاني (ذا رأي وفكرة) وضع رأيه وفكرته في السيرة قبل الشروع في تدوينها فإذا شرع بها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيّما ما يلائم رأيه، ولم يبال في الخبر الضعيف بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة، وبنى حكمه عليه، ومن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنه عفا عنها وغضّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة
__________
(1) محمد رسول الله، المقدمة، ص 27- 28، 43- 44.
(1/28)
________________________________________
كانت، وكيف يتمكن من إثباتها وإظهارها وتدوينها إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجة نقد وجرح وتعديل على أساليب البحث الحديث» ؟ «1» .
وترد في ختام كتاب آتيين دينييه (الشرق كما يراه الغرب) بعض الآراء حول هذا المنهج حيث يقول: «لقد أصاب الدكتور سنوك هيرغرنجه بقوله:
(إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضيّ عليها بالعقم إذا سخّرت لآية نظرية أو رأي سابق) . هذه حقيقة يجمل بمستشرقي العصر جميعا أن يضعوها نصب أعينهم؛ فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التي تكلّفهم من الجهود ما يجاوز حد الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة.
فقد يحتاجون في تأييد رأي من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا وهذا أمر لا ريب مستحيل. إن العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامح والميول..
إلى آخره، ولا سيّما إدراك تلك القوى الباطنة التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات» «2» .
وفضلا عن هذا نجد أن الطابع العلمانيّ الوضعيّ، والرؤية المحدودة للمناهج الغربيّة في تعاملها مع تأريخنا، أوقع عددا من المستشرقين في خطأ آخر؛ مفاده: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطو خطوة واحدة وهو يعلم مسبقا ما الذي يليها، أي أن نشاطه كانت توحي به الظروف الراهنة ومتطلباتها ولوازمها، وأبرز مثل في هذا المجال ما ذكره فلهاوزن وعدد من رفاقه حول إقليميّة الحركة الإسلامية في عصرها المكّيّ، وأنها لم تنتقل إلى المرحلة العالمية- في العصر المدني- إلّا بعد أن أتاحت لها الظروف ذلك، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليفكر بذلك من قبل.
__________
(1) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 95.
(2) محمد رسول الله، المقدمة، ص 43- 44.
(1/29)
________________________________________
وما قالوه حول اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب (اللاعنف) في العصر المكّي، وتحوّله إلى القوة بعد أن شكّل دولة في المدينة وتجمّع حوله المقاتلون: «لقد كان في وسع محمد (يقول فلهاوزن) - من طريق عقيدة تتجاوز دائرة معتنقيها الدائرة التي ترسمها رابطة الدم- أن يحطّم رابطة الدم هذه؛ لأنها لم تكن بريئة من العصبيّة وضيقها، ولا كانت ذات صيغة خارجيّة عارضة. هذا هو الذي جعلها لا تتّسع لقبول عنصر غريب عنها، ولكن محمدا لم يرد ذلك، ومن الجائز أيضا أنه لم يكن يستطيع أن يتصوّر إمكان رابطة دينيّة في حدود غير حدود رابطة الدم» «1» .
ويرفض سير توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) هذه الرؤية الخاطئة فيقول: «من الغريب أن ينكر بعض المؤرّخين أن الإسلام قد قصد به مؤسّسه في بادئ الأمر أن يكون دينا عالميا برغم هذه الآيات البينات.. «2»
ومن بينهم السير وليم موير إذ يقول: إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد. وإن هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكّر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنه فكّر فيها فقد كانت الفكرة غامضة؛ فإن عالمه الذي كان يفكر فيه، إنما كان بلاد العرب، كما أن هذا الدين الجديد لم يهيّأ إلّا لها. وأن محمدا لم يوجه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أن نواة عالمية الإسلام قد غرست، ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فإنما يرجع ذلك إلى الظروف والأحوال أكثر منها إلى الخطط والمناهج» «3» .
ويجيب أرنولد: «لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب، بل
__________
(1) الدولة العربية وسقوطها، ص 4.
(2) يستشهد أرنولد بالآيات التالية: سورة 36 آية 69- 70، سورة 21 آية 107، سورة 25 آية 1، سورة 24 آية 7، سورة 61 آية 9.. إلى آخره.
the caliphate ,pp. 43 -44 (3) وكايتاني آخر من يؤيد هذا الرأي.annali dell islam ,v. 323 -423 عن أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، هامش 2 ص 49- 50.
(1/30)
________________________________________
للعالم أجمع نصيب فيها، ولم يكن هناك غير إله واحد، كذلك لا يكون هناك غير دين واحد يدعى إليه الناس كافّة» «1» .
ولم يقف أرنولد وحده بمواجهة هذا الخطأ الواضح؛ إنما هناك كولدزيهر ونولدكه وسخاو الذي يؤكد: «إن الرسالة الإلهية ليست مقصورة على العرب، بل إن إرادة الله تشمل جميع المخلوقات، ومعنى ذلك خضوع الإنسانية كلّها خضوعا مطلقا. وقد كان لمحمد بوصفه رسولا من الله حق المطالبة بهذه الطاعة، وقد كان عليه أن يطالب بها، وهذا ما ظهر في أوّل الأمر جزآ لا ينفصل من جملة ما أراد تحقيقه من مبادئ» «2» .
ويرفض آرنولد الخطأ الآخر الذي يرى: «أن محمدا قد تحوّل إلى القوة بمجرّد أن واتته الظروف، وهو رأي قد صرّح به نقلا عن فلهاوزن بعض الباحثين، ولا سيّما ميور لدى حديثه عن غزوة بني قريظة» «3» .
إلّا أن آرنولد لم ينج من الوقوع في الخطأ نفسه عندما يقول: «كانت رغبة محمد ترمي إلى تأسيس دين جديد، وقد نجح في هذا السبيل ولكنه في الوقت نفسه أقام نظاما سياسيا له صفة جديدة متميزة تميزا تاما، وكانت رغبته بادئ الأمر مقصورة على توجيه بني وطنه إلى الاعتقاد بوحدانية الله» «4» .
إن فهم السيرة لا يمكن أن يتمّ إلّا وفق نظرة شموليّة تدرس حركة الإسلام كخطوات في برنامج شامل مرسوم في علم الله، ومحدد في قرآنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن سوى منفّذ لهذا البرنامج بأسلوب يعتمد على قدراته وأخلاقيّته وذكائه وإمكاناته الفذّة في التخطيط والتنفيذ. وبالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل منجّما، وراحت آياته تنزل على مكث لكي تلامس
__________
(1) المرجع السابق، ص 48.
(2) المرجع السابق نفسه، هامش 1 ص 48.
(3) المرجع السابق نفسه، هامش 1 ص 54.
(4) المرجع السابق نفسه، هامش 2 ص 52.
(1/31)
________________________________________
الأحداث وتعلّق عليها (بعد وقوعها) ، إلا أنه بمجموعه كمبدأ «أيديولوجيّة» لا يخرج عن نطاق كونه برنامجا إلهيا شاملا ترتبط ممارساته الجزئية بكليّات شاملة محددة سلفا في علم الله.. ومن ثم فإن (الظروف الراهنة) ليست هي الحتمية المؤقتة التي تحدد مسار الإسلام وخطا رسوله صلى الله عليه وسلم. إنما هناك (الهدف) الذي يفرض أحيانا (وقفة) ضد الأعراف والظروف (وتمرّدا) عليها، و (انقلابا) شاملا على مواضعاتها.
وهذا ما يبدو واضحا منذ أول لحظة في الشعار الحاسم الذي طرحه الرسول صلى الله عليه وسلم بوجه الجاهلية (لا إله إلا الله) ، فأيّ ظرف راهن موقوت، أوحى بهذا الشعار الانقلابي الشامل الذي جاء يدمر على الوجود الجاهلي جلّ قيمه وأهدافه ومعالمه ومفاهيمه وعاداته وتقاليده؟.
إن توماس أرنولد يشير إلى ذلك بوضوح عندما يقول: «لا يعزب عن البال كيف ظهر جليا أن الإسلام حركة حديثة العهد في بلاد العرب الوثنيّة، وكيف كانت تتعارض المثل العليا في هذين المجتمعين تعارضا تاما. ذلك أن دخول الإسلام في المجتمع العربي لم يدلّ على مجرّد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب، وإنما كان انقلابا كاملا لمثل الحياة التي كانت من قبل.. والواقع أن المبادئ الأساسية في دعوة محمد كانت تتعارض مع ما كان ينظر إليه العرب نظرة ملؤها التقدير والإجلال، حتى ذلك الحين، كما أنها كانت تعلم حديثي العهد بالإسلام بأن يعدّو من الفضائل صفات كانوا قبل إسلامهم ينظرون إليها نظرة الاحتقار» «1» .
إن القرآن الكريم كان قضية فوقية جاءت آياته لتقود الإنسان في كل زمان ومكان إلى عصر جديد، ولم يكن ينفعل انفعالا مؤقتا بالوضع السائد سلبا وإيجابا، كما يتصوّر معظم المستشرقين مسيحيّين وماديّين (كما سنرى) ،
__________
(1) المرجع السابق نفسه، ص 21- 62؛ وانظر بالتفصيل: جولد زيهر في مؤلفه muhammedanishe stidien ,v.l ,1:
(1/32)
________________________________________
وإنما كان ينظر نظرة شمولية بعيدة كل البعد عن رد الفعل المباشر، وهذا هو الذي يفسر لنا الكثير من الأخطاء التي مارستها مناهج البحث الاستشراقية في كافة أجنحتها.
ونحن لا نطلب من الغربيّين هنا أن يؤمنوا أن القرآن الكريم منزل من السماء وأنّ محمدا رسول الله.. وإنما نطلب أن يكونوا أكثر تجرّدا وموضوعية فينظروا إلى سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كوحدة عضوية متكاملة.
وإلى القرآن الكريم كبرنامج عقيديّ مترابط تعلو مكوناته على الظروف الموقوته زمانا ومكانا، بالرغم من ملامساتها اليومية المباشرة للوقائع الزمانية والمكانية، ولكنها الملامسة التي تنبثق عنها قيم ودلالات ذات طابع شمولي ما كان للمستشرقين أن يغافلوا عن أبعادها.

ثالثا: ردّ معطيات السيرة إلى أصول نصرانية أو يهودية:
إن هذا التصور (المسبق) يكاد يأخذ برقاب المستشرقين، ويضع بصماته العميقة على مناهجهم في التعامل مع وقائع السيرة وظاهرة النبوة.. ويحاول الدكتور جواد علي أن يبين الأسباب: «إن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين، أو من المتخرجين من كليات اللاهوت، وهم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام يحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصرانيّ، وطائفة المستشرقين من اليهود، وخاصة بعد تأسيس (إسرائيل) وتحكّم الصهيونية في غالبيتهم، يجهدون أنفسهم بردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصل يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء» «1» .
ويلقي (طيباوي) مزيدا من الضوء على هذه العقدة المنهجية في العقل الاستشراقي وعلى دوافعها المذهبية، فيقول: «إن النظرة الأولى للإسلام
__________
(1) تاريخ العرب في الإسلام: 1/ 9- 11.
(1/33)
________________________________________
تكشف مواضع شبه بين الإسلام والمسيحية، ولكن النظرة الفاحصة عن قرب تبرز خلافات أساسية وهذه الحقيقة كانت غالبا ما تثير المبشرين في الماضي، وما زالت تستميل قليلا في المجال الأكاديمي إلى التحايل على تصيّد مثل هذه الشوارد كأصول للإسلام.
وينزع المبشّر والباحث الأكاديمي إلى أن يتناسى وهو ينال من قدر محمد بطريق مباشر أو غير مباشر، كيف يقدس المسلمون الأتقياء المسيح.
وفي كتاب قريب من سلسلة بنغوين عمل مستشرق وهو قسيس أنجليكاني على عقد عدة مقارنات ليظهر أن الإسلام كان صورة غير محكمة أو مشوهة للمسيحية.. وهناك دارس آخر للإسلام هو أيضا من رجال الكهنوت (ويقصد به ولفرد كانتول سميث) يستحق الذكر هنا بوجه خاص بسبب تقديمه لمزيد من الجدل السطحي (spectulation) الذي يعرض للتشابه بين المسيحية والإسلام، وهو يكتب: «إن من أسباب تباعد الإسلام والمسيحيين بعضهم عن بعض أن كلا الفريقين قد أساء فهم عقيدة الآخر بمحاولته أن يضعها خلال طراز الاعتقاد الذي يؤمن به» «1» . وشأن كثير من التعميمات لا يبدو مثل هذا النص منصفا كما يحاول أن يكون، فإن المسيحيين وحدهم هم الذين ظلوا طوال القرون يحاولون فهم الإسلام- أو إساءة فهمه- من خلال اصطلاحات المسيحية، أما النظرة الأساسية للمسلم فقد ظلّت على حالها، لم تتغيّر على الدوام لأنها جزء من الوحي الإلهي في القرآن.
ولم يحاول مسلم مؤمن أن يدخل المسيحية في إطار آخر، والمسيحي لا يواجه في كتبه المقدسة قيودا صريحة تحجزه عن تقبل وجهة نظر المسلم في الإسلام، ومع ذلك فهو يرفض- لا رأي المسلم في المسيحية فحسب- بل رأيه في الإسلام أيضا، وهو يسعى جاهدا لتغيير الرأيين..
__________
(1) المستشرقون الناطقون بالإنكليزية، مجلة the muslim world عدد تموز سنة 1963 م، ترجمة د. محمد فتحي عثمان، عن د. محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث، ص 593- 601.
(1/34)
________________________________________
وهذا مبشر قديم يحاضر في الشريعة الإسلامية بجامعة لندن، لا يبدي احتراما يذكر لذكاء القارئ، ويعلن في مقدمة مقال له: أنه يقدّم معلومات صحيحة لمعالجة الدراسة موضوعيا حتى يكون منصفا مدقّقا ولكن بعد هذا كله يكتب: (إنه لا يمكن أن يكون هناك شك على أي صورة أن محمدا قد تمثل أفكارا من التلمود وبعض المصادر المحرّفة، أما بالنسبة للمسيحية فإن هناك احتمالا طاغيا بأن محمدا قد استمدّ إيحاءه منها) .. ومن أجل تبيّن مدى موضوعية المبشّر المذكور يجب أن نقرأ هذه الكلمات التي وردت في ختام مقاله: (إن للعالم أن يرى ماذا سوف يحدث حين يعرض إنجيل المسيح الحي بالصورة الملائمة لملايين المسلمين) !! «1» .
وامتدادا لهذه الأزمة (المذهبية) التي تؤثر سلبا على نقاء المنهج الاستشراقي، يلمس المرء في معطيات المستشرقين تعاطفا مع العناصر والقوى المضادة للإسلام، ولنبيّه عليه الصلاة والسلام، ولا ريب أن ما يتمخّض عن هذا من (كراهية تضع جدرانا بين القوم وبين الفهم الصحيح لوقائع السيرة، وتصيب مناهج العمل بمزيد من التشنج.. وفرق كبير بين الحكم الذي يصدره قاض يقف موقفا محايدا بين طرفي القضية، والحكم الذي يصدره قاض يتعاطف مع أحد الطرفين ويكره الآخر أو يدينه ابتداء!!) .
الشواهد كثيرة، ويكفي أن يقرأ المرء كتابات مرغوليوث أو فلهاوزن أو بروكلمان ليرى بأم عينه اتساع هذا التيار في المعطيات الاستشراقية..
مثلا: نقرأ لدى بروكلمان هذا النص: «.. لم يطل العهد بمحمد حتى شجر النزاع بينه وبين أحبار اليهود. فالواقع أنه على الرغم مما تمّ لهم من علم هزيل في تلك البقعة النائية كانوا يفوقون النبي الأمي في المعلومات الوضعية وفي حدة الإدراك» «2» . ونقرأ: «كان على محمد أن يعوض خسارة
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 47.
(1/35)
________________________________________
أحد التي أصابت مجده العسكري، من طريق آخر ففكر في القضاء على اليهود؛ فهاجم بني النضير لسبب واه» «1» .
ويضرب فلهاوزن على الوتر نفسه فيقول: «لم يبق الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرع في الأخذ بسياسة إرهاب في داخل المدينة. وكان إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل.. أما اليهود فقد حاول أن يظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة؛ حيث كانوا جماعات متماسكة كالقبائل العربية، وقد التمس لذلك أسبابا واهية..» «2» .
ويظهر مرغوليوث عطفه- هو الآخر- على اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محض ظلم نزل باليهود، لا مسوغ له على الإطلاق: «عاش محمد هذه السنين الست ما بعد هجرته على التلصّص والسلب والنهب، ولكنّ نهب أهل مكة قد يسوّغه طرده من بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه، وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة، فقد كان هناك- على أي حال- سبب ما، حقيقيا كان أم مصطنعا يدعو إلى انتقامه منهم، إلّا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد، لم يرتكب أهلها في حقه أو حق أتباعه خطأ يعتبر تعديا منهم جميعا، لأن قتل أحدهم رسول محمد لا يصح أن يكون ذريعة للانتقام، وهذا يبين لنا ذلك التطور العظيم الذي طرأ على سياسة محمد. ففي أيامه الأولى في المدينة أعلن معاملة اليهود كمعاملة المسلمين، لكن الآن (بعد السنة السادسة للهجرة) أصبح يخالف تماما موقفه ذلك، فقد أصبح مجرد القول بأنّ جماعة ما غير مسلمة يعد كافيا لشنّ الغارة عليها. وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي أثّرت على نفس محمد والتي دفعته إلى شنّ غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من
__________
(1) المرجع السابق نفسه، ص 52.
(2) الدولة العربية وسقوطها، ص 15- 16.
(1/36)
________________________________________
قبل ونابليون من بعد.. إن استيلاء محمد على خيبر يبين لنا إلى أي حد قد أصبح الإسلام خطرا على العالم» «1» .
بل إنهم ليتعاطفون مع العرب الوثنيين ضد الإسلام، بالرغم من أن الوثنية تمثّل موقفا رجعيا هو في بدء التحليل ومنتهاه: ضد التحضّر.. ويجد المرء نفسه مضطرا لعقد مقارنة بينهم وبين أسلافهم (زعماء يهود خيبر) الذين وقفوا أمام أبي سفيان وأصحابه من زعماء قريش يقسمون بالله أنّ دين الوثنية خير من دين محمد، وأنهم أولى بالحق منه «2» ، والهدف في الحالتين واضح لا ريب.
يقول بروكلمان: «لقد حالت الظروف بين الرسول وبين الشروع في شنّ حملة نظامية مباشرة على المشركين. فقد كانت فكرة الشرف العربية القديمة تمسك المهاجرين عن محاربة إخوانهم في قريش، في حين كان المدنيون غير شديدي الميل إلى تعكير صفو السلم مع جيرانهم الأقوياء.. حتى إذا كان شهر رجب الحرام وجّه جماعة من الغزاة بأوامر سرية فوقفت إلى مباغتة قافلة بالعروض، كانت حاميتها العسكرية تتقدمها مطمئنة إلى حرمة الشهر، فأصابت غنائم عظيمة عادت بها إلى المدينة. ولكن هذا النقض للقانون الخلقي القبلي لم يلبث أن أصاب عاصفة من الاستنكار في المدينة.
فما كان من محمد إلّا أن أنكر صنيع أتباعه الذي تم وفقا لرغباته بلا خلاف، وعزاه إلى سوء فهم لأوامره» «3» .
ويتمنّى نولدكه: «لو أن القبائل العربية استطاعت أن تعقد بينها وبين محمد محالفات عربية دقيقة للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينية، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهاد محمد ضدهم غير مجد. إلّا أن عجز
__________
mahammed and the rise of islam.pp. 63 -202. (1)
(2) ابن هشام: تهذيب، ص 211- 212، الواقدي: المغازي، ص 441- 443.
(3) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 44.
(1/37)
________________________________________
العربي عن أن يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أن يخضع لدينه القبيلة تلو الآخرى، وأن ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارة بالقوّة والقهر، وتارة بالمحالفات الودّية والوسائل السلمية» «1» .
وعلى الرغم من أن العديد من أبناء هذه الطبقة من المستشرقين كشفوا بتعمقهم ونفاذهم وإحاطتهم- النقاب عن بعض الجوانب المضطربة الغامضة في تاريخنا الإسلاميّ عامة بما فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم بأخطائهم المنهجيّة التي عرضنا لبعض أنماطها، طرحوا الكثير من النتائج والآراء الخاطئة على مستوى الموضوع. وهذا أمر طبيعي، فالخطأ لا ينتج إلا الخطأ، والبعد عن الموضوعيّة لا يقود إلا إلى نتائج لا تحمل من روح العلم والجدية إلا قليلا.
ولن يتحمّل بحث موجز كهذا عرض وتحليل ومناقشة هذه الآراء والنتائج؛ فلهذا كلّه مجال آخر، وليس من نافلة القول الإشارة إلى أن هذه الآراء تمثل حصادا ضخما يمكن أن يجنيه كل دارس بتأنّ وروية لما كتبه هؤلاء المستشرقون عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حصاد يحمل في ثناياه كما رأينا عناصر تناقضه واضطرابه وخروجه على البحث العلمي المنهجي الدقيق.
ولكن القوم، إذا توخّينا الحكم الدقيق، ليسوا كلهم سواء؛ فقد شذّ عنهم بعض المستشرقين- ولكل قاعدة شواذ- وبالرغم من قلة هؤلاء بالنسبة للتيار الأوسع والأثقل، فإن صوتهم لم يضع، وقد مارسوا كشفا نقديا طيبا للكثير من أعمال رفاقهم في البحث، وألقوا الضوء على الثغرات والمطبّات التي وقعوا فيها.. وقد عرضنا لبعض مواقف هؤلاء: دينيه، وات، درمنغهم، أرنولد.. على الرغم من أن هؤلاء أنفسهم ما كانت رؤيتهم تصل أبدا درجة النقاء العلمي المطلوب، فهذا الأمر يكاد يكون مستحيلا!!
__________
(1) تاريخ العرب للمؤرخين: 8/ 11.
(1/38)
________________________________________
3
مع بداية القرن، ونجاح الثورة البلشفية في روسية، بدأ يطل موقف جديد إزاء رسولنا عليه الصلاة والسلام، وتاريخنا الإسلامي بعامة، ينبثق عن التفسير المادي للتاريخ، ويسعى إلى إخضاع حقائق السيرة لمقولاته الصارمة.. يفصلها على مساحات منهجه المرسوم سلفا.. يقطع أوصالها لكي يرفض وينفي ويستبعد ما لا ينسجم ومطالب هذا المنهج، ويأخذ ويستبقي ما ينسجم وهذه المقولات.. وتحسب ما يأخذ مما يدع فلا يعدو أن يكون واحدا من عشرة في حساب الأرقام.
وإذ كانت وقائع السيرة تتأبّى على تحليلهم ومحاولاتهم القسرية، فإنهم يزدادون شططا في التقطيع والتمزيق وفي التفسير والتأويل، حتى لقد وصل الأمر بهم إلى أن يبلغوا حدّ المجّانيّة في التعليل والتحوير لتحقيق التطابق المرتجى بين الوقائع والفلسفة. الأمر الذي جعل أحدهم ينقض رأي الآخر وينحرف بتحليله في اتجاه نقيض تماما، على الرغم من أنهم تلامذة مدرسة واحدة، ورؤية مشتركة للتاريخ، ولكن لا بأس؛ فما داموا من المؤمنين بفلسفة النقيض فليتصد أحدهم للآخر، ولينقض بعضهم رأي الآخر، فلابدّ أنهم واصلون يوما قصدهم المرتجى.
لننظر على سبيل المثال إلى بعض ما قالوه، وهو كثير بصدد سيرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: «لقد رأى بعضهم أن المجتمع العربي (في مكة والمدينة) شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق، بينما يرى (بيجو لفسكايا) أن القرآن يشعر بتركّز مرحلة ملكيّة الرقيق ويذهب مع (بلاييف) إلى أن المرحلة الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الآخرى. هذا ويرى آخرون أن المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلا، ويتبع هذا قلق في التفسير؛ فمنهم من يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلّة الجديدة من ملاك
(1/39)
________________________________________
وأرستقراطية الإقطاع مثل (كليمو فيج) ، ومنهم من يراه في مصلحة أرستقراطية الرقيق فقط. في حين أن البعض مثل (بلاييف) يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن لا يلائم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات الحاكمة، فلجأ أصحابه إلى الوضع في الحديث لتسويغ الاستغلال الطبقي الجديد.
وفي حين أنّ بعضهم يقول: إن الأرستقراطية وحّدت القبائل العربية لتحقيق أغراضها، يقول غيره: إن القبائل كانت تتوثب للوحدة، فجاء الإسلام موحدا يعبر عن ذلك التوثّب.
ويضطرب الموقف من منشأ الإسلام ذاته، فبينما يدعي (كليموفيج) أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشّروا بالتوحيد، وأراد توحيد القبائل.. يذهب (تولستوف) إلى نفي وجود النبي العربي صلى الله عليه وسلم. ويعده شخصية أسطورية. وبينما يعترف البعض بظهور الإسلام يذهب (كليموفيج) إلى أن جزآ كبيرا منه ظهر فيما بعد في مصلحة الإقطاعيين، ونسب أصله إلى فعاليات معجزة لمحمد، وتجاوز (تولستوف) إلى أن الإسلام نشأ من أسطورة صنعت في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة، وهي أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى الحنيفية» «1» .
ألا يقترب هذا أن يكون دينا جديدا، لا يقل عن النصرانية- يومها- حقدا على الإسلام وكراهية لنبيه عليه الصلاة والسلام، وبعدا عن المنهجيّة في التعامل مع الوقائع والأحداث؟ وأتباع المدرسة المادية أليسوا هم رهبانا جددا في موقفهم من رسولنا عليه الصلاة والسلام وتاريخنا؛ غيّروا أزياءهم ولكنهم ظلوا من داخل نفوسهم رهبانا ينتمون للكهنوت المادي الجديد الذي ما كان تدخينه على الرؤية النقيّة إزاء سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام بأقلّ كثافة من الدخان الذي أثاره رجال النصرانية الأوائل؟.
__________
(1) انظر بالتفصيل: عبد العزيز الدوري ورفاقه: تفسير التاريخ، ص 14- 16.
(1/40)
________________________________________
هذا أحد أبناء الكنيسة المادية: بندلي جوزي «1» ، يقول محللا بعض مواقف رسولنا عليه الصلاة والسلام: «إن سياسة النبي مع المكيين قد تغيّرت كثيرا في المدينة تحت تأثير عوامل جديدة أوجدتها الظروف، وأدى إليها الاختيار وحب النبي لوطنه الأصلي وأهله وذويه، إلى غير ذلك من الانفعالات النفسيّة والعوامل السياسيّة التي ظهرت بعد موقعتي بدر، وأحد، وحصار المدينة، وكان من نتائجها أن النبي أخذ يلطّف من سياسته نحو إخوانه المكّيين. كما أن أصحاب السلطة في مكة رأوا- بعد ما أصابهم في موقعة بدر، وبعدما لحق بتجارتهم من الخسائر- أن يتساهلوا في أمور كثيرة مع النبي على شروط تضمن بقاء الكعبة والحج وعكاظ على ما كانت عليه قبل الإسلام، وأن يشملهم بالعفو ويشركهم في عمله الجديد الذي أخذوا يتوقّعون منه خيرا. وربّما كان من شروط التفاهم «2» أن يبقى النبي في المدينة، وألّا يتعرض في كلامه لأمورهم المادية.
فكانت الحديبية وسياسة (تأليف القلوب) ، أو بعبارة أخرى: سياسة التسامح والتساهل المتبادل، فصار الناس (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) لا عن اعتقاد بصحة الدين الجديد الذي لم يكونوا يعرفون عنه إلا الشيء القليل، بل عن رغبة في التقرب من أصحاب السلطة الجدد، وحفظا لمراكزهم القديمة وثروتهم المجموعة في أجيال. يخيل لي- يقول جوزي أن من جملة الشروط التي اتفق عليها الطرفان في الحديبية- أو في زمان أو مكان آخرين- أن يكف النبي عن الطّعن في الملأ المكي، وألا
__________
(1) بندلي جوزي (1871- 1942 م) : نصراني من أهل القدس، تخصّص في قازان باللغات السامية والدراسات الشرقية، وتولى التدريس في معهد الرهبان، ثم في جامعة قازان، ثم في جامعة باو إلى أن توفّي. وقد عده المستشرقون الروس مرجعا من مراجعهم: (عن كتاب نجيب العقيقي: المستشرقون: 3/ 931) .
(2) أي تفاهم هذا؟ وفي أي مكان وزمان تم؟ وأية رواية أوردته؟ وفي أي مصدر على الإطلاق؟
(1/41)
________________________________________
يحرض صعاليك العاصمة الحجازية وأرقائها عليه، وهذا على ما يظهر لي أحد أهم أسباب خلوّ السّور المدنية ولا سيّما تلك التي نزلت في الدور الأخير، من العبارات القارصة والطعن في سكان مكة «1» . وهناك سبب آخر لا يقل خطورة عن الذي ذكرناه الآن؛ وهو حالة النبي الاجتماعية في المدينة تغيّرت- كما هو معلوم- تغيرا ظاهرا أدّى إلى تغيير نفسيّته فكان من نتائج هذا التغيير ومن الأسباب التي ذكرنا بعضها وغيرها مما لم نذكر (؟) أن بعض إصلاحات النبي الاجتماعية والدينية جاءت مبتورة وفيها شيء مما يدعوه الأوربيون: التساهل» «2» .
ويمضي بندلي جوزي إلى القول: «بأن الدّور المكّي كان دور تمهيد واستعداد، دور بث دعوة جديدة بين طبقات الأمة، ودور حرب ونزاع كلاميّ بين رجل ثابت في مبادئه مخلص في عمله، وبين طبقة من الناس شعرت بالخطر على ثروتها وزعامتها في البلاد فهبت تقاوم ذلك الرجل وتناوئه.. دور جهود وأحلام لو تحققت كلّها لقلبت البلاد رأسا على عقب، ما أجمل هذا الدور وما أعظمه، وما أحلى تلك الأحلام والمساعي التي بذلت في تحقيقها، وأما الدور الثاني فكان دور عمل وتنظيم، ودور حروب وافتتاحات، ودور سياسة ومكاشفات أدت إلى تساهل من الطرفين، ومعنى التساهل في مثل هذه الثورات الاجتماعية هو التنازل عن بعض المطالب أو المبادئ أو التلطف في الطلب، والرجوع عن بعض الأفكار، أو وضعها في قالب يرضاه الفريقان، وهذا ما كان من
__________
(1) هذا غاية ما يمكن أن يصل إليه مؤرّخ من خروج على مستلزمات البحث العلمي، وعبث صريح بالوقائع التاريخية، وإلا ففي أي زمان ومكان وضعت هذه الشروط؟ وأين هي من شروط صلح الحديبية التي توافرت بنصوصها الحرفية في كافة المصادر والمراجع؟!.
(2) من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، ص 49- 50.
(1/42)
________________________________________
أمر النبي العربي ورئيس جمهورية مكة (أبي سفيان) الخبير المحنّك الذي كان يتكلّم بلسان الملأ المكّي، هذا يعترف بسيادة النبي الروحية والعالمية ويهجر الأوثان ويؤدّي الزكاة ويقيم الصلاة، وذاك يتعهد أن تبقى مكة مركز البلاد العربية الديني، وأن يجعل لأعيان مكة وقادة أفكارها حظّا في إدارة المملكة أو الجمهورية الروحية الجديدة، وأن يتركهم وشأنهم يتاجرون ويعيشون كما يشاؤون، أما الفريق الثالث، أي: الفقراء، وهو الطرف الذي استعرت الحرب لأجله وظهرت الدعوة لتحسين أحواله؛ فقد أرضوه في بادئ الأمر بشيء من الصدقات والزكاة، ثم نسوه أو تناسوه بعد وفاة النبي وخلفائه الأولين، فرجع إلى حالته الأولى بل إلى ما هو أسوأ منها» «1» .
ويقول في مكان آخر: «لا شك أن النبي العربي لم يقصد بأقواله وأفعاله في مكة والمدينة إلى أن يستأصل أسباب الشر الاجتماعي، ويقتل جميع جرائمه، كما يحاول أن يفعل اليوم جماعة الاشتراكيّين على اختلاف أسمائهم ونزعاتهم، بل كانت غايته الكبرى أن يخفف من وطأة تلك الأمراض على بعض طبقات الناس ممن خلقوا بعد قسمة الأرزاق أو وقعوا في الفقر والرقّ لأسباب لم يقو على مقاومتها. وإلّا فلو أراد أن يقتل جراثيم الأمراض الاجتماعية كلها لكان لجأ بعد أن أصبح صاحب الأمر والنهي في جزيرة العرب إلى وسائل غير تلك التي ذكرناها» .
«وما مثل النبي من هذا الوجه إلّا مثل الأنبياء الذين سبقوه؛ أي: أنه فضل استعمال الوسائل الأدبية- إلا فيما ندر من الظروف- على غيرها من الطرق التي لجأ إليها في عصرنا بعض مصلحي وسياسيي أوربة كلينين
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 51- 52.
(1/43)
________________________________________
وموسوليني وغيرهما. وعليه يمكننا أن نقول: إنّ محمدا أجاد في وصف الأمراض الاجتماعية العربية وتعدادها أكثر منه في علاجها واستئصال جراثيمها» «1» .
وغير (بندلي جوزي) كثيرون.. وهم- للأسف- قد ازدادوا عددا مع الأيام، وكثّر من سوادهم تلامذتهم المنتشرون ها هنا في الشرق بين ظهرانينا، على الرغم من أنهم محسوبون ظاهرا- على ديننا وعقيدتنا- ولكنها (موضة) منهجية إذا صحّ التعبير، وتؤول إلى انحسار كما انحسرت من قبلها مدارس ومناهج وآراء وأفكار وفلسفات كانت قد سيطرت على المؤسسة والشارع في بلادنا تقليدا لهذا الفكر الدخيل أو ذاك، وتمسكا بهذا المنهج الوافد أو ذاك، ولكنها لهجانتها وغربتها عن الأرض التي تحركت فيها سرعان ما ذبلت وتيبّست وعصفت بها رياح الزمن ... والذي يتبقى أبدا هو المنهج الأصيل.
وها نحن نشهد تكسّر الموجة الجديدة، وتحوّل دعاتها أنفسهم إلى مواقف أكثر موضوعية واعتدالا بعد أن رأوا خطل ما كانوا فيه.
والذي يتبقّى، بعد هذا كلّه، بعد موجات الرهبان والمستشرقين والمادّيين.. بعد غبارهم الذي أثاروه ودخانهم الذي حجبوا به الرؤية الصافية.. الذي يتبقّى هو وقائع السيرة نفسها كما تكونت يومها في الزمان والمكان.. ويتبقى الشخصية الفذة لصانع هذه الوقائع وقائدها في الزمان والمكان.. رسول اختارته عناية الله لقيادة البشرية صوب الغد المرتجى..
ومع الرسول عليه الصلاة والسلام جيل من الرواد حملوا شرف الانتماء، واستجابوا للتحدّيات، وقدروا على أن يطووها بما يشبه الإعجاز، فليست
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 44- 45.
(1/44)
________________________________________
مناهج الرهبانية النصرانية والعلمانية الاستشراقية والمادية التاريخية بقادرة على إدراك البعد الحقيقيّ لهذا العصر الذي غيّر مجرى التاريخ.
كما أنهم ليسوا بقادرين على طمسه وتزييفه..
والذي يدرك هذا البعد ويستعيد جوهره النقي.. هم أبناء الإسلام وحدهم، وليس غيرهم أبدا من يقدر على حمل الأمانة وأداء الدور.
(1/45)
________________________________________
محمد في مكة (1)
(1/47)
________________________________________
1- النزعة الشكّيّة والافتراض والنّفي الكيفيّ
1
يبدو (مونتغمري وات) على مستوى تقنية البحث متفوّقا بمعنى الكلمة، وهو يمتلك أداة البحث ومستلزماته، ويعتمد أسلوبا نقديا مقارنا يثير الإعجاب، وقد تمكّن بواسطته من تحقيق عدد من النتائج القيّمة على مستوى السيرة. وإن كان يلح أحيانا في نزعته النقديّة، كما سنرى، الأمر الذي قاده كما قاد عددا من رفاقه وأسلافه إلى تنفيذ عملية (نفي) واسع النطاق لمساحات من حقائق السيرة المتعارف عليها.
أما في الدائرة الثانية، دائرة (الموضوعية) التي قال الرجل بأنه سيلتزمها في بحثه فإنه لم يستطع أن يتحرّر بالكلّيّة من الضغوط المضادّة وعوامل الشدّ اللامنهجية، على الرغم من أن ثمة ما يميزه في عصر المذهبية التاريخية ويحسب لصالحه، إنه لا يفترض أو يعتنق، رؤية محددة سلفا، ويأتي إلى التاريخ لكي يعيد تركيبه وفق رؤيته تلك، ويعالج وقائعه بما يجعلها تنسجم، قسرا، مع مقولات المذهب، ويفصل ويقص ويمطّ الجزئيات التاريخيّة لكي تكون على (قدّ) القالب المصنوع سلفا.. وينتقي ويتقبّل كلّ ما يتناغم مع قناعاته هذه، وما لا يكون كذلك يعزل ويستبعد.
إن الرجل يعتمد منهجا مغايرا هو أقرب إلى الموضوعية.. إنه يسعى لأن يبدأ حركته مع الوقائع التاريخية، دون أي افتراض مسبق، ثم تجيء استنتاجاته وتنظيراته مستمدة مما تقوله الوقائع نفسها، ومما تتمخض عنه مكوناتها الأساسية وعلاقاتها المتشابكة.
(1/49)
________________________________________
لكننا مع ذلك يجب ألا نذهب في حسن الظن إلى المدى.. لأن الرجل بسبب من إلحاحه على التجريب في ميدان الوقائع؛ يرغمها- أحيانا- على أن تتكلّم، على أن تقول أيّ شيء حتى لو كان مناقضا للتيّار الأوسع والأعمق لحركة العصر الذي تتدفق عبره تلك الجزئيات التاريخية.
ويقينا فإن الكثير من استنتاجات (وات) ، بإحالتها على الأرضية التاريخية الشاملة التي تنتمي إليها الوقائع التي شكّلت الاستنتاج، سوف ترتطم بالكثير من المسلّمات والبداهات!!
ولا نريد أن نواصل اتّهام الرجل بهذه الخطيئة أو تلك فنقع في مظنة المبالغة والهوى.. والأحكام المسبقة.. ولكننا بدلا من ذلك سنسعى إلى اختبار معطياته لنعرف ما إذا كانت قد تضمّنت واحدا أو أكثر من الأخطاء المنهجيّة التي مارسها معظم المستشرقين في حقل السيرة.. وحينذاك فقط يمكن أن يكون الحكم أقرب إلى الصواب.
وسيحاول البحث أن يتجنّب الدخول- قدر الإمكان- في مناقشة التفاصيل والجزئيات، أو حتى الرد أو المناقشة المتوازية مع كل مقولة قد تتضمن خطأ ما.. إنما ينصبّ الاهتمام على تحديد الجذور المنهجية وتنفيذها على الموضوع من قبل (وات) .. وقد لا يستلزم كل شاهد مناقشة أو ردا ما دام أن مهمة هذا البحث ليست دراسة حقائق السيرة، وإنما مناهج التعامل معها «1» .
إن بمقدور المرء أن يتلمس عبر قراءته لكتاب (محمد في مكة) اثنتين من تلك الثغرات المنهجية التي تتردد في معطيات المستشرقين.. تتمثّل أولاهما في ذلك الانسياق وراء النزعة النقدية التي تبلغ على أيدي بعضهم حدّ النفي الكيفي للروايات أو إثارة الشكوك حول صحتها.. وتتمثّل ثانيتهما في إسقاط الرؤية والمواضعات المعاصرة، ذات الطابع النسبي، على الوقائع
__________
(1) يمكن الرجوع في هذا المجال لكتاب للمؤلف بعنوان: (دراسة في السيرة) .
(1/50)
________________________________________
التاريخيّة الماضية، ومحاولة تحكيم المنطق الوضعي واعتماده في تحليل مكونات تلك الوقائع، وارتباطها وتفحص طبيعة نسيجها.
وثمّة مأخذ آخر أقل ترددا في كتاب (وات) يقوم على فكرة رد بعض وقائع السيرة إلى أصول دينية سابقة، يهودية ونصرانية، فلنبدأ بالمسألة الأولى:
المبالغة في النقد، والنفي الكيفيّ، وإثارة الشكوك، واعتماد الضعيف الشاذّ ...
بعد استعراض أهم أحداث السيرة بين ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم وزواجه بخديجة رضي الله عنها وتحليلها، يقول (وات) : «تلك هي الوقائع التي تهيمن على حياة محمد قبل زواجه، من وجهة نظر المؤرخ بعض هذه الوقائع موضع جدل.. وهناك مع ذلك عدد كبير من الروايات التي يمكن تسميتها «بذات الطابع الفقهي» ، ولا شك أنها ليست حقيقة بالمعنى الواقعي للمؤرخ؛ لأنها تحاول وصف وقائع يمكن نسبتها لفترات لا حقة من حياة محمد ولكنها تعني مع تلك مغزى محمد بالنسبة للمسلمين والمؤمنين؛ فهي بذل حقيقة بالنسبة إليهم.. وتكون ملحقا مناسبا لحياة نبيهم. وربما يمكن اعتبارها كتعبير (لمن كان له عيون ترى) فرأى لو كان شاهدا لها، ويكفي أن نذكر أشهر هذه القصص كما يرويها ابن إسحاق» «1» .
ويورد وات نص رواية (الملكين) و (وبحيرى الراهب) كما يرويها ابن إسحاق، ثم يعقّب عليها بأن القارئ يجد نفسه إزاء أرضيّة مهزوزة لوقائع هذا المدى الزمني الذي يبلغ ربع القرن بين الميلاد والزواج.
أولا: لأن بعض هذه الوقائع موضع جدل.
ثانيا: لأن هناك عددا كبيرا من الروايات يمكن تسميتها بذات الطابع الفقهي، وهي ليست حقيقة بالمعنى الواقع المؤرخ، وإنما هي حقيقة فقط بالنسبة للمسلمين!!.
__________
(1) محمد في مكة، ص 66.
(1/51)
________________________________________
ثالثا: لأن بعض الوقائع يمكن نسبتها لفترات لاحقة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنها سحبت إلى الوراء..
وإذا كانت قصة (بحيرى الراهب) موضع جدل، وقد تتعرض للاهتزاز أمام النقد «1» ؛ فإن حادثة شق الصدر تستعصي على النفي؛ لا لأن مسلما «2» وأحمد «3» أخرجاها فحسب- فضلا عن ابن هشام «4» وابن سعد «5» والبلاذري «6» وغيرهم من المؤرخين الأوائل- ولكن لكونها واقعة ترتبط بنسيج الظاهرة النبوية ذات الأصول الغيبيّة التي يصعب التعامل معها في إطار التحليل العقلي بمنظور تاريخي. وها هنا، فإن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي في نسيجها المغيّب بالمنظور، ويتداخل تداخل السدى باللحمة.. ونحن إما أن نقبل هذا البعد الذي يجعل من محمد عليه الصلاة والسلام (نبيا) ويرتب نتائج النبوة على أسبابها في التكوين النفسي، وإما أن نرفضه من الأساس وحينذاك يمكن حتى لظاهرة (الوحي) أن تستحيل إلى فعل منظور.. وإلا ألحقت «بالروايات ذات الطابع الفقهي التي هي ليست حقيقة بالمعنى الواقعي للمؤرخ، وإنما هي حقيقة بالنسبة للمسلمين» .
ولن يستطيع أحد بعد تجريد الواقعة التاريخية من بعدها الواقعي الحقيقي، إلّا أن يعتبرها غير تاريخيّة على الإطلاق!!
حتى إذا ما تزوج محمد صلى الله عليه وسلم وأنجبت زوجته رضي الله عنها أولادهما السبعة المعروفين؛ فإننا نجد أنفسنا أمام هذه الفرضية التي يطرحها (وات) :
__________
(1) انظر: دراسة في السيرة للمؤلف، ص 271- 272 (الطبعة الخامسة المنقحة) .
(2) 1/ 101- 102.
(3) 3/ 121.
(4) تهذيب، ص 31- 33.
(5) طبقات: 1/ 1/ 70- 74.
(6) أنساب الأشراف: 1/ 81- 82.
(1/52)
________________________________________
إذا كانت خديجة قد أنجبت ولدا في كل سنة «فإنها تكون في الثامنة والأربعين من عمرها عند ولادة الأخير، ليس هذا مستحيلا ولكنه غريب يثير التعليق، وهو من الأمور القابلة لأن تصبح فيما بعد معجزة» «1» .
والمسألة في أساسها لا تقتضي هذا التعقيد، فإن خديجة رضي الله عنها قد تكون أقل من الأربعين عمرا لدى زواجها، وقد تكون- فعلا- في الأربعين؛ لأنّ الإنجاب حتى الخمسين ليس مستحيلا.. لكن (وات) يا بني على هذه المسألة موقفا؛ وهو: «إننا لا نعثر على أي تعليق بهذا الصدد في كل صفحات ابن هشام وابن سعد والطبري» «2» . فكأن هؤلاء المؤرخين لا يملكون أي حس نقدي، كما أنه يلمح بموقف آخر: إن هذا من الأمور القابلة لأن تصبح فيما بعد معجزة، وبالتالي فإن أتباع الرسول أو الأجيال المسلمة عموما، تمتلك الاستعداد السهل لتحويل كل ظاهرة بعيدة عن المألوف بدرجة أو أخرى، إلى معجزة!!
عند بدء الدعوة يطرح (وات) هذا (المانشيت) العريض: «يوجد كثير من عدم الاطمئنان حول الظروف التي صحبت دعوة محمد، ومن الممكن إذا محّصنا أقدم الروايات أن ننتهي إلى رسم صورة عامة جديرة بالثقة، وإن كانت مختلفة التفاصيل ولا سيّما التواريخ غير الأكيدة» «3» .
لا بأس.. فما دام يشير إلى إمكانية رسم صورة عامة جديرة بالثقة، فإذا يمكن أن نتقبّل مبدئيا شكوكه حول الظروف التي صحبت الدعوة و (التفاصيل) و (التواريخ) .
ولكن هل نجح (وات) في بناء الصورة الجديرة بالثقة؟!
__________
(1) محمد في مكة، ص 73.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 93.
(1/53)
________________________________________
يمكن أن تكون المسألة نسبيّة؛ فهو بالمقارنة مع غيره من المستشرقين الذين درسوا السيرة يعدّ- ولا شكّ- أقدرهم على النجاح في هذه المهمة.. ولكنه بالنسبة للمنظور الإسلامي، الأكثر أصالة واتساعا، لواقعة السيرة يبدو أسير حشد من الشكوك، وتخرج الصورة من بين يديه وقد أزيل منها الكثير من مكوّناتها الحقيقية الواقعية، وأضيف إليها- في الوقت نفسه- بعض ما لم يكن فيها أساسا!!
وفي قضية (الوحي) - على سبيل المثال- تعترضنا- يقول وات- صعوبة صغيرة فيما يتعلق بالتواريخ؛ فالكلمات التي تختتم أول ما نزل من الوحي:
(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) هي من الوحي السابق، ويفسر المسلمون القول السابق بأنه يعني (علم استعمال القلم) ، وليس لهذا من فائدة إذا كان محمد لا يعرف القراءة والكتابة، ويبدو (ورقة بن نوفل) من بين الذين اتصل بهم محمد لسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة. ولا شك أن المقطع القرآني حين ردّده محمد قد ذكره بما هو مدين به لورقة.
«ومن المغري (!!) أن نفكّر بأن هذا كان نتيجة لملاحظة ورقة بصدد الناموس، ولكن هذا يتطلب وحيا سابقا على مقطع (اقْرَأْ) ليغذي تلك الملاحظة، ولهذا من الأفضل الافتراض بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر وتعلم أشياء كثيرة، وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة، وهذا ما يعود إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحي الذي نزل على محمد والوحي السابق له» «1» .
وسنعرض فيما بعد لمسألة الأخذ عن ورقة، وتأثر التعاليم الإسلامية اللاحقة (كثيرا بأفكاره) !
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 93.
(1/54)
________________________________________
ولكنّنا نودّ أن نشير هنا إلى دوّامة (الشكّ) التي يثيرها (وات) في لحظات (الوحي) الأولى.. إن المسألة واضحة، وقد جرت بالشكل المعروف التالي الذي تحدّثنا به عائشة رضي الله عنها: « ... حبب إليه صلى الله عليه وسلم الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه، (يتعبد الليالي ذوات العدد) قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني «1» حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:
اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زمّلوني، زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلّا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟
قال: نعم.. لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي» «3» .
__________
(1) أي: ضمّني وعصرني.
(2) أي: رجع بالآيات أو القصة.
(3) البخاري: (تجريد: 1/ 6- 7، طبعة سنة 1931 م) .
(1/55)
________________________________________
فأي وحي سابق هذا؟ وأية صلات مبكّرة ومستمرّة مع (ورقة) ؟ إن (وات) إذ يهدم جوانب من واقعة الوحي الأولى، مما أجمع عليه المؤرخون والمحدّثون؛ يعود فيفترض جوانب أخرى مما لم يشر إليه مؤرّخ أو محدّث، ثم هو يكشف عن انسياقه وراء منهجه النقدي المتشكّك بعبارة:
«من المغري أن نفكّر» .. كما أنه يمارس نوعا من المبالغة، أو التعميم، بعبارة: «وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار (ورقة) ..» دون أن يبين هذا التأثير أو أدلته على وجه التحديد.

2
وقد يتمخّض الشكّ في الرواية لدى (وات) من خلال المعطيات الزمنية التالية التي تحدث نوعا من الاتفاق العرضي بين تفاصيل الرواية وبين ما حدث فيما بعد، وقد يطاح بالرواية نتيجة هذا الاتفاق الذي يرى فيه (وات) قصدا متعمدا لتحقيق مصلحة، أو تمجيد شخصية، أو تنفيذ دعاية لهذه الشخصية أو تلك.
فمثلا «لما كان النبل يقوم مبدئيا في الإسلام على الإخلاص لقضية الأمة الإسلامية، فقد استغل المسلمون حقوق أجدادهم في النبل والكرامة، ولهذا يجب معالجة أخبار المسلمين الأول بحذر، فإذا ما وجدنا أن أحفاد شخص ما أو المعجبين به يعلنون أنه كان بين المسلمين العشرة الأوائل، فمن الحذر الافتراض أنه كان على الأغلب الخامس والثلاثين بينهم» «1» .
ومثلا قول الطبري: «إنه بعد هؤلاء الثلاثة الذين كانوا أول من انتمى للإسلام، يأتي عدد مهم من المسلمين الذين جاء بهم أبو بكر، موضع شكّ، لأن هؤلاء الرجال المذكورين هم في الحقيقة الخمسة الذين أصبحوا
__________
(1) محمد في مكة، ص 144.
(1/56)
________________________________________
القادة مع علي حين وفاة عمر، فقد عيّنهم لتأمين انتخاب الخليفة في مسألة الستة (الشورى المعروفة) . وأن من الصعب القول بأن الخمسة أنفسهم قد جاؤوا معا إلى محمد قبل عشرين سنة عند بدء الإسلام. وأسماؤهم هي:
عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، طلحة بن عبيد الله» «1» .
ألا يجوز أن يكون اختيار عمر رضي الله عنه لهؤلاء الرجال الستة، كي ينتخبوا من بينهم الخليفة التالي، كونهم أول من أسلم بعد أبي بكر نفسه، فاكتسبوا بذلك ليس مكانة في قلوب المسلمين وشرفا في الإسلام فحسب، ولكن خبرة وإدراكا تمكنانهم من قيادة دولة أصبحت تمدّ ظلّها على مساحات واسعة من العالم القديم.. أيكفي هذا التطابق الذي ربما يكون متعمدا، لكي نضع الرواية وشبيهاتها موضع الشك، ونضحّي بها؟
عبر هذا السياق من الشكّ أو النفي، يمكن أن نجد افتراضات أخرى يطرحها (وات) يشكّك من خلالها، أو ينفي، روايات ووقائع (قبلية) اعتقد أن ذكرها أو تدوينها فيما بعد يحقق مصلحة أو دعاية لهذه الفئة أو تلك أو لهذه الأسرة أو تلك.
فمثلا يمكن «أن نفرض أن حماية مطعم بن عدي، زعيم بني نوفل، لمحمد، إثر عودته من الطائف، كان ببعض الشروط، وأن نجد حديثا عن ذلك في المصادر، وليس ذلك مدهشا لأن القصة تروى لتمجيد نوفل، ثم أهملت فيما بعد لأنها تسيء لبني هاشم، ولهذا لا يذكرها ابن إسحاق (بينما يدخلها ابن هشام» «2» ، ومثلا «إن عروة كان ينتمي لبيئة سياسية في الدولة الإسلامية؛ وهي الحزب الحاكم أيام محمد المؤلّف من الثلاثي أبي
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 145- 146.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 222.
(1/57)
________________________________________
بكر، عمر، وأبي عبيدة (!!) ، ثم حزب عائشة، طلحة والزبير، الذي عارض عليا سنة 36 هـ ومعاوية معا، ثم الحزب المسؤول عن الثورة ضد الأمويين من سنة 62- 72 هـ، (وليست هذه الجماعات متماثلة، بل يوجد بينها نوع من الاستمرار) وليس من المستغرب إذن أن نجد بين المواد التي رواها عروة عناصر تجعل قبائل أمية هي المسؤولة عن معارضة محمد وأبي بكر، وتظهرها بمظهر سيّئ، ومن ذلك شكاوى محمد من مسلك بني عبد مناف نحوه، وقوائم المعارضين وفظاظة أبي جهل ولجاجته للقتال» «1» .
ومثلا «يجب أن نتذكر أن هناك من حاول التقليل من أهمية الانتصارات الأولية التي حازها محمد (في المرحلة المكية) ؛ لأن أحفاد الذين تبعوه لفترة من الزمن ثم تركوه لا يودّون أن تذكر هذه الأمور» «2» .
ومثلا «يهمنا أن نذكر أن عروة (الأخباري المعروف) كان ينتمي لعائلة الزبير المعادي حينئذ لعائلة أمية، وأن روايته العائلية تسعى للمبالغة في الاضطهاد وتأثيره على مجرى الحوادث، اعتمادا على أن قبيلة أمية كانت إلى جانب المعارضة لمحمد» «3» .
وسنتكلم عن موقف (وات) من مسألة الاضطهاد القرشي بعد قليل، والمهم أنه ليس عروة وحده الذي تحدث عن وقائع الاضطهاد لكي نشكك في كونها مبالغا فيها نكاية ببني أمية، وإنما غيره من الأخباريّين والمؤرّخين الذين لم تكن لهم صلة مباشرة بهذه العائلة أو تلك!!
ودور العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الكبرى معروف، كما أن دوره في فتح مكة أيضا معروف.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 267.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 171.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 231.
(1/58)
________________________________________
ومعروف أيضا أنه لم يقف يوما بمواجهة الدعوة، أو يلحق بها المتاعب، على الرغم من وثنيّته، خلافا لما صدر عن أخيه أبي لهب، حتى ليمكن اعتبار العباس أحد مستشاري الرسول صلى الله عليه وسلم وحماته أسوة بعمّه المتوفى أبي طالب، ولا ندري مدى صحة الرواية التي تقول: إنه أسلم في فترة مبكرة، وأنه اختار أن يظلّ في مكة لتأدية مهامّه في خدمة الدعوة من هناك مستندا إلى مكانته العائلية.
ومهما يكن من أمر فإن (وات) يرى أن ينفي وجوده في بيعة العقبة بالصيغة القاطعة التالية: «يجب رفض الحادث الذي وقع للعباس على أنه اختراع لا حق لإخفاء المعاملة المشينة التي لحقت بمحمد على يد بني هاشم في ذلك الوقت، كان محمد عند عودته من الطائف في حماية سيد قبيلة نوفل، أما القول بصحة الحادث لأن العباس يتكلم فيه ككافر فلا أساس له» «1» . ويمضي (وات) إلى الاستنتاج التالي: «كان الشرك في نظر المعارضين (في نهاية القرن الأول الإسلاميّ) أقلّ من العار، أما الرواية المنسوية لوهب بن منبّه والتي حفظت على ورق البردي فهي تميل إلى تأكيد الرأي الذي تقدّمنا به سابقا.
يمدح العباس محمدا في هذه الرواية، ثم يأذن محمد لأحد المدنيين بالرد على العباس ومؤاخذته مظهرا له أنهم يحسنون الظن بمحمد أكثر منه، ونشعر أنّنا أمام ردّ على دعاية العباسيّين، والافتراض الذي يبعث على الرضا هو أن زيارة العبّاس للعقبة اختراع محض استخدمته الدعاية العباسية» «2» .

3
ومسألة اضطهاد الزعامة الوثنية للمسلمين معروفة تماما.. ومتواترة إلى الحدّ الذي تغدو معه محاولة إثباتها عملا لا مسوّغ له.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 232.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 232- 233.
(1/59)
________________________________________
لكن وات يشكّ في أنها كانت بالعنف الذي تشير إليه المصادر، وينفي أن تكون (بالشدة) التي يعرفها الناس جيلا بعد جيل.. ويثير الشكّ حول ما يعدّه مبالغة في تصوير الموقف.. ويسعى لوضع لمساته على الوقائع كي تميل أكثر إلى الاعتدال، فهو يقول: «لا شك أن المصادر حين تتحدث عن فتنة المسلمين إنما تشير لمثل أعمال أبي جهل، وهي ليست مع ذلك فتنة قاسية، يتأكد ذلك إذا ما فحصنا بدقة سير ابن هشام والطبري وابن سعد، لأن ما يذكر فيها يتحدّث بلا شك عن أفظع الشواهد. وكل شيء يدعو إلى إقناعنا بأن الاضطهاد كان خفيفا. ومن الممكن أن المبالغة في الاضطهاد نشأت من محاولة نفي تهمة الارتداد عن الدين عن شخص من الأشخاص.
وتشهد الوثائق التي لدينا على مختلف مظاهر المعارضة المذكورة عن ابن إسحاق؛ فقد شتم محمد وتعرض لإهانات بسيطة كان تجمع أوساخ جيرانه أمام منزله، وربما زاد الإزعاج بعد وفاة أبي طالب. ومن الممكن أن يكون انخفاض رأسمال أبي بكر من 40000 درهم إلى 5000 بين اعتناق الإسلام والهجرة سببه الضغط الاقتصادي الذي كان يلوح به أبو جهل، وليس شراء العبيد كما يقول ابن سعد؛ لأن ثمن العبد لم يكن يتجاوز ال 400 درهم تقريبا، وأشهر الأمثلة على التعذيب الجسدي ما نزل بالعبيد؛ كبلال وعامر بن فهيرة، كذلك رفض العاص بن وائل أن يسدد دينا للخباب بن الأرتّ، ويمكن أن نذكر نوعا رابعا من الاضطهاد؛ وهو الضغط الذي يقوم به الآباء والأعمام والإخوة على أفراد عائلاتهم أو قبائلهم» «1» .
ويخلص (وات) إلى النتيجة التالية: «كان اضطهاد المسلمين إذن خفيفا؛ لأن نظام الحماية في مكة- حماية القبائل لأفرادها- كان يمنع من أن يؤذى المسلم على يد فرد من قبيلة أخرى حتى لو كانت قبيلة المسلم لا تميل إلى
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 190- 191.
(1/60)
________________________________________
الإسلام، لأن الامتناع عن نصرة العشير في نزاعه مع الآخر يعد مساسا بشرف القبيلة، ولهذا اقتصر الاضطهاد على:
1- حالات لا تمس علاقات القبائل حين يكون المضطهدون في القبيلة نفسها، أو حين تكون الضحية لا تحميها أية قبيلة.
2- أعمال غير مذكورة في شريعة الشرف التقليدية؛ كالإجراآت الاقتصادية والشتائم اللفظية التي لا تمس إلا الفرد وليس القبيلة.
وقد كان هذا الاضطهاد المحدود كافيا لتنشيط الإسلام الوليد ولكنه لم يستطع ردّ أيّ مؤمن عن دينه» «1» .
والحديث عن عنف الاضطهاد يطول، ولن يتّسع المجال سوى لطرح إشارات فحسب عن بعض ما كان يجري بين المسلمين وخصومهم يتبين من خلالها أن الاضطهاد لم يكن (خفيفا) كما ذهب (وات) .
كانت كل قبيلة تثب على من فيها من المسلمين، أحرارا وعبيدا، فتحبسهم وتعذبهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي ينصب عليه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وقد روى مجاهد أن المستضعفين من المسلمين ألبسوا دروع الحديد وصبروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم «2» .
وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم في رمضاء مكة، فيمرّ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة!! وقتلت أمه وهي تأبى إلّا الإسلام، ويقال بأنها أغلظت لأبي جهل في القول فطعنها في بطنها.. وكان عمار يعذّب
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 192.
(2) البلاذري: أنساب: 1/ 158.
(1/61)
________________________________________
حتى لا يدري ما يقول «1» . وجيء بخباب بن الأرتّ فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرضف حتى ذهب ماء متنه، ويقول خباب نفسه: لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري فما أتيت الأرض إلّا بظهري، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا يتمنّينّ أحدكم الموت» لتمنّيته!! «2» .
وقد بلغ من شدّة الاضطهاد أن بعض المسلمين قد تضعضعوا أمام المحنة ولم يطيقوا تحمل الأذى والاضطهاد، وأنهم أبدوا شكّهم في نصر الله الموعود للمسلمين، فنزلت الآيات 11- 15 من سورة الحج تحمل على هذا النوع من الناس بأسلوب عام حملة لاذعة:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) «3» .
عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟
قال: نعم! والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه وما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به «4» .
ولعل (وات) كان يمهّد بوجهة نظره تلك (لنفي) آخر لواحدة من وقائع السيرة المكية المعروفة تماما: إن هجرة المسلمين إلى الحبشة كانت بسبب الاضطهاد.. لكي يطرح بدلا من ذلك شكّه في هذا السبب، ويقدّم بديلا عنه: محاولة الرسول صلى الله عليه وسلم تفادي انشقاق كاد يقسم المسلمين حزبين!!
__________
(1) المصدر السابق نفسه: 1/ 158- 159.
(2) المصدر السابق نفسه: 1/ 178.
(3) دروزة: سيرة الرسول: 1/ 283- 284.
(4) ابن هشام: تهذيب، ص 72، البلاذري: أنساب: 1/ 197.
(1/62)
________________________________________
يضطرب (وات) في تحليل أسباب الهجرة إلى الحبشة وبقاء المسلمين هناك ردحا طويلا بين خمسة أسباب: أولها: الهروب من الاضطهاد، وثانيها: البعد عن خطر الارتداد، وثالثها: ممارسة النشاط التجاري، ورابعها: السعي للحصول على مساعدة حربية من الأحباش، ثم يشكّك في جدوى الاعتماد على هذه الأسباب ويقول: «من الصعب مقاومة الفكرة القائلة بوجوب الاطمئنان إلى السبب الخامس؛ وهو أنه نشأ انقسام قويّ في الرأي داخل أمّة الإسلام الناشئة» «1» .
وفي مكان سابق كان (وات) قد قال: «يبدو أن إقامة خالد بن سعيد الطويلة في الحبشة تشير إلى أنه كان على خلاف مع محمد في سياسته، وأنه لم يكن يوافق على التوجيه السياسي المتزايد للإسلام، ولا على أهمية الدور السياسي لمحمد بسبب نبوته، ولو أن خالدا اهتم بالنواحي السياسيّة للرسالة لدفن خلافه مع محمد، وعاد إلى مكة قبل السنة السابعة للهجرة» «2» .
يستنتج (وات) من هذه الأخبار القليلة التي ساقها حدوث خلاف في الرأي بين المسلمين، وخاصة مع أبي بكر الذي كانت له مكانة قوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوعز لمخالفي أبي بكر بالهجرة إلى الحبشة تفاديا للأخطار التي قد تنجم عن هذا الخلاف، غير أن الأدلة التي يسوقها (وات) ليست قوية، فإن بعض من هاجر إلى الحبشة كعثمان وطلحة كانوا من أصحاب أبي بكر.. كما أن اختفاء أسماء بعض المسلمين الأول المهاجرين وعدم لعبهم دورا رئيسيا في السياسة فيما بعد، وخاصة في عهد أبي بكر، لا يمكن أن يعزى إلى خلافهم معه فقط، بل قد يرجع إلى انشغالهم بأمور أخرى في الحياة، والواقع أن أبا بكر استعان بكثير ممن أسلم عند فتح مكة أو بعدها، وبأولاد كثير ممن قاوم الإسلام، فلو أهمل أبوبكر رجلا لماضيه لكان الأجدر به أن يهمل هؤلاء ولا يسلّمهم قيادة
__________
(1) محمد في مكة، ص 182- 189.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 162.
(1/63)
________________________________________
الجيوش الإسلامية التي أحسنوا قيادتها. والواقع أن الآيات القرآنية «1» توحي بأن دافع الهجرة هو الاضطهاد الشديد الذي وقع على المسلمين، والمحاولات التي بذلها المشركون لفتنتهم، وإنها هي التي دفعت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيعاز بالهجرة «2» ، الأمر الذي كاد أن يدفع أبابكر نفسه إلى الهجرة لولا أن أجاره أحد الزعماء «3» .
وحتى في المسائل الحاسمة التي لا تقبل مداورة ولا التواء، يحاول (وات) أن يقتحم (بشكّه) و (نفيه الكيفيّ) جدار الوقائع، لكي يزرع هناك افتراضاته وتحليلاته.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهاجم يوما عبادة الأصنام في الكعبة، وإنما انصبّ هجومه على عبادة الأصنام القابعة في المعابد الكائنة في ضواحي مكة. ولذا فإن معارضة مكة للإسلام لم يكن سببها الأساسي «الخوف من أنه إذا دان أهل مكة بالإسلام وتركوا الإلحاد كفّ البدو عن زيارة الكعبة، وحلّ الخراب بذلك في تجارة مكة، وهذا السبب غير مرض، فسوف نحاول عبثا العثور في القرآن على أي أثر لمهاجمة عبادة الأصنام في الكعبة.. ولقد رأينا أن الهجوم على عبادة الأصنام كان في المعابد الكائنة في ضواحي مكة ولم يكن لهذه المعابد أهمية تجعل التخلّي عنها يهدد بانهيار التجارة المكّية عامة» . ويخلص (وات) إلى القول بأن «فتح مكة لم يغيّر سوى الميزات الثانوية» «4» .
لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ لحظات (إعلانها) الأولى وحتى دخول مكة وتحطيم الأصنام، صيحة متواصلة ضد الوثنية، وصراعا مكشوفا ضد الأصنام أيا كانت في مكة أو خارجها.
__________
(1) انظر: العنكبوت: 1- 23، البروج: 10، القصص: 57، الزمر: 10، النحل: 41، 110.
(2) د. صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب: 1/ 368.
(3) البلاذري: أنساب: 1/ 205- 206.
(4) محمد في مكة، ص 213- 214.
(1/64)
________________________________________
إن هذا التجزيء الذي يمارسه (وات) أسوة بكثير من المستشرقين مرفوض تاريخيا وعقيديا؛ فالحركة الإسلامية حركة توحيد مطلق ينفي منذ اللحظة الأولى أي توجه وثني، وقد أدركت الزعامة القرشية هذا جيدا، ولذا فإنها كانت مستعدة للتنازل عن أي شيء، لمنح الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يريده إلّا هذه: شهادة ألاإله إلّا الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في المقابل مستعدا أن يدخل في حوار مع الزعامة الوثنية في كل شيء إلّا في هذه: شهادة ألاإله إلّا الله، وما تعنيه بالضرورة من رفض مطلق للوثنية أو عبادة الأصنام.
ولا يدري المرء، إذا أخذ بوجهة نظر (وات) أين يذهب برواية البلاذري التي يشير فيها إلى اشتداد معارضة قريش للدعوة بعد تصاعد الحملات الشديدة التي راح الرسول صلى الله عليه وسلم يشنها ضد آلهتهم وأصنامهم «1» ، ولا أين يذهب برواية ابن هشام «2» والطبري «3» التي تذكر أن المشركين أخذوا- يوما- بمجامع رداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: أنت الذي تقول كذا وكذا في عيب آلهتنا وديننا؟ فما كان جوابه إلّا أن قال لهم: «نعم أنا الذي أقول ذلك» !! ولا برواية ابن هشام التي تتحدث عن ذلك الاجتماع الذي عقده زعماء قريش وبعثوا إلى الرسول ليكلموه.. وقالوا له: إنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام وفرّقت الجماعة.. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا..
فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا.. فإن تقبلوا مني ما
__________
(1) أنساب: 1/ 115- 116.
(2) تهذيب، ص 57- 60.
(3) تاريخ: 2/ 332- 333.
(1/65)
________________________________________
جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم..» «1» .
ولا يدري المرء كذلك أين يذهب برواية ابن سعد التي تقول: إن وفدا من زعماء قريش قدموا إلى أبي طالب ليلتمسوا إليه أن يكفّ ابن أخيه، فاستدعاه، وقال له: يا بن أخي هؤلاء عمومتك وأشراف قومك، وقد أرادوا أن ينصفوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا أسمع» !! قالوا: تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أعطيتكم هذه، هل أنتم معطي كلمة إن أنتم تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟» ، فقال أبو جهل: إن هذه كلمة مربحة، نعم وأبيك لنقولنها وعشر أمثالها!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قولوا (لا إله إلّا الله) » فاشمأزّوا ونفروا منها، وغضبوا وقاموا وهم يقولون:
اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد «2» .
ومن عجب أن (وات) يضع يده في أكثر من موضع من كتابه على إحدى الحقائق الأساسية للحركة الإسلامية؛ أن التغيير الديني يتمخّض بالضرورة عن تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية (وسنتناول هذه المسألة فيما بعد) وكان يجب عليه من أجل أن يكون منطقيا مع هذه القناعة أن يؤكد حقيقة التغيير الشامل الذي ينتظر مكة على يد الدعوة الجديدة، لكنه يتّجه وجهة معاكسة تماما، فيطرح مقولته تلك: أن فتح مكة لم يغيّر سوى الميزات الثانوية.
وثمّة فرق بطبيعة الحال بين الاعتماد على نظرية الأسباب الاقتصادية التي يرفضها (وات) في تفسير تخوف المكيّين من الإسلام «3» . وبين أن
__________
(1) تهذيب، ص 64- 67.
(2) طبقات: 1/ 1/ 135.
(3) محمد في مكة، ص 214.
(1/66)
________________________________________
الدعوة الإسلامية جاءت لكي تقلب مواضعات الحياة المكية، بما فيها الاقتصادية، رأسا على عقب.
وحول الرواية المعروفة التي يوردها الطبري وابن هشام وغيرهما، والتي تتحدث عن اجتماع الزعامة القرشية لاتخاذ موقف نهائي من الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل هجرته إلى المدينة، يثير (وات) شكّا جديدا: إن النية لم تنعقد على قتل محمد، ويستبدل بذلك- كعادته- افتراضا يراه، وهو أن محمدا ربما يكون قد رجم في مكة ذاتها بعد الاجتماع، وهو يطرح المسألة بالشكل التالي: «ليس هناك داع للشك بأنّ هذا الاجتماع قد عقد، وأن الحاضرين أدركوا أن محمدا يهيّئ مشاريع معادية لهم، كما يقول ابن إسحاق، وتوضح الحوادث التي وقعت فيما بعد بأن النية لم تنعقد على قتل محمد، لأنّ الاتفاق على ذلك لن يكون بالاجتماع كما تؤكده المصادر، ولربما كان وقوع الخطر يهدد محمدا وأتباعه برحيل محمد، ومن الصعب التأكّد من طبيعة الخطر الذي كان يهدد محمدا وأتباعه، فلقد أضيفت أشياء كثيرة على قصة الهجرة لتجميلها، حتى إن المصادر الأولى نفسها لم تخل من الإضافات، ولا يستبعد أن يكون محمد قد رجم في مكة ذاتها بعد الاجتماع» «1» .

4
إن (وات) الذي يعتمد- أحيانا- إثارة الشك في الواقعة التاريخيّة، أو نفيها إذا اقتضى الأمر، يسعى، بالاتجاه النقدي المبالغ فيه نفسه، إلى ما يقابل هذا ولا يقلّ عنه سوآ: افتراض وقائع أو استنتاجات معيّنة قد لا تدعمها حقائق السيرة ووقائعها، بل إنه يؤكد صدق رواية ضعيفة أو واقعة مدخولة ليس لها ما يؤيدها في حالة عرضها على التيار العام المتوحّد لتلك الحقائق والوقائع.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 237.
(1/67)
________________________________________
إنه إذا كان في الحالة الأولى يشكّك فيما هو أقرب إلى الصدق، فإنه في الحالة الثانية يصدق ما هو أقرب إلى الكذب.. والموقفان في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة؛ هي عملة النقد الذي يتجاوز حده الإيجابي البنّاء إلى الهدم والنفي والتشكيك.. إنه يفترض- مثلا- أن الآية التي تندّد برفض السجود عند تلاوة القرآن «1» إنما هي بادرة لبعض المعارضة في صفوف المؤمنين، أو إنها نوع من الارتداد عن الدين، وهو يستعمل هذه العبارة الافتراضية: «ولربما تخيّلنا أن الآية يمكن أن تكون تلميحا ... إلى آخره» «2» .
كما يفترض أن «تجربة محمد في نخلة، عند عودته من الطائف «3» ، والتي هدأت من انحطاطه العصبي، مرحلة في حرمانه الثقة بالمجتمع الإنساني» «4» .
ولا داعي للتأكيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما فقد الثقة يوما بالمجتمع الإنساني، ولا عانى من أي انحطاط عصبيّ، وإنما طرح قولته المعروفة مخاطبا الله سبحانه وتعالى: (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي) ، والتي تتضمن معنى التماسك النفسي إزاء الأحداث، والثقة المطلقة بعون الله والاستعداد المتحدّي لمواصلة الطريق.
وعن سودة بنت زمعة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية بعد خديجة، يقول (وات) : «نستطيع أن نفترض أنّ صلتها بمحمد كانت صلة خادم
__________
(1) يشير بذلك إلى الآية 21 من سورة الانشقاق: (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) .
(2) المصدر السابق نفسه، ص 211.
(3) يشير وات بذلك إلى الآيات القرآنية التي تتحدّث عن سماع الجنّ للقرآن الكريم في سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) انظر الآيتين: 29- 30 من سورة الأحقاف.
(4) محمد في مكة، ص 217.
(1/68)
________________________________________
بمخدومه» «1» كيف؟ لا أحد يدري.. وما هي الوقائع التي تؤكد هذا التصوّر المظلم؟ لا أحد يدري كذلك.. وهو يفترض أن استدعاء محمد صلى الله عليه وسلم للمهاجرين من الحبشة في السنة السابعة للهجرة كان بسبب رغبته في تقوية مركزة بالاعتماد على تأييد تلك الجماعة الصغيرة «2» .
والافتراضات كثيرة، والاعتماد على الضعيف الشاذّ منبثّ هنا وهناك، ولن يتسع المجال لمناقشتها أو حتى لاستعراضها.. ولكننا نريد أن نقف قليلا عند واحدة منها نظرا لخطورتها البالغة، ولكونها تمثل (نموذجا) واضحا لواحد من الأخطاء المنهجيّة التي يعاني منها البحث الاستشراقي:
الافتراض، وتبني الضعيف الشاذ ومحاولة ترصيعه وترصينه بعبارات التوثيق والتأكيد، بخلاف الروايات والوقائع التي يسعى إلى التشكيك بها، أو نفيها، حيث يحاول هدمها بعبارات التضعيف والتشكيك كما رأينا.
يقول (وات) - ولنلاحظ صيغ التأكيد التي يبثها في عباراته-: «نلاحظ واقعتين نستطيع أن نعدّهما أكيدتين: أولا: رتّل محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحى بها الشيطان على أنها جزء من القرآن؛ لأنه لا يمكن أن تكون القصة قد اخترعها مسلمون فيما بعد أو دسها غير المسلمين.. ثم أعلن محمد فيما بعد أن هذه الآيات يجب ألّا تعدّ جزآ من القرآن، ويجب استبدال آيات بها تختلف عنها كثيرا في مضمونها.
والروايات الأولى لا تحدد الوقت الذي حدث فيه ذلك، والأقرب أن يكون ذلك قد وقع بعد بضعة أسابيع أو أشهر، وهناك واقعة ثالثة أو مجموعة وقائع نستطيع أن نكون واثقين منها؛ وهي أنه كان يجب على محمد تجاه معاصريه المكيّين أن يشير في القرآن للآلهة: اللات التي كانت معبودة الطائف، والعزّى المعبودة في نخلة بالقرب من مكة، ومناة التي كان معبدها
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 181.
(1/69)
________________________________________
بين مكة والمدينة ... ما تعنيه إذن الآيات الإبليسية أن الاحتفالات مقبولة في المعابد الثلاثة حول مكة، وأما معنى الآيات التي تقول بأن العبادة في هذه المعابد غير مقبولة فهي لا تحرم العبادة في الكعبة» .
«ويجب أن نعترف بأن الآيات التي صححت سورة النجم تمجّد الكعبة على حساب المعابد الآخرى، إلّا إذا افترضنا وجود آيات أخرى كانت تحرم ذلك، ثم رفعت فيما بعد من القرآن، ولكن ليس لدينا أي سبب يمكن الأخذ به، ومن المهم أن نتذكّر بهذا الصدد أن هذه المعابد قد هدمت عند صعود نجم محمد..» .
«وهكذا فإنّ قيمة الآيات الإبليسية مهمّة، فهل اعترف محمد بصحّتها لأنه كان يهم كسب الأنصار في المدينة والطائف وبين القبائل المجاورة؟
هل كان يحاول التخفيف من تأثير الزعماء القرشيين المعارضين له باكتساب عدد كبير من الأتباع؟ ذكر هذه المعابد دليل على أن نظرته أخذت في الاتساع (!!) » .
ويمضي (وات) إلى القول: «إن نسخ الآيات (الإبليسية) مرتبط بفشل التسوية (بين محمد وزعماء قريش) ، ولا شيء يسمح لنا بالاعتقاد أن محمدا قد استسلم لخداع المكيّين، ولكنه انتهى به الأمر إلى إدراك أن الاعتراف ببنات الله (كما كانت تسمى الآلهة الثلاثة وغيرها) يعني إنزال الله إلى مستواها. وعبادة الله في الكعبة لم تكن في الظاهر تختلف عن عبادته في نخلة والطائف وقديد. وهذا يعني أن محمدا لم يكن يختلف كثيرا عن كهّانهم، وأنه لم يكن يرى نفسه مدعوا لأنّ يكون تأثيره أعظم من تأثيرهم، ينتج عن ذلك: أن الإصلاح الذي عمل له من كل قلبه لن يتحقّق.
«وهكذا لم يرفض محمد عروض المكيّين لأسباب زمنيّة، بل لسبب دينيّ حقيقي؛ ليس لأنه لم يثق بهم مثلا، أو لأنه لم يبق شيء من مطامحه
(1/70)
________________________________________
الشخصية، بل لأن الاعتراف بالهتهم يؤدي إلى فشل قضيته والمهمة التي تلقّاها من الله، ولا شك أنّ الوحي قد نبّهه إلى ذلك، كما أنه من الممكن أن يكون قد شعر بخطئه بهذا الصدد قبل نزول الوحي..» «1» .
ويخلص (وات) إلى تركيز المسألة بالشكل التالي: «ولا شكّ أن محمدا قد نال نجاحا أمام زعماء قريش ليهتموا بأمره، فظهرت المحاولات لحمله على الاعتراف بصورة أو أخرى بالعبادة في المعابد المجاورة، وكان في أول الأمر مستعدا لذلك بسبب المنافع المادية (!!) ، ولأنه كان يشعر أنّ ذلك يساعده على تحقيق مهمته بسهولة، ثم أدراك شيئا فشيئا عن طريق النصح الإلهي أنّ ذلك كان تسوية مميتة، فأعدّ مشروعا لتحسين وسائله بالمحافظة على الحقيقة كما تظهر له، فأعلن رفض الشرك بألفاظ شديدة تغلق الباب في وجه كل تسوية» «2» .
إن هذه الواقعة المدخولة (التي تسمى أيضا بحديث الغرانيق) والتي يفترض (وات) أنها أكيدة، تحمل عناصر تناقضها واضطرابها وتهافتها.
إنها تعني: أن محمدا صلى الله عليه وسلم يمكن أن يخطئ، أو يتقبّل الخطأ، ولكن في ماذا؟ في أشد الأمور في دعوته وضوحا، وصرامة وجدّية، واستعصاء على الغموض، أو الخطأ أو التنازل أو المساومة: التوحيد المطلق لله، ورفض الوثنية رفضا جازما قاطعا لا يقبل مهادنة أو اعترافا..
إن (وات) نفسه يؤكد هذا المعنى، ولكن في تسويغ النسخ الذي تعرض له الموقف وليس في نفي الواقعة نفسها أو التشكيك فيها كما كان يجب أن يكون، ولا سيما بالنسبة لرجل يتميّز بالمهارة في النفي والتشكيك بالاستناد إلى ما يمكن اعتباره أدلة مقارنة أو مقنعة!!
__________
(1) محمد في مكة، ص 166- 168.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 176- 177.
(1/71)
________________________________________
ثم إن (وات) الذي أعلن في مقدمته أنه سيمتنع عن استعمال تعبير مثل:
«قال تعالى» ، أو «قال محمد» ، بل «يقول القرآن» يعتمد ها هنا صيغا وتعابير يخالف فيها عما أكده في مقدمته، ويوحي للقارئ بأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي يرتب آيات القرآن وفق ما تقتضيه الظروف!! فنحن نقرأ عبارات كهذه:
«أعلن محمد أن هذه الآيات لا يجب اعتبارها جزآ من القرآن، ويجب استبدال آيات بها تختلف عنها في مضمونها» ، «كان يجب على محمد أن يشير في القرآن للآلهة اللات» ، «إن ذكر المعابد في الآيات الإبليسية دليل على أن نظرته أخذت في الاتّساع» !!.
وهذا تناقض آخر.. فإنّ (وات) ما يلبث أن يبيّن خطأ هذا الموقف وتعارضه مع المهمة الأساسية التي تلقّاها محمد عن الله؛ وهي التوحيد..
وحتى على المستوى الشخصيّ فإن الاعتراف بالآلهة كان سينزل بمحمد صلى الله عليه وسلم كما يقرّر وات- من مرتبة النبوة المتفردة إلى أن يكون مجرد كاهن من كهان العرب!! فأيّ اتساع هذا في النظرة من خلال اعتراف بالأصنام يقود إلى نتائج سلبيّة واضحة كهذه؟
ولنرجع إلى رواية (الآيات الإبليسية) أو قصة الغرانيق التي أوردها ابن سعد في طبقاته والطبري في تاريخه وبعض المفسّرين.. إلّا أن رواياتهم، كما يقول ابن كثير في تفسيره: «من طرق مرسلة كلّها، ولم أرها مسندة من وجه صحيح» !!
«وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلّها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ابن أبي حاتم (التي ينتهي سندها إلى ابن شهاب) قال:
أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه
(1/72)
________________________________________
ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان عندها كلمات فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لهي التي ترتجى ... فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك.. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود.. فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين.. فاطمأنت أنفسهم- أي: المشركون- لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدّثهم به الشيطان: أن رسول الله قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيمهم آلهتهم.. ثم نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، وحفظه من الفرية وقال: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... )
إلخ، فلما بيّن الله قضاءه وبرّأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين، واشتدّوا عليهم..» وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء، تنسب قولة.. الغرانيق تلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلل هذا برغبته- حاشاه- في مراضاة قريش ومهادنتها!!
وروايات الحادثة جميعا مرفوضة منذ الوهلة الأولى.. فهي فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف، فإن سياق السورة ذاته ينفيها نفيا قاطعا، إذ إنه يتصدّى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها، فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال، حتى على قول من قال: إن الشيطان ألقى بها في أسماع المشركين دون المسلمين، فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتذوّقون لغتهم، وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ
(1/73)
________________________________________
إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ، ويسمعون بعد ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، ويسمعون قبله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) .. حين يسمعون السياق كلّه فإنهم لا يسجدون مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الكلام لا يستقيم والثناء على آلهتهم، وتقرير أن الشفاعة ترتجى لا يستقيم، وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه الروايات التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين «1» .
و (وات) لا يكتفي بافتراض صحّة حديث الغرانيق هذا، بل يوسّع هذا الافتراض، فيا بني على عدد من الآيات التي تدعو إلى التوحيد ورفض الشرك، من مثل: (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ) «2» هذه النتيجة التي يطرحها بصيغة التأكيد:
«الاعتقاد بأنّ محمدا عانى من إغراء التسوية مدة طويلة» «3» .
ولا نريد أن نمضي في مناقشة هذا الاستنتاج، كما لا نريد أن نعرض لافتراضات (وات) بصدد ظاهرة (الوحي) «4» . لأن هذا يخرج بنا عن دائرة (الاستشراق والسيرة) إلى مواقف الاستشراق من (القرآن الكريم) ، ولكننا فقط- نلمح إلى افتراض آخر للرجل الذي حاول جهده أن يدرس السيرة بأكبر قدر من الأمانة والموضوعية والحيادية والإخلاص..فماذا تكون النتيجة؟ «يجب (بهذا التأكيد الذي لم يمارسه وات تجاه العديد من الوقائع
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، جزء 27، ص 634- 636، المجلد السابع، ط 5 (دار إحياء التراث العربي، بيروت- 1967 م) .
(2) الأنعام: 71.
(3) محمد في مكة، ص 174- 175.
(4) انظر: المرجع السابق، ص 85- 87.
(1/74)
________________________________________
الصحيحة المؤكّدة في السيرة) تفسير قول محمد: (ما أقرأ؟) في ردّه على قول الملك: (اقرأ) : (لا أستطيع القراءة) أو (التلاوة) ، يتضح لنا ذلك من وجود رواية تقول: (ما أنا بقارئ) ، وفي التمييز عند ابن هشام (ما أقرأ) ؛ و (ماذا أقرأ) حيث التعبير الثاني لا يمكن أن يعني إلّا: (ماذا أتلو) ؟ وهذا هو المعنى الطبيعي لقوله (ما أقرأ؟) ، ويبدو من المؤكّد تقريبا (لاحظ كلمة:
من المؤكد) أنّ المفسرين التقليديّين اللاحقين تجنبوا المعنى الطبيعي لهذه الكلمات ليجدوا أساسا للعقيدة التي تريد أن محمدا لم يكن يعرف الكتابة، وهذا عنصر رئيسي للتدليل على طبيعة القرآن المعجزة، ومحتوى رواية ابن شداد في تفسير الطبري، يفترض إذا كان النص صحيحا، إن (ما) بمعنى (ماذا) لأنها مسبوقة بالواو» «1» .

5
ومن قبيل (الافتراضات) التي يزرعها (وات) في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلح عليها وكأنها جزء أساسي من حقائق السيرة، أو هكذا يتوهم ويريد أن يجر القارئ المسلم معه إلى دائرة الوهم، تلك المقولة الظنيّة التي رددها الجاهليون أنفسهم من قبل؛ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلقى (العلم) عن رجال من أهل الكتاب!! أو أنه- على الأقل- تأثّر بهم وتعلّم منهم.
(لا شكّ) بهذا التعبير المناقض لشكّية (وات) يطرح الرجل واحدة من مقولاته، أو افتراضاته، في الدائرة التي نحن بصددها: «لا شك أن خديجة قد وقعت تحت تأثيره (أي: ورقة بن نوفل الذي اعتنق المسيحية أخيرا) ، ويمكن أن يكون محمد قد أخذ شيئا من حماسه وآرائه» «2» .
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 85- 86.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 75.
(1/75)
________________________________________
«وتشجيع ورقة مهم، ليس هناك من سبب للشكّ (لاحظ العبارة) في صحة الجملة بصدد الناموس، واستعمال اللفظ الذي لا يرد في القرآن بدلا من لفظ (التوراة) القرآني دليل على صحة القول.. أن النص الذي يجمع بين محمد وورقة أفضل من النص الذي يجعلهما لا يلتقيان ... وتعد كلمة (ناموس) عادة مشتقة من كلمة (nomos) اليونانية، وهي تعني إذن: الشريعة أو الكتب المقدّسة، وهذا يتفق تماما مع ذكر موسى. وقد أبدى ورقة ملاحظة بعد أن أخذ محمد يتلقى الوحي؛ وهي تعني أن ما نزل على محمد مماثل لكتب اليهود والمسيحيين المقدسة. كما أن محمدا سمع ما يوهمه بأنه مؤسّس أمّة ومشرع لها، وإذا كان محمد كما يبدو مترددا بطبعه (!!) فإن هذا التشجيع بإقامة بناء ضخم على تجاربه يرتدي أكبر أهمية لتطوّره الداخلي» «1» .
وإذا كان (وات) في النصّين السابقين يلمّح، فإنه في النص التالي يصرّح بأبعاد العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وورقة بن نوفل: «يبدو ورقة من بين الذين اتصل بهم محمد بسبب معرفته بكتب المسيحية المقدسة. ومن الأفضل الافتراض (لاحظ التعبير) بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر، وتعلّم أشياء كثيرة، وقد تأثّرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيرا بأفكار ورقة. وهذا ما يعود بنا إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحي الذي نزل على محمد والوحي السابق له» «2» .
وليس ثمة من داع لمناقشة هذه الافتراضات التخمينية، فيكفي أنها لم ترد لتأييدها أية رواية تاريخية على الإطلاق.. ويكفي أن تكون إفرازا لظنون جاهلية ما كانت بقادرة على تصوّر نزول وحي مستقل جديد من السماء.. أو ظنون طائفية متعصّبة تتشبّث- لسبب مكشوف- بالتصور الجاهلي ذاته ...
ويكفي أنه ليس بمقدور أحد على الإطلاق أن يعثر على رواية تاريخية أو
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 92- 93.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 93.
(1/76)
________________________________________
شاهد واحد ينفي (أمّيّة) الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكفي كذلك أن هذه المقولة لا تعدو أن تكون نتاجا طبيعيا لمنهج افتراضي يحمل استعداده لطرح أي تصوّر قد يدور في ذهن هذا المؤرخ أو ذاك دون أن يكون له سند من التاريخ..
ويكفي، قبل هذا وذاك: أن القرآن الكريم، ذلك المصدر اليقينيّ المتفرّد، قد نفى نفيا قاطعا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتصل أو تلقى تعاليمه الدينية من أي رجل على الإطلاق:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) «1» .
وإذا كان هناك تشابه في علاج بعض المواضيع بين القرآن والكتب الدينية السابقة فلأنها صدرت في الأصل جميعا عن مصدر واحد هو الله سبحانه، ولأن كتاب الله جاء لكي يستكمل بناء كانت التوراة والإنجيل قد بدأته من قبل:
(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) «2» .
(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) «3» .
ولكن يجب أن نتذكّر- أيضا- أن في القرآن حشودا من المقاطع والآيات تصحّح (تحريفات) التوراة والإنجيل، أو تعارضها، أو تفنّدها..
وتطرح حقائق جديدة تغاير بالكلية ما طرحته التوراة والأناجيل!!
__________
(1) النحل: 103.
(2) يونس: 37.
(3) الأنعام: 92، وانظر: البقرة: 41، 89، 91، 97، 101، آل عمران: 3، 30، 81، يوسف: 111، الأحقاف: 12، 30، النساء: 47، المائدة: 46، 48، فاطر: 31.
(1/77)
________________________________________
إن (وات) من حيث لا يشعر القارئ أحيانا، يمارس تزييفا للسيرة قد لا يكون متعمدا.. إنه يخفّف من ألوانها العميقة المتميّزة، ويجرّد جدلها، أو حوارها، في الداخل والخارج، أي: بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين الخصوم، من أبعاده (الدراميّة) التي تمنحه الفاعليّة والحيويّة والعمق..
مثلا.. إنه يستنتج أنّ اضطهاد الزعامة الوثنيّة للمسلمين لم يكن عنيفا بالشكل الذي تصوّره الروايات، وأن هجرتهم إلى الحبشة لم تكن بسبب العذاب والاضطهاد.. وأن قريشا لم تفكر يوما بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.. وأن وحدة المسلمين الداخلية كانت تهتز بين الحين والحين بمحاولة الانشقاق تارة، وبالعصيان الديني تارة أخرى.. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل مرة في مساومة مع الوثنية.. وفي أي شيء؟ في أعز ما جاء به، وأشدّه تمنعا على المساومة والتنازل: وحدانية الله المطلقة، ورفض عبادة الأصنام أو الاعتراف بها بالحسم الذي يليق بجدّية هذا الدين.
قد يسأل سائل: وما علاقة العمق اللوني لنسيج السيرة، والبعد الدرامي لعلائقها المتنوعة، بالبحث العلمي في التاريخ؟!
والجواب واضح تماما.. إن البحث التاريخيّ العلميّ الجادّ يجب أن يحقّق أكبر قدر من الاقتراب من صورة الواقعة التاريخية وصيغها ... أن يسعى لاستعادتها كما تخلّفت وتلوّنت فعلا.. أن يستعيد- مرّة أخرى- معدّلات تشكّلها بالدرجة وبالنوع نفسهما قدر الإمكان.
فإذا عجز البحث، بدرجة أو أخرى عن تحقيق هذه الاستعادة سواء في صيغ الواقعة التاريخية أو طبيعة علاقتها الحوارية مع كافة الأطراف.. إذا عجز عن وضع يده على إيقاعها بالدرجة نفسها التي كانت عليها.. فإن عجزه هذا لا يعدو أن يكون عجزا علميا، أي: عجزا في قدراته على البحث والتحليل والتوصّل إلى كشف النقاب عن الوقائع كما تشكّلت
(1/78)
________________________________________
وتخلّقت فعلا.. اللهم إلّا إذا كان هنالك هدف (مبيّت) يسوق الباحث إلى موقع كهذا.
وقد ناقشنا في مكان آخر مقولات (وات) آنفة الذكر، وبيّنّا أنها لا تقوم على أساس.. ولكننا هنا بإزاء شيء أكبر من التاريخ.. إننا بإزاء حركة عقيدية ونبوّة.. إنّنا بإزاء دين شامل جاء لكي يغير العالم، ويحلّ محلّ الأديان المحرّفة السابقة ويقود البشريّة إلى الصراط..
وإذا كانت الوقائع التاريخية (الاعتيادية) تتحمل عبئا كهذا الذي يجري تحت ستار العلم والنقد، والأكاديمية ... إلى آخره؛ فإن واقعة (النبوة) ترفض هذا العبث منذ اللحظة الأولى..
فنحن إزاء دين قادم من السماء، ونحن قبالة رجل مبعوث من الله سبحانه، ونحن إزاء تقابل بين الغيب والحضور التاريخي.. فإما أن نقبل هذه الحقيقة ونستسلم لها، فلا يكون حينئذ انشقاق، ولا عصيان، ولا مساومة، من قبل أناس اختاروا بأنفسهم، في ظروف في غاية القسوة والعناد، التسليم لكلمة الله، وجعل حياتهم ومستقبلهم، مجرد أدوات لتنفيذها وصيرورتها في العالم.. أو أن نرفض هذه الحقيقة فلا تكون أبحاثنا- ابتداء- تعاملا مع سيرة نبيّ وحركة جماعة من المنتمين لدين قادم من السماء، ولكنها افتراض ملفّق يسعى إلى أن يخضع الواقعة للمقولات نفسها التي تعامل بها سائر الوقائع والأحداث.
إن (وات) يأخذ على أقرانه المستشرقين إلحاحهم في النزعة النقدية، ويحاول أن يضع ضوابط منهجية تشكم هذه النزعة من أن تتحول إلى عملية هدم اعتباطي يشبع الأهواء الذاتية، ولا يقوم على أساس موضوعيّ وقد سبق أن مرّت بنا عبارته في هذا الصدد: «لقد أظهر الكتّاب الغربيون ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عن محمد، وكلما ظهر أي تفسير نقدي لواقعة من
(1/79)
________________________________________
الوقائع ممكنا قبلوه، ولا يكفي مع ذلك في ذكر فضائل محمد أن نكتفي بأمانته وعزيمته إذا أردنا أن نفهم كل شيء عنه، وإذا أردنا أن نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدده فيجب علينا في كل حالة لا يقوم الدليل القاطع على ضدها، أن نتمسك بصلابة بصدقه، وعلينا ألّا ننسى عندئذ أيضا أن الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكنا، وأنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه، ولا يجب مناقشة نظريات المؤلفين الغربيين الذين افترضوا كذب محمد كنظريات، وإن كان يمكن النظر في الحجج التي يذكرونها للتدليل على كذبه» «1» .
ويجدر أن نشير كذلك إلى هجومه المرير على لامنس بسبب انسياقه وراء نزعته الهدمية وتسمية منهجه: «بالطريقة العابثة في معالجة المصادر» ..
بل إنه يقول عنه في مكان آخر بالحرف: «إن افتراضه الشرير بأن قوة مكة كانت تعتمد على جيش من العبيد السود لا أساس له» «2» .
ويشير إلى أن ملاحظات (تيودور نولدكه) في دراسته» die tradtion uber das leben muhammeds: يمكن أن تصحح في أكثر من مسألة آراء لامنس المغالية» «3» .
وهو يأخذ على كيتاني في دراسته الواسعة (حوليات الإسلام) نزعته الش****ة المبالغة ويقول: «ليس من الصعب تصحيح مبالغاته في الشك» «4» .
ثم هو يطرح هذا المبدأ المنهجي (البنائي) في مجابهة النقد الهدمي الذي مارسه المستشرقون إزاء السيرة إلى الحد الذي أوصل لامنس «إلى استبعاد أخبار الفترة المكّية» بكاملها!! على الرغم من أن كثيرا من العلماء اتفقوا
__________
(1) محمد في مكة، ص 94- 95.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 248.
(3) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 9- 10.
(4) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 9.
(1/80)
________________________________________
على القول بأنه مبالغ في ذلك كثيرا «1» فهو يقول: «يجب على الباحث اليوم بعد اطلاعه على نزعات المؤرخين الأوائل ومصادرهم: أن يكون باستطاعته أن يحسب حساب التحريفات، وأن يقدّم الوقائع بصورة أمينة، ويجب أن يقابل الاهتمام (بالتسوية المغرضة) في الرواية القديمة الاعتراف بصحة المادة عامة، ولما كان عدد كبير من الأسئلة التي يهتم بها المؤرخ أواسط القرن العشرين لا يتأثر بتدخل (التلفيق المغرض) ؛ فليس هناك صعوبة في استخراج أجوبة على هذه الأسئلة من المصادر» «2» .
وهو يطرح هذا الافتراض: «من الصعب مثلا القول بأنّ روايات ابن سعد في الأنساب اختلاق محض، فمن ذا الذي تجشم مشقة اختلاق هذا الإطار المعقد؟ وما هي الأسباب؟ يضاف إلى ذلك أنه إذا كنا نحن الذين لا نهتم بالأنساب نعرف من أجدادنا أجدادهم حتى جيلين أو ثلاثة، فما هو المدهش في أن يعرف حتى العرب الشغوفون بالأنساب عن أجدادهم ستة أو ثمانية أو عشرة أجيال؟ لقد لقي جون فان أس طفلا يعرف خمسة عشر من أجداده» «3» ، وهو يصل عبر تحليله لقوائم المعارضين الوثنيين في مكة إلى هذا الاستنتاج المهم: «يتأكد إذن أن المؤلفين الذين وصلتنا مؤلفاتهم كانوا يملكون مادة تاريخية صحيحة، وقد استخدموها بذكاء» «4» .
ومع ذلك كله فإنّ (وات) مارس هو الآخر، وكما رأينا، نوعا من المبالغة في شكوكه، ونفيه الكيفيّ، وافتراضاته، ولا تكاد رواية من الروايات التي تتحدث عن العصر المكي تخرج من (مختبره) إلى ميدان القبول إلّا بصعوبة.. ونجد عبارات نقدية كهذه تتصادى في كتابه: «يبدو
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 10- 11.
(3) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 11- 12.
(4) المصدر السابق نفسه، ص 213.
(1/81)
________________________________________
ذلك صحيحا وإن سجل فيما بعد ليتّفق مع أفكار لاحقة» «1» ، «وإذا صدّقنا الروايات..» «2» ، «وإذا كانت قصص العروض من قبل زعماء قريش صحيحة» «3» ، «نستطيع- إذن- قبول الخطوط الكبرى للروايات التقليدية» «4» ، «تبدو مظاهر الصحة» «5» . كما أنه يكثر من استخدام تعبير (ربما) الذي يضع الوقائع على حافة اليقين.
هذا في حالات (الإيجاب) ، أما في حالات (السلب) فقد رأينا كيف مارس (وات) تشكيكا ونفيا للعديد من معطيات السيرة عبر عصرها المكي.
ولكن- إذا أردنا الإنصاف- ليس بالمبالغة المفجعة التي دفعت مستشرقا كلامنس إلى استبعاد أخبار الفترة المكية بكاملها!!
ذلك أن النزعة الش****ّة والنفي الكيفي قد يقودان- فعلا- إلى إلغاء مساحات بكاملها من التاريخ، والذي يحمل الاستعداد لنفي الجزئيات قد يصل به الأمر إلى نفي الكليات إن لم يكن ثمّة ضوابط منهجية تقول له: أين يجب عليه أن يقف؟ وأين يمكنه أن يمضي؟.
ولن يعني هذا أبدا أن يقف المؤرخ المسلم، في المقابل، وقفة استسلام وخضوع للرواية التاريخية، وأن يرفض أية صيغة من صيغ النقد والشك والافتراض والتصحيح.
ذلك أن منهجا (استسلاميا) كهذا يقود إلى الخطيئة نفسها التي تسوق إليها نزعات التشكيك المغرضة، والنقد المبالغ فيه: تزييف الحقيقة
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 163.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 177.
(4) المصدر السابق نفسه، ص 232.
(5) المصدر السابق نفسه، ص 166.
(1/82)
________________________________________
التاريخية، وتقديم دراسات عن التاريخ، لا كما وقع فعلا أو قريبا مما تشكّل فعلا، بل كما يريد له هذا المؤرخ أو ذاك أن يكون «1» .
إن نقد الرواية التاريخية مطلوب، وهو ضرورة من الضرورات، وإننا يجب أن نتعلم هذا المبدأ الخطير من رجال (الحديث) ، كما يجب أن نذهب مع رجل مفكّر كابن خالدون إلى آخر الطريق وهو ينعي على المؤرخين الذين سبقوه استسلامهم للرواية، وتقبّلهم حتى ما لا يمكن قبوله على الإطلاق.
لكن المبالغة في اعتماد (النقد) والافتراض، والنفي للرواية، أمور قد تقود إلى الوجه الآخر للخطأ..
فإذا كنا في الأولى نستسلم لكل ما قيل، فإننا هنا قد نرفض ونشكّك بكل ما قيل.. وفي الحالتين فإن شبكة الوقائع التاريخية سوف تتعرض للتمزق وملامحها الأصلية ستؤول إلى الضياع..
__________
(1) عن الدعوة إلى الضرورة اعتماد منهج نقدي معتدل إزاء الرواية التاريخية، انظر كتاب (فصول في المنهج والتحليل) للمؤلّف، وكتاب آخر بعنوان: (حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي) .
(1/83)
________________________________________
محمد في مكة (2)
(1/85)
________________________________________
2- إسقاط الرؤية العقليّة المعاصرة على السيرة

1
هنا يكاد المستشرقون أن يلتقوا جميعا.. إن هذا الخلل المنهجي الذي هو أشبه بالحتميّة التي لافكاك منها للبحث الغربي، هو القاسم المشترك الأعظم لجل الأبحاث والدراسات التي قدّموها عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن مواضعات العقل الغربي ورواسبه الدينيّة جنبا إلى جنب مع نزوعه العلماني ومسلماته المادّية، ورؤيته الوضعيّة، وانحساره على المنظور وانكماشه على المحسوس وردّة فعله تجاه كل ما هو روحيّ أو غيبيّ، واعتقاده الخاطئ بأنّ تجاوز الواقع إلى ما وراءه سقوط في مظنة الخيال والمثالية والخرافة واللاعلمية.
بل إن غرور العقل الغربيّ، وانتفاخه المتورّم، واعتقاده القدرة على فهم كل شيء، وتحليل كل معضلة في دائرة ما يصطلح عليه بالعلوم الإنسانية ومنها التاريخ.
هذه كلها تفعل فعلها في حقل الدراسة الاستشراقية في السيرة، وتمسك بتلابيب الباحث فلا يستطيع منها فكاكا.
هذا إلى ما تفرضه مكونات البيئة النسبية في الزمان والمكان من مؤشرات قد تصلح لهذا القرن، ولكنها لا تصلح البتة لقرن مضى أو واقعة تاريخية سبق وأن تخلقت في بيئة أخرى.. في مكان غير المكان، وزمان غير الزمان.. وهي مؤشرات قد تكون كذلك خاطئة أو مضلّلة لكن
(1/87)
________________________________________
المستشرق ابن القرن العشرين يتشبّث بها، ويعض عليها بالنواجذ معتقدا أنها مفاتيح الحل ومفردات المنهج العلمي السليم؟
فكيف إذا أضيف إلى هذا كله نظرة اعتقادية مسبقة ترسم هياكلها على ضوء أيديولوجيتها الصارمة، وتسعى لكي تجد في التاريخ السند والدليل؟! بل إنها تحاول أن تعمل في وقائعه بمشرطها الذي لا يرحم من أجل أن تفسرها على الانسجام مع مقولاتها المسبقة، والدخول بالإكراه من عنق الزجاجة الضيّق الملتوي، كما يفعل النصارى المتعصّبون أو الماديون التاريخيون من المستشرقين؟!
بصدد الخطيئة المنهجيّة الأخيرة، فإن (مونتغمري وات) يتجاوز- بحق- الوقوع في إسارها، بل إنه ليعتمد- أحيانا- منهجا مغايرا تماما يبدأ من الواقعة التاريخية نفسها، وينتهي بالنتائج والدلالات التي تقود إليها.. لذا فإنه كثيرا ما كان يعلن رفضه لمقولات التفسير المادي للتاريخ، حيثما رأى الوقائع تتمرّد على هذه المقولات وتسلك مجاري أخرى في العمل والصيرورة.
فإذا كان (وات) يرفض الاعتقادية الجامدة في تحليل التاريخ، فإنه يقع متعمدا حينا، وغير متعمد أحيانا، في أسر القيود الآخرى التي تتحكّم في العقل الغربيّ عموما، والتي ألمحنا إليها قبل قليل.
وهو يحاول في مدخل بحثه أن يعلن تجاوزه لهذه الأزمة، وأن يتّخذ موقفا حياديا أقرب إلى التجرّد والموضوعيّة فيما يتعلّق بالمسائل الفقهية التي أثيرت بين المسيحية والإسلام، «فقد جهدت- يقول وات- في اتخاذ موقف محايد منها، وهكذا بصدد معرفة ما إذا كان القرآن الكريم كلام الله أو ليس كلامه، امتنعت عن استعمال تعبير؛ مثل: (قال تعالى) أو (قال محمد) في كل مرة استشهد فيها بالقرآن، بل أقول بكل بساطة: (يقول القرآن) ، وليس
(1/88)
________________________________________
هذا يعني أنني أرى من الضروري اتخاذ وجهة نظر مادية لضمان حياد المؤرخ، بل أنا، على العكس، أعبر كمؤمن موحد صريح» «1» .
ويمضي (وات) إلى القول بأن «مما لا شك فيه أن هذا الموقف الأكاديمي ناقص نوعا ما، إذ يجب على المسيحيين تحديد موقفهم من محمد بقدر اتصال المسيحية بالإسلام، ويجب أن يقوم هذا الموقف على أسس فقهية، وأنا اعترف بما في كتابي من نقص، بهذا الصدد، وإن كنت أرى أنه يقدم للمسيحيين المواد التاريخية اللازمة لتكوين رأي فقهي» «2» .
ثم ما يلبث أن يتوجّه بالحديث إلى (قرّائه المسلمين) قائلا: «لقد ألزمت نفسي برغم إخلاصي لمعطيات العلم التاريخي المكرّس في الغرب، أن لا أقول أيّ شيء يمكن أن يتعارض مع معتقدات الإسلام الأساسية، ولا حاجة بنا إلى القول بوجود هوّة فاصلة بين العلم الغربي والعقيدة الإسلامية، وإذا حدث أن كانت بعض آراء العلماء الغربيّين غير معقولة عند المسلمين؛ فذلك لأن العلماء الغربيّين لم يكونوا دائما مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة» «3» .
وهي شهادة من الرجل تستحق التقدير.. تجيء بعد سيل من المعطيات المضادة للإسلام طرحها مستشرقون من شتى البلدان، وتكاثرت حتى غدت ركاما، وها هو (وات) يجيء لكي يعترف بأنّ الخطأ لا يكمن في المبادئ العلمية، ولكن في سوء استخدامها من قبل العلماء الغربيين لهذا السبب أو ذاك..
__________
(1) محمد في مكة، المقدمة، ص 5.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 6.
(1/89)
________________________________________
مهما يكن من أمر فإن (وات) إذا كان قد قدر على اتخاذ موقف حيادي من مسألة الصراع بين المسيحية والإسلام (على الرغم من أن هذا الاستنتاج ليس صائبا بشكل نهائي كما سنرى) ؛ فإنّه لم يستطع الفكاك من نقاط الشد الآخرى التي تمسك بتلابيب العقل الغربي: النزوع العلماني والمسلمات المادية والرؤية الوضعية، والانحسار على المنظور واعتقاد القدرة على إخضاع كل ظاهرة تاريخيّة أو بشريّة لمقولات التحليل العقلي الخالص، حتى ولو كانت (غيبية) تند عن التعليل والتحليل.
إن (وات) هو ابن الحضارة الغربية ولن يستطيع الرجل بسهولة أن ينشق على مواضعات البيئة التي شكلت عقله.. ولكنه- مرة أخرى- يعد أكثر قدرة على (التحرر) من معظم زملائه المستشرقين الذين عاصروه أو سبقوه على الطريق.

2
والآن يجب أن نختبر بحثه (محمد في مكة) لوضع اليد على عناصر الخلل المنهجي فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات: إسقاط الرؤية العقلية المعاصرة على التاريخ.. منذ البداية، ولما يمض سوى أسطر معدودات على إعلانه الحياد في مقدّمته يتّخذ من القرآن- كمصدر لدراسة العصر المكي- موقفا يفهم منه اثنتان، أولاهما: عدم اطمئنانه إلى موضوعية روايات القرآن التاريخية، وثانيتهما: أن الشك يحوم حول كثير من النتائج بهذا الصدد!!
فهو يقول، ولمّا يزل بعد في المقدمة: «جرت العادة بعض الوقت بأنّ القرآن هو المصدر الرئيسي لفهم الفترة المكّية، ولا شك أن القرآن معاصر لتلك الفترة، ولكنه متحيّز ناهيك بصعوبة تحديد التسلسل الزمني لمختلف أجزائه، وما يحوم حول كثير من النتائج من شكّ، فهو لا يمدّنا بأي شيء يمكن أن يكون لوحة كاملة لحياة محمد والمسلمين خلال الفترة المكية.
(1/90)
________________________________________
وكل ما فعله كتّاب السيرة الغربيّون هو أنهم أقرّوا اللوحة التي تقدمها السيرة عن الفترة المكية في خطوطها الكبرى، واستعملوها إطارا لا يحتاج إلا لتوشيته بأكبر كمية ممكنة من مواد القرآن (!!) وأفضل طريقة هي اعتبار القرآن والأحاديث الأولى كمصادر يتمّ بعض منها بعضها الآخر في مساهمته لفهم تاريخ الفترة المشار إليها. ويطلعنا القرآن على الجانب الفكري لمجموعة من التغيّرات التي حدثت في مكة وفي ضواحيها، ولكن يجب الاهتمام أيضا بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إذا أردنا تكوين لوحة متناسقة وإدراك الجانب الفكري نفسه» «1» .
أمّا القول بتحيز القرآن وعدم موضوعيته، والشك في صدق النتائج التاريخية التي يطرحها.. فقد لا يستطيع أحد أن يلزم الرجل بالاعتقاد بأن القرآن- ككتاب منزل من الله سبحانه- إنما هو العلم الموضوعي اليقينيّ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكننا كمسلمين؛ فإننا غير ملزمين البتة بقبول بل حتى بمناقشة أطروحات كهذه طالما أكد عليها المستشرقون.
ولكن حتى لو نظرنا إلى القرآن كوثيقة تاريخية؛ فإن القول بعدم موضوعيته وبالشك في معطياته التاريخية أمر يحتاج إلى دليل.. و (وات) يطرح مقولته على عواهنها.. ولا نجد بعدها في طول كتابه وعرضه مقطعا قرآنيا واحدا يخرج عن الموضوعية.. ولا نجد أيّ دليل!!
وعلى أي حال؛ فإن كتاب الله ما جاء ليكون كتابا تاريخيا يتابع التفاصيل والجزئيات لحظة بلحظة ويوما بيوم، كما نجد في العهدين القديم والجديد اللذين دونا في فترات لا حقة على نبوتي موسى وعيسى عليهما السلام. وبرغم ذلك فقد استطاع عدد من الباحثين أن يستخلصوا من القرآن
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 12- 13.
(1/91)
________________________________________
حقائق تاريخية قيمة عن العصرين المكي والمدني، وأن يصنعوا من نسيج الآيات ذات الصيغة التاريخية صورة عن السيرة هي في الحقيقة من أدق ما كتب عنها إلى الآن، ويكفي أن ننظر- على سبيل المثال- في كتاب دروزة (سيرة الرسول: صور مقتبسة من القرآن الكريم) ، وصالح أحمد العلي (محاضرات في تاريخ العرب) إلى حد ما، وسيد قطب في تفسيره لسور (الأنفال) و (آل عمران) و (الأحزاب) و (التوبة) و (محمد) و (الفتح) وغيرها في كتابه (في ظلال القرآن) لتبين ما يمكن أن يقدمه كتاب الله عن سيرة رسوله الكريم من معلومات ذات قيمة أكيدة.
إن القرآن الكريم كتاب عقيدة ومنهج حركة، وإذا حدث وأن طرح جانبا من الوقائع التاريخية؛ فإنّ هدفه ليس تكوين لوحة متناسقة شاملة لمجريات الأحداث في عصر بكامله. وإنما ملامسة بعض هذه الأحداث والتعقيب عليها لكي يركب منها موقفا يا بني به الإنسان المسلم والجماعة المسلمة..
أي: أنه يعتمد أسلوب التعليم والتربية بالحدث، وهو واحد من أشد الأساليب حيويّة وعطاء؛ لأنه يحقق ما يسمى بمبدأ (الاقتران الشرطي) ويجعل النمو الحركي للجماعة الإسلامية يستمد مقوماته من الواقع المعيش لا من النظريات المعلقة في الفراغ والجدل اللاهوتي العقيم.
ثم إن (وات) ما يلبث أن يقع في تناقضين آخرين، فهو من جهة يعترف بأن القرآن يطلعنا على الجانب الفكري لمجموعة من التغيّرات التي حدثت في مكة وفي ضواحيها، وهي تغيرات تاريخيّة، بل إنها قمة التغيّرات التاريخية، لأنها بمثابة الحصيلة النهائية للحركة التاريخية التي ترفدها الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبما أن القرآن الكريم، كما أشرنا قبل قليل، ليس بحثا في التاريخ، فهو يكتفي بطرح التغيّرات الأعمق والأشمل، ويترك جزئيّاتها المتشكّلة في تيّارات العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مكتفيا بالإشارة إليها بين الحين والحين.
(1/92)
________________________________________
و (وات) من جهة أخرى يشير إلى إمكان اعتماد الأحاديث الأولى كمصادر تتمم المعطيات القرآنية في المساهمة لفهم تاريخ الفترة المكية..
وهذا أمر معروف ومتفق عليه.. إلّا أنّ الرجل ما يلبث بعد قليل أن ينقض هذه المقولة بالتشكيك في حجية الأحاديث هذه المرة، «ربما بدا في بعض الأحيان- يقول وات- أنني عمليا أقل تعلقا بالحديث من أولئك الذين هم أكثر منّي شكا فيه» «1» .
على الرغم من أنه كان قد طرح في مقدّمة كتابه نفسها موقفا أكثر اعتدالا من الحديث؛ حيث قال: «لما كنت أبحث في خلفية حياة محمد وفترته، فقد تقدّمت في الفكرة القائلة بأن الأحاديث يجب أن تقبل عامة، وأن تؤخذ بحذر، وأن تصحح قدر الإمكان في المسائل التي نشكّ فيها بوجود (تلفيق مغرض) ، ولكن يجب ألّا ترفض رفضا باتا إلّا إذا وقع تناقض داخلي بينها» «2» .

3
و (وات) أسوة بجلّ الباحثين الغربيّين، يأخذ بالمفهوم الغربي الحديث للنمو التاريخي للأديان، أي أنّ الرسول أو النبي يعمل وفق المقتضيات المرحليّة لكل فترة تاريخية، ومن ثم فإن منظوره للدين إنما هو وليد مواضعات تلك الفترة؛ فهو لا يملك- ابتداء- رؤية شمولية عن إبعاد دوره كنبي، وعن الملامح النهائية للعقيدة التي جاء لكي يبشر بها.. فمحمد صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال- ما كان يعرف في المرحلة المكية أن الدعوة الإسلامية هي دعوة عالمية، بل ما كان يعرف أنها دعوة للعرب جميعا، ولم يتبين له
__________
(1) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 13.
(2) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 11- 12.
(1/93)
________________________________________
ذلك إلا في فترات تالية ووفق الظروف التاريخيّة التي كان يجتازها حينا بعد حين، وقد يلتبس هذا المفهوم الوضعي الخاطئ للدين كحركة شاملة ذات أهداف محدّدة ابتداء، مع واحدة من أشدّ الحقائق أهمية في مسيرة الأديان تلك؛ هي أنّ كل دين سماويّ لا يتنزل دفعة واحدة ويطلب من المؤمنين به الالتزم بكافة واجباته ومنهياته مرة واحدة، إنّما يتنزل على مراحل، وينبني تدريجيا عبر مدى زمني قد يطول وقد يقصر، وهو خلال صيرورته تلك، يتعامل مع المراحل التاريخية وفق معطياتها المرحلية لكي يقدر على مد الجسور وإقامة الحوار وتحقيق التأثير المطلوب. هذا إلى أن النمو العقيدي، وفق هذا المنظور الحركي، يحقق من النتائج الإيجابية ويا بني من القيم ويعزّز من المبادئ ما لا يتحقق عشر معشاره في حالة التنزل الكامل دفعة واحدة.. ولهذا تنزل القرآن الكريم على مراحل، وهو يقولها بوضوح:
(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) «1» .
وراح من خلال تنزّله ذاك على مراحل، يا بني الإنسان المسلم والجماعة المسلمة خطوة خطوة، ولبنة لبنة، من أجل أن يستقيم البناء، ويقدر عن طريق الالتحام بين التعاليم والتاريخ أن يحقّق هدفه حركيا.. وليس وفق طرائق الجدل النظري واللاهوت.
ولكن هذا لا يعني البتة أن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا يرون أبعد من مواطئ أقدامهم.. وأنهم ما كانوا يعرفون سوى مطالب المرحلة الزمنية التي يعملون خلالها كما يرى المفهوم الغربي للتطور التدريجيّ.
إن (وات) يقع في إسار هذا المفهوم بسبب من كونه ابن بيئته الثقافية، لكي ما يلبث أن ينفذه في أكثر من مكان من كتابه عن (محمد) فيقع في حشد من الأخطاء.
__________
(1) الإسراء: 106.
(1/94)
________________________________________
فهو يقول- مثلا- معلقا على أقصوصة اعتراف الرسول صلى الله عليه وسلم بأصنام قريش الثلاثة (اللات والعزى ومناة) ، عبر مساومته مع الزعامة القرشية فيما يعرف (بالآيات الإبليسية) التي سبق وأن ناقشنا تبنّيه لها في مكان آخر: «عد الفقهاء المسلمون الذين ظلوا بعيدين عن المفهوم الغربي الحديث للنمو التدريجي محمدا على أنه قد أخبر منذ البدء بالمضمون الكامل لعقيدة الإسلام، فكان من الصعب عليهم أن لم ير محمد خروج الآيات الإبليسية على عقيدة الإسلام (!!) والحقيقة هي أن توحيده كان في الأصل، كما كان توحيد معاصريه المثقّفين، غامضا، ولم ير بعد أنّ قبول هذه المخلوقات الإلهية (!!) كان يتعارض مع هذا التوحيد. لا شك أنه يعد اللات والعزى ومناة على أنها كائنات سماوية أقل من الله، كما اعترفت اليهودية والمسيحية بوجود ملائكة. ويتحدّث القرآن عنها في الفترة (الأخيرة) ؟ المكية باسم الجن وإن كان يتحدث عنها في الفترة المدنية على أنها مجرد أسماء، إذا كان ذلك فليس من الضروري اكتشاف سبب خاص للآيات الإبليسيّة، فهي لا تدل على أيّ تقهقر واع للتوحيد، بل هي تعبير عن النظريات التي دافع عنها دائما محمد» «1» .
أية فوضى فكرية هذه؛ وأيّ تصوّر مضطرب متهافت للدين، لا هو بالمادي فيرفض الحقيقة الدينية، ولا هو بالمؤمن فيعترف ببداهتها ومسلماتها؟!
لقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كما بعث سائر الأنبياء عليهم السلام من قبله، بعقيدة واضحة كل الوضوح، صارمة أشد الصرامة، مستقيمة بيّنة لا تقبل نكوصا أو التواء، ولا تقبل تغيّرا أو تطورا تدريجيا: إنها شهادة ألاإله إلّا الله، بكل ما تعنيه هذه الشهادة من تسليم كامل بالألوهية المتفرّدة الواحدة، ورفض للتعدد بشتى صيغه وأشكاله:
__________
(1) محمد في مكة، ص 170.
(1/95)
________________________________________
(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) «1» .
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) «2» .
(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) «3» .
(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «4» .
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) «5» .
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) «6» .
(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) «7» .
__________
(1) الأعراف: 59.
(2) الأعراف: 65.
(3) الأعراف: 71.
(4) الأعراف: 73.
(5) الأعراف: 85، وانظر: هود: 50، 61، 84، النمل: 60، 61، 62، 63، 64.
(6) هود: 54.
(7) النحل: 2.
(1/96)
________________________________________
(وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) «1» .
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) «2» .
منذ اللحظات الأولى كان محمد صلى الله عليه وسلم يدرك أوضح الإدراك وأعمقه القاعدة التي سينطلق منها لدعوة الناس إلى الدين الجديد، والشعار الذي سيرفعه بمواجهة العالم، والهدف المحوري الذي سيسعى لتجميع المنتمين إليه:
شهادة لا إله إلّا الله:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) «3» .
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) «4» .
(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) «5» .
(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «6» .
(وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) «7» .
__________
(1) النحل: 51.
(2) الأنبياء: 25.
(3) التوبة: 129.
(4) الرعد: 30.
(5) الكهف: 110.
(6) الأنبياء: 108.
(7) القصص: 88.
(1/97)
________________________________________
(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) «1» .
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) «2» .
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) «3» .
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) «4» .
(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) «5» .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم موضحا القاعدة التي ينطلق منها، والهدف المركزي الذي يسعى إليه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاإله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقّ الإسلام وحسابهم على الله» «6» .
القاعدة المحوريّة الثابتة، الواضحة، الصارمة التي ظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إليها ويقاتل الجاهلية عليها، ويا بني أمته ودولته على أساسها.. وكان يعرف جيدا بوحي الله وتسديده أنّ أيّ انحراف عن هذا المفهوم، بأي قدر
__________
(1) ص: 65.
(2) محمد: 19.
(3) المزمل: 9.
(4) البقرة: 133.
(5) التوبة: 31.
(6) البخاري، تجريد: 1/ 13 (طبعة سنة 1931 م) .
(1/98)
________________________________________
وفي أي اتّجاه، ومن أجل أيّ هدف، يعني التفريط بعصب العقيدة وضياع وجهها وملامحها.. ولذا كان صلى الله عليه وسلم- كما ذكرنا وكما أكّد وكرّر جلّ الباحثين في تاريخ النبوة- مستعدا للقاء مع قريش في كل شيء إلا في هذه، وللحوار والانفتاح على أي شيء إلّا على هذه، ولإقامة الجسور بين الأطراف كافة للوصول إلى أي شيء مشترك إلّا في قضية التوحيد المطلق الذي هو قاعدة الدين وعصب الدعوة، وأساس العقيدة التي بعث لكي يحقّقها في العالم.
وإذا حدث فيما بعد، على المستوى الزمني، أن تنزّلت آيات القرآن لكي تواصل البناء العقيدي، وتمدّ آفاقه وتزيد معطياته غنى.. فإنّ هذا لا يعني حدوث تطور تدريجي بالمفهوم الغربي للتطور.. فإن الأساس العقيدي هو الأساس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلّ على بيّنة من الأمر إزاء هذا الأساس، وكل الذي كان يحدث هو إضافة معطيات جديدة تنبثق عن القاعدة نفسها وتبني على محورها الثابت الواضح.
وثمة تفريق آخر يجب أن يكون واضحا في الأذهان: إنّ العقيدة غير الشريعة، صحيح أن هذه تقوم على تلك وتنبثق عن مقولاتها، وتكسب صيغها من معادلات العقيدة نفسها، ولكنها تجيء فيما بعد تتضمّن حشدا من الجزئيات التنفيذية التي لم يكن النبي- أيّ نبيّ- يعرف عنها مقدما..
أمّا العقيدة فهي تصوّر أساسيّ شامل للكون والحياة والمصير، فإن لم يكن النبي يعرف مقدما أبعاده وخصائصه وأسسه؛ فكيف يبدأ دعوته مجابها بها الإنسان والعالم والطبيعة والتاريخ؟!
ولقد ناقشنا من قبل تهافت ما أسماه (وات) بالآيات الإبليسيّة التي تحكي عن اعتراف الرسول صلى الله عليه وسلم بالأصنام مقابل اعتراف الجاهليّين بالله الواحد!! وسقوطها بالضرورة.. ولكننا نرجع إليها مرة أخرى مضطرّين؛ لأن (وات) يدافع من خلالها عن الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعا ملتويا لا ندري إن كان متعمدا خبيثا، أم كان استمرارا طبيعيا لنظرية الغربيّين إياها عن التطور التدريجي للدين.
(1/99)
________________________________________
إنه يقول بأن ليس من حق أصحاب محمد أن يستغربوا قبوله اللات والعزى ومناة، وأنه لم ير في ذلك خروجا على عقيدة الإسلام!! إذ كان عليهم ابتداء أن يدركوا بأنّ نبيّهم لم يكن يعرف يومها المضمون الكامل لعقيدة الإسلام.
بل إنّ (وات) يمضي خطوة أخرى بهذا الاتجاه، فيرى أن توحيد محمد كان في الأصل غامضا تماما، كما كان توحيد معاصريه المثقفين، ولم ير حتى ذلك الوقت؛ أي بعد مرور سنين طويلة على بدء دعوته القائمة على التوحيد المطلق، أن قبول هذه الأصنام يتعارض مع هذا التوحيد.
بل إن (وات) ليمضي أبعد من ذلك كله فيخلع صفة المخلوقات الإلهية على الأصنام الحجرية المرصوفة على قارعة كل طريق، ثم يجزم (وهو صاحب المنهج الشكّي في السيرة) بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد اللات والعزى ومناة كائنات سماوية ولكنها أقل من الله!!
ألا يدرك هذا الباحث أنه في استنتاجاته التي تتميز بالغرابة والفجاجة يتناقض مع بداهات الإسلام ومسلماته التوحيدية التي انطلق بها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ اللحظات الأولى.. وسوف يقاتل العرب جميعا من أجل الحفاظ على نقائها وتفرّدها؟
ولماذا يشكّ الرجل وينفي الكثير من وقائع السيرة التي لا ترتطم أو تتناقض مع الخط العام لحركة النبوة، بينما يقبل هذه الرواية الشاذّة الضعيفة المهلهلة، المدخولة التي ترتطم مع الأوليات والأسس والبداهات؟
ثم ما يلبث (وات) أن يبلغ حدّ التخليط الذي تنعدم معه الرؤية الصحيحة للأشياء عندما يقرن اعتراف محمد صلى الله عليه وسلم بالأصنام؛ «تلك الكائنات السماوية التي هي أقل من الله» باعتراف اليهودية والمسيحية بوجود الملائكة!!
(1/100)
________________________________________
أية علاقة تربط بين الأصنام وبين الملائكة؟ وهل من مسوغ هنا أو في أية مناسبة لاستعراض الفروق التي تميّز بين الحجارة والملائكة، وللتزييف الدينيّ الذي تمثله الأولى والحقيقة الغيبيّة المؤكّدة التي تمثلها الثانية؟ ..
للعصيان الذي تمثله الأولى، وللطاعة والتسليم والإذعان الذي تمثله الثانية؟
ألا يجوز أن يكون (وات) قد طرح هذا التقابل غير المنطقي للتشكيك بجدية الموقف العقيدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتمرير هذه الواقعة المزيّفة في الوقت نفسه؟
وفي ختام مقولته يطرح (وات) معميات وتناقضات أخرى؛ فيشير إلى أن القرآن يتحدث عن تلك المخلوقات الإلهية (الأصنام) في الفترة المكية الأخيرة باسم (الجنّ) !! وإن كان يتحدث عنها في الفترة المدنية على أنها مجرّد أسماء.
أيتأخر- إذن- رفض الصنميّة وتجريدها من الفاعلية حتى نهاية العصر المكّي، بل حتى العصر المدني؟ فلم كان إذن ذلك الصراع الذي لا هوادة فيه بين المسلمين والزعامة الوثنية؟ ولم كانت قولة محمد المبكرة التي لم يشأ (وات) أن يشير إليها أو يعترف بها: «والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة!» ، وما هو (الأمر) إن لم يكن التوحيد المطلق، والرفض المطلق للوثنية بكل صيغها وأشكالها؟ وكيف تفوت على (وات) هذه الحقائق جميعا؛ بحيث إنه يختتم مقولته بهذه الكلمات القاطعة «أن الحادثة لا تدلّ على أي تقهقر واع للتوحيد، بل هي تعبير عن النظريات التي دافع عنها دائما محمد» !
ولا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من نقاش وقد بلغ هذا الحدّ من التبعثر والفجاجة..
(1/101)
________________________________________
4
وانطلاقا من إسقاط المفهوم الغربي الخاطئ للدين على وقائع السيرة، نلتقي بحشد من الاستنتاجات والتحليلات الخاطئة التي يعتمدها (وات) ، وإن كانت بشكل عام أقلّ حدة مما نجده لدى المستشرقين الآخرين..
لكنها على أية حال تمثل ارتطاما بحقائق النبوة، ولا يمكن معها للعقل المسلم إلّا أن يرى فيها سذاجة وجهلا، أو خبثا ومكرا.. فنحن نقرأ عبارات كهذه يمكن أن تكون مناقشتها ضربا في غير هدف، أو اعترافا على الأقل بجدّيتها التي يجب ألّا تخلع عليها أبدا حتى على المستوى الأكاديمي.. فما كان الدين الإسلامي وأسسه العقيدية، على وجه الخصوص، حقلا لمماحكات الأكاديميّين وتجاربهم الفكرية في شرق أو غرب: «لقد تملكت محمدا، منذ وقت مبكر عقيدة أن الكلمات التي تصل إليه هي وحي من الله، مهما كانت الصورة الدقيقة لتجربته الأولى في تلقي الوحي.. وقد أظهر الإيمان بذلك منذ البداية في دعوته العامة» «1» .
ونقرأ «على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج، وأنه يمكن أن يكون قبل نزول الوحي قد سمع من بعض الأشخاص قسما من القصص التي يذكرها القرآن، وعندئذ يترك المؤرخ الموضوع إلى الفقهاء ليقوموا بنوع من التوفيق» «2» .
ونقرأ «كما نرى أثر الشك في اليوم الآخر وراء السؤال الموجّه إلى محمد:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) ، ويردّ القرآن على هذا السؤال، أو يتحاشى الرد لأنه يمكن أن يحدث بلبلة لمحمد، وهذا هو الهدف من سؤاله» «3» .
__________
(1) محمد في مكة، ص 203.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 205.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 200.
(1/102)
________________________________________
و (وات) يعود إلى مسألة النمو التدريجي والضرورات المرحلية.. إلى آخره فيتصوّر أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف حتى أواخر العصر المكي، الأبعاد الحقيقة لدعوته، وأنها ليست لقريش وحدها أو للعرب وحدهم، وإنما للعالم جميعا.. ويغافل (وات) كما أغفل غيره من المستشرقين تلك المعطيات القرآنية التي كانت تؤكد منذ بدايات العصر المكي: عالمية الدعوة الإسلامية، وأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يمكن أن يسيروا كالعميان- خطوة خطوة دون أن يملكوا مسبقا استشرافا شاملا لما يسعون لتحقيقه، ولا حتى للخطوات التالية التي يجب عليهم أن يقطعوها.. وإذا كان الزعماء العاديون يمتلكون رؤية مستقبليّة نافذة تتجاوز حدود الزمن الراهن، وتتحرك صوب أبعاده النائية وفق برنامج مرسوم.. أفلا يكون الأنبياء مبعوثو الله إلى العالم، قادرين على امتلاك هذه الرؤية، بل ممتلكين بإرادة الله ووحيه- زمامها منذ اللحظات الأولى!!
على أية حال فهذه هي الآيات القرآنية (المكية) التي تؤكد عالمية الدعوة الإسلامية منذ البدايات الأولى:
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) «1» .
(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) «2» .
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) «3» .
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) «4» .
__________
(1) الأنعام: 90.
(2) يوسف: 104.
(3) الأنبياء: 107.
(4) الفرقان: 1.
(1/103)
________________________________________
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) «1» .
(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) «2» .
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) «3» .
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) «4» .
ونسمع (وات) يقول بصيغ الجزم والاعتقاد التي لم نألفها منه: «نحن نعتقد أن محمدا في هذا الوقت (بعد عودته من الطائف) أخذ يدعو أفراد القبائل البدوية للدخول في الإسلام، وأن وراء هذا النشاط تكمن فكرة غامضة في توحيد العرب جميعا» «5» .
ونسمعه يقول: «وعدّ محمد نفسه في البدء مرسلا لقريش خاصة، وليس لدينا أية وسيلة لمعرفة ما إذا كان قد فكّر بتوسيع أفق رسالته لتشمل العرب جميعا، قبل وفاة أبي طالب أو بعدها. وقد اضطره تدهور وضعه مع ذلك، أن ينظر إلى أبعد من ذلك، فلا نسمع من ثمّ خلال سنواته الثلاث الأخيرة في مكة إلّا عن علاقاته بالقبائل البدوية وسكان الطائف ويثرب» «6» .
وفي مكان آخر يصوّر محمدا صلى الله عليه وسلم كما لو كان لا يميّز بين الدين والسياسة، ولا يعرف تماما أنّ دعوة كدعوته ستقود بالضرورة إلى مركز الزعامة، وأنه لم يكن يفكّر بأيّ دور غير الدور الدينيّ الصرف وفق المفهوم
__________
(1) ص 87.
(2) القلم: 52.
(3) التكوير: 26، 27.
(4) سبأ: 28.
(5) محمد في مكة، ص 223.
(6) المصدر السابق نفسه، ص 219.
(1/104)
________________________________________
الغربي وأنه لم «يكن سوى رجل ينذر» ، وأنه «كان يجب تنبيهه على الجوانب السياسية الدينية» «1» . ومع ذلك يقول (وات) : «لم يكن يمكن استمرار الفصل بين رسالة النبوّة ووظيفة القائد السياسي في الظروف المشار إليها، أي في مثل نظرة العرب لما يحدد صفات الفضل والكفاءة الضرورية للحكم. فأيّ إنسان كان في استطاعته فيما بعد انتهاج سياسة تكذّبها كلمة من الله أو حتى من نبيّه؟ وهكذا تكون الإشارة إلى الآلهة بداية معارضة القرشيّين العنيفة، كما أن سورة الكافرين وإن بدت دينية صرفة، فهي حثّ لمحمد على فتح مكة» «2» .
ونحن نقرأ في هذا الصدد هذه المقولة كذلك: «إن السبب الأساسيّ في المعارضة كان من دون شكّ أنّ زعماء قريش وجدوا أن إيمان محمد بأنّه نبيّ ستكون له نتائج سياسية، كانت السنة العربية القديمة تقول: إن الرئاسة في القبيلة يجب أن تكون من نصيب أكثر الرجال حظا من الحكمة والحذر والعقل، فلو أن أهالي مكّة أخذوا يؤمنون بإنذار محمد ووعيده وجعلوا يستفسرون عن الطريق التي يجب أن تدار بها شؤونهم فمن ذا الذي يحق له نصحهم غير محمد نفسه» «3» ؟
فإذا كان زعماء قريش قد أدركوا العلاقة بين الدين والسياسة، بين الدعوة والقيادة، فكيف لم يدرك محمد ذلك وهو أكثر من أي قرشي آخر حظا «من الحكمة والعقل» كما يعترف (وات) نفسه؟!
كما أنه يعود إلى مسألة الضرورات المرحلية، إلى درجة أنه يوحي للقارئ بأن القرآن الكريم كان يتحايل على قريش خشية الارتطام بها،
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 177.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 177- 178.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 214.
(1/105)
________________________________________
فيؤجّل نهيه عن الربا، أحد أعمدة النشاط المالي المكيّ، إلى وقت طويل بعد الهجرة، ويكتفي بنقد موقفهم الشخصي من الثروة.. «لقد كان زعماء مكة من بعد النظر بحيث أقرّوا بالتناقض بين تعاليم القرآن الأخلاقية ورأس المال التجاري الذي كان عماد حياتهم، ولهذا لم يظهر النهي عن الربا حتى وقت طويل بعد الهجرة، بينما ظهر منذ البداية نقد لموقفهم الشخصي من الثروة» «1» .
ويصعب على المرء التصديق بأن مستشرقا متعمّقا كوات لا يدرك الفارق بين العقيدة والشريعة في الإسلام، وأن المرحلة المكّية تختلف عن المرحلة المدنيّة في أن حركة الإسلام في الأولى كانت منصبّة على البناء العقيدي، بينما انصبّت في المرحلة التالية على البناء التشريعي بسبب قيام دولة الإسلام وما تتطلبه من نظم ومعطيات تشريعيّة، مع استمرار البناء العقيدي بطبيعة الحال.. فالذي حدث ليس تحوّلا في بنية الإسلام نفسه، بل في تنظيم الأولويات بعد إنجاز مرحلة بناء الجماعة الإسلامية وقيام دولة الإسلام في المدينة ومع ذلك فنحن نقرأ في كتاب (وات) هذه العبارة: «نستطيع القول بأن الإسلام قد تحول في خطوطه الكبرى عند الهجرة، ولكن معظم مؤسساته كان لا يزال في مرحلة بدائية، فلم يتم بعد، تحديد الصلوات ولا العبادة، وإن كانت قد وضعت الأسس لذلك.. ولم تظهر ظهورا كاملا أركان الإسلام الآخرى: الصيام، الزكاة، الشهادة، والحج، ومع ذلك كانت كل الأفكار الرئيسية: الله، اليوم الآخر، الجنة والنار، وإرسال الأنبياء، واضحة تماما» «2» .
وفرق واضح بين أن نقول بأن معظم مؤسسات الإسلام كانت في طور الولادة أو التشكيل، وبين أن نقول: إنها كانت في مرحلة بدائية!!
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 215.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 238- 239.
(1/106)
________________________________________
ذلك أن للكلمات إيحاآت وظلالا، وإنه ليتوجّب على الباحث الجادّ أن يعرف كيف ينتقي كلماته.. وإلّا كان من حقّنا- كطرف في الموضوع- أن نتهمه بالأغراض!! أو على الأقل بأنه يجهل الفارق الحاسم بين المرحلتين المكيّة والمدنيّة حيث لم يكن التوجه في الأولى ينصب أساسا على إقامة المؤسسات، وكان الهدف: العقيدة من أجل الأساس الصالح لإقامة المؤسسات.

5
والآن ماذا بصدد تقليد القرنين الأخيرين القائل بفاعلية العامل الاقتصادي في التاريخ، والذي أخذ يتضخّم ويتضخّم حتى غدا على يد ماركس وأنجلز الحاكم بأمره في حركة التاريخ، بل إنه أصبح القاعدة الأساسية لكل تغيّر أو تحوّل حتى ولو كان دينيا أو أخلاقيا أو جماليا صرفا؟
ولقد أسر هذا الاعتقاد بدرجة أو أخرى، حتى أولئك المؤرخين الذين لم يعتنقوا المادية التاريخية، ولكنهم أصرّوا على تفسير كل ظاهرة تاريخية بالدافع الاقتصادي.. فلمّا تبيّن بمرور الزمن، واتساع إمكانات مناهج البحث وتكشف المزيد من الحقائق المضادّة عجز هذا الدافع عن أن يكون وراء كل ظاهرة، أو أن يفسّر كلّ حدث، تراجعوا بدورهم وخفّفوا من تبنّيهم للدافع، مفسحين المجال لفاعلية العوامل الآخرى التي لا تقل أهمية بحال من الأحوال.. أما المستشرقون عموما فقد تأخّروا بعض الشيء في اعتماد هذا الدافع ربما لأنّ وقائع التاريخ الإسلامي تتأبّى، أكثر من الأحداث التاريخيّة الأوربية، على دافع كهذا.. ولقد مرّ بنا كيف كان (وات) واحدا من الذين رفضوا الأخذ بمنطق التفسير المادي للتاريخ..
ولكن ذلك لم يكن يعني بالنسبة إليه، تجاوز الأخذ بمنطق التأثيرات الاقتصادية في التاريخ.. فإن القول بفعالية العامل الاقتصادي في التاريخ
(1/107)
________________________________________
شيء آخر تماما غير ما تريد المادية التاريخية أن تقوله، فتجعل من هذا العامل الطاقة الحركيّة الأساسيّة للفعل التاريخي، وتتّخذه قاعدة تحتيّة لسائر المناشط الحضارية..
وإذا كان (وات) يرفض هذا التوجه أحادي الجانب؛ فإنه يتشبّث بدور العامل الماديّ عموما، والاقتصادي على وجه الخصوص، في الحركة التاريخية.. وهو يقول بهذا الصدد: «إن اهتمام المؤرخين ومناهجهم قد تغيّرت خلال نصف القرن الأخير، ولا سيّما أنهم أدركوا بصورة أفضل العوامل المادّية الكامنة في التاريخ. يعني ذلك: أنّ مؤرخي منتصف القرن العشرين يهتمون أكثر بتحديد أثر كثير من المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، دون أن يهملوا الجانب الديني أو يقلّلوا من شأنه، حتى إن الذين (من أمثالي) يرفضون القول بأن مثل هذه العوامل يمكنها أن تحدد بصورة مطلقة سير الأمور؛ يجب عليهم مع ذلك أن يعترفوا بأهميتها.
وليست ميّزة هذه السيرة لمحمد أن تستعرض المصادر المعروضة عليها بقدر اهتمامها بهذه العوامل المادية ومحاولتها أن تقدّم جوابا على العديد من الأسئلة التي قلّما أثيرت في الماضي» «1» .
ومع هذه التحفّظات التي يطرحها (وات) فإننا نجده ينساق بين الحين والآخر، وراء إغراء هذا التقليد المنهجي القائم على منح الأهمية، وربما الأولوية، للعامل الاقتصادي لكي يفسّر وقائع من السيرة تندّ بطبيعتها عن أن تكون تمخّضا عن العلاقات الاقتصادية، في إطار حركة دينية كسرت- كما رأينا في بدء البحث- كل (التنظيرات) المادية التي أريد إخضاعها لها!!
فهو- مثلا- يقتبس فكرة الصراع الطبقي في حديثه عن المنتمين للإسلام في العصر المكّي، فيرى أن الإسلام «لم يستمدّ قوته من رجال الدرجة
__________
(1) المصدر السابق نفسه، المقدمة، ص 6- 7.
(1/108)
________________________________________
السفلى من السلّم الاجتماعي بل من أولئك الذين كانوا في الوسط وأدركوا الفرق بينهم وبين أصحاب الامتيازات في الذروة، فأخذوا يقنعون أنفسهم بأنهم أقلّ امتيازا منهم، فنشأ صراع ليس بين (الملّاكين) و (المعوزين) بل بين الملّاكين والذين هم أقلّ منهم» «1» .
لا ريب أنّ اعتماد (المقاييس المادية) لفحص الدوافع التي قادت المسلمين وغير المسلمين للانتماء إلى الدين أو إلى أيّة عقيدة أو دين، أمر يرفضه واقع (التجربة) في أبعادها الشاملة الرحبة، فلم يكن البحث عن (الحق) والتشبث في الانتماء إليه أمر معدة تبحث عن طعامها، وجسد يرنو إلى الإشباع، بقدر ما هو مسألة نفسيّة معقّدة يلعب فيها الظمأ الروحي واليقين الفكري والقناعة الذاتية دورها الحاسم؛ بحيث إن سائر الأمور الآخرى، الحسّية والجسدية تظلّ (ثانوية) بالنسبة لهذه الدوافع الأساسية.
هذا على المستوى الذاتي، أما على المستوى التاريخي، فإن هذا المقياس يتعرّض للتهافت- كذلك- بمجرد إلقاء نظرة متأنية على قوائم المسلمين الأول الذين كان أكثرهم- كما يقول صالح عليّ- من التجّار ورجال الطبقة الوسطى، وممن كانت لهم عشائر تحميهم وتدفع عنهم. بل حتى وجود الحلفاء والمستضعفين في الإسلام لا ينهض دليلا على صحّة هذا الرأي؛ إذ إن هؤلاء نالوا كثيرا من الاضطهاد بسبب عقائدهم، ومنوا بكثير من الآمال إذا تركوا الإسلام، فرفضوا وأصرّوا على التمسّك بالدين الجديد، مما يدل على أن دافع العقيدة هو الذي كان يدفعهم إلى اعتناق الإسلام.. والواقع أن الروايات أشارت صراحة إلى دوافع بعضهم، فعثمان بن مظعون كان من قبل ظهور الإسلام من الباحثين عن الدين، وسعيد بن زيد بن عمرو هو ابن الرجل الذي كان حنيفا يبحث عن دين إبراهيم، وخالد بن سعيد بن العاص دان بالإسلام؛ لأنه رأى نفسه في
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 160.
(1/109)
________________________________________
المنام على حافة هاوية من النار يدفعه إليها أبوه ويدفعه عنها رجل آخر لينقذه منها.. أما عمر بن الخطاب الذي أسلم بعد هذه الفترة؛ فقد أسلم لتأثره من سماعه آيات القرآن ومن رؤيته أخته تتأذّى «1» .
ترى كم من المسلمين قادتهم إلى الإسلام تلك (الهزّة الوجدانية) التي أحدثتها آيات القرآن الكريم الساحرة، المعجزة، وهي تتلى عليهم، فتغسل ضمائرهم وتزيل زيغ قلوبهم، وتعيد ألق الذكاء إلى عقولهم ونور اليقين إلى بصائرهم وأفئدتهم؟ وهل بعد هذه (الهزة) الشاملة التي تنقل الإنسان من حال إلى حال تفكير (منفعي) محدود في أمعاء تمتلئ طعاما، وجيوب تفيض فضة وذهبا؟ ما الذي دفع عثمان بن عفان وهو في قمة قريش غنى ومكانة وأمانا ومحبة وجاها، إلى أن يتمرّد على جاهليته ويقف في لحظات الدعوة الأولى، الصعبة الغامضة، الخطيرة، بمواجهة قومه وعشيرته، رافضا الغنى والمكانة والجاه والمحبة، مختارا بدلا منها الفقر والزراية والخوف والكراهية؟ حتى إنه ليستهين بسياط عمه وهي تنزل على ظهره من أجل أن تعيده إلى حظيرة الآباء والأجداد؟ وما الذي دفع أبا بكر- وعشرات غيره- إلى أن ينفقوا من أموالهم الخاصة التي كدحوا من أجلها ينفقونها إلى آخر درهم، حتى إن الرسول ليسأل الصدّيق: وما الذي أبقيت لعيالك يا أبابكر؟ فيكون جوابه: أبقيت لهم الله ورسوله!! وما الذي دفع سعد بن أبي وقاص، الغنيّ المدلّل، إلى أن يرفض توسّلات أمه وقد أوثقته وباطا من أجل أن يرتدّ عن دينه، فما يكون جوابه إلّا أن يقول: والله يا أمّ لو رأيتك تموتين مئة مرة ثم تعودين ثانية إلى الحياة ما ردّني ذلك عن ديني؟! (وغير عثمان وأبي بكر وسعد كثيرون) ..
إن (وات) نفسه يقول: «لقد انتمى إلى الإسلام شباب من أفضل العائلات، وخالد بن سعيد أفضل مثل لهذه الفئة، ولكن هنالك آخرون غيره وكانوا ينحدرون من أقوى العائلات وأشهر القبائل، تربطهم روابط متينة
__________
(1) محاضرات في تاريخ العرب: 1/ 338.
(1/110)
________________________________________
بالرجال الذين يملكون السلطة في مكة وكانوا في مقدّمة أعداء محمد، ومن المهمّ أن نشير إلى أنه وجد في معركة بدر أمثلة على الإخوة والآباء والأبناء والعم وابن الأخ الذين كانوا يقاتلون في صفوف كلا الحزبين..» «1» .
وبذلك يناقض الرجل نفسه ... ثم إلى أي دين كان ينتمي هؤلاء المترفون الأغنياء ومتوسطو الحال الذين ينتمون إلى أشهر القبائل المكيّة وأعلاها سلطة ومكانة؟ إلى الدين الذي كانت حملات كتابه تتنزّل منذ بداياتها الأولى (العلق، القلم ... وغيرهما) «2» صواعق على رؤوس الأغنياء والزعماء، تلك الآيات التي «نددت بالأغنياء الذين يقبضون أيديهم الطاغية الباغية المعتزة والمتكبرة عن الحق» «3» .
وشبيهة بالنص السابق الذي أوردناه لوات قبل قليل، تلك العبارات التي يفسر فيها دافع إسلام عمر بن الخطاب.. وكأن انتماءه للدين الجديد كان بسبب رغبة (مصلحية) تملكته في تجاوز ما يمكن أن تنتهي إليه قبيلته من تدهور وانحطاط، «لا نجد- يقول وات- أية إشارة إلى العوامل الاقتصادية (في إسلام عمر) . ومع ذلك فإن عمر وإن كان واثقا من مكانته في القبيلة، أحسّ بالضيق بسبب مكانة قبيلته في مكة، ولا يستبعد أن يكون شعوره بالضيق قد ضاعف حقده على زملائه الذين كانوا يتولّون قيادة القبيلة خشية أن يؤدي اعتناقهم للإسلام إلى تدهور حالة القبيلة العامة» «4» .
__________
(1) محمد في مكة، ص 158.
(2) انظر سورة الزخرف: 22- 23، هود: 116، المزمل: 11- 12، الإسراء: 16، الواقعة: 41- 48، الحاقة: 25- 29، الهمزة: 1- 4، سبأ: 31- 37، غافر: 47- 48، إبراهيم: 21، الأحزاب: 66- 67، الأعراف: 36- 40، الفرقان: 21، الأنعام: 133، الجاثية: 31، الجن: 24، النازعات: 28- 29، النبأ: 21- 22، وانظر: صالح أحمد العلي: محاضرات: 1/ 357- 359.
(3) دروزة: سيرة الرسول: 1/ 165.
(4) محمد في مكة، ص 163- 164.
(1/111)
________________________________________
والموقف من مقاطعة المسلمين المعروفة في شعب أبي طالب، وفشل هذه المقاطعة يرجع بها (وات) - كذلك- إلى الاقتصاد والمصالح الاقتصادية، فيقول: «لا مغزى لغياب المشتركين الآخرين في حلف الفضول (عن التوقيع على وثيقة المقاطعة) ما عدا غياب عبد شمس، ولكن كل شيء يحمل على الاعتقاد بأنّ هذه القبيلة كانت تسعى لعقد صلات متينة مع مخزوم لخدمة مصالحها المشتركة، فكان لا بد من أن يوجه ذلك سياستها أكثر من المحالفات القديمة، وإذا جاز لنا تقديم ملاحظة حول الدوافع التي أدت إلى توقف المقاطعة؛ فإنّنا نقول: إنهم أدركوا بمرور الزمن أن التحالف الكبير والمقاطعة يقوّيان مركز القبائل القوية التي كانت تحاول القيام بمراقبة التجارة المكّية، وإخفاق مكانة سائر القبائل» «1» .
وتفاصيل الظروف التي انتهت إلى إلغاء المقاطعة معروفة «2» ، ونخوة الإنسان لمجابهة الظلم وإنقاذ المظلومين طبع مركوز في جبلّة الإنسان إلّا إذا جرّدناه عن قيمه كإنسان، وعددنا المجتمع البشري مجتمعا حشريا لا تحركه إلّا المصالح الصرفة.. أما على مستوى الأخلاق العربية القديمة ذات الوجود التاريخي الثقيل، فإنّ المسألة تبدو أكثر وضوحا، وعلى هذا الضوء يمكن أن نفهم ما جرى.
ومحمد صلى الله عليه وسلم نفسه يضرب على وتر الدوافع الاقتصادية المصاحبة لكسب الأنصار، فيما يقتبسه (وات) عن (لا مانس) الذي سبق وأن رفض التسليم باستنتاجاته، «كان الأشخاص الذين اتصل بهم محمد، وهم عبد ياليل وإخوته ينتمون إلى قبيلة عمر بن عمير المنتمية للأحلاف، فكانوا بذلك من
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 196.
(2) انظر ابن هشام: تهذيب من 89- 91، الطبري: تاريخ 2/ 341- 343، البلاذري: أنساب: 1/ 335- 336، ابن سعد: طبقات: 1/ 1/ 141، ابن الأثير: الكامل: 2/ 87- 90.
(1/112)
________________________________________
أنصار قريش، وربما راود محمدا الأمل باستمالتهم إليه بالتلويح لهم بتحريرهم من سيطرة مخزوم المالية» «1» .
وفي مكان آخر يجعل (وات) «ظهور الإسلام ذا علاقة بالانتقال من اقتصاد بدوي إلى اقتصاد تجاري» ، وإذ كان الرجل قد أكّد في عبارة سابقة:
«إن قلاقل العصر كانت دينية مثل كلّ شيء» ؛ فإنه ينتهي إلى طرح هذا السؤال: «هل هناك تناقض أم أنّ النظريّتين يمكن أن تلتقيا؟» «2» . وهو في مكان آخر يرى إمكان ذلك «3» .
ولا داعي للتأكيد، للمرة العشرين، على أن الإسلام يفرد مكانا واسعا للعوامل المادية والدوافع الاقتصادية، وعلى أنّ بعض وقائع السيرة لا تفهم إلّا على ضوء دوافع كهذه، ولكن الإسلام كدين منزل من السماء، وكدعوة أخيرة للبشريّة، أريد لها أن تواكب الوجود الإنساني على اختلاف تقلّباته وأوضاعه.. إنما هو حركة أكثر شموليّة وأعمق أثرا من أي تأثير مادي أو اقتصادي، وأنه كدعوة انقلابية، ضربت الأعراف والتقاليد والمعادلات اليومية السائدة، أكثر استعصاء على التزمّن والتحجيم الاقتصاديين وأن القول بالعلاقة بين ظهوره وبين الانتقال من صيغة اقتصادية إلى صيغة أخرى، تقطعه بين لحظة وأخرى، معطيات الإسلام العقيدية والتاريخية على السواء.
في مقابل هذا كله يطرح (وات) وجهات نظر أقرب إلى الموضوعية في حديثه عن العامل الاقتصادي، فينفي أولوية هذا العامل حينا، ويلتقي حينا آخر مع الرؤية الإسلامية التي تجعل (الدين) هو الأساس الحقيقي للمتغيرات
__________
(1) محمد في مكة، ص 221.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 134، وانظر كذلك، ص 135.
(3) المصدر السابق نفسه، ص 162.
(1/113)
________________________________________
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو تحليل يختلف في اتجاهه تماما عن التحليل الماديّ للتاريخ، يقول (وات) : «نستطيع تحديد الموقف بقولنا:
إنه، ولو كان محمد على علم واسع بالأمراض الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية في عصره وفي بلاده، فإنه كان يعدّ الناحية الدينية أساسية، ولهذا حصر اهتمامه بهذه الناحية. وهذا ما حدد أخلاق الأمة الجديدة، فقد اهتم المسلمون الأوائل بعقائدهم وشعائرهم الدينية اهتماما شديدا، حتى لو أنّ رجلا يهتم خصوصا بالسياسة خلال الفترة المكّية لما ارتاح إلى العيش بينهم، ولا سيما حين اشتد النضال مع المعارضين وأصبحت نبوة محمد موضوع الخلاف الرئيس، فقد اتجهت أفكارهم أولا إلى الدين، ولهذا دعي الناس إلى الإسلام على أساس دينيّ، ولا يكاد يكون للأفكار الواعية الاقتصادية أو السياسية أي دور في اعتناق الإسلام، نقول هذا ونحن نعتقد بأن محمدا والمتنوّرين من أتباعه قد أدركوا الأهمية الاجتماعية والسياسية لرسالته، وإن مثل هذه الآراء كان لها أثر بالنسبة إليهم في إدارة شؤون المسلمين» «1» .
وفي مكان آخر يؤكّد (وات) هذه (الفكرة) التي تضع الأمور في نصابها بعد أن أطاحت بها ذات اليمين وذات الشمال نظرية التفسير المادي التي عضّت بنواجذها على صيغة الإنتاج كقاعدة تحتيّة لكل المتغيّرات على الإطلاق!: «كانت المشكلة التي جابهها محمد- يقول وات- لها جوانب اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية، غير أن رسالته كانت في الأساس دينية بحيث إنها حاولت علاج الأسباب الدينية الكامنة لهذه المشكلة، ولكنها انتهت لمعالجة الجوانب الآخرى، لهذا اتخذت المعارضة أشكالا مختلفة» «2» .
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 164- 165.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 216.
(1/114)
________________________________________
وثمّة تأكيد ثالث لهذا المنظور الذي لا يغافل الدافع المادي، ولكنه يضعه في مكانه تماما: «إن الأسباب المادية لا تنفي الأسباب الدينية، بل الاثنان متكاملان، والقول الحق هو أن الأفكار الدينية يجب أن تكون ضرورية لتجعل الناس يدركون الوضع العام الذي يعيشون فيه، والأهداف التي يسعون وراءها، وللدين في نظر التفكير الديني مظاهره السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هذا هو الحال في الشرق الأدنى، وهو مع ذلك ظاهرة غريبة في نظر الغربيّين، ولكن يجب ألّا يعمينا ذلك عن إدراك أن الجانب الدينيّ في الحركة التي تزعّمها محمد كان دائما صحيحا وثيق الصلة بالجوانب الآخرى» «1» .
وانطلاقا من هذه القدرة على (التحرّر) من شدّ التقليد الغربيّ بصدد الدوافع الاقتصادية، يطرح (وات) في مقدمة كتابه هذا السؤال: «هل يعني هذا أن ظهور ديانة جديدة في الحجاز وانتشار العرب في فارس وسورية وإفريقية الشمالية مرتبطان بتغيّر اقتصادي خطير؟» ، وما يلبث أن يجيب عليه بقوله «هناك من يجيب بالإشارة إلى قحط صحراء الجزيرة العربية، وأن الجوع هو الذي دفع العرب على طرق الفتح، لندع جانبا مؤقتا، المسألة العامة عن التغيّر الاقتصادي، ويكفي أن نشير إلى أنه ليس هناك برهان وثيق على سوء الأحوال المناخية في الصحراء «2» . فلقد كانت الحياة فيها مقبولة.
ونسمع عن صحابة محمد أنهم- أثناء الفتوحات خارج الجزيرة- كانوا يعودون أدراجهم إلى حياة الصحراء التي يحبّونها، ونشعر من خلال ذلك أنّ البدو لم يكونوا أسوأ حالا من الماضي، بل كانوا أفضل حالا بسبب ما يستفيدونه من ازدهار مكة المستمر.. ولقد وجدت صناعات صغيرة في
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 239- 240.
(2) انظر: أرنولد توينبي، دراسة في التاريخ: 3/ 439، 445، 453، 454.
(1/115)
________________________________________
الحجاز، ولا سيما لتلبية حاجات البدو والحضر، وإن سمعنا عن سلع من الجلد فمصدرها الطائف، ولكن هذه الصناعات ليست مهمّة في كتابة سيرة محمد لنعدّها عاملا فعالا» «1» .
بينما نجد أتباع التفسير المادي للتاريخ يعضّون بالنواجذ على أية إشارة من هذا النوع: صناعات جلدية، تجمعات عمالية لعصر الكروم وتخميرها!! وما شابه ذلك؛ لكي يقيموا عليها تحليلاتهم التي تنطوي في تشنجها المدرسي الأعمى، حتى نبوة الأنبياء وشعر الشعراء وحكمة الحكماء.. وهم يصلون- من خلال ذلك- إلى استنتاجات تصل حد التمحّل الذي يثير الاستغراب.. و (وات) يرفض الانسياق وراء هذا التقليد مؤكدا نقائضه الحين تلو الحين، برغم أنه يمثل- بحد ذاته- تناقضا مع عدد من أطروحاته التي أشرنا إليها قبل قليل.. «إن المستضعفين انتموا للإسلام متأثرين بقلقهم الخارجي والداخلي أكثر من تأثرهم بأي نفع اقتصادي أو سياسي.. وليس غريبا أنّ بعض الأشخاص قد دفعهم إلى الإسلام النواحي السياسية والاقتصادية فيه، ولا يبدو- مع ذلك- أن عددهم كان كبيرا» «2» .
وعلى أيّة حال فإن (وات) الذي دعا في مقدمة كتابه إلى الاهتمام الواسع بالعامل المادي في تفسير الوقائع التاريخية، لم يسمح لنفسه بأن يذهب مع المقولة إلى نهاية المدى، متخطّيا كل حواجز المنطق والواقعة التاريخيّة وتعقيدات الدّور البشري في التاريخ.. وبذلك أثبت أنه أكثر موضوعيّة من جلّ الذين أغراهم الدافع المنظور فوقعوا أسرى حشد من الأخطاء.
__________
(1) محمد في مكة، ص 19- 20.
(2) المصدر السابق نفسه، ص 164.
(1/116)
________________________________________
لكنه بصدد عوامل الشدّ الآخرى في مكوّنات العقل الغربي، لم يستطع أن يحقق (التحرر) أو (التوازن) نفسه، فوقع أكثر من مرة في دائرة (سوء الفهم) إن لم نقل في مظنّة الأخطاء.
(1/117)
________________________________________
الخاتمة
المحصّلة النهائيّة التي يمكن أن نصل إليها من خلال التعامل مع دراسات المستشرقين، أيّا كان موقعهم، أنه لا يمكن لهذه الدراسات- على الإطلاق- (وبالتأكيد العقلي، غير الانفعالي، على هذه العبارة الأخيرة) أن ترقى إلى مستوى السيرة فتكون قديرة على التعامل معها والتوغل في نسيجها، وإدراك بنيتها بعمق، ورسم الصورة الموضوعية العادلة لها.
ذلك أن هناك أكثر من خلل في (منهج العمل) ، ولن يتمخّض هذا الخلل إلّا عن حشود من نقاط سوء الفهم والأخطاء على مستوى الموضوع.. الأخطاء التي تنتشر كالبثور على جسد السيرة المترع صحة وتماسكا وعافية، فتشوهه وتنثر على صفحاته البقع والشروخ.
نعم.. ثمّة فرق بين مستشرق وآخر.. ونحن إذا قارنّا (وات) ب (لامانس) مثلا، أو حتى بفلهاوزن، وجدنا هوّة واسعة تفصل بين الرجلين.. يقترب أوّلهما ويقترب حتى ليبدو أشدّ إخلاصا لمقولات السيرة من أبناء المسلمين أنفسهم.. ويبعد ثانيهما ويبعد حتى ليبدو شتّاما لعّانا وليس باحثا جادا يستحقّ الاحترام..
ومع ذلك فهو فرق في الدرجة وليس في النوع.. فها نحن نقف بعض الوقت عند كتاب (محمد في مكة) لأكثر المستشرقين حياديّة كما أكّد هو نفسه في مقدمته وكما قيل عنه، ولنتذكّر عبارات المستشرق البريطاني (جب) ، ونشير كذلك إلى عبارات المستشرق الفرنسي (مكسيم رودنسن) :
«من النادر أن ترى عالما لا يهتم فقط بجمع مواد بحثه، بل يطرح الأسئلة
(1/119)
________________________________________
على نفسه ويجيب عليها بصورة علمية، يضاف إلى ذلك أمانة علميّة شديدة تصدر عن فكر لا حيلة له أمام الحقيقة. هذا الانفتاح الفكري، وتلك الأمانة العلمية، وهذه المهارة في الكشف عما هو أصيل وجوهريّ جعل من كتابه عن محمد حدثا تاريخيا في الدراسات عن نبيّ الإسلام» «1» .
نقف أمام هذا الكتاب فإذا بنا نقع على بعض جوانب الخلل في منهج العمل في حقل السيرة: نزعة نقدية مبالغ فيها تصل حد النفي الكيفي وإثارة الشكّ حتى في بعض المسلّمات، تقابلها نزعة افتراضية تثبت بصيغ الجزم والتأكيد ما هو مشكوك بوقوعه أساسا. وإسقاط للتأثيرات البيئيّة المعاصرة، وإعمال للمنطق الوضعيّ في واقعة تكاد تستعصي على مقولات البيئة وتعليلات العقل الخالص.
ونستطيع أن نخلص من هذا كله إلى أنه ليس بمقدور أيّ مستشرق على الإطلاق مهما كان من اتساع ثقافته، واعتدال دوافعه، وحياديّته، ونزوعه الموضوعي، إلّا أن يطرح تحليلا للسيرة لابدّ أن يرتطم، هنا أو هناك، بوقائعها وبداهاتها ومسلّماتها، ويخالف بعضا من حقائقها الأساسيّة، ويمارس- متعمدا أو غير متعمد- تزييفا لروحها وتمزيقا لنسيجها العام.
__________
(1) من تعليق رودنسن الذي اعتمده الناشر على غلاف كتاب (محمد في المدينة) .
(1/120)
________________________________________
أهم المصادر والمراجع
القرآن الكريم ابن الأثير: عز الدين الجزري (ت 630 هـ) .
الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت- (1965- 1967 م) .
البلاذري: أحمد بن يحيى بن جابر (ت 279 هـ) .
أنساب الأشراف، الجزء الأول، تحقيق محمد حميد الله، معهد المخطوطات لجامعة الدول العربية، دار المعارف، القاهرة- 1959 م.
ابن سعد: محمد (ت 230 هـ) .
كتاب الطبقات الكبير، تحقيق إدوار سخاو ورفاقه، طبع مصورا عن طبعة ليدن- أبريل- 1925 م.
الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ) .
تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة- (1961- 1962 م) .
ابن المبارك: زين الدين أحمد الزبيدي (ت 735 هـ) .
التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للبخاري، الطبعة الثانية، دار الإرشاد، بيروت- 1386 هـ.
(1/121)
________________________________________
ابن هشام: أبو محمد عبد الملك (ت 218 هـ) .
تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة- 1964 م.
الواقدي: محمد بن عمر بن واقد (ت 207 هـ) .
كتاب المغازي، تحقيق مارسدن جونس، مطبعة جامعة أكسفورد 1966 م.
أرنولد: سير توماس و.
الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن ورفاقه، الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة- 1971 م.
بروكلمان: كارل.
تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة فارس والبعلبكي، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين، بيروت- 1968 م.
البهي: د. محمد.
الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، الطبعة الخامسة، دار الفكر، بيروت.
خليل: عماد الدين.
التفسير الإسلامي للتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت- 1974 م.
دراسة في السيرة، الطبعة الثالثة عشرة، مؤسسة الرسالة، بيروت- 1981 م.
في التاريخ الإسلامي: فصول في المنهج والتحليل، المكتب الإسلامي، بيروت- 1980 م.
(1/122)
________________________________________
درمنغم: إميل.
حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الثانية، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة- 1949 م.
دروزة: محمد عزة.
سيرة الرسول: صور مقتبسة من القرآن الكريم، الطبعة الثانية، مطبعة عيسى البابي، القاهرة- 1965 م.
الدوري: د. عبد العزيز ورفاقه.
تفسير التاريخ، مكتبة النهضة، بغداد.
دوزي: رينهارت.
تاريخ مسلمي إسبانية، الجزء الأول، ترجمة د. حسن حبشي، المؤسسة المصرية العامة، دار المعارف، القاهرة- 1963 م.
دينيه: آتيين (ناصر الدين الجزائري) وسليمان إبراهيم الجزائري.
محمد رسول الله، ترجمة عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم، الطبعة الثالثة، الشركة العربية، القاهرة- 1959 م.
العقيقي: نجيب.
المستشرقون، دار المعارف، القاهرة- 1964 م.
علي: د. جواد.
تاريخ العرب في الإسلام (السيرة النبوية) ، الجزء الأول، بغداد مطبعة الزعيم- 1961 م.
(1/123)
________________________________________
العلي: د. صالح أحمد.
محاضرات في تاريخ العرب، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، بغداد مطبعة الإرشاد- 1964 م.
فايس: ليوبولد (محمد أسد) .
الإسلام على مفترق الطرق، الطبعة السادسة، دار العلم للملايين، بيروت- 1965 م.
فرّوخ: عمر، ومصطفى الخالدي.
التبشير والاستعمار في البلاد العربية، الطبعة الرابعة، المكتبة العصرية، بيروت- 1970 م.
فلهاوزن: يوليوس.
تاريخ الدولة العربية، ترجمة محمد عبد الهادي أبي ريدة، الطبعة الثانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة- 1968 م.
وات: مونتغومري.
محمد في مكة، تعريب شعبان بركات، المكتبة العصرية، بيروت.
محمد في المدينة (المترجم والناشر نفسه)
ولفنسون: إسرائيل.
تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، مطبعة الاعتماد، القاهرة- 1927 م.
(1/124)
________________________________________
:margolluth:
the early development of mohammedanism) london- 1914 (
.mohhammed and the ris of islam.) london 1905 (.
the relations between arabs and israelits prior the rise of islam) london 1924 (
:muir willam.
the caliphate its rise dicine and fall) london 1891 (
.Lthe incyclopeadia of islam) london and leyden 1913 (.
(1/125)
________________________________________
فهرس الموضوعات
ملاحظات أساسية 5
تطوّر الموقف (الغربيّ) 17
أولا: المبالغة في الشكّ، والافتراض، والنفي الكيفيّ، واعتماد الضعيف الشاذّ 24
ثانيا: إسقاط الرؤية الوضعية، العلمانيّة، والتأثيرات البيئيّة المعاصرة على الوقائع التاريخيّة 27
ثالثا: رد معطيات السيرة إلى أصول نصرانية أو يهودية 33
محمد في مكة (1) 47 1- النزعة الشكّيّة والافتراض والنّفي الكيفيّ 49
محمد في مكة (2) 85 2- إسقاط الرؤية العقليّة المعاصرة على السيرة 87
الخاتمة 119
أهم المصادر والمراجع 121
فهرس الموضوعات 127
(1/127)
________________________________________


http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
المستشرقون, الوثنية, والسيرة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع المستشرقون والسيرة النبوية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المستشرقون والسُنَّة Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 02-01-2021 09:54 AM
المستشرقون والتنصير Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 02-01-2021 09:52 AM
المستشرقون في الميزان Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 02-01-2021 09:32 AM
بشرية محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن والسيرة علاء سعد حميده دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 12-09-2013 09:03 PM
الرواية والسيرة الذاتية Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 12-12-2012 08:31 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:59 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59