#1  
قديم 04-19-2012, 01:08 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي بين الشورى والديمقراطية للدكتور راغب السرجاني


- الخطبة الأولى -
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
-( الحمد لله رب العالمين )- [الفاتحة/2]
-(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)- [الأنعام/1]
-(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا[1] -(قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [2] مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) [الكهف/1-3]
-(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)- [سبأ/1]
-(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)- [فاطر/1]
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه.
الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في سبيل الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، فالله اجزه خير ما جازيت به نبيا عن قومه، ورسولا عن أمته واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا أبدا يا رب العالمين.آمين آمين، وصلى اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
ثم أما بعد:
خلق الله الناس بحكمته بأفهام متباينة، وبعقول مختلفة، وبتجارب متغايرة، وحكم بذلك في كتابه الكريم فقال: - -(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)- [هود/118]
بدأ هذا الاختلاف مع بداية الخلق وظل معنا إلى زماننا الآن، وسيبقى كما حكم ربنا - U - إلى يوم القيامة.
وحكم كذلك - I - أن كل إنسان منقوص في أمر من الأمور، ليس هناك الإنسان الكامل، كل البشر منقوصون، كل البشر لا يجتمع فيهم كل المواهب والخبرات، والإمكانيات، فمن حكمه ورحمته بخلقه أن جعلهم بطبعهم يحبون الاجتماع، فيكمل كل ناقص نقصه من غيره، فنشأت المجتمعات.
قال تعالى: -(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)- [الحجرات/13]
فاجتمعت الشعوب، وليس صحيحًا كما يقول بعض أجناس الشعوب أن هذه المجتمعات نشأت من فترة كذا أو كذا، فيحددون أوقاتًا معينة في التاريخ أو بلادًا معينة، فقد ذكر الله لنا أن هذه الخاصية واجتماع الشعوب هي مع الإنسان منذ أن نزل إلى الأرض.
1- ومن أشهر المجتمعات والتي ذكرت قصتها تفصيلا: قصة نوح - u - قوم نوح هؤلاء من أوائل ما نزل على الأرض، أو خلق في الكون الفسيح.
سئل النبي صلى الله عليه والسلام عن رواية ابن حبان في صحيحه وصححه: أكان آدم نبيا؟ قال: "نعم" فسئل e كم كان بينه وبين نوح u؟ قال: "عشرة قرون".
منذ فجر التاريخ، والقرون الأولى والناس يعيشون في مجتمعات، يعيشون في شعوب وقبائل، نتج عن هذا الأمر أنهم كانوا يحتاجون إلى قانون يحكمهم، وإلى طريقة يدارون فيها، ويدرون بها، لأنهم أفهام متباينة، وطبائع مختلفة، وآراء متعددة، فظهر بذلك طريقتان رئيستيان في الحكم في العالم أجمع.
الطريقة الأولى: أن يتسلط أحد الأقوياء على الحكم ويحكم الناس جميعًا وهو ما يعرف عندنا بالحكم الدكتاتوري.الحكم السلطوي، الحكم الذي لا يقبل حكما إلى جواره.
الطريقة الثانية: وظهرت هناك طريقة أخرى في إدارة الأحكام والأمور، وهي طريقة التشاور، أن يجتمع الناس ويتشاورون في أمر من الأمر ويختارون أفضل الآراء التي يحكمون بها حياتهم، ويختارون أفضل العناصر التي تحكهم وتسير أمورهم.
لا شك أن الصورة الثانية أقرب إلى الفطرة من الصورة الأولى، لا شك أن صورة الاجتماع واستخراج أفضل الآراء أفضل من أن يتسلط رجل بعينه على الحكم لقوته وسطوته فيحكم بما يريد، ويحرك الجموع والآلاف والملايين بحسب ما يريد، يخطئ أحيانًا ويصيب أحياناً وخطأه أكثر بكثير من إصابته فتعيش البلاد تحت حكمه في هم ونصب وتعب وضيق لذلك حفزنا ربنا في كتابه على الطريقة الثانية.
سارت البشرية بين هاتين الطريقتين إما حكم دكتاتوري أو سلطوي لا يقبل حكما آخر.
وإما اجتماع وتشاور وإخراج لأفضل ما يمكن أن يحكم به الناس.
لكن الإنسان مزروع في داخله الشهوات، يقبل على هواه، ويحاول أن يسعى إلى إشباع رغباته ولو بطريق محرم، ولو بطريق آثم، فنتج عن ذلك أن كثيرا من الشعوب في مراحل التاريخ المختلفة وإلى زماننا الآن ، وسيظل الوضع كذلك إلى يوم القيامة كثير منهم إذا اجتمعوا يجتمعون على باطل، يجتمعون على منكر، يجتمعون على فسق وفجور تبعًا لهواهم وشهواتهم التي زرعها الله - U - في قلوبهم - وأمرهم أن يخالفوها وهذا اختبارنا كبشر على هذه الأرض.
وذكر ربنا في كتابه الكريم أن اجتماع الأكثرية - دون رعاية لوحي، أو تشريع، أو دين - كثيرا ما يقود إلى الضلال.
فقال: -(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)- [الأنعام/116]
هذا اجتماع للأكثرية، ليس معهم نور من الوحي، وليس معهم هداية من الشريعة، فاجتمعوا على هواهم، واجتمعوا على شهواتهم، واجتمعوا على رغباتهم، فضلوا.
وفي موضع آخر: -(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)- [يوسف/103]
وفي موضع آخر: -(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)- [يوسف/106]
هكذا في كل مراحل التاريخ رأينا اجتماعات كثيرة ذكرها الله تفصيلا في كتابه الكريم، تجتمع على الضلالة وتجتمع على المنكر وتجتمع على الفسوق، بداية من قصة نوح u.
من الذي اجتمع على الباطق في قصة نوح؟ ومن الذي اجتمع على الحق؟
اجتمع أغلب الناس في زمانه u على الباطل، وكان هو ومن معه u كانوا قليلين.
-(... وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)- [هود/40]
وتكرر ذلك تقريبًا في معظم قصص القرآن الكريم
2- راجع قصة لوط u كان هو من معه رهط قليل ، عدد بسيط زهيد، أما عامة الناس اجتمعوا على اختيار الفاحشة، على اختيار المنكر، ولما ظهرت المعارضة الإيمانية في بلدهم قالوا: -(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)- [الأعراف/82]
3- بل أوضح ما يكون في قصة صالح u في قوم ثمود، مع أن قوم ثمود كانوا يتمتعون بأخلاق عالية، وسمات نبيلة، ظهرت في أكثر من موضع وليس المجال للتفصيل هنا. فلما اختلفوا على الدعوة الإيمانية التي جاء بها صالح - u-
ذكر الله قصتهم : -(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [48] قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ) [النمل/ 48-49]
اجتمع هؤلاء الرهط وهم ممثلون عن البطون المختلفة في ثمود اجتمعوا على قرار آثم، اجتمعوا على قتل صالح، اجتمعوا على عقر الناقة، اجتمعوا على الكفر بالله - U، واجتمعوا على الإفساد في الأرض كما وصف الله، وكان عاقبتهم الإهلاك كما نبأنا الله.
فكانوا مجتمعين على باطل، رغم الاجتماع والتشاور، اجتماع قاد ضلالة، وقاد إلى فساد.
4- كذلك أوضح ما تكون في قصة ملكة سبأ التي كانت في زمن سليمان u والتي كانت تقر التشاور وتحبه فجمعت قومها عندما جاءها كتاب كريم من سليمان --(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [29] إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[30] ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين [31] قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ) [النمل/29-32]
فماذا كانت مشاورتهم؟
ظلوا على كفرهم وهددوا ولوحوا بقوتهم
قالوا: -(قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)- [النمل/33]
هذه صورة من صور الحكم كما نسميها في زماننا الآن "ملكية دستورية" إنها امرأة تملكهم ولكنها تعقد الشورى الحقيقية معهم فأشارت، فأشاروا عليها بالقوة، ولأنها كانت تملكهم أرجعوا الأمر إليها، ولكنها اختارت رأيا آخر، لأنها كانت حكيمة قالت: -(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)- [النمل/35]
فهذه صورة أخرى من صورة أخرى من التشاور التي ظهر فيها فساد الذين اجتمعوا مع بعضهم البعض ليخرجوا رأيا من الآراء.
5- بل إن هذه الصورة نفسها كانت تحكم بها مكة المكرمة قبل ظهور الإسلام فيها لم تكن حكما حكما دكتاتوريا سلطويا من رجل معين، فكان يجتمع على حكمها عشرة قبائل كاملة، يأتي زعيم كل قبيلة في دار معينة ويتشاورن في أمر مكة فهذا أمر الرفادة ورعاية الحجيج ، وهذا له الراية وهكذا ...
ولما ظهر الإسلام اجتمعوا سويا على محاربة الإسلام والمسلمين وعلى إقرار الظلم وحرب المسلمين والذين ما كانت جريرتهم ولا ذنبهم إلا أن قالوا ربنا الله، فكان اجتماعهم على السوء كما تبين لنا
الحكم الأخر السلطوي الدكتاتوري ذكره الله في كتابه كثيرًا:
وذلك في قصة فرعون - لعنه الله - كان رجلا سلطويا فاجرا لا يقبل رأيا آخر إلى جوار رأيه، بل إنه رفع نفسه إلى درجة الألوهية فقال:
-(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)- [القصص/38]
لكنه من قبيل تجميل الصورة وتحسين الوضع أما أعين الناس يتظاهر أنه كان يتشاور مع الناس نفس الطريقة التي حكمت بها البلاد العربية أكثر من ستين سنة الآن صورة جمهورية، صورة مجلس من مجالس الشعب أو الشورى، أو البرلمان، لكن الحكم في النهاية مرده إلى رجل واحد.
جمع الناس في قضية موسى u وسأل الملأ قال لهم في بداية الأمر:
-(... إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [109] يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [110] قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [111] يأتوك بكل ساحر عليم ) [الأعراف/109-112]
في هذا الموقف يوحي لهم فرعون بشره الرأي الذي يريده، هو يريد حربا لهذا الرجل ، لا يقول لهم أهو حق أم باطل، لا يسألهم أهو يدعو إلى الصلاح أم الفساد، إنما يقرر لهم إنه ساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون، يتشاورن في الشر فقط ولا يعطي خيار الخير أمام الناس لمجرد تجميل الصورة.
ولما ظهرت معارضة إيمانية في بلده على لسان مؤمن آل فرعون الذي جاءت قصته في صورة غافر. ماذا قال فرعون؟ قال:
-( ... مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)- [غافر/29]
قالها ردًا على رد مؤمن آل فرعون عندما قال:
-(يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ....)- [غافر/29]
تخبط الناس إذن بين الطريقتين
طريقة السلطوية الدكتاتورية البشعة، الذي يحكم فيها الناس بالحديد والنار ولا يريهم إلا ما يرى، وطريقة التشاور والاجتماع الذي يقود إلى اجتماع على ضلالة أو كفر أو فسوق أو على ظلم أو قتل كما تبين لنا في معظم قصص القرآن الكريم.
ما الحل في هذا الموقف؟
نزل الإسلام العظيم.
نزلت الشريعة الغراء لتقر الطريقة الثانية في الحكم، طريقة الاجتماع والتشاور، ولكن بوضع ضوابط معينة تحمي الناس من شرورها تحمي الناس من آفاتها، تحمي الناس من أضرارها التي يقعون فيها صباح مساء. ما سمي في الإسلام بالشورى. يعتقد البعض أنها توازي كلمة الديمقراطية عند الغرب، لكن شتان بين الشورى والديمقراطية، هناك شكل قد يظهر للناس مشابه بين الأمرين الديمقراطية التي نشأت في أرض اليونان خمسة قرون قبل الميلاد تعني حكم الشعب.
ديموس باليونانية تعني: الشعب، قراطس باليونانية : تعني الحكم، وإن ظهرت قبلها في الهند بقرن ولكنها اشتهرت في اليونان كانت نفس الطريقة. ثم الرومان من بعدهم. أن يجتمع الناس يختارون من يحكمهم ويجتمع الناس يختارون القانون الذي يحكمهم فيصيبون أحيانا ويخطئون أحيانا ولأن الهوى مزروع في قلوب الناس، والشهوات منزرعة في سويداء قلب كل إنسان، فإنهم كثيرا كثيرا كثيرا ما كانوا يجتمعون على الظلم في ديمقراتيهم وفي جمهوريتهم حكم اليونان أن لا مكان للعبيد في دولتهم، وألا حق لهم، وأن الأحرار يملكونهم، وأن الله U خلق الأقوياء لكي يتسلطوا على الضعفاء، على هذه المعاني الفاسدة اجتمعوا.
وصدق ربنا U عندما ذكر في كتابه الكريم:
-(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)- [الأنعام/116]
ما الذي كان يعيب الديمقراطية ؟
كان يعيبها أنها ليس فيها نور من الوحي، وليس فيها هداية من رب العالمين، وإنما تركت لأهواء الناس، وأهواء الناس إذا تحكمت فيهم أضلتهم وأخرجتهم عن جادة الطريق، فنزل الإسلام العظيم ليقر طريقة الاجتماع والتشاور ولكن مع ضوابط. ما هي هذه الضوابط ؟
أنزل الله U في محكم التنزيل قواعد الحرام وقواعد الحلال، وعلمنا إياها e في سنته المطهرة وفي حياته الكريمة الله U بسابق علمه حكم بأن هذا الأمر يضر الناس إلى يوم القيامة، وأن هذا الأمر ينفع الناس إلى ينفع الناس إلى يوم القيامة، فحرم علينا لمصلحتنا ما يضرنا إلى يوم القيامة، وأباح لنا لرحمته بنا ما ينفعنا إلى يوم القيامة.
يُحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، لا يترك عقولنا لتختار مرة فتصيب، وتختار مرة فتخطئ، رحيم بنا، كريم معنا I، ويعلم سرنا ونجوانا، ويعلم ما يصلح حياتنا، ويصلح آخرتنا.
-(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)- [الملك/14]
فنزل التشريع بهذه الصورة، هذا حلال، وهذا حرام، هذا الأمر لا يجوز لك أن تجتمع فيه مع الناس، لتقر غيره، فقد حكم الله U بسابق علمه أن هذا الأمر لو اجتمعتم على خلافه أصابتكم الضراء إلى يوم القيامة فحمانا في هذا الأمر.
فاجتماع الناس والحرية فيما يريدون أن يختاروه أي كان، أنا أمثله بسلك للكهرباء، ولكنه سلك عارٍ، ليس عليه عازل، فائدته كبيرة، ولكنه قاتل، فنزل الإسلام ليغطي لنا هذا السلك، ليضع العازل على هذه الحرية، ليقيض بعض الأمور، ويتيح الفرصة في أمور أخرى، فتتحقق لنا الفوائد دون أن نقع في المضار، وسبحان الذي خلق هذا الكون وأحكم صنعه، ونزل التشريع لينفع الناس به، هذه هي الشورى في الإسلام، شورى تختلف عن الديمقراطية في أن لها ضوابط من الشرع، لا يجوز على سبيل المثال،أن يجتمع الناس ويقولون إذا أردنا أن نشرب الخمر جميعا، أفلا نقر قانونا يتيح لنا أن نشرب الخمر، لأن الله U حرم الخمر في كتابه الكريم وكُلنا يعلم ذلك، فإن اجتمعنا على غير ذلك ضللنا فحمانا ربنا U وحرمها في كتابه وفي سنة رسوله e فلا يجوز هنا في حكم الشورى أن يجتمع المسلمون في يوم من الأيام ليسألوا أنفسهم سؤالا؟ أَتُرانا نشرب الخمر أم نتركها، لا يجوز في الإسلام هذا، إنما يجوز هذا في الديمقراطية، يجوز في الديمقراطية أن يجتمع الناس على أي مسألة من المسائل، اجتمعوا في فرنسا الآن على منع الحجاب على بنات المسلمين، اجتمعوا على ذلك، أقروا ذلك، الشعب اختار نوابًا، والنواب اجتمعوا في البرلمان وكان حكهم الذي اجتمعوا عليه أن يقروا الفاحشة وأن يعرضوا عن التطهر، أن يقروا العري ويعرضوا عن التستر، هكذا اجتمعوا على هذا الأمر، الديمقراطية تسمح بذلك. الشورى لها حدود وهذه الحدود ما وضعت إلا لمصلحة الإنسان ومصلحة المجتمعات ولمصلحة الكون بكامله، والله يسعد العالم أجمع مسلموه وغير مسلميه بشرع الله U وبحدوده، من هذا الطبيب ؟ ومن هذا العالم؟ الذي يستطيع أن يقول أن الخمر شيء نافع، وأن الخمر فيها فوائد كذا وكذا .. حتى ما قيل في موضوع عضلات القلب وأنها تُقوي أحيانا عضلات القلب أثبت العلماء بعد ذلك فساد هذا القول.
هكذا أثبت الله U بالعلم الحديث وبالعلم القديم وفي التشريع الحكيم أن هذا الأمر الذي حرمه في ضرر على الناس فمنعنا I من التشاور في أمر حكم به U وكُلنا عباد له وكلنا نُحكم بأمره U وكُلنا يعود إليه يوم القيامة، الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، والذين لا يؤمنون بالعودة إلى الله U يسخرون من هذا الكلام ويشرعون لأنفسهم ما يحلوا لهم، ويعتبرون أن الإسلام إذا وضع قيودا على اختيارك فإنه أضرك وقيد حريتك، أبدًا والله، لقد أتاح لنا الإسلام مطلق الحرية، ولكنه كما يحمي الأب أبناءه من الوقوع في خطر ماحق قد يودي بحياتهم، حمانا ربنا U وهو أرفق بنا من آبائنا وأمهاتنا مما يصيبنا في حياتنا من الضرر، ومن الزلل، ومن الفساد، ومن الإجرام، وما ترونه في العالم من فضائح وجرائم ومفسدات كثيرة، 24% من سكان أمريكا ليس لهم أب، لا يعرفون آباؤهم لأن الفاحشة سرت في المجتمع، والمرأة تعاشر رجلا واثنين وعشرة، ولا قانون يردعها لأنهم حكموا قبل ذلك، واجتمعوا قبل ذلك على شيوع الفاحشة، وأنه ليس بالضرورة أن تتزوج المرأة حتى تنجب، فلما ظهرت هذه المشكلة، كانت هذه النتيجة، وهذه إحصائيات رسمية أمريكية، لا يعرفون أصلا آباءهم، وفقدوا رمز الأب تماما في حياتهم لا تعرفه حتى أمهم لأنها تلتقي مع أكثر من رجل.
انظروا هذه هي نتيجة الديمقراطية التي يتكلمون عنها، فحمانا ربنا U بالشورى، نحن لسنا قوما متسولين، نطوف على شعوب الأرض نرى ما عند هذا وما عند هذا، نحن قوم أعزنا الله U بالإسلام، وإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله U.
أسأل الله U أن يفقنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، واستغفروه فيا فوز المستغفرين.

- الخطبة الثانية -
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
يخطئ من يظن أن الإسلام بذلك لا يتيح فرصة للناس للتشاور إنما حقيقة الأمر يا إخواني أن المساحة التي أعطاها الله U للبشر كي يتشاورون فيها مساحة هائلة الحدود التي حدها ربنا U قليلة للغاية، الأمور التي حرمها على المسلمين معدودة تستطيع أن تَعُدها في كتاب هذا محرم، وهذا محرم، وهذا محرم، أمور معدودة، وغير ذلك فكل شيء مُباح، ليس الكثير هو التحريم أو المنع، إنما الكثير هو المباح، لذلك قال علماء الفقه، أصول الفقه، الأصل في الأمور الإباحة وعندما يريد منا ربنا U حظرًا معينا في أمر معين لرحمته بنا ولرفقه بنا يذكر لنا أن هذا الأمر خطر عليكم فامتنعوا عنه، هذا رجس فاجتنبوه، هذا طريق هلكة لا تسيروا فيه، الشريعة كلها عدل، الشريعة كلها رحمة، الشريعة كلها خير، ليس فيها أمر من الأمور مطلقا على سبيل الإطلاق أمر به ربنا U يحقق لنا ضررا أو فسادًا في الأرض، إنما كل الشريعة خير، والمساحة الهائلة التي أعطاها لنا ربنا U لكي نعطي فيها آراءنا هذه المساحة الهائلة كفيلة بإخراج إبداعنا وتفكيرنا ومواهبنا وكل ما يمكن للبشر أن يفعلوه إصلاحا لهذه الأرض وإعمارًا لها، فلا يتعلل أحد أبدًا بأن الإسلام وضع قيودًا على البشر أنه لا يمكن لهم أن يطبقوا الشورى، بل طبق الشورى سيد المرسلين e في حياته من أولها إلى آخرها حتى قال أبو هريرة كما جاء في سنن البيهقي في سند صحيح، حتى قال tوأرضاه: ".. ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله e لأصحابه.
يُعلق الحسن البصري على هذه المقولة الشهيرة ويقول: إن كان لرسول الله e لغنيا عن مشورتهم إلا أنه فعل ذلك ليستن الحكام بعده بما فعل، كان e أحكم البشر وأفضل العالمين e وهو متابع بالوحي العظيم من السماء ومع ذلك طبق الشورى في حياته في كل مواضع حياته في كل مواقفه الخطيرة، إلا أن يكون حرامًا فعندها لا يشاور الناس.
إذا جاءه أمر من الله أو نهي من الله فلا تشاور مع الناس، إنما الحكم نافذ عليه وعلى المسلمين وعلى كل من آمن بالله ربًّا وبالرسول رسولا، وبالإسلام دينا، هذا حكم الله U.
الموضوع فيه تفصيل كثير؛
هل الشورى بهذا المعنى أمر واجب، أم هو أمر مندوب محبوب وليس على سبيل الوجوب؟
هل الشورى مُلزمة أم مُعلنة؟
هل بعد أن استمعنا إلى الشورى يمكن لنا أن نُخالف رأي الشورى أم يلزمنا أن نأخذ برأ الشورى؟
هذه المسائل كثيرة، وقضايا مهمة عظيمة، أسأل الله U أن ييسر لنا أن تكلم فيها في خطبتنا القادمة في هذا المسجد، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-19-2012, 10:57 PM
الصورة الرمزية ابراهيم الرفاعي
ابراهيم الرفاعي غير متواجد حالياً
كاتب وأديب قدير
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: روضة الورد
المشاركات: 526
افتراضي

جزاك الله خيراً
وأجزل مثوبتك
وكلل دربك بالسعادة
شكراً
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للدكتور, السرجاني, السوري, بين, راغب, والديمقراطية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع بين الشورى والديمقراطية للدكتور راغب السرجاني
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مقال بعنوان : مغزي الحياة للدكتور راغب السرجانى Eng.Jordan الملتقى العام 0 12-27-2016 10:36 PM
بين الشورى والديمقراطية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 1 05-28-2013 04:34 PM
منع الدكتور راغب السرجاني من دخول فرنسا Eng.Jordan المسلمون حول العالم 0 04-13-2012 02:33 PM
واعتصموا .. مبادرة د. راغب السرجاني للاتفاق على مرشح إسلامي واحد Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 0 04-13-2012 02:32 PM
بين التاريخ والواقع بقلم د.راغب السرجاني احمد ادريس كتب ومراجع إلكترونية 0 01-14-2012 07:00 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:40 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59