رشيد سليماني: المغرب
إن دراسة أدبنا الشعبي تعد من أهم العوامل التي ستسهم في معرفة شخصيتنا الثقافية والأدبية والاجتماعية والنفسية، هذه الشخصية المتميزة بالتعدد والتنوع داخل الجسد الواحد. كما أن هذه الدراسة يشترط فيها أن تكون حرة موضوعية لتسهم في ردم الهوة بين أطراف هذا المتعدد وخلق تواصل معرفي بينها. وإذا كان أدبنا الشعبي العربي يتميز بقلة البحوث والدراسات النقدية، فإنه بالمقابل يمتاز بالوفرة والعطاء في المنجز الإبداعي وبخاصة الشفهي منه، بكل تجلياته اللغوية المتنوعة والأجناسية: الحكايات والأمثال والألغاز والأساطير والطقوس الاحتفالية والفرجوية والشعر، الذي يعد أهم هذه الأجناس، والذي كاد يغطي عليها. صحيح أن الأدب الشعبي العربي يحتاج إلى تضافر الجهود الفردية والمؤسساتية لإخراجه من غياهب النسيان والتهميش وتنقيته من كل مقولات التشويه، لأنه الأدب الحق الذي شكل، ومازال ميسم هويتنا ونكهة شخصيتنا وفرادة وجودنا. إنه المعبر عن آلامنا وآمالنا وأحلامنا، بل إنه المرآة العاكسة لمخيالنا الجمعي. من هنا كان لزاماً على أي دراسة موسومة بالموضوعية أن تتجاوز التعامل معه باعتباره مجرد طقوس استعراضية تكميلية تأثيثية مناسباتية. تتمثل أول خطوة مهمة لدراسة هذا الأدب في بذل الجهد لجمعه وتدوينه، خصوصاً الشفهي منه، كما فعل الباحثون الغربيون، فإذا تصفحنا الدراسات الأجنبية نقف مندهشين محرجين، لأنها تفيض بأسئلة وجودية عميقة من قبيل: لماذا يعرف ويدرس غيرنا أدبنا، ونحن نجهله؟ ماذا لو سئلنا: ما هو الأدب الشعبي العربي؟ من هذا المنطلق لابد أن نطرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية: لماذا نهمش أدبنا الشعبي؟ ولماذا لا نتعامل معه بموضوعية؟ لماذا نتنكر لأدبنا الشعبي؟ ويمكن أن نعكس هذه الأسئلة بصياغة أخرى: لماذا يقدر الغرب أدبهم الشعبي؟ ويولونه العناية والاهتمام علمياً وأكاديمياً؟ إن مثل هذه الأسئلة لجديرة بالبحث والدراسة، إذ لا يمكن اعتبارها بسيطة فهي تساؤلات عميقة ومركبة تضرب بجذورها في أعماق هويتنا وفكرنا وحضارتنا؛ فهي قابلة للبحث من طرف المهتمين بالفلكلور والأنثروبولوجيا، وهي موضوعات فلسفية ونفسية واجتماعية.
إن أطروحة رفض الأدب الشعبي تكاد تكون خصيصة مميزة لأمتنا العربية، أملتها الظروف والخصائص الاجتماعية والتاريخية والأيديولوجية لهذه الأمة، وهو الشيء الذي لا نلاحظه في الثقافة الغربية التي تطورت فيها الدراسات الإنسانية عامة كالفلسفة والأنترلوبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع واللسانيات والسيمائيات من خلال دراستها للنصوص الشعبية. فنظريات ليفي شتراوس لم تكن لتظهر إلا بدراسته لحياة الشعوب البدائية في طريقة أكلهم ولباسهم. وهذا أ.ج. كريماص شيد مشروعه السيميائي: (المسار التوليدي-المعنى1-المعنى2)... من خلال تعمقه في دراسة فلاديمير بروب للحكاية الشعبية الروسية، هذا الأخير الذي أجهد نفسه ومن معه ليجمع عدداً لا يستهان به من الحكايات الشعبية ويخضعها للدراسة والتمحيص ليصدرها في كتاب رائد في هذا الميدان تحت عنوان: مورفولوجيا الحكاية الشعبية. وهذا بورس العالم الأمريكي وإيكو الإيطالي وبارث الفرنسي وغيرهم كثير اعتنوا بالأدب الشعبي ولم يتنكروا له سواء شعراً أو قصة أو خرافة أو حكاية أو أسطورة أو غيرها من الأجناس والطقوس الشعبية. لأنهم أدركوا حق الإدراك أن هذه الإبداعات هي المكنز والذخيرة التي تعبر عن ذائقة الشعوب وعن وعيهم ولا وعيهم ومكبوتاتهم وكيفية فهمهم للعالم. إن هذه الثنائية الضدية التي تميز أمتنا العربية في تعاملها مع إبداعاتها: الأدب الرسمي العالم النخبوي في مقابل الأدب الشعبي؛ هي التي أسهمت بقدر كبير في تأخرنا. إذ غالباً ما يقابل هذا الأدب الشعبي بكثير من العزوف والرفض والتنكر وعدم الاكتراث، ويشكل في نظر البعض مؤشراً على التخلف والقدامة وعائقاً أمام الحداثة. ومن غريب صور تناقض أهل هذا الرأي والزعم أنهم يقبلون هذا الأدب الشعبي في أشكاله المادية كالعمارة واللباس والزخرفة، والأشكال والنقوش، والرقص والغناء، ويتخذونه وسيلة فولكلورية لتحقيق غايات معينة، وهنا مكمن العيب في هذا التصور، لأن الأدب الشعبي بكل تجلياته كيان مستقل بذاته ويجب أن يتعامل معه لا كوسيلة، بل كغاية في حد ذاته. وترتفع درجة الرفض والازدراء عند هؤلاء حينما يتعلق الأمر بالجانب الشفهي القولي اللغوي في هذا الأدب، معززين اعتراضهم بدعوى أن هذا الأدب الشعبي الشفهي يهدد اللغة العربية لغة الموروث الديني والقومي، ناسين، من باب الجهل، ما بين العربية واللهجات المحلية من تثاقف واتصال غني ومنتج. من هذا المنطلق كانت رغبتنا جامحة في الدفاع عن هذا الأدب من خلال دراسته لإبراز مكوناته وخصائص تميزه، وهو دفاع من الداخل نقيض لما يروج في الساحة الأدبية العربية من أشباه دراسات وبحوث لا تعدو كونها دفاعات من خارج الأدب الشعبي. لأننا نصدر عن قناعة مفادها أن العناية بالأدب الشعبي بكل أصنافه وألسنته ظاهرة حضارية تدل على مستوى وعي الأمة ورقيها. وهو سلوك يِؤشر على نضجها الفكري. إن الأمم المتحضرة لم تكتف بدراسة أدبها الشعبي فقط، بل عبرت إلى دراسة آداب الشعوب الأخرى. لقد رانت على مجتمعنا سنوات من الأمية والتردد والتحوط في دراسة أدبنا الشعبي، لكن قد آن الأوان للتعامل معه ورد الاعتبار له مرغمين أمام ما يشهده العالم العربي من تحولات فكرية واجتماعية بسبب ما حملته موجات نظام العولمة من معاول لهدم الخصوصيات الثقافية، هذا النظام الذي فرض علينا تحصين شخصيتنا وهويتنا من كل مسح ومسخ أيديولوجي وثقافي. إذ لا وجود لأي مجتمع متحضر يريد أن ينسلخ من كينونته وعناصر تميزه، فلا سبيل لمواجهة هذا المسخ العولمي إلا بالانكباب على جمع وتصنيف ودراسة أدبنا الشعبي باعتباره وثيقة تاريخية وثقافية وحضارية تميزنا عن غيرنا.