#1  
قديم 01-03-2021, 10:32 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة


الكتاب : أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة
المؤلف : محمد بن عبد الرحمن الخميس
الناشر : دار الصميعي، المملكة العربية السعودية
عدد الأجزاء : 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
ـ[أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة]ـ
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن الخميس
الناشر: دار الصميعي، المملكة العربية السعودية
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
__________
(تنبيه) : كأن بالكتاب نقصا بعد ص 11
(/)
________________________________________
أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة
تأليف: محمد بن عبد الرحمن الخميس
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} "سورة آل عمران: الآية102".
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} "سورة النساء: الآية1".
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} "سورة الأحزاب: الآيتان70-71".
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وبعد:
فإن أعظم نعم الله عزَّ وجلَّ على هذه الأمة أن أنزل إليها خير كتبه،
(1/5)
________________________________________
وأرسل إليها أفضل خلقه وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وحفظ لها كتابها الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما أصل هذا الدين ومنبعه الصافي فلا تنال منهما أبدا أيدي العابثين.
ثم جعل الصحابة والتابعين وأتباعهم بالحق على بصيرة، قائمين بالحق والهدى، مبتعدين عن الهوى والردى، همهم الأول فهم نصوص الكتاب والسنة والتمسك بهما، والاعتصام بهديهما.
ثم جعل من العلماء في كل عصر من دعا إلى الكتاب والسنة، ليبددوا بهما أرجاس الشركيات والوثنيات، ويبددوا بهما ظلمات البدع والخرافات ومنهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فكلهم متفقون على وجوب التمسك بالكتاب والسنة والرجوع إليهما وترك كل قول يخالفهما؛ فهذا الإمام أبو حنيفة يقول:
"إذا صح الحديث فهو مذهبي" 1.
ويقول: "لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت" 2.
وهذا قول الإمام مالك: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ... " 3.
__________
1 حاشية ابن عابدين 1/67؛ ورسم المفتي من مجموعة رسائل ابن عابدين 1/4؛ وإيقاظ الهمم ص62.
2 الانتقاء لابن عبد البر ص145؛ وانظر رسم المفتي ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 32،29؛ والميزان الكبرى للشعراني 1/58.
3 إيقاظ الهمم ص 72.
(1/6)
________________________________________
وهذا الشافعي يقول: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت"، وفي رواية: "فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد ... "1.
وهذا الإمام أحمد يقول: "من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ... " 2. ويقول: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا ... "3.
تلك أقوال الأئمة رضي الله عنهم في الأمر بالتمسك بالسنة والنهي عن مخالفتها، ومع ذلك فقد تعصب بعض الناس للأئمة وخاصة للإمام أبي حنيفة حتى قاربوا به منازل النبيين والمرسلين، فزعموا أن التوراة بشَّرت 4 به وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ذكره باسمه وبيّن أنه سراج أمته 5، ونعتوه
__________
1 كتاب مسألة الاحتجاج بالشافعي ص72؛ ومناقب الشافعي 1/472، والرواية الأخرى لأبي نعيم في الحلية "9/107".
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/430.
3 إعلام الموقعين 2/201؛ وانظر مسائل أبي داود ص277؛ وإيقاظ الهمم ص113.
4 روى المكي في مناقب أبي حنيفة ص 20 عن عبد الكريم بن مسفر أنه قال: "سمعت جماعة من أهل العلم يقولون: مكتوب في التوراة صفة كعب الأحبار والنعمان بن ثابت ومقاتل بن سليمان"، وأورده الكَرْدي ص 41.
5 من ذلك زعم بعضم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي رجل اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي هو سراج أمتي هو سراج أمتي ". أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 13/355،336؛ وأورده ابن حجر في اللسان 5/179، والسيوطي في اللآلئ 1/457، واستدل بعض الحنفية به على فضل أبي حنيفة، انظر مناقب المكي ص 15، والدر المختار على الرد المحتار 1/52.
قال الخطيب: "هو حديث موضوع تفرد بروايته البورقي وقد شرحنا فيما تقدم ـ قلت: يشير إلى ما ذكره في ترجمة محمد بن سعيد البورقي 5/309، 310 ـ ثم قال: حدثت عن الحاكم أنه قال: هذا البورقي قد وضع المناكير على الثقات =
(1/7)
________________________________________
بالصفات والمناقب ما عدوا به رتبته وتجاوزا معه درجته 1، وتعصب
__________
= ما لا يحصى وأفحشها روايته عن بعض مشايخه، عن الفضل بن موسى السناني، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة ثم ذكر الحديث وقال على أثره هكذا حدث به في بلاد خراسان، ثم حدث به بالعراق وزاد فيه أنه قال: "سيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من فتنة إبليس"، قال الخطيب بعده: "ما كان أجرأ هذا الرجل على الكذب كأنه لم يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كذب عليَّ متعمِّدا فليتبوّأ مقعده من النار" نعوذ بالله من غلبة الهوى ونسأله التوفيق لما يحبه ويرضى".
1 من ذلك قول الحصكفي: "إن أبا حنيفة النعمان من أعظم معجزات المصطفى بعد القرآن وحسبك من مناقبه اشتهار مذهبه، ما قال قولا إلا أخذ به إمام من الأئمة الأعلام، قد جعل الله الحكم لأصحابه وأتباعه من زمنه إلى هذه الأيام إلى أن يحكم بمذهبه عيسى بن مريم عليه السلام" الدر المختار 1/56،55.
وهذا القول في نظري تَقَوُّلٌ وغلو ظاهر وتنقص لنبي الله عيسى عليه السلام إذ كيف يظن بنبي أن يتبع عالما مجتهدا؟! وقد رد ذلك القول ابن عابدين في حاشيته ونقل قول السيوطي في رد ذلك وفيه: " ... ما يقال إنه يحكم ـ أي عيسى عليه السلام بمذهب من المذاهب الأربعة باطل لا أصل له. وكيف يظن بنبي أنه يقلد مجتهدا مع أن المجتهد من آحاد هذه الأمة لا يجوز له التقليد، إنما يحكم بالاجتهاد ... " رد المحتار 1/57.
كما زعم الحصكفي أن سهل بن عبد الله التستري قال: "لو كان في أمتي موسى وعيسى مثل أبي حنيفة لما تهودوا ولما تنصروا" الدر المختار 1/53، والأحرى أن هذا كذب على سهل، وهو قول باطل في نفسه فقد عبد بنوا إسرائيل عجلا وهارون نبي الله بينهم، وكذلك كفر من كفر منهم وعيسى عليه السلام بين أظهرهم كما قال تعالى: {أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} "سورة آل عمران: الآية52".
ومن ذلك قول الحصكفي: "وعنه عليه السلام: إن سائر الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني" الدر المختار 1/52.
وهذا لا شك كذب محض لا يجوز ذكره فضلا عن اعتقاده.
(1/11)
________________________________________
تمهيد
في بيان أن اعتقاد الأئمة الأربعة واحد في مسائل أصول الدين ما عدا مسألة الإيمان
اعتقاد الأئمة الأربعة ـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ هو ما نطق به الكتاب والسنَّة، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وليس بين هؤلاء الأئمة ولله الحمد نزاع في أصول الدين، بل هم متفقون على الإيمان بصفات الرب، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لا بدّ فيه من تصديق القلب واللسان. بل كانوا ينكرون على أهل الكلام، من جهمية وغيرهم وممن تأثروا بالفلسفة اليونانية والمذاهب الكلامية ...
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
" ... ولكن من رحمة الله بعباده، أن الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق كالأئمة الأربعة وغيرهم ... كانوا ينكرون على أهل الكلام من الجهمية قولهم في القرآن والإيمان وصفات الرب، وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يرى في الآخرة وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لا بد فيه من تصديق القلب واللسان ... " 1.
وقال: "إن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى
__________
1 كتاب الإيمان 350، 351، دار الطباعة المحمدية تعليق محمد الهراس.
(1/21)
________________________________________
ويقولون: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ويقولون: إن الله يرى في الآخرة، هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم، وهذا مذهب الأئمة المتبوعين، مثل مالك بن أنس، والثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي وأحمد.." 1.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن اعتقاد الشافعي فأجاب بقوله:
"اعتقاد الشافعي رضي الله عنه، واعتقاد سلف الإسلام، كمالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، هو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الدارمي، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين وكذلك أبو حنيفة رحمه الله فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك، موافق لاعتقاد هؤلاء واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة" 2.
وهذا ما اختاره العلامة صديق حسن خان حيث يقول:
"فمذهبنا مذهب السلف إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك، والشافعي، والثوري، وابن المبارك، والإمام أحمد ... وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة ... " 3.
__________
1 منهاج السنة 2/106.
2 مجموع الفتاوى 5/256.
3 قطف الثمر ص 47،48.
(1/22)
________________________________________
وهاك طائفة من أقوال الأئمة الثلاثة ـ مالك، والشافعي، وأحمد ـ "أما أبو حنيفة فستأتي أقواله مفصلة في موضعها" ـ فيما يعتقدونه في مسائل أصول الدين، مع بيان موقفهم من علم الكلام.
أولا ـ الإمام مالك بن أنس.
"أ" قوله في التوحيد:
1- أخرج الهروي عن الشافعي قال: سئل الإمام مالك عن الكلام والتوحيد؛ فقال مالك: "محال أن يُظنَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم أمَّته الاستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" 1، فما عصم به المال والدم حقيقة التوحيد" 2.
2- وأخرج الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: "سألت مالكا، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات؛ فقالوا: أمرّوها كما جاءت" 3.
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة 3/262 ح1399، ومسلم: كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1/51 ح324، والنسائي: كتاب الزكاة باب مانع الزكاة 5/14 ح2443؛ جميعهم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة. وأخرجه أبو داود: كتاب الجهاد باب على ما يقاتل المشركون 3/101 ح2640 من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
2 ذم الكلام "ق-210".
3 أخرج هذا الأثر الدارقطني في الصفات ص 75؛ والآجري في الشريعة ص 314، والبيهقي في الاعتقاد ص 118؛ وابن عبد البر في التمهيد 7/149.
(1/23)
________________________________________
3- وقال ابن عبد البر: "سئل مالك أيرى الله يوم القيامة؟ فقال: نعم يقول الله عزَّ وجلَّ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} "سورة القيامة: الآيتان 22-23".
وقال لقوم آخرين: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} " سورة المطففين: الآية15"1 ".
أورد القاضي عياض في ترتيب المدارك 2، عن ابن نافع3، وأشهب 4، وأحدهما قال: يزيد على الآخر: يا أبا عبد الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ينظرون إلى الله؟ قال: نعم بأعينهم هاتين، فقلت له: فإن قوما يقولون: لا ينظر إلى الله، إن "ناظرة" بمعنى منتظرة قال: كذبوا بل ينظر إلى الله أما سمعت قول موسى عليه السلام {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} "سورة الأعراف: الآية143".
أترى موسى سأل ربه محالا؟ فقال الله: {لَنْ تَرَانِي} "سورة الأعراف: الآية143".
__________
1 الانتقاء ص 36.
2 2/42.
3 الذي يروي عن الإمام مالك باسم ابن نافع رجلان. أما الأول فهو عبد الله بن نافع بن ثابت الزبيري أبو بكر المدني قال عنه ابن حجر: "صدوق مات سنة 216 هـ". وأما الثاني فهو عبد الله بن نافع بن أبي نافع المخزومي مولاهم أبو محمد المدني قال عنه ابن حجر: "ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين مات سنة 206 هـ وقيل بعدها". تقريب التهذيب 1/455-456؛ وتهذيب التهذيب 6/50-551.
4 هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي أبو عمر المصري قال عنه ابن حجر: "ثقة فقيه مات سنة 204 هـ"، تقريب التهذيب 1/80. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/359.
(1/24)
________________________________________
أي في الدنيا لأنها دار فناء ولا ينظر ما يبقى بما يفنى فإذا صاروا إلى دار البقاء نظروا بما يبقى إلى ما يبقى وقال الله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} "سورة المطففين: الآية15".
4- وأخرج أبو نعيم عن جعفر بن عبد الله قال: "كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟
فما وجد 1 مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده علاه الرحضاء ـ يعني العرق ـ ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج" 2.
5- وأخرج أبو نعيم عن يحيى بن الربيع قال: "كنت عند مالك بن أنس، ودخل عليه رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ "
__________
1 جاء في لسان العرب 3/446؛ "وجد عليه في الغضب يُجِدُ ويَجِدُ وجدا ومَوْجِدَة ووجدانا غضب، وفي حديث الإيمان، إني سائلك فلا تجد عليّ أي لا تغضب من سؤالي".
2 الحلية 6/325،326. وأخرجه أيضا الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 17-18 من طريق جعفر بن عبد الله عن مالك وابن عبد البر في التمهيد 7/151؛ من طريق عبد الله بن نافع عن مالك والبيهقي في الأسماء والصفات ص 408 من طريق عبد الله بن وهب عن مالك قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/406، 407: إسناده جيد وصححه الذهبي في العلو ص 103.
(1/25)
________________________________________
فقال مالك: زنديق 1 فاقتلوه فقال: يا أبا عبد الله، إنما أحكي كلاما سمعته فقال: لم أسمعه من أحد، إنما سمعته منك، وعظَّم هذا القول" 2.
6- وأخرج ابن عبد البر عن عبد الله بن نافع قال: "كان مالك بن أنس يقول: من قال القرآن مخلوق يوجع ضربا ويحبس حتى يتوب" 3.
7- وأخرج أبو داود عن عبد الله بن نافع قال: "قال مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان"4.
"ب" قوله في القدر:
1- أخرج أبو نعيم عن ابن وهب 5 قال: "سمعت مالكا يقول لرجل: سألتني أمس عن القدر؟ قال: نعم. قال: إن الله تعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} "سورة السجدة:13".
__________
1 الزنديق: كلمة معربة عن الفارسية استعملها المسلمون أولا في الدلالة على القائلين بالأصلين النور والظلمة على مذهب المانوية وغيرهم، ثم اتسع معناها عندهم، فشمل الدهريين والملحدين وسائر أصحاب المعتقدات الضالة، بل أطلق على المتشككين وكل متحرر عن أحكام الدين فكرا وعملا.
انظر الموسوعة الميسرة 1/929، وتاريخ الإلحاد لعبد الرحمن بدوي ص 24-32.
2 الحلية 6/325، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/249، من طريق أبي محمد يحيى بن خلف عن مالك، وأورده القاضي عياض في ترتيب المدارك 2/44.
3 الانتقاء ص35.
4 رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 263، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة ص11 الطبعة القديمة وابن عبد البر في التمهيد 7/138.
5 هو عبد الله بن وهب القرشي مولاهم المصري قال عنه ابن حجر: "الفقيه ثقة حافظ عابد مات سنة 197هـ، تقريب التهذيب 1/460.
(1/26)
________________________________________
فلا بد أن يكون ما قال الله تعالى" 1.
2- وقال القاضي عياض: "سئل الإمام مالك عن القدرية من هم؟ قال: من قال: ما خلق المعاصي، وسئل كذلك عن القدرية؟ قال: هم الذين يقولون إن الاستطاعة إليهم، إن شاؤوا أطاعوا، وإن شاؤوا عصوا" 2.
3- وأخرج ابن أبي عاصم عن سعيد بن عبد الجبار قال: "سمعت مالك بن أنس يقول: رأيي فيهم أن يستتابوا؛ فإن تابوا، وإلا قتلوا ـ يعني القدرية ـ" 3.
4- وقال ابن عبد البر: "قال مالك: ما رأيت أحدا من أهل القدر، إلا أهل سخافة وطيش وخفة" 4.
5- وأخرج ابن أبي عاصم عن مروان بن محمد الطاطري قال: "سمعت مالك بن أنس يسأل عن تزويج القدري؟ فقرأ {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} "سورة البقرة: الآية221" 5.
6- وقال القاضي عياض: "قال مالك: لا تجوز شهادة القدري الذي يدعو 6 ولا الخارجي، والرافضي" 7.
__________
1 الحلية 6/326.
2 ترتيب المدارك 2/48. وانظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/701؛ والمقصود نفي أن يكون الله تعالى خلق المعاصي.
3 السنة لابن أبي عاصم 1/87، 88؛ وأخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية 6/326.
4 الانتقاء ص34.
5 السنة لابن أبي عاصم 1/88؛ الحلية 6/326.
6 يدعو إلى بدعته.
7 ترتيب المدارك 2/47.
(1/27)
________________________________________
7 - وقال القاضي عياض: "سئل مالك عن أهل القدر؟ أنكف عن كلامهم؟ قال: نعم إذا كان عارفا بما هو عليه، وفي رواية أخرى قال: لا يصلى خلفهم، ولا يقبل عنهم الحديث، وإن وافيتموهم في ثغر؛ فأخرجوهم منه" 1.
"ج" قوله في الإيمان:
1- أخرج ابن عبد البر، عن عبد الرزاق بن همام، قال: "سمعت ابن جريج 2، وسفيان الثوري، ومعمر بن راشد، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" 3.
2- وأخرج أبونعيم، عن عبد الله بن نافع قال: "كان مالك بن أنس يقول: الإيمان قول وعمل" 4.
وأخرج ابن عبد البر، عن أشهب بن عبد العزيز، قال: "قال مالك: فقام الناس يصلون نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم أمروا بالبيت الحرام، فقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "سورة البقرة: الآية143".
أي صلاتكم إلى بيت المقدس. قال مالك: وإني لأذكر بهذه قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان"5.
__________
1 ترتيب المدارك 2/47.
2 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي الأموي مولاهم المكي، قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ فقيه الحرم أبو الوليد". مات سنة 150هـ، تذكرة الحفاظ 1/169. وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 10/400.
3 الانتقاء ص34.
4 الحلية 6/327.
5 الانتقاء ص34.
(1/28)
________________________________________
"د" قوله في الصحابة:
أخرج أبو نعيم، عن عبد الله العنبري 1 قال: "قال مالك بن أنس: من تنقَّص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين. ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} "سورة الحشر:10".
فمن تنقصهم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له في الفيء حق" 2.
2- وأخرج أبو نعيم، عن رجل من ولد الزبير 3 قال: "كنا عند مالك، فذكروا رجلا يتنقَّص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ} ـ جتى بلغ ـ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} "سورة الفتح: الآية29".
فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية" 4.
3- وأورد القاضي عياض، عن أشهب بن عبد العزيز قال: "كنا
__________
1 هو عبد الله بن سُوار بن عبد الله العنبري البصري القاضي، قال عنه ابن حجر: "ثقة مات سنة 228هـ"، وقيل غير ذلك. تقريب التهذيب 1/421؛ وتهذيب التهذيب 5/248.
2 الحلية 6/327.
3 الذي تتلمذ على مالك وسمع منه من ولد الزبير بن العوام هو عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام. وقد تقدم التعريف به ومصعب بن عبد الله بن مصعب وسيأتي التعريف به.
4 الحلية 6/327.
(1/29)
________________________________________
عند مالك إذ وقف عليه رجل من العلَويين، وكانوا يقبلون على مجلسه فناداه: يا أبا عبد الله، فأشرف له مالك، ولم يكن إذا ناداه أحد يجيبه أكثر من أن يشرف برأسه فقال له الطالبي: إني أريد أن أجعلك حجة فيما بيني وبين الله، إذا قدمت عليه فسألني، قلت له: مالك قال لي.
فقال له: قل.
فقال: من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: أبو بكر، قال العلوي: ثم من؟ قال مالك: ثم عمر. قال العلوي: ثم من؟ قال: الخليفة المقتول ظلما، عثمان، قال العلوي: والله لا أجالسك أبدا. قال له مالك: فالخيار إليك" 1.
"هـ" نهيه عن الكلام والخصومات في الدين.
أخرج ابن عبد البر، عن مصعب بن عبد الله الزبيري 2 قال: "كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك، ولا يحب الكلام إلا فيما تحته عمل. فأما الكلام في دين الله، وفي الله عزَّ وجلَّ، فالسكوت أحب إليّ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين، إلا فيما تحته عمل" 3.
__________
1 ترتيب المدارك.2/44-45
2 هو مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي المدني نزيل بغداد، قال عنه ابن حجر: "صدوق عالم بالنسب مات سنة 236هـ". تقريب التهذيب 2/252. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 10/162.
3 جامع بيان العلم وفضله ص415. ط دار الكتب الإسلامية.
(1/30)
________________________________________
2- وأخرج أبو نعيم، عن عبد الله بن نافع قال: "سمعت مالكا يقول: لو أن رجلا ارتكب الكبائر كلها بعد ألاَّ يشرك بالله، ثم تخلى من هذه الأهواء والبدع ـ وذكر كلاما ـ دخل الجنة" 1.
3- وأخرج الهروي، عن إسحاق بن عيسى 2 قال: "قال مالك: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كُذِّب" 3.
4- وأخرج الخطيب، عن إسحاق بن عيسى قال: "سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل؛ أرادنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم " 4.
5- وأخرج الهروي، عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "دخلت على مالك وعنده رجل يسأله، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام، ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع" 5.
6- وأخرج الهروي، عن أشهب بن عبد العزيز قال: "سمعت مالكا يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله، وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولايسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان" 6.
__________
1 الحلية 6/325.
2 هو إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي، قال عنه ابن حجر: "صدوق مات 214هـ". تقريب التهذيب 1/60. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/245.
3 ذم الكلام "ق173-أ".
4 شرف أصحاب الحديث ص5.
5 ذم الكلام "ق173-ب".
6 ذم الكلام "ق173-أ".
(1/31)
________________________________________
7- وأخرج أبونعيم، عن الشافعي قال: "كان مالك بن أنس إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاكٌّ، فاذهب إلى شاكٍّ فخاصمه" 1.
8- روى ابن عبد البر، عن محمد بن أحمد بن خويزِ منداد المصري المالكي، قال في كتاب الإجارات من كتابه الخلاف: قال مالك: لا تجوز الإجارات في شيء من كتب الأهواء والبدع والتنجيم وذكر كتبا، ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك" 2.
ثانيا ـ الإمام الشافعي
"أ" قوله في التوحيد:
1- أخرج البيهقي، عن الربيع بن سليمان قال: "قال الشافعي: من حلف بالله، أو باسم من أسمائه، فحنث؛ فعليه الكفارة. ومن حلف بشيء غير الله، مثل أن يقول الرجل: والكعبة، وأبي، وكذا وكذا ما كان، فحنث؛ فلا كفارة عليه. ومثل ذلك قوله: لعمري.. لا كفارة عليه. ويمين بغير الله فهي مكروهة، منهي عنها من قبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله عزَّ وجلَّ نهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت" 3 ... " 4.
__________
1 الحلية 6/324.
2 جامع بيان العلم وفضله ص416 417، دار الكتب الإسلامية.
3 أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم 11/530، ومسلم: كتاب الإيمان باب النهي عن الحلف بغير الله 3/1266 ح1646.
4 مناقب الشافعي 1/405.
(1/32)
________________________________________
وعلَّل الشافعي ذلك بأن أسماء الله غير مخلوقة؛ فمن حلف باسم الله، فحنث؛ فعليه الكفارة 1.
2- وأورد ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية، عن الشافعي أنه قال: "القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها، أهل الحديث الذين رأيتهم، وأخذت عنهم مثل سفيان، ومالك، وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء" 2.
3- وأورد الذهبي عن المزني قال: "قلت إن كان أحد يخرج ما في ضميري، وما تعلَّق بخاطري من أمر التوحيد؛ فالشافعي، فصرت إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه، قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فعلمت أن أحدا لا يعلم علمك، فما الذي عندك؟ فغضب ثم قال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا، قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ قلت: لا، قال: أتدري كم نجما في السماء؟ قلت: لا، قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه، أفوله،
__________
1 رواه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ص193، وأبو نعيم في الحلية 9/112، 113، والبيهقي في السنن الكبرى 10/28، وفي الأسماء والصفات ص255، 256، وذكره البغوي في شرح السنة 1/188، وانظر العلو ص121، ومختصره ص77.
2 اجتماع الجيوش الإسلامية ص165، إثبات صفة العلو ص124، وانظر مجموع الفتاوى 4/181-183؛ والعلو للذهبي ص120، ومختصره للألباني ص176.
(1/33)
________________________________________
ممَّ خلق؟ قلت: لاَ، قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه؟ ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرَّعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منه، فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات؛ تدع علمه وتتكلف علم الخالق إذا هجس في ضميرك ذلك. فارجع إلى قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} "سورة البقرة: الآيتان 163-164".
فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف على ما لم يبلغه عقلك" 1.
4- وأخرج ابن عبد البر، عن يونس بن عبد الأعلى 2، قال: "سمعت الشافعي يقول: إذا سمعت الرجل يقول الاسم غير المسمى، أو الشيء غير الشيء، فاشهد عليه بالزندقة" 3.
5- وقال الشافعي في كتابه الرسالة: "والحمد لله ... الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه" 4.
6- وأورد الذهبي في السير عن الشافعي أنه قال: "نثبت هذه الصفات التي جاء بها القرآن، ووردت بها السنة، وننفي التشبيه عنه، كما نفى عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} "سورة الشورى: الآية11" 5.
__________
1 سير أعلام النبلاء 10/31.
2 هو يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة الصدفي المصري قال عنه ابن حجر: "ثقة من صغار العاشرة مات سنة 264هـ"؛ تقريب التهذيب 2/385، وانظر ترجمته في شذرات الذهب 2/149؛ وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص28.
3 الانتقاء ص79؛ ومجموع الفتاوى 6/187.
4 الرسالة ص7، 8..
5 السير 20/341.
(1/34)
________________________________________
7- وأخرج ابن عبد البر عن الربيع بن سليمان قال: "سمعت الشافعي يقول في قول الله عزَّ وجلَّ {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} "سورة المطففين: الآية15".
أعلمنا الله أن ثم قوما غير محجوبين، ينظرون إليه، لا يضامون في رؤيته" 1.
8- وأخرج اللالكائي، عن الربيع بن سليمان قال: "حضرت محمد بن إدريس الشافعي، جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، قال الشافعي: "فلما حجبوا هؤلاء في السخط، كان هذا دليلا على أنه يرونه في الرضا. قال الربيع: قلت يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال: نعم به أدين الله" 2.
9- وأخرج ابن عبد البر، عن الجارودي 3 قال: "ذُكر عند الشافعي، إبراهيم بن إسماعيل بن عليَّة 4 فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قول لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول. أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى عليه السلام تكليما من وراء حجاب، وذاك يقول
__________
1 الانتقاء ص79.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/506.
3 لعله موسى بن أبي الجارود قال عنه النووي: "أحد أصحاب الشافعي والآخذين عنه والرواة عنه"، وقال ابن هبة الله: "كان يفتي بمكة على مذهب الشافعي ولا يعلم تاريخ وفاته". تهذيب الأسماء واللغات 2/120؛ وطبقات الشافعي لابن هداية الله ص129.
4 هو إبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة قال عنه الذهبي: "جهمي هالك كان يناظر ويقول بخلق القرآن مات سنة 218هـ"؛ ميزان الاعتدال 1/20، وانظر ترجمته في لسان الميزان 1/34، 35.
(1/35)
________________________________________
لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب" 1.
10- وأخرج اللالكائي عن الربيع بن سليمان، قال الشافعي: "من قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر"2.
11- وأخرج البيهقي عن أبي محمد الزبيري قال: "قال رجل للشافعي، أخبرني عن القرآن خالق هو؟ قال الشافعي: اللهم لا، قال: فمخلوق؟ قال الشافعي: اللهم لا، قال: فغير مخلوق: قال الشافعي: اللهم نعم، قال: فما الدليل على أنه غير مخلوق؟ فرفع الشافعي رأسه وقال: تقر بأن القرآن كلام الله؟ قال: نعم. قال الشافعي: سبقت في هذه الكلمة، قال الله تعالى ذكره: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} "سورة التوبة: الآية6".
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} .
قال الشافعي: فتقر بأن الله كان، وكان كلامه؟ أو كان الله، ولم يكن كلامه؟ فقال الرجل: بل كان الله، وكان كلامه قال: فتبسم الشافعي وقال: يا كوفيون إنكم لتأتوني بعظيم من القول إذا كنتم تقرّون بأن الله كان قبل القبل، وكان كلامه. فمن أين لكم الكلام: إن الكلام اللهُ، أو سوى اللهِ، أو غير اللهِ، أو دون الله؟ قال: فسكت الرجل وخرج" 3.
12- وفي جزء الاعتقاد المنسوب للشافعي ـ من رواية أبي طالب العشاري 4 ـ ما نصه قال: وقد سئل عن صفات الله عزَّ وجلَّ، وما ينبغي
__________
1 الانتقاء ص79، والقصة ذكرها الحافظ عن مناقب الشافعي للبيهقي، اللسان 1/35.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/252.
3 مناقب الشافعي 1/407، 408.
4 هو محمد بن علي العشاري شيخ صدوق معروف وقد تفرد برواية هذا الجزء =
(1/36)
________________________________________
أن يؤمن به؛ فقال: "لله تبارك وتعالى أسماء وصفات، جاء بها كتابه وخبَّر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع 1 أحدا من خلق الله عزَّ وجلَّ قامت لديه 1 الحجة أن القرآن نزل به، وصحَّ عنده 2 قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه، العدلَ خلافه 3، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجّة عليه؛ فهو كافر بالله 4 عزَّ وجلَّ. فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر؛ فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالدراية 5 والفكر. ونحو ذلك إخبار الله عزَّ وجلَّ أنه سميع وأن له يدين بقوله عزَّ وجلَّ:
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} "سورة المائدة: الآية64".
وأن له يمينا بقوله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} "سورة الزمر: الآية67".
وأن له وجها بقوله عزَّ وجلَّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} "سورة القصص: الآية88".
__________
1 في الطبقات: "لا يسمع".
1 في الطبقات: "عليه".
2 في الطبقات: "عنه بقوله".
3 في الطبقات: سقطت كلمة "خلافه".
4 في الطبقات: "فهو بالله كافر".
5 في الطبقات: "ولا بالرواية".
(1/37)
________________________________________
وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} "سورة الرحمن: الآية27"..
وأن له قدما بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يضع الرب عزَّ وجلَّ فيها قدمه" 1.
يعني جهنم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ أنه: "لقي الله عزَّ وجلَّ وهو يضحك إليه " 2، وأنه يهبط كل ليلة إلى السماء الدنيا، بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأنه ليس بأعور لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الدجال فقال: "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور " 3، وأن المؤمنين يرون ربهم عزَّ وجلَّ يوم القيامة بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وأن له أصبعا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من قلب إلا هو بين أصبعين من أصابع الرحمن عزَّ وجلَّ " 4.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب التفسير باب: "وتقول هل من مزيد" 8/594 ح4848، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء 4/2187 ح2848 كلاهما من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
2 أخرجه البخاري: كتاب الجهاد باب الكافر يقتل المسلم 6/39 ح2826 ومسلم كتاب الإمارة باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة 3/1504 ح1890 كلاهما من طريق الأعرج عن أبي هريرة.
3 أخرجه البخاري: كتاب الفتن باب ذكر الدجال 13/91 ح7131، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة باب ذكر الدجال وصفته 4/2248 ح2933 كلاهما من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
4 أخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد في المسند 4/182 وابن ماجه في المقدمة باب: فيما أنكرت الجهمية 1/72 ح199 والحاكم في المستدرك 1/525، والآجري في الشريعة ص317، وابن مندة في الرد على الجهمية ص87 جميعهم من حديث النواس بن سمعان، قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في التلخيص، وقال عنه ابن مندة: "حديث النواس بن سمعان حديث ثابت رواه الأئمة المشاهير ممن لا يمكن الطعن على واحد منهم".
(1/38)
________________________________________
وإن 1 هذه المعاني التي وصف الله عزَّ وجلَّ بها نفسه، ووصفه بها رسول صلى الله عليه وسلم لا تُدرَك 2 حقيقتها 3 تلك بالفكر والدراية 4، ولا يكفر بجهلها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه به، وإن 5 كان الوارد بذلك خبرا يقوم في الفهم مقام المشهادة في السَّماع؛ "وجبت الدينونة" 6 على سامعه بحقيقته والشهادة عليه، كما عاين وسمع وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن نثبت 7 هذه الصفات، وننفي 8 التشبيه كما نفى ذلك عن نفسه تعالى ذكره فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11" ... " 9 آخر الاعتقاد.
"ب" قوله في القدر:
1- أخرج البيهقي عن الربيع بن سليمان، قال: سئل الشافعي عن القدر، فقال:
ما شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسنُ
__________
1 في الطبقات: "فإن".
2 في الطبقات: "مما لا يدرك".
3 في الطبقات: "حقيقته".
4 في الطبقات: "والروية".
5 في الطبقات: "فإن كان".
6 ما بين القوسين مثبت من الطبقات.
7 في الطبقات: "يثبت".
8 في الطبقات: "وينفى".
9 نقل هذا الاعتقاد من نسخة مصورة من أصل خطي محفوظ في المكتبة المركزية بجامعة ليدن بهولندا.
(1/39)
________________________________________
على ذا مننت وذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقيّ ومنهم سعيد ... ومنهم قبيحٌ ومنهم حسن 1
2- أورد البيهقي في مناقب الشافعي أن الشافعي، قال: "إن مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين، فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خلق من خلق الله تعالى، أفعال العباد وإن القدر خيره وشرَّه من الله عزَّ وجلَّ، وإن عذاب القبر حقٌّ، ومساءلة أهل القبور حقٌّ، والبعث حقٌّ، والحساب حق والجنَّة والنار حق، وغير ذلك مما جاءت به السنن" 2.
3- وأخرج اللالكائي، عن المزني، قال: "قال الشافعي: تدري ما القدري؟ الذي يقول: إن الله لم يخلق الشيء حتى عمل به" 3.
4- وأورد البيهقي، عن الشافعي حيث قال: "القدرية الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم مجوس هذه الأمة" 4، الذين يقولون إن الله لا يعلم المعاصي حتى تكون" 5.
5- وأخرج البيهقي، عن الربيع بن سليمان عن الشافعي أنه كان يكره الصلاة خلف القدري 6.
__________
1 مناقب الشافعي 1/412، 413؛ شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/702.
2 مناقب الشافعي 1/415.
3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/701.
4 أخرجه أبو داود: كتاب السنة باب في القدر 5/66 ح4691، والحاكم في المستدرك 1/85 كلاهما من طريق أبي حازم عن ابن عمر، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.
5 مناقب الشافعي1/413.
6 مناقب الشافعي 1/413.
(1/40)
________________________________________
"ج" قوله في الإيمان:
1- أخرج ابن عبد البر، عن الربيع، قال: "سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد بالقلب، ألا ترى قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "سورة البقرة: الآية143".
يعني صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فسمى الصلاة إيمانا وهي قول وعمل وعقد" 1.
2- وأخرج البيهقي، عن الربيع بن سليمان، قال: "سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" 2.
3- وأخرج البيهقي، عن أبي محمد الزبيري قال: "قال رجل للشافعي: أي ُّ الأعمال عند الله أفضل؟ قال الشافعي: ما لا يقبل عملا إلا به قال: وما ذاك؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظا، قال الرجل: ألا تخبرني عن الإيمان: قول وعمل، أو قول بلا عمل؟ قال الشافعي: الإيمان عمل لله، والقول بعض ذلك العمل، قال الرجل: صف لي ذلك حتى أفهمه. قال: الشافعي: إن للإيمان حالات ودرجات وطبقات، فمنها التام، المنتهي تمامه، والناقص البين نقصانه، والراجح الزائدة رجحانه؛ قال الرجل: وإن الإيمان لا يتم وينقص ويزيد؟ قال الشافعي: نعم، قال: وما الدليل على ذلك؟ قال الشافعي: إن الله جل ذكره فرض الإيمان على جوارح بني آدم، فقسَّمه فيها، وفرَّقه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وُكِّلت به أختها لفرض من الله تعالى:
__________
1 الانتقاء ص81.
2 مناقب الشافعي 1/387-393.
(1/41)
________________________________________
فمنها: قلبه الذي يعقل به، ويفقه ويعلم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره.
ومنها: عيناه اللتان ينظر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قِبَله، ولسانه الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه.
فرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه.
فأما فرض الله على القلب من الإيمان: فالإقرار، والمعرفة، والعقد، والرضا، والتسليم بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله من نبيٍّ أو كتاب فذلك ما فرض الله جل ثناؤه على الخلق وهو عمله:
{إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} "سورة النحل: الآية106".
وقال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} "سورة الرعد: الآية28".
وقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} "سورة المائدة: الآية41.
وقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} "سورة البقرة: الآية284".
فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان، وهو عمله، وهو رأس الإيمان.
(1/42)
________________________________________
"وفرض الله على اللسان": القول والتعبير عن القلب بما عقد وأقر به، فقال في ذلك: {قُولُوا آمَنَّا} .
وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا} "سورة البقرة: الآية83".
فذلك ما فرض الله على اللسان من القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
"وفرض الله على السمع": أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وأن يغض عما نهى الله عنه، فقال في ذلك: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} "سورة النساء: الآية140".
ثم استثتنى موضع النسيان، فقال جل وعز: {إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} "سورة الأنعام: الآية68". أي: فقعدت معهم {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} "سورة الأنعام: الآية68".
وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} "سورة الزمر: الآيتان17-18".
وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} "سورة المؤمنون: الآيتان1، 2"
إلى قوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} "سورة المؤمنون: الآيات من1-4".
وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} "سورة القصص: الآية55".
وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} "سورة الفرقان: الآية72".
(1/43)
________________________________________
فذلك ما فرض الله جل ذكره، على السمع من التنزيه عما لا يحل له، وهو عمله، وهو من الإيمان.
"وفرض على العينين": ألا ينظر بهما إلى ما حرم الله، وأن يغضهما عما نهاه عنه، فقال تبارك وتعالى في ذلك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} "سورة النور: من الآية30".
نهى في الآيتين: أن ينظر أحدهم إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه.
وقال: كل شيء من حفظ الفرج، في كتاب الله، فهو من الزنا إلا هذه الآية، فإنها من النظر.
فذلك ما فرض الله على العينين من غض البصر، وهو عملهما، وهو من الإيمان.
ثم أخبر عما فرض على القلب والسمع والبصر، في آية واحدة، فقال سبحانه وتعالى، في ذلك: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} "سورة الإسراء:36".
قال: يعني وفرض على الفرج: أن لا يهتكه بما حرم الله عليه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} "سورة المؤمنون: الآبة5".
وقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} "سورة فصلت: الآية22".
يعني بالجلود: الفروج والأفخاذ، فذلك ما فرض الله على الفروج من حفظها عما لا يحل له، هو عملها.
"وفرض على اليدين": ألا يبطش بها "إلى ما حرم الله تعالى، وأن
(1/44)
________________________________________
يبطش بهما" إلى ما أمر الله من الصدقة وصلة الرحم، والجهاد في سبيل الله، والطهور للصلوات، فقال في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ... } "سورة المائدة: الآية6" إلى آخر الآية.
وقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} "سورة محمد: الآية4".
لأن الضرب، والحرب، وصلة الرحم، والصدقة من علاجها.
"وفرض على الرجلين": ألا يُمشى بهما إلى ما حرم الله، جلَّ ذكره، فقال في ذلك: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} "سورة لقمان: الآية18".
"وفرض على الوجه": السجود لله بالليل والنهار، ومواقيت الصلاة، فقال في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "سورة الحج: الآية77".
وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} "سورة الجن:18".
يعني بالمساجد: ما يسجد عليه ابن آدم في صلاته، من الجبهة وغيرها.
قال: فذلك ما فرض الله على هذه الجوارح.
وسمَّى الطهور والصلوات إيمانا في كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى، وجه نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة إلى بيت المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة. وكان المسلمون قد صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت صلاتنا كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها وحالنا؟
(1/45)
________________________________________
فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "سورة البقرة: الآية143".
فسمى الصلاة إيمانا، فمن لقي الله حافظا لصلواته، حافظا لجوارحه، مؤديا بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليه ـ لقي الله مستكمل الإيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيء منها تاركا متعمدا مما أمر الله ـ لقي الله ناقص الإيمان. قال: وقد عرفت نقصانه وإتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟
قال الشافعي: قال الله، جل ذكره: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} "سورة التوبة: الآيتان 124-125".
وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} "سورة الكهف: الآية13".
قال الشافعي: "ولو كان هذا الإيمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة ـ لم يكن لأحد فيه فضل، واستوى الناس، وبطل التفضيل ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله "في الجنة"، وبالنقصان من الإيمان دخل المفرطون النار".
قال الشافعي: "إن الله، جلّ وعزّ، سابق بين عباده كما سوبق بين الخيل يوم الرهان، ثم إنهم على درجاتهم من سبق عليه، فجعل كل امرئ على درجة سبقه، لا ينقصه فيها حقه، ولا يقدّم مسبوق على سابق، ولا مفضول على فاضل. وبذلك فُضل أول هذه الأمة على آخرها. ولو
(1/46)
________________________________________
لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه للحق آخر هذه الأمة بأولها" 1.
"د" قوله في الصحابة:
1- أورد البيهقي عن الشافعي أنه قال: "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، والتوراة، والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله، هنّأهم بما أتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصدّيقين، والشهداء والصالحين، فهم أدّوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما وإرشادا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى من آرائنا عندنا لأنفسنا، والله أعلم"
2- وأخرج البيهقي، عن الربيع بن سليمان قال: "سمعت الشافعي يقول في التفضيل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي" 2.
3- وأخرج البيهقي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم3 قال: "سمعت الشافعي يقول: أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم" 4.
__________
1 مناقب الشافعي 1/387-393.
2 مناقب الشافعي 1/442.
3 مناقب الشافعي 1/432.
4 هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري أبو عبد الله قال عنه الشيرازي: صحب الشافعي وتفقه به وحمل في المحنة إلى بغداد إلى ابن أبي دؤاد ولم يجب إلى ما طلب منه ورُدّ إلى مصر..مات في سنة اثنتين وستّين =
(1/47)
________________________________________
4- وأخرج الهروي، عن يوسف بن يحيى البويطي قال: "سألت الشافعي أأصلي خلف الرافضي؟ قال: لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ، قلت: صفهم لنا، قال: من قال: الإيمان قول فهو مرجئ، ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري" 1.
"هـ" نهيه عن الكلام والخصومات في الدين:
1- أخرج الهروي، عن الربيع بن سليمان قال: "سمعت الشافعي يقول: ... لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر، وكان فيها كتب الكلام، لم تدخل في الوصية لأنه ليس من العلم" 2.
2- وأخرج الهروي، عن الحسن الزعفراني قال: "سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحدا في الكلام إلا مرة، وأنا أستغفر الله من ذلك" 3.
3- وأخرج الهروي، عن الربيع بن سليمان قال: "قال الشافعي: لو أردت أن أضع على مخالف كتابا كبيرا لفعلت، ولكن ليس الكلام من شأني، ولا أحب أن ينسب إليّ منه شيء" 4.
وأخرج ابن بطة، عن أبي ثور قال: "قال لي الشافعي: ما رأيت أحدا ارتدى شيئا من الكلام فأفلح"5.
__________
= ومائتين. طبقات الفقهاء ص99، وانظر ترجمته في طبقات الشافعية لابن هداية الله ص30؛ وشذرات الذهب 2/154.
1 مناقب الشافعي 1/433.
2 ذم الكلام "ق-215"، وأورده الذهبي في السير 10/31.
3 ذم الكلام "ق-213"، وأورده الذهبي في السير 10/30.
4 ذم الكلام "ق-213"، وأورده الذهبي في السير 10/30.
5 ذم الكلام "ق-215".
(1/48)
________________________________________
5 - وأخرج الهروي، عن يونس المصري قال: "قال الشافعي: لأن يبتلي الله المرء بما نهى عنه خلا الشرك بالله، خير من أن يبتليه بالكلام" 1.
ثالثا ـ الإمام أحمد بن حنبل
"أ" قوله في التوحيد:
1- جاء في طبقات الحنابلة 1/416: "إن الإمام أحمد سئل عن التوكل، فقال: قطع الاستشراف بالإياس من الخلق".
2- وجاء في كتاب المحنة لحنبل ص68 أن الإمام أحمد قال: "لم يزل الله عزَّ وجلَّ متكلما، والقرآن كلام الله عزَّ وجلَّ، غير مخلوق، وعلى كل جهة، ولا يوصف الله بشيء أكثر مما وصف به نفسه، عزَّ وجلَّ ".
3- وأورد ابن أبي يعلى، عن أبي بكر المروذي قال: "سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي ترددها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش فصححها، وقال: تلقتها الأمة بالقبول وتمر الأخبار كما جاءت" 2.
4- قال عبد الله بن أحمد في كتاب السنة: إن أحمد قال: "من زعم أن الله لا يتكلم فهو كافر، إلا أننا نروي هذه الأحاديث كما جاءت" 3.
__________
1 الإبانة الكبرى ص535، 536.
2 مناقب الشافعي لابن أبي حاتم ص182.
3 طبقات الحنابلة 1/56.
(1/49)
________________________________________
5- وأخرج اللالكائي، عن حنبل 1 أنه سأل الإمام أحمد عن الرؤية فقال: "أحاديث صحاح، نؤمن بها، ونقر، وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جيدة نؤمن به ونقر" 2.
6- وأورد ابن الجوزي في المناقب كتاب أحمد بن حنل لمسدد 3 وفيه: "صِفوا الله بما وصف به نفسه، وانفُوا عن الله ما نفاه عن نفسه ... " 4.
7- جاء في كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد قوله: "وزعم ـ جهم بن صفوان ـ أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه، أو حدّث عنه رسوله كان كافرا وكان من المشبهة"5.
8- وأورد ابن تيمية في الدرء قول الإمام أحمد: "نحن نؤمن بأن الله على العرش، كيف شاء، وكما شاء، بلا حد، ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده أحد؛ فصفات الله منه وله، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار" 6.
__________
1 السنة ص71 "ط/ دار الكتب العلمية".
2 هو حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد أبو علي الشيباني وهو ابن عم أحمد بن حنبل، قال عنه الخطيب: "ثقة ثبت". مات سنة 273هـ، تاريخ بغداد 8/286، 287.
وانظر ترجمته في طبقات الحنابلة 1/143.
3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/507.
4 هو مسدد بن مسرهد بن مسربل الأسدي البصري، قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ الحجة". مات سنة 228هـ، سير أعلام النبلاء 10/591. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 10/107.
5 مناقب الإمام أحمد ص221.
6 درء تعارض العقل والنقل 2/30.
(1/50)
________________________________________
9- وأورد ابن أبي يعلى، عن أحمد، أنه قال: "من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر مكذب بالقرآن" 1.
10- وأورد ابن أبي يعلى، عن عبد الله بن أحمد، قال: "سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى، لم يتكلم بصوت فقال أبي: تكلم الله بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت" 2.
11- وأخرج اللالكائي عن عبدوس بن مالك العطار، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: " ... والقرآن كلام الله، وليس بمخلوق، ولا تضعف أن تقول ليس بمخلوق؛ فإن كلام الله منه، وليس منه شيء مخلوق" 3.
"ب" قوله في القدر:
1- أورد ابن الجوزي في المناقب، كتاب أحمد بن حنبل لمسدد، وفيه: "ويؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومرّه من الله" 4.
2- وأخرج الخلال، عن أبي بكر المروذي، قال: "سئل أبو عبد الله فقال: الخير والشر مقدر على العباد؟ فقيل له: الله خلق الخير والشر، قال: نعم الله قدره" 5.
__________
1 طبقات الحنابلة 1/59، 145.
2 طبقات الحنابلة 1/185.
3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/157.
4 مناقب الإمام أحمد ص169، 172، ط/ دار الآفاق الجديدة.
5 السنة للخلال "ق-85".
(1/51)
________________________________________
3- وجاء في كتاب السنة للإمام أحمد، قوله: "والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره من الله قضاء قضاه على عباده، وقدر قدره، ولا يعدو واحد منهم مشيئة الله عزَّ وجلَّ، ولا يجاوز قضاءه" 1.
4- وأخرج الخلال، عن محمد بن أبي هارون، عن أبي الحارث قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: فالله عزَّ وجلَّ قدر الطاعة والمعاصي، وقدر الخير والشر، ومن كتب سعيدا فهو سعيد، ومن كتب شقيا فهو شقي" 2.
5- قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي، وسأله علي بن جهم عمن قال بالقدر يكون كافرا؟ قال: "إذا جحد العلم، إذا قال: إن الله لم يكن عالما حتى خلق علما، فعلم، فجحد علم الله فهو كافر" 3.
6- قال عبد الله بن أحمد: "سألت أبي مرة أخرى عن الصلاة خلف القدري، فقال: إن كان يخاصم فيه، ويدعو إليه فلا تصل خلفه" 4.
"ج" قوله في الإيمان:
1- أورد ابن أبي يعلى عن أحمد، قال: "من أفضل خصال الإيمان؛ الحب في الله والبغض في الله" 5.
2- وأورده ابن الجوزي، عن أحمد، قال: "الإيمان يزيد وينقص،
__________
1 السنة ص68.
2 السنة للخلال "ق-85".
3 السنة لعبد الله بن أحمد ص119.
4 السنة ص1/384.
5 طبقات الحنابلة 2/275.
(1/52)
________________________________________
كما جاء في الخبر: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" 1 ... " 2.
3- وأخرج الخلال، عن سليمان بن أشعث 3، قال: "إن أبا عبد الله قال: الصلاة والزكاة والحج والبر من الإيمان، والمعاصي تنقص الإيمان" 4.
4- قال عبد الله بن أحمد: "سألت أبي عن رجل يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولكن لا يستثني أمرجئ؟ قال: أرجو ألا يكون مرجئا. سمعت أبي يقول: الحجة على من لا يستنثني؛ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القبور: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون "5 ... " 6.
5- قال عبد الله بن أحمد: "سمعت أبي رحمه الله، سئل عن الإرجاء، فقال: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، إذا زنى، وشرب الخمر، نقص إيمانه"
__________
1 أخرجه أحمد في المسند 2/250 وأبو داود في كتاب السنة باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه 5/60 ح4682، والترمذي في الرضاع باب ما جاء في حق المرأة على زوجها 3/457 ح1162 جميعهم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، وقال عنه الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
2 مناقب الإمام أحمد ص173، وانظر أيضا ص153، 168.
3 هو أبو داود سليمان بن أشعث بن إسحاق السجستاني صاحب السنن قال عنه الذهبي: "الإمام الثبت سيد الحفاظ" مات سنة 275هـ، تذكرة الحفاظ 2/591، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 9/55.
4 السنة للخلال "ق-96".
5 أخرج مسلم: كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها 2/669 ح974 من طريق عطاء عن عائشة رضي الله عنها.
6 السنة لعبد الله 1/307، 308، ط/ المحققة.
(1/53)
________________________________________
"د" قوله في الصحابة:
1- جاء في كتاب السنة للإمام أحمد ما يأتي: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساوئهم والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدا منهم فهو مبتدع، رافضي خبيث، مجاف، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة". ثم قال: "ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأربعة خير الناس، ولا يجوز أن يذكر شيئا من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه" 1.
2- أورد ابن الجوزي رسالة أحمد إلى مسدد وفيها: "وأن تشهد للعشرة أنهم في الجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم شهدنا له بالجنة" 2.
3- قال عبد الله بن أحمد: "سألت أبي عن الأئمة فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي" 3.
4- وقال عبد الله بن أحمد: "سألت أبي عن قوم يقولون: إن عليا ليس بخليفة، قال هذا قول سوء رديء "4.
__________
1 كتاب السنة للإمام أحمد ص77/78.
2 مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص170، ط/ دار الآفاق الجديدة.
3 السنة ص235.
4 السنة ص235.
(1/54)
________________________________________
5- وأورد ابن الجوزي عن أحمد، قال: "من لم يثبت الخلافة لعلي، فهو أضل من حمار أهله" 1.
6- وأورد ابن أبي يعلى عن أحمد، قال: "من لم يربّع علي بن أبي طالب الخلافة؛ فلا تكلموه، ولا تناكحوه" 2.
"هـ" نهيه عن الكلام والخصومات في الدين:
1- أخرج ابن بطة عن أبي بكر المروذي، قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: من تعاطى علم الكلام لم يفلح، ومن تعاطى الكلام لم يخل أن يتجهم" 3.
2- وأورد ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن أحمد، قال: "إنه لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دَغَل" 4.
3- وأخرج الهروي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: "كتب أبي إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان 5: لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث"
__________
1 مناقب الإمام أحمد ص163، ط/ دار الآفاق.
2 طبقات الحنابلة 1/54.
3 الإبانة 2/538.
4 جامع بيان العلم وفضله 2/95، ط/ دار الكتب العلمية.
5 هو أبو الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان التركي ثم البغدادي قال عنه الذهبي: "الوزير الكبير ... وزر للمتوكل والمعتمد..وحظي عند المتوكل وكان سمحا جوادا"، وقال ابن أبي يعلى: "نقل عن إمامنا أشياء منها: سمعت أحمد، يقول: أنزه نفسي عن مال السلطان وليس بحرام" مات سنة 263هـ؛ وسير أعلام النبلاء 13/9؛ وطبقات الحنابلة 1/204.
(1/55)
________________________________________
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود" 1.
4- وأخرج ابن الجوزين عن موسى بن عبد الله الطرسوسي، قال: "سمعت أحمد بن حنبل، يقول: لا تجالسوا أهل الكلام وإن "ذبُّوا" عن السنة" 2.
5- وأخرج ابن بطة، عن أبي الحارث الصَّايغ، قال: "من أحب الكلام لم يخرج من قلبه، ولا ترى صاحب كلام يفلح" 3.
6- وأخرج ابن بطة عن عبيد الله بن حنبل، قال "حدثني أبي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: عليكم بالسنة والحديث، وينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء، فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاما لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة، لأن الكلام لا يدعو إلى خير، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تؤول إلى خير. أعاذنا الله وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة" 4.
7- أورد ابن بطة في الإبانة عن أحمد، قال: "إذا رأيت الرجل يحب الكلام فاحذره" 5.
__________
1 ذم الكلام "ق-216-ب".
2 مناقب الإمام أحمد ص205.
3 الإبانة لابن بطة 2/539.
4 الإبانة لابن بطة 2/539.
5 الإبانة لابن بطة 2/540.
(1/56)
________________________________________
هذا اعتقاد الأئمة الأربعة ـ أبي حنيفة 1 ومالك والشافعي وأحمد ـ وهذا ما يدينون الله به، ما عدا مسألة الإيمان التي وقع فيها النزاع مع أبي حنيفة، وخالف السلف فيما ذهبوا إليه. وسيأتي تفصيله في مبحث الإيمان في الباب الثالث من هذه الرسالة إن شاء الله تعالى.
__________
1 ستأتي أقوال مفصلة في مواضعها إن شاء الله تعالى وقد حرصت على تتبع أقواله في أصول الدين وتصنيفها وترتيبها وإتباعها بمذهب السلف ليتبين لكل مطلع ما قدمناه آنفا أن اعتقاد الأئمة الأربعة واحد في مسائل أصول الدين ما عدا مسألة الإيمان.
(1/57)
________________________________________
الباب الأول: في ترجمة الإمام أبي حنيفة وبيان منهجه في تقرير أصول الدين
وفيه فصلان:
الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة.
الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين.
(1/59)
________________________________________
الفصل الأول: ترجمة الإمام أبي حنيفة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حياته الشخصية.
المبحث الثاني: حياته العلمية.
المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين.
(1/61)
________________________________________
المبحث الأول: حياته الشخصية
1- اسمه ونسبه
"أ" اسمه: هو النعمان بن ثابت بن زوطي بضم الزاي وفتح الطاء الخزَّاز الكوفي 1.
__________
1 انظر ترجمته في المعارف لابن قتيبة ص495؛ والفهرست لابن النديم ص255؛ والتاريخ الكبير للبخاري 8/81؛ والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 8/449؛ طبقات الفقهاء للشيرازي ص86؛ الطبقات االكبرى لابن سعد 6/368، 369؛ وتاريخ بغداد 13/323-454؛ وتذكرة الحفاظ 1/168؛ وسير أعلام النبلاء 6/390؛ والكامل في التاريخ 5/585؛ وفيات الأعيان 5/405-415؛ وميزان الاعتدال 4/265؛ والنجوم الزاهرة 2/12؛ وتهذيب التهذيب 10/449؛ والطبقات لخليفة بن خياط ص167؛ شذرات الذهب 1/277؛ طبقات الحفاظ للسيوطي ص73، وإسنادها صحيح ورجال السند ثقات.
ومن الكتب التي أفردت في ترجمة الإمام أبي حنيفة هي:
فضائل أبي حنيفة لعبد الله محمد السعدي المعروف بابن العوَّام، أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري، وقلائد عقود العقيان في مناقب الإمام أبي حنيفة لأبي القاسم بن عبد العليم الحنفي، مناقب الإمام أبي حنيفة للذهبي، مناقب =
(1/63)
________________________________________
أجمعت مصادر ترجمته على ذلك، ولم تختلف إلا ما رواه الصيمري عن إسماعيل بن حماد؛ حيث قال: "أنا إسماعيل بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان" 1. ونقلها عنه الخطيب في تاريخه2، والغزي في الطبقات السنية3.
"ب" نسبته:
نسبته إلى الخزاز 4 بفتح المعجمتين وتشديد الزاي. وإنما قيل ذلك؛ لأنه كان يبيع الخز، ويأكل منه طلبا للحلال 5. أما نسبته بالكوفي؛ فلأن موطنه الذي ولد وعاش فيه هو الكوفة. أما نسبته بالتيمي؛ فلأن جده زوطي مولى لبني تيم الله بن ثعلبة من بني ربيعة 6.
"ج" كنيته:
أبو حنيفة، أجمعت مصادر ترجمته على ذلك.
__________
= أبي حنيفة للمكي، وعقود الجمان للصالحي والخيرات الحسان للهيتمي.
1 أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص2. وإسنادها موضوع.
2 تاريخ بغداد 13/326.
3 1/74، 75.
4 الخزُّ: هي ثياب منسوجة من صوف وإبرسيم أو المنسوجة من إبرسيم. تاج العروس 4/33 فمن يبيع الخز أو يصنعه يسمى خزازا وكان أبوحنيفة خزازا يبيع الخز. انظر تاريخ بغداد 13/324.
5 الأنساب للسمعاني 5/103 واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير 1/439.
6 المجروحين 3/63.
(1/64)
________________________________________
2- مولده وموطنه
ولد الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى سنة ثمانين من الهجرة بالكوفة، في خلافة عبد الملك بن مروان، وقيل: إنه ولد سنة إحدى وستين 1. حكاه الخطيب في تاريخه، وقال: "لا أعلم لصاحب هذا القول متابعا" 2. وقال المكي في مناقب أبي حنيفة 3: "هذه الرواية تخالف ما تقدم، والصحيح هي الرواية الأولى تجميع عليها".
3- نشأته وصفاته
"أ" نشأته:
ولد الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الكوفة، وقضى سنوات عمره الأولى فيها، أما كيفية نشأته فإن كتب التراجم ضَنَّت علينا بالأخبار في هذا الصدد، ولم تذكر سوى أنه اشتغل في مبدأ أمره تاجرا في الخز، وله دكان معروف في دار عمر بن حريث 4، وأنه كان أمينا في تجارته ولا يغش، ولا يخدع أحدا، حتى أصبح عريفا على الحاكة بدار
__________
1 إسناد هذه الرواية لا يصح، فيه عبد الله بن إبراهيم بن قتيبة لم أجد من ترجم له وداود بن علية ضعيف عابد كما في التقريب وقال ابن معين: ضعيف ولا يكتب حديثه. الكامل لابن عدي 3/984 ومزاحم بن داود: قال ابن أبي حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به. انظر تهذيب التهذيب 10/100.
2 تاريخ بغداد 13/330.
3 وإسناد الرواية الأولى صحيح، لأن مولده سنة 80هـ.
4 تاريخ بغداد 13/325.
(1/65)
________________________________________
الخَزَّازين 1، ثم توسعت تجاراته، ونمت وازدهرت حتى أصبح له معمل لحياكة الخز، وعنده صنّاع وأجراء 2.
"ب" صفاته:
أولا ـ صفاته الخِلقية:
كان الإمام أبو حنيفة، رحمه الله تعالى، فصيح اللسان، عذب المنطق، إن تكلم أحسن الناس منطقا، وأحلاهم نغمة، وأنبههم على ما يريد، وكان جميلا تعلوه سمرة، حسن الوجه والهيئة نظيف الملبس، طيب الرائحة، حتى إنه يعرف بريح الطيب إذا أقبل أو إذا خرج من منزله قبل أن يرى.
وصفه تلميذه أبو يوسف بقوله: "كان أبو حنيفة ربعا من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقا وأحلاهم نغمة، وأنبههم على ما يريد" 3.
ووصفه عمر بن حماد بقوله: "إن أبا حنيفة كان طوالا، تعلوه سمرة، وكان لبسا، حسن الهيئة، كثير التعطر يعرف بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من منزله قبل أن تراه" 4.
قال الهيثمي: "ولا تنافي بين كونه ربعة وبين كونه طوالا لأنه قد يكون مع كونه ربعة أقرب إلى الطول"
__________
1 الكامل لابن عدي 7/.
2 العبر في تاريخ من غبر 1/214، تحقيق المنجد، الكويت.
3 تاريخ بغداد 13/1330، 331.
4 تاريخ بغداد 13/331.
(1/66)
________________________________________
ووصفه تلميذه عبد الله بن المبارك بقوله: "كان حسن السمت، حسن الوجه، حسن الثوب" 1.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين يصفه:"كان أبو حنيفة حسن الوجه، والثوب، والنعل، وكثير البر والمؤاساة لكل من أطاف به" 2.
وجملة القول في هذا المقام أن الإمام أبا حنيفة، كان حسن السمت والمظهر، نظيف الملبس، مع حسن العشرة والبر والمواساة لمجالسيه.
ثانيا ـ صفاته الخُلقية:
وأما صفاته الخُلُقية فكان رحمه الله ورعا، تقيا، شديد الذَّبِّ عن محارم الله أن تؤتى، زاهدا، عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة فنبذها وراء ظهره، ولقد ضُرب بالسياط وعذّب ليقبل تولِّي القضاء أو بيت المال فأبى. روى الصيمري عن الربيع بن عاصم قال: "أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة 3 فقدمت بأبي حنيفة عليه، فأراده على بيت المال فأبى، فضربه عشرين سوطا" 4.
كذلك عرض عليه ابن هبيرة ـ والي العراق ـ قضاء الكوفة فأبى وامتنع، فحلف ابن هبيرة إن هو لم يفعل ليضربه بالسياط على رأسه، فقيل لأبي حنيفة فقال: ضربة لي في الدنيا أسهل عليّ من مقامع الحديد في
__________
1 أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ص3.
2 أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ص2.
3 هو يزيد بن عمر بن هبيرة أبو خالد الفزاري أمير وقائد من ولاة الدولة الأموية قال عنه الذهبي: "كان بطلا شجاعا سائسا جوادا فصيحا خطيبا" قتله السفاح سنة 132هـ.
سير أعلام النبلاء 6/207.
4 أخبار أبي حنيفة للصيمري ص57.
(1/67)
________________________________________
الآخرة، والله لا أفعلنّ ولو قتلني، فحكي قوله لابن هبيرة فقال: بلغ قدره أن يعارض يميني بيمينه، فدعاه فحلف إن لم يل القضاء ليضربن على رأسه حتى يموت، فقال له أبو حنيفة: هي موتة واحدة، فأمر به فضرب عشرين سوطا على رأسه، فقال أبو حنيفة: اذكر مقامك بين يدي الله، فإنه أذل من مقامي بين يديك، ولا تهددني فإني أقول: لا إله إلا الله، والله سائلك عني حيث لا يقبل منك جوابا إلا بالحق، فأومأ إلى الجلاد أن أمسك وبات أبو حنيفة في السجن، فأصبح وقد انتفخ وجهه ورأسه من الضرب، فقال ابن هبيرة: إني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: أما تخاف الله تضرب رجلا من أمتي بلا جرم وتهدِّده، فأرسل إليه فأخرجه واستحلّه 1.
وكذلك عرض 2 عليه الخليفة العباسي المنصور القضاء، فأبى، فسجنه، ومات محبوسا في السجن، رحمه الله.
ولعل رفضه لهذا المنصب يعود إلى جملة أسباب منها: خوفه من الله تعالى؛ حيث خشي أن يجور في حكم من الأحكام التي تعرض عليه، فلذلك آثر الضرب بالسياط في الدنيا على مقامع الحديد في الآخرة.
أضف إلى ذلك أن القضاة تعرض عليهم منازعات يتصل بعضها بأمراء ذلك العصر وحكّامه، والإمام لا يمالئ أميرا أو يجامل وزيرا، أو يحابي كبيرا، في محارم الله أن تؤتى. وكان مع زهده وورعه كثير العبادة، حتى قيل إنه سمي الوتد 3 لكثرة صلاته وتهجّده وطول قيامه.
__________
1 كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص58 بتصرف.
2 المنتظم "ق-238-ب" مخطوطة في مكتبة أيا صوفيا بتركيا.
3 تاريخ بغداد 13/354.
(1/68)
________________________________________
وكان كريما، جوادا، سخيا بماله، ينفق على العلماء مثلما كان ينفق على عياله، وإذا اكتسى ثوبا فعل مثل ذلك، وإذا جاءته الفاكهة والرطب، وكل شيء يريد أن يشتريه لنفسه ولعياله، لا يفعل ذلك حتى يشتري للعلماء مثله، ثم يشتري بعد ذلك لعياله.
وكان إذا اشترى للصدقة أو لبرِّ إخوانه شيئا اشترى ما يقدر عليه، وكان يتساهل فيما يشتريه لنفسه ولعياله 1. هذا فعله مع العلماء، أما من يعلمه، فهو يبرّهم ويواسي فقيرهم بماله، وينفق عليه ويزوج من احتاج إليه، حتى إنه كان يعول أبا يوسف وعياله عشر سنين 2.
قال شريك: "كان أبو حنيفة يصبر على من يعلمه، وإن كان فقيرا أغناه، وأجزل عليه وعلى عياله، حتى يتعلم، فإذ تعلم قال له: قد وصلت إلى الغنى الأكبر بمعرفة الحلال والحرام" 3.
وقال الفضيل بن عياض: "كان أبو حنيفة معروفا بكثرة الأفعال، وقلة الكلام وإكرام العلم وأهله"4.
وجملة القول في هذا المقام أن الإمام أبا حنيفة، رحمه الله تعالى؛ قد جمع الكثير من الخصال، والصفات الحميدة، والأخلاق والشمائل الكريمة، فقد ألِّفت في مناقبه مصنفات وأجزاء.
أختتم هذا المبحث بقول أبي يوسف يصف خصال الإمام الحسنة، حينما سأله عنها الخليفة العباسي هارون الرشيد فقال: "يا أبا يوسف صف
__________
1 أخبار أبي حنيفة ص49 بتصرف.
2 أخبار أبي حنيفة ص48.
3 أخبار أبي حنيفة ص48.
4 أخبار أبي حنيفة ص50.
(1/69)
________________________________________
لي أخلاق أبي حنيفة رضي الله عنه، فقال: إن الله تعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} "سورة ق: الآية18".
وهو عند لسان كل قائل، كان علمي بأبي حنيفة أنه كان شديد الذب عن محارم الله أن تؤتى، شديد الورع أن ينطق في دين الله بما لا يعلم، يحب أن يطاع الله ولا يعصى، مجانبا لأهل الدنيا في زمانهم، لا ينافس في عزها، طويل الصمت، دائم الفكر، على علم واسع، لم يكن مهذارا، ولا ثرثارا، إن سئل عن مسألة كان عنده فيها علم، نطق وأجاب فيها بما سمع، وإن كان غير ذلك قاس على الحق واتبعه، صائنا نفسه ودينه، بذولا للعلم والمال، مستغنيا بنفسه عن جميع الناس، لا يميل إلى طمع، بعيدا عن الغيبة، لا يذكر أحدا إلا بخير، فقال له الرشيد: هذه أخلاق الصالحين، ثم قال للكاتب: اكتب هذه الصفة وادفعها إلى ابني ينظر فيها ... " 1
4- وفاته
توفي رحمه الله ليلة النصف من شعبان سنة خمسين ومائة من الهجرة، ودفن في مقابر الخيزران ببغددا، ولما مات كان عمره سبعين عاما 2.
قال الذهبي في وصف قبر أبي حنيفة: "وعليه قبة 3 عظيمة،
__________
1 أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص31، 32.
2 الانتقاء ص171.
3 أحدثت هذه القبة في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة قال ابن الجوزي في المنتظم: "قرأت بخط أبي الوفاء ابن عقيل، كان قبر أبي حنيفة عليه=
(1/70)
________________________________________
ومشهد فاخر ببغداد" 1.
قلت: لا يزال قبر أبي حنيفة مبنيا عليه بناء تعلوه قبة مفروشة بالقاشي الأزرق، وإلى جنبه جامع تقام فيه الجمعة والجماعة، وله صحن يجتمع فيه الناس في الأعياد والمواسم الدينية كما هو ظاهر في الصورة ـ الفوتغرافية 2 كما في كتاب مراقد المعارف ـ وهذه مخالفة صريحة لعقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله من المدعين تعظيمه؛ فقد كره أن يبنى على القبر، وأن يعلَّم بعلامة 3 متّبعا في ذلك النص الشرعي؛ فقد روى
__________
= التركمان سقفا ثم قدِم شرف الملك في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة فأحدث هذه القبة وكان قد وضع أساس مسجد بين يدي ضريح أبي حنيفة، فهدم شرف الملك أبنية ذلك، وما يحيط بالقبر وحفروا أساسات، وكانوا يطلبون الأرض الصلبة فأخرجوا أربعمائة صن ** من عظام الموتى قال ابن عقيل فقلت وما يدريكم لعله خرجت عظامه في هذه العظام وبقية القبة فارغة".
المنتظم "ق-238-أ" مخطوط في مكتبة أحمد الثالث بتركيا.
1 سير أعلام النبلاء 6/403.
2 مراقد المعارف لمحمد حرز الدين 1/96، ط/ الأولى، النجف.
3 انظر بدائع الصنائع 1/320، وتحفة الفقهاء 2/256، والمتانة ص301، وفتح الملهم 2/121، ومعارف السنن 3/305، 307، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص405؛ ط/ دار إحياء التراث العربي.
........................
* خربشت لم أعرف معناها ولعلها "خشت" والخشت بالفارسية هو اللبن الذي يصنع من الطين.
انظر قاموس الفارسية لعبد المنعم محمد حسنين ط. دار الكتاب العربي، ص318.
** صَنَّ: لم أعرف معناها ولعلها" صن" بفتح الصاد المهملة، شبه السلة المطبقة يجعل فيها الطعام أو الخبز. انظر القاموس ص1563، وتاج العروس 9/261 فعلى هذا يكون المعنى: أربعمائة كيس من عظام الموتى". والله أعلم."
(1/71)
________________________________________
مسلم عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يبنى عليه" 1.
__________
1 أخرجه مسلم في كتاب الجنائز من صحيحه باب النهي عن تجصيص القبر 2/667 ح970، وأبو داود كتاب الجنائز باب في البناء على القبر 3/552 ح3225.
والترمذي: كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها 3/359 ح1052، وابن ماجه: كتاب الجنائز باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها 1/498 ح1562.
(1/72)
________________________________________
المبحث الثاني: حياته العلمية
1- نشأته العلمية:
أدرك 1 الإمام أبو حنيفة في صغره بعض الصحابة كأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى. لكن لم يجد في حال ترعرعه من يرشده إلى الأخذ 2 عنهم، فاشتغل بالتجارة في ثياب الخز وتوسع في ذلك، حتى كان له دار كبيرة لعمل الخز، وعنده صناع وأُجراء ومكث على هذه الحال
__________
1 حكى القاري عن السيوطي أنه قال: قال الحافظ ابن حجر: "أدرك الإمام أبو حنيفة جماعة من الصحابة، لأنه ولد بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة وبها يومئذ من الصحابة عبد الله بن أبي أوفى فإنه مات بعد ذلك بالاتفاق، وبالبصرة يومئذ أنس بن مالك ومات سنة تسعين أو بعدها" شرح مسند أبي حنيفة للقاري ص581، وقال أبو إسحاق الشيرازي "كان في زمانه أربعة من الصحابة: أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وأبو الطفيل ولم يأخذ عن أحد منهم" الطبقات السنية 1/96.
2 قال السخاوي: "والثنائيات في الموطأ والوحدان في حديث الإمام أبي حنيفة لكن بسند غير مقبول إذ المعتمد أنه لا رواية له عن أحد من الصحابة"، فتح المغيث 3/11، وقد ادّعى القاري رواية أبي حنيفة عن الصحابة وأن مسنداته عن الصحابة قد بلغت خمسين حديثا.
انظر شرح مسند أبي حنيفة ص582.
(1/73)
________________________________________
إلى أن قيض الله له الإمام الشعبي؛ فحثّه على الاشتغال بالعلم، كما حكى ذلك الإمام أبو حنيفة حيث قال:
"مررت يوما على الشعبي وهو جالس فدعاني وقال: إلى من تختلف؟ فقلت: أختلف إلى السوق، وسميت له أستاذي فقال: لم أعن الاختلاف إلى السوق، عنيت الاختلاف إلى العلماء فقلت له: أنا قليل الاختلاف إليهم فقال لي: لا تفعل وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء؛ فإني أرى فيك يقظة وحركة قال: فوقع في قلبي من قوله فتركت الاختلاف إلى السوق، وأخذت في العلم فنفعني الله بقوله" 1.
ويظهر أنه استمر في تجاراته بعد أن أخذ في طلب العلم وأقبل عليه، فهذا قيس بن الربيع 2 يحدث كما روى الخطيب في تاريخه 3: "أنه كان يبعثه بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسواتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الأرباح من الدنانير إليهم ويقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، لكن من فضل الله عليّ فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله مما يجريه الله على يدي مما في رزق الله حولٌ لغيره".
__________
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.
2 هو قيس بن الربيع الأسدي أبو محمد الكوفي قال عنه ابن حجر: "صدوق تغير لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به من السابعة مات سنة بضع وستين ومائة"، تقريب التهذيب 2/128. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 8/391-395.
3 13/360.
(1/74)
________________________________________
أما ما قيل عن أبي حنيفة إنه لما أراد طلب العلم أخذ يتخير بين العلوم ويوازن بينها؛ فهذه حكاية موضوعة لا تصح، كما ذكر ذلك الذهبي في السير 1.
والقصة رواها الخطيب عن أبي يوسف قال: "لما أردت طلب العلم؛ جعلت أتخير العلوم، وأسأل عن عواقبها؛ فقيل لي: تعلم القرآن، فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته؛ فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد، ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك ـ أو يساويك ـ في الحفظ؛ فتذهب رياستك. قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت، واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثم لا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب، فيصير عارا عليك في عقبك، فقلت: لا حاجة لي في هذا. ثم قلت: أتعلم النحو. فقلت: إذا حفظت النحو والعربية، ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد معلما فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة، قلت: وهذا لا عاقبة له، قلت: فإن نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني، ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات. قلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإن نظرت في الكلام ما يكون آخر أمري؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنَّعات الكلام فيرمى بالزندقة، فإما أن تؤخذ فتقتل، وإما أن تسلم؛ فتكون مذموما ملوما.
قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل وتفتي الناس وتطلب للقضاء
__________
1 6/396.
(1/75)
________________________________________
وإن كنت شاباً، قلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا. فلزمت الفقه وتعلمته" 1.
هذه الحكاية تصور الإمام طالب رئاسة أو دنيا، وهذا يتنافى مع ورعه وزهده وانصرافه عنها، والصحيح في نظري أنه اتّجه أول ما اتّجه إلى تعلُّم النحو، كما روى ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه 2 ثم تحول إلى علم الكلام وأخذ منه نصيبا وافرا، حتى بلغ فيه مبلغا يشار إليه بالبنان، ثم انتقل بعد ذلك إلى علم الفقه، وانصرف إليه بكليته، واتصل بحماد بن أبي سليمان يأخذ عنه، ولازمه ثماني عشرة سنة 3. ولعله كان مع ملازمته لشيخه حماد يأخذ من مشايخ وقته ما امتازوا به، فأخذ علم التفسير عن عكرمة مولى ابن عباس، ومحمد بن المنكدر وسمع الحديث من هشام بن عروة، ومحارب بن دثار السدوسي الكوفي.
2- شيوخه
أدرك الإمام بعض الصحابة4 في صغره، لكنه لم يجد في حال
__________
1 تاريخ بغداد 13/331، 332، ورواها الذهبي من طريق الخطيب في سير أعلام النبلاء 6/395-397، بلفظ متقارب، ورواها الصيمري عن أبي يوسف مختصرة. انظر أبا حنيفة ص5.
2 13/332.
3 تاريخ بغداد 13/333.
4 كأنس بن مالك. تاريخ بغداد 13/324، وقد ادعى بعض كتاب المناقب أنه رأى عدة من الصحابة وسمع منهم. انظر أخبار أبي حنيفة ص4، 5؛ ومناقب أبي حنيفة للمكي ص27-37، ومناقب أبي حنيفة للكردي ص8/25، وشرح مسند أبي حنيفة للقاري ث582.
(1/76)
________________________________________
نشأته من يرشده لطلب العلم، والأخذ عمن كان يمكنه السماع 1 ممن أدرك منهم؛ فاشتغل بالبيع والشراء إلى 2 أن قيض الله تعالى له الإمام الشعبي فنبَّهه وحثَّه على الاشتغال بالعلم فأخذ من مشايخ وقته ما امتازوا به من العلوم.
ولقد ذكر المزي في تهذيب الكمال 3 طائفة من شيوخ أبي حنيفة بلغ عددهم من ذكرهم خمسين شيخا هم كالآتي: " محمد بن المنكدر، وإسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغيرات، وجبلة بن سحيم، وأبو هند الحارث بن عبد الرحمن الهمداني، والحسين بن عبيد الله، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وخالد بن علقمة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وزبيد اليامي، وزياد بن علاقة، وسعيد بن مسروق الثوري، وسلمة بن كهيل، وسماك بن حرب، وأبو ربوة شداد بن عبد الرحمن، وشيبان بن عبد الرحمن النحوي وهو من أقرانه، وطاووس بن كيسان فيما قيل، وظريف السعدي، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وعاصم بن كليب، وعامر الشعبي، وعبد الله بن أبي حبيبة، وعبد الله بن دينار، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الكريم بن أبي أمية البصري، وعبد الملك بن عمير، وعدي بن ثابت الأنصاري، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن السائب، وعطية بن سعيد العوفي، وعكرمة مولى ابن عباس، وعلقمة بن مرثد، وعلي بن الأقمر،
__________
1 زعم بعض من كتب في مناقب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ـ كالمكي والكردي ـ أن أبا حنيفة سمع من بعض الصحابة وجمع بعضهم جزءا فيما ورد في رواية أبي حنيفة عن بعض الصحابة لكن ذكر ابن حجر أن إسنادها لا يخلو من ضعف كما في عقود الجمان ص50.
2 عقود الجمان ص160.
3 3/1415، ط/ دار المأمون نسخة مصورة عن أصل خطي.
(1/77)
________________________________________
وعلي بن الحسن الزناد، وعمرو بن دينار، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وقابوس بن أبي ظبيان، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وقتادة بن دعامة، وقيس أبو مسلم، ومحارب بن دثار، ومحمد بن الزبير الحنظلي، ومحمد بن السائب الكلبي، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن قيس الهمداني، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن المنكدر، ومخول بن راشد، ومسلم البطين الملائي، ومعن بن عبد الرحمن، ومقسم، ومنصور بن المعتمر، وموسى بن أبي عائشة، وناصح بن عبد الله المحلي، ونافع مولى بن عمر، وهشام بن عروة، وأبو غسان الهيثم بن حبيب الصراف، والوليد بن سريع المخزومي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن عبد الله الكندي، ويحيى بن عبد الله الجابر، ويزيد بن صهيب الفقير، ويزيد بن عبد الرحمن الكوفي، ويونس بن عبد الله بن أبي فروة أبو إسحاق السبيعي، وأبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، وأبو خباب الكلبي، وأبو حصين الأسدي، أبو الزبير المكي، أبو السوار ويقال أبو الأسود السلمي، أبو عون الثقفي، أبو فروة الجهني، أبو معبد مولى بن عباس، أبو يعفور العبدي".
فهؤلاء طائفة من شيوخ أبي حنيفة، ولم أستقص جميعهم، ولو شرعت في ذلك لطال بنا البحث، ثم إني أقتصر على ترجمة مجموعة من أشهر شيوخه الذين أخذ عنهم وهم كما يلي:
التعريف بأشهر شيوخه
1- حماد بن أبي سليمان: هو حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري، مولاهم أبو إسماعيل الكوفي الفقيه.
(1/78)
________________________________________
قال عنه الذهبي: "العلامة الإمام فقيه العراق ... أصله من أصبهان، روى عن أنس بن مالك، وتفقّه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم وأقيسهم وأصبرهم بالمناظرة والرأي ... وكان أحد العلماء الأذكياء، والكرام الأسخياء له ثروة وحشمة وتجمل" إلى أن قال: "فأفقه أهل الكوفة علي وابن مسعود، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد، أبو عبد الله الشافعي، رحمهم الله تعالى" 1. وقال ابن سعد: "قالوا وكان حماد ضعيفا في الحديث، فاختلط في آخر أمره، وكان مرجئا، وكان كثير الحديث" 2.
وقال عنه النسائي: "ثقة إلا أنه مرجئ" 3.
وقال ابن حبان: "وكان مرجئا، وكان لا يقول بخلق القرآن، وينكر على من يقوله" 4.
وقال معمر لحماد: "كنت رأسا، وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا، قال: إني إن أكن تابعا في الحق، خير من أن أكون رأسا في الباطل. قال الذهبي على أثره: يشير معمر إلى أنه مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي إن
__________
1 سير أعلام النبلاء 5/231-236.
2 الطبقات 6/333.
3 تهذيب الكمال 7/277؛ تهذيب التهذيب 3/17.
4 الثقات 4/160؛ تهذيب التهذيب 3/17.
(1/79)
________________________________________
شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض نسأل الله العافية" 1.
قال خليفة بن خياط: "مات حماد سنة عشرين ومائة" 2.
2- زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي المدني:
قال عنه الذهبي: "كان ذا علم وجلالة وصلاح، هفا وخرج فاستشهد ... خرج متأولا وقتل شهيدا وليته لم يخرج" 3.
وقال عيسى بن يونس: "جاءت الرافضة زيدا، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى ننصرك قال: بل أتولاهما. قالوا: إذا نرفضك فمن ثم قيل لفظة الرافضة. وأما الزيدية فقالوا بقوله وحاربوا معه" 4.
وقال عنه ابن حجر: "ثقة من الرابعة وهو الذي ينسب إليه الزيدية. خرج في خلافة هشام بن عبد الملك، فقتل بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان مولده سنة ثمانين" 5.
3- عطاء بن أبي رباح:
هو عطاء بن أبي رباح، بفتح الراء، واسم أبي رباح أسلم القرشي مولاهم المكي مفتي أهل مكة ومحدثهم، قال عنه الذهبي: "الإمام شيخ
__________
1 سير أعلام النبلاء 5/233
2 كتاب الطبقات لخليفة بن خياط ص162. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 6/332؛ والتاريخ الكبير 3/18؛ وتهذيب الكمال 7/269-279.
3 سير أعلام النبلاء 5/389-391.
4 سير أعلام النبلاء 5/390.
5 تقريب التهذيب 1/276.
(1/80)
________________________________________
الإسلام، مفتي الحرم، أبو محمد القرشي مولاهم المكي: يقال ولاؤه لبني جمح" 1.
وقال عنه ابن حجر: "ثقه فقيه، فاضل، لكنه كثير الإرسال من الثالثة مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور" 2.
4 - عبد الملك بن أبي المخارق: بضم الميم وبخاء معجمة، أبو أمية المعلم المصري، واسم أبيه قيس، وقيل طارق نزيل مكة.
قال معمر: "سألني حماد ـ يعني بن أبي سليمان، عن فقهائنا، فذكرتهم فقال: قد تركت أفقههم، يعني عبد الكريم أبا أمية. قال أحمد بن حنبل: "كان يوافقه على الإرجاء" 3.
قال عنه ابن حجر: "ضعيف له في البخاري زيادة، في أول قيام الليل من طريق سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاووس، عن ابن عباس في الذكر عند القيام ... وله ذكر في مقدمة مسلم، وما روى له النسائي إلا قليلا من الثالثة مات سنة ست وعشرين ومائة" 4.
5- عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي:
قال عنه ابن معين: "شيعي مفرط" 5.
وقال الدارقطني: "ثقة إلا أنه كان مغاليا يعني في التشيع" 6.
__________
1 سير أعلام النبلاء 5/79.
2 تقريب التهذيب 2/22. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 5/467؛ والتاريخ الكبير 6/463؛ والمعرفة والتاريخ 1/701.
3 تهذيب التهذيب 6/376.
4 تقريب التهذيب 1/516.
5 تهذيب التهذيب 7/166؛ ميزان الاعتدال 3/62.
6 تهذيب التهذيب 7/166.
(1/81)
________________________________________
وقال أحمد: "ثقة إلا أنه كان يتشيع" 1.
قال الذهبي: "عالم الشيعة وقاصُّهم وإمام مسجدهم، ولو كانت الشيعة مثله لقلّ شرهم" 2. قال ابن حجر: "ثقة رمي بالتشيع، مات سنة ست عشرة ومائة" 3.
6- قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز السدوسي البصري الضرير الأكمه:
قال عنه الذهبي: "حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين ... وهو حجة بالإجماع إذا بيّن السماع، لكنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو، مع هذا فما توقّف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحرّيه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلَلُه ولا نضلله ولا نطَّرحه، وننسى محاسنه. نعم لا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" 4.
وقال علي بن المديني: "قلت ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمن يقول: اترك كل من كان رأسا في بدعة يدعو إليها قال: كيف تصنع بقتادة
__________
1 تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين ص177، تحقيق صبحي السامرائي، الدار السلفية.
2 ميزان الاعتدال 3/61.
3 تقريب التهذيب 2/16. وانظر ترجمته في تهذيب الكمال 2/923، ط/ المصورة عن المخطوط، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/223.
4 سير أعلام النبلاء 5/271.
(1/82)
________________________________________
وابن أبي روّاد وعمر بن ذر، وذكر قوما ثم قال يحيى: إن تركت هذا الضرب تركت كثيرا" 1.
وقال عنه ابن حجر: "ثقة ثبت يقال: وُلد أكمه 2، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومائة" 3.
7- قيس بن مسلم الجدلي الكوفي أبو عمرو:
قال عنه أبو داود: "كان مرجئا" 4.
وقال عنه النسائي: "ثقة وكان يرى الإرجاء" 5.
وقال عنه الذهبي: "الإمام المحدث" 6.
وقال ابن حبان: "مات سنة عشرين ومائة" 7.
8- محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو جعفر الباقر:
قال عنه الذهبي: "الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام ... وكان سيد بني هاشم في زمانه اشتهر بالباقر من قولهم بقر العلم، يعني شقّه فعلم أصله وخفيّه" 8.
__________
1 تهذيب التهذيب 8/353.
2 هو الذي يولد أعمى. انظر مختار الصحاح ص579.
3 تقريب التهذيب 2/123. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7/229؛ والتاريخ الكبير 7/185؛ والجرح والتعديل 7/133.
4 سير أعلام النبلاء 5/164.
5 تهذيب التهذيب 8/404.
6 سير أعلام النبلاء 5/164.
7 الثقات 7/326. وانظر ترجمته في طبقات ابن سعد 6/317؛ والتاريخ الكبير 5/145؛ والجرح والتعديل 7/103.
8 تذكرة الحفاظ 1/124، 125.
(1/83)
________________________________________
وقال سالم بن أبي حفصة: "سألت أبا جعفر وابنه جعفر بن محمد عن أبي بكر وعمر فقالا لي: يا سالم تولهما ابرأ من عدوهما؛ فإنهما كانا إمامي هدى. وعنه قال: ما أدركت من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما" 1.
وقال عنه ابن حجر: "ثقة مات سنة بضع عشرة ومائة" 2.
9- محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير القرشي التيمي المدني:
قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام" 3.
وقال عنه أبو حاتم البستي: "كان من سادات القراء" 4.
وقال مالك: "كان ابن المنكدر سيد القراء" 5.
وقال عنه ابن حجر: "ثقة فاضل من الثالثة مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها" 6.
10- نافع أبو عبد الله القرشي ثم العدوي العمري مولى ابن عمر وراويتُه:
قال عنه الذهبي: الإمام المفتي الثبت عالم المدينة" 7.
__________
1 تهذيب التهذيب 9/350، 351.
2 تقريب التهذيب 2/191. وانظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/124؛ وحلية الأولياء 3/180؛ وطبقات ابن سعد 5/235.
3 سير أعلام النبلاء 5/353.
4 سير أعلام النبلاء 5/354.
5 سير أعلام النبلاء 2/210.
6 تقريب التهذيب 2/210. وانظر ترجمته في التاريخ الكبير 1/219؛ وحلية الأولياء 3/146؛ والجرح والتعديل 8/97.
7 سير أعلام النبلاء 5/95.
(1/84)
________________________________________
قال عنه ابن حجر: "ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك" 1.
3- تلاميذه
أخذ العلم عن الإمام أبي حنيفة كثيرون، من محدثين وفقهاء. ولقد ذكر المزي في تهذيب الكمال 2، طائفة ممن أخذوا العلم عن أبي حنيفة بلغ عدد من ذكرهم سبعين تلميذا وهم كالآتي:
"إبراهيم بن طهمان، والأبيض بن الأغر بن الصباح، وأسباط بن محمد القرشي، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمرو القاضي، وإسماعيل بن يحيى الصيرفي، وأيوب بن هاني الجعفي، والجارود بن يزيد النيسابوري، وجعفر بن عون، والحارث بن نبهان، وحبان بن علي العنزي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، والحسن بن فرات القزاز، والحسين بن الحسن بن عطية العوفي، وحفص بن عبد الرحمن البلخي القاضي، وحكام بن سالم الرازي، وأبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، وابنه حماد بن أبي حنيفة، وحمزة بن حبيب الزيات، وخارجة بن مصعب السرجني، وداود بن نصير الطائي، وأبو الهذيل زفر بن الهذيل التميمي، وزيد بن الحباب العكلي، وسابق الرقي، وسعد بن الصلت قاضي شيراز، وسعيد بن أبي الجهم القابوسي، وسعيد بن سلام بن أبي الهيفا العطار البصري، وسلم بن سالم البلخي، وسليمان بن عمرو النخيعي، وسهل بن
__________
1 تقريب التهذيب 2/296. وانظر ترجمته في: التاريخ الكبير 8/84؛ والمعرفة والتاريخ 1/645؛ والجرح والتعديل 8/451.
2 3/1415، ط/ دار المأمون، نسخة مصورة عن أصل خطي.
(1/85)
________________________________________
مزاحم، وشعيب بن إسحاق الدمشقي، والصباح بن محارب، والصلت بن الحجاج الكوفي، وأبو عاصم الضحاك بن مخلد، وعامر بن فرات النسوي، وعايد بن حبيب، وعباد بن العوام، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، وأبو يحيى عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وعبد الرزاق بن همام، وعبد العزيز الترمذي، وعبد الكريم بن محمد الجرجاني، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وعبد الوارث بن سعيد، وعبيد الله بن الزبير القرشي، وعبيد الله بن عمرو الرقي، وعبيد الله بن موسى، وعتاب بن محمد بن شوذب، وعلي بن ظبيان الكوفي القاضي، وعلي بن عاصم الواسطي، وعلي بن مسهر، وعمرو بن محمد العنقزي، وعمرو بن الهيثم القطيعي، وأبو نعيم الفضل بن دكين، والفضل بن موسى الشيباني، والقاسم بن الحكم العرني، والقاسم بن معن المسعودي، وقيس بن الربيع، ومحمد بن أبان العمبري الكوفي، ومحمد بن بشر العبدي، ومحمد بن الحسن بن أنس الصنعاني، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن خالد الوهبي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن فضل بن عطية، ومحمد بن القاسم الأسدي، ومحمد بن مسروق الكوفي، ومحمد بن يزيد الواسطي، ومروان بن سالم، ومصعب بن المقدام، ومعافر بن عمران الموصلي، ومكي بن إبراهيم البلخي، وأبو سهل نصر بن عبد الكريم البلخي، ونصر بن عبد الملك العتكي، وأبو غالب النصر بن عبد الله الأزدي، والنصر بن محمد المروذي، والنعمان بن عبد السلام الأصبهاني، ونوح بن دراج القاضي، وأبو عصمة نوح بن أبي مريم، وهشيم بن بشير، وهوذة بن خليفة، والهياج بن بساط البرجمي، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن أيوب المصري، ويحيى بن نصر بن حاجب، ويحيى بن يمان، ويزيد بن
(1/86)
________________________________________
زريع وبزيد بن هارون، ويونس بن بكير الشيباني، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو حمزة السكري، وأبو سعد الصاغاني، وأبو شهاب الحناط، وأبو مقاتل السمرقندي، والقاضي أبو يوسف".
فهؤلاء طائفة ممن أخذوا عن أبي حنيفة، وإن كانوا أكثر من ذلك لانقطاعه للتعليم فترة طويلة قاربت ربع قرن أو أكثر.
وسأقتصر على ترجمة مجموعة من أشهر تلاميذه الذين أخذوا عنه وهم كما يأتي:
التعريف بأشهر تلامذته
1- جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي الكوفي:
قال عنه النسائي وأبو حاتم والعجلي: "ثقة".
وقال عنه أحمد: "لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول".
وقال عنه ابن حجر: "الكوفي نزيل الري وقاضيها ثقة صحيح الكتاب، قيل كان في آخر عمره يتهم في حفظه، مات سنة ثمان ثمانين ومائة، وله إحدى وسبعون سنة" 1.
2- الحسن بن زياد اللؤلؤي مولى الأنصار:
قال عنه الخطيب: "أحد أصحاب أبي حنيفة الفقيه، حدث عن أبي حنيفة، روى عنه محمد بن سماعة القاضي، ومحمد بن شجاع الثلجي، وشعيب بن أيوب الصريفيني، وهو كوفي نزل بغداد".
__________
1 انظر ترجمته في تقريب التهذيب 1/127؛ وتهذيب التهذيب 2/75؛ والجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/10.
(1/87)
________________________________________
وقال عنه الذهبي: "العلامة فقيه العراق ... كان أحد الأذكياء البارعين في الرأي، ولي القضاء بعد حفص بن غياث ثم عزل نفسه".
قال فيه يحيى بن معين والنسائي: كذاب خبيث، وكذبه أيضا أبو داود، وأبو ثور، ويعقوب والدارقطني وغيرهم.
وقال عنه ابن المديني: "لا يكتب حديثه".
وقال أبو حاتم، وأبو داود والنسائي، وغيرهم: "ليس بثقة ولا مأمون".
وقال الدارقطني: كذاب كوفي متروك الحديث.
مات سنة أربع ومائتين 1.
3- حفص بن غياث بن طلق بن معاوية أبو عمر الكوفي القاضي:
قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ أبو عمر النخعي الكوفي قاضي بغداد ثم قاضي الكوفة".
وقال عنه ابن حجر: "القاضي ثقة فقيه تغير حفظه قليلا في الآخر، من الثامنة، مات سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة، وقد قارب الثمانين" 2.
__________
1 انظر ترجمته في تاريخ ابن معين 1/114، 3/36؛ ومجموعة رسائل للنسائي ص71؛ وكتاب الضعفاء له ص89،؛ والضعفاء للعقيلي 1/227-228؛ والجرح والتعديل 3/15؛ وتاريخ بغداد 7/314-317؛ والكامل لابن عدي 2/731؛ وسير أعلام النبلاء 9/543؛ وميزان الاعتدال 1/491؛ ولسان الميزان 2/208، 209؛ والفوائد البهية ص61.
2 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/297؛ وميزان الاعتدال 1/567؛ والثقات 6/200؛ وتقريب التهذيب 1/189؛ وتهذيب التهذيب 2/415.
(1/88)
________________________________________
4- حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي:
قال عنه الذهبي: "ضعفه ابن عدي وغيره من قبل حفظه".
وقال عنه ابن خلكان: "كان على مذهب أبيه رضي الله عنه، وكان من الصلاح والخير على قدر عظيم".
"تفقه على أبيه وأفتى في زمانه، وتفقه عليه ابنه إسماعيل، وهو من طبقة أبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد، وكان الغالب عليه الورع والزهد، استقضى على الكوفة بعد القاسم بن معين الكوفي تلميذ أبي حنيفة" 1.
ولم أقف له على تاريخ وفاة.
5- الحكم بن عبد الله بن مسلم أبو مطيع البلخي الخراساني:
قال عنه ابن معين: "ليس بشيء".
وقال عنه أبو حاتم: "تركوا حديثه وكان جهميا".
وقال ابن حبان: "كان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها".
وقال عنه الذهبي: "أبو مطيع البلخي الفقيه صاحب أبي حنيفة، تفقه به أهل تلك الديار، وكان بصيرا بالرأي علاّمة كبير الشأن، ولكنه واهم في ضبط الأمر ... ولي أبو مطيع قضاء بلخ، ومات سنة تسع وتسعين ومائة عن أربع وثمانين سنة" 2.
__________
1 انظر ترجمته في الجرح والتعديل 3/149، والكامل لابن عدي 2/669؛ ووفيات الأعيان 2/205؛ وميزان الاعتدال 1/590؛ ولسان الميزان 2/346-347؛ والجواهر المضية 3/153؛ والفوائد البهية ص69.
2 انظر ترجمته في تاريخ ابن معين 4/356؛ والضعفاء للنسائي ص259؛ =
(1/89)
________________________________________
6 - زفر بضم الزاي وفتح الفاء بن الهذيل بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون الياء المثناة بن قيس العنبري:
قال عنه الذهبي: "الفقيه المجتهد الرباني العلامة ... هو من بحور الفقه، تفقه بأبي حنيفة، وهو أكبر تلامذته، وكان ممن جمع بين العلم والعمل وكان يروي الحديث ويتقنه".
وقال عنه ابن خلكان: "الفقيه الحنفي كان قد جمع بين العلم والعبادة، وكان من أصحاب الحديث، غلب عليه الرأي، وهو أقيس أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.
مات سنة ثمان وخمسين ومائة 1.
7- عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي:
قال عنه الذهبي: "الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي، مولاهم التركي، ثم المروزي الحافظ الغازي أحد الأعلام".
وقال الخطيب: "وكان من الربانيين في العلوم، الموصوفين بالحفظ، ومن المذكورين بالزهد ".
وقال عنه أسود بن سالم: "كان ابن المبارك إماما يقتدى به، وكان من أثبت الناس في السنة. إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام".
__________
= والمجروحين لابن حبان 1/250؛ والجرح والتعديل 3/122؛ والكامل لابن عدي 2/631؛ والميزان 1/5714؛ واللسان 2/334؛ والفوائد البهية ص68.
1 انظر ترجمته في وفيات الأعيان 2/317؛ وسير أعلام النبلاء 8/38؛ وشذرات الذهب 2/243؛ والجواهر المضية 2/207؛ والفوائد البهية ص75.
(1/90)
________________________________________
مات سنة إحدى وثمانين ومائة وهو ابن ثلاث وستين 1.
8- محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني:
قال عنه الذهبي: "العلامة فقيه العراق أبو عبد الله الشيباني الكوفي صاحب أبي حنيفة، ولد بواسط، ونشأ بالكوفة، وأخذ عن أبي حنيفة بعض الفقه، وتمم الفقه على القاضي أبي يوسف ... ولي القضاء للرشيد بعد القاضي أبي يوسف، وكان مع تبحره في الفقه يضرب بذكائه المثل".
وقال عنه الخطيب: "أبو عبد الله الشيباني مولاهم ... صاحب أبي حنيفة وإمام أهل الرأي ... نشأ بالكوفة وطلب العلم وطلب الحديث، وجالس أبا حنيفة وسمع منه ونظر في الرأي فغلب عليه، وعرف به ونفذ فيه، وقدم بغداد فنزلها واختلف إليه الناس، وسمعوا منه الحديث والرأي، وخرج إلى الرَّقّة 2، وهارون أمير المؤمنين بها، فولاه قضاء الرقة، ثم عزله فقدم بغداد، فلما خرج هارون إلى الري3 الخرجة الأولى أمره فخرج معه؛ فمات بالري سنة تسع وثمانين ومائة وهو ابن ثمان وخمسين سنة" 4.
9- نوح بن أبي مريم المروزي أبو عصمة القرشي مولاهم:
__________
1 انظر ترجمته في تاريخ بغداد 10/152؛ وسير أعلام النبلاء 8/378؛ والجواهر المضية 2/324؛ والفوائد البهية ص103.
2 الرقة بفتح أوله وثانيه وتشديده وأصله كل أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماء وجمعها رُقاق، وهي مدينة مشهورة على الفرات معدودة في بلاد الجزيرة لأنها من جانب الفرات الشرقي. معجم البلدان 3/58، 59.
3 الري: بفتح أوله وتشديد ثانيه، وهي مدينة مشهورة بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخا. انظر معجم البلدان 3/116.
4 انظر تاريخ بغداد 2/172؛ وسير أعلام النبلاء 9/134؛ والجواهر المضية 3/22؛ والفوائد البهية ص163.
(1/91)
________________________________________
قال ابن المبارك: "يضع الحديث كما يضع المعلَّى" 1.
وقال عنه أحمد بن حنبل: "كان أبو عصمة يروي أحاديث مناكير وكان شديدا على الجهمية والرد عليهم" 2.
وقال عنه البخاري: "نوح بن أبي مريم ذاهب الحديث جدا" 3.
وقال: "منكر الحديث" 4.
وقال مسلم وغيره: "متروك الحديث" 5.
وقال ابن حبان: "نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق" 6.
وقال عنه اللكنوي: "أبو عصمة المروزي الشهير بالجامع ... وهو وإن كان فقيها جليلا إلا أنه مقدوح فيه عند أهل الحديث" 7.
وقال عنه ابن حجر: "يعرف بالجامع لجمعه العلوم، لكن كذبوه في الحديث" 8.
مات سنة ثلاث وسبعين ومائة 9.
__________
1 التاريخ الصغير 2/165، تحقيق المرغني.
2 العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد 3/437؛ وتهذيب التهذيب 10/487.
3 التاريخ الكبير 8/111؛ وتهذيب التهذيب 10/488.
4 الميزان 4/279.
5 الكنى لمسلم 1/643؛ تحقيق القشقري، والميزان 4/279.
6 تهذيب التهذيب 10/488؛ قلت: ترجم له ابن حبان في المجروحين 3/48؛ 49؛ ولكن لم أجد فيه كلام ابن حبان هذا؟!
7 الفوائد البهية ص221.
8 تقريب التهذيب 2/309.
9 انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 4/279، 280؛ وشذرات الذهب 1/273؛ والجواهر المضية 2/72.
(1/92)
________________________________________
10- يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضي:
قال عنه الخطيب: "القاضي صاحب أبي حنيفة ... سكن بغداد وولاه موسى بن مهدي القضاء بها ثم هارون الرشيد من بعده، وهو أول من سمي قاضي القضاة في الإسلام" 1.
وقال عنه طلحة بن محمد بن جعفر: "أبو يوسف مشهور الأمر ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم والرئاسة والقدر، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض" 2.
وقال عنه اللكنوي: "كان صاحب حديث حافظا. ولزم أبا حنيفة وغلب عليه الرأي، وولي قضاء بغداد فلم يزل بها حتى مات سنة ثلاث وثمانين ومائة في خلافة هارون الرشيد" 3.
4- مكانته العلمية وأقوال العلماء فيه
"أ" مكانته العلمية:
أخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من العلوم الشرعية نصيبا وافرا، وكان له نبوغ في العلوم الشرعية، وكثرة اشتغاله بها، وله قدرة على الإفتاء
__________
1 تاريخ بغداد 14/242.
2 تاريخ بغداد 14/242.
3 الفوائد البهية ص225، وانظر ترجمته في طبقات خليفة بن خياط ص328؛ والجواهر المضية 3/613.
(1/93)
________________________________________
والتدريس وحل المشكلات الدقيقة التي تعرض عليه.
وكان له مع ذلك معرفة ببعض العلوم الأخرى، كعلم الكلام والجدل، وكانت معرفته تلك مرتبطة بنشأته بالكوفة؛ حيث كانت موطنا للنّحل المختلفة، والفرق المتباينة، وإذا كان المجتمع على هذه الشاكلة كثر فيه الجدل والمناظرات حول العقائد.
لذلك انشغل الإمام أبو حنيفة رحمه الله في بداية طلبه للعلم بعلم الكلام حتى برع فيه ونبغ، وبلغ فيه مبلغا يشار إليه بالبنان، وكان به يجادل وعنه يناضل، وكان يرتحل إلى البصرة لمناقشة أصحاب الخصومات.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "كنت رجلا أعطيت جدلا في الكلام، فمضى دهر فيه أتردد، وبه أخاصم وعنه أناضل، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرهم بالبصرة، فدخلت البصرة نيفا وعشرين مرة ... " 1.
وقال قبيصة بن عقبة: "كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله في أول أمره يجادل أهل الأهواء، حتى صار رأساً في ذلك، منظوراً إليه، ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنة وصار إماماً2.
هذه لمحة موجزة عن ثقافته في علم الكلام، حيث كان رأسا فيه، ثم بدا له فتركه، وتحول عنه إلى علم الفقه والسنة. وسوف أعرض منزلته في علمي الفقه والحديث.
أولاـ الفقه:
أراد الله بالإمام خيرا حين ترك علم الكلام والجدل، وأقبل على تعلم
__________
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.
2 عقود الجمان ص161.
(1/94)
________________________________________
الفقه والسنة، فاتصل بالعلماء من محدثين وفقهاء؛ يأخذ عنهم، لذلك رأيناه يلازم حماد بن أبي سليمان ثماني عشرة سنة، وليس معنى ذلك أنه لم يأخذ الفقه إلا عن حماد، بل الثابت أنه اتصل بالكثير من الفقهاء وأخذ عنهم مثل عطاء بن أبي رباح فقيه مكة، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن علي، وجعفر الصادق وغيرهم.
من أجل ذلك نرى الإمام يجيب الخليفة العباسي المنصور لما سأله: يا نعمان عمن أخذت العلم، قال: "عن أصحاب عمر عن عمر، وعن أصحاب علي عن علي، وعن أصحاب عبد الله عن عبد الله، وما كان في وقت ابن عباس على وجه الأرض أعلم منه، قال: لقد استوثقت لنفسك".
وفي رواية أخرى أنه أجاب عن سؤال المنصور بقوله: "عن حماد عن إبراهيم 1، عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، فقال: بخٍ بخٍ استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة الطيبين الطاهرين" 2.
وهؤلاء الشيوخ الأفاضل كانوا أئمة الفقه في عصره، بالإضافة إلى رغبته القوية للتحصيل العلمي، ساعده على ذلك ما فطره الله عليه من الذكاء والفطنة والسجايا الحسنة ـ كالصبر والحلم ـ، وهذه الأمور كلها ساعدت على نبوغه، ففاق أقرانه والكثير من أهل عصره في هذا العلم، فكان الناس عيالا عليه، كما قال الإمام الشافعي: "من أراد أن يعرف
__________
1 هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران الكوفي، قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ فقيه العراق، وقال عنه ابن حجر: "الفقيه ثقة إلا أنه يرسل كثيرا من الخامسة مات سنة 96هـ"، انظر: سير أعلام النبلاء 4/520، وتقريب التهذيب 1/46.
2 تاريخ بغداد 13/334.
(1/95)
________________________________________
الفقه، فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه" 1.
وقال عبد الله بن المبارك: "أبو حنيفة أفقه الناس" 2.
وقال حفص بن غياث: "كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر" 3.
فمن المسائل الفقهية الدقيقة التي عرضت على أبي حنيفة، ما ذكره الصالحي عن وكيع قال: "كنا عند أبي حنيفة فأتته امرأة فقالت: مات أخي وخلف ستمائة دينار، فأعطوني دينارا واحدا، قال: ومن قسم فريضتكم؟ قالت: داود الطائي قال: هو حقك أليس خلف أخوك بنتين؟ قالت: بلى، قال: وأمًّا؟ قالت: بلى، قال: وزوجة؟ قالت: بلى، قال: واثني عشر أخا وأختا واحدة؟ قالت: بلى، قال: فإن للبنات الثلثين أربعمائة، وللأم السدس مائة، وللمرأة الثمن خمسة وسبعين، ويبقى خمسة وعشرون؛ للإخوة أربعة وعشرون لكل أخ ديناران، ولك دينار" 4.
لذا قال الذهبي في فقه أبي حنيفة: "الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه ـ ثم استشهد بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل 5
فكلام هؤلاء الأئمة في تقدير فقه الإمام أبي حنيفة ليس فيه مبالغة؛ فأثر فقه الإمام واضح على تلاميذه، وعلى من جاء بعدهم، فالمنتسبون إلى
__________
1 تاريخ بغداد 13/346.
2 سير أعلام النبلاء 6/403.
3 سير أعلام النبلاء 6/403.
4 عقود الجمان ص261.
5 سير أعلام النبلاء 6/403.
(1/96)
________________________________________
مذهبه في زماننا هذا جمع غفير من أمة الإسلام. ومما ساعد على انتشار مذهبه أن قيض الله لأبي حنيفة تلامذة نشروا المذهب، تأليفا 1 وتدريسا وإفتاءً.
ثم إن من هؤلاء من تولى القضاء 2، فصار سببا في شيوع مذهب أبي
__________
1 أول من دوّن الكتب من تلامذة أبي حنيفة تلميذه الأكبر أبو يوسف. قال اللكنوي في الفوائد ص225: "كان أبو يوسف هو المقدم من أصحاب الإمام وأول من وضع الكتب على أبي حنيفة وأملى المسائل ونشرها وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض"، وذكر ابن النديم في الفهرست ص256 أسماء بعض مؤلفات أبي يوسف ككتاب الصلاة، والزكاة، والصيام، والفرائض والبيوع، والحدود والوكالة، والوصايا، والصيد والذبائح، والغصب والاستبراء واختلاف الأمصار، والرد على مالك بن أنس، ورسالته في الخراج وكتاب الجوامع ولم يصل إلينا من هذه الكتب إلا رسالته التي كتبها في الخراج وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ومن الذين دونوا الكتب من تلامذة الإمام أبي حنيفة زفر ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو بن الفرات وغيرهم..قال الطحاوي كما في الفوائد البهية ص224، كان أصحاب أبي حنيفة الذين دوّنوا الكتب أربعين رجلا فكان في العشرة المتقدمين أبو يوسف وزفر ومحمد وداود الطائي وأسد بن عمرو ويوسف بن خالد ويحيى بن زكريا".
ولم يصل إلينا من مؤلفات هؤلاء إلا بعض كتب محمد بن الحسن كالجامع الصغير والجامع الكبير والسير الصغير والسير الكبير وكتاب الآثار وكتاب الحجة على أهل المدينة، فمن هذه الكتب وغيرها أخذت الحنفية مذهب أبي حنيفة.
2 الذين تولوا القضاء من تلامذة الإمام كثير وهم على سبيل المثال لا الحصر:
1- حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي ولاه هارون الرشيد قضاء بغداد وكذا تولى قضاء الكوفة. انظر الجواهر المضية 1/138، والفوائد البهية ص68. =
(1/97)
________________________________________
حنيفة في القرون الأولى.
قال عبد الحي اللكنوي: "وكان أشهر أصحابه أبو يوسف؛ تولى قضاء القضاة زمن هارون الرشيد؛ فكان سببا لشيوع مذهبه في أقطار العراق وبلاد ما وراء النهر" 1.
__________
= 2- حفص بن عبد الرحمن البلخي: تولى قضاء نيسابور. انظر الجواهر المضية 2/137.
3- أسد بن عمرو بن عامر القشيري البجلي الكوفي: تولى قضاء بغداد وواسط. انظر الفوائد البهية ص44.
4- الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي: تولى قضاء الكوفة. انظر الفوائد البهية ص60.
5- زفر بن الهذيل: تولى قضاء البصرة في زمن أبي حنيفة. انظر الانتقاء ص173.
6- علي بن ضبيان الكوفي: تولى قضاء الشرقية ثم ولي قضاء القضاة أيام الرشيد. انظر الجواهر المضية 2/573.
7- يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الكوفي: تولى قضاء المدينة. انظر الفوائد البهية ص45.
8- يحيى بن زكريا: ولي القضاء بعد أبي يوسف. انظر الفوائد البهية ص45.
9- محمد بن الحسن الشيباني: تولى قضاء الرقة. انظر الانتقاء ص175.
10- نوح بن درج القاضي: تولى قضاء الكوفة. انظر الجواهر المضية 3/562.
11- نوح بن أبي مريم: تولى قضاء مرو. انظر الفوائد البهية ص222.
12- أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم: تولى القضاء لثلاثة من خلفاء بني العباس المهدي والهادي والرشيد. انظر الانتقاء ص173.
1 النافع الكبير مقدمة الجامع الصغير ص7، وراجع حجة الله 1/152، والتنكيل 1/259-261.
(1/98)
________________________________________
ثم انتشر المذهب شيئا فشيئا حتى غطى رقعة كبيرة من الأراضي الإسلامية.
قال ابن خلدون: "وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق، ومسلمة الهند والصين، وما وراء النهر وبلاد العجم كلها" 1.
قلت: هذا في زمن ابن خلدون أي في القرن الثامن، وأما الذي ساعد على بقائه من زمنه إلى الآن تطبيق الدولة العثمانية لمذهب أبي حنيفة في جميع الولايات الإسلامية التي كانت تحت سلطانها، وقد بقيت بعض البلاد العربية ـ كالشام ومصر وغيرهما ـ تعمل محاكمها الشرعية ـ الخاصة بالأحوال الشخصية ـ وفق مذهب أبي حنيفة بعد انحسار الحكم العثماني. هذه منزلة أبي حنيفة في الفقه، وأما في الحديث فسأتناولها في الفقرة الآتية.
ثانيا ـ الحديث:
اشتغل الإمام بطلب علم الحديث بعد سنة مائة للهجرة 2، فسمع الحديث من شيوخ أجلاّء كثيرين تقدم ذكر بعضهم 3، وارتحل في سبيل ذلك 4 ... ومع هذا فهو مقل في رواية الحديث ولعل السبب في ذلك تشدده في الرواية فهو لا يرى الرواية إلا لمن يحفظ. قال ابن الصلاح: "شدد قوم في الرواية فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرّطوا ومن التشدد
__________
1 المقدمة 3/1052.
2 سير أعلام النبلاء 6/396.
3 انظر ص73 من هذه الرسالة.
4 سير أعلام النبلاء 6/396.
(1/99)
________________________________________
مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه، وذلك مروي عن مالك وأبي حنيفة" 1.
وذكر الصالحي سببا آخر، وهو انشغال الإمام أبي حنيفة باستنباط المسائل من الأدلة. يقول: "وإنما قلت الرواية عنه ... لاشتغاله عن الرواية باستنباط المسائل من الأدلة كما كان أجلاء الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهما يشتغلون بالعمل عن الرواية، حتى قلت رواياتهم بالنسبة إلى كثرة اطلاعهم، وكثرة رواية من دونهم بالنسبة إليهم فيما سمع وكذا الإمام مالك والشافعي لم يرويا إلا القليل بالنسبة إلى ما سمعا كل ذلك لاشتغالهما باستخراج المسائل من الأدلة ... " 2.
وأعتقد ـ والله أعلم ـ أنه لا يوجد للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى تأليف في الحديث، وإنما هناك مسانيد 3 ألفت بعد وفاته وليست من
__________
1 علوم الحديث 185-186، ومع التقييد والإيضاح ص185، والانتقاء 139.
2 عقود الجمان ص319، 320.
3 جمع مسانيد الإمام بعض أهل العلم من الحنفية منهم:
"أ" عبد الله بن يعقوب بن الحارث الحارثي الحنفي المعروف بالأستاذ "340هـ"، وهو مسند كبير ثم اختصره صدر الدين موسى بن زكريا الحصكفي الحنفي وشرحه الملا على القاري وهو مطبوع، ثم قام بترتيبه على أبواب الفقه العلامة المحدث محمد بن عابد السندي وهو أيضا مطبوع، ثم تولى شرحه محمد بن حسن السمبلي الحنفي الهندي وسماه تنسيق النظام في مسند الإمام وهو مطبوع أيضا، والحارثي هذا كذاب يضع الحديث. راجع الميزان 2/296، واللسان 3/349.
"ب" ومحمد بن محمود الخوارزمي المتوفى سنة 655هـ، وسماه جامع المسانيد وهو مطبوع في مجلدين جمع فيه خمسة عشر مسندا منها مسند الحارثي المذكور آنفا وكان سبب تأليفه لهذا المسند أنه سمع بعض أهل الشام نسب إلى الإمام أبي حنيفة قلة الرواية في الحديث قال: "فلحقتني حمية دينية ربانية =
(1/100)
________________________________________
تأليفه 1، كما قال الشاه عبد العزيز 2 الدهلوي الحنفي، بل جمعها الجامعون بعد أزمنة متطاولة والسنة كثيرة متناولة. قال المعلمي: "غالب الجامعين لتلك المسانيد متأخرون، وجماعة منهم متهمون بالكذب، ومن لم يكن منهم متهما يكثر أن يكون في أسانيده إلى أبي حنيفة من لا يعتد بروايته" 3.
ويظهر من كلام الشاه ولي الله أن هذه المسانيد ساقطة عن مرتبة الاحتجاج؛ إذ أوردها في الطبقة الرابعة من طبقات الحديث، فقد قال: "وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفا محتملا، وأسوؤها ما كان موضوعا، أو مقلوبا شديد النكارة، وهذه الطبقة مادة كتاب الموضوعات لابن الجوزي" 4.
ولذا قال ابن حجر: "قوله 5 وكذلك مسند أبي حنيفة توهم أنه جمع أبي حنيفة، وليس كذلك. والموجود من حديث أبي حنيفة مفردا إنما هو كتاب الآثار التي رواها محمد بن الحسن عنه، ويوجد في تصانيف
= وعصبية حنفية نعمانية" جامع المسانيد 1/504، وهذه شهادة من الرجل على نفسه بالتعصب وليست العصبية المذهبية بمحمودة بل هي مذمومة في الدين.
__________
1 بستان المحدثين ص50، ط/ الباكستانية.
2 هو عبد العزيز بن الشاه ولي الله الدهلوي الملقب بسراج الهند ولد عام تسعة وخمسين ومائة وألف، وتوفي سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف من مؤلفاته كتاب بستان المحدثين وكتاب تحفة الإثني عشرية وله تفسير في القرآن سماه بفتح العزيز وهو في مجلدات كبار ضاع معظمها في ثورة الهند.
انظر ترجمته في نزهة الخواطر 7/275، 283، أبجد العلوم 3/244.
3 التنكيل 1/214، وانظر مثل هذا الكلام في تنسيق النظام ص3-7.
4 حجة الله البالغة 1/135، وانظر الحطة ص121، وقواعد الحديث ص251.
5 يعني الحافظ محمد بن علي بن حمزة الحسيني الدمشقي.
(1/101)
________________________________________
محمد بن الحسن وأبي يوسف قبله من حديث أبي حنيفة أشياء أخرى" 1.
وكذلك ليس للإمام مؤلف في الجرح والتعديل، وإنما له أقوال مبثوثة تلقاها عنه علماء هذا الفن بالقبول وعملوا بها من ذلك.
1- قول أبي حنيفة: "ما رأيت أكذب من جابر الجعفي 2، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح" 3.
2- وقول أبي حنيفة: "طلق بن حبيب 4 كان يرى القدر" 5.
3- وقول أبي حنيفة: "زيد بن عياش 6 مجهول" 7.
4- وسئل أبو حنيفة عن الأخذ عن الثوري، فقال لمن سأله: "اكتب عنه فإنه ثقة، ما خلا أحاديث أبي إسحاق عن الحريث وحديث جابر الجعفي" 8.
__________
1 تعجيل المنفعة ص5.
2 هو جابر بن يزيد الجعفي أبو عبد الله الكوفي مات سنة 128، انظر ترجمته في التاريخ الكبير 2/210، والمجروحين 1/208، 209.
3 العلل للترمذي، ضمن سنن الترمذي ص741، المجروحين لابن حبان 1/209، شرح علل الترمذي ص64.
4 هو طلق بن حبيب العنزي البصري، قال عنه ابن حجر: "صدوق عابد رمي بالإرجاء". من الثالثة، مات بعد التسعين. تقرب التهذيب 1/380، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 5/31.
5 الطبقات السنية 1/97.
6 هو زيد بن عياش بتحتانية ومعجم أبو عياش المدني قال عنه ابن حجر: "صدوق من الثالثة". تقريب التهذيب 1/276، وانظر ترجمة تهذيب التهذيب 3/365 ط/ دار الفكر.
7 تهذيب التهذيب 3/366 ط/دار الفكر.
8 الطبقات السنية 1/97.
(1/102)
________________________________________
5- وقول سفيان بن عيينة: "أول من أقعدني للحديث بالكوفة أبو حنيفة أقعدني في الجامع، وقال: هذا أقعد الناس بحديث عمرو بن دينار؛ فحدثتهم" 1.
وكذا له أقوال وآراء في أصول الحديث، كانت موضع عناية علماء الحديث واهتمامهم، وهي مبثوثة في كتب المصطلح، من ذلك على سبيل المثال:
1- شرط أبي حنيفة في رواية الحديث:
قال ابن الصلاح: " شدد قوم في الرواية فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرّطوا ومن التشديد مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه، وذلك مروي عن مالك وأبي حنيفة" 2.
2- رأي أبي حنيفة في رواية المبتدع:
روى الخطيب بإسناده، عن عمر بن إبراهيم، قال: "سمعت ابن المبارك يقول: سأل أبو عصمة الإمام أبا حنيفة بمن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقائدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعا، أما إني لا أقول إنهم يكذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغي، ولكن وطأوا لهم حتى انقادت العامة بهم، فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين" 3.
3- رأي أبي حنيفة في رواية المستور:
قال السرخسي: "روى الحسن عن أبي حنيفة أنه ـ أي مستور ـ
__________
1 الانتقاء ص128.
2 علوم الحديث 185-186، ومع التقييد والإيضاح ص185.
3 الكفاية ص203، تقديم محمد التيجاني، ط/ دار التراث العربي.
(1/103)
________________________________________
بمنزلة العدل في رواية الأخبار؛ لثبوت العدالة له ظاهرا بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عدول بعضهم على بعض" 1 ... " 2.
4 - رأي أبي حنيفة بالاحتجاج بالمرسل:
قال النووي: "ثم المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدثين، والشافعي، وكثير من الفقهاء، وأصحاب الأصول، وقال مالك وأبو حنيفة في طائفة صحيح" 3.
5- رأي أبي حنيفة في المناولة:
ذكر الحاكم وابن الصلاح عدة من الأئمة، فيهم الإمام أبو حنيفة، وذكر أنهم لم يروا المناولة سماعا4.
وأما الاحتجاج بحديث الإمام أبي حنيفة؛ فقد اختلف نقاد الحديث في ذلك.
فمنهم 5 من قبل حديثه ورأى أنه حجة فيما يرويه.
__________
1 ليس هذا حديثا مرفوعا بل هو أثر عمر أخرجه الدارقطني في سننه كتاب الأقضية والأحكام كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى 4/206، 207 من طريق عبد الله بن أبي حميد عن أبي الملُليح، والبيهقي في السنن: كتاب آداب القاضي باب إنصاف الخصمين 10/155، 156 من طريق سفيان بن عيينة عن إدريس الأودي عن سعيد بن أبي بردة، وأورده الألباني في إرواء الغليل 8/241، 258، وقال عنه: صحيح.
2 أصول السرخسي 1/370.
3 التقريب مع شرحه، تدريب الراوي 1/198، تحقيق عبد الوهاب.
4 معرفة علوم الحديث ص259، 260، وعلوم الحديث ص148، وانظر التقييد والإيضاح ص161، 162.
5 كيحيى بن معين وعلي بن المديني وشعبة بن الحجاج.
جامع بيان العلم وفضله 2/149، والانتقاء ص127.
(1/104)
________________________________________
ومنهم 1 من ضعفه، ولم يحتج بحديثه، وقالوا لكثرة غلطه وعدم ضبطه.
قال الذهبي: "لم يصرف الإمام همته لضبط الألفاظ والأسانيد، وإنما كانت همته القرآن والفقه، وكذلك حال كل من أقبل على فن؛ فإنه يقصر عن غيره، من ثم ليَّنوا حديث جماعة من أئمة القراء كحفص وقالون، وحديث جماعة من الزهاد كفرقد السبخي 2 وشقيق البلخي 3، وحديث جماعة من النحاة، وما ذاك لضعف في عدالة الرجل؛ بل لقلة إتقانه للحديث ثم هو أنبل من أن يكذب"4.
فهو قد اشتغل بالفقه أو النحو أو القرآن، ولم ينصب نفسه للتحديث وضبط الألفاظ والأسانيد 5. كان ذلك النقد الذي وجه للإمام
__________
1 كالبخاري ومسلم وابن سعد والنسائي وابن حبان وابن عدي.
انظر التاريخ الكبير 8/81، والكنى والأسماء 1/276، والطبقات الكبرى 6/369، وكتاب الضعفاء والمتروكين ص233، والمجروحين 3/63، والكامل في الضعفاء 7/2472-2479.
2 هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح المهملة والموحدة وبخاء معجمة أبو يعقوب البصري قال عنه ابن حجر: "صدوق عابد لكنه لين الحديث كثير الخطأ من الخامسة مات سنة إحدى وثلاثين ومائة".
تقريب التهذيب 2/108؛ وتهيب التهذيب 8/262، 263.
3 هو شقيق البلخي قال عنه الذهبي ثم ابن حجر: "كان من كبار الزهاد منكر الحديث ... وكان من كبار المجاهدين رحمه الله تعالى استشهد سنة أربع وتسعين ومائة ولا يتصور أن يحكم عليه بالضعف، لأن نكارة تلك الأحاديث من جهة الراوي عنه وهو شفيق بن إبراهيم أبو علي". الميزان 2/279، واللسان 3/151-152.
4 مناقب أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي ص28.
5 وكذا من المحدثين من يُعنى بضبط المتون فيخطئ بالأسانيد، ومنهم من يعنى بضبط الأسانيد فيخطئ في المتون. قال الدارقطني في العلل: "كان شعبة =
(1/105)
________________________________________
وجعلوا ذلك قاعدة كلية للجرح.
قال ابن رجب: "قاعدة الفقهاء المعتنين بالرأي، حتى يغلب عليهم الاشتغال به، لا يكادون يحفظون الحديث كما ينبغي، ولا يقيمون أسانيده ولا متونه، ويخطئون في حفظ الأسانيد كثيرا ويروون المتون بالمعنى، ويخالفون الحفاظ في ألفاظه، ربما يأتون بألفاظ تشبه ألفاظ الفقهاء المتداولة بينهم، وقد اختصر شريك حديث رافع بن خديج في المزارعة، فأتى فيه بعبارة أخرى فقال: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته" 1.
__________
= يخطئ في أسماء الرجال لتشاغله بحفظ المتون"، كما قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 4/302، ولم أجده في المطبوع من العلل.
1 هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه: أحمد 4/141، وأبو داود: كتاب البيوع باب زرع الأرض بغير إذن صاحبها 3/692 ح3403، والترمذي: كتاب الأحكام باب ما جاء فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم 3/639 ح1366، وابن ماجه: كتاب الرهون باب من زرع في أرض قوم بغير إذنهم 2/824 ح2466.
جميعهم من طريق عطاء بن رافع بن خديج.
قال الخطابي: "هذا الحديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث، وحدثني الحسن بن يحيى عن موسى بن هارون الحمال: أنه كان ينكر هذا الحديث ويضعفه ويقول: لم يروه عن أبي إسحاق غير شريك، ولا عن عطاء غير أبي إسحاق..وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئا وضعفه البخاري أيضا، وقال: وتفرد بذلك شريك عن أبي إسحاق وشريك يهم كثيرا أو أحيانا".
قلت: حديث المزارعة المروي عن رافع بن خديج له طرق عنه منها رواية ابن عمر عنه وفيها أن أبا جعفر الخطمي قال: بعثني عمي أنا وغلاما له إلى سعيد بن المسيب قال فقلنا له: شيء بلغنا عنك في المزارعة قال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث، فأتاه فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة فرأى زرعا في أرض ظهير قالوا: ليس لظهير، قال: أليست أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان، قال: فخذوا زرعكم =
(1/106)
________________________________________
هذا يشبه كلام الفقهاء ... ثم قال: وكذلك فقهاء الكوفة، ورأسهم حماد بن أبي سليمان وأصحابه وأتباعهم، وكذلك الحكم بن عتيبة، وعبد الله بن نافع الصائغ صاحب مالك وغيرهم" 1.
هذه لمحة موجزة عن ثقافته الحديثية، ومكانته العلمية. وأما أقوال العلماء فيه فسأتناولها في الفقرة التالية إن شاء الله تعالى.
"ب" أقوال العلماء فيه:
الذين أثنوا على الإمام في علمه وفقهه وورعه وزهده كثيرون، منهم:
__________
1- الفضيل بن عياض، فقد روى عنه الخطيب قوله: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها، معروفا بالفقه مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالإفضال على كل من يطيف به، صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد مسألة في الحلال والحرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من السلطان" 2.
2- ابن جريج، فقد روى عنه الصيمري قوله: "بلغني عن النعمان
وردوا عليه النفقة، قال رافع فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة.
أخرجه أبو داود: كتاب البيوع والإجارات باب في التشديد في ذلك 3/690 ح339 من طريق أبي جعفر الخطمي عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر. قال الألباني في الإرواء 5/353: "فهذا الإسناد صحيح لا علة فيه".
ومراد ابن رجب أن شريكا لم يحفظ الحديث تاما ولم يقم لفظه وإنما اختصره فأتى بعبارة أخرى لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم.
1 شرح علل الترمذي ص373، تحقيق صبحي السامرائي.
2 تاريخ بغداد 13/340.
(1/107)
________________________________________
فقيه الكوفة أنه شديد الورع، صائن لدينه ولعلمه، ولا يؤثر أهل الدنيا على أهل الآخرة" 1.
3- أحمد بن حنبل، فقد نقل عنه الصالحي قوله: "هو من العلم والورع والزهد وإيثار الدار الآخرة بمحل، ولقد ضرب بالسياط على أن يلي القضاء لأبي جعفر المنصور فلم يفعل، فرحمة الله عليه" 2.
4- شعبة بن الحجاج العتكي، فقد قال عنه لما علم بوفاته: "لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله علينا وعليه برحمته" 3.
5- إسرائيل بن يونس، فقد روى عنه الخطيب قوله: "كان نعم الرجل النعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه وأشد فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه، وكان قد ضبط عن حماد فأحسن الضبط عنه" 4.
6- الحسن بن صالح، فقد نقل عنه ابن عبد البر قوله: "كان النعمان بن ثابت فهما عالما متثبتا في علمه، إذا صحّ الخبر عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يعده إلى غيره" 5.
7- أبو داود السجستاني، فقد نقل عنه ابن عبد البر قوله: "رحم الله مالكا كان إماما، رحم الله الشافعي كان إماما، رحم الله أبا حنيفة كان إماما" 6.
__________
1 أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص32، 33.
2 عقود الجمان ص193.
3 الانتقاء ص126.
4 تاريخ بغداد 13/339.
5 الانتقاء ص128.
6 الانتقاء ص32.
(1/108)
________________________________________
8- ابن عبد البر: فقد قال عنه: "كان في الفقه إماما، حسن الرأي والقياس، لطيف الاستخراج جيد الذهن، حاضر الفهم، ذكيا ورعا عاقلا" 1.
9- أبو الحجاج المزي، قال عنه: "فقيه العراق، وإمام أصحاب الرأي" 2.
10- شيخ الإسلام ابن تيمية، قال عنه: "إن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء، وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه" 3.
11- الذهبي، قال عنه: "كان إماما ورعا عالما متعبدا كبير الشأن، لا يقبل جوائز السلطان" 4.
ورغم ثنائهم عليه في سعة علمه وفقهه وورعه ومجانبته السلاطين، فقد عاب عليه بعض العلماء كلاما بلغهم عنه في الإيمان، وتكلموا فيه من أجلها، كقوله إن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان 5، ومن هنا كان اتهام أبي حنيفة بالإرجاء.
قال ابن عبد البر: "كل من قال من أهل السنة: الإيمان قول وعمل؛ ينكرون قوله، ويبدعونه بذلك"6.
__________
1 الاستغناء 1/572.
2 تهذيب الكمال 3/1415.
3 منهاج السنة 2/619.
4 تذكرة الحفاظ 1/168.
5 الوصية مع شرحها ص2، والفقه الأكبر ص304، وسيأتي ذكر أقوال الإمام في مسمى الإيمان بتفصيل في الفصل الأول من الباب الثالث.
6 الانتقاء ص149.
(1/109)
________________________________________
ولا شك أن هذا القول خلاف مذهب السلف، لكنه إرجاء مقيد لا يصل إلى الإرجاء الخالص المطلق الذي يزعم أصحابه أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فبرغم موافقته لهؤلاء في عدم إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، لكنه يختلف معهم اختلافا جذريا؛ فهم يرون أنه لا تضر مع الإيمان معصية 1، وهو يرى أن مرتكب الذَّنب مستحق للعقاب، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في رده هذا المذهب الخبيث: "ولا نقول إن المؤمن لا تضره الذنوب، ولا نقول إنه لا يدخل النار ... ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة" 2.
فالمقصود أنه لا يجوز لنا أن نصف الإمام بالإرجاء المطلق الذي لا يقول به مسلم.
قال صاحب كتاب الإيمان بين السلف والمتكلمين: "وأبو حنيفة وإن خالف السلف بتأخيره العمل عن ركنيه في الإيمان، فإنه لم يدع برأيه هذا أرباب الشهوات لإشباع شهواتهم، وتحقيق رغباتهم باللعب بالمحظورات، وانتهاك أستار الشريعة الإسلامية الغراء، كما فعل المرجئة الذين رفعوا اللوم عن العصاة، وفتحوا لهم الطريق إلى هتك محارم الله دون خشية من عقاب الله تعالى، إذ أنّ الإنسان في حل مما يفعل، فلا تثريب عليه أبدا إذا هو اتصف بالإيمان، الذي هو عبارة عن التصديق عندهم فحسب.
وأبو حنيفة حاشاه أن يقول بهذا القول، أو يقف ذلك الموقف، فلا
__________
1 الفقه الأكبر ص304.
2 انظر تاريخ بغداد 6/109.
(1/110)
________________________________________
يجوز لنا أن نصفه بالإرجاء المطلق، لأن الإرجاء الذي يتبادر إلى الذهن هو ذلك القول الذي لا يقول به مسلم أبدا" 1.
ومع هذا فإن أبا حنيفة لم يختص بهذا المذهب وحده، بل إنه مذهب لبعض أهل العلم 2 ممن اشتغلوا بعلم الحديث وروايته، بل إن منهم من روى له الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ في صحيحيهما.
قال صاحب كتاب إيثار الحق على الخلق: "وفي كتب الرجال نسب الإرجاء إلى جماعة من رجال البخاري ومسلم وغيرهما من الثقات الرفعاء؛ منهم ذر 3 بن عبد الله الهمداني أبو عمر التابعي، حديثه في كتب الجماعة كلهم. وقال أحمد: هو أول من تكلم في الإرجاء.
وأيوب بن عائذ الطائي 4، حديثه عند "خ، م، ت، د"، وسالم بن عجلان الأفطس 5 حديثه في "خ، د، س، ق"، وكان داعية إلى الإرجاء.
__________
1 كتاب الإيمان بين السلف والمتكلمين ص91.
2 وفي هذا يقول ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/148 ط/ دار الكتب العلمية: "ونقموا أيضا على أبي حنيفة الإرجاء. ومن أهل العلم من ينتسب إلى الإرجاء كثير، لم يعن أحد بنقل قبيح ما قيل فيهم كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته، وكان أيضا مع هذا يحسد وينسب إليه ما ليس فيه ويختلق عليه ما لا يليق" وبمثل هذا قال شيخ الإسلام. انظر منهاج السنة 2/619.
3 هو ذر بن عبد الله بن زرارة المرهبي الهمداني أبو عمر الكوفي، قال عنه ابن حجر: "ثقة عابد رمي بالإرجاء من السادسة مات قبل المائة".
تقريب التهذيب 1/238، وتهذيب التهذيب 1/406.
4 هو أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي البحتري بضم الموحدة وسكون المهملة وضم المثناة الكوفي قال عنه ابن حجر: "رمي بالإرجاء من السادسة".
تقريب التهذيب 1/90؛ وتهذيب التهذيب 1/406.
5 هو سالم بن عجلان الأفطس الأموي مولاهم أبو محمد الحراني قال عنه =
(1/111)
________________________________________
وشبابة بن سوار أبو عمرو المدائني 1، وكان داعية وقيل: إنه رجع عنه.
وابن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني الكوفي 2، حديثه عند "خ، م، ت، ق" وكان داعية إلى ذلك.
وعثمان بن غياث الراسبي البصري 3، حديثه عند "خ، م، د، س" وعمرو بن ذر الهمداني الكوفي من كبار الزهاد والحفاظ، كان رأسا في الإرجاء، حديثه في "خ، د،ت، س".
وعمرو بن مرة الجملي 4، أحد الأثبات من كبار التابعين، حديثه عند الجماعة كلهم.
__________
= ابن حجر: "ثقة رمي بالإرجاء من السادسة قتل صبرا سنة اثنتين وثلاثين ومائة".
تقريب التهذيب 1/281؛ وتهذيب التهذيب 3/441
1 هو شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان قال عنه ابن حجر: "قال كان اسمه مروان مولى بني فزارة ثقة حافظ رمي بالإرجاء من التاسعة مات سنة أربع أو خمس أو ست ومائتين".
حديثه في الكتب الستة، انظر تقريب التهذيب 1/345.
2 هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم أبو يحيى الكوفي قال عنه ابن حجر: "صدوق يخطئ ورمي بالإرجاء من التاسعة مات سنة اثنتين ومائتين".
تقريب التهذيب 1/469؛ وتهذيب التهذيب 6/120.
3 هو عثمان بن غياث الراسبي أو الزهراني البصري قال عنه ابن حجر: "ثقة رمي بالإرجاء من السادسة".
تقريب التهذيب 2/13؛ وتهذيب التهذيب 7/146.
4 هو عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي بفتح الجيم والميم المرادي أبو عبد الله الكوفي الأعمى. قال عنه ابن حجر: "ثقة عابد كان لا يدلس ورمي بالإرجاء من الخامسة مات سنة ثماني عشرة ومائة وقيل قبلها".
تقريب التهذيب 2/78؛ وتهذيب التهذيب 8/102.
(1/112)
________________________________________
وإبراهيم بن طهمان الخراساني1، أحد الأئمة، حديثه عندهم، وقيل رجع عن الإرجاء.
ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير 2، أثبت أصحاب الأعمش حديثه عندهم، وورقاء بن عمرو الكوفي اليشكري 3 حديثه عندهم.
ويحيى بن صالح الوحاظي 4 حديث عند "خ، م، ت، د، ق"، وعبد العزيز بن أبي روّاد 5 خرّج له الأربعة واستشهد به البخاري.
__________
1 هو إبراهيم بن طهمان الخراساني أبو سعيد، سكن نيسابور ثم مكة. قال عنه ابن حجر: "ثقة يغرب، تكلم في الإرجاء ويقال رجع عنه من السابعة مات سنة ثمان وستين ومائة".
تقريب التهذيب 1/36؛ وتهذيب التهذيب 1/129.
2 هو محمد بن خازم أبو معاوية الضرير الكوفي عمي وهو صغير، قال عنه ابن حجر: "ثقة أحفظ الناس بحديث الأعمش قد يهم في حديث غيره من كبار التاسعة مات سنة خمس وتسعين ومائة وله اثنتن وثمانون سنة وقد رمي بالإرجاء".
تقريب التهذيب 157، وتهذيب التهذيب 11/137.
3 هو ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن قال عنه ابن حجر: "صدوق في حديثه عن منصور لين من السابعة".
تقريب التهذيب 2/330، وتهذيب التهذيب 11/113.
4 هو يحيى بن صالح الوحاظي بضم الواو وتخفيف المهملة ثم المعجمة الحصي قال عنه ابن حجر: "صدوق من أهل الرأي من صغار التاسعة مات سنة اثنتين وعشرين ومات وقد جاوز التسعين".
تقريب التهذيب 2/349، وتهذيب التهذيب 11/229.
5 هو عبد العزيز بن أبي روّاد بفتح الراء وتشديد الواو، قال عنه ابن حجر: "صدوق عابد وربما وهم ورمي بالإرجاء من السابعة مات سنة تسع وخمسين ومائة".
تقريب التهذيب 1/509؛ وتهذيب التهذيب 6/338.
(1/113)
________________________________________
فهؤلاء ممن ذكرهم ابن حجر في مقدمته لـ "شرح البخاري" 1 هذا وقد قيل: إن أبا حنيفة رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان. قال ابن أبي العز الحنفي:
"والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنفية. وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث "أي الإسلام أفضل ... " 2 قال له: ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل، قال: الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيف.
قال: بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" 3.
وبالجملة فهذه القصة على اعتبار صحتها، تشعر بأنه قد رجع، واتبع ما جاء به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به رحمه الله تعالى، فكيف لا وهو القائل: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" 4. وإن لم يكن رجع عن قوله في الإيمان، فعفا الله عنا وعنه وغفر الله له.
__________
1 هدي الساري ص459، 460؛ وإيثار الحق على الخلق ص405، 406.
2 أخرجه أحمد في المسند 4/144، وعبد الرزاق في المصنف 11/127، كلاهما من طريق أبي قدامة عن عمرو بن عتبة، ورواه الهيثمي في المجمع 1/59 وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات".
3 شرح الطحاوية ص395، وانظر التمهيد لابن عبد البر 9/247.
4 حاشية ابن عابدين 1/67، ورسم المفتي ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 1/4.
(1/114)
________________________________________
المبحث الثالث: دراسة موجزة لمؤلفاته في أصول الدين
ينسب إلى الإمام أبي حنيفة الكتب التالية:
1- الفقه الأكبر برواية حماد بن أبي حنيفة.
2- الفقه الأكبر برواية أبي مطيع البلخي، ويسمى بالفقه الأبسط.
3- العالم والمتعلم برواية أبي مقاتل السمرقندي.
4- رسالة الإمام أبي حنيفة إلى عثمان البتي برواية أبي يوسف.
5- الوصية برواية أبي يوسف.
وإليك التعريف بكل كتاب، مع بيان نسبته 1 إلى مؤلفه لنستخرج
__________
1 ممن تكلم في نسبة هذه الكتب إلى الإمام أبي حنيفة من الكتّاب المعاصرين كارل بروكلمان، فقد نفى نسبة هذه الكتب كلها إلى أبي حنيفة، وتبعه على ذلك فؤاد سزكين، حيث يرى أن هذه الكتب من عمل تلامذة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى سوى رسالته إلى عثمان البتي، فإنها من عمل يده، أما أرنذجان ونسنك فقد نفى صحة كتاب الفقه الأكبر وصحح نسبة الفقه الأبسط إليه، وتابعه محمد أبو زهرة في التشكيك في نسبة الفقه الأكبر إلى الإمام أبي حنيفة، أما أحمد أمين فيرى أن الفقه الأكبر الذي بين أيدينا أساسه صحيح النسبة إلى أبي حنيفة وأنه زيد عليه.
انظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 3/237؛ وتاريخ التراث لفؤاد سزكين 2/31-32؛ وعقيدة الإسلام ص116، 123، وكتاب "أبو حنيفة وآراؤه =
(1/115)
________________________________________
منه النتيجة، وهل هي صحيحة النسبة إلى أبي حنيفة، أمن هي باطلة غير صحيحة:
1- الفقة الأكبر برواية حماد بن أبي حنيفة
وهي رسالة تشتمل على أصول الدين، كمسائل الصفات والإيمان والقدر والنبوة والمعاد، بعبارة سهلة وجيزة، من غير أدلة تفصيلية إلا في موضعين:
الأول في صفة الكلام؛ حيث استدل بقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "سورة النساء: الآية164".
والثاني في بيان أن صفاته ليست مثل صفات المخلوقين، فاستدل بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".
ونالت هذه الرسالة شهرة واسعة، وتصدى لشرحها غير واحد من أهل العلم، حتى بلغ عدد شروحها خمسة عشر شرحا 1، لا زال كثير منها مخطوطا ما عدا شرحي علي القاري والمغيساوي فهما مطبوعان.
من ذكر هذا المؤلف من المصنفين:
1- ابن النديم في الفهرست ص256.
2- البغدادي في الفرق بين الفرق ص220، وأصول الدين ص308.
3- أبو المظفر الإسفراييني في كتاب التبصير في الدين ص113-114.
__________
= الفقهية" لأبي زهرة ص186، 187؛ وضحى الإسلام لأحمد أمين 2/198.
1 انظر أسماء هذه الشروح في كشف الظنون 2/1287؛ وشرح الإحياء للزبيدي 2/3؛ تاريخ الأدب العربي 3/237؛ وتاريخ التراث 2/31.
(1/116)
________________________________________
4- علي بن محمد البزدوي في كتاب أصول البزدوي كما في كشف الأسرار في شرح أصول البزدوي 1/7، 8.
5- ابن تيمية في مجموع الفتاوى 5/46.
6- ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص138.
7- الذهبي في المشتبه 1/137.
8- ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية ص3.
9- إسماعيل البغدادي في هداية العارفين 2/495.
10- الحاجي خليفة في كشف الظنون 2/1287.
11- محمود شكري الألوسي في غاية الأماني 1/448.
دراسة إسناد هذا المؤلف:
وقفت على إسناد هذا المؤلف في نسخة خطية محفوظة ضمن المجموعة رقم 234 بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، وهي من رواية نصر بن يحيى، عن ابن مقاتل، عن عصام بن يوسف، عن حماد بن أبي حنيفة، عن أبيه. وإليك التعريف بهم.
1- نصر بن يحيى: هو نصر بن يحيى البلخي، تفقه على أبي سليمان الجوزجاني، وروى عنه أبو غياث البلخي. مات سنة 268هـ 1.
2- محمد بن مقاتل: هو محمد بن مقاتل الرازي كان من أصحاب الرأي مقدما في الفقه، روى عن سفيان بن عيينة ووكيع وسلم بن الفضل، وروى عنه محمد بن أيوب وحمد بن حكيم الترمذي والحسين بن أحمد.
__________
1 انظر الجواهر المضية 3/546؛ والفوائد البهية ص221، ولم يذكر فيه جرح أو توثيق ولم أقف له على ترجمة عند غيرهما.
(1/117)
________________________________________
قال عنه الذهبي في المغني: "ضعيف"، وفي الميزان: "تكلم فيه ولم يترك". مات سنة 248هـ 1.
3- عصام بن يوسف: هو عصام بن يوسف البلخي 2، روى عن سفيان وشعبة، وحدث عنه عبد الصمد بن سليمان وغيره، قال عنه ابن سعد: "كان عندهم ضعيفا في الحديث"، وقال ابن عدي في الكامل: "روى عن الثوري وعن غيره أحاديث لا يتابع عليها"، وقال الخليلي: "هو صدوق". مات سنة 215هـ 3.
4- حماد بن أبي حنيفة: هو حماد بن أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، قال عنه ابن خلكان: "إنه كان على مذهب أبيه وإنه كان صالحا خيرا"، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن عدي في الكامل، فقال عنه: "لا أعلم له رواية مستوية". وقال عنه الذهبي في الميزان: "ضعفه ابن عدي وغيره من قبل حفظه" مات سنة 176هـ 4.
__________
1 انظر المغني في الضعفاء 2/635؛ وميزان الاعتدال 5/388.
2 نسبة إلى بلخ مدينة مشهور بخراسان وأشهرها ذكرا وأكثرها خيرا وبينها وبين ترمذ اثنا عشر فرسخا، ويقال لنهر جيحون نهر بلخ، انظر معجم البلدان 1/479-480؛ ومراصد الاطلاع 1/217.
3 الكامل لابن عدي 5/2008؛ وميزان الاعتدال 3/67؛ ولسان الميزان 4/168.
4 الجرح والتعديل 3/149؛ والكامل لابن عدي 2/669؛ وتاريخ بغداد 6/243؛ ووفيات الأعيان 2/205؛ وميزان الاعتدال 1/590؛ ولسان الميزان 2/346.
(1/118)
________________________________________
2- الفقه الأكبر 1 برواية أبي مطيع البلخي
وهو رسالة يجيب فيها الإمام أبو حنيفة، عن أسئلة تلميذه مطيع البلخي، وهي مغايرة تماما لرواية حماد بن أبي حنيفة، حيث إن هذه الرسالة عبارة عن أجوبة مفصلة لأسئلة أبي مطيع، بخلاف رواية حماد بن أبي حنيفة فهي عبارة عن عرض مجمل وسهل لمسائل أصول الدين، والآراء التي تحتويها هذه الرسالة لا تختلف غالبا عن الآراء الموجودة في رسائله الأخرى المنسوبة إليه، غير أنه أسهب في مسائل القضاء والقدر وبعض مسائل الإيمان، ويظهر ـ والله اعلم ـ أنها ليست من تأليف الإمام مباشرة، بل من تأليف تلميذه أبي مطيع البلخي، جمع فيها أمالي الإمام وأقواله.
لذا يقول الذهبي عن أبي مطيع البلخي: "صاحب كتاب الفقه الأكبر" 2، فهذه إشارة منه إلى أن الكتاب ليس من تأليف الإمام رحمه الله تعالى، وإنما هو من تأليف أبي مطيع البلخي.
__________
1 وهو المطبوع باسم الفقه الأبسط، تمييزا له عن الفقه الأكبر برواية حماد بن أبي حنيفة. ولم يعرف باسم الفقه الأبسط إلا عند بعض الحنفية المتأخرين كالبياضي في إشارات المرام ص28؛ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/14؛ وقد نقل منه ابن تيمية في الحموية ضمن مجموع الفتاوى 5/46؛ وابن قدامة في العلو ص116؛ وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص73.
والذهبي في العلو ص101؛ وسموه الفقه الأكبر، هذا وقد نشره محمد زاهد الكوثري في القاهرة سنة 1368هـ وطبع في الهند مع شرح محمد بن محمود الحنفي السمرقندي سنة 1321هـ وله كذلك شرح آخر بعنوان نظم الدرر في شرح الفقه الأكبر تأليف عبيد الله المفتي طبع سنة 1405هـ.
2 العلو ص101.
(1/119)
________________________________________
وكذا قال اللكنوي: "أبو مطيع البلخي صاحب أبي حنيفة، وصاحب كتاب الفقه الأكبر" 1.
دراسة إسناد هذا المؤلف:
وقفت على إسناد هذا المؤلف في نسخة خطية محفوظة بدار الكتب ضمن المجموعة 64-215 وهي من رواية 2 الشيخ أبي بكر الكاساني 3، عن العلاء السمرقندي، عن أبي المعين النسفي، عن أبي عبد الله الحسين بن علي المعروف بالفضل، عن أبي مالك نصران بن نصر الختلي 4، عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارس، عن نصر بن يحيى، عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، عن الإمام أبي حنيفة.
وإليك التعريف برجال إسناد هذه النسخة:
1- أبو بكر الكاساني: هو أبو بكر بن مسعود بن أحمد علاء الدين الكاساني، صاحب كتاب بدائع الصنائع، تفقه على علاء الدين محمد السمرقندي، وتزوج ابنته فاطمة الفقيهة، من أجل أنه شرح كتاب التحفة للسمرقندي، وسماه البدائع، فجعله مهرا لابنته، وله من التصانيف كتاب السلطان المبين في أصول الدين. مات سنة 587هـ 5.
__________
1 الفوائد البهية ص68.
2 هذا الإسناد وقفت عليه بواسطة كلام الكوثري في مقدمته، كتاب العالم والمتعلم ص6، وذكره شارح الفقه الأكبر عبيد الله المفتي في نظم الدرر ص87-88.
3 نسبة إلى كاسان مدينة كبيرة في أول بلاد تركستان وراء نهر سيحون والشاش لها قلعة حصينة على بابها وادي أخسيكت. انظر مراصد الاطلاع 3/1143.
4 في النسخة المحفوظة في مكتبة حكمت عارف: يروي نصران بن نصر الختلي عن الحسن بن علي بن الحسين الغزال عن علي بن أحمد الفارس.
5 تاج التراجم ص84، 85. وانظر ترجمته في الجواهر المضية 14/25-28؛ والفوائد البهية ص53؛ وطبقات الفقهاء لطاش كبري زاده ص102، 103، ولم يذكروا فيه جرحا أو تعديلا.
(1/120)
________________________________________
2- العلاء السمرقندي: هو محمد بن أحمد بن أبي أحمد علاء الدين السمرقندي، تفقه على أبي المعين ميمون المكحولي، وعلى أبي اليسر البزدوي، وتفقه عليه أبو بكر بن مسعود الكاساني وغيره، ولم أقف على تاريخ وفاته 1.
3- أبو المعين النسفي: هو ميمون بن محمد بن محمد معتمد بن مكحول بن أبي الفضل أبو المعين النسفي المكحولي، صاحب كتاب تبصرة الأدلة، والتمهيد لقواعد التوحيد. مات سنة 508هـ 2.
4- أبو عبد الله الحسين بن علي: هو الحسين بن علي الألمعي الكاشغري 3 الواعظ. قال عنه الذهبي: "متهم بالكذب"، وقال السمعاني: "شيخ فاضل واعظ ولكن أكثر رواياته وأحاديثه مناكير واسمه الحسين، غير أنه عرف بالفضل، صنّف التصانيف الكثيرة في الحديث، لعلها تربو على المائة والعشرين مصنفا وعامتها مناكير، روى الحديث عن أبي عبد الله محمد بن علي الصوري ومحمد بن محمد الغيلان، وحدث عنه محمد بن محمود الشجاعي. مات بعد سنة 484هـ" 4.
__________
1 تاج التراجم ص60؛ والجواهر المضية 3/18؛ والفوائد البهية ص158؛ وطبقات الفقهاء لطاش كبرى زاده ص95، وجميعهم لم يذكروا فيه جرحا أو توثيقا.
2 تاج التراجم ص78؛ والجواهر المضية 3/527؛ والفوائد البهية ص216؛ وجميعهم لم يذكروا فيه جرحا أو توثيقا.
3 نسبة إلى كاشغر بالتقاء الساكنين والشين والعين المعجمتين والراء المهملة قرى ورساتيق يسافر إليها من سمرقند وهي في وسط بلاد الترك. مراصد الاطلاع 3/1143.
4 الأنساب 11/22؛ واللباب في تهذيب الأنساب 3/76؛ والميزان 1/544؛ ولسان الميزان 2/305، 306.
(1/121)
________________________________________
5- أبو مالك نصران بن نصر الختلي: ذكره الذهبي في المشتبه، وقال عنه: "أبو مالك نصران بن نصر الختلي، روى الفقه الأكبر عن علي بن الحسين الغزّال وعنه أبو عبد الله الحسين الكاشغري".
6- أبو الحسن علي بن أحمد الفارس: لم أقف على ترجمته.
7- نصر بن يحيى: تقدم التعريف به في ص117.
8- أبو مطيع البلخي: هو الحكم بن عبد الله بن مسلم أبو مطيع البلخي الخراساني 1، صاحب أبي حنيفة رحمه الله تعالى، روى عن هشام بن حسان وابن عون، وروى عنه أحمد بن منيع وخلاد بن أسلم الصفار. مات سنة 199هـ.
قال عنه ابن معين: "ليس بشيء". وقال أحمد بن حنبل: "لا ينبغي أن يروى عنه شيء"، وقال أبو داود: "تركوا حديثه وكان جهميا"، وقال أبو حاتم: "كان مرجئا ضعيف الحديث، وضعفه البخاري والنسائي"، وقال ابن حبان: "كان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها"، وقال ابن عدي: "هو بيِّن الضعف عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وقال الذهبي، وابن حجر: "كان ابن المبارك يعظّمه ويجلّه لدينه وعلمه" 2.
قلت: فقوله لدينه أي لعبادته وزهده، وأما قوله: "لعلمه" فالظاهر أنه يعني فقهه، وإلا فأهل العلم متفقون على أنه لا يحتج به في الرواية لكونه
__________
1 نسبة إلى خراسان وهي بلاد واسعة وأول حدودها مما يلي العراق وآخر حدودها مما يلي الهند ومن أمهات مدنها نيسابور وهرات وبلخ وطالقان ونسا وسرخس.
2 انظر تاريخ ابن معين 4/356؛ والضعفاء والمتروكين للنسائي ص259؛ والمجروحين لابن حبان 1/250؛ والجرح والتعديل 3/122؛ والكامل لابن عدي 2/631؛ والميزان 1/574؛ واللسان 2/334.
(1/122)
________________________________________
متهما، بل كذبه أبو حاتم، وتتابع أهل العلم على تضعيفه، فمثله لا يعتمد عليه، لذا لم أعرج على كتابه إلا حيث خالف بدعته في التجهم والإرجاء، أو أجد شاهدا لكلامه في سائر كتب أبي حنيفة، أو بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه للطحاوي فأورده استئناسا واستشهادا.
3- العالم والمتعلم
وهو رسالة يجيب فيها الإمام عن أسئلة المتعلم أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي.
بدأها بالإشارة إلى أهمية العلم والعمل، وأن العمل تبعٌ للعلم، وأن العلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير.
ثم بين أهمية معرفة علم الكلام وشرح العدل والجور، ثم أشار إلى بعض آراء الفرق في نزع الإيمان عن الزاني.
ثم فرق بين الشريعة والدين، وأن الدين هو التوحيد، والتوحيد واحد أوصى الله أنبياءه بالدعوة إليه، ثم شرح مذهبه في الإيمان، وهل له ارتباط بالعمل.
وتنفرد هذه الرسالة عن الرسائل الأخرى المنسوبة للإمام في أمور لا تتفق مع ما ثبت عنه في قضايا الاعتقاد منها:
"أ" تعظيمه لعلم الكلام، وبيان ضرورة معرفته 1.
__________
1 هذا خلاف ما استقر عليه في آخر أمره حيث كان ينهى عن تعلم الكلام =
(1/123)
________________________________________
"ب" استعماله القياس في قضايا العقيدة 1.
"ج" قوله بالإرجاء الحقيقي حيث قال، يعني أبا حنيفة: "من آمن بقلبه ولم يتكلم بلسانه فهو مؤمن عند الله" 2.
"د" قوله: "أصل الإرجاء من قبل الملائكة" 3.
ويظهر ـ والله أعلم ـ أن هذه الرسالة ليست من تأليف الإمام، بل من تأليف تلميذه أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي. لذا قال عنه السليماني كما في اللسان في ترجمة أبي مقاتل: "صاحب كتاب العالم والمتعلم في عداد من يضع الحديث". وأقره الحافظ ابن حجر 4، وهي إشارة إلى أن كتاب العالم والمتعلم ليس للإمام أبي حنيفة، وإنما هو من تأليف أبي مقاتل. ثم إن كتاب العالم والمتعلم، ككتب المسائل التي هي أجوبة عن أسئلة التلاميذ لشيوخهم في مسألة من مسائل العلم، يكتبها التلاميذ، وتنسب له الأسئلة، مثل أسئلة الآجري لأبي داود، وأسئلة البرقاني للدارقطني، ومسائل أبي داود للإمام أحمد، فكما أنه لا يجوز أن تنسب تلك الكتب إلى الشيوخ، فنقول مثلا: "إن مسائل أبي داود" هي من تأليف الإمام أحمد، فكذلك لا يجوز أن تنسب الأجوبة الواردة في العالم والمتعلم للإمام أبي حنيفة، ولا سيما أن مؤلف كتاب العالم والمتعلم هو أبو مقاتل السمرقندي وضاع وكذاب عند المحدثين وبالتالي يجب أن نكون على حذر مما في هذا الكتاب، فلا يقبل ما فيه إلا إذا وافق
__________
= والخصومات في الدين. انظر تفصيل ذلك في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة.
1 انظر ص15، 18.
2 انظر ص10، 13، 22.
3 انظر ص22.
4 لسان الميزان 2/323.
(1/124)
________________________________________
ما في المصادر الأخرى التي تحكي عقيدة الإمام أبي حنيفة.
من ذكر هذا المؤلف من المصنفين:
1- ابن النديم في الفهرست ص256.
2- على بن محمد البزدوي في كنز الوصول إلى معرفة الأصول 1/8.
3- علاء الدين بن عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار 1/8.
4- أبو المظفر الإسفراييني في التبصير ص113.
5- البياضي في إشارات المرام ص21.
6- والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/14.
7- طاش كبرى زاده في مفتاح السعادة 2/203
8- إسماعيل البغدادي في هداية العارفين 2/495.
9- حاجي خليفة في كشف الظنون 2/1437.
دراسة إسناد هذا المؤلف:
وقفت لهذا المؤلف على إسناد نسختين:
* النسخة الأولى: وهي المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 34147، وهي من رواية 1 الشيخ أبي الحسن علي بن خليل الدمشقي، عن أبي الحسن برهان الدين علي بن الحسن البلخي، عن أبي المعين النسفي، عن أبيه محمد النسفي، عن عبد الكريم بن موسى البزدوي النسفي، عن أبي منصور الماتريدي، عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، عن محمد بن مقاتل الرازي وهما عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله وأبي عصمة عصام بن
__________
1 هذا الإسناد وقفت عليه بواسطة مقدمة الكوثري لكتاب العالم والمتعلم ص5.
(1/125)
________________________________________
يوسف البلخي وهما عن أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن الإمام أبي حنيفة وإليك تعريف برجال إسناد هذه النسخة:
1- أبو الحسن علي بن خليل الدمشقي: هو علي بن خليل بن الحسين الدمشقي أبو الحسن الشهير بابن قاضي العسكر، الأديب الفقيه، مولده بدمشق سنة 608هـ، ومات سنة 651هـ، وله كتاب شرح الجامع الكبير 1.
2- أبو الحسن برهان الدين علي بن حسن البلخي: هو علي بن الحسن بن محمد بن أبي جعفر أبو الحسن المعروف بالبرهان البلخي، قال عنه الذهبي: "كان زاهدا معرضا عن الدنيا، وهو الذي قام في إبطال حي على خير العمل من حلب"، وقال اللكنوي: "برع في الأصول والفقه ورد دمشق ودرس بها" مات سنة 548هـ 2.
3- أبو المعين النسفي: تقدم التعريف به ص122.
4- محمد النسفي: لم أقف له على ترجمة.
5- عبد الكريم بن موسى البزدوي النسفي: هو عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي نسبة إلى بزدى قلعة على ستة فراسخ من نسف 3 وهو جد فخر الإسلام البزدوي تفقه على أبي منصور الماتريدي. مات سنة 390هـ 4.
__________
1 تاج التراجم ص43؛ والجواهر المضية 2/568.
2 العبر للذهبي 3/6؛ والفوائد البهية ص120، 121.
3 نسف: بفتح أوله وثانيه ثم فاء مدينة كبيرة تقع بين جيحون وسمرقند وتتبعها قرى كثيرة. انظر معجم البلدان 5/285.
4 الجواهر المضية 2/8458؛ والفوائد البهية ص101.
(1/126)
________________________________________
6- أبو منصور الماتريدي: هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي، نسبة إلى ماتريد 1، محلة بسمرقند 2، وإليه ينسب المذهب الماتريدي الكلامي الموجود في العالم الإسلامي، تفقه على أبي بكر أحمد الجوزجاني، وأبي نصر أحمد بن العباس العياض. وتفقه عليه إسحاق بن محمد السمرقندي وأبو محمد عبد الكريم بن موسى البزدوي وغيرهم، وله كتاب التوحيد وتأويلات القرآن وغير ذلك، مات سنة 333هـ، بعد وفاة أبي الحسن الأشعري بتسع سنوات 3.
7- أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني: هو أحمد بن إسحاق أبو بكر الجوزجاني، نسبة إلى جوزجان 4، بلدة مما يلي بلخ، تفقه على أبي سليمان الجوزجاني وقال عنه القرشي: صاحب كتاب الجواهر المضية: "كان من الجامعين بين علم الأصول وعلم الفروع، وكان في أنواع العلوم في الدرجة العلية، له كتاب الفرق والتمييز وكتاب التوبة
__________
1 ماتريد: بفتح الميم بعدا ألف وضم التاء المثناة الفوقية وفتح القاف المهملة وسكون الياء آخر الحروف ودال مهملة محلة من مدينة سمرقند وإليها ينسب أبو منصور الماتريدي، إمام الحنفية الماتريدية. انظر الأنساب 12/2؛ واللباب 3/140؛ والفوائد البهية ص195.
2 سمرقند: بفتح السين المهملة والميم وسكون الراء المهملة وفتح القاف وسكون النون آخرها دال مهملة. مدينة عظيمة من مدن خراسان ما وراء النهر وقد استقلت حديثا من نير احتلال الروس البلاشفة. انظر معجم البلدان 3/246؛ ومعجم ما استعجم 3/754؛ ومراصد الاطلاع 2/736.
3 انظر تاج التراجم ص59؛ والجواهر المضية 3/360؛ والفوائد البهية ص195.
4 جوزجان: قال ياقوت: "جوزجانان وجوزجان هما واحد بعد الزاي جيم وفي الأولى نونان وهو اسم كورة واسعة من كور بلخ بخراسان وهي بين مرو الروذ وبلخ ومن مدنها الأنبار وفارياب. معجم البلدان 2/182.
(1/127)
________________________________________
وغيرهما" ولم أقف له على تاريخ وفاته 1.
8- أبو سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني: هو موسى بن سليمان الجوزجاني أبو سليمان، سمع عبد الله بن المكبار وأبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ومحمد بن حسن الشيباني، وروى عنه عبد الله بن حسن الهاشمي وأحمد بن محمد البرتي. قال عنه الخطيب: "كان فقيها بصيرا بالرأي يذهب مذهب أهل السنة في القرآن"، وقال عنه ابن أبي حاتم: "كان يكفر القائلين بخلق القرآن، كتب عنه أبي وسئل عنه فقال: كان صاحب رأي وكان صدوقا" 2.
9- محمد بن مقاتل الرازي 3.
10- أبو مطيع الحكم بن عبد الله 4.
11- أبو عصمة عصام بن يوسف البلخي 5.
12- أبو مقاتل السمرقندي: هو حفص بن سلم أبومقاتل السمرقندي، روى عن هشام بن عروة، وروى عنه عتيق بن محمد، قال عنه السليماني: "صاحب كتاب العالم والمتعلم في عداد من يضع الحديث" 6.
وقال الحاكم: "حدث عن عبيد الله بن عمر وأيوب ومسعر وغيرهم بأحاديث موضوعة. كذبه وكيع بن الجراح بالكوفة" 7.
__________
1 الجواهر المضية 1/144؛ والفوائد البهية ص14.
2 الجرح والتعديل 8/145؛ وتاريخ بغداد 13/36-37.
3 تقدم التعريف به ص117.
4 تقدم التعريف به ص122.
5 تقدم التعريف به ص118.
6 الميزان 1/558؛ واللسان 2/323.
7 المدخل إلى الصحيح ص130، 131.
(1/128)
________________________________________
وكان قتيبة يحمل عليه شديدا ويضعفه بقوة، وقال: "كان لا يدري ما يحدث به" 1.
وقال الجوزجاني: "حدثت أن أبا مقاتل كان ينشئ للكلام الحسن إسنادا" 2. وقال أبو نعيم: "حدث عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر ومسعر بالمناكير، تركه وكيع وكذبه" 3.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "والله لا تحل الرواية عنه" 4.
وذكر ابن رجب أن الجارود السلمي قال: كان عند معاوية ـ يعني الضرير ـ فذكر له حديث أبي مقاتل عن سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ضبيان قال: "سئل علي عن كور الزنانير قال: لا بأس به هو بمنزلة صيد البحر".
فقال أبومعاوية: "ما أقول إن صاحبكم كذاب، ولكن هذا الحديث كذب" 5.
قلت: كان الرجل صاحب عبادة فحسب، وليس العلم من شأنه.
قال ابن المبارك: "خذوا عن أبي مقاتل عبادته وحسبكم" 6.
وقال إبراهيم بن طهمان: "خذوا عنه عبادته وحسبكم" 7.
__________
1 المجروحين 1/256؛ والميزان 1/557؛ واللسان 2/322.
2 اللسان 2/323.
3 الضعفاء ص57.
4 المجروحين 1/256.
5 شرح علل الترمذي 1/79.
6 المجروحين لابن حبان 1/256.
7 الميزان 1/557؛ واللسان 2/322.
(1/129)
________________________________________
قلت: ومن المعلوم عند أهل العلم، أن أهل العبادة هم أهل الغفلة والوضع في الحديث، وذلك لانشغالهم بنوافل العبادات، والإكثار منها، وغفلتهم عن طلب العلم والاشتغال به.
روى مسلم في مقدمة صحيحه 1، من طريق محمد بن يحيى بن سعيد القطان، عن أبيه قال:"لم تر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث".
وقال ابن مهدي: "قلت لميسرة بن عبد ربه من أين جئت بهذه الأحاديث؟ قال: وضعتها أرغِّب الناس فيها" 2.
وقال الحافظ ابن منده: "إذا رأيت في حديث، حدثنا فلان الزاهد، فاغسل يدك منه" 3.
زد على هذا أن أبا مقاتل لم يكن له اعتناء بأصوله، ولم يكن محافظا عليها إذ روى ابن عدي حديث كور الزنانير من طريق قتيبة بن سعيد عن أبي مقاتل بسنده.
فقال له قتيبة: يا أبا مقاتل هو موضوع فقال أبو مقاتل: باب هو في كتابي، وتقول هو موضوع، قال قتيبة: قلت نعم وضعوه في كتابك 4.
ومما يدل على شدة غفلته وحمقه ما أخرجه الترمذي في العلل الصغير قال: "أخبرني موسى بن خزام سمعت صالح بن عبد الله يقول: كنا عند أبي مقاتل السمرقندي فجعل يروي عن عون بن أبي شداد الأحاديث الطوال التي كان يروي في وصية لقمان وقتل سعيد بن جبير وما أشبه هذه
__________
1 صحيح مسلم 1/17.
2 المجروحين 1/64.
3 شرح علل الترمذي ص115.
4 الكامل في الضعفاء 2/800.
(1/130)
________________________________________
الأحاديث، فقال ابن أخ لأبي مقاتل: يا عم لا تقل حدثنا فإنك لم تسمع هذه الأشياء قال يا بني: "هو كلام حسن" 1.
قلت: إسناد هذه القصة صحيح، وهذا يدل على عدم التورع حال التحديث، فهذه هي حال أبي مقاتل، كما قال أهل العلم. ومن كان بهذه المثابة لا يقبل حديثه ولا روايته، وشذّ الخليلي فقال: "مشهور بالصدق غير مخرج في الصحيح" 2.
إسناد النسخة الثانية:
وقفت على هذا الإسناد في مناقب أبي حنيفة 3 للمكي وهي من رواية الموفق المكي، عن أبي حفص عمر بن محمد النسفي، عن أبي علي الحسن بن عبد الملك النسفي، عن الإمام جعفر بن محمد المستغفري النسفي، عن أبي عمر ومحمد النسفي، عن الإمام أبي محمد الحارثي البخاري، عن محمد بن يزيد، عن الحسن بن صالح، عن أبي مقاتل، عن أبي حنيفة.
وإليك التعريف برجال إسناد هذه النسخة:
__________
1- الموفق المكي: هو الموفق بن أحمد بن محمد المكي أبو المؤيد قال عنه الفاسي: "العلامة خطيب خوارزم، كان أديبا فصيحا مفوها خطب في خوارزم 4 دهرا" مات سنة 568هـ 5.
1 علل الترمذي ضمن سننه 5/743؛ وانظر شرح علله لابن رجب ص79.
2 الإرشاد للخليلي 3/975 ط/الرشد، تحقيق د. محمد السعيد.
3 1/84، 97 ط/ انظر مقدمة الكوثري لكتاب العالم والمتعلم ص45.
4 خوارزم: أوله بين الضم والفتح، والألف مختلسة ليست بألف صحيحة قال ياقوت: خوارزم ليس اسما للمدينة إنما هو اسم للناحية بجملتها، فأما القصبة العظمى فقد يقال لها اليوم الجرجانية. انظر معجم البلدان 2/395.
5 انظر العقد الثمين 7/310؛ والجواهر المضية 3/523.
(1/131)
________________________________________
2- أبو حفص عمر بن محمد النسفي: هو عمر بن محمد بن إسماعيل النسفي ثم السمرقندي قال عنه السمعاني: "كان إماما فاضلا متقنا صنف في كل من التفسير والحديث ... إلى أن قال: فلما وافيت سمرقند 1 استعرت عدة كتب من تصانفيه. فرأيت فيها أوهاما كثيرة خارجة عن الحد، فعرفت أنه كان ممن أحب الحديث ولم يرزق فهمه".
قال عنه الذهبي: "له أوهام كثيرة" مات سنة 537هـ 2.
3- أبو علي الحسن بن عبد الملك النسفي: هو الحسن بن عبد الملك النسفي وفي الطبقات السنية الحسن بن عبد الله النسفي أبو علي القاضي، تتلمذ على أبي العباس جعفر بن محمد المستغفري، ولم يذكر من ترجم له تاريخ وفاته 3.
4- جعفر بن محمد المستغفري: هو جعفر بن محمد بن المعتز النسفي المستغفري، قال عنه الذهبي: "الحافظ العلامة المحدث أبو العباس ... صاحب التصانيف, ... كان صدوقا في نفسه، لكنه يروي الموضوعات في الأبواب ولا يوهِّيها".
روى عن زاهر بن أحمد السرخسي وإبراهيم بن لقمان، وحدث عنه الحسن بن أحمد السمرقندي وآخرون. مات سنة 432هـ 4.
__________
1 سمرقند: بفتح أوله وثانيه ويقال بالعربية سمران بلد معروف ومشهور بما وراء النهر قيل: إنه من أبنية ذي القرنين.
انظر معجم البلدان 3/452.
2 انظر العبر 4/452؛ ولسان الميزان 4/327.
3 انظر الجواهر المضية 2/68؛ والطبقات السنية 3/74.
4 انظر تذكرة الحفاظ 3/1102؛ والعبر 2/266؛ وشذرات الذهب 3/249.
(1/132)
________________________________________
5- أبو عمر، ومحمد النسفي: أما أبو عمرو فلم أعرف من هو، وأما محمد النسفي فلعله محمد بن أحمد بن محمود أبو جعفر النسفي القاضي، قال عنه الصفدي: "كان من أعيان الفقهاء، وله تعليقة في الخلاف مشهورة وكان زاهدا ورعا متعففا فقيرا قنوعا".
أخذ عن أبي بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي، وعبيد الله البزاز البغدادي، وروى عنه أبو حاجب الاستراباذي، وأبو نصر الشيرازي توفي سنة 414هـ 1.
6- أبو محمد الحارثي البخاري: هو عبد الله بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه.
قال ابن الجوزي: " قال أبو سعيد الرواس: "متهم بوضع الحديث".
وقال أحمد السليماني: "كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن، وهذا المتن على هذا الإسناد، وهذا ضرب من الوضع".
وقال حمزة السهمي: "سألت أبا زرعة الرازي، فقال: ضعيف".
وقال الخطيب: "كان صاحب عجائب ومناكير وغرائب، وليس بموضع حجة".
مات سنة 345هـ وهو الذي جمع مسند الإمام أبي حنيفة 2.
7- محمد بن يزيد: لم أقف له على ترجمة.
__________
1 انظر الوافي بالوفيات 2/74؛ والمنتظم 8/15؛ والنجوم الزاهرة 4/259.
2 انظر كتاب الضعفاء لابن الجوزي 2/141؛ وتاريخ بغداد 10/126؛ وميزان الاعتدال 2/496، 497؛ ولسان الميزان 3/348، 349؛ والمغني في الضعفاء 1/355.
(1/133)
________________________________________
الحسن بن صالح: لعله الحسن بن صالح بن حي الهمداني الثوري قال عنه ابن حجر: "ثقة فقيه عابد رمي بالتشيع، من السابعة مات سنة 199هـ وكان مولده سنة 100هـ" 1.
9- أبو مقاتل: تقدم التعريف ص128.
4- رسالة الإمام أبي حنيفة إلى عثمان البتي 2.
وهي رسالة صغيرة، قيل إن الإمام أبا حنيفة كتبها إلى قاضي البصرة عثمان البتي ردا على خطابه الذي بعثه إلى الإمام أبي حنيفة، لما بلغه أن الإمام يرى رأي المرجئة؛ فشق عليه ذلك، وكتب إليه خطابا، فأرسل أبو حنيفة هذه الرسالة، ينفي عن نفسه الإرجاء.
من ذكر هذا المؤلف من المصنفين:
1- ابن النديم في الفهرست ص256.
2- علي بن محمد البزدوي في كنز الأصول 1/8.
3- علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري في كشف الأسرار 1/8.
4- أبو المظفر الإسفراييني في كتاب التبصير في الدين ص114.
5- البياضي في إشارات المرام ص21.
6- الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/13، 14.
__________
1 انظر تقريب التهذيب 1/167؛ وتهذيب التهذيب 2/285.
2 هو عثمان بن مسلم البتي بفتح الموحدة وتشديد المثناة، كان يبيع البتوت ـ وهو كساء غليظ ـ فقيل البتي أبو عمرو البصري. قال عنه ابن حجر: "صدوق عابوا عليه الإفتاء بالرأي من الخامسة مات سنة 143هـ". تقريب التهذيب 2/14؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 7/153؛ وسير أعلام النبلاء 6/148.
(1/134)
________________________________________
7- إسماعيل البغدادي في هداية العارفين 2/495.
8- حاجي خليفة في كشف الظنون 1/842.
دراسة إسناد هذا المؤلف:
وقفت على إسناد هذا المؤلف في نسخة خطية محفوظة ضمن المجموعة رقم 234 بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، وهي من رواية حسام الدين حسين بن علي بن الحجاج السِّغناقي عن حافظ الدين محمد بن محمد بن نصر البخاري، عن شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردري، عن برهان الدين المرغياني، عن ضياء الدين بن الحسين بن ناصر الدين النوسوخي، عن علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي، عن أبي المعين النسفي، عن أبي زكريا يحيى بن مطرف البلخي، عن أبي صالح محمد بن الحسين السمرقندي، عن أبي سعيد محمد بن بكر البستي، عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارس، عن نصر بن يحيى البلخي، عن محمد بن سماعة التميمي، عن أبي يوسف، عن الإمام أبي حنيفة وإليك التعريف برجال هذا الإسناد:
1- حسام الدين السغناقي 710هـ: هو الحسين بن علي بن حجاج بن علي حسام الدين السغناقي، نسبة إلى سغناق بكسر السين المهملة وسكون الغين ثم نون بعدها ألف بعدها قاف بلدة في تركستان. تفقه على محمد بن محمد بن نصر البخاري، وممن تفقه عليه جلال الدين الكرلاني. ومن مصنفاته النهاية في شرح الهداية والكافي في شرح أصول البزدوي. وهو مؤلف "التسديد في شرح التمهيد" لأبي العين النسفي 508هـ 1.
__________
1 انظر الفوائد البهية ص62؛ والدرر الكامنة 2/147؛ وبغية الوعاة 1/537؛ وطبقات طاش كبري زاده ص119، وكشف الظنون 1/112، 403، 484.
(1/135)
________________________________________
2- حافظ الدين محمد البخاري: هو محمد بن محمد بن نصر البخاري أبو الفضل ولد في حدود سنة 615هـ ببخارى 1، وتفقه على محمد بن عبد الستار الكردي ومحمد بن الحسن الطاهري، وتفقه عليه عبيد الله بن إبراهيم المحبوبي وأبو العلاء البخاري مات في سنة 693هـ 2.
3- محمد عبد الستار الكردري: هو محمد بن عبد الستار بن محمد المعمادي الكردري، نسبة إلى كردر 3 ناحية بخوارزم، قال عنه الذهبي كما في النجوم الزاهرة: "كان أستاذ الأئمة على الإطلاق والموفد إليه من الآفاق، برع في علوم، وأقر في فنون، وانتهت إليه رئاسة الحنيفة في زمانه" مات سنة 642هـ 4.
4- برهان الدين المرغيناني: هو علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني برهان الدين المرغيناني بفتح الميم نسبة إلى مدينة مرغينان 5،
__________
1 بخارى: بالضم مدينة من أعظم مدن ما وراء النهر افتتحها قتيبة بن مسلم قال ياقوت: "وأما اشتقاقها وسبب تسميتها بهذا الاسم فإني تطلبته فلم أظفر به ولا شك أنها مدينة قديمة كثيرة البساتين واسعة الفواكه".
انظر معجم البلدان 1/3253.
2 انظر الجواهر المضية 3/337، والفوائد البهية ص199، 200.
3 كردر: بفتح أوله ثم السكون ودال مفتوحة وراء، هي ناحية من نواحي خوارزم أو ما يتاخمها من نواحي الترك.
انظر معجم البلدان 4/450.
4 انظر النجوم الزاهرة 6/351؛ والوافي بالوفيات 3/254؛ وتاج التراجم ص64.
5 مرغنان: بالفتح ثم السكون وغين معجمة مكسورة بلدة مما وراء النهر من نواحي فرغانة.
انظر معجم البلدان 5/108.
(1/136)
________________________________________
من بلاد فرغانة 1، قال عنه القرشي: "العلامة المحقق صاحب الهداية، أقر له أهل عصره بالفضل والتقدم". تفقه على عمر بن محمد النسفي وحسام الدين عمر بن عبد العزيز بن مازة وغيرهم، وتفقه عليه محمد بن عبد الستار الكردري ـ. مات سنة 593هـ 2.
5- ضياء الدين محمد بن الحسين النوسوخي: هو محمد بن الحسين بن ناصر بن عبد العزيز النوسوخي، نسبة إلى بلدة نوسوخ، من بلاد فرغانة الملقب بضياء الدين، تفقه على الإمام علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي، وتفقه عليه علي بن الفرغاني، وقال: أجاز لي بجميع مسموعاته مشافهة بمرو سنة 545هـ 3.
6- علاء الدين أبوبكر محمد بن أحمد السمرقندي: تقدم التعريف به ص121.
7- أبو المعين النسفي: تقدم التعريف به ص121.
8- يحيى بن مطرف البلخي: لم أقف له على ترجمة.
9- محمد بن بكر البستي: لم أقف له على ترجمة.
10- علي بن أحمد الفارس: لم أقف له على ترجمة.
__________
1 فرغانة: بالفتح ثم سكون وغين معجمة وبعد الألف نون. إقليم واسع مما وراء النهر متاخم لبلاد تركستان. قال الإصطخري: "فرغانة رسم لإقليم وهو عريض موضوع على سعة مدنها وقراها وليس بما وراء النهر أكثر من قرى فرغانة. انظر معجم البلدان 4/252.
2 انظر الجواهر المضية 1/628؛ وتاج التراجم ص42؛ والفوائد البهية ص141، 146.
3 انظر الجواهر المضية 3/146؛ والفوائد البهية ص166.
(1/137)
________________________________________
11- نصر بن يحيى البلخي: تقدم التعريف به ص117.
12- محمد بن سماعة التميمي: هو محمد بن سماعة بن عبيد الله بن هلال بن وكيع بن بشر التميمي أبو عبد الله الكوفي، روى عن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والليث بن سعد. وروى عنه الحسن بن محمد بن عنبر، ومحمد بن عمران الضبي.
قال عنه ابن حجر: "صدوق من العاشرة" مات سنة 233هـ وقيل سنة 236هـ 1.
13- أبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم تقدم التعريف به ص93.
5- وصية أبي حنيفة
رسالة صغيرة اشتملت على بعض مسائل أصول الدين كالإيمان والقدر والقرآن، وأنه كلام الله غير مخلوق إلى غير ذلك.
من ذكر هذا المؤلف من المصنفين:
1- البياضي في إشارات المرام ص21.
2- الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 2/13، 14.
قال الزبيدي: "وذكر الوصية بتمامها الإمام صارم المصري في نظم الجمان، ومن المتأخرين تقي الدين التميمي في الطبقات السنية، والقاضي أبو الفضل محمد بن الشحنة الحلبي في أوائل شرح الهداية" 2.
__________
1 انظر تقريب التهذيب 2/167، وتهذيب التهذيب 9204.
2 إتحاف السادة المتقين 2/14.
(1/138)
________________________________________
دراسة إسناد هذا المؤلف:
وقفت على إسناد هذا المؤلف في نسخة خطية محفوظة ضمن المجموعة رقم 234 بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، وهي من واية حسام الدين حسين بن علي السغناقي عن محمد بن محمد بن نصر البخاري، عن محمد بن عبد الستار الكردري، عن برهان الدين المرغياني، عن محمد بن الحسين النوسوخي، عن علاء الدين أبي محمد بن أحمد السمرقندي، عن الإمام سيف الحق أبي المعين ميمون بن محمد المكحولي النسفي، عن الإمام أبي طاهر محمد بن المهدي الحسيني عن إسحاق بن منصور المسياري، عن أحمد بن علي السليماني، عن حاتم بن عقيل الجوهري، عن أبي عبد الله محمد التميمي، عن أبي يوسف، عن الإمام أبي حنيفة.
وإليك التعريف برجال هذا الإسناد:
1- حسام الدين السغناقي تقدم التعريف به ص136.
2- محمد البخاري تقدم التعريف به ص136.
3- محمد الكردري تقدم التعريف به ص136.
4- برهان الدين المرغياني تقدم التعريف به ص136.
5- محمد بن الحسين النوسوخي تقدم التعريف به ص137.
6- علاء الدين محمد السمرقندي تقدم التعريف به ص121.
7- أبو المعين النسفي تقدم التعريف به ص121.
8- أبو طاهر محمد بن المهدي الحسيني لم أقف له على ترجمة.
9- إسحاق بن منصور السياري لم أقف له على ترجمة.
10- أحمد بن علي السليماني لم أقف له على ترجمة.
11- حاتم بن عقيل الجوهري لم أقف له على ترجمة.
(1/139)
________________________________________
12- محمد بن سماعة التميمي تقدم التعريف به ص138.
13 أبو يوسف تقدم التعريف به ص93.
يتضح لنا من استعراض جملة من الكتب التي تنسب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى نتيجة نلخصها فيما يأتي:
أن هذه الكتب من ناحية الرواية ووفق منهج المحدثين في النقد لا تثبت للإمام أبي حنيفة، ولم أقف على رواية صحيحة أو نسخ معتمدة حتى نقطع أنها للإمام أبي حنيفة. ولا سيما وقد صرح بعض الحنفية كالزبيدي 1، وأبي الخير الحنفي 2، بأن هذه الكتب ليست من تأليف الإمام مباشرة بل هي أماليه وأقواله التي قام تلاميذه بجمعها وتأليفها.
ومن المعلوم أن بعض المبتدعة من أتباع أبي حنيفة يزيدون وينقصون؛ نصرة للمذهب، ويحرفون، بل إن بعضهم كان يضع الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم كأسيد بن عمرو أبي المنذر البجلي.
قال ابن حبان عنه: "روى عنه أصحاب أبي حنيفة، كان يسوي الحديث على مذهبهم" 3.
لذا قال أبو العباس القرطبي: "استجاز بعض فقهاء أصحاب الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة قولية؛ فيقول في ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا، ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة لأنها تشبه فتاوى الفقهاء، ولأنهم لا يقيمون لها
__________
1 إتحاف السادة المتقين 2/14.
2 عقيدة الإسلام ص113، 114.
3 المجروحين 1/180 ونقله صاحب كتاب تنزيه الشريعة ص38؛ وصاحب كتاب الكشف الحثيث ص96.
(1/140)
________________________________________
سندا" 1، وبه قال العلائي 2.
وكذا إبان بن جعفر النجيرمي قال ابن حبان عنه: "كذاب ووضع على أبي حنيفة أكثر من ثلاثمائة حديث" 3 وغيرهم 4.
وقد تقدم ذكر أمثلة لتحريفهم لكلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولا بأس أن أذكر مثالا واحدا، وهو ما ذكره صاحب كتاب قلائد عقود العقيان؛ "ق-97-ب" أن بعض الناس زعم أن الإمام أبا حنيفة يقول: إن الرب تبارك وتعالى لا ينظر إليه أهل الجنة، فكتب إليه الإمام أبو حنيفة رسالة يعاتبه على تحريفه قوله، وفيها:
"وأما ما قيل لك بأني أزعم أن الرب تبارك وتعالى لا ينظر إليه أهل الجنة؛ سبحان الله العظيم كيف تأتي بما لست من قائليه، والله تعالى يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} "سورة القيامة: الآيتان 22-23".
ولو قلت لا ينظرون لكنت بقول الله عزَّ وجلَّ من المكذبين، ولكنك حرفت علي قولي".
__________
1 نقله عن القرطبي كل من الحافظ ابن حجر في كتاب النكت على كتاب ابن الصلاح 2/852؛ وابن عراق في تنزيه الشريعة 1/11.
2 النكت على ابن الصلاح 2/758.
3 كتاب تنزيه الشريعة ص1/19.
4 كأمثال الحكم بن عبد الله البلخي فقد ذكر ابن الجوزي حديثا في كتاب الموضوعات في باب "الإيمان لا يزيد ولا ينقص" 1/131، ثم قال: "فهذا ولا شك من وضع أبي مطيع"، وكذا محمد بن شجاع الثلجي قال عنه ابن عدي: "كان يضع الأحاديث التي ظاهرها التجسيم وينسبها إلى أهل الحديث بقصد الشناعة عليهم لما بينه وبينهم من العداوة المذهبية".
الكامل 6/2292؛ والنكت لابن حجر 2/852؛ وتنزيه الشريعة 1/11.
(1/141)
________________________________________
ولهذا كان المنهج الذي سلكته في هذا البحث:
هو الاعتماد على العقيدة التي قررها الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، والكتب السلفية المسندة وتقديمهما على غيرها من كتب الإمام أبي حنيفة، على أنني أعتمد على كتاب الفقه الأكبر برواية حماد بن أبي حنيفة، والوصية والرسالة إلى البتي، وكلتاهما برواية أبي يوسف، إذ قد استفاضت شهرتها وذاع صيتها وتناقلها العلماء من حنفية وغيرهم، ونقل منها العلماء المحققون 1 في كتبهم، فما نراه في هذه الكتب مخالفا للعقيدة التي قررها الطحاوي، نجزم أنه أدخل فيها مثلما جاء: "أن الله كلم موسى بكلامه الذي هو صفة له في الأزل 2، وهو يتكلم بلا آلة ولا حرف 3، وأن القرآن لا هو ولا غيره 4، وأن الحروف والكلمات والآيات دلالة القرآن 5، ولفظنا بالقرآن مخلوق 6، وأن الله يرى بلا جهة 7، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة" 8.
فكل هذا مما أحدثه المتأخرون بعد أبي حنيفة، ولا يعرف هذا في
__________
1 كابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن قدامة وغيرهم، انظر مجموع الفتاوى 5/46؛ واجتماع الجيوش الإسلامية ص138 المحققة، والمشتبه 1/137؛ والعلو ص101.
2 الفقه الأكبر ص302.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 الوصية مع شرحها ص11.
5 الوصية مع شرحها ص12.
6 الفقه الأكبر ص301.
7 الوصية ص31.
8 الفقه الأكبر ص304.
(1/142)
________________________________________
كلام السلف، فمنها ما يرجع إلى أن كلام الله معنى نفسي، وأن القرآن الذي نقرؤه هو عبارة عن ذلك المعنى النفسي، وهذا المذهب أحدثه ابن كلاب.
ومنها ما يرجع إلى بدعة التلفظ بالقرآن، وأول من أحدث هذه البدعة الكرابيسي في زمن الإمام أحمد بن حنبل. ومنها ما يرجع إلى شروط مخترعة توجب امتناع الرؤية، وهذا مما أحدثه أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية. فكل هذا مما أدخل على كتب أبي حنيفة، وما عدا ذلك فالظاهر أنه من كلام الإمام أو من تخريج أصحابه على كلامه. أما رواية أبي مطيع للفقه الأكبر وكتاب العالم والمتعلم لأبي مقاتل السمرقندي، فهما من الكذابين والوضاعين، جزم غير واحد من أهل النقد بذلك؛ فلذا لا أنقل منهما إلا حيث أجد شاهدا لكلامهما في سائر كتب أبي حنيفة أو بيان عقيدة أهل السنة والجماعة للطحاوي.
(1/143)
________________________________________
الفصل الثاني: منهجه في تقرير أصول الدين
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة
المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام المبتدع
المبحث الثالث: موقفه من الفرق كالجهمية والمعتزلة والخوارج
(1/145)
________________________________________
المبحث الأول: مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة
إن مسائل أصول الدين قد بينها الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر؛ إذ أن أمور الاعتقاد من أعظم ما بلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وبينه للناس، بل هو أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده بالرسل الذين بينوه وبلغوه 1.
وعلى هذا جرى الصحابة على اتباع كلام الله المنزل، والاقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأقواله وأفعاله.
فلم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على مسائل العقيدة سوى كتاب الله ثم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المقريزي: "لم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله ... " 2.
فمنه استمدوا معلوماتهم عن الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره إلى غير ذلك من القضايا التي تشكل أصول الإيمان وأركانه، وكلها جميعا في القرآن والسنة. وعلى هذا المنهج جرى
__________
1 انظر درء تعارض العقل والنقل 1/27 بتصرف.
2 خطط المقريزي 2/356.
(1/147)
________________________________________
التابعون وتابعوهم، ومنهم الإمام أبو حنيفة. فالكتاب والسنة الصحيحة هما المصدران الأساسيان في قضايا الدين عامة والاعتقاد خاصة.
روى ابن عبد البر في الانتقاء عن أبي حنيفة قال: "سمعت أبا حنيفة يقول: "آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه" 1.
وفي رواية أخرى قال: قال أبو حنيفة: "إذا لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظرت في أقاويل أصحابه، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر أو جاء الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعدّد رجالا؛ فهم قوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا" 2.
فالحاصل أن ترتيب الأدلة عند الإمام على الترتيب الآتي:
الكتاب ثم السنة الصحيحة، ثم الأخذ بما ورد عن الصحابة في بيان قضايا الدين عامة وفي قضايا العقيدة خاصة، ولا يخرج عن أقوالهم إلى قول غيرهم؛ وذلك لسلامتهم من الأهواء والبدع، ولصفاء سرائرهم ونياتهم مع ما فضلوا به من مشاهدة التنزيل ومعاصرة الوحي.
هذا وقد أشيع عن الإمام أنه يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقدم الرأي والقياس على السنة والآثار والمعقول على المنقول.
فنفى الإمام عن نفسه هذه التهمة حيث قال: "كذب والله وافترى علينا من يقول إننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى قياس" 3.
__________
1 الانتقاء ص142.
2 الانتقاء ص143.
3 الميزان الكبرى 1/65.
(1/148)
________________________________________
وقال: "ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله تعالى، ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مع ما أجمع عليه الصحابة" 1.
وقال لمحمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم مجيبا عن هذه التهمة: معاذ الله أن أفعل ذلك. فقال له محمد: بل حولت دين جدي وأحاديثه بالقياس فقام أبو حنيفة بين يديه، ثم قال لأبي جعفر: "اجلس مكانك كما يحق لك حتى أجلس كما يحق لي، فإن لك عندي حرمة كحرمة جدك صلى الله عليه وسلم في حياته على أصحابه، فجلس أبو جعفر، ثم جثا أبو حنيفة بين يديه ثم قال لأبي جعفر: إني أسألك ثلاث كلمات فأجبني.
فقال له أبو حنيفة: الرجل أضعف أم المرأة؟
قال: بل المرأة.
فقال أبو حنيفة: كم سهماً الرجل وكم سهماً المرأة؟
فقال أبو جعفر: للرجل سهمان وللمرأة سهم.
فقال أبو حنفية: هذا قول جدك، ولو حولت دين جدك لكان ينبغي في القياس أن يكون للرجل سهم وللمرأة سهمان، لأن المرأة أضعف من الرجل.
ثم قال: الصلاة أفضل أم الصوم؟
فقال: الصلاة أفضل.
قال: هذا قول جدك، ولو حولت دين جدك فالقياس أن المرأة إذا طهرت من الحيض أمرتها أن تقضي الصلاة ولا تقضي الصوم.
__________
1 عقود الجمان ص175.
(1/149)
________________________________________
ثم قال: البول أنجس أم النطفة؟
قال أبو جعفر: البول أنجس.
قال: فلو كنت حولت دين جدك بالقياس، لكنت أمرت أن يغتسل من البول ويتوضأ من النطفة؛ لأن البول أقذر من النطفة.
ولكن معاذ الله أن أحول دين جدك بالقياس فقام أبو جعفر فعانقه" 1.
بل إنه يقدم على القياس الحديث المرسل والضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرى جواز القياس مع وجود أحدهما. ذكر ابن حزم في الأحكام أن أبا حنيفة قال: "الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من القياس، ولا يحل القياس مع وجوده" 2.
بل ذم القياس مع وجود النص أو القياس على غير الأصل من كتاب أو سنة صحيحة. روى الصيمري عن وكيع 3 أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "البول في المسجد أحسن من بعض القياس"4.
ولقد نفى عنه بعض الأئمة هذه التهمة، منهم المعاصرون ومنهم المتأخرون وأولئك كثير نكتفي بذكر بعض الأقوال.
__________
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص143.
2 الإحكام في أصول الأحكام 7/54، تحقيق أحمد شاكر الطبعة المنيرية سنة 1347هـ.
3 هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم مهملة أبو سفيان الكوفي، قال عنه ابن حجر: "ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة" مات في آخر سنة 196هـ أو أول سنة 197هـ وله سبعون سنة، تقريب التهذيب 2/331، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 11/123.
4 أخبار أبي حنيفة ص13، والكامل لابن عدي 7/2476.
(1/150)
________________________________________
فمن المعاصرين له سفيان الثوري حيث قال: "كان أبو حنيفة شديد الأخذ للعلم، ذابا عن حرم الله أن تستحل، يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي كان يحملها الثقات وبالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أدرك عليه علماء الكوفة، ثم شنّع عليه قوم يغفر الله لنا ولهم" 1.
ويقول زفر بن الهذيل تلميذ أبي حنيفة: "لا تلتفتوا إلى كلام المخالفين؛ فإن أبا حنيفة وأصحابنا لم يقولوا في مسألة إلا من الكتاب والسنة والأقاويل الصحيحة، ثم قاسوا بعد عليها" 2.
ويقول الحسن بن صالح 3: "كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ؛ فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم" 4.
ومن المتأخرين عنه ابن تيمية حيث قال: "من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمّدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره، فقد أخطأ عليهم، وتكلّم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما" 5.
__________
1 الانتقاء ص142.
2 مناقب أبي حنيفة للمكي ص75.
3 هو الحسن بن صالح بن صالح بن حي وهو حيان بن شفي بضم المعجمة والفاء مصغرا الهمداني بسكون الميم قال عنه ابن حجر: "ثقة فقيه عابد رمي بالتشيع من السابعة" مات سنة 199هـ وكان مولده سنة 100هـ.
تقريب التهذيب 1/167؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 2/285.
4 أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص11.
5 مجموع الفتاوى 20/304
(1/151)
________________________________________
وابن القيم حيث قال: "وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة؛ أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي. وعلى ذلك بنى مذهبه، ثم ذكر أمثلة على ذلك، منها:
أنه منع قطع يد السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعف، وجعل الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعف، وشرط في إقامة الجمعة المصر، والحديث فيه ضعف، وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيه غير مرفوعة..فيقدم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي. قوله وقول الإمام أحمد وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، يل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا" 1.
ونختم رد هذه التهمة بقول ابن أبي العز: "والواجب أن يقال لمن قال: إن أبا حنيفة خالف سيد المرسلين: هذا القول كذب وبهتان، وسب لهذا الإمام الجليل يستحق قائله الردع والزجر عن هذه المقالة الباطلة، إن أراد أنه خالفه عن قصد، وإن أراد به أنه خالف عن تأويل أو ذم القول، ولم يذكر قائله، فهو هين كما يوجد في كلام المختلفين في مسائل الاجتهاد ... ".
إلى أن قال: "مخالفة النص إذا كانت عن قصد فهي كفر، وإن كانت عن اجتهاد فهي من الخطأ المغفور؛ فلا يجوز أن يقال عن أبي حنيفة ولا عمن دونه من أهل العلم فيما يوجد من أقواله مخالفا للنص أنه خالف الرسول صلى الله عليه وسلم قصدا بل إما أن يقال: النص لم يبلغه 2، أو لم يظهر له
__________
1 أعلام الموقعين 1/77.
2 عاش الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في عصر لم يكتمل فيه جمع السنة وفي =
(1/152)
________________________________________
على ذلك الحكم، أو عارضه عنده دليل آخر أو غير ذلك من الأعذار" 1، وكان رحمه الله متثبتا في علمه؛ فإذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعْدُه إلى غيره.
روى ابن عبد البر بإسناده عن أبي حمزة السكري 2 أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "إذا جاء الحديث الصحيح الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذنا به، ولم نعده" 3.
فدل هذا النص على أن الإمام إذا جاءه الحديث الصحيح الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن به وصدق وأخذ به بدون تفرقة بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد؛ فيثبت العقائد بهما من غير تفريق، فكيف لا وهو القائل: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" 4.
__________
وهو القائل: "وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من
= ذلك يقول البيهقي: "وهذا الخلاف إنما هو لقربه من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل انتشار السنن في البلدان ووقوع جميعها أو أكثرها إليه بلوغا ظاهرا يقع له بها هذا الإتقان في تركها وقد رجع أبو يوسف ومحمد إلى السنة في مسائل معدودة منها مسألة الوقف والتكبير في العيدين ونصاب الحبوب والثمار وسهم الفارس وغير ذلك" قال أبو يوسف لما رجع عن هذه المسائل: "لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت".
مناقب الشافعي للبيهقي 1/172. وانظر مجموع الفتاوى 20/304.
1 الاتباع ص28، 29، 30.
2 هو محمد بن ميمون المروزي أبو حمزة السكري، قال عنه ابن حجر: "ثقة فاضل" مات سنة 167هـ أو 168هـ.
تقريب التهذيب 2/212؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 9/486.
3 الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص144.
4 حاشية ابن عابدين 1/67 ورسم المفتي ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 1/4، وإيقاظ الهمم للفلاني ص62.
(1/153)
________________________________________
مغربها، ونزول عيسى عليه السلام من السماء، وسائر علامات يوم القيامة هي على ما وردت به الأخبار 1 الصحيحة حق كائن" 2.
وسئل الإمام أبو حنيفة هل تشهد لأحد من أهل الجنة سوى الأنبياء؟ فقال: "كل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة بخبر صحيح" 3.
وهذا هو ما قرره الطحاوي في العقيدة التي كتبها في بيان عقيدة الإمام وصاحبيه حيث يقول: "وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان حق. وقال في موضع آخر: وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول فهو كما قال ... وقال ... نؤمن بما جاء من كرامتهم وصح عن الثقات من رواتهم" 4.
وهذا هو ما كان عليه الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن دل على هذا قول أبي يوسف: "وقد أمرك الله أن تؤمن بكل ما أتى به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} "سورة الأعراف: الآية158".
فقد أمرك الله بأن تكون تابعا سامعا مطيعا" 5.
__________
1 أثبت أبو حنيفة رحمه الله هذه العقائد المذكورة آنفا عن طريق الحديث الصحيح الواحد حيث لم يتوفر تتبع طرق الأحاديث بعد حتى يقال إنها تواترت في زمانه وإن كانت تلك الأحاديث بعد تدوين السنة وتتبع الطرق وجمعها صارت من المتواترات.
2 الفقه الأكبر ص306.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص26-27، 43، 59.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص26-27، 43، 59.
5 الحجة في بيان المحجة للتيمي ص321.
(1/154)
________________________________________
فهذا النص صريح في الإيمان بكل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون قيد التواتر 1، وقال محمد بن الحسن: "هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها" 2، فدل هذا النص على إثبات الصفات بالأحاديث الصحيحة، دون فرق بين أن تكون متواترة أو مشهورة 3، أو أخبار آحاد4، بعد أن كانت مروية عن الثقات.
ثم ذكر إجماع الفقهاء على ذلك حيث قال: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عزَّ وجلَّ، من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه ... " 5.
هذا هو ما كان عليه السلف 6 الصالح، وهو الحق لا ريب فيه؛
__________
1 المتواتر هو ما نقله جمع يحصل العلم بصدقهم بضرورة ولا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أول الإسناد إلى آخره. تقريب النواوي مع شرح تدريب الراوي 2/176.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/433.
3 المشهور: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر. تدريب الراوي 2/173.
4 أخبار الآحاد جمع خبر الواحد. وهو لغة ما يرويه شخص واحد، واصطلاحا: ما لم يجمع شروط المتواتر
انظر نزهة النظر ص18؛ وفتح الباري 13/233.
5 شرح أصول أهل السنة والجماعة 3/432-433.
6 ذكر الشافعي إجماع السلف على حجية خبر الواحد فقد قال في كتابه الرسالة ص453، 457: "أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته" وقال قبل ذلك: "ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل".
(1/155)
________________________________________
إذ التفرقة بين المتواتر والآحاد بدعة 1 دخيلة على الإسلام. وكذلك من مصادر التلقي عند الإمام أبي حنيفة الفطرة؛ فقد استدل أبو حنيفة بالفطرة على علو الله تعالى فقال: "إن الله تعالى يدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء" 2.
__________
1 أحدث هذه البدعة طائفة من المتكلمين ثم دبّ إلى بعض الفقهاء والأصوليين. قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني في كتابه الانتصار كما في مختصر الصواعق: "قولهم إن أخبار الآحاد لا تقبل ... رأي سعت به المبتدعة في رد الأخبار إذ أن الخبر إذا صح ورواته ثقات وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم وهذا قول عامة أهل الحديث ... وأما هذا القول المبتدع فقول القدرية والمعتزلة.., وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابتة ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول ... ".
قال ابن القيم في الرد عليهم: "ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجزمون لما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من أهل الإسلام بعدهم يشك فيما أخبر به أبو بكر الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود ولا غيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث ولم يقل أحد منهم يوما واحدا من الدهر خبرك هذا خبر واحد لا يفيد العلم. وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقال فيه ذلك، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين ... "
إلى أن قال: "فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية الرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء وإلا فلا يعرف لهم سلف في الأمة بذلك".
انظر مختصر الصواعق 2/504-5204، 2/473-475 بتصرف.
2 الفقه الأبسط ص51.
(1/156)
________________________________________
فالفطرة والشرع هما ما سلكه السلف في الاستدلال على العقائد قال العلامة المعلمي: "ومن تدبر القرآن وتصفح السنة والتاريخ؛ علم يقينا أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين 1 السلفيين، وأنهم كانوا بغاية الثقة بهما والرغبة عما عداهما، وإلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من الحض على ذلك.
وهذا يقضي قضاء باتا بأن عقائدهم هي العقائد التي يثمرها المأخذان السلفيان، يقطعون بما يفيد أن فيه عندهم القطع، ويظنون ما لا يفيد أن فيه إلا الظن، ويقفون عما عدا ذلك، وهذا هو الذي تبيّنه الأخبار المنقولة عنهم كما تراها في التفاسير السلفية وكتب السنة، وهو الذي نقله أصاغر الصحابة عن أكابرهم، ثم نقله صغار التابعين عن كبارهم، وهكذا نقله عن التابعين أعلم أتباعهم بهم، وأتبعهم لهم، وهلمّ جراًّ.
وهذا هو قول السلفيين في عقيدة السلف ويوافقهم عليه أكابر النُّظار ... " 2.
هذا آخر الكلام عن مصادر العقيدة عند الإمام أبي حنيفة. أما موقفه من علم الكلام فسأتناوله في المبحث التالي إن شاء الله تعالى.
__________
1 يعني الشرع والفطرة.
2 التنكيل 2/344، والقائد إلى تصحيح العقائد ص172.
(1/157)
________________________________________
المبحث الثاني: موقفه من علم الكلام
عاش الإمام في بيئة يغلب عليها الجدل؛ حيث كانت الكوفة يومذاك موطنا للفرق والنحل المختلفة، لذلك اشتغل الإمام في بداية طلبه للعلم بعلم الكلام، وكان به يجادل، وعنه يناضل، ولم يكن قد طلب الفقه بعد.
قال أبو بكر بن عياش1: "أدركناه وهو صاحب خصومات، لم يكن يتفقه" 2.
وقال شريك 3: "أدركنا أبا حنيفة وهو صاحب
__________
1 هو أبكر بن عياش ـ بتحتانية ومعجمة ـ بن سالم الأسدي الكوفي، قال عن عنه ابن حجر: "المقرئ الحناط بمهملة ونون مشهور بكنيته والأصح أنها اسمه وقيل اسمه محمد أو عبد الله أو سالم أو شعبة ... عشرة أقوال، ثقة عابد إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح، من السابعة، مات سنة 194هـ، وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين وقد قارب المائة".
تقريب التهذيب 2/399، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/34.
2 ذم الكلام للهروي "ق-194-ب".
3 هو شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة قال عنه ابن حجر: "صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة وكان عادلا فاضلا عابدا شديدا على أهل البدع". مات سنة 177هـ أو سنة 178هـ
تقريب التهذيب 1/351. وانظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/232.
(1/158)
________________________________________
خصومات" 1.
وقال الحسن بن صالح 2: "أدركناه وهو يخاصم" 3.
فكان يخاصم أهل الأهواء بالجدل، ورحل في سبيل ذلك إلى البصرة عشرين مرة ونيفا لمناقشة أصحاب الخصومات، وكان يأمر ابنه حمادا بطلب الكلام ويلح عليه في ذلك، قال حماد: "كان أبو حنيفة يأمرني بطلب الكلام يحدوني كثيرا عليه ويقول: يا بني تعلم الكلام فإنه الفقه الأكبر" 4.
فعلم الكلام هو الفقه الأكبر في نظر الإمام بل هو أجل العلوم وأعلاها عنده، قال الإمام أبو حنيفة: "أصحاب الأهواء في البصرة كثير، فدخلتها عشرين مرة ونيفا، وربما أقمت بها سنة أو أكثر أو أقل ظنا أن علم الكلام أجل العلوم" 5.
واستمر في مجادلة أهل الأهواء حتى صار رأسا في ذلك يشار إليه بالبنان، ثم ترك الكلام والجدل، وأقبل على الفقه والسنة.
قال قبيصة بن عقبة 6: "كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله في أول أمره
__________
1 ذم الكلام للهروي "ق-194-ب".
2 تقدم ترجمته ص151.
3 ذم الكلام للهروي "ق-194-ب".
4 مناقب أبي حنيفة للمكي ص183.
5 مناقب أبي حنيفة للكردري ص137.
6 هو قبيصة بن عقبة بن محمد بن سفيان السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد أبو عامر الكوفي قال عنه ابن حجر: "صدوق ربما خالف من التاسعة مات سنة 215هـ على الصحيح".
تقريب التهذيب 2/122. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 8/347.
(1/159)
________________________________________
يجادل أهل الأهواء حتى صار رأسا في ذلك منظورا إليه، ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنة وصار إماما" 1.
وأما تحوله إلى الفقه والسنة فيحدثنا الإمام عن أسباب ذلك فيقول: "وكنت أعد الكلام أفضل العلوم، وكنت أقول هذا الكلام في أصل الدين، فراجعت نفسي بعد ما مضى لي فيه عمر، وتدبرت فقلت: إن المتقدمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم لم يكونوا يفوتهم شيء مما ندركه نحن، وكانوا عليه أقدر، وبه أعرف، وأعلم بحقائق الأمور، ثم لم ينتصبوا فيه منازعين ولا مجادلين، ولم يخوضوا فيه بل أمسكوا عن ذلك، ونهوا عنه أشد النهي، ورأيت خوضهم في الشرائع وأبواب الفقه وكلامهم فيه" إلى أن قال: "فلما ظهر لنا في أمورهم هذا الذي وصفناه؛ تركنا المنازعة والمجادلة والخوض في الكلام، ورجعنا إلى ما كان عليه السلف" 2.
وفي رواية أخرى قال: "فلما مضى مدة من عمري تفكرت وقلت: السلف أعلم بالحقائق ولم ينتصبوا مجادلين، بل أمسكوا عنه وخاضوا في علم الشريعة، ورغبوا فيه وعلموا وتعلموا وتناظروا عليه، فتركت الكلام واشتغلت بالفقه، ورأيت المشتغلين بالكلام وليس سيماهم سيَم الصالحين قاسيةٌ قلوبهم غليظة أفئدتهم، لا يبالون بمخالفة الكتاب والسنة والسلف الصالح، ولو كان خيرا لاشتغل به السلف الصالحون ... " 3.
هذا هو حال المتكملين فبتعلقهم بالكلام واشتغالهم به ابتعدوا عن
__________
1 عقود الجمان ص161؛ ومناقب أبي حنيفة للمكي ص53، 54.
2 مناقب أبي حنيفة للمكي ص54، 55.
3 مناقب أبي حنيفة للكردري ص137، 138.
(1/160)
________________________________________
كتاب الله 1 وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم 2؛ فأورثهم ذلك الشك والحيرة والاضطراب 3.
__________
1 قال ابن قتيبة مبينا مخالفة المتكلمين لكتاب الله وجرأتهم على الله: "قد كنت أحب أن أتعلق من كل علم بسبب وأن أضرب فيه بسهم فربما حضرت بعض مجالسهم ـ يعني المتكلمين ـ وأنا مغتر بهم طامع أن أصدر عنهم بفائدة أو كلمة تدل على خير أو تهدي إلى رشد فأرى من جرأتهم على الله تبارك وتعالى وقلة توقيهم وحملهم أنفسهم على العظائم لطرد القياس أولئلا يقع انقطاع ما أرجع خاسرا نادما". انظر تأويل مختلف الحديث ص61-62.
2 قال الشاطبي في بيان تلاعب المتكلمين بالأحاديث الصحيحة وتقديم عقولهم الفاسدة عليها: "وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدّعون أنها مخالفة للمعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله عزَّ وجلَّ في الآخرة ... ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب ... وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل، وقد سئل بعضهم هل يكفر من قال برؤية الباري في الآخرة؟ فقال: لا يكفر لأنه قال ما يعقل ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر". الاعتصام 1/231-232. ومن أمثلة ردهم للحديث الصحيح لمخالفته مذهبهم ما رواه الخطيب بسنده عن عمرو بن عبيد ذكر عنده حديث الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك ... إلى أن قال: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ... الحديث".فقال عمرو بن عبيد: "لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له ليس على هذا أخذت ميثاقنا".
انظر تاريخ بغداد 12/172.
3 وإليك أمثلة على شك المتكلمين وحيرتهم وشدة اضطرابهم، يقو الرازي: =
(1/161)
________________________________________
وهناك سبب قد يكون رئيسا في تحوله من علم الكلام إلى الفقه، وهو ما رواه الخطيب البغدادي عن زفر بن الهذيل قال: سمعت أبا حنيفة يقول:
"كنت أنظر في الكلام حتى بلغت مبلغا يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجائتني امرأة فقالت: رجل له امرأة أَمة أراد أن يطلقها للسنة كم يطلقها؟ فلم أدر ما أقول فأمرتها أن تسأل حمادا فترجع فتخبرني، فسألت حمادا فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة ثم يتركها حتى تحيض حيضتين فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج، فرجعت فأخبرتني فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد ... " 1.
__________
= نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين في ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من طول بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا قيل وقالوا
ويقول الشهرستاني:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
وسيّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
على ذقنه أو قارعا سن نادم
لذا قال ابن عقيل في وصف حال المتكلمين وشدة حيرتهم:
"قد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد، تشم رائحة الإلحاد من فلتات المتكلمين، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع ... "
وهذا ما وصفهم به القرطبي حيث قال:
"وقد أفضى الكلام بكثير من أهله وببعضهم إلى الإلحاد وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره ... ".
انظر كتاب نهاية الإقدام ص3؛ والحموية ص91؛ وكتاب تلبيس إبليس ص93؛ وفتح الباري 13/350.
1 تاريخ بغداد 13/333.
(1/162)
________________________________________
فبعد أن كان الإمام أبو حنيفة في الكلام رأسا فيه، وصاحب حلقة مشهودة في المسجد بقرب حلقة حماد بن أبي سليمان تحول إلى تلميذ من تلامذة حماد بن أبي سليمان يطلب الفقه والسنة. ومن مادح لعلم الكلام، وحاثّ على تعليمه وتعلمه، إلى ذام وقادح فيه وناه عن تعليمه وتعلمه، وبعد أن كان يأمر ابنه حمادا بتعلم علم الكلام، ويلح عليه في سبيل تحصيله أصبح ينهاه ويأمره بترك الاشتغال بالكلام والجدل.
يحدثنا حماد عن ذلك فيقول: "دخل عليّ أبي رحمه الله يوما وعندي جماعة من أصحاب الكلام ونحن نتناظر في باب ... قد علت أصواتنا فلما سمعت حسه في الدار خرجت إليه فقال لي: يا حماد من عندك؟ قلت: فلان وفلان وفلان سميت من كان عندي قال: وفيم أنتم؟ قلت: في باب كذا وكذا، فقال لي: يا حماد دع الكلام ـ قال: ولم أعهد أبي صاحب تخليط، ولا ممن يأمر بالشيء ثم ينهى عنه ـ فقلت له: يا أبت ألست كنت تأمرني به؟ قال: بلى يا بني وأنا اليوم أنهاك عنه. قلت: ولم ذاك؟ فقال: يا بني إن هؤلاء المختلفين في أبواب الكلام ممن ترى كانوا على قول واحد ودين واحد حتى نزغ الشيطان بينهم، فألقى بينهم العداوة والاختلاف فتباينوا ... " 1.
وبعد ما كان يرى الكلام هو الفقه الأكبر، وهو من أجل العلوم، أصبح يرى مسائل الكلام ما هي إلا مقالات الفلاسفة، وهي من الأمور المحدثة التي لم يتكلم فيها السلف، وكل أمر محدث في الدين بدعة.
سئل الإمام أبو حنيفة عما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض 2
__________
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص183، 184.
2 الأعراض: جمع عرض ومعناه لغة: هو الظهور والبروز. قال الجوهري: عرض له أمر كذا يعرِض، أي ظهر وعرضت عليه أمر كذا وعرضت له الشيء، أي =
(1/163)
________________________________________
والأجسام؟ فقال: "مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة"1.
فكان رحمه الله يأمر من سأله عن الكلام بأن يتبع الأثر وطريقة السلف، وينهاه عن الأمور المحدثة، فمما سبق يتبين أن الإمام أبا حنيفة باشر علم الكلام وتضلع فيه، ثم نهى عنه وذمه، وكذلك ذمه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، فقد قال: "من طلب الدين بالكلام تزندق" 2.
وقال: "الكلام في الدين أكرهه" 3.
وهذا يدل على أن علم الكلام كان موجودا وكان الناس يتعاطونه، أما قول الذهبي: "إن علم الكلام لم يكن له وجود" 4.
فيظهر أنه لم يرد نفي وجود علم الكلام مطلقا بل أراد أن علم الكلام لم يكن موجودا علما مدونا له كتبه ومصنفاته، أما وجوده علما يتعاطى بالألسن والسماع والمناظرة فهذا لا شك في وجوده.
__________
= أظهرته له وبرزته إليه. وعند المتكلمين العرض ضد الجوهر لأن الجوهر هو ما يقوم بذاته ولا يفتقر إلى غيره ليقوم به، فالجسم جوهر يقوم بذاته. وأمام اللون فهو عرض لأنه لا قيام له إلا بالجسم، فممن قال بنفي الأعراض من المعتزلة عبد الرحمن بن كيسان الأصم ومن الملاحدة الدهرية والسمنية.
انظر الصحاح 3/1082؛ وأصول الدين للبغدادي ص37؛ وأصول الدين للبزدوي ص11-12، ومقالات الإسلاميين ص343-433؛ والفرق بين الفرق ص115-116؛ والمعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص37؛ والشامل في أصول الدين ص167؛ والمواقف ص96؛ والمعجم الفلسفي 2/69.
1 كتاب الحجة في بيان المحجة ص22؛ وذم الكلام للهروي "ق-194-ب".
2 ذم الكلام "ق-173-أ".
3 جامع بيان العلم وفضله ص415.
4 سير أعلام النبلاء 6/398.
(1/164)
________________________________________
وأختم هذا المبحث بوصية الإمام لأصحابه يحثهم فيها على تعلم الفقه، وينهاهم عن الكلام والخصومات في الدين.
قال محمد بن الحسن: "كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام" 1.
وقال لأبي يوسف: "إياك أن تكلم العامة في أصول الدين من الكلام، فإنهم قوم يقلدونك فيشتغلون بذلك" 2.
وقد وفّى أصحابه بهذه الوصية فهذا أبو يوسف ينهى عن الخصومة والجدال في الدين والمراء فيه؛ حيث يقول آمرا أصحابه: "ذروا الخصومة في الدين، والمراء فيه والجدال؛ فإن الدين واضح بيّن، قد فرض الله عزَّ وجلَّ فرائضه، وشرع سننه، وحدّ حدوده، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "ٍسورة المائدة: الآية3".
فأحلوا حلال القرآن وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال فيه، فلو كانت الخصومة في الدين تقوى عند الله لسبق إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده فهل اختصموا في الدين أو تنازعوا فيه؟
وقد اختصموا في الفقه وتكلموا فيه، واختلفوا 3 في الفرائض
__________
1 ذم الكلام "ق-196-ب".
2 مناقب أبي حنيفة للمكي ص373.
3 لعله يريد أنهم اختلفوا في هذه المسائل من مسائل الدين ولم يكن اختلافهم موجبا للخصومة والتفرق بينهم، أو أنه أراد أنهم اختلفوا في مسائل فرعية من الدين ولم يختلفوا في الأصول.
(1/165)
________________________________________
والصلاة والحج والطلاق والحلال والحرام ولم يختصموا في الدين، ولم يتنازعوا فيه فاقتصروا على تقوى الله والزموا ما جرت به السنة، وكفيتم فيه المؤنة، ودعوا ما أحدث المحدثون من التنازع في الدين والجدال فيه والمراء؛ فإن لزوم السنة عصمة بإذن الله تعالى لمن لزمها، والذي سنّها كان أعلم بما في خلافها من الأخطاء والزلل. وقد أنزل الله عزَّ وجلَّ في كتابه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} "سورة الأنعام: الآية68".
ولو شاء أنزل في ذلك جدلا وحجاجا، ولكنه أبى ذلك ونهاهم؛ فقال تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} "سورة النساء: الآية140".
وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} "سورة آل عمران: الآية20".
ولم يقل: وحاجهم 1.
وقال أبو يوسف: "العلم بالكلام يدعو إلى الزندقة" 2.
وقال: "لا تطلبن ثلاثا بثلاث: لا تطلبن الدين بالخصومات فإنه لم يمعن فيه أحد إلا قيل زنديق، ولا تطلب المال بالكيمياء فإنه لم يمعن فيه أحد إلا أفلس، ولا تطلب الحديث بكثرة الرواية حتى تأتي بما لا يعرف فيقال كذاب" 3.
وفي رواية أخرى قال: "من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب
__________
1 فضائل أبي حنيفة وأصحابه لابن العوام ص88.
2 الإبانة الكبرى ص538.
3 الحجة في بيان المحجة ص23.
(1/166)
________________________________________
غريب الحديث كُذّب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس" 1.
وقال كذلك: "المعرفة في الكلام هو الجهل" 2 هذا آخر الحديث عن موقف الإمام أبي حنيفة من علم الكلام المبتدع، أما موقفه من الفرق الكلامية فسأتناوله في المبحث التالي إن شاء الله.
__________
1 الحجة في بيان المحجة ص23؛ والإبانة الكبرى لابن بطة ص537-538.
2 الحجة في بيان المحجة ص23.
(1/167)
________________________________________
المبحث الثالث: موقفه من الفرق الكلامية
أمر الله بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن التفرق والاختلاف في الدين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} "سورة آل عمران: الآيتان 102-103".
وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم وشتتوه، وتفرقوا فيه من اليهود والنصارى، وممن هم على شاكلتهم، واقتدى بهم من أهل الفرقة والأهواء والبدع، فهم ليسوا منك ولست منهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} "سورة الأنعام:159".
وبحمد الله لم يحصل نزاع بين الصحابة يستوجب تضليل أو تفسيق بعضهم ببعض، بل كانوا على عقيدة واحدة. قال طاش كبرى زاده 1: "إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدةٍ
__________
1 هو أحمد بن مصطفى بن خليل أبو الخير عصام الدين طاش كبرى زاده مؤرخ تركي الأصل مستعرب ولد في بورسة سنة 901هـ ونشأ في أنقرة وتأدب وتفقه، ولي القضاء سنة 958هـ في القسطنطينية وكف بصره سنة 961هـ وتوفي سنة 968هـ، الأعلام 1/257.
(1/168)
________________________________________
واحدة لأنهم أدركوا زمان الوحي وشرف الصحبة" 1.
وربما يحصل بينهم الاختلاف في بعض مسائل الأحكام خلافا لا يوجب الفرقة والتفسيق أو التكفير، بل هو اجتهاد منهم في فهم النص، فالمصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر واحد.
قال ابن القيم: "وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال"2.
وهذا هو حال من هم من غير الصحابة من المسلمين؛ فكانوا متفقين في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان لا تنازع بينهم إلى أن قام أهل الفتنة 3 والضلال والبغي بقتل عثمان رضي الله عنه، فتفرق المسلمون بعد ذلك. وأول فرقة فارقت جماعة المسلمين وخرجت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، هي الخوارج فتبرأت من إمام المسلمين، وكفرته ومن معه من المسلمين، ومعاوية ومن معه، فعند ذلك ظهرت الشيعة تؤيد عليا وتنصره. ثم توالى بعد ذلك ظهور البدع، فحدثت في آخر عصر الصحابة بدعتا القدرية والمرجئة، ثم في أواخر الدولة الأموية ظهرت الجهمية ثم المعتزلة.
ويتطلب الحديث عن عقيدة الإمام أبي حنيفة إلمامة موجزة بالفرق والنحل التي في عصره لنعرف مدى تأثره بها أو مخالفته لها.
1- الخوارج
عرفنا أن الخوارج هم فئة خرجت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكفروا المسلمين بفعل كبائر الذنوب، واستحلوا
__________
1 مفتاح السعادة 2/143 ط/دار الكتب العلمية.
2 أعلام الموقعين 1/49.
3 انظر منهاج السنة 6/231.
(1/169)
________________________________________
دماءهم وأموالهم؛ فلا يرثون ولا يوَرَّثون ولا يدفنون في مقابر المسلمين وفي الآخرة سيخلدون في النار.
ولا ريب أنهم أخطئوا في تكفير المسلمين بالذنوب؛ حيث إن الناس عندهم قسمان:
مؤمن لا ذنب له، وكافر لا حسنة له، بينما قسّم الله تعالى الأمة التي أورثها الكتاب وصنفها ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات1.
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} "سورة فاطر: الآية32".
وأما موقف الإمام من بدعة الخوارج في تكفير المسلمين بارتكاب الذنوب، فقد قال في الرد على تلك البدعة: "ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها ولا نزيل عنه الإيمان"2.
وقال كذلك: "ولا نقول إنه يخلد فيها وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا" 3.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" 4.
__________
1 مجموع الفتاوى 7/485 بتصرف.
2 الفقه الأكبر ص304.
3 الفقه الأكبر ص304.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص40.
(1/170)
________________________________________
وقال: "وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون"1.
هذا هو موقف الإمام من بدعة الخوارج، ومع هذا كان يناظر رؤساء الخوارج على اختلاف طبقاتهم.
قال الإمام أبو حنيفة: "وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الإباضية 2 والصفرية3 وغيرهم" 4.
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص45.
2 الإباضية: هم أتباع عبد الله بن إباض التميمي خرج في زمن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية فأرسل إليه مروان بن محمد جيشا فقاتله وقضى عليه.
وافترقت الإباضية فيما بينها إلى أربع فرق هي الحفصية، والحارثية، واليزيدية، وأصحاب طاعة لا يراد الله بها وهم مجمعون على القول بإمامة عبد الله بن إباض والقول بأن كفار هذه الأمة يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الأمة ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار ...
انظر الفرق بين الفرق ص103؛ والملل والنحل 1/134؛ والتبصير في الدين ص34؛ واعتقادات فرق المسلمين ص57.
3 الصفريَّة وهي فرقة من فرق الخوارج اختلف في سبب تسميتها بالصُّفرية فقيل نسبة للصفرة التي تعلو وجوههم وقيل نسبة إلى عبد الله بن صفار وقيل نسبة إلى زياد بن الأصفر وقد تنسب إلى عبد الله التميمي.
وهم أقل شذوذا وغلوا من بقية فرق الخوارج إذ أنهم لم يكفروا مرتكب الكبيرة على الإطلاق كما فعل غيرهم بل ميزوا بين الذنوب التي فيها حد مقرر كالزنا والسرقة فهذه في رأيهم لا يتجاوز بمرتكبها ما سماه الله به من أنه زان أو سارق، وأما الذنوب التي ليس فيها حد مقرر كترك الصلاة والفرار من الزحف فمرتكب مثل هذه الذنوب يعتبرونه كافرا.
انظر الملل والنحل 1/137؛ والفرق بين الفرق ص91؛ والتبصير في الدين ص30؛ والأديان والفرق ض119؛ ودراسة عن الفرق ص59.
4 مناقب أبي حنيفة للمكي ص54.
(1/171)
________________________________________
ومن تلك المناظرات ما ذكره الموفق المكي في كتابه مناقب الإمام أبي حنيفة حيث قال: "إن الخوارج لما ظهروا على الكوفة أخذوا أبا حنيفة فقالوا: تب يا شيخ من الكفر، فقال أنا تائب إلى الله من كل كفر فخلوا عنه، فلما ولّى قيل لهم: إنه تاب من الكفر، وإنما يعني به ما أنتم عليه فاسترجعوه. فقال رأسهم: يا شيخ إنما تبت من الكفر، وتعني به ما نحن عليه؟ فقال أبو حنيفة: أبظن تقول هذا أم بعلم؟ فقال: بل بظن. فقال أبو حنيفة: إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} "سورة الحجرات: الآية12".
وهذه خطيئة منك، وكل خطيئة عندك كفر، فتب أنت أولا من الكفر. فقال: صدقت يا شيخ أنا تائب من الكفر" 1.
ولما بلغ الخوارج أن أبا حنيفة لا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب؛ أوفدوا من يناظره فقالوا له: "هاتان جنازتان على باب المسجد أما إحداهما فلرجل شرب الخمر حتى كظَّته 2 وحشرج 3 بها فمات غرقا في الخمر، والأخرى امرأة زنت حتى إذا أيقنت بالحمل قتلت نفسها فقال لهم أبو حنيفة: من أي الملل كانا؟ أمن اليهود؟ قالوا: لا، أفمن النصارى؟ قالوا: لا، قال: أفمن
__________
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص151، 152.
2 كظته: هو شيء يعتري البطن من امتلاء الطعام يقال: كظه الطعام حتى لا يطيق على النفس.
انظر تهذيب اللغة 9/439، 440؛ والقاموس المحيط 4/57.
3 حشرج: ردد نفسه في حلقه يقال: حشرج المحتضر عند الموت وحشرجت روحه عند صدره أوشك أن يموت.
انظر الصحاح 1/306؛ والمعجم الوسيط 1/175.
(1/172)
________________________________________
المجوس؟ قالوا: لا: قال: من أي الملل كانا؟ قالوا: من الملة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: فأخبروني عن الشهادة كم هي من الإيمان؟ ثلث أم ربع أم خمس؟ قالوا: إن الإيمان لا يكون ثلثا ولا ربعا ولا خمسا، قال: فكم هي من الإيمان؟ قالوا: الإيمان كله قال: فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين.
قالوا: دعنا عنك، أمن أهل الجنة هما أم من أهل النار؟ قال: أما إذا أبيتم، فإني أقول فيهما ما قال نبي الله إبراهيم في قوم كانوا أعظم جرما منهم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "سورة إبراهيم: الآية36".
وأقول فيهما ما قال نبي الله عيسى في قوم كانوا أعظم جرما منهما: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "سورة المائدة: الآية118".
وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} "سورة الشعراء: الآيات 111-113".
وأول فيهما ما قال نبي الله نوح عليه السلام وعليهم أجمعين وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} "سورة هود: الآية31".
قال: فألقوا السلاح وقالوا: "تبرأنا من كل دين كنا عليه، وندين الله بدينك فقد آتاك الله فضلا وحكمة وعلما"1.
__________
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص108، 109.
(1/173)
________________________________________
2- الشيعة
الشيعة والخوارج فرقتان متقابلتان 1 في آرائهما في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فالخوارج تكفّره وتتبرأ منه، والشيعة تنصره وتؤيده وتفضله على عثمان رضي الله عنه. بل إن منهم من يفضله على أبي بكر وعمر، وأنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنص الجليّ والقاطع للعذر، وإن الإمامة لا تخرج عنه وعن ولده.
فردوا على بدعة الخوارج ببدعة أخرى لا تقل فسادا عنها ألا وهي عصمة علي بن أبي طالب، وأفضليته على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنه هو الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مع قولهم بفسوق أبي بكر وعمر وبكفرهما.
فمن يقول بهذه البدعة فهو كاذب مفتر، قد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وعقابه الجلد حدا على فريته وكذبه. وكما قال خليفة المسلمين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري" 2.
وكان يقول: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" 3.
وسأل محمد بن الحنيفة أباه 4 عليا فقال: "أي الناس خير بعد
__________
1 منهاج السنة 6/2231.
2 النبوات ص132.
3 كتاب النبوات ص132، قال ابن تيمية: "قد تواتر هذا عن علي بن أبي طالب".
4 هو محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي قال عنه ابن حجر: "أبو القاسم ابن الحنفية المدني ثقة عالم من الثالثة مات بعد الثمانين".
تقريب التهذيب 2/192؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 9/354.
(1/174)
________________________________________
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" 1.
ولا ريب أن خير الصحابة هم أهل بدر، وخير أهل بدر هم العشرة، وخير العشرة الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا هو ما عليه جمهور أهل السنة، قال ابن عمر: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم" 2.
وفي رواية أخرى قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم" 3.
هذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله حيث قال: "وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب الفاروق ثم عثمان بن عفان ذو النورين ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. عابدين ثابتين على الحق ومع الحق نتولاهم جميعا" 4.
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" 7/20 ح4629؛ وأبو داود كتاب السنة باب في التفضيل 5/26 ح4629 كلاهما من طريق أبي يعلى عن محمد بن الحنفية.
2 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم 7/16 ح3655، والترمذي كتاب المناقب باب تقديم عثمان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم 5/629 ح3707 كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.
3 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عثمان بن عفان 7/53 ح3697 وأبو داود: كتاب السنة باب في التفضيل 5/24 ح4627 كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.
4 الفقه الأكبر ص303.
(1/175)
________________________________________
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون"1.
وكان بالكوفة من رؤساء الشيعة محمد البجلي 2 الملقب بشيطان الطاق، وإليه تنسب الشيطانية من فرق الشيعة، جمع بين بدعة التشيع في الإمامة والقول إن الله لا يعلم الشر قبل أن يكون. فقد نقل عنه الأشعري في المقالات أنه يقول: "يزعمون أن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها، فأما قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها" 3.
فكان بينه وبين الإمام أبي حنيفة مناظرات عديدة منها أنهما تناظرا في فضائل علي بن أبي طالب، أورد تلك المناظرة ابن تيمية في منهاج السنة4 وفيها: "أن أبا حنيفة لقي محمد بن نعمان فقال أبو حنيفة: عمن
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص57.
2 هو محمد بن علي بن نعمان بن أبي طريفة البجلي الكوفي قال عنه ابن حجر: "أبو جعفر الملقب شيطان الطاق نسب إلى سوق في طاق المحامل بالكوفة كان يجلس للصرف بها فيقال: إنه اختصم مع آخر في درهم زيف فغلب فقال أنا شيطان الطاق وقيل إن هشام بن عبد الحكم شيخ الرافضة لما بلغه أنهم لقبوه شيطان الطاق سماه مؤمن الطاق ويقال إن من لقبه شيطان الطاق أبو حنيفة". ولم أقف على تاريخ وفاته.
لسان الميزان 5/300، 301.
3 مقالات الإسلاميين ص37.
4 8/197 وأوردها ابن حجر في لسان الميزان 5/301.
(1/176)
________________________________________
رُوِّيت حديث رد الشمس 1؟ فقال: عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل".
قال ابن تيمية على إثرها: "هذا يدل على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث، فإنه لم يروه إمام من أئمة المسلمين. وهذا أبو حنيفة أحد الأئمة المشاهير، وهو لا يتهم عليا فإنه من أهل الكوفة دار الشيعة، ولقد لقي من الشيعة وسمع من فضائل علي ما شاء الله، وهو يحبه ويتولاه ومع هذا أنكر هذا الحديث على محمد بن نعمان، وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله ولم يجبه النعمان بجواب صحيح إلى أن قال: فأبو حنيفة لا ينكر أن يكون لعمر وعلي وغيرهم كرامات، بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه ومخالفته للشرع والعقل" 2.
وتناظر كذلك بمن هو أحق بالخلافة والأرشد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب الإمام أبو حنيفة بما حيره فأسكته حيث قال له: "نحن نقول كان الحق للصديق، فسلم علي رضي الله عنهما الحق له فكان من أشد الناس وأنتم قلتم: كان الحق لعلي فأخذه الصديق بقوة فكان الصديق أشد الناس حيث أخذ منه حقه بقوته بلا تسليم" 3، فلأجل كذب وتمويه طائفة من الشيعة
__________
1 حديث رد الشمس لعلي أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 2/8؛ والجوزقاني في الأباطيل والمناكير 1/158؛ وابن الجوزي في الموضوعات 1/355، 356 جميعهم من طريق فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قال الجوزقاني على أثره: "حديث منكر مضطرب".
أما لفظه فهو: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فرد عليه الشمس قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت".
2 منهاج السنة 8/197، 198.
3 مناقب أبي حنيفة للكردري ص180.
(1/177)
________________________________________
رد الإمام أبو حنيفة شهادتهم فلا يجيزها.
جاء في كتاب الكفاية عن عمر بن إبراهيم قال:"سمعت ابن المبارك يقول: سأل أبو عصمة الإمام أبا حنيفة بمن تأمرني أن أسمع الأثر؟ قال: من كلّ عدل في هواه إلا الشيعة فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ... " 1.
وفي هذا المعنى يذكر ابن تيمية 2 أن أبا حنيفة ردّ شهادة من عرف بالكذب كالخطابية 3، هذا هو موقف الإمام من الشيعة وبدعتهم.
3- المرجئة الخالصة
تقدم أن الخوارج تعد كل كبيرة كفرا، فجاءت المرجئة الغالية فأعلنت أن الإيمان هو المعرفة 4 فقط. وهؤلاء معروفون بمرجئة الجهمية، وبعضهم قالوا:
__________
1 الكفاية ص302.
2 منهاج السنة 1/62.
3 هم أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع المقتول سنة 143هـ.
قال البغدادي: "الخطابية كلها حلولية لدعواها حلول روح الإله في جعفر الصادق وبعده في أبي خطاب الأسدي، فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة ومن جهة دعواها أن الحسن والحسين وأولادهما أبناء الله وأحباؤه".
الفرق بين الفرق ص255.
انظر عن مقالة هذه الفرقة في مقالات الإسلاميين 1/75؛ والفصل 4/187؛ والملل والنحل 1/380؛ والتبصير ص73.
4 مقالات الأشعري ص132، 279 تحقيق ريتر.
(1/178)
________________________________________
"إن الإيمان هو الإقرار باللسان 1، وهم مرجئة الكرامية 2، وبعضهم زعموا أن الإيمان: هو التصديق فقط3. وذهب جمهورهم 4 إلى أن الإقرار شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وهؤلاء معروفون بمرجئة الماتريدية.
وقال بعضهم: إن الإيمان هو التصديق والإقرار 5. وهؤلاء معروفون بمرجئة الفقهاء. وسموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان".
ولم يكن في زمن الإمام أبي حنيفة إلا النوعان الأول والرابع، فكان
__________
1 انظر مقالات الأشعري ص141 تحقيق ريتر؛ والفرق بين الفرق ص212؛ وكتاب الإيمان لشيخ الإسلام ص126؛ والملل ونحل 1/108.
2 الكرامية: فرقة إسلامية تنسب إلى محمد بن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي في بيت المقدس سنة 256هـ. والكرامية مجسمون أطلقوا على الله لفظ الجسم لذلك عدهم الشهرستاني من الصفاتية الذين غلوا في الإثبات حتى انتهى بهم إلى التشبيه والتجسيم، وأما الأشعري في المقالات: فعدّهم من فرق المرجئة لقولهم: إن الإيمان هو الإقرار والتصديق دون اعتقاد القلب وعمل الجوارح، وعرفوا بالزهد والتقشف والعبادة، وتعدّت فروعهم دون الاختلاف في الأصول، وأكثر أتباعهم في خراسان وما رواء النهر.
انظر الملل والنحل 1/108؛ ومقالات الإسلاميين ص141، وخطط المقريزي 2/357.
3 انظر المسامرة ص330، 331؛ والبداية للصابوني ص152؛ وأصول الدين للبزدوي ص153؛ وبحر الكلام للنسفي ص41؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص119.
4 قلت جمهور الماتريدية لأن بعضهم ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق والإقرار. انظر شرح العقائد النسفية ص120؛ وشرح المقاصد 5/176.
5 مقالات الأشعري ص132-141، وكتاب الإيمان لابن مندة 1/331، وشرح العقيدة الطحاوية ص273.
(1/179)
________________________________________
يرد على النوع الأول كما سيأتي، ويقول بالنوع الرابع.
قال في الرد على من يقول: إن الإيمان هو المعرفة، وأن أهل القبلة لا يدخلون النار مهما اقترفوا من المعاصي، وزعموا أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة 1: "ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، لا نقول: إنه لا يدخل النار ... ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة"2.
وسيأتي مزيد من ذلك في مناظرته للجهم بن صفوان في مفهوم الإيمان. وقرر الطحاوي هذا الرد في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم" 3.
ولقد تبرأ الإمام أبو حنيفة ممن نسب إليه الإرجاء؛ فقال في رسالته إلى البتي 4: "وأما ما ذكرت من اسم المرجئة فما ذنب قوم تكلموا بالعدل، وسماهم أهل البدع بهذا الاسم، ولكنهم أهل عدل وأهل السنة وإنما هذا اسم سماهم به أهل الشنآن" 5.
وإنما قال ذلك بناء على مفهوم الإرجاء عنده، وهو مذهب غلاة المرجئة الذين يجعلون الإيمان: هو المعرفة؛ فلا يضر معه ذنب كما
__________
1 الفصل 4/45 دار المعرفة؛ والفرق بين الفرق ص202؛ والتبصير ص97.
2 الفقه الأكبر ص304.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص41.
4 تقدم ترجمته ص135.
5 رسالة أبي حنيفة للبتي ص38.
(1/180)
________________________________________
تقدمت الإشارة إليه. فأبو حنيفة عنده شيء من الإرجاء الخفيف، وهو النوع الرابع، غير أنه بريء من بقية أنواع الإرجاء.
4- القدرية
اسم أطلقه أهل السنة على الذين نفوا القضاء والقدر السابق من الله تعالى، وزعموا أنهم هم الفاعلون لأعمالهم دون تقدير من الله عزَّ وجلَّ وأن الأمر أُُنُف 1.
وأول من نطق بهذه البدعة رجل كان نصرانيا فأسلم يقال له سوسن 2 من أهل العراق، فأخذها عنه معبد الجهني 3، وأخذها عن معبد غيلان الدمشقي 4. قال الأوزاعي: "أول من نطق بالقدر رجل من
__________
1 الفصل 3/22؛ الملل والنحل 1/43 بتصرف.
2 لم أقف له على ترجمة.
3 هو معبد بن عبد الله الجهني البصري قال عنه الذهبي:
"صدوق في نفسه ولكن سنّ سنّة سيئة فكان أول من تكلم بالقدر ونهى الحسن الناس عن مجالسته وقال هو ضال مضل". وقال ابن العماد: "وفي سنة 80هـ صلب عبد الملك معبدا الجهني وقيل بل عذبه الحجاج بأنواع العذاب وقتله".
ميزان الاعتدال 4/141؛ وشذرات الذهب 1/88؛ وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4/85؛ وتهذيب التهذيب 10/225.
4 هو غيلان بن مسلم الدمشقي أبو مروان قال عنه الذهبي:
"المقتول في القدر ضال مسكين ... كان من بلغاء الكتّاب". وقال عنه طاش كبري زاده: "من أصحاب الحسن البصري في الفقه وله أتباع يقال لهم الغيلانية كان قبطيا قدريا لم يتكلم أحد في القدر قبله ودعا إليه إلا معبدا الجهني" قتل في أول خلافة هشام بن عبد الملك بعد مناظرته للأوزاعي حيث أفتى بقتله.
ميزان الاعتدال 3/338؛ ومفتاح دار السعادة 2/144. وانظر ترجمته في لسان الميزان 4/424.
(1/181)
________________________________________
أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد"1.
فتصدى لهم من بقي من الصحابة كابن عمر وابن عباس وغيرهما وأخبروا أنهم مجوس هذه الأمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم" 2.
ولقد اهتم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بالرد على بدعة القدرية اهتماما بالغا وخاصة في كتابه الفقه الأكبر؛ حيث يقول فيه: "وهو الذي قدر الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره" 3.
ويقول: "وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة، والله تعالى خالقها، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره" 4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن" 5.
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/749-750؛ والشريعة ص242؛ وسير أعلام النبلاء 4/187.
2 أخرجه أبو داود: كتاب السنة باب في القدر 5/66 ح4691؛ والحاكم في المستدرك 1/85، كلاهما من طريق أبي حازم عن ابن عمر قال الحاكم على أثره: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه" وأقره الذهبي في التلخيص.
3 الفقه الأكبر ص302، 303.
4 المصدر السابق.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.
(1/182)
________________________________________
وقال: "وأفعال العباد خلق الله وكسبهم من العباد" 1.
وأرشد أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعض تلاميذه إلى كيفية مناظرة القدري؛ فقد روى الخطيب عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "إذا كلمت القدري فإنما هما حرفان إما أن يسكت وإما أن يكفر. يقال له: هل علم في سابق علمه أن تكون هذه الأشياء كما هي؟
فإن قال لا، فقد كفر، وإن قال: نعم. يقال له: أفأراد أن تكون كما علم، أم أراد أن تكون بخلاف ما علم؟ فإن قال أراد أن تكون كما علم فقد أقر أنه أراد من المؤمن الإيمان ومن الكافر الكفر، وإن قال أراد أن تكون بخلاف ما علم فقد جعل ربه متمنيا متحسرا لأن من أراد أن يكون ما علم أنه لا يكون، أو لا يكون ما علم أنه يكون، فإنه متمنٍّ متحسر، ومن جعل ربه متمنيا متحسرا فهو كافر"2.
وتناظر أبو حنيفة رحمه الله تعالى مع غيلان الدمشقي أحد كبار القدرية وفيه أن غيلان الدمشقي قال لأبي حنفة: "تقول إن المعاصي بمشيئة الله ومراده فقال له أبو حنيفة: وأنت تقول إنها بكره من الله وعجزه، ومن نسب الله إلى العجز فهو كافر فانقطع غيلان" 3.
وتناظر أبو حنيفة مع قدري آخر وفيها:
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص53.
2 تاريخ بغداد 13/382، 383.
3 من كتاب الكنز الخفي من اختيارات الصفي للشيخ أبي محمد عثمان بن عبد الله بن الحسن ق "135/ب".
(1/183)
________________________________________
أن أبا حنيفة قال له: "جئت أم جيء بك؟ قال: بل جئت باختياري فقال: اجلس فجلس، فقال أبو حنيفة جلستَ أو أُجلست؟ قال: بل جلست باختياري فقال له: قم، فقام القدري فقال له أبو حنيفة: ارفع إحدى رجليك فرفعها فقال له: رفعت أو رُفعت لك قال: بل رفعتها قال: فإن كان كما زعمت؛ فكل هذه الأفعال منك وباختيارك فارفع الرجل الأخرى قبل أن تضع الأولى، فتحير القدري" 1.
وناظر أبو حنيفة جماعة من القدرية حيث أتوا إليه فقالوا له: "نخاصمك قال: فيم تخاصمونني قالوا: في القدر، قال: أما علمتم أن الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد نظرا ازداد حيرة..أو قال تحيرا. قالوا: ففي القضاء والعدل، قال: فتكلموا على اسم الله فقالوا: هل يسع أحدا من المخلوقين أن يجري في ملك الله ما لم يقض؟ قال: لا، إلا أن القضاء على وجهين، منه أمر وحي والآخر قدرة، فأما القدرة فإنه لا يقضي عليهم ويقدر لهم الكفر، ولم يأمر به بل نهى عنه، والأمر أمران أمر الكينونة إذا أمر شيئا كان وهو على غير أمر الوحي. قالوا فأخبرنا عن أمر الله أموافق لإرادته أم مخالف؟ قال: أمره من إرادته وليس إرادته من أمره. وتصديق ذلك قول الله عزَّ وجلَّ لإبراهيم: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} "سورة الصافات: الآية102".
ولم يقل ستجدني صابرا من غير إن شاء الله؛ فكان ذلك أمره ولم يكن من إرادته ذبحه.
قالوا: فأخبرنا عن اليهود والنصارى الذين قالوا على الله عزَّ وجلَّ
__________
1 من كتاب الكنز الخفي من اختيارات الصفي ق "135/ب".
(1/184)
________________________________________
ما قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} "سورة التوبة: الآية30".
فقضى الله على نفسه أن يشتم وأن تضاف إليه الصاحبة والولد؟.
فقال أبو حنيفة: إن الله لا يقضي على نفسه إنما يقضي على الله عباده، ولو كان يقضي على نفسه لجرت عليه القدرة.
قالوا: فأخبرنا عن الله عزَّ وجلَّ إذا أراد من عبده أن يكفر أحسن إليه أم أساء؟ قال: لا يقال أساء ولا ظلم إلا لمن خالف ما أمر به، والله قد جلّ عن ذلك، وقد عرف عباده ما أراد منهم من الإيمان به، فقالوا: يا أبا حنيفة أمؤمن أنت؟ فقال: نعم، قالوا: أفأنت عند الله مؤمن؟ قال: تسألوني عن علمي وعزيمتي أو عن علم الله وعزيمته؟ قالوا: بل نسألك عن علمك، ولا نسألك عن علم الله، قال: فإن بعملي أعلم أني مؤمن ولا أعزم على الله عزَّ وجلَّ في علمه، فقالوا: يا أبا حنيفة: ما تقول فيمن جحد حرفا من كتاب الله؟ قال: كافر لأن الله عزَّ وجلَّ قال مهددا لهم وموعدا: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} "سورة الكهف: الآية29".
قالوا: فإن كان هذا من باب الوعيد وقال إني لا أؤمن ولا أكفر. قال: فقد خصمتم أنفسكم، ألا ترون أني إن لم أؤمن فأنا مجبور في إرادة الله عزَّ وجلَّ على الكفر، وإن لم أكفر فأنا مجبور في إرادة الله عزَّ وجلَّ على الإيمان قالوا: يا أبا حنيفة حتى متى تضل الناس؟ قال: ويحكم إنما يضل الناس من يستطيع أن يهديهم والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء" 1.
__________
1 الانتقاء ص164، 165.
(1/185)
________________________________________
5- الجهمية
تنسب الجهمية إلى جهم بن صفوان أبي محرز مولى بني راسب يلقبه بعضهم بالترمذي، والبعض الآخر بالسمرقندي المتوفى سنة 218هـ. وأتباعه يعرفون بالجهمية نسبة إليه، وقد صار لقبا على معطلة الصفات باعتبار أن الجهمية هي أول من قالت به ولها بدع أخرى غير هذه البدعة منها القول بأن الإيمان هو معرفة الله تعالى فقط والكفر هو الجهل به، والقول بالجبر حيث زعمت أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور على أفعاله1.
فهم بهذا مخالفون لنصوص الكتاب والسنة الصريحة القاطعة؛ لذا يرى بعض السلف أنهم ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. يقول عبد الله بن المبارك: "الجهمية ليسوا من الاثنتين والسبعين فرقة" 2.
لذلك كفر الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى جهم بن صفوان.
فقد روى الخطيب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني 3 قال:
"سمعت أبا حنيفة يقول: جهم بن صفوان كافر" 4.
__________
1 انظر مقالات الإسلاميين 1/338؛ والفرق بين الفرق ص221؛ والتبصير في أصول الدين ص63؛ والملل والنحل 1/86-87؛ وتاريخ الطبري 7/335؛ والبداية والنهاية 10/26، 27..
2 كتاب النبوءات ص133.
3 هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني بكسر المهملة وتشديد الميم أبو يحيى الكوفي، قال عنه ابن حجر: "صدوق يخطئ ورمي بالإرجاء من التاسعة". مات سنة 202هـ. تقريب التهذيب 1/469، وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1206.
4 تاريخ بغداد 13/382.
(1/186)
________________________________________
وفي رواية أخرى أنه بعدما ناظره قال له: "اخرج عني يا كافر" 1.
ولقد أوَّل صاحب كتاب المسايرة كلام الإمام أبي حنيفة هذا.
قال الكشميري 2: "وفي المسايرة عن أبي حنيفة أنه قال بعدما ناظره في مسألة: اخرج عني يا كافر. وقد أوّل قوله هناك ثم قال الكشميري: قلت: بل ما قاله صحيح لا ينبغي أن يؤوّل قوله؛ فإن شأن الإمام أرفع 3 من أن تجري كلمة على لسانه لا يرضاها الله ورسوله، وكان جهم ينفي الصفات ... "4.
وكان الإمام أبوح حنيفة رحمه الله تعالى يذم جهما ويعيب قوله، كما ذكر أبو يوسف فقد قال: "إن أبا حنيفة كان يذم جهما ويعيب قوله" 5.
وممّا عاب على جهم قوله بخلق القرآن. فقد روى الخطيب عن ابن أبي شيبة قال: "قدم ابن المبارك على أبي حنيفة، فقال له أبو حنيفة: ما هذا الذي دبّ فيكم؟ قال: له رجل يقال له جهم، قال: وما يقول؟
__________
1 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 1/11.
2 هو محمد أنور بن معظم شاه بن عبد الكبير بن عبد الخالق النروري الكشميري ولد في سنة ألف ومائتين واثنتين وتسعين وتوفي في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف في ديوبند ومن أشهر مؤلفاته التصريح بما تواتر في نزول المسيح وفيض الباري على صحيح البخاري.
انظر ترجمته في نزهة الخواطر 8/80؛ ومقدمة فيض الباري ص17-24.
3 هذا من غلو بعض الحنفية في أئمتهم.
4 فيض الباري 14/514.
5 تاريخ بغداد 13/382.
(1/187)
________________________________________
قال: يقول القرآن مخلوق، فقال أبو حنيفة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} " 1.
فنهى عن القول بقوله أو الصلاة خلفه. فعن أبي سوف أن أبا حنيفة قال: "من قال القرآن مخلوق فهو مبتدع؛ فلا يقولن أحد بقوله ولا يصلين أحد خلفه" 2.
وعاب عليه إفراطه في نفي الصفات؛ حيث قال: "قاتل الله جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان هذا أفرط في النفي، وهذا أفرط في التشبيه" 3.
وفي رواية أخرى قال: "أفرط جهم في نفي التشبيه؛ حيث قال: إن الله ليس بشيء" 4.
ورد عليه قوله بفناء الجنة والنار حيث قال: "والجنة والنار مخلوقتان اليوم لا تفنيان أبدا، ولا تموت الحور العين أبدا، ولا يفنى عقاب الله وثوابه سرمدا" 5.
وقرر الطحاوي هذا الرد في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا، ولا تبيدان، والله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق" 6.
ورد عليه قوله بأن الإنسان مجبور، لا قدرة له ولا اختيار، حيث
__________
1 تاريخ بغداد 13/384.
2 تاريخ بغداد 13/383-384.
3 تاريخ بغداد.
4 تاريخ بغداد 13/166؛ وفتح الباري 13/345.
5 الفقه الأكبر ص305.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 51.
(1/188)
________________________________________
قال: "ولم يجبر 1 أحدا من خلقه على الكفر، ولا على الإيمان" 2.
وقال كذلك: "فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده للحق وبخذلان الله تعالى إياه، وآمن من آمن بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له" 3.
وأختتم موقف الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى من جهم وبدعه برده عليه في قوله إن الإيمان هو معرفة الله تعالى فقط؛ حيث قال له: "قد جعل الله تبارك وتعالى الإيمان بكتابه بجارحتين بالقلب واللسان، فقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} " إلى قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} "سورة المائدة: الآيات من: 83-85".
فأوصلهم الجنة بالمعرفة والقول وجعلهم مؤمنين بالجارحتين القلب واللسان.
قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} "سورة البقرة: الآيتان 136، 137".
وقال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} "سورة الفتح: الآية26".
__________
1 لفظ "جبر": ليس له أصل في الكتاب والسنة لذلك كره السلف أن يقال: "جبر" أو يقال: "ما جبر" قال الأوزاعي: "ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبْل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال الزبيدي: "أمر الله أعظم وقدرته أجل وأكبر من أن يجبر أو يقهر ولكن يقضي ويقدر ويجبل عبده على ما أحب".
انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/700.
2 الفقه الأكبر ص303.
3 الفقه الأكبر ص303.
(1/189)
________________________________________
وقال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} "سورة الحج: الآية 24".
وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} "سورة فاطر: الآية10".
وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} "سورة إبراهيم: الآية27".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " 1، فلم يجعل الفلاح بالمعرفة دون القول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه كذا" 2.
ولم يقل يخرج من النار من عرف الله وكان في قلبه كذا ... ولو كان القول لا يحتاج إليه ويُكتفى بالمعرفة لكان من جحد الله باللسان وعرفه
__________
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/611، 612 من طريق جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي قال الحاكم على أثره: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي في التلخيص. وأخرجه أحمد في المسند 4/63 من طريق شيبان عن أشعث عن شيخ من بني مالك بن كنانة، وأرده الهيثمي في المجمع 6/21-22 وقال: "رجاله رجال الصحيح".
2 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/392، 393 ح7410، ومسلم: كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/182 ح325، وابن ماجه كتاب الزهد باب ذكر الشفاعة 2/1442 ح4312، جميعهم من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
ولفظه عند مسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برَّة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة".
(1/190)
________________________________________
بقلبه مؤمنا، ولكان إبليس مؤمنا لأنه عارف بربه يعرف أنه خالقه ومميته وباعثه ومغويه قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} "سورة الحجر: الآية 39".
وقال تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} "سورة الأعراف: الآية 14".
وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} "سورة الأعراف: الآية 12".
ولكان الكفار مؤمنين بمعرفتهم ربهم وإن أنكروا بلسانهم. قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} "سورة النمل: الآية 14".
فلم يجعلهم مع استيقانهم بأن الله واحد مؤمنين مع جحدهم بلسانهم. وقال عزَّ وجلَّ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} "سورة النحل: الآية 83".
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} "سورة يونس: الآيتان 31،32".
فلم ينفعهم معرفتهم مع إنكارهم:
قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"} "سورة البقرة: الآية 146".
يعني النبي صلى الله عليه وسلم؟! فلم تنفعهم المعرفة مع كتمانهم أمره وجحودهم
(1/191)
________________________________________
به فقال له الجهم في خلدي شيئا فسأرجع إليك، فقام من عنده ولم يعد إليه" 1.
هذا جارٍ على مذهب أبي حنيفة في أن الأعمال ليست من الإيمان، وإنما الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان.
وما ذكر من الأدلة غايتها أن تدل على أن القول باللسان من الإيمان، وأن أصل الإيمان الذي هو الدخول في الإسلام لا يحصل إلا بالتصديق بالقلب والإقرار باللسان لا تدل على أن الأعمال ليست من الإيمان.
ويتلخص موقف أبي حنيفة من جهم وبدع الجهمية فيما يلي:
"أ" تكفيره لهم ويظهر من هذا أنه لا يعتبرهم من أهل القبلة.
"ب" عدم جواز الصلاة خلفهم.
"ج" إنكاره لبدعهم أشد الإنكار كخلق القرآن والقول بالجبر وتعطيل الصفات والقول بالإرجاء المطلق.
6- المعتزلة
ظهرت هذه الفرقة في نهاية القرن الهجري الأول وبلغت شأوها في العصر العباسي الأول. يرجع اسمها إلى اعتزال إمامها واصل بن عطاء 2
__________
1 مناقب أبي حنيفة للمكي ص124، 125، 126.
2 هو واصل بن عطاء المعروف بالغزّال من موالي بني مخزوم وقيل من موالي بني ضبة، قال عنه الذهبي: "البليغ الأفوه..كان ألثغ بالراء غينا فلاقتداره على اللغة وتوسعه يتجنب الوقوع في لفظة فيها راء ... وهو وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال طرده الحسن من مجلسه لما قال: "الفاسق لا مؤمن ولا كافر فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن وتبعهما أنصارهما فسموا المعتزلة". مات سنة =
(1/192)
________________________________________
مجلس الحسن البصري لقول واصل: "إن مرتكب الكبيرة ليس كافرا ولا مؤمنا، بل هو في منزلة بين المنزلتين. ولما اعتزل واصل مجلس الحسن البصري وجلس عمرو بن عبيد 1 وتبعهما أنصارهما قيل لهم المعتزلة أو معتزلون 2، ومنذ انضمام عمرو بن عبيد لواصل بن عطاء واعتزالهما الناس ظهر منهما آراء مبتدعة لم يكن عليها الأوائل عاداهما علماء السلف وحذّروا منهما: قال عبد الله بن المبارك:
أيها الطالب علما
ائت حماد بن ز يد
فخذ العلم بحلم
ثم قيّده بقيد
وذر البدعة من
أثار عمرو بن عبيد 3
وروى الهروي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: دخلت على مالك، وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال: "لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرو بن عبيد فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل"4.
__________
= 131هـ. سير أعلام النبلاء 5/464، 465.
وانظر ترجمته في لسان الميزان 6/214؛ وشذرات الذهب 1/182.
1 هو عمرو بن عبيد البصري التميمي بالولاء قال عنه ابن حبان: "كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة" مات سنة 143هـ وقيل سنة 144هـ.
ميزان الاعتدال 3/273، وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 12/187.
2 انظر الفرق بين الفرق 3/273؛ والتبصير ص37؛ والملل والنحل 1/46-49؛ والخطط للمقريزي 2/345، 346.
3 ذم الكلام "ق-196/أ".
4 ذم الكلام "ق-173/ب".
(1/193)
________________________________________
وكذلك لعنه الإمام أبو حنيفة؛ فقد روى الهروي عن محمد بن الحسن قال: قال أبو حنيفة: "لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام" 1.
وقال الإمام أبو حنيفة عن المعتزلة: "لم يكن في طبقات أهل الأهواء أحد أجدل من المعتزلة؛ لأن ظاهر كلامهم مموه تقبله القلوب" 2.
وأنكر عليهم إبطالهم للصفات حيث قال: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف" 3.
وردّ عليهم قولهم: إن القرآن مخلوق؛ حيث قال: "وكلام الله تعالى غير مخلوق" 4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه؛ حيث قال: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية" 5.
وبالجملة فكتابه الفقه الأكبر رد على الجهمية والمعتزلة فيما أنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته؛ فقد ضمنه جملة من الصفات الإلهية التي وردت في الكتاب والسنة الصحيحة.
__________
1 ذم الكلام "ق-196/ب".
2 مناقب أبي حنيفة للمكي ص.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 الفقه الأكبر ص302
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
(1/194)
________________________________________
7- المشبهة
التشبيه في اللغة دلالة على مشاركة أمر آخر في معنى، فالأمر الأول هو المشبه والثاني هو المشبه به وذلك المعنى هو وجه الشبه 1.
والمشبهة: هم قوم يشبهون الله تعالى بالمخلوقات ويمثلونه بالمحدثات 2، وقاسوا صفات الخالق على ما ألفوه وشاهدوه من صفات المخلوقين. ومن الذين قالوا في التشبيه في الإسلام واشتهروا به مقاتل بن سليمان 3 الذي بالغ في إثبات الصفات لله عزَّ وجلَّ حتى قال بالتجسيم. ولعل السبب في غلوه في إثبات الصفات هو غلو جهم بن صفوان في إنكار صفات الله عزَّ وجلَّ. قال الذهبي: "وظهر بخراسان الجهم بن صفوان ودعا إلى تعطيل صفات الرب عزَّ وجلَّ وخلق القرآن، وظهر بخراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم" 4.
ونقل عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول: "إن الله جسم وإن له جمّة وأنه على صورة إنسان من لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء
__________
1 التعريفات للجرجاني ص58.
2 التعريفات للجرجاني ص216.
3 هو مقاتل بن سليمان بن بشر الخراساني أبو الحسن البلخي نزيل مرو قال عنه ابن حجر: "كذبوه وهجروه ورمي بالتجسيم" وقال ابن حبان: "كان يأخذ عن اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كبتهم وكان يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث" مات سنة 150هـ، انظر كتاب المجروحين 3/14، وتقريب التهذيب 2/272، وانظر ترجمته في ميزان الاعتدال 4/173، وتهذيب التهذيب 10/279.
4 تذكرة الحفاظ 59-160.
(1/195)
________________________________________
من يد ورجل ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره" 1.
وأتباعه يسمون المقاتلية، فازدهرت مدرسة مقاتل، ولاقت نجاحا في خراسان موطن مقاتل وتأثر بها هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، وداود الجواريبي، وهؤلاء جميعا من الرافضة وتأثر بها فيما بعد ابن كرام.
لذلك وصفهم الإمام أبو حنيفة بأنهم شرار الناس حيث قال: "صنفان من شر الناس بخراسان الجهمية والمشبهة ربما قال والمقاتلية" 2.
ووصف التشبيه والتعطيل بأنهما رأيان خبيثان فقال: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان جهم معطل ومقاتل مشبه" 3.
وروى الخطيب البغدادي عن أبي يوسف أن أبا حنيفة ذكر عنده جهما ومقاتل فقال: "كلاهما مفرط أفرط جهم في نفي التشبيه حيث قال: إنه ليس بشيء، وأفرط مقاتل بن سليمان حتى جعل الله مثل خلقه" 4.
فلبدعة مقاتل ذمَه علماء السلف، وتركوا الرواية عنه قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: "أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم نظير، يعني في البدعة والكذب: جهم بن صفوان، وعمر بن صبيح 5 ومقاتل بن سليمان" 6.
__________
1 مقالات الإسلاميين 1/214، 258، 259.
2 تاريخ بغداد 13/382.
3 تاريخ بغداد 13/164.
4 تاريخ بغداد 13/166.
5 هو عمر بن صبيح بن عمر التميمي أو العدوي أبو نعيم الخراساني قال عنه ابن حجر: "متروك كذبه ابن راهويه من السابعة".
تقريب التهذيب 2/58؛ وانظر ترجمته في الكامل في الضعفاء 5/1583.
6 تاريخ بغداد 13/164.
(1/196)
________________________________________
وقال أحمد بن سيار بن أيوب 1: "مقاتل بن سليمان كان من أهل بلخ تحول إلى مرو وخرج إلى العراق، ومات بها، يكنى أبا الحسن، وهو متهم متروك الحديث مهجور القول، وكان يتكلم في الصفات بما لا يحل الرواية عنه" 2.
وقال أبو يوسف: "صنفان ما على الأرض أبغض إليّ منهما: المقاتلية والجهمية" 3.
ورد الإمام أبو حنيفة على بدعة المشبهة بقوله: "ولا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه" 4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه؛ حيث قال: "ولا شيء مثله ... لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام ولا يشبه الأنام" 5.
وقال: "ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلّ ولم يصب التنزيه" 6.
وقال كذلك: "من وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر" 7.
هذا هو موقف الإمام من الفرق الكلامية وأقوالهم المبتدعة، وأما
__________
1 أحمد بن سيار بن أيوب أبو الحسن المروزي قال عنه ابن حجر: "الفقيه ثقة حافظ من الحادية عشر" مات سنة 261هـ.
تقريب التهذيب 1/16؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/35.
2 تاريخ بغداد 13/163.
3 تاريخ بغداد 13/164.
4 الفقه الأكبر 301.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص18، 19.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص28.
7 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص25.
(1/197)
________________________________________
مفهومه للجماعة فيكفي للدلالة عليه إجابته عن سؤال عطاء بن أبي رباح من أي الأصناف أنت؟ فأجابه بقوله: "أنا ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا بذنب، فقال له عطاء: عرفت فالزم" 1.
__________
1 تاريخ بغداد 13/331.
(1/198)
________________________________________
الباب الثاني: بيان اعتقاده في التوحيد
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: توحيد الربوبية.
الفصل الثاني: توحيد الألوهية.
الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات.
(1/199)
________________________________________
الفصل الأول: توحيد الربوبية
وفيه ثلاثة مباحث:
تمهيد: في تعريف التوحيد وأقسامه.
المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه.
المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتلكلمين في تقرير الربوبية.
المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية.
(1/201)
________________________________________
تمهيد: في تعريف التوحيد وأقسامه
1- تعريف التوحيد
"أ" التوحيد لغة:
هو تفعيل وحَّد يقال: "وحّده وأحّده كما يقال ثناه وثلّثه" 1 "وحده توحيدا أي جعله واحدا" 2.
والتوحيد الإيمان بالله وحده لا شريك له 3.
قال أبو القاسم التيمي 4: "التوحيد على وزن التفعيل وهو مصدر وحدته توحيدا ... ومعنى وحدته جعلته منفردا عما يشاركه أو يشبهه في ذاته وصفاته، والتشديد فيه للمبالغة أي بالغت في وصفه بذلك. وقيل الواو فيه مبدلة من الهمزة، والعرب تبدل الهمزة من الواو، وتبدل الواو من الهمزة كقولهم وشاح وأشاح، وتقول العرب أحّدهن لي وحدّهن لي أي جعلهن لي أحد عشر. ويقال جاءوا آحاد آحاد أي واحدا واحدا، فعلى هذا فالواو في التوحيد أصلها الهمزة".
__________
1 الصحاح 2/548.
2 القاموس المحيط 1/343.
3 القاموس المحيط 1/343.
4 هو إسماعيل بن محمد بن الفضل بن العلي بن أحمد القرشي التيمي الطلحي الأصبهاني الملقب بقوام السنة. قال عنه الذهبي: "الإمام العلامة الحافظ شيخ =
(1/203)
________________________________________
قال الهذلي1:
ليت الصريمة2 أُحدان الرجال له
صيد ومجتزئ بالليل هجاس
وتقول العرب: "واحد وَحِد ووَحْد ووحيد أي: منفرد، فالله تعالى واحد أي منفرد عن الأنداد والأشكال في جميع الأحوال. فقولهم: وحَّدت الله: من باب عظمت الله، وكبرته، أي علمته عظيما وكبيرا.
فكذلك وحدته: أي علمته واحدا، منزها عن المثل في الذات والصفات" 3.
وقال الجرجاني 4: "التوحيد في اللغة الحكم بأن الشيء واحد، والعلم بأنه واحد" 5.
وقال العيني 6 والقسطلاني 7: "ومعنى وحدت الله: اعتقدته منفردا
= الإسلام" مات سنة 535هـ، سير أعلام النبلاء 20/80؛ وانظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 4/1277؛ والمنتظم 10/90.
__________
1 هو مالك بن خانع الخناعي الهذلي وهذا البيت في وصف الأسد.
انظر ديوان الهذليين 3/4.
2 الصريمة رميلة فيها شجر وجمعها الصرائم. الصحاح 5/1966.
3 الحجة في بيان المحجة للتيمي ص239-240.
4 هو علي بن محمد بن علي الجرجاني قال عنه اللكنوي: "علم نحرير قد حاز على قصبات السبق في التحرير فصيح العبارة دقيق الإشارة نظار فارس في البحث والجدل ولد في جرجان سنة 740هـ ... وتوفي بشيراز سنة 816هـ.
5 التعريفات ص69
6 هو بدر الدين أبو الثناء محمود بن أحمد بن موسى بن حسين العنتابي الأصل والمولد والمنشأ المصري الدار والوفاة الحنفي المعروف بالعيني قال عنه تلميذه ابن تغري بردي: "هو علامة فريد عصره ووحيد دهره وعمدة المؤرخين ... ".
7 هو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن أحمد القسطلاني المصري =
(1/204)
________________________________________
بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه" 1.
فالمقصود أن التوحيد في اللغة الاعتقاد في الشيء أنه واحد، والحكم بأنه واحد، والعلم بأنه واحد ونسبة الشيء إلى الوحدانية وجعل الشيء واحدا".
"ب" التوحيد اصطلاحا:
التوحيد عند أهل الكلام إفراد القديم من المحدَث 2.
وقيل: "إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات" 3.
وقيل: "إفراد القديم عن الحدث" 4.
وقيل: نفي التقسيم لذاته، ونفي التشبيه عن حقه وصفاته، ونفي الشريك معه في أفعاله ومصنوعاته5.
وقيل: سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا شبيه له، وألوهيته وملكه وتدبيره لا شريك له، ولا رب سواه، ولا خالق غيره 6.
__________
= الشافعي قال عنه ابن العماد: "الإمام العلامة الحجة الرحلة الفقيه المقرئ المسند" ولد سنة 851هـ وتوفي سنة 923هـ.
1 عمدة القاري 25/81؛ إرشاد الساري 10/357.
2 فتح الباري 13/344.
3 عمدة القاري 25/81.
4 إرشاد الساري 10/357.
5 إرشاد الساري 10/357.
6 فتح الباري 13/345.
(1/205)
________________________________________
وقال الجرجاني: "واصطلاح أهل الحقيقة تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام ويتخيل في الأوهام والأذهان. والتوحيد ثلاثة أشياء: معرفة الله تعالى بالربوبية، والإفراد بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة" 1.
وقال الشهرستاني 2: "إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له" 3.
وقال الملاَّ علي قاري 4frown.gif "واحدا في ذاته، ووحدا في صفاته، وخالقا لمصنوعاته" 5.
وقال الشيخ محمد عبده 6: "إثبات الوحدة لله في الذات، والفعل في خلق الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون ومنتهى كل قصد" 7.
__________
1 كتاب التعريفات ص69.
2 هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني قال عنه الذهبي: "شيخ أهل الكلام والحكمة وصاحب التصانيف. صنف كتاب نهاية الإقدام وكتاب الملل والنحل وكان كثير المحفوظ قوي الفهم مليح الوعظ". مات سنة 548هـ؛ سير أعلام النبلاء 20/286؛ وانظر ترجمته في شذرات الذهب 4/149.
3 الملل والنحل 1/42.
4 هو علي بن سلطان الهروي القاري الحنفي قال عنه الشوكاني: "أحد جماهير الأعلام ومشاهير أولي الحفظ والإفهام" توفي سنة 1014هـ.
البدر الطالع 1/445؛ وانظر ترجمته في خلاصة الأثر 3/185؛ وهداية العارفين 1/751.
5 ضوء المعالي للقاري ص13.
6 هو محمد بن عبدة بن حسن خير الله من آل تركمان مفتي الديار المصرية ومن قادة الإصلاح الحديث ولد سنة 1266 وتوفي سنة 1323هـ.
الأعلام للزركلي 6/252، 253..
7 رسالة التوحيد.
(1/206)
________________________________________
فالحاصل أنهم لا يعرضون لتوحيد الألوهية ويفسرونه بتوحيد الربوبية؛ فظنوا أنه هو المطلوب من العبادة وأن معنى لا إله إلا الله لا خالق إلا الله أو لا قادر على الاختراع إلا الله.
فأفنوا أعمارهم بما لم ينازع فيه المشركون لكن لم ينفعهم ذلك ولم يدخلهم الإسلام.
ومعلوم أن المقصد الأعظم الذي أرسل لأجله الرسل وأنزلت الكتب وخلق له الجن والإنس هو عبادة الله وحده لا شريك له، فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله.
أما التوحيد المستنبط من الكتاب والسنة فهو:
الإقرار بالقلب واللسان بأن الله رب كل شيء ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الخالق لكل شيء، وأنه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه؛ فلا رب غيره ولا إله سواه ولا شريك ولا ند له، ثم إفراده بالعبادة وذلك بصرف جميع أنواع العبادة له وإخلاص الدين له. فهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل بكل جوانبه ظاهرا وباطنا علما وعملا.
هذا هو معناه الاصطلاحي، أما المناسبة بينه وبين معنى التوحيد في اللغة: فهي أن المعنى الاصطلاحي أخص من اللغوي وهذا شأن عامة المعاني الشرعية مع المعاني اللغوية كما في الصلاة والصوم والحج.
(1/207)
________________________________________
2- أقسام التوحيد
قسم أهل العلم 1 التوحيد إلى أقسام:
فمن العلماء من قسمه إلى نوعين وهما:
1- التوحيد في المعرفة والإثبات.
2- التوحيد في القصد والطلب.
ومنهم من قسمه إلى ثلاثة أنواع هي:
1- توحيد الربوبية.
2- توحيد الألوهية.
3- توحيد الأسماء والصفات. ولا منافاة بين الطريقتين في التقسيم، فمن جعله ثنائيا فقد أجمل، ومن جعله ثلاثيا فقط فصل.
وقد ورد تقسيم التوحيد في الجملة في كلام أبي حنيفة وبعض أتباعه، دل على هذا قول الإمام أبي حنيفة: "والله تعالى يدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء" 2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "نقول معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره". فقوله: "ولا
__________
1 أما أهل الكلام فقد قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام هي:
1- توحيد الذات فهو واحد في ذاته لا قسيم له.
2- توحيد الصفات فهو واحد في صفاته لا شبيه له.
3- توحيد الأفعال فهو واحد في أفعاله لا شريك له.
انظر مجموع الفتاوى 3/98.
2 الفقه الأبسط ص51
(1/208)
________________________________________
شيء مثله" في توحيد الأسماء والصفات، وقوله: "ولا شيء يعجزه" في توحيد الربوبية والقدرة، وكل ذلك في توحيد المعرفة والإثبات، وقوله: "ولا إله غيره"1 في توحيد الألوهية، وذلك في توحيد الطلب والقصد. وما أشار إليه الطحاوي قرره ابن أبي العزَّ شارح متن العقيدة الطحاوية، حيث قال: "ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد" 2.
وذكر هذا شارح فقه الأكبر الملاّ علي القاري حيث قال: "ابتداء كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين يشير إلى تقرير توحيد الربوبية، المترتب عليه توحيد الألوهية، المقتضي من الخلق تحقيق العبودية" 3.
فما أشار إليه الإمام أبو حنيفة وقرره الطحاوي وابن أبي العز الحنفي هو ما دل عليه القرآن والسنة واللغة.
قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} "سورة الزخرف: الآية 87".
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} "سورة يونس: الآية31".
وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
__________
1 متن العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص17و18.
2 شر العقيدة الطحاوية ص31.
3 شرح الفقه الأكبر ص15.
(1/209)
________________________________________
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} "سورة المؤمنون: الآيات 84-89".
فأخبر الله تعالى أن المشركين الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم معترفون بالربوبية لا ينكرونها، ولا يجعلون أحدا من آلهتهم شريكا لله في ربوبيته من الخلق والرزق والملك والتدبير والتصريف، فهذه حقيقة لا ينكرها المشركون، وأخبر تعالى أن المشركين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أخرى لما نهاهم عن اتخاذا الشركاء وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده.
فهذا باطل عندهم وفاسد، وقالوا ما حكى الله عنهم في كتابه الكريم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} "سورة ص: الآية 5".
لذا تعجبوا كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والأنداد ويأمر بإخلاص العبادة لله وحده.
وأما الأدلة من السنة فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه والداخلين في الإسلام من جديد بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، حيث كانوا مقرين بأن الله هو الخالق. فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: " إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ... " 1.
وفي رواية: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب الزكاة باب أخذ صدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا 3/357 ح1496.
من طريق أبي معبد عن ابن عباس.
(1/210)
________________________________________
إلى أن يوحدوا الله تعالى ... " 1.
وفي رواية أخرى قال: "إنك تقدم قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل …" 2.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" 3.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن حق الله على العباد أن يوحدوه بالعبادة ويفردوه في ذلك، ويتجردوا من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، حيث قال لمعاذ بن جبل: " أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: ألا يعذبهم" 4.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى 13/347 ح7372 من طريق أبي معبد عن ابن عباس.
2 أخرجه مسلم: كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام 1/51 ح31 طريق أبي معبد عن ابن عباس.
3 أخرجه البخاري: كتاب الإيمان باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1/75 ح25، من طريق واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر. ومسلم: كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1/53 ح36 من طريق زيد بن عبد الله عن ابن عمر.
4 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله 13/. ومسلم: كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا 1/59 كلاهما من طريق الأسود بن هلال عن معاذ بن جبل.
(1/211)
________________________________________
وأما في لغة العرب فإن معنى الرب غير معنى الإله. فالأول يدل على الإحاطة والخلق والإيجاد والتربية، والثاني يدل على المعبود بحق أو باطل كما سيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
فالمقصود أن الكتاب والسنة واللغة دلت جميعها على أن هناك فرقا بين الربوبية والألوهية.
وهذا خلاف ما عليه المتكلون فهم خلطوا معنى الألوهية بالربوبية، وظنوا أن الألوهية هي القدرة على الاختراع، فمن أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد صار عندهم موحدا، وليس الأمر كما ذهبوا إليه بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد دون غيره.
(1/212)
________________________________________
المبحث الأول: معنى توحيد الربوبية وخصائصه
1- توحيد الربوبية لغة
توحيد الربوبية مركب من كلمتين: التوحيد وقد تقدم 1، أما الربوبية فهي مأخوذة من الرب. وكلمة "الرب" في اللغة تطلق على المعاني الآتية:
المعنى الأول: مالك الشيء وصاحبه.
قال الجوهري 2: "رب كل شيء مالكه" 3.
وقال الأزهري 4: "كل من ملك شيئا هو ربه. يقال: هو رب الدابة ورب الدار" 5.
__________
1 ص203.
2 هو إسماعيل بن حماد بن نصر الجوهري التركي قال عنه ابن العماد: "اللغوي أحد أئمة اللسان كان له جودة في الحفظ".
مات سنة 393هـ وقيل مات في حدود سنة "400" هـ.
شذرات الذهب 3/142. وانظر ترجمته في معجم الأدباء 6/151.
3 الصحاح 1/130-132.
4 هو محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي قال عنه ابن العماد: "اللغوي النحوي الشافعي صاحب تهذيب اللغة وغيره من المصنفات الكبار الجليلة المقدار" مات سنة 370هـ. شذرات الذهب 3/72.
5 تهذيب اللغة 12/176-184.
(1/213)
________________________________________
المعنى الثاني: المَلِك.
قال الأزهري في قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} "سورة يوسف: الآية42".
أي عند مَلِكِك" 1.
وقال ابن الأثير 2: "فإنه خاطبه على المتعارف عندهم وعلى ما كانوا يسمونه به" 3.
المعنى الثالث: السيد المطاع.
قال الجوهري: "ربّيت القوم أي كنت فوقهم" 4.
وقال ابن منظور 5: "والعرب تقول لأن يربيني فلان أحب إليّ أن يربيني فلان، يعني أن يكون ربا فوقي وسيدا يملكني" 6.
__________
1 تهذيب اللغة 15/176.
2 هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيبلني الجزري ثم الموصلي قال عنه الذهبي: "القاضي الرئيس العلامة البارع الأوحد البليغ". توفي سنة 606هـ.
سير أعلام النبلاء 21/489. وانظر ترجمته في شذرات الذهب 5/22.
3 النهاية 2/179.
4 الصحاح 1/130.
5 هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي ثم المصري قال عنه الذهبي: "كان عنده تشيع بلا رفض". وقال عنه ابن حجر: "عمر وكبر وحدّث فأكثروا عنه".
وقال الصفدي: "جمع في اللغة كتابا سماه لسان العرب جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح". مات سنة 711هـ. الدرر الكامنة 4/262-263. وانظر ترجمته في فوات الوفيات 2/265.
6 لسان العرب 1/399.
(1/214)
________________________________________
المعنى الرابع: التربية.
قال الراغب الأصفهاني 1: "الرب في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، يقال ربّه ورباه وربيبه" 2.
المعنى الخامس: المصلح للشيء.
قال ابن فارس 3: "الرب: المصلح للشيء، يقال ربّ فلان ضيعته إذا قام على إصلاحها" 4.
2- توحيد الربوبية اصطلاحا
توحيد الربوبية هو الإقرار بأن الله رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه هو المحيي والمميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله وبيده الخير كله، القادر على كل شيء ليس له في ذلك شريك 5.
__________
1 هو الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني الملقب بالراغب.
قال عنه الذهبي: "العلامة الماهر المحقق الباهر أبو القاسم صاحب التصانيف، كان من أذكياء المتكلمين ولم أظفر له بوفاة". سير أعلام النبلاء 18/120.
انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/297.
2 مفردات غريب القرآن ص184.
3 هو أحمد بن فارس بن زكريا القزويني المعروف بالرازي المالكي.
قال عنه الذهبي الإمام العلامة المحدث ... نزيل همدان وصاحب كتاب المجمل. مات سنة 395هـ. سير أعلام النبلاء 17/103.
انظر ترجمته في معجم الأدباء 4/80؛ والمنتظم 7/103.
4 معجم مقاييس اللغة 2/381.
5 انظر تيسير العزيز الحميد ص33.
(1/215)
________________________________________
والمناسبة بين هذا المعنى والمعنى اللغوي: أن كل معاني لفظ "الرب" في اللغة صادقة على الله سبحانه وتعالى؛ فهو المربي للأشياء الذي ينميها وينقلها في أطوار مختلفة حتى يبلغ بها ما قدر هو لها، وهو المالك لها والسيد عليها والمدبر لمصالحها والقائم بحفظها قيوم السموات والأرض ومستحق العبادة حقا بربوبيته للخلق، لهذا كانت شؤون الربوبية كلها من الخلق والرزق والملك والتدبير والتصريف مختصة به سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد من خلقه، ومن جعل شيئا من ذلك لغير الله فقد ناقض نفسه وارتكب بابا من أبواب الشرك 1.
3- خصائص توحيد الربوبية
1- أن توحيد الربوبية دليل على توحيد العبادة فإن الله سبحانه وتعالى احتج على المشركين الذي أخلوا بتوحيد الألوهية بإقرارهم بالربوبية كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "سورة البقرة: الآيتان 22".
فأمر سبحانه وتعالى بعبادته وذكر البرهان على أنه مستحق للعبادة وهو قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} إلى قوله: {رِزْقاً لَكُمْ} وهو برهان على بطلان إلهية ما سواه ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلزاما لهم بما يقرون به.
2- أن إقرار الناس بالربوبية أسبق من إقرارهم بتوحيد الألوهية،
__________
1 كتاب دعوة التوحيد للهراس ص31، 32.
(1/216)
________________________________________
وفي ذلك يقول ابن تيمية: "ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته ... " إلى أن قال: "ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم الإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} "سورة الزخرف: الآية 87".
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} "سورة الإسراء: الآية67".
وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} "سورة لقمان: الآية32".
فأخبرهم أنهم مقرون بتوحيد الربوبية وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم، ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية، أما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية" 1.
3- أن توحيد الربوبية قد أقر به المشركون كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} "سورة يونس: الآية31".
وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا
__________
1 مجموع الفتاوى 14/14-15.
(1/217)
________________________________________
يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} "سورة المؤمنون: الآيات من 84-89".
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} "سورة لقمان: الآية25".
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} "سورة الزخرف: الآية87".
وقال المقريزي 1: "ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا بأنه سبحانه وحده خالقهم، وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنما أنكروا توحيد الألوهية" إلى أن قال: "من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيته ولو وحد في ربوبيته، فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الألوهية مفترق الطرق بين المؤمنين والمشركين"2.
فلأن الإقرار بالربوبية كان مسلما به عند المشركين لم يرسل الله رسولا لتحقيق هذا التوحيد، ولم تعرض له الكتب السماوية كما عرضت لتوحيد العبادة لأنه تحصيل حاصل.
والمصيبة أن أهل الكلام أفنوا أعمارهم لتحقيق هذه القضية المسلَّم بها حتى عند المشركين. وليتهم وقفوا عند هذا الباب بل زعموا أن توحيد الربوبية
__________
1 هو أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي، قال عنه ابن حجر: "كان إماما بارعا مفتيا متقنا ضابطا ديّنا خيّرا محبا لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر حسن الصحبة حلو المحاضرة" مات سنة 845هـ.
أنباء الغمر 9/170-172. وانظر ترجمته في الضوء اللامع 2/21؛ والبدر الطالع 1/79.
2 تجريد التوحيد ص20، 21.
(1/218)
________________________________________
هو الغاية العظمى من بعثة الرسل، وأنهم إذا أثبتوه بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد 1.
وفي ذلك يقول الشيخ محمد عبده: "أصل معنى التوحيد اعتقاد أن الله واحد لا شريك له ... وهو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون ومنتهى كل قصد. وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما تشهد به آيات الكتاب العزيز" 2.
والرد على هذا ما يلي:
"أ" أن توحيد الربوبية نوع من التوحيد فهو بعضه لا جميعه، وقد أقر به المشركون، فكيف مع ذلك يكون هو الغاية العظمى من بعثة الرسل؟.
"ب" أن مجرد الإقرار بهذا التوحيد فقط لا يوجب الدخول في الإسلام ولا يصير به الرجل مسلما.
فمشركوا العرب كانوا مقرين بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، ومع هذا سماهم مشركين، حيث قال عنهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} "سورة يوسف: الآية106".
فالمراد بقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ} هو تصديقهم واعترافهم بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت، والمراد من قوله تعالى: {إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} أي أنهم أشركوا مع الله في عبادته وهذا ما فسر به السلف هذه الآية 3.
__________
1 انظر اقتضاء الصراط المستقيم 2/845-846؛ ومجموع الفتاوى 3/98؛ وفتح المجيد ص13.
2 رسالة التوحيد ص43.
3 كابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك. انظر جامع البيان 14/77. ومعالم التنزيل 2/452.
(1/219)
________________________________________
قال محمود الألوسي الحنفي في تفسير هذه الآية: "يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلا وكان مرتكبا شركا كيفما كان، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيه وهم اليوم أكثر من الدود" 1.
"ج" أن توحيد الألوهية هو الغاية العظمى والمقصد الأعلى وهو أول دعوة الرسل والغاية من خلق الجن والإنس كما يشهد بذلك الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} "سورة النحل: الآية36".
ومن السنة حديث ابن عباس وفيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: " إنك تقدم على قوم أهل كتاب. فليكن أول ماتدعوهم إليه عبادة الله عزَّ وجلَّ ... " 2.
فهذان النصان الشرعيان دالان على أن أول دعوة الرسل والغاية من بعثتهم هي الدعوة إلى توحيد الله في العبادة والنصوص الشرعية في ذلك كثيرة.
__________
1 روح المعاني 13/67.
2 تقدم تخريجه ص215.
(1/220)
________________________________________
المبحث الثاني: مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق ونقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية.
1- مناظرة الإمام أبي حنيفة للملاحدة في إنكارهم الخالق
لم يعرف الإلحاد قديما مذهبا ظاهرا موجودا بين أجناس البشر، اللهم إلا من شرذمة قليلة من الدهرية 1، الذين يجحدون الخالق المدبر العالم القادر، ويزعمون أن العالم يسير بنفسه بلا خالق، ويقولون ببقاء الدهر. قال الله تعالى إخبارا عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} "سورة الجاثية: الآية24".
فمع إنكارهم للخالق، أنكروا البعث والنشور، وكذبوا الرسل من غير دليل لهم ولا برهان.
هذا وقد كانت تعقد مناظرات بين الإمام أبي حنيفة وبعض هؤلاء الملاحدة منها:
أن قوما منهم أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية فقال لهم:
__________
1 انظر كتاب نهاية الإقدام ص123؛ ومجموع الفتاوى 7/638.
(1/221)
________________________________________
"أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فترسو بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يديرها أحد؟
فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدا، فقال لهم: إذا كان هذا محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ ... " 1.
وقد ذكر المكي هذه المناظرة بصيغة أخرى مشابهة لها، وفيها أن الإمام أبا حنيفة قال لهم: "ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة من الأمتعة، وقد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس فيها ملاح يجريها ويقودها ويسوقها، ولا متعهد يدفعها هل يجوز ذلك في العقل؟
فقالوا: لا، هذا لا يقبله العقل، ولا يجيزه الوهم.
فقال لهم أبو حنيفة: فيا سبحان الله، إذا لم يجز في العقل وجود سفينة تجري مستوية من غير متعهد، فكيف يجوز قيام الدنيا على اختلاف أحوالها وتغيّر أمورها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ومحدث لها؟ ... " 2.
وكذلك وقعت مناظرة أخرى بين الإمام وملحد دهري ذكرها أبو الليث السمرقندي في شرحه للفقه الأكبر، وفيها أن الإمام ناظر دهريا وألقى عليه الحجة.
فقال الدهري: "إنما تغيرت الأشياء من حال إلى حال لأن بناءها
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص25، 26؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص14.
2 مناقب أبي حنيفة للمكي ص151.
(1/222)
________________________________________
على الطبائع الأربعة ـ رطوبة ويبوسة وبرودة وحرارة ـ فما دامت هذه الطبائع مستوية وصاحبها مستويا، ومتى غلبت طبيعة منها على سائرها زالت عن الاستواء فزال استواء صاحبها أيضا.
قال أبو حنيفة رضي الله عنه: أقررت بالصانع والمصنوع، والغالب والمغلوب، من حيث أنكرت، لأنك قلت إحدى الطبائع تغلب على سائرها، وسائرها تصير مغلوبة.
فثبت أن للعالم غالبا في الحكمة، فقد تعدينا عن مسألتكم فقلنا: الغالب ليس هو إلا الصانع جلّت قدرته ... " 1.
هذا ما حفظته المراجع من تلك المناظرات مع الملاحدة. وليست المشكلة مع هؤلاء إنكارهم للرب فقط بل إنهم لو اعترفوا بوجوده؛ فإن ذلك لا يكفي لدخولهم الإسلام، بل يصبح حالهم كحال المشركين الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن إيمانهم بوجود الله لا ينفعهم حتى يوحدوا الله بالعبادة والطاعة.
2- نقده لطريقة المتكلمين في تقرير الربوبية
سلك المعتزلة ومن جاء بعدهم من متكلمي الأشاعرة 2 والماتريدية
__________
1 انظر شرح الفقه الأبسط ص23، والمطبوع خطأً باسم شرح الفقه الأكبر لأبي منصور الماتريدي.
والصواب أنه شرح الفقه الأبسط لأبي الليث السمرقندي.
انظر تحقيق ذلك في مقدمة الكوثري لكتاب العالم والمتعلم.
2 ينسب المذهب الأشعري الموجود في العالم الإسلامي إلى علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري.
قال عنه المقريزي: "أخذ عن الجبائي مذهب الاعتزال ثم بدا له فتركه وسلك =
(1/223)
________________________________________
في الاستدلال على وجود الله طريق الأعراض والجواهر، واستدلوا بحدوث كل منهما وإمكانه على حدوث العالم. فإذا ثبت أن العالم حادث فالله هو المحدِث.
يقول القاضي عبد الجبار 1 المعتزلي في بيانه لهذه الطريقة: "إنه ينبغي لمن أراد الاستدلال على وجود الله عن طريق الأعراض؛ فعليه أن يثبتها، ثم يوضح حدوثها وأنها تحتاج إلى محدث وفاعل يغاير الحوادث، وهو الله تعالى" 2.
وقال الرازي الأشعري شارحا لهذه الطريقة: "وقد عرفت أن العالم إما جواهر وإما أعراض، وقد يستدل بكل واحد منهما على وجود الصانع، إما بإمكانه أو بحدوثه، فهذه جوه أربعة ... " 3.
__________
= طريقة عبد الله بن كلاب ونسج على قوانينه في الصفات والقدر فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه وجادلوا فيه. وانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق ثم انتقل إلى الشام فلما ملك بنوا أيوب عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري وحملوا الناس على التزامه فانتشر في أمصار الإسلام ... مات الأشعري سنة 324هـ.
ومن أهم آراء الأشاعرة نفي الصفات إلا سبعا يثبتونها بالعقل والقول بأن أفعال العباد مخلوقة لله وهي كسب لهم وأشهر علماء الأشاعرة الباقلاني والجويني والأيجي والرازي.
انظر خطط المقريزي 2/358-359؛ وشذرات الذهب 2/303.
1 هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار أبو الحسن الهمذاني، قال عنه الذهبي: "العلامة المتكلم ... صاحب التصانيف من كبار فقهاء الشافعية ... ولي قضاء القضاة بالري وتصانيفه كثيرة، تخرج به خلق في الرأي الممقوت، مات سنة 415هـ. سير أعلام النبلاء 17/144؛ وانظر ترجمته في لسان الميزان 3/386؛ وشذرات الذهب 3/202.
2 شرح الأصول الخمسة ص92.
3 محصل أفكار المتقدمين ص106.
(1/224)
________________________________________
وأشار عضد الدين الأيجي الأشعري 1 إلى هذه الطريقة فقال: "وقد علمت أن العالم إما جواهر وإما أعراض، وقد استدل على إثبات الصانع بكل واحد وبإمكانه أو بحدوثه فهذه وجوه أربعة ... " 2.
وقال التفتازاني شارح العقيدة النسفية الماتريدية شارحا هذه الطريقة: "فإذا تقرر أن العالم أعيان وأعراض، والأعيان أجسام وجواهر؛ فنقول: إن الكل حادث. أما الأعراض؛ فبعضها بالمشاهدة كالحركة بعد السكون والضوء بعد الظلمة والسواد بعد البياض ... وبعضها بالدليل، وهو سريان العدم ... وأما الأعيان فلأنها لا تخلو من الحوادث، وكل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ... فنتج من كل هذا أن العالم كله حادث، ولما ثبت أن العالم محدَث، ومعلوم أن المحدث لا بد له من محدِث لضرورة امتناع ترجيح أحد طرفي الممكن من غير مرجح؛ ثبت أنه له محدث، والمحدث للعالم هو الله تعالى" 3.
هذه هي طرقة المعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة والماتردية في إثبات الصانع وحدوث العالم.
فما موقف الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى من هذه الطريقة؟ للإجابة عن هذا السؤال أودُّ أن أشير إلى أن منهج الإمام أبي حنيفة
__________
1 هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الأيجي.
قال عنه ابن حجر: "كان إماما في المعقول قائما بالأصول والمعاني والعربية مشاركا في الفنون ... وكان كثير المال جدا كريم النفس يكثر الإنعام على الطلبة ... مات سنة 756هـ.
الدرر الكامنة 2/322، 323.
2 المواقف ص266.
3 العقائد النسفية ص28-31.
(1/225)
________________________________________
في تقرير الربوبية مغاير لهذه الطريقة، فمسلك الإمام هو مسلك السلف الصالح المستنبط من الكتاب والسنة، فبالتالي كل طريقة ليس مصدرها الكتاب والسنة فهي طريقة مبتدعة في نظر الإمام، لذلك شنّع على عمرو بن عبيد من المعتزلة لأنه فتح الكلام في هذا حيث قال: "لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم" 1.
وكان ينصح من سأله بعدم سلوك هذه الطريقة؛ لأنها في نظره مقالات الفلاسفة، ويوصي بلزوم طريقة السلف المأخوذة من الكتاب والسنة والأثر. فقد سئل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "ما تقول فيما أحدثه الناس في الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة. عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة؛ فإنه بدعة" 2.
وهذا هو ما كان عليه السلف، فإنهم أنكروا الكلام في الجوهر والأعراض، وفي ذلك يقول التيمي 3: "أنكر السلف الكلام في الجوهر والأعراض وقالوا: لم يكن على عهد الصحابة والتابعين، رضي الله عن الصحابة ورحم التابعين، ولا يخلو أن يكونوا سكتوا عنه وهم غير عالمين به، فيسعنا ألا نعلم ما يعلموه. والحديث الذي ذكرناه 4 يقتضي أن ما تكلّم فيه الآخرون من ذلك ولم يتكلم فيه الأولون يكون مردودا ... " 5.
__________
1 ذم الكلام للهروي "ق196/ب".
2 ذم الكلام للهروي "ق194/ب".
3 تقدمت ترجمته ص203.
4 يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد". أخرجه البخاري ومسلم.
5 الحجة في بيان المحجة ص17-18.
(1/226)
________________________________________
وقال ابن عقيل: "أنا أقطع أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض؛ فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت" 1.
__________
1 تلبيس إبليس ص85، ط دار الكتب العلمية.
(1/227)
________________________________________
المبحث الثالث: منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية
منهج الإمام أبي حنيفة في تقرير الربوبية هو منهج السلف الصالح رضي الله عنه، فإنهم أعرضوا عن مبحث الوجود والاستدلال عليه لأنه أمر مسلّم به مركوز في فطر البشر، لا يكاد أحد ينازع فيه إلا شرذمة قليلة من البشر، كالدهرية في القديم، والشيوعية ومن سايرها من ملاحدة العصر.
قال الملا علي القاري في بيانه لمنهج الإمام في تقرير الربوبية:
"أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود. ففي التنزيل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "سورة إبراهيم: الآية10".
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} "سورة الزخرف: الآية 87".
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} " سورة الروم: الآية30".
فوجود الله ثابت في فطر الخلق، كما يشير إليه قوله سبحانه
(1/228)
________________________________________
وتعالى، ويومئ إليه حديث: " كل مولود يولد على الفطرة " 1، على فطرة الإسلام. وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد وتبيان التفريد.
ولذا أطبقت كلمتهم، وأجمعت حجتهم على كلمة لا إله إلا الله، ولم يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا: الله موجود، بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود؛ ردا لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، على أن التوحيد يفيد الوجود مع مزيد التأييد، ثم العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع الذي هو الأصل ... " 2.
ولكن لما وجد في عصر الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى من انتكست فطرته، وعميت بصيرته فشك في وجود الرب الخالق سبحانه وتعالى؛ ناقشهم الإمام واستدل على وجوده تعالى:
بدلالة الفطرة:
وهذه في مقدمة الدلالات على أن الله فطر الخلق على الإقرار به وبوحدانيته؛ فما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} "سورة الروم: الآية30".
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلّى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ 3/219 ح1359.
ومسلم: كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين 4/2047 ح2658، كلاهما من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بلفظ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة ... ".
2 شرح الفقه الأكبر للقاري ص17.
(1/229)
________________________________________
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} "سورة إبراهيم: الآية10".
فالفطرة السليمة مجبولة على الإقرار بوجود الرب الخالق، والإيمان به تعالى مغروزٌ في طبيعة البشر وفي شعور كل عاقل وضميره، وذلك لما وقر في نفوسهم من عجز المخلوقين عن الخلق والرزق والتدبير والملك. "فدلالة الفطرة على وجود الخالق مركوزة في كل نفس مؤمنة أو كافرة، والنفوس بطبعها تحسها وتشعر بها وإن غابت عنها في بعض الأحيان لسبب طارئ، فسرعان ما تجد نفسها مضطرة إلى اللجوء إليه عند الشدائد. ولو لم تكن النفوس مفطورة على هذه المعرفة لما تطلعت إليها بل لم تكن مطلوبة لها وصدق هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" 1، ولم يقل يسلمانه لأن الإسلام موافق للفطرة 2.
هذا وقد رجح كثير من السلف أن معرفة الله تعالى ممكنة بالفطرة من غير دليل، بمعنى أنه لو ولد إنسان بعيدا عن الناس، ولم تفسد فطرته بتعليم أبويه أو البيئة التي يعيش فيها؛ لأمكن أن يعرف الله بفطرته الصافية وبمساعدة عقله وتفكيره فيما خلق الله 3.
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب الجنائز باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلّى عليه؟ 3/219 ح1359. ومسلم: كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة 4/2047 ح2658، كلاهما من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
2 انظر بحث دليل الفطرة في درء التعارض 8/354، 368؛ وكتاب ابن تيمية وموقفه من التأويل ص330.
3 انظر كتاب العقائد السلفية شرح الدرر السنية ص53 بتصرف.
(1/230)
________________________________________
وهذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فإنه يرى أن لا عذر لأحد بالجهل بوجود الرب الخالق؛ وذلك لما جبلت عليه فطرته من وجوده تعالى، ويساعد تلك الفطرة العقل والتفكير فيما خلق الله تعالى من مخلوقات عظيمة مبثوثة في الكون، كلها تدل على وجود الرب الخالق، فقد قيل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: "لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه" 1.
فالظاهر من كلام الإمام أبي حنيفة أنه قد اشتمل على الآتي:
"أ" أن معرفة الله فطرية، وأن وحدانية الله وربوبيته تدركان بالعقل فهذا حق لا شك فيه.
"ب" أن العقل موجب لمعرفة الله سبحانه وتعالى، وأن العبد مكلف بمجرد عقله بمعرفة الله سبحانه وتعالى ولو لم تبلغه الدعوة، وأن العبد إذا لم يوحد الله سبحانه وتعالى فهو غير معذور.
فهذا الأمر على خلاف مذهب جمهور أهل السنة والجماعة من السلف الصالح. فالمتقرر من مذهبهم أن العقل وإن كان مدركا لمعرفة الله، ولكنه غير موجب، فلا تتم الحجة على العبد بمجرد عقله ما لم تبلغه دعوة الرسل. دل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} "سورة الاسراء: الآية15".
فهذه الآية صريحة في عدم تعذيب من لم تبلغه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وهذه هي عقيدة السلف فقد بوَّّب الإمام
__________
1 درء تعارض العقل والنقل 9/62؛ والمسامرة مع شرحه المسايرة ص18/2؛ تحقيق محمد محيي الدين.
(1/231)
________________________________________
اللالكائي 1 رحمه الله في كتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" "سياق ما يدل من كتاب الله عزَّ وجلَّ وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل" ثم قال: "وهذا مذهب أهل السنة والجماعة" 2. فالذي في شاهق الجبال ولم تبلغه الدعوة ولم يوحد الله فهو معذور وليس بمكلف؛ لأن التكليف لا يكون إلا بالشرع ولا تتم حجة الله على عباده إلا به.
"ج" استنبط بعض الكتاب المعاصرين 3 من كلام أبي حنيفة هذا أن أول واجب هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله.
وهذا الاستنباط غير صحيح لأن أبا حنيفة لم يقل لا عذر لمن لم ينظر بل قال: "لا عذر لأحد بالجهل بخالقه". وهذا غاية ما يدل عليه أن أول واجب بالعقل معرفة الله وتقدم أن لا واجب إلا ما وجب بالشرع. فالمطلوب معرفة أول واجب بالشرع. وقد قام الدليل الشرعي على أن أول واجب هو شهادة أن لا إله إلا الله كما سيأتي بيانه في موضعه 4.
وكذا استعمل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى دلالة الفطرة في إثبات
__________
1 هو هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي الشافعي اللالكائي. قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ المفتي". وقال عنه الخطيب: كان يفهم ويحفظ صنّف كتابا في السنن وكتابا في شرح السنة إلى الدينور فأدركه الأجل بها في شهر رمضان سنة "410" تاريخ بغداد 14/70؛ وسير أعلام النبلاء 17/419.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/193-196.
3 انظر كتاب الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة ص355، تأليف الدكتور علي عبد الفتاح المغربي.
4 انظر ص248 من هذه الرسالة. وانظر ص207، 210.
(1/232)
________________________________________
صفة من صفات الله تعالى ألا وهي صفة العلو؛ حيث قال: "والله تعالى يُدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء ... " 1.
فالنفوس فطرت على أن الله تعالى في العلو لا في السُّفل. واستدل الإمام على ذلك بحديث الجارية التي أجابت النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألها "أين الله؟ قالت في المساء" 2.
فأجابت بما وقر في فطرتها وجبلت عليه من أن الله في العلو؛ فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بإعتاقها، ووصفها بأنها مؤمنة. هذه دلالة الفطرة على وجود الخالق ومعرفته، ويلاحظ أن هذه الدلالة ترتكز على نوعي الآيات في الأنفس الآفاق. ولقد لفت القرآن أنظار العباد إلى ذلك في مواضع
__________
1 الفقه الأبسط ص51.
2 أخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد 5/448؛ ومسلم: في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة 1/381 ح537، وأبو داود: كتاب الإيمان والنذور باب في الرقبة المؤمنة 3/587 ح3282، والنسائي: كتاب الصلاة باب الكلام في الصلاة 3/185، وابن أبي شيبة: في كتاب الإيمان ص27، وابن خزيمة في التوحيد ص21، جميعهم من طريق عطاء بن يسار عن معاوية بن حكم السلمي ومالك في الموطأ باب ما يجوز العتق في الرقاب الواجبة 2/776 ح8 من طريق عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم بدل معاوية بن الحكم، وقد عده العلماء وهما من الإمام مالك لأنه خالف جميع رواته كما أنه ليس في الصحابة أحدا بهذا الاسم. انظر شرح الزرقاني على موطأ مالك 4/84، وأخرجه أحمد 2/291، وأبو داود: كتاب الإيمان والنذور باب في الرقبة المؤمنة 3/588 ح3284، وابن خزيمة في التوحيد ص123، جميعهم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، وأورده الذهبي في العلو ص16 وقال: "هذا حديث صحيح متواتر رواه جماعة من الثقات عن معاوية السلمي".
(1/233)
________________________________________
كثيرة؛ فيحسن تفصيل القول في دلالة هذه الآيات.
1- أما دلالة الأنفس
فمثالها قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} "سورة المؤمنون: الآيات من 12-15".
فهذه الآيات تلفت نظر الإنسان إلى أنه كان نطفة في الرحم فصارت النطفة علقة ثم مضغة ثم لحما وعصبا وعظاما وأعضاء وحواس.
ثم يخرج بعد تلك الأطوار بشرا سويا صوِّر على أحسن صورة وخلق على أحسن خلقة، ثم تتعاقب عليه الأحوال من كبر وصغر، وضعف وقوة، وجهل وعلم، ومرض وصحة، ثم الموت والفناء لكل حي فلا بد لهذه التغيرات من مغير عالم قادر حكيم. وفي هذا المعنى يروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه سئل: ما الدليل على الصانع؟ فأجاب: أعجب دليل النطفة التي في الرحم والجنين في البطن، يخلقه الله في ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ... فلما رأينا امرأة تلد مرة ذكرا ومرة أنثى ومرة توأمين وطورا ثلاثة.
وتريد أن تلد فلا تلد، وتريد ألا تلد فتلد، وتريد الذكر فيكون الأنثى، وتريد الأنثى فيكون الذكر، على خلاف اختيار الأبوين؛ فعرفنا قطعا قدرة قادر عالم حكيم" 1.
__________
1 قلائد عقود العقيان في مناقب أبي حنيفة النعمان ""ق-77-ب".
(1/234)
________________________________________
2- وأما دلالة الآفاق
فمثالها قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} "سورة الغاشية: الآيات من 17-20".
فهذه الآيات تحث الإنسان على التأمل والتفكر في المخلوقات العظيمة التي نراه ونشاهدها في عالمنا هذا من سماء مرفوعة وأرض مبسوطة وجبال منصوبة وغيرها مما خلق الله.
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} "سورة البقرة: الآية 164".
وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} "سورة آل عمران: الآيتان 190-191".
فلو تأمل الإنسان هذه المخلوقات، وتأمل صنعهما وإتقانهما، لدلّته وأرشدته إلى أن هناك خالقا لهذه المخلوقات مدبرا لهذه الأكوان، وأنه حكيم عليم. وهذه الدلالة استدل بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى حينما أراد قوم من الملاحدة البحث معه في تقرير الربوبية؛ فقال لهم: ""أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره في نفسها، وتعود بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟
فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدا، فقال لهم: إذا كان هذا
(1/235)
________________________________________
محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ ... " 1. وقد تقدم قول الإمام أبي حنيفة وفيه: " ... لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه".
فجمع الإمام أبو حنيفة في كلامه هذا بين دلالتي الأنفس والآفاق.
وهذا المسلك الذي سلكه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الاستدلال على الله تعالى بمخلوقاته وآثاره فطري لا يحتاج إلى تعليم واكتساب، يعرفه الحضري في حاضرته، والبدوي في باديته، لا يختلف فيه اثنان، بل قد استدل به الأعرابي حينما سئل عن الله فقال: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير" 2.
وهو كذلك مسلك شرعي دعا إليه القرآن كما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} "سورة الذاريات: الآيتان 20-21".
فالأرض وما فيها من جبال وأنهار وأشجار ونبات تدل المتفكر فيها المتأمل لمعانيها على عظمة خالقها وسعة سلطانه وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة ما يدل على أن له خالقا حكيما.
فالبشر على كثرتهم، خلقهم الله من نفس واحدة هي نفس آدم، قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} "سورة الزمر: الآية6".
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص25، 26؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص14.
2 البيان والتبيين 1/163.
(1/236)
________________________________________
أما كيفية خلقهم فهو طور بعد طور، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، خلقهم في مكان ضيق، في بطون أمهاتهم، في ظلمات ثلاث.
فإذا تقرر أن الله واحد في خلقه وملكه لا شريك له؛ فهو واحد في ألوهيته لا شريك له.
هذا وقد ذكر الله تعالى دلالتي الأنفس والآفاق في آية واحدة كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} "سورة فصلت: الآية53".
يقول مؤلف كتاب إيثار الحق على الخلق شارحا الآية وما تدل عليه من معان: "وقد جمع الله تعالى دلالتي النفوس والآفاق في ـ هذه الآية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} الآية ـ وذلك أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين ناطقين سامعين مبصرين مدركين بعد أن لم نكن شيئا، وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها خلق بغير صانع حكيم" إلى أن قال: "وبيانه أنه خلق من نطفة قذرة مستوية الطبيعة فكيف يكون منها ما يبصر، ومنها ما يسمع، ومنها ما يطعم، ومنها ما يشم، ومنها الصلب ومنها الرخو، ومنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، كما نبّه الله عليه في كتابه الكريم. ونعلم أنها قد تغيرت بنا الأحوال وتنقلت بنا الأطوار تنقّلا عجيبا، فكنا نطفة ثم علقة ثم مضغا ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم والدم وتقويهما وعصبا رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط لما فيها من القوة والمتانة، ثم تركب من ذلك آلات وحواس حية موافقة للمصالح..ثم انظر إلى موضع العينين ما أشبهها بهما بعيدا مما يؤذيها مرتفعا للتمكن من إدراك المبصرات في الوجه الذي لا يحتاج إلى تغطية باللباس من الجمال البديع فيهما، ولو
(1/237)
________________________________________
كان في الرأس أو في الظهر أو في البطن أو غير ذلك ما تمت الحكمة ولا النعمة بهما, وكذلك كل عضو في مكانه ... وأما دلالة الآفاق فما يحدث ويتجدد في العالم من طلوع القمرين والكواكب وغروبها عند دوران الأفلاك الدائرات والسفن الجاريات والرياح الذاريات ... وكذلك تغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق العجيبة المتتابعة المختلطة بالغيوم الثقال، الحاملة للماء الكثير المطفئ بطبعه للنار المضادة له، وما في الجمع بينهما وإنشائها وإنزال الأمطار منها بالحكمة البالغة ... ثم ما في اختلاف الليل والنهار والفصول والأحوال ... " 1.
فالمقصود أن الدلالات الدالة على تفرد الله بالربوبية والخلق والتدبير كثيرة، وبالجملة هذا النوع من التوحيد لا ينكره أحد إلا مكابر معاند، ومن المعلوم أن من اعترف بوجود الله من غير إفراد له بالعبادة فإن إيمانه هذا لا ينفعه، بل لا بد مع هذا الإقرار أن يجرد التوحيد لله وحده. وسيأتي بيان ذلك في الفصل الآتي.
__________
1 إيثار الحق على الخلق ص44، 45، 46، 49، 50 بتصرف.
(1/238)
________________________________________
الفصل الثاني: توحيد الألوهية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف.
المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله.
(1/239)
________________________________________
المبحث الأول: تقرير توحيد الألوهية عند السلف
ويشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: معنى توحيد الألوهية وخصائصه
1- توحيد الألوهية لغة
توحيد الألوهية مركب من كلمتين: التوحيد وقد تقدم، أما الألوهية فهي لفظ منسوب إلى الإله، والإله كفعال، بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه، وإله جعلوه اسما لكل معبود له..وأَلِه فلان يأله عَبَد، وقيل تأله فالإله على هذا هو المعبود 1.
أَلِه بالفتح إلهة أي عبد عبادة ... إله على فِعال بمعنى مفعول لأنه مألوه أي معبود كقولنا إمام فعال بمعنى مفعول لأنه مؤتم به 2 ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} "سورة الأعراف: الآية127".
__________
1القاموس المحيط 1/173، والمفردات للراغب ص21.
2 الصحاح 6/2223.
(1/241)
________________________________________
بكسر الهمزة قال وعبادتك 1.
والتأله التنسك والتعبد قال رؤبة 2:
لله در الغانيات المده
سبّحن واسترجعن من تألّهي 3
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والإله المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الألوهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَْ} "سورة الأنبياء:22" 4.
هذا هو معنى الإله لغة وشرعا.
أما عند أهل الكلام فالإله هو القادر على الاختراع والإيجاد، فيكون معنى لا إله إلا الله عندهم لا قادر على الاختراع إلا الله.
وفي ذلك يقول أحمد بن موسى الخيالي 5 في شرح كلام
__________
1 الصحاح 6/2223.
2 هو رؤبة بن العجاج التميمي البصري بضم أوله وسكون الواو بعدها موحدة قال عنه ابن حجر: "الراجز المشهور التميمي ثم السعدي لين الحديث فصيح مات بالبادية سنة 145هـ"
تقريب التهذيب 1/253؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 3/290؛ وطبقات الشعراء لابن قتيبة 2/594؛ وطبقات الشعراء للجمحي 2/761.
3 ديوان رؤبة ص165 ط/ دار الآفاق الجديدة، وانظر الصحاح 6/2224.
4 اقتضاء الصراط المستقيم 2/846.
5 هو أحمد بن موسى الخيالي الرومي قال عنه الشوكاني: "برع في العلوم العقلية وفاق أقرانه ودرس بمدارس الروم وكان دقيق الذهن باهر الذكاء أفحم أكابر علماء عصره بدقائق العلوم ... وله مصنفات منها حواشي شرح العقائد" مات بعد سنة860هـ. البدر الطالع؛ وانظر ترجمته في الفوائد البهية ص43.
(1/242)
________________________________________
التفتازاني 1: "قوله لو أمكن إلهان أي صانعان قادران على الكمال بالفعل أو بالقوة" 2.
قلت: هذا تفسر لصفة الألوهية بصفة الربوبية، وهذا خطأ ظاهر فلم يأت الإله بمعنى المخترع لا في كتاب الله ولا في لسان العرب، ولم يقله أحد من أئمة اللغة المعروفين المعتبرين.
وإنما أتى الإله في القرآن بمعنى المعبود، ومن ذلك قوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} "سورة ص: الآية5".
وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} "سورة مريم: الآيتان 81-82".
وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} "سورة الفرقان: الآية3".
وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} "سورة النحل: الآية73".
وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} "سورة هود: الآية101".
__________
1 هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني نسبةً إلى تفتازان بلدة بخراسان قال عنه ابن حجر: "العلامة الكبير صاحب شرحي التلخيص وشرح العقائد في أصول الدين وشرح الشمسية في المنطق ... انتهت إليه معرفة علوم البلاغة والمعقول بالمشرق بل سائر الأمصار لم يكن له نظير في معرفة هذه العلوم مات في صفر سنة 792هـ، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 4/350.
وانظر ترجمته في البدر الطالع 2/303؛ والفوائد البهية ص134.
2 حاشية الخيالي على شرح العقائد ص51.
(1/243)
________________________________________
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} "سورة الزمر: الآية 38".
فالمشركون مقرّون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه لا يقدر على الخلق والرزق والإحياء والإماتة إلا الله ومع ذلك لم يصيروا به مسلمين موحدين بل كانوا مع هذا الإقرار مشركين.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن أهل الكلام: "يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع، ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر وهم مع هذا مشركون" 1.
ويقول كذلك: "وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين؛ حيث ظن أن الألوهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الإله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه.
بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد، فهو إله بمعنى مألوه لا إله بمعنى آله، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر" 2.
__________
1 التدمرية ص180؛ ومجموع الفتاوى 3/98؛ وانظر أيضا بيان تلبيس الجهمية 1/478-479؛ واقتضاء الصراط المستقيم 2/845، 846.
2 التدمرية 185-186؛ وضمن مجموع الفتاوى 3/101.
(1/244)
________________________________________
وكذا في لغة عرب الجاهلية لم يأت الإله عندهم إلا بمعنى المعبود، وهو شامل للإله الحق وهو الله، والآلهة الباطلة التي يعبدونها من دون الله. وفي ذلك يقول الزمخشري: "والإله من أسماء الأجناس ـ كالرجل والفرس ـ اسمٌ لما يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق" 1.
وقد تقدم قول الفيروزآبادي 2: "إله كفِعال بمعنى مألوه وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه" 3.
نعم الإله الحق لا بدّ أن يكون خالقا قادرا على الاختراع، ومن لم يكن كذلك فليس بإله حقا وإن سمِّي إلها.
إذن فمعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله، وليس معناها لا خالق ولا صانع إلا الله، لكنها تتضمن هذا المعنى. وكذلك ليس معناها لا معبود موجود إلا الله؛ لأن هذا يكذبه الواقع وهو وجود معبودات كثيرة بالباطل.
2- توحيد الألوهية اصطلاحا
توحيد الألوهية هو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين لله وحده.
__________
1 انظر الكشاف 1/36، ط/دار المعرفة.
2 هو محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي اللغوي الشافعي صاحب كتاب بصائر ذوي التمييز وغير ذلك من المصنفات مات سنة 817هـ؛ الضوء اللامع 10/79.
3 القاموس المحيط 1/173.
(1/245)
________________________________________
فحقيقته إخلاص التألّه لله تعالى من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة وسائر أنواع العبادة لله تعالى 1.
كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} "سورة البينة: الآية5".
ويستحسن في هذه المناسبة أن أذكر أبياتا لابن القيم ضمنها تعريف توحيد العبادة وما يشترط له وهي من الكافية الشافية 2.
قال رحمه الله تعالى:
هذا وثاني نوعي التوحيد تو
حيد العبادة منك للرحمن
فلا تكون لغيره عبدا ولا
تعبد بغير شريعة الإيمان
فتقوم بالإسلام والإيمان وا
لإحسان في سرٍّ وفي إعلان
والصدق والإخلاص ركنا ذلك
التوحيد كالركنين للبنيان
وحقيقة الإخلاص توحيد المرا
دِ فلا يزاحمه مرادٌ ثان
لكن مرادُ العبد يبقى واحدا
ما فيه تفريق لدى الإنسان
إن كان ربك واحدا سبحانه
فاخصصه بالتوحيد مع إحسان
أو كان ربك واحدا أنشاك لم
يشركه إذ أنشاك ربٌّ ثان
فكذا أيضا وحده فاعبده لا
تعبد سواه يا أخا العرفان
والصدق توحيد الإرادة وهو بذ
لُ الجهد لا كسلا ولا متوان
والسنة المثلى لسالكها فتو
حيد الطريق الأعظم السلطان
فلواحد كن واحدا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان
__________
1 انظر تيسير العزيز الحميد ص36؛ والكواشف الجلية 418.
2 ص2/236.
(1/246)
________________________________________
هذي ثلاث مسعدات للذي
قد نالها والفضل للمنان
فإذا هي اجتمعت لنفس حرةٍ
بلغت من العلياء كل مكان
3- خصائص توحيد الألوهية
"أ" أنه الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} "سورة الذاريات: الآية56".
فتوحيد العبادة غاية محبوبة لله تعالى، لأجلها خلق الثقلين.
"ب" إنه المقصود الأعظم من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} "سورة النحل: الآية 36".
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} "سورة الأنبياء: الآية25".
وأخبر عن رسله نوح، هود، صالح، شعيب، أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} " 1.
"ج" أنه أول واجب على المكلف فإن توحيد الألوهية هو معنى لا إله إلا الله، وهي أول دعوة الرسل.
قال ابن أبي العز الأذرعي الحنفي: "ولهذا كان الصحيح أن أول
__________
1 سورة الأعراف الآيات: 59، 65، 73، 85، وسورة هود: الآيات: 50، 61، 84.
(1/247)
________________________________________
واجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر ولا القصد إلى النظر، ولا الشك كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان ... " 1.
"د" أن الشارع احتاط لهذا التوحيد أعظم الحيطة عن كل قول وفعل وقصد يكون شركا أو وسيلة إلى الشرك كالرياء والحلف بغير الله والطيرة وبناء المساجد على القبور، والعكوف عندها.
وكذلك الألفاظ التي توهم النِّدِّيَّةَ بين الله وبعض خلقه كقول القائل: ما شاء الله وشاء فلان. روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" 2.
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص 16.
2 أخرجه أحمد في المسند 5/384.
* وأبو داود كتاب الأدب باب ما يقال خبثت نفسي 5/259 ح4980.
* والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة ص544.
* والطحاوي في مشكل الآثار 1/90.
* والبيهقي في السنن 3/216.
جميعهم من طريق عبد الله بن يسار عن حذيفة وأورده النووي في كتابه الأذكار ص308 وقال: صحيح الإسناد.
(1/248)
________________________________________
المطلب الثاني: في "المراد بالعبادة"
تقدم أن المراد بتوحيد الألوهية هو إفراد الله بالعبادات كلها، وأن من أسماء هذا التوحيد توحيد العبادة. فلا بد من الكلام على العبادة وهو يشمل الفقرات التالية:
(1/248)
________________________________________
1- معناها
معنى العبادة لغة هو التذلل والخضوع.
قال الراغب الأصفهاني: "العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل" 1.
وقال الجوهري: "العبادة الطاعة، والتعبد التنسك ... وأصل العبودية الخضوع والذل" 2.
وقال ابن الأنباري: "فلان عابد؛ وهو الخاضع لربه المستسلم لقضائه المنقاد لأمره" 3.
وقال ابن جرير: "العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام وذللته السابلة معبَّد" 4.
هذا ما قاله أهل اللغة في كتبهم حول معنى العبادة؛ فنجد عباراتهم تكاد تكون متطابقة.
أما معنى العبادة في الاصطلاح:
فهي توحيد الله بالذل والخضوع مع كمال المحبة والطاعة.
قال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} "سورة الفاتحة: الآية5".
"أي لك اللهم نخشع ونذل ونستكين؛ إقرارا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك".
__________
1 المفردات في غريب القرآن ص319.
2 الصحاح 2/503.
3 تهذيب اللغة 2/236.
4 جامع البيان 1/161.
(1/249)
________________________________________
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك 1 ... " 2.
وقال الأزهري: "وقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} "سورة البقرة: الآية 21".
أي أطيعوا ربكم وقيل في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إياك نوحد والعابد الموحد" 3.
وقال البغوي 4 في قوله تعالى: " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} "سورة الفاتحة: الآية 5".
"أي نوحدك ونطيعك خاضعين، والعبادة الطاعة مع التذلل. وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده يقال: طريق معبد أي مذلل" 5.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له، ومن خضع
__________
1 الأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/19 وأورده ابن كثير في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور 1/14 وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم.
2 انظر جامع البيان 1/160 ط دار المعارف.
3 تهذيب اللغة 2/236.
4 هو الحسين بن مسعود بن محمد الفراء الشافعي البغوي قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ الفقيه المجتهد محيي السنة ... صاحب معالم التنزيل وشرح السنة والتهذيب والمصابيح وغير ذلك ... وبورك له في تصانيفه لقصده الصالح فإنه كان من العلماء الربانيين وكان ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير" مات سنة 516هـ.
تذكرة الحفاظ 1/1257-1258؛ وانظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي 7/75؛ وشذرات الذهب 4/48.
5 تفسير البغوي 1/41.
(1/250)
________________________________________
لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما يحب الرجل ولده وصديقه.
ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عندهم من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله. وكل ما أُحبّ لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل" 1.
ويطلق اسم العبادة على الأعمال الشرعية التي تُفعل تقربا إلى الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة" 2.
2- شروطها
العبادة الشرعية لا تكون مقبولة عند الله ومرضية إلا أن تتوفر فيها ثلاثة أصول، وإلا فهي مردودة على صاحبها غير مقبولة.
وفي بيان تلك الأصول الثلاثة يقول صاحب كتاب أضواء البيان:
"اعلم أولا أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور:
الأول: موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
__________
1 العبودية ص44.
2 العبودية ص38.
(1/251)
________________________________________
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} "سورة الحشر: الآية7".
الثاني: أن يكون خالصا لله تعالى لأن الله جلّ وعلا يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} "سورة البينة: الآية5".
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} "سورة الزمر: الآية 14".
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} "سورة الزمر: الآية 15".
الثالث: أن يكون مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة النحل: الآية97".
فقيد ذلك بالإيمان ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح. وقد أوضح جلّ وعلا هذا المفهوم في آيات كثيرة كقوله في عمل غير المؤمن: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} "سورة الفرقان: الآية23".
وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة هود: الآية16".
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} "سورة النور: الآية39".
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
(1/252)
________________________________________
عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} "سورة إبراهيم: الآية18 ... "1.
3- أنواعها
تقدم أن معنى العبادة معنى شامل للأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فمنها العبادة القولية، ومنها العبادة العملية، ومنها العبادة الاعتقادية، فبحكم هذا التنوع تكون العبادة موزعة على القلب واللسان والجوارح، فلكل من هذه الجهات نصيب من العبادة.
فالعبادة الاعتقادية: مثل اعتقاد أن الله رب كل شيء وخالقه، ومالكه له الخلق والأمر وبيده النفع والضر وأنه لا شريك له ولا كفء ولا ند له وأنه لا معبود بحق غيره.
وكذا حب الله ورجاؤه والخوف والخشوع والإنابة والتوكل وإخلاص العمل لله وحده، فهذه المطالب هي نصيب القلب من العبادة.
العبادة القولية:
مثل النطق بالشهادتين وتلاوة القرآن في الصلاة وفي غيرها والتلفظ بالأذكار الواردة في الصلاة، والحج، ومثل الدعاء، والثناء والحمد والشكر، والاستغفار، وصدق الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فهذه المطالب هي نصيب اللسان من العبادة.
العبادة العملية:
مثل الصلوات الخمس، وما يتعلق بها وسائر أركان الإسلام من زكاة
__________
1 أضواء البيان 3/352-353.
(1/253)
________________________________________
وصيام وحج، وكذا الجهاد العملي لأعداء الإسلام، وسائر الواجبات المندوبات. فهذه المطالب هي نصيب الجوارح من عبادة الله تعالى 1.
وبها البيان يتضح لنا شمول العبادة لحياة المسلم كلها المتضمنة لأقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة وما ينطوي عليه ضميره من نية وقصد.
(1/254)
________________________________________
المطلب الثالث: ما يناقض توحيد الألوهية
تقدم أن جميع الأنبياء والرسل كان أول دعوتهم إلى عبادة الله وحده والبراءة من الشرك بأنواعه وألوانه وصوره. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} " سورة النحل: الآية36".
ولقد جاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والنهي عن الشرك، وحذر منه أبلغ التحذير.
قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 2.
وسئل عليه الصلاة والسلام أي الذنب أعظم عند الله؟ فقال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 3.
وقد أخبر الله بأن كل ذنب يغفره إن شاء ما عدا الشرك:
__________
1 انظر مدارج السلكين 1/109-122 بتصرف.
2 تقدم تخريجه ص216.
3 أخرجه البخاري: كتاب الأدب باب قتل الولد خشية أن يأكل معه 10/433 ح6001 من طريق عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود.
(1/254)
________________________________________
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} "سورة النساء: الآية48".
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} "سورة المائدة: الآية72".
قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك أي من الذنوب لمن يشاء، أي من عباده" 1.
وقال صاحب تيسير العزيز الحميد: "وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح، وأظلم الظلم، إذ مضمونه تنقص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به.
قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} "سورة الأنعام: الآية1".
ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته، والذل له والانقياد لأمره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك. فمتى خلا منه خرب العالم وقامت القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "2.
ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس، في خصائص الألوهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء
__________
1 تفسير ابن كثير 2/308 ط دار الأندلس.
2 أخرجه مسلم: كتاب الإيمان باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان 1/131 ح234 من طريق ثابت عن أنس بن مالك.
(1/255)
________________________________________
والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها لله وحده، فمن علق شيئا من ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق" 1.
فعلى كل مسلم ـ يريد أن يخلص نفسه وينجيها من الوقوع فيما ينافي ويناقض شهادته بأنه لا إله إلا الله ـ أن يعرف التوحيد من الشرك معرفة تامة، وأن يميز بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فمن لا يميز بين ما هو من الإسلام وما ليس منه فقد اختلط عليه الأمر، والنتيجة التي تحصل منها انتقاض إسلامه وجهل مقاصد دينه الذي أهم مقصد فيه على الإطلاق توحيد الباري جل وعلا والبراءة من الإشراك به. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شارحا ما يروى عن أمير المؤمنين عمر بن بالخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" "وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان" 2.
ثم الشرك أقسام:
شرك أكبر: وهو مناف للتوحيد بالكلية ومخرج من الملة لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وجزاؤه الخلود في النار إذا مات عليه.
__________
1 تيسير العزيز الحميد ص115.
2 مدارج السالكين 1/344.
(1/256)
________________________________________
قال ابن القيم في بيان الشرك الأكبر: "وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} "سورة الشعراء: الآية98".
مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة ... " 1.
وفصَّل الشيخ عبد الرحمن 2 بن حسن آل الشيخ أنواع الشرك الأكبر فقال: وهو أربعة أنواع:
النوع الأول: شرك الدعوة أي الدعاء، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} "سورة العنكبوت: الآية65".
النوع الثاني:
شرك النية والإرادة والقصد، والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} "سورة هود: الآية15".
__________
1 مدارج السالكين 1/33.
2 هو عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال عنه ابن بشر: "العالم النحرير البحر الزاخر ... جامع أنواع العلوم الشرعية ومحقق العلوم الدينية والأحاديث النبوية ... قاضي قضاة الإسلام والمسلمين ... صنّف مصنفات في الأصول والفروع" ومن جملة مصنفاته فتح المجيد وقرة عيون الموحدين توفي سنة 1285هـ. انظر عنوان المجد لابن بشر 2/20.
(1/257)
________________________________________
النوع الثالث:
شرك الطاعة، والدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} "سورة التوبة: الآية31".
وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعُبّاد في المعصية لا دعاؤهم إياهم، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ـ عدي بن حاتم ـ فقال: "لسنا نعبدهم" فذكر له: "أن عبادتهم طاعتهم في المعصية"1.
النوع الرابع:
شرك المحبة، والدليل على قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} "سورة البقرة: الآية165" 2.
أما القسم الثاني من أقسام الشرك فهو الأصغر، وإنما قيل عنه كذلك لأنه لا يخرج من الملة بخلاف الأكبر.
قال ابن القيم رحمه الله في كلامه على هذا القسم: "وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1 أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن باب من سورة التوبة 5/278 ح3905، وابن جرير الطبري في التفسير 10/114، والبيهقي في السنن 10/116 جميعهم من طريق مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وعطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث".
2 مجموعة التوحيد ص347، 348.
(1/258)
________________________________________
أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك " 1 وقول الرجل للرجل: "ما شاء الله وشئت" و"هذا من الله ومنك" و"أنا بالله وبك" و"ومالي إلا الله وأنت" و"أنا متوكل على الله وعليك" , و"لولا أنت لم يكن كذا وكذا".
وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: "ما شاء الله وشئت" "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" 2. وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ" 3.
__________
1 أخرجه أحمد في المسند 2/69، 86، وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء 3/570 ح3251.
والترمذي في كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1535.
والبيهقي في السنن 10/29.
والحاكم في المستدرك 1/18.
جميعهم من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ولفظه عند الترمذي والبيهقي: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". ولفظه عند الحاكم: "من حلف بغير الله كفر".
قال الترمذي على إثره: "هذا حديث حسن".
وقال الحاكم: "هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بمثل هذا الإسناد".
وأقره الذهبي في التلخيص.
2 أخرجه أحمد في المسند 1/214.
* والبخاري في الأدب ص274 ح783.
* والنسائي في عمل اليوم والليلة ص545، 546.
* وابن ماجه: كتاب الكفارات باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت 1/284 ح2117 بنحو هذا اللفظ.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 2/136.
:"هذا إسناد فيه الأجلح بن عبد الله مختلف فيه، ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان العجلي وباقي رجال الإسناد ثقات".
3 مدارج السالكين 1/344.
(1/259)
________________________________________
هذا هو الشرك بقسميه فواجب على المسلم أن يحذر من الوقوع فيه حفاظا على عقيدته وتوحيده.
(1/260)
________________________________________
المطلب الرابع: أقوال لأبي حنيفة وبعض1 أتباعه تتعلق بالشرك وأنواعه ووسائله
جاء عن الإمام أبي حنيفة وبعض أتباعه النهي عن أنواع من الشرك الأكبر والأصغر.
كالدعاء، والاستغاثة بغير الله 2، والسجود لغير الله 3، والنذر لغير الله 4، والذبح لغير الله 5.
واعتقاد أن الأولياء لهم تصرف 6 في الكون مع الله، أو اعتقاد أن
__________
1 كلام المتقدمين كأبي حنيفة وأصحابه الأوائل عن الشرك وأنواعه ووسائله قليل لأن بدع القبورية لم تكن موجودة وإنما كانوا يتكلمون في بعض هذه المسائل عرضا إذا وردت في النصوص بخلاف ما عليه المتأخرون من أتباع أبي حنيفة فقد بسطوا القول في تلك المسائل كما هو ظاهر من النماذج الآتية من نصوصهم.
2 انظر روح المعاني 11/98، 6/129..
3 انظر البحر الرائق 5/124، وروح المعاني 17/213، والمرقاة شرح المشكاة 2/202.
4 انظر حاشية ابن عابدين على الرد المحتار 2/439، 440؛ والبحر الرائق 2/298؛ وروح المعاني 17/313.
5 انظر تحفة الفقهاء 3/67.
6 انظر البحر الرائق 2/298، وروح المعاني 17/213.
(1/260)
________________________________________
أحدا يعلم الغيب 1. والحلف بغير الله 2.
قال الإمام أبو حنيفة: "لا يحلف إلا بالله متجردا بالتوحيد والإخلاص" 3.
وقال ابن نجم الحنفي عمن حلف بغير الله: "ويخاف الكفر على من قال بحياتي وحياتك" 4.
وقال محمد علاء الدين الحصكفي فيمن نذر لغير الله: "واعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام، وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام؛ تقربا إليهم هو بالإجماع باطل وحرام ... " 5.
قال ابن عابدين شارحا هذا النص: "قوله: تقربا إليهم، كأن يقول: يا سيدي فلان إن ردّ غائبي أو عوفي مريضي أو قُضيت حاجتي؛ فلك من الذهب أو الفضة أو من الطعام أو من الشمع أو الزيت كذا قوله: "باطل وحرام" لوجوه منها أنه: نذر لمخلوق، والنذر لمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك ... "6.
وقال الألوسي واصفا حال المستغيثين بغير الله وتعلقهم الشديد بالأموات؛ حيث صرفوا لهم أنواعا من الطاعات كالنذر وغيره: "ويستغيثون
__________
1 انظر الفتاوى الهندية 6/323، 325، 326؛ والبحر الرائق 3/88، 5/124.
2 انظر البحر الرائق 5/124.
3 بدائع الصنائع 3/8.
4 البحر الرائق 5/124.
5 رد المحتار مع حاشية ابن عابدين 2/439.
6 حاشية ابن عابدين على رد المحتار 2/449-440.
(1/261)
________________________________________
بهم في الشدة ـ أي الأولياء ـ غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عزَّ وجلَّ، ونجعل ثوابه للولي. ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو ردّ غائبهم أو نحو ذلك.
والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا.
ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب حُجَر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم. لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم. والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف. قاتلهم الله تعالى، ما أجهلهم وما أكثر افتراءاتهم.
ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة. وعلماؤهم يقولون إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه.
وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام السلف الأمة. وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى ... " 1.
ويقول كذلك: "وقد رأينا كثيرا من الناس ... يهشون لذكر الأموات؛ يستغيثون بهم، ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم
__________
1 روح المعاني 17/212، 213.
(1/262)
________________________________________
توافق أهواءهم واعتقادهم فيهم، ويعظمون من يحكي لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عزَّ وجلَّ ... وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره. وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني قلت له: قل: يا الله فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} "سورة البقرة: الآية186".
فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء.
وسمعت بعضهم أنه قال: "الولي أسرع إجابة من الله عزَّ وجلَّ"، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان ... " 1.
وكذا ورد عن أبي حنيفة وبعض أتباعه النهي عما هو من وسائل الشرك، كتجصيص 2 القبور وتعليتها3، والكتابة عليها 4، والبناء
__________
1 روح المعاني 11/24.
2 تجصيص القبر منهي عنه عند الإمام أبي حنيفة.
انظر حاشية رد المحتار لابن عابدين 2/237؛ والفتاوى الهندية 1/194؛ والبحر الرائق 2/194؛ والمبسوط 2/62؛ وبدائع الصنائع 1/320؛ ومعارف السنن 3/306؛ وحاشية مراقي الفلاح ص405؛ وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص335.
3 انظر تبيين الحقائق للزيلعي 1/264؛ وفتح القدير 2/141؛ وفتح الملهم 2/506؛ وروح المعاني 15/237.
4 كره أبو يوسف الكتابة على القبر. انظر بدائع الصنائع 1/320؛ وتحفة الفقهاء 2/256؛ وتبيين الحقائق 1/264؛ حاشية مراقي الفلاح 405.
(1/263)
________________________________________
عليها 1، واتخاذها مساجد 2، إسراجها 3، واستقبالها للدعاء 4.
قال محمد محيي الدين بن محمد الكندهلوي الحنفي: "وأما اتخاذ المساجد عليها فلما فيه من الشبه باليهود باتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم، ولما فيه من تعظيم الميت وشبه بعبدة الأصنام ... وأما اتخاذ السُرُج عليها، فمع ما فيه من إسراف في ماله المنهي عنه بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} "سورة الإسراء: الآية27".
ففيه تشبه باليهود، فإنهم كانوا يسرجون المصابيح على قبور كبرائهم وتعظيم للقبور واشتغال بما لا يعنيه ... " 5.
وقال الألوسي الحنفي: "ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك…وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإبداع
__________
1 كره الإمام أبو حنيفة البناء على القبر وأن يعلَّم بعلامة.
انظر بدائع الصنائع 1/320؛ وتحفة الفقهاء 2/256؛ والمتانة 1/320؛ والمتانة ص301؛ وفتح الملهم 2/121، 122، ومعارف السنن 3/305، 307؛ وحاشية الطحطاوي على مراقي الفرح ص335.
2 انظر تبيين الحقائق 1/264؛ وروح المعاني 15/237؛ والمرقاة في شرح المشكاة 2/202، والكوكب الدري 1/316، 317.
3 الكوكب الدري 1/317.
4 كره أبو حنيفة استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقت الدعاء.
انظر كتاب التوسل والوسيلة ص293؛ وروح المعاني 6/125؛ ومجمع الأنهر في شرح ملقتى الأبحر 1/313.
5 الكوكب الدري 1/316-317.
(1/264)
________________________________________
دين لم يأذن به الله عزَّ وجلَّ ... ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام، وهو أفضل قبر على وجه الأرض ... والوقوف على أفعالهم في زياراتهم له، والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام.
فتتبع ذاك وتأمل وما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك ... " 1.
هذا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن هذه الأمور، فقد روى مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون بخمس، وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لبي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" 2.
وروى عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه" 3.
__________
1 روح المعاني 15/239-240.
2 أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد 1/377، 378 ح532.
3 أخرجه مسلم في كتاب الجنائز من صحيحه باب النهي عن تجصيص القبر 2/667 ح970.
وأبو داود: كتاب الجنائز باب في البناء على القبر 3/552 ح3225.
والترمذي: كتاب الجنائز باب ما جاء في كراهية تحصيص القبور والكتابة عليها 3/359 ح1052.
وابن ماجه: كتاب الجنائز باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور =
(1/265)
________________________________________
وروي عن أبي الهياج الأسدي 1 قال: " قال علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سوّيته" 2.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق 3 يطرح خميصة 4 له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه. فقال، وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مثل ما صنعوا 5.
__________
= وتجصيصها والكتابة عليها 1/498 ح1562.
والنسائي: كتاب الجنائز باب الزيادة على القبر 4/86 ح2027.
جميعهم من طرق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله.
1 هو حيان بن حصين أبو الهياج الأسدي الكوفي. قال عنه ابن حجر: "ثقة من الثالثة".
تقريب التهذيب 1/208؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 3/67.
2 أخرجه مسلم في كتاب الجنائز من صحيحه باب الأمر بتسوية القبر 2/666 ح969.
والترمذي: كتاب الجنائز باب ما جاء في تسوية القبور 3/357 ح1049.
والنسائي: كتاب الجنائز باب تسوية القبور إذا رفعت 4/88 ح2031.
جميعهم من طريق أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي.
3 طفق: يقال طفق يفعل كذا أبي جعل يفعل. الصحاح 4/1517.
4 خميصة: الخميصة كساء له أعلام، انظر النهاية 2/80-81 وغريب الحديث لابن سلام 1/266، 227.
5 أخرجه البخاري في كتاب الصلاة من صحيحه باب 55، 1/532 ح436.
ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه باب النهي عن بناء المساجد واتخاذ صور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد 1/3787 ح531.
كلاهما من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة وابن عباس.
(1/266)
________________________________________
المبحث الثاني: عقيدة الإمام أبي حنيفة في التوسل إلى الله
التوسل إلى الشيء في عرف أهل اللسان: هو التقرب إليه، واستعمال السبب الموصل إليه، وهو الوسيلة.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "سورة المائدة: الآية35".
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "الوسيلة هي الفعيلة من قول القائل: توسلت إلى فلان بكذا بمعنى تقربت إليه ... وقوله: وابتغوا إليه الوسيلة يقول: واطلبوا القرب إليه بالعمل بما يرضيه" 1.
وقال الجوهري: "الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسل واحد، يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل ... "2.
__________
1 انظر جامع البيان 6/226، ط الحلبي.
2 الصحاح 5/1841.
(1/267)
________________________________________
أما التوسل في الشرع فهو خاص بالتقرب إلى الله تعالى.
ويقسم العلماء التوسل إلى الله إلى قسمين:
أولا ـ توسل مشروع.
ثانيا ـ توسل ممنوع.
فالتوسل المشروع ما قام عليه دليل من الشرع وهو ثلاثة أنواع:
"أ" التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا:
وصفته أن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي.
ودليل مشروعية هذا التوسل من الكتاب قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".
ومن السنة حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" 1.
__________
1 أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة باب الدعاء 2/167، 168 ح1495.
بنحوه والنسائي: كتاب السهو باب الدعاء بعد الذكر 3/52 ح1300.
وابن حبان كما في موارد الظمآن ص592 ح2382، والحاكم في المستدرك 1/503، 504، جميعهم من طرق حفص عن أنس وابن ماجه: كتاب الدعاء باب اسم الله الأعظم 2/1268 ح3858 من طريق أنس بن سيرين عن أنس بن مالك. =
(1/268)
________________________________________
ويوجد في كلام أبي حنيفة ذكر هذا النوع من التوسل كما في قوله: "ولا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180"1.
أما النوعان الآخران للتوسل المشروع فلم أقف له على قول فيهما.
"ب" التوسل بالعمل الصالح:
وصفته كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك اغفر لي.
ودليل مشروعية هذا التوسل من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "سورة المائدة: الآية35".
وقوله جلّ وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} "سورة الإسراء: الآية57".
وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} "سورة آل عمران:16".
ومن السنة: قصة أصحاب الغار الثابتة في الصحيحين فقد توسلوا بأعمالهم الصالحة فتوسل أحدهم ببره لوالديه، والآخر
__________
= قال الحاكم عن هذا الحديث: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.
1 الدر المختار مع حاشية رد المحتار 6/396، 397.
(1/269)
________________________________________
بعفته عن الفاحشة، والثالث بإحسانه إلى أجير كان عنده 1.
"ج" التوسل بدعاء الصالحين:
ودليل مشروعيته ما ورد في صحيح مسلم عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: "قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، فقالت: فادع الله لنا بخير. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب، مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به، آمين، ولك بمثل" 2.
وقد كان الصحابة يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ومنه قول الأعرابي حين أصابت سَنَة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ... " 3.
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب البيوع باب إذا اشترى أشياء لغيره بغير إذنه فرضي 4/408 ح2215.
ومسلم: كتاب الذكر والدعاء باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال 4/2099 ح2743.
كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.
وأحمد في المسند 2/116 من طريق سالم بن عبد الله عن ابن عمر.
2 أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب 4/2094 ح2733.
وابن ماجه: كتاب المناسك باب فضل دعاء الحاج 2/967 ح2895 كلاهما من طريق أبي الزبير عن صفوان بن عبد الله بن صفوان.
3 أخرجه البخاري: كتاب الاستسقاء باب في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة 2/507 ح1014=
(1/270)
________________________________________
فالصحابة توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ثم بعد وفاته توسلوا بدعاء عمه العباس، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال فيُسقَون" 1.
فالصحابة عدلوا عن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء العباس، فدل على أن التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع بموته، فلو كان التوسل بالرسول بعد موته جائزا لما عدل الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس، وهذا من الوضوح بحيث لا يخفى على ذي لب.
أما التوسل الممنوع:
فهو ما لا دليل عليه من كتاب أو سنة، وهو ثلاثة أنواع:
1- التوسل إلى الله تعالى بذات وشخص المتوسل به سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهو نوعان:
"أ" أن يدعو المتوسَّل به:
ذلك بأن يدعوه، ويستغيث به، ويطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله ولو يجعله واسطة فيما يطلبه من الله. وهذا النوع من التوسل هو من الشرك الأكبر لأنه دعاء لغير الله، والتجاء إليه في المهمات وهو من صرف العبادة
__________
= ومسلم: كتاب الاستسقاء باب الدعاء في الاستسقاء 2/612 ح897 كلاهما من طريق شريك عن أنس بن مالك.
1 أخرجه البخاري: كتاب الاستسقاء باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا 2/494 ح1010.
وابن سعد في الطبقات الكبرى 4/28، 29.
كلاهما من طريق ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك.
(1/271)
________________________________________
لغير الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} "سورة المؤمنون: الآية117".
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} "سورة الأحقاف: الآية 5".
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في *** المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء يجتلبون المنافع ويجتنبون المضار" 1.
فلم يأمرنا الله أن نستغيث بالصالحين من عباده أو ندعو أنبياءه حتى تستجاب لنا المسألة، بل قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} "سورة غافر: الآية60".
فأمر بدعاء العبادة ودعاء المسألة، ووعدنا بالإجابة، وتوعد من استكبر عنها بالعذاب والإهانة 2.
"ب" التوسل بالذات في دعاء الله:
هو أن يجعل ذات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره وسيلة في دعاء الله كأن يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم".
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء
__________
1 مجموع الفتاوى 1/123-124.
2 انظر تفسير كلام المنان 6/540 بتصرف.
(1/272)
________________________________________
كثير من الناس. لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيف بل موضوع وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى ... وحديث الأعمى لا جحة لهم فيه؛ فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته ... وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم، لأن بين السؤال والإقسام فرقا، فإن السائل متضرع يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، ... وهذا التوسل بالأنبياء ـ بمعنى السؤال بهم ـ هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز، وليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك فضلا عن أن يجعل هذا من مسائل السبب؛ فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوّز التوسل بمعنى الإقسام به أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك" 1.
وقال: "قد نُقل في منسك المروزي عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قد يخرج
على إحدى روايتين في جواز القسم به ومعظم العلماء على النهي في الأمرين.." 2.
قلت: اتفق العلماء على أن اليمين بالحلف بمخلوق لا تنعقد إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عند الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه في ذلك روايتين في انعقاد اليمين به 3، والذي عليه الجمهور 4 ـ مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى ـ أنه لا تنعقد اليمين به عليه الصلاة والسلام
__________
1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص114-117.
2 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص275.
3 انظر المغني 9/513، 514؛ والكافي 4/379؛ والشرح الكبير 6/78؛ وفتح الباري 11/534؛ وطرح التثريب 7/146.
4 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص273.
(1/273)
________________________________________
كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصحيح. وفي هذا يقول ابن قدامة 1:
لأنه حلف بغير الله فلم يوجب كفارة كسائر الأنبياء، ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم عليه السلام، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص، ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه، لعدم الشبه وانتفاء المماثلة" 2.
2- التوسل إلى الله تعالى بحق فلان أو جاهه ونحو هذا: منع الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا التوسل، وصفته أن يقول المسلم في دعائه: "اللهم إني أسألك بحق فلان عليك أو بجاهه عندك أن تغفر لي".
قال أبو حنيفة 3: "يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام".
وقال بشير بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك 4،
__________
1 هو عبد الله بن أحمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجمّاعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي.
قال عنه الذهبي: "الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام" مات سنة 626هـ.
سير أعلام النبلاء 22/165-173؛ وانظر ترجمته في شذرات الذهب 5/88-92؛ وذيل طبقات الحنابلة 2/133-1498.
2 المغني 9/514.
3 العقيدة الطحاوية ص234؛ وإتحاف السادة المتقين 2/285؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص198.
4 كره الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن يقول الرجل في دعائه"اللهم إني =
(1/274)
________________________________________
أو بحق خلقك"1.
وقال أبو يوسف: "وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام"2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان:
أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذي يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى ... بخلاف المخلوق فإن إقسامه
__________
= أسألك بمعقد العز من عرشك".
لعدم وجود النص في الإذن به، وأما أبو يوسف فقد جوز لوقوفه على نص من السنة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: "اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدِّك الأعلى وكلماتك التامة".
وهذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير كما في البناية 9/382، ونصب الراية 4/272، 273.
وفي إسناده ثلاثة أمور قادحة:
1- عدم سماع داود بن أبي عاصم من ابن مسعود.
2- عبد الملك بن جريج مدلس ويرسل.
3- عمر بن هارون متهم بالكذب.
من أجل هذا قال ابن الجوزي كما في البناية 9/382 "هذا حديث موضوع بلا شك وإسناده محبط كما ترى".
انظر تهذيب التهذيب 3/189، 6/405، 7/501؛ وتقريب التهذيب 1/520.
1 التوسل والوسيلة ص82؛ وانظر شرح الفقه الأكبر ص198.
2 إتحاف السادة المتقين 2/285؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص234.
(1/275)
________________________________________
بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 1.
وأما الثاني: وهو السؤال المعظَّم كالسؤال بحق الأنبياء، فهذا فيه نزاع وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز، ومن الناس من يجوّز ذلك" 2.
قلت: من هؤلاء: العز بن عبد السلام حيث قال: "أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله: "قل: اللهم إني أقسم عليك بمحمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة".
وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وألا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيها على درجته ومرتبته" 3.
قلت: لفظ الحديث هو: " أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ" 4.
__________
1 تقدم تخريجه ص259.
2 التوسل والوسيلة ص83، 99.
3 فتاوى العز بن عبد السلام ص126.
4 أخرجه أحمد في المسند 4/138.
والترمذي: كتاب الدعوات باب 119، 5/569 ح3578، وابن ماجه كتاب إمامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الحاجة 1/441 ح1384 والحاكم في المستدرك 1/313. جميعهم من طريق عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف.
(1/276)
________________________________________
وليس فيه "إني أقسم عليك بمحمد"، ولم أقف عليه بهذا اللفظ في دواوين السنة النبوية.
وهذا الحديث حكم عليه أئمة هذا الشأن بالصحة كالطبراني 1، والبيهقي 2، وشيخ الإسلام 3، والحاكم4، والذهبي 5، والسيوطي 6، والمناوي 7، والألباني 8.
وليس في هذا الحديث متمسّك لمن يرى جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه؛ فإن الحديث صريح في أن الغرض من مجيء هذا الرجل، وهو ضرير البصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس التوسل بذاته أو جاهه، ولو أراد غير ذلك لجلس في بيته ودعا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "ادع الله أن يعافيني".
ورد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ".
فتبين مما سبق أن الحديث ليس فيه ما يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بذاته إذ قوله: "بنبيك" على تقدير المضاف أي بدعاء نبيك أو بشفاعته 9.
__________
1 المعجم الصغير 1/184.
2 دلائل النبوة 6/167؛ وانظر التوسل والوسيلة ص187.
3 التوسل والوسيلة ص187.
4 المستدرك 1/313.
5 تلخيص المستدرك 1/313.
6 الجامع الصغير 1/227..
7 فيض الباري 2/124، 125.
8 التوسل أنواعه وأحكامه ص70.
9 التوسل والوسيلة ص259 ط/ السلفية.
(1/277)
________________________________________
3- الإقسام على الله تعالى بالمتوسَّل به: وهذا التوسل منعه الإمام أبو حنيفة 1 رحمه الله تعالى، وصفته أن يقول المسلم في دعائه: "اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي".
فالقسم والحلف بالله من تعظيمه، وتعظيمه عبادة، وإنما يكون الحلف بالله من تعظيمه مع الصدق وحفظ الإيمان عما يتضمن الاستهانة بالله. وقد تقدم قول الإمام أبي حنيفة: "لا يحلف إلا بالله متجردا بالتوحيد والإخلاص" 2.
ومن صرف هذه العبادة لغير الله فقد أشرك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 3.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت" 4.
__________
1 التوسل والوسيلة ص82؛ وانظر روح المعاني 6/126.
2 بدائع الصنائع 3/8.
3 أخرجه أحمد في المسند 2/69، 86، وأبو داود: كتاب الأيمان والنذور باب كراهية الحلف بالآباء 3/570 ح3251.
والترمذي: كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1535.
والبيهقي في السنن 10/29.
والحاكم في المستدرك 1/18.
جميعهم من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر ولفظه عند الترمذي والبيهقي: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". ولفظه عند الحاكم: "من حلف بغير الله فقد كفر".
قال الترمذي على إثره: "هذا حديث حسن".
وقال الحاكم: "هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بمثل هذا الإسناد".
وأقره الذهبي في التلخيص.
4 أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذر باب لا تحلفوا بآبائكم 11/530 ح6646، ومسلم: كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله 3/1267 ح1246، والترمذي: كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله 4/110 ح1534 جميعهم من طريق نافع عن ابن عمر.
(1/278)
________________________________________
فإذا كان الحلف بمخلوق شركا، فكيف بالحلف بالمخلوق على الخالق؟ فالمقصود أن الدعاء عبادة كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} 1.
فلا يتوسل إلى الله بشيء إلا ما جعله الله وسيلة فيه كالتوسل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وسائر أنواع التوسل المشروع؛ فالعبادات مبناها على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ووفق شرعه والإخلاص بالنية والقصد، لا على الهوى والابتداع. فالواجب على المسلم أن يتثبت في هذا فلا يعبد الله إلا بما شرع وأمر به وأذن فيه.
وأن يحرص كل الحرص في أن يميز السنة والبدعة، والتوحيد من الشرك، والحق من الباطل، حتى يخلص وينجو من الوقوع فيما ينقض التوحيد.
هذا هو آخر الحديث عن توحيد الألوهية وبه نهاية الفصل الثاني، ويليه الفصل الثالث وهو في توحيد الأسماء والصفات.
__________
1 أخرجه أحمد في المسند 4/267، والبخاري في الأدب المفرد ص249، وأبو داود كتاب الصلاة باب الدعاء 2/161 ح1479، والترمذي: كتاب الدعاء باب ما جاء في فضل الدعاء 5/456 ح3372، وابن ماجه: كتاب الدعاء باب فضل الدعاء 2/1258 ح3828، والحاكم في المستدرك 1/940.
جميعهم من طريق يسيع الكندي الحضرمي عن النعمان بن بشير، قال الترمذي على أثره: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(1/279)
________________________________________
الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
تمهيد: طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات.
المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات عند الإمام أبي حنيفة إجمالا.
المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها.
المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها.
(1/281)
________________________________________
تمهيد
طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات
قبل الحديث عن طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات، يحسن ذكر أمور لا بد في هذا المقام من معرفتها:
أولا ـ معنى توحيد الأسماء والصفات
هو اعتقاد انفراد الله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال، وذلك بإثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة، كالإقرار بأن الله بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، له المشيئة النافذة والحكمة البالغة، وأنه على العرش استوى، وهو مع عباده أينما كانوا، هذا مع اعتقاد أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله 1.
وهذا التوحيد أجلُّ المعارف لأنه معرفة بالله بأسمائه وصفاته، وعلى هذه المعرفة تبنى العبادة. فإذا لم يعرف العبد ربه فكيف يعبده؟ كيف يعبد إلها يجهله؟ لذا استفاضت الأدلة بذكره والتنويه به؛ لأنه كلما كان الأمر مهما كثر إيضاحه وبيانه.
__________
1 انظر بتصرف تيسير العزيز الحميد ص34، 35؛ والكواشف الجلية ص417، 418.
(1/283)
________________________________________
ثانيا ـ ما يقدح في توحيد الأسماء والصفات
يقدح في هذا التوحيد خمسة أمور كلها من ضروب الإلحاد في أسمائه الذي ذمه الله وأهله في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".
وهذه القوادح هي التشبيه، والتعطيل وتسميته، ووصفه بما لا يليق به. قال ابن القيم:
الإلحاد في أسماء الله تعالى أنواع:
أحدها: أن يسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الآلهة والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم إلها" الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة.
وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم: يد الله مغلولة وأمثال ذلك.
رابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني.
خامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرا1.
__________
1 بدائع الفوائد 1/169، 170.
(1/284)
________________________________________
ثالثا ـ مذاهب الناس في الأسماء والصفات
الناس في باب الأسماء والصفات على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول ـ المعطلة:
وهم الذين عطلوا الرب عما يجب أن يثبت له من الأسماء والصفات. والتعطيل على ثلاث مراتب، ذكرها شيخ الإسلام في التدمرية وهي:
"1- وصف الله بسلب النقيضين وهو مذهب غلاة المعطلة؛ فإنهم يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت لأننا لو وصفناه بالإثبات لشبهناه بالمخلوقات، ولو وصفناه بالنفي لشبهناه بالمعدومات.
2- وصف الله بالسلب والإضافة دون صفات الإثبات، وهو مذهب المعطلة من الفلاسفة والجهمية، وهؤلاء كلهم ينفون الأسماء والصفات.
3- إثبات الأسماء دون الصفات، وهو مذهب المعتزلة ومن تعبهم" 1.
والمعطلة قسمان:
أهل تأويل، وأهل تجهيل.
أما أهل التأويل: فهم الذين يصرفون معاني نصوص الكتاب والسنة عن معانيها الظاهرة بغير حجة وهذا هو التحريف بعينه 2.
أما أهل التجهيل: فهم الذين ينكرون معاني الأسماء والصفات، ويثبتون ألفاظا لا معاني لها3.
__________
1 مجموع الفتاوى 3/7، 8. بتصرف.
2 درء تعارض العقل والنقل 1/8، 9.
3 مختصر الصواعق ص54.
(1/285)
________________________________________
الصنف الثاني ـ المشبهة:
وهم الذين يشبهون صفات الله بصفات المخلوقين، كقول بعضهم: لله سمع كسمعي وبصر كبصري.
قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون تشبيه إذا قال: يدٌ كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فهذا هو التشبيه" 1.
وقال ابن تيمية: "من قال: علم كعلمي أو قوة كقوتي أو حب كحبي أو رضاء كرضائي أو يدان كيديّ أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات" 2.
ومن التشبيه التعرض لكيفية صفات الرب وحقيقتها التي لا يعلمها إلا الله 3.
قال ابن القيم عن إلحاد المشبهة: "فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم إلحاد وتفرقت بهم طرقه" 4.
الصنف الثالث ـ المؤمنون الموحدون:
وهم الذين يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من غير تمثيل ولا تشبيه، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله
__________
1 جامع الترمذي 3/50، 51..
2 مجموع الفتاوى 3/16.
3 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص4 بتصرف.
4 بدائع الفوائد 1/170.
(1/286)
________________________________________
قال الصابوني: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة ... يعرفون ربهم عزَّ وجلَّ بصفاته التي نطق بها وحيُه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جلّ جلاله منها ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعتقدون فيها تشبيها لصفاته بصفات خلقه..ولا يحرفون كلاما عن مواضعه، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف والتشبيه، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعليل والتشبيه، واتبعوا قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11" ... " 1.
وبعد هذا العرض لمذاهب الناس في الأسماء والصفات إجمالا، نتناول مذهب السلف في ذلك بشيء من التفصيل.
رابعا ـ طريقة السلف في توحيد الأسماء والصفات
1- طريقتهم في الإثبات:
الإثبات عندهم هو إثبات بلا تشبيه وبيان ذلك في الآتي:
"أ" الإيمان والتسليم بما ورد من الأسماء والصفات:
يجب الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون تجاوزها بالنقص أو الزيادة.
قال ابن خزيمة: "إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى
__________
1 اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص3، 4.
(1/287)
________________________________________
عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ونبيه صلى الله عليه وسلم مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف" 1.
وقال أبو بكر الإسماعيلي 2: "اعلموا رحمني الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وكتبه ورسله وقبول ما نطق به كتاب الله وصحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا معدل عما ورد به، ولا سبيل إلى رده إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضمونا لهم الهدى فيهما مشهودا لهم بأن نبيهم صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم، ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ... " 3.
فجميع نصوص الأسماء والصفات يقرونها صريحة على ظواهرها كما أتت، ويسلمون لما تقتضيه تلك الصفات من كمالات تليق بالله، من غير تحريف ولا تكييف.
فكل ما نص عليه كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان به. فمن أنكر أو ألحد فإنه يخشى عليه الكفر بعد ثبوت الحجة عليه كما قال الشافعي: "لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها،
__________
1 ذم التأويل لابن قدامة ص140 ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.
2 هو أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الجرجاني أبو بكر. قال عنه الذهبي: "الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام" مات سنة 371هـ.
تذكرة الحفاظ 3/947. وانظر ترجمته في طبقات الشافعية 3/7.
3 ذم التأويل لابن قدامة ص139، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.
(1/288)
________________________________________
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل" 1.
"ب" أن أسماء الله عزَّ وجلَّ وصفاته كلها عندهم توقيفية:
فلا يطلقون على الله شيئا منها إلا بإذن من الشرع، فما ورد من الشرع وجب إطلاقه، وما لم يرد به فلا يصح إطلاقه، قال عبد الرحمن بن قاسم العُتَقي 2: "لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن" 3.
وقال السجزي: "قد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفا، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف ... ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم" 4.
وذلك لأن الإيمان بصفات الله وأسمائه من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق الرسل الذين يبلغون وحي الله.
"ج" إثباتهم للصفات إثبات وجود معلوم المعنى مجهول الكيفية:
سئل الإمام مالك عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "سورة طه: الآية5".
__________
1 ذم التأويل ص143.
2 هو عبد الرحمن بن قاسم بن خالد بن جنادة العتقي بضم المهملة وفتح المثناة أبو عبد الله البصري. قال عنه ابن حجر: "الفقيه صاحب مالك ثقة من كبار العاشرة". مات سنة إحدى وتسعين ومائة تقريبا. تقريب التهذيب 1/495؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 6/252.
3 أصول السنة لابن أبي زمنين 1/212.
4 كتاب الحرف والصوت ص139.
(1/289)
________________________________________
كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" 1.
فبين أن الاستواء معلوم المعنى، مجهول الكيفية. وهكذا بقية الصفات يقال فيها ما قيل في الاستواء.
قال أبو سليمان الخطابي: "فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه وتعالى، هو إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته؛ إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف" 2.
وقال الحافظ أبو القاسم التيمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات ... وعلى هذا مضى السلف كلهم" 3.
وقال السجزي: "إن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة هي معقولة عند العرب، والخطاب ورد بها عليهم بما يتعارفون بينهم، ولم يبين سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير يخالف الظاهر، فهي على ما يعقلونه" 4.
وقال السرخسي الحنفي 5: "وأهل السنة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص ـ أي بالآيات القطعية والدلالات اليقينية ـ وتوقفوا
__________
1 تقدم تخريج هذا الأثر ص25.
2 الأربعين في صفات رب العالمين ص117؛ والعلو ص173، كلاهما للذهبي.
3 الحجة في بيان المحجة ص34.
4 الحرف والصوت ص183.
5 هو أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي نسبة إلى سرخس بفتح السين والراء بلد بخراسان، قال عنه القرشي: "كان إماما علامة حجة متكلما فقيها أصوليا" مات سنة 490هـ، انظر الجواهر المضية 3/78؛ والفوائد البهية ص158.
(1/290)
________________________________________
فيما هو المتشابه وهو الكيفية، ولم يجوزا الاشتغال في طلب ذلك" 1.
وقال البزدوي الحنفي 2: "إثبات اليد والوجه حق عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن إدراك الوصف بالكيف، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة" 3.
"د" الإثبات عندهم يكون على وجه التفصيل:
وهذه هي طريقة القرآن، فالإثبات للصفات في كتاب الله يكون مفصلا، والنفي يكون مجملا.4
ومن شواهد الإثبات المفصل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "سورة الحشر: الآيتان 23-24".
والمراد بالتفصيل:
التعيين والتخصيص، وذلك بذكر الأسماء والصفات معينة منصوصا عليها، لا مجملة في لفظ عام، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".
__________
1 شرح الفقه الأكبر ص60.
2 سيأتي التعريف به في ص299.
3 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعلي الدين البخاري 1/60، 61.
4 شرح العقيدة الطحاوية ص53.
(1/291)
________________________________________
"هـ" صفات الله كلها كاملة عندهم:
ما ورد في الكتاب والسنة وصفا لله تعالى إنما هو عندهم من صفات الكمال الواجبة لله تعالى، ولو لم يتصف بها للزم النقص في حقه تعالى وتقدّس. ومما يدل على هذا أن الله تعالى ذكر أن الأصنام لا توصف بالكلام، ولا بالنطق، ولا بالنفع، ولا بالضر، وهذا دليل على عدم إلهيتها. وإذا كان كذلك فهذه الصفات صفات كمال، والفاقد لها لا يستحق أن يكون متصفا بالألوهية.
قال تعالى عمن عبد العجل من دونه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} "سورة الأعراف: الآية148".
وقال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} "سورة طه: الآيتان88-89".
"و" وأسماء الله كلها حسنى عندهم:
أسماء الله جميعها حسنى؛ لأنها دالة على صفات كمال عظيمة، ولو كانت أعلاما محضة لم تكن حسنى1، لذلك أمر الله عباده أن يدعوه بها لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها 2.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".
__________
1 انظر مجموع الفتاوى 3/8.
2 انظر تيسير كلام المنان 3/120، 121. 5/145.
(1/292)
________________________________________
فكل اسم من أسماء الله دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها، ودلالة الأسماء على الذات والصفة تكون بالمطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله، وبالتضمن إذا فسرناه ببعض مدلوله، وبالالتزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف عليها هذا الاسم، مثال ذلك الرحمن، دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة، وعلى أحدهما دلالة تضمن لأنها داخلة في الضمن، ودلالة الأسماء التي لا توجد إلا بثبوتها كالحياة والعلم والقدرة ونحوها دلالة التزام1.
فالمقصود أن أسماء الله أعلام وأوصاف دالة على معانيها، وكلها أوصاف مدح وثناء.
2- طريقتهم في التنزيه:
التنزيه الذي دل عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف هذه الأمة هو تنزيه بلا تعطيل، لما أثبت الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس نفي الصفات الثابتة في الكتاب والسنة من التنزيه في شيء 2 بل هو عين التنقص.
__________
1 انظر بدائع الفوائد1/162 بتصرف.
2 خالف المتكلمون السلف في مفهوم التنزيه حيث جعلوه معولا لهدم بنيان صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة. وأول من أدخل النفي في التنزيه هم الجهمية فقد نقل عنهم الإمام أحمد أن توحيدهم غالبه سلوب وتابعهم بعد ذلك المعتزلة فقد نقل عنهم الأشعري في المقالات أنهم أجمعوا على:
"أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبه ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا == بذي يمين وشمال وأمام وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه الزمان ولا يجوز عليه الماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق. فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شاركهم هذه الجملة الخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الشيعة.
قال ابن أبي العزَّ الحنفي في بيان فساد هذه الأمة: " والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات ولا يتدبرون معانيها ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده ... والمقصود أن غالب عقائدهم السلوب ليس بكذا ليس بكذا وأما الإثبات فهو قليل وهو أنه عالم قادر حي وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتي الذات فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".
ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله".
انظر كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد ص105؛ مقالات الإسلاميين ص155؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص54؛ وراجع أيضا مجموع الفتاوى 11/483، 484.
(1/293)
________________________________________
والنوم والذل والسفه والنسيان والغفلة والحاجة والتعب واللغوب، أو كان منفصلا؛ كالشريك والظهير والشفيع بدون إذنه والولد والوالد واتخاذ صاحبة والكفؤ والند والولي من الذل.
قال ابن القيم:
توحيدهم نوعان قولي وفعلي
كلا نوعيه ذو برهان
فالأول القولي ذو نوعين أيضا
في كتاب الله موجودان
إحداهما سلب وذا نوعان
أيضا فيه مذكوران
سلب النقائص والعيوب جميعها
عنه هما نوعان معقولان
سلب لمتصل ومنفصل هما
نوعان معروفان أما الثاني
سلب الشريك مع الظهير مع
الشفيع بدون إذن المالك الديان
وكذاك سلب الزوج والولد الذي
نسبوه إليه عابدو الصلبان
وكذاك نفي الكفء أيضا والولي
ما سوى الرحمن للغفران
والأول التنزيه للرحمن عن
وصف العيوب وكل ذي نقصان
كالموت والإعياء والتعب الذي
ينفي اقتدار الخالق المنان
والنوم والسِّنَة التي هي أصله
وعزوب شيء عنه في الأكوان
إلى أن قال:
وكذاك ظلم عباده وهو الغني
فما له والظلم للإنسان
وكذاك غفلته تعالى وهو علام
الغيوب فظاهر البطلان
وكذلك النسيان جل إلهنا
لا يعتريه قط من نسيان
وكذاك حاجته إلى طعام ورز
قٍ وهو رازق بلا حسبان
هذا وثاني نوعي السلب الذي
هو أول الأنواع في الأوزان
تنزيه أوصاف الكمال له
عن التشبيه والتمثيل والنكران
(1/295)
________________________________________
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا
إن المشبه عابد الأوثان 1
"ب" النفي عندهم مجمل:
تقدّم أن الإثبات عند السلف يكون إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل. أما النفي فهو مجمل عندهم كما في القرآن الكريم.
قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".
وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} "سورة الإخلاص: الآية4".
والمراد بالإجمال: التعميم والإطلاق، والنفي المجمل: هو الذي لا يتعرض فيه لنفي عيوب ونقائص معينة، فقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، هو نفي مجمل لأنه نفي للمماثلة في جميع الصفات، فلم يقل ليس كمثله شيء في علمه أو في قدرته أو في سمعه أو في بصر. وما ذكر من الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات إنما هو في الغالب؛ وإلا فإنه قد يأتي النفي مفصلا، كما قد يأتي الإثبات مجملا. فالأول، كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} "سورة البقرة: الآية255".
وقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} "سورة الكهف: الآية49".
والثاني كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "سورة الأعراف: الآية180".
وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "سورة الفاتحة: الآية2".
__________
1 القصيدة النونية المعروفة بالكافية الشافية ص145.
(1/296)
________________________________________
"ج" لا يصفون الله بالنفي المحض:
ومع نفيهم عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فهم يثبتون ضد الصفات المنفية، كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} "سورة الكهف: الآية49".
فهم يثبتون كمال عدله.
وكقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} "سورة سبأ: الآية3".
فهم يثبتون كمال علمه.
وكقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} "سورة ق: الآية38".
فهم يثبتون كمال قدرته.
وكقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} "سورة البقرة: الآية255".
فهم يثبتون كمال حياته وقيّوميته، لأن النفي الصرف عندهم لا مدح فيه ولا كمال لأنه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء 1.
__________
1 انظر الرسالة التدمرية ص57، وشرح العقيدة الطحاوية ص52.
(1/297)
________________________________________
المبحث الأول: تقرير توحيد الأسماء والصفات إجمالا عند الإمام أبي حنيفة
"أ" يثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما أثبت الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، يدل على هذا قوله: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى ولا يقال: غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه.
ونصفه كما وصف نفسه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، حي قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيدهم، ليست كأيدي خلقه، ووجه ليس كوجوه خلقه" 1.
وقوله: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن، من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أونعمته؛ لأن فيه إبطالَ الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال ... " 2.
__________
1 الفقه الأبسط ص56.
2 الفقه الأكبر ص302.
(1/298)
________________________________________
قال البزدوي 1: "العلم نوعان علم التوحيد والصفات، وعلم الشرائع والأحكام، والأصل في النوع الأول هو التمسُّك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق السنة والجماعة، وهو الذي عليه أدركنا مشايخنا وكان على ذلك سلفنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وعامة أصحابهم. وقد صنف أبو حنيفة رضي الله عنه في ذلك كتاب الفقه الأكبر، وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله" 2.
"ب" الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يعتمد على الرأي والمقايسات العقلية في إثبات الصفات بل يثبت الصفات بالكتاب والسنة، يدل على هذا قوله: "لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئا تبارك الله تعالى رب العالمين" 3.
فصفات الله لا تعلم بالعقل فقط بل لا تعلم على التفصيل إلا بالوحي؛ فإنها من الغيب، والعقل قاصر وعاجز عن معرفة الغيب على التفصيل، بل العقول عاجزة عن تكييف صفات الرب سبحانه وتعالى؛ لأن الشيء إنما تعرف كيفيته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره، والله تعالى لا نظير له. وإذا كانت عاجزة عن تكييف بعض المخلوقات كالروح
__________
1 هو علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي نسبة إلى بزدة قلعة حصينة على ستة فراسخ من نسف.
قال عنه ياقوت: "الفقيه بما وراء النهر صاحب الطريقة على مذهب أبي حنيفة. روى عنه صاحبه أبو المعلى محمد بن نصر بن منصور المديني الخطيب وابنه القاضي أبو ثابت الحسن بن البزدوي" مات سنة 488هـ، معجم البلدان 1/409؛ والجواهر المضية 2/594.
2 أصول البزدوي ص3، كشف الأسرار عن أصول البزدوي 1/7، 8.
3 شرح العقيدة الطحاوية 2/427 تحقيق د. التركي وجلاء العينين ص368.
(1/299)
________________________________________
والجنة 1 وغيرها من المغيبات، فهي عن التكييف لذات الرب وصفاته أعجز. وفي هذا يقول الشافعي: "حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحد، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمَّق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم" 2.
وقال ابن عبد البر: "لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة، وهم أهل الفقه والحديث في نفي القياس في التوحيد، وإثباته في الأحكام" 3.
"ج" الصفات عند الإمام أبي حنيفة معلومة المعنى، مجهولة الكيفية، وليس عنده التفويض المطلق، دلّ على ذلك قوله لما سئل عن النزول الإلهي قال: "ينزل بلا كيف" 4.
قال الملاّ علي القاري بعد ذكره قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول ... ": "اختاره إمامنا الأعظم وكذا كل ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهات من ذكر اليد والعين والوجه ونحوها من الصفات. فمعاني الصفات كلها معلومة وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقل الكيف فرع العلم لكيفية الذات وكنهها. فإذا كان ذلك غير معلوم؛ فكيف يعقل لهم
__________
1 الرسالة التدمرية ص46، 47، 50-57، والحموية ص110، 112، ومجموع الفتاوى 3/28، 30-34، 5/115، 116.
2 ذم التأويل ص143، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية رقم 3.
3 جامع بيان العلم وفضله ص74.
4 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص42، ط، دار السلفية، والأسماء والصفات للبيهقي ص456، وسكت عليه الكوثري، وشرح الطحاوية ص245، تخريج الألباني، وشرح الفقه الأكبر للقاري ص60.
(1/300)
________________________________________
كيفية الصفات، والعصمة النافعة من هذا الباب أن يصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبت له الأسماء والصفات، وينفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتك منزها عن التشبيه، ونفيك منزها عن التعطيل. فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل ومن شبّهه باستواء المخلوقات على المخلوق فهو مشبّه، ومن قال الاستواء ليس كمثله شيء فهو الموحِّد المنزِّه" 1.
"د" الإمساك عن التأويل مطلقا:
طريقة الإمام أبي حنيفة في الصفات، الإمساك عن التأويل مطلقا لأنه يفضي إلى إبطال الصفة وتعطيل معناها اللائق بالله. دل على ذلك قوله: "ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال صفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال" 2.
وقال: "وهو يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوباه" 3.
والإمساك عن تأويل النصوص بما يخالف ظاهرها هو طريقة الأئمة، كما هي طريقة الإمام أبي حنيفة. قال الألوسي الحنفي: "أنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقا مع نفي التشبيه والتجسيم 4. منهم الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك،
__________
1 مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8/251 طبع ملتان.
2 الفقه الأكبر ص302..
3 الفقه الأبسط ص56، وسكت عليه محقق الكتاب الكوثري.
4 التجسيم: من الألفاظ المجملة المحدثة التي أحدثها أهل الكلام، فلم ترد في الكتاب والسنة ولم تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، انظر مجموع الفتاوى 3/306، ومنهاج السنة 2/135.
(1/301)
________________________________________
والإمام أحمد، والإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، وسعد بن معاذ المروزي، وعبد الله بن المبارك، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، والترمذي، وأبو داود السجستاني ... " 1.
"هـ" نفي التشبيه مطلقا وإثبات الصفات مع نفي التشبيه ليس من التشبيه في شيء عند الإمام أبي حنيفة:
نفى الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى مشابهة الله بخلقه مطلقا، فلا يماثله شيء ومع ذلك أثبت الصفات، دل على ذلك قوله: " ولا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته ... " 2.
وقال: "وصفاته بخلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا، ويتكلم لا ككلامنا ... " 3.
وقال كذلك: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين"4.
وقرر الطحاوي هذا في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ولا يشبه الأنام" 5.
فهو سبحانه ليس كمثله شيء ولا تضرب له الأمثال ولا كفء له.
__________
1 روح المعاني 6/156.
2 الفقه الأكبر 301.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 الفقه الأبسط ص56.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص19.
(1/302)
________________________________________
قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11" ... ".
وقال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} "سورة النحل: الآية74".
وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} "سورة الإخلاص: الآية4".
فكل ما ثبت لله من صفات الكمال فهي مختصة به وحده، لا يشركه فيها أحد، ومن اعتقد خلاف ذلك فقد كفر.
قال نعيم بن حماد: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيها" 1.
وقال إسحاق بن راهويه: "من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم"2.
وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة وصاحباه. دل على ذلك ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر" 3. والمبتدعة تسمي من أثبت لله صفات الكمال التي لا يشترك معه فيها أحد مشبها ومجسما، وفي ذلك يقول القونوي الحنفي: "قال كثير من أئمة السلف علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد نفى
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/532.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/532.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني 25.
(1/303)
________________________________________
شيئا من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبها، حتى بعض المفسرين كعبد الجبار والزمخشري وغيرهما من المعتزلة والرافضة يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات أو قال برؤية الذات مشبها. والمشهور عند الجمهور من أهل السنة والجماعة أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، بل يريدون أنه سبحانه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله كما بيّنه الإمام بيانا شافيا" 1.
فالمثبت لصفات الكمال التي لا يشترك فيها مع الله أحد ليس مشبها ولا مجسما، بل المشبه من اعتقد أن صفات الله من جنس صفات المخلوقين.
قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون تشبيه إذا قال: يدٌ كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه. وأما إذا قال كما قال لله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها. وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11" ... " 2.
وقال الترمذي: "قال أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا ونؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف؟..هكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه" 3.
__________
1 شرح الفقه الأكبر للقاري ص24، 25.
2 سنن الترمذي 3/42.
3 سنن الترمذي 3/41، 42، وانظر 5/251.
(1/304)
________________________________________
فتبين لنا من نصوص الإمام أبي حنيفة المتقدمة أنه يثبت الصفات التي وردت في الكتاب والسنة بدون تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل. وإثبات الصفات عنده على هذه الطريقة ليس من التشبيه في شيء. هذا هو ما عليه السلف الصالح، أما ما عدا ذلك فهو من بدع المعطلة والمشبهة.
"و" تقسم الصفات:
أئمة أهل السنة يرون1 أن صفات الله تنقسم إلى قسمين:
أولا ـ صفات ذاتية:
وهي الملازمة للذات الإلهية أزلا وأبدا ولا تتعلق بها المشيئة 2، كالحياة والعلم والسمع والبصر.
ثانيا ـ صفات فعلية:
وهي التي تتعلق بقدرته في كل وقت وأن تحدث بمشيئته، كالنزول والاستواء والإحياء والإماتة والرضا والغضب 3.
وهذا التقسيم ذهب إليه الإمام أبو حنيفة. دل على هذا قوله:
__________
1 انظر الأسماء والصفات ص110، والاعتقاد ص70-72ن كلاهما للبيهقي، ومجموع الفتاوى 6/99، 6/268، واجتماع الجيوش الإسلامية 300، والعلو للذهبي ص174، وممن ذهب إلى هذا التقسيم من المتكلمين أبو الهذيل العلاف من المعتزلة والباقلاني من الأشاعرة. انظر مقالات الإسلاميين 1/1654، والتمهيد للباقلاني ص262، وكذا قسّم بعض أهل السنة الصفات إلى قسمين سمعية وعقلية يظهر من كلام الإمام أحمد وابن كلاب وعبد العزيز المكي كما صرح بذلك شيخ الإٌسلام في كتاب التدمرية ص149، 150.
2 انظر التمهيد للباقلاني ص262؛ ومجموع الفتاوى 5/99، واجتماع الجيوش الإسلامية ص300، والعلو للذهبي ص174.
3 انظر مجموع الفتاوى 6/628، 6/172 ومجموعة الرسائل والمسائل 1/369، وشرح العقيدة الواسطية لهراس ص98، 99 بتصرف.
(1/305)
________________________________________
"وصفاته الذاتية والفعلية: أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة، وأما الفعلية فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته" 1.
وقال كذلك: "ولم يزل فاعلا بفعله، والفعل صفة في الأزل، والفاعل هو الله تعالى، والفعل صفة في الأزل والمفعول مخلوق وفعل الله تعالى غير مخلوق" 2.
وواضح من هذا أن الإمام أبا حنيفة لا يفرق بين الصفات الذاتية والفعلية بل يثبتها كلها لله تعالى ويثبت قيامها به سبحانه. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فلا يفرقون بين بعض الصفات وبعض، بل يثبتون كل ما أثبت الله لنفسه وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف أهل البدعة الذين يفرقون بين الصفات.
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} "سورة آل عمران: الآية7".
__________
1 الفقه الأكبر ص301.
2 الفقه الأكبر ص301.
(1/306)
________________________________________
المبحث الثاني: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام أبي حنيفة عنها
أولا ـ الصفات الذاتية
1- العلو:
الإمام أبو حنيفة رحمه الله يعتقد أن الله في السماء. دل على هذا قوله: "من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض" 1.
وقال للمرأة التي سألته أين إلهك الذي تعبده؟ قال: "إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} "سورة الحديد: الآية4".
قال هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه" 2.
__________
1 الفقه الأبسط ص49، ونقل نحو هذا اللفظ شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 5/48، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص139، والذهبي في العلو ص1012، 102، وابن قدامة في العلو ص116، وابن أبي العز في شرح الطحاوية ص301.
2 الأسماء والصفات ص429.
(1/307)
________________________________________
قال البيهقي: "لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله عزَّ وجلَّ من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع في قوله إن الله عزَّ وجلَّ في السماء" 1.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب الأبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه" 2.
وما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه هو اعتقاد سائر الأئمة. وقد تضافرت على إثبات صفقة العلو دلالة الفطرة والعقل والشرع. وقد تقدم ذكر استدلال الإمام أبي حنيفة بدليل الفطرة 3، وتنوعت أدلة العلو من الكتاب والسنة أوصلها العلامة ابن القيم إلى عشرين نوعا منها:
1- التصريح بالفوقية مقرونا بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} "سورة النحل: الآية50".
__________
1 الأسماء والصفات ص439-440.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص37.
3 ص239، وفي تقرير دليل الفطرة تفصيلا يقول الإمام محمد بن عثمان بن أبي شيبة: "وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم في الأرض ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسماوات فصار من الأرض إلى السماء إلى العرش فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا من علمه في خلقه لا يخرجون من علمه". انظر كتاب العرش لابن أبي شيبة ص51.
(1/308)
________________________________________
2- ذكرها مجردة عن الأداة كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} "سورة الأنعام: الآية61".
3- التصريح بعروج بعض المخلوقات كقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} "سورة المعارج: الآية4".
4- التصريح بالصعود إليه وبرفعه بعض المخلوقات كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} "سورة النساء: الآية158"، وكقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} "سورة فاطر: الآية10".
5- التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} "سورة الشورى: الآية4".
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} "سورة سبأ: الآية23".
6- التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} "سورة غافر: الآية2".
وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "سورة فصلت: الآية2".
7- التصريح بأنه تعالى في السماء كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} "سورة الملك: الآية16".
8- التصريح بالاستواء مقرونا بأداة "على" مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.
9- الإشارة إليه إلى العلو حسا كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم
(1/309)
________________________________________
بربه حيث قال: "أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت؟ فرفع أصبعه الكريم إلى السماء قائلا: "اللهم اشهد " 1.
10- التصريح بلفظ الأين، كقول أعلم الخلق به وأنصحهم في أمته: "أين الله " 2.
والقول بالعلو هو اعتقاد الصحابة والتابعين وجميع المسلمين قبل ظهور المبتدعة. قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرين نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة الصحيحة من صفاته" 3.
قال ابن تيمية: "وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله عزَّ وجلَّ فوق عرشه، والنافي لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك القول" 4.
وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته، على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية" 5. وأقوال السلف في ذلك كثيرة. ولو ذهبت في إيراد أقوالهم لطال بنا المقام، ولكن أحيل القارئ الكريم إلى كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية للعلامة ابن القيم، وكتاب العلو للحافظ الذهبي، فقد نقلا عن أكثر من مائة إمام
__________
1 أخرجه مسلم: كتاب الحج باب صحبة النبي صلى الله عليه وسلم 2/886 ح1218 من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله.
2 تقدم تخريجه ص233.
3 الأسماء والصفات ص408؛ وفتح الباري 13/406.
4 مجموع الفتاوى 5/39.
5 السنة لعبد الله بن أحمد ص13؛ والرد على الجهمية للدارمي ص67؛ والأسماء والصفات ص427.
(1/310)
________________________________________
من أئمة المسلمين كلهم يصرحون بعلو الله واستوائه على عرشه.
هذه هي عقيدة الإمام أبي حنيفة في العلو والفوقية، ولا يلتفت إلى بعض المنتسبين إلى مذهبه ممن أنكر العلو وبقية الصفات أو بعضها، فهم مخالفون في له في كثير من اعتقاداته، قال ابن أبي العز: "فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداتهم، وقد ينسب إلى مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم" 1.
هذا وإن اللبيب ليعجب من حشد أنواع الأدلة 2 على قضية كهذه واضحة وضوحا ظاهرا وجلاء بينا، لولا ما تسرب لعقول كثير من المسلمين من شبهات المبتدعة التي أعمت بصائر كثير من الناس وصيرت القضايا البدهية اليقينية نظرية ظنية.
2- صفة اليدين:
يثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يدين حقيقيتين لله تعالى تليقان به تعالى لا تشبههما أيدي المخلوقين، يدل على هذا قوله: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد فهو له صفات بلا كيف" 3.
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص302.
2 الأدلة على علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه كثيرة جدا وقد تتبعها بعض أئمة السنة فوجدوها أكثر من ألف دليل.
انظر الجواب الصحيح 3/84؛ والصواعق المرسلة 4/1279.
3 الفقه الأكبر ص302.
(1/311)
________________________________________
وقال كذلك: "يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه" 1.
ولقد ورد إثبات اليدين في عدة مواضع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ففي القرآن جاء في سورة المائدة قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} "سورة المائدة: الآية64".
أما في السنة فقد عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} "سورة ص: الآية75".
ضمن كتاب التوحيد، أورد فيه جملة من الأحاديث الصحيحة كلها تثبت صفة اليدين لله تعالى منها:
حديث أنس بن مالك مرفوعا في الشفاعة العظمى وفيه: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا إلى ربك ... " 2.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك ... " 3.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله
__________
1 الفقه الأبسط ص56.
2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/392 ح7410 من طريق قتادة عن أنس.
3 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/393 ح7412 من طريق نافع عن ابن عمر.
(1/312)
________________________________________
ملأى لا يغيضها نفقة سحًّا1 الليل والنهار ... " 2.
فهذه النصوص دالة على إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى وهي لا تحتمل التأويل بحال ولا يمكن حمل اليدين إلا على الحقيقة ومن لم يحملها على الحقيقة فهو معطل لتلك الصفة ولقد رد الإمام أبو حنيفة على من لم يحمل النصوص على الحقيقة وتأول صفة اليدين بالقدرة أو النعمة فقال: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفة بلا كيف"3.
فاليد غير القدرة عند الإمام أبي حنيفة بل هي صفة قائمة بذات الله تعالى تليق به وبجلاله وعظمته.
3- 4- صفتا الوجه والنفس:
أثبت الله لذاته المقدسة صفة الوجه في أربع عشرة 4 آية من آي الذكر الحكيم قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} "سورة الرحمن: الآية27".
وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} "سورة القصص: الآية88".
وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} "سورة الإنسان: الآية9".
وأثبت له الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الوجه في أحاديث معروفة مشهورة، منها
__________
1 سحّا: السح هو الصب الدائم. انظر النهاية 2/345.
2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 13/393 ح7411 من طريق الأعرج عن أبي هريرة.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 عقيدة المسلمين 2/215.
(1/313)
________________________________________
حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا وفيه: "إن الله عزَّ وجلَّ لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط 1 ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه 2 النور".
وفي رواية: "لو كشفه لأحرقت سبحات 3 وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 4.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بوجه الله، فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: "لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال النبي صلى الله عليه وسلم "أعوذ بوجهك" فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك" قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أيسر" 5.
__________
1 القسط الميزان ويسمى قسطا لأن القسط: العدل وبالميزان يقع العدل.
كذا في شرح صحيح مسلم للنووي 3/13.
2 الحجاب في اللغة: المنع والستر، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمِّي ذلك المانع نورا أو نارا لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لبشاعتهما. كذا في شرح صحيح مسلم للنووي 3/14.
3 السُبُحات: بضم السين والباء ورفع التاء في آخره: جمع سُبحة، ومعنى سبحات عند اللغويين والمحدثين: نوره وجلاله وبهاؤه ـ كذا شرح صحيح مسلم للنووي 3/13-14.
4 أخرجه أحمد في المسند 4/395، 400، 401، 405. ومسلم: كتاب الإيمان باب قوله عليه السلام: إن الله لا ينام 1/161 ح293، والدارمي في الرد على الجهمية ص31، وابن خزيمة في التوحيد ص75، والآجري في الشريعة ص304.
جميعهم من طريق أبي عبيدة عن أبي موسى الأشعري.
5 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله عزَّ وجلَّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 13/388 من طريق حماد بن زيد عن عمرو عن جابر بن عبد الله.
(1/314)
________________________________________
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك " 1.
وأثبت الله لذاته المقدسة صفة 2 النفس في غير ما موضع من آي الذكر الحكيم، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث مختلفة.
فمن تلك الأدلة من القرآن قول الله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} "سورة الأنعام: الآية12".
وقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} "سورة آل عمران: الآية28".
وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} "سورة المائدة: الآية116".
وقال أعلم الناس بربه: "أسألك بكل اسم سميت به نفسك.. ." 3.
__________
1 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/185 ح24 من طريق قيس بن عباد عن عمار بن ياسر. قال الألباني: "حديث صحيح".
2 عدَّ كثير من أهل السنة "النفس" من صفات الله تعالى. انظر الفقه الأكبر بشرح القاري ص58، وكتاب التوحيد لابن خزيمة 1/11، 12، وأقاويل الثقات ص186، وقطف الثمر ص66، وذهب شيخ الإسلام أن المراد من النفس هو ذات الله وعينه لا صفة له. انظر مجموع الفتاوى 9/192، 193، 4/196، 197، وكذا البخاري فإنه ذكر نصوص "النفس" بدون التصريح أنها صفة، ومراده أنه يجوز إطلاق النفس على الله لورود النص هكذا فسر مراده الهاشمي في شرحه لكتاب التوحيد ص70، وللشيخ عبد الله الغنيمان كلام حسن وفق بين قولي أهل السنة في "النفس". انظر شرحه لكتاب التوحيد 1/249، 255.
3 أخرجه أحمد في المسند 1/391، والطبراني في المعجم الكبير 10/209، 210، وابن حبان كما في موارد الظمآن ص589 كلهم من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود وأورده الهيثمي في المجمع 10/136، قال: "رجال أحمد وأبو يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان".
(1/315)
________________________________________
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ... " 1.
وقال عليه الصلاة والسلام: " لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ـ وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش ـ إن رحمتي تغلب غضبي" 2. فما أثبته الله لذاته المقدسة من الصفات، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وجب إثباته من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، يقول ابن خزيمة: "فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، ونقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجوه أحد من المخلوقين، وعزّ ربنا أن نشبّهه بالمخلوقين وجلّ ربنا عما قالت المعطلة" 3.
ومن جملة تلك الصفات صفتا الوجه والنفس، فأثبتوهما لله حقيقة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل. وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به. دل على ذلك قوله: "وله يد ووجه ونفس كما ذكر الله في القرآن، فما ذكره الله في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف" 4.
__________
1 أخرجه مسلم: كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود 1/352 ح486 من طريق الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة.
2 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 13/384 ح7404، ومسلم: كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه 4/2107 ح2751. كلاهما من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
3 التوحيد لابن خزيمة ص10، 11.
4 الفقه الأكبر ص302.
(1/316)
________________________________________
5- 6- صفتا السمع والبصر.
الله تعالى له سمع وبصر على ما يليق بجلال الله وعظمته. وهما صفتان حقيقيتان، فكما له ذات حقيقية لا تشبه ذوات الخلق، فله صفات حقيقية لا تشبه صفات الخلق، ولقد ورد إثبات صفة السمع في سبع وخمسين آية، وإثبات صفة البصر في خمسين آية من آيات الذكر الحكيم 1.
ومن تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} "سورة البقرة: الآية127".
وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} "سورة المجادلة: الآية1".
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} "سورة النساء: الآية134".
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".
***
وأما الأدلة من السنة فقد عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} .
ضمن كتاب التوحيد أورد فيه جملة من الأحاديث الصحيحة تثبت صفتي السمع والبصر لله تعالى وهي:
1- حديث أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في
__________
1 عقيدة المسلمين ص482-486.
(1/317)
________________________________________
سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: اربعوا 1 على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا تدعون سميعا بصيرا قريبا ... " 2.
2- وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عليه السلام ناداني قال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك" 3.
وهاتان الصفتان من صفات الكمال ونعوت الجلال ألا ترى الخليل عليه السلام كما أخبر الله عنه يوبخ أباه بقوله: {لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} "سورة مريم: الآية42".
وقال تبكيتا لعباد الأصنام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} "سورة الشعراء: الآيتان 72،73".
فدل ذلك على أن المودع في الفطر أن من شأن الإله أن يكون سميعا يجيب من دعاه، بصيرا يرى من يعبده4، فالله لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي، فيسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى كل شيء وإن خفي قريبا أو بعيدا فلا تؤثر على رؤيته الحواجز والأستار" 5.
__________
1 اربعوا: بهمزة وصل مكسورة ثم موحدة مفتوحة من ربع ـ الثلاثي ـ أي ارفقوا، ولا تجهدوا أنفسكم. انظر فتح الباري 11/188.
2 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 13/372 ح7386؛ ومسلم في كتاب الذكر والدعاء باب استحباب خفض الصوت بالذكر 4/2076 ح2704 كلاهما من طريق أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري.
3 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 13/372 ح7389 من طريق عروة عن عائشة.
4 انظر العقائد السلفية ص63.
5 الكواشف الجلية ص147.
(1/318)
________________________________________
فالمقصود أن الله تعالى له سمع يسمع به، وبصر يبصر به حقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته. هذا ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة، وهذا هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به، دل على ذلك قوله: " ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا" 1.
وقال في مقام تبيينه لصفة الكلام: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
7- العلم:
أثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، صفة العلم لله عزَّ وجلَّ وأنه عليم بعلم لا يشبه علم المخلوقين دل على ذلك قوله: "يعلم لا كعلمنا" 3.
وعلم الله شامل جميع الأشياء صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها. يعلم كليات وجزئيات الأمور، وعلمه محيط بجميع الأشياء في كل الأوقات، أزلا وأبدا فقد علم تعالى في الأزل جميع ما هو خالق، وعلم جميع أحوال خلقه وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، شقاوتهم وسعادتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار. وفي ذلك يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى مبينا سعة علم الله وإحاطته لكل شيء: "يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه، ومعدوما يعلم أنه كيف يكون إذا أوجده، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا، ويعلم أنه كيف يكون فناؤه، ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما، وإذا قعد علمه قاعدا
__________
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأكبر ص302. مقتبسا من القرآن الكريم سورة الشورى، الآية 11.
3 الفقه الأكبر ص301.
(1/319)
________________________________________
في حال قعوده من غير أن يتغير علمه أو يحدث له علم ولكن التغير والاختلاف يحدثان في المخلوقين" 1.
ورد على غلاة القدرية الذين يقولون: "إن الله لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها" 2.
حيث قال: "وكان الله تعالى عالما في الأزل قبل كونها"3.
وقرر الطحاوي هذا الرد في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال:
"لم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم" 4.
وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص" 5.
وقال: "خلق الخلق بعلمه" 6.
وما يعتقده الإمام في صفة العلم هو ما دلت عليه الأدلة من كتاب الله كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} "سورة الأنعام: الآية59".
__________
1 الفقه الأكبر ص302، 303.
2 انظر الفرق بين الفرق ص114-116، والملل والنحل 1/45، ومجموع الفتاوى 7/381.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص31.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص21.
(1/320)
________________________________________
وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} "سورة لقمان: الآية34".
وكقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} "سورة البقرة: الآية282".
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ} "سورة التوبة: الآية78".
وكقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} "سورة الأنعام: الآية3".
ومن السنة عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} ، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . ضمن كتاب التوحيد أورد فيه حديثين صحيحين يثبتان صفة العلم لله تعالى وهما:
1- حديث ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" 1.
2- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ومن حدثك أنه يعلم
__________
1 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} 13/361 ح7379، من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
(1/321)
________________________________________
الغيب فقد كذب، وهو يقول: "لا يعلم الغيب إلا الله" ... " 1.
وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلم السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، وقدّر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، ويسمي حاجته" 2.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني" 3. فالنصوص الشرعية الدالة على صفة العلم كثيرة. فأهل السنة والجماعة آمنوا بها وأثبتوا ما تدل عليه من معنى ونفوا الكيفية، أما الجهمية والمعتزلة فأنكروا أن يكون لله علم أضافه لنفسه، وجحدوا أن يكون قد أحاط بكل شيء علما، وحاربوا النصوص الدالة على ذلك. فمعبودهم على هذا الاعتقاد ليس العليم الخبير الذي هو بكل شيء عليم، وإنما يعبدون العدم.
__________
1 كتاب التوحيد من صحيح البخاري باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} 13/261 ح7380، من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة.
2 أخرجه البخاري: كتاب الدعوات باب الدعاء عند الاستخارة 11/183 ح6382 من طريق محمد بن المنكدر عن جابر.
3 أخرجه البخاري: كتاب الدعوات باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت" 11/196 ح6399، من طريق أبي بردة عن أبي موسى.
(1/322)
________________________________________
8- 10- الحياة والقدرة والإرادة:
الحياة والقدرة والإرادة صفات ذاتية أثبتها الإمام أبو حنيفة. دل على ذلك قوله: " أما الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة "1.
وهي صفات حقيقية أزليّة لائقة بالله لا تشبه صفات المخلوقين قال الإمام أبو حنيفة: "لم يزل قادرا بقدرته، والقدرة صفة في الأزل" 2.
وقال: "لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته"3.
وقال: " ويقدر لا كقدرتنا" 4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمر عله يسير لا يحتاج إلى شيء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5.
وقال: "حي لا يموت قيوم لا ينام" 6.
وقال: "ولا يكون إلا ما يريد" 7.
__________
1 الفقه الأكبر ص301.
2 الفقه الأكبر ص301.
3 الفقه الأكبر ص301.
4 الفقه الأكبر ص302.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20، والاقتباس من سورة الشورى ص11.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.
7 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.
(1/323)
________________________________________
وما أثبته الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من اتصاف الله بالحياة والقدرة والإرادة هو ما دلت عليه النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الأدلة من كتاب الله فكقول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "سورة البقرة: الآية255".
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} "سورة الفرقان: الآية58".
وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} "سورة طه: الآية111".
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} "سورة آل عمران: الآية29".
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} "سورة فاطر: الآية44".
وقوله تعالى: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} "سورة القمر: الآية55".
وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} "سورة الأنعام: الآية125".
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} "سورة البقرة: من الآية185".
وأما الأدلة من السنة فكحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني
(1/324)
________________________________________
أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" 1.
وحديث جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم ... " 2.
وحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ... " 3.
والأدلة في ذلك كثيرة نكتفي بذكر النصوص الشرعية المتقدمة. فالله "كامل القدرة، وبقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئا قال له"كن فيكون"، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد" 4.
فله الإرادة النافذة في جميع الموجودات، والحياة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات والكمال. فكل كمال لا نقص فيه ثبت للمخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فهو به أولى 5. يقول ابن أبي العز: "إن الحياة
__________
1 أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/2076 ح2717 من طرق يحيى بن يعمر عن ابن عباس.
2 تقدم تخريجه ص347.
3 رواه البخاري: كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين 1/164 ح71 من طريق حميد بن عبد الرحمن عن معاوية، ومسلم: كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة 2/718 ح1037. من طريق عبد الله بن عامر عن معاوية.
4 انظر تفسر السعدي 5/624-625.
5 انظر شرح الأصفهانية ص85، وموافقة صحيح المنقول 1/14، 15.
(1/325)
________________________________________
مستلزمة لجميع صفات الكمال فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال حياة" 1.
فالمقصود أن الإرادة والقدرة لا تقومان إلا بالحي، فالميت والجماد لا يوصفان بالعلم والقدرة والإرادة والحياة.
ثانيا – الصفات الذاتية باعتبار والفعلية باعتبار آخر
1- المعية:
أخبر الله سبحانه وتعالى أنه مع 2 عباده فقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ} "سورة المجادلة: الآية7".
وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "سورة الحديد: الآية4".
فهو معهم بعلمه، وعلمه محيط شامل بجميع الخلق، كذلك هو مع بعض عباده، ليس بالعلم، بل بالنصر والتأييد والتسديد والتوفيق. دلّ على ذلك قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} "سورة طه: الآية46".
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص72.
2 المعية تنقسم إلى قسمين: معية عامة وهي ذاتية، ومعية خاصة وهي فعلية.
راجع لمعرفة أنواع "المعية" مجموع الفتاوى 5/103، 104؛ ومختصر الصواعق ص409، 410.
(1/326)
________________________________________
أما من السنة فحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "نظرت إلى أقدام المشركين، ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" 1.
ولقد بين الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا منافاة بين علو الله ومعيّته لخلقه فلقد روي عنه أنه قال: "إن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض. فقال له رجل أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} 2 "سورة الحديد: الآية4".
قال هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب عنه" 3.
قال البيهقي: "لقد أصاب أبو حنيفة رضي الله عنه فيما نفى عن الله عزَّ وجلَّ من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية وتبع مطلق السمع في قوله إن الله عزَّ وجلَّ في السماء" 4.
2- القيومية:
وصف الله تعالى ذاته المقدسة بالقيومية فقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} "سورة البقرة: الآية255".
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة باب مناقب المهاجرين وفضلهم 7/8-9 ح3653، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 4/1854 ح2381 كلاهما من طريق ثابت عن أنس عن أبي بكر الصديق.
2 سورة الحديد: الآية 4، تحقيق عماد الدين، ط/ دار الكتاب العربي.
3 الأسماء والصفات 2/170.
4 الأسماء والصفات2/170.
(1/327)
________________________________________
وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} "سورة طه: الآية111".
ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالقيومية كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت له ذنوبه وإن كان فارا من الزحف" 1.
فهو الذي يقوم بنفسه، ومستغن عن جميع خلقه، وقائم بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها وأمدّها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها، فهو القائم بنفسه والمقيم لغيره 2. قرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "حي لا يموت قيوم لا ينام" 3.
3- الكلام:
اتفق السلف على إثبات صفة الكلام لله على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته، وهو يتكلم بصوت يُسمَع، ولو لم يكن الكلام المعين
__________
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/511 من طريق عوف بن مالك بن نظلة عن عبد الله بن مسعود قال الحاكم على أثره: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي في تلخيص المستدرك. وأخرجه الترمذي: كتاب الدعوات باب في دعاء الضيف 5/569 ح3577، وأبو داود: كتاب الصلاة باب في الاستغفار 2/178 ح1517. كلاهما من طريق يسار عن أبيه زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي على أثره: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وأورده المنذري في الترغيب 2/269 وقال عنه: "إسناده جيد".
2 تيسير كلام المنان 1/313 بتصرف.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 19.
(1/328)
________________________________________
قديما. وعلى هذا مضى سلف الأمة من أهل الحديث وسائر الأئمة المهتدين 1.
قال ابن تيمية: وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، كالأئمة الأربعة، وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل، وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقا منفصلا عنه. وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته ولم يقل أحد منهم إن القرآن والتوراة والإنجيل لازمة لذاته أزلا وأبدا، وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته" 2.
وقال كذلك: "فمن قال إن حروف المعجم مخلوقة، وأن كلام الله تعالى مخلوق؛ فقد قال قولا مخالفا للمعقول الصريح والمنقول الصحيح. ومن قال نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئا من ذلك قديم، فقد خالف أيضا أقوال السلف، وكان فساد قوله ظاهرا لكل أحد، وكان مبتدعا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين، ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك" 3.
هذا اعتقاد السلف والأئمة الأربعة ـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ في صفة الكلام على وجه الإجمال. أما عقيدة الإمام أبي حنيفة في صفة الكلام على وجه التفصيل فيندرج تحتها الآتي:
__________
1 العقائد السلفية ص175 بتصرف.
2 مجموع الفتاوى 12/37، 38.
3 مجموع الفتاوى 12/54، 55.
(1/329)
________________________________________
"أ" التكلم والتكليم.
"ب" سماع كلام الله.
"ج" القرآن كلام الله على الحقيقة.
"د" القرآن غير مخلوق.
وإليك تفضيل ذلك:
التكلم والتكليم:
يعتقد الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن الله متكلم بكلام حقيقي لا مجازي، دل على ذلك قوله: "قد كان متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه السلام" 1.
وقوله: "ومتكلما بكلامه والكلام صفة في الأزل" 2.
وهو كلام لائق بجلال الله وعظمته، ليس ككلام البشر. يقول الإمام أبو حنيفة: "ويتكلم لا ككلامنا ... "3.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ليس بمخلوق ككلام البرية فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر" 4.
"ب" سماع كلام الله:
يُسمع الله تعالى كلامه من شاء من ملائكته ورسله ويسمعه عباده في الدار الآخرة، كما أنه كلم موسى وناداه حين أتى الشجرة فسمعه موسى،
__________
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأكبر ص301.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
(1/330)
________________________________________
قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} "سورة القصص: الآية30".
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} "سورة الأعراف: الآية143".
وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} "سورة طه: الآيتان 11،12".
وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "سورة النساء: الآية164".
وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، دلّ على ذلك قوله: "وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} "سورة النساء: الآية164".
وقد كان الله تعالى متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه السلام"1.
"ج" القرآن كلام الله على حقيقته:
القرآن سوره وآياته وكلماته، كلام الله تكلم به بحروفه ومعانيه، ولم ينزل على أحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أسمعه جبريل عليه السلام وأسمعه جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم وأسمعه محمد صلى الله عليه وسلم أمته. وليس جبريل ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ والأداء، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ، وهو الذي في المصاحف يتلوه التالون بألسنتهم، ويقرؤه المقرئون بأصواتهم، ويسمعه السامعون بآذانهم، وهو الذي في صدور الحفاظ بحروفه ومعانيه، تكلم الله
__________
1 الفقه الأكبر ص302.
(1/331)
________________________________________
به على الحقيقة فهو كلامه على الحقيقة لا كلام غيره، منه بدأ وإليه يعود 1.
وهذا ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، دل على ذلك قوله: "والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل" 2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا وأنزله على رسوله وحيا وصدّقه المؤمنون على ذلك حقا وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة " 3.
فكلام الطحاوي في تقريره عقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى يدل دلالة قاطعة على بطلان الكلام النفسي، فقوله: "منه بدأ" رد على المعتزلة وغيرهم الذين زعموا أن القرآن لم يبدأ منه بل من بعض مخلوقاته" 4.
فالله هو الذي تكلم به ومنه سبحانه نزل، قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} "سورة الجاثية: الآية2".
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} "سورة الأنعام: الآية114".
__________
1 انظر عقيدة السلف أصحاب الحديث ص77، 78، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية. العقيدة السلفية لكلام رب البرية ص64؛ ومجموعة الرسائل والمسائل 3/349، 350.
2 الفقه الأكبر ص301.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
4 مجموعة الرسائل والمسائل 3/486.
(1/332)
________________________________________
وقال تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "ٍسورة فصلت: الآيتان1،2".
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} "سورة النحل: الآية102".
وأما قوله: "إليه يعود" أي يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور منه آية 1 ولا في المصاحف. قال ابن ماجه: "باب ذهاب القرآن والعلم" 2.
ثم ذكر فيه حديث حذيفة بن اليمان وفيه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدرس3 الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عزَّ وجلَّ في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ... " 4.
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص152، 153.
2 سنن ابن ماجه 2/1344.
3 يُدرس: من درس الرسم دروسا إذا عفا وهلك ومن درس الثوب درسا إذا صار عتيقا.
انظر النهاية في غريب الحديث 2/113.
4 أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن باب ذهاب القرآن والعلم 2/1344 ح4049.
والحاكم في المستدرك 4/473.
كلاهما من طريق ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال الحاكم على أثره: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
وسكت عليه الذهبي في التلخيص وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 2/307 ط/ الجنان: "إسناده صحيح ورجاله ثقات".
(1/333)
________________________________________
"د" القرآن غير مخلوق:
اعتقاد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في القرآن هو اعتقاد الأئمة من سلف هذه الأمة وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، من أن القرآن منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود: هذا هو نص كلام الإمام في الفقه الأكبر حيث قال: "والقرآن غير مخلوق" 1.
وفي الوصية حيث قال: "ونقر بأن القرآن كلام الله غير مخلوق" 2. ولم أقف له على قول في كتبه المنسوبة إليه يخالف هذا القول. ولأجل ما تقدم تتابع أهل العلم على إهمال الروايات المصرحة بأن أبا حنيفة يقول بخلق القرآن، وجزموا مقرّرين بأن مذهب أبي حنيفة عدم القول بخلق القرآن كالإمام أحمد وبشر بن الوليد 3 والطحاوي واللالكائي وابن تيمية وابن حجر. فالإمام أحمد يرى أن بعض أصحاب أبي حنيفة تابعوا جهما بالقول بخلق القرآن، فقد جاء في كتابه "الرد على الجهمية": "وتبعه يعني جهما ـ على قوله رجال من أصحابي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد ووضع دين الجهمية" 4. وكذا بشر بن الوليد، فقد روى ابن عبد البر في الانتقاء عن سهل بن عامر قال: "سمعت بشر بن الوليد يقول: كنا عند أمير المؤمنين فقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: القرآن
__________
1 ص301.
2 الجواهر المنيفة في شرح وصية الإمام ص10.
3 هو بشر بن الوليد بن خالد الكندي نسبة إلى كندة بكسر الكاف قبيلة مشهورة باليمن القاضي الفقيه قال عنه الذهبي: "الفقيه سمع مالك بن أنس وتفقه بأبي يوسف ... وولي قضاء مدينة المنصور إلى سنة ثلاث عشرة ومائتين وكان واسع الفقه متعبدا" مات سنة 238هـ.
انظر ميزان الاعتدال 1/326؛ والفوائد البهية ص54.
4 ص104، 105 ط/ دار اللواء.
(1/334)
________________________________________
مخلوق وهو رأيي ورأي آبائي، قال بشر بن الوليد: أما رأيك فنعم وأما رأي آبائك فلا" 1، ويكذب عليهما 2. فهؤلاء شانوا سمعة الإمام أبي حنيفة وأصحابه 3.
وكذا الطحاوي حيث قال في بيانه اعتقاد الإمام أبي حنيفة وصاحبه: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق" 4، ولم يشر إلى خلاف هذا.
وكذا أيضا اللالكائي سمى علماء السلف الذين يقولون القرآن غير مخلوق من التابعين وتابعيهم من أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة وواسط والشام ومصر والري 5 وأصبهان وخراسان وبلخ6 ونيسابور وبخارى وسمرقند.
قال اللالكائي عن أهل الكوفة موطن الإمام أبي حنيفة: "وأما أهل الكوفة فممن تقدم من التابعين سليمان بن مهران الأعمش وحماد بن
__________
1 الانتقاء ص166.
2 انظر اللسان 1/399.
3 انظر تاريخ بغداد 13/384.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 24.
5 الري بفتح أوله وتشديد ثانيه مدينة بخراسان افتتحها عروة بن زبد الطائي في سنة عشرين من الهجرة وقيل تسع عشرة وصفها ياقوت فقال: مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات. انظر معجم البلدان 3/166.
6 بلخ مدينة مشهورة بخراسان افتتحها الأحنف بن قيس في خلافة عثمان رضي الله عنه وصفها ياقوت فقال: "بلخ من أجمل مدن خراسان وأذكرها وأكثرها خيرا وأوسعها غلة".
انظر معجم البلدان 1/479.
(1/335)
________________________________________
أبي سليمان ... والطبقة الأولى من الفقهاء محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسفيان بن سعيد الثوري، والنعمان بن ثابت أبوحنيفة، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن ... "1.
وكذا ابن تيمية فهو يقرر أن اعتقاد الإمام أبي حنيفة في القرآن هو اعتقاد 2 الأئمة الثلاثة ـ مالك والشافعي وأحمد، ويرى أن بعض أتباع الإمام أبي حنيفة قالوا بخلق القرآن.
قال ابن تيمية: "وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب في الفقه إلى أبي حنيفة من المعتزلة" 3.
وكذا ابن حجر فقد جاء في "لسان الميزان" قوله عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: "هو من دعاة المأمون في المحنة بخلق القرآن، وكان يقول في دار المأمون هو ديني ودين أبي وجدي وكذب عليهما" 4.
وظهر من هذا سلامة اعتقاد أبي حنيفة في هذا الباب، وقد جعله الله لسان صدق في هذه الأمة يُدعى له ويترضّى عنه ويُترحّم عليه، وهذا لا يكون مع بدعة القول بخلق القرآن، فرحمه الله ورضي عنه.
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/277.
2 مجموعة الرسائل والمسائل 3/477؛ ومجموع الفتاوى 5/265؛ ومنهاج السنة 2/106.
3 مجموعة الرسائل والمسائل 3/360.
4 لسان الميزان 1/399.
(1/336)
________________________________________
المبحث الثالث: ذكر جملة من الصفات الفعلية وكلام الإمام أبي حنيفة عنها
أولا ـ الصفات الفعلية اللازمة
1- الاستواء 1:
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يثبت استواء الله على عرشه، وعلوه على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته. دل على ذلك قوله: "ونقر بأن الله تعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة"2.
قال ابن أبي العز شارحا كلام الطحاوي: "والعرش والكرسي حقٌّ وهو مستغن عن العرش، وما دونه محيط بكل شيء وفوقه" 3.
"وإنما قال الشيخ هذا الكلام لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد
__________
1 معنى الاستواء في لغة العرب الارتفاع والعلو. قال ابن عباس أبو العالية الرياحي: "استوى إلى السماء أي ارتفع" وقال مجاهد استوى: علا على العرش.
انظر صحيح البخاري مع فتح الباري 13/403؛ وتفسير ابن جرير 1/191، وتفسير ابن أبي حاتم 1/104.
2 شرح الوصية ص10.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص36-37.
(1/337)
________________________________________
ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاويا للعالي محيطا به حاملا له ولا أن يكون الأعلى مفتقرا إليه فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها، فالرب تعالى أعظم شأنا وأجل من أن يلزم من علوه ذلك بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل وفقر السافل وغناه هو سبحانه عن السافل وإحاطته عز وجل به فهو فوق العرش، مع حمله بقدرته للعرش، وحملته وغناه عن العرش وفقر العرش إليه وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له. وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق، ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا بهذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل ولسلكوا خلف الدليل ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "سورة الأعراف: الآية54".
كيف استوى؟ فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول ... " 1.
ففرق الإمام مالك بين المعنى المعلوم من هذا اللفظ، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر. وهذا هو ما اختاره الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فقد قال الملاّ علي القاري بعد أن ذكر قول الإمام مالك المتقدم: "اختاره إمامنا الأعظم وكذا كل ما ورد من الآيات والأحاديث المتشابهات من ذكر اليد والعين والوجه ونحوها من الصفات" 2. وما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في صفة الاستواء هو
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص290، 291.
2 شرح الآمالي ص31.
(1/338)
________________________________________
ما دلت عليه الأدلة الصريحة من كتاب الله فقد ذكر استواء الله على عرشه في سبعة مواضع من كتاب الله، منها قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى} "سورة الأعراف: الآية54".
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} " سورة يونس: الآية3".
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "سورة الرعد: الآية2".
وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "سورة طه: الآية5".
وكذا جاءت الأحاديث الصحيحة الدالة على صفة الاستواء والعلو، وقد تقدم ذكر بعضها عند الكلام على صفة العلو، من تلك الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب هو عنده على العرش أن رحمتي تغلب غضبي" 1.
فالمقصود أن اعتقاد الإمام أبي حنيفة في الاستواء هو اعتقاد السلف
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 13/384 ح7404، ومسلم: كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه 4/2107 ح2751. كلاهما من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
والترمذي: كتاب الدعوات باب خلق الله مائة رحمة 5/549 ح3543.
وابن ماجه: كتاب الزهد باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة 2/12435 ح4295.
كلاهما من طريق ابن عميلان عن أبيه عن أبي هريرة.
(1/339)
________________________________________
الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. قال ابن المبارك " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته، على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية" 1.
2- النزول:
يثبت أهل السنة والجماعة نزول البر سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ومن غير تأويل 2 ولا تكييف؛ لتواتر 3 الأخبار به، فقد رواه ثمانية وعشرون صحابيا. فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخرة فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له" 4.
__________
1 السنة ص13؛ والرد على الجهمية للدارمي ص67، 162؛ والرد على المريسي ص103؛ والأسماء والصفات ص427.
2 أوّل بعض المتكلمين صفة النزول بنزول أمر الله ورحمته أو نزول ملك من الملائكة، انظر الرد على هذه التأويلات في كتاب شرح حديث النزول ص197.
3 ممن قال بتواتر حديث النزول من أهل العلم؛ ابن القيم في تهذيب السنن 7/108؛ والذهبي في كتاب العلو ص73-79؛ وابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص304؛ وأبو زرعة الرازي كما في عمدة القاري 7/199؛ والكتاني في النظم المتناثر ص191؛ وعبد الرحمن بن سعدي في توضيح الكافية الشافية ص147.
4 أخرجه البخاري في كتاب التهجد باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/59 وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل؟ 1/435 ح1366؛ وابن أبي عاصم في السنة 1/217 جميعهم من =
(1/340)
________________________________________
قال أبو عثمان 1 الصابوني: "فلما صح خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة وقبلوا الخبر وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتقدوا تشبيها بنزول خلقه، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا" 2.
وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة ويؤمن به، فقد سئل عن النزول فقال: "ينزل بلا كيف" 3.
3- 4- صفتا الغضب والرضا:
يثبت أهل السنة والجماعة صفتي الغضب والرضا من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف، فيرضى عن المحسنين، ويسخط على الفسقة والكافرين، دلّ على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ
__________
= من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة. ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الترغيب في الدعاء 1/521 ح758، وأبو داود: كتاب الصلاة باب أي الصلاة أفضل؟ 2/76 ح135، والترمذي: كتاب الدعوات 5/526 ح3498؛ وعبد الرحمن الدارمي في السنن 1/286.
جميعهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
1 هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل النيسابوري أبو عثمان الصابوني قال عنه السبكي: " الفقيه المحدث المفسر الخطيب الواعظ الملقب بشيخ الإسلام" مات سنة 449هـ.
طبقات الشافعية 4/271؛ وانظر ترجمته في شذرات الذهب 3/282؛ والعبر 3/219.
2 اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص42.
3 اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص42؛ وجلاء العينين ص353.
(1/341)
________________________________________
غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} "سورة الأعراف: الآية152".
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} "سورة التوبة: الآية96".
وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} "سورة البينة: الآية8".
قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} "سورة الفتح: الآية18".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل وفيه: "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ... " 1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير بيدك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا" 2.
وما تدل عليه تلك النصوص من إثبات صفتي الغضب والرضا هو ما يعتقده أبو حنيفة رحمه الله تعالى ويؤمن به، دل على ذلك قوله:
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء باب قول الله عزَّ وجلّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} 6/371 ح3340، ومسلم: كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/184 ح327 كلاهما من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.
2 أخرجه البخاري: كتاب الرقائق باب صفة الجنة والنار 11/415 ح6549، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا 4/2176 ح2829. كلاهما من طريق عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري.
(1/342)
________________________________________
"وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف" 1.
وقوله: "وهو يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوابه" 2.
وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى" 3.
ثانيا ـ الصفات الفعلية المتعدية
1- المحبة:
يثبت أهل السنة والجماعة صفة المحبة لله حيث أثبتها الله لذاته المقدسة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} "سورة الصف: الآية4".
وأثبتها أعلم الناس بربه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله تعالى يحب فلانا فأحبه؛ فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" 4.
__________
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأبسط ص56.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص57.
4 أخرجه مالك في الموطأ كتاب الشعر باب ما جاء في المتحابين في الله 2/953 ح15، والبخاري في كتاب التوحيد باب كلام الرب مع جبريل 13/461 ح7485، ومسلم كتاب البر والصلة باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده 4/2030 ح157. جميعهم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
(1/343)
________________________________________
وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ويؤمن به، دل على ذلك قوله: "والطاعات كلها كانت واجبة بأمر الله وبمحبته وبرضاه" 1.
وقال عن المعاصي: "كلها بعلمه وقضائه وتقديره، لا بمحبته ولا برضائه ولا بأمره" 2.
ووصف نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه حبيب رب العالمين حيث قال: "ومحمد عليه الصلاة والسلام حبيبه وعبده ورسوله ونبيه" 3.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "وإنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين" 4.
وقال: "نقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا 5 وكلم الله موسى تكليما إيمانا وتصديقا وتسليما" 6.
__________
1 الفقه الأكبر ص303.
2 الفقه الأكبر ص303.
3 الفقه الأكبر ص303.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص22، 23.
5 وكذا ثبتت الخلة للنبي صلى الله عليه وسلم دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا".
أخرجه مسلم: كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1/377 ح532.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 38.
(1/344)
________________________________________
2- الرزق:
من صفات 1 الأفعال المتعلقة بالخلق الرزق، فالرازق والرزّاق اسمان من أسماء الله تعالى، دالان على أنه تعالى خلق الأرزاق للخلق وأوصلها إليهم، وخلق لهم أسباب التمتع 2 بها. قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} "سورة العنكبوت: الآية60".
فالله هو المتكفل بالرزق والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها 3 قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} "سورة ق: الآيتان 10".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا 4 وتروح بطانا 5" 6.
ورزق الله لعباده نوعان:
رزق عام: شمل جميع الخلق أولهم وآخرهم، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم.
__________
1 فتح الباري 13/360.
2 المقصد الأسنى ص84، 85.
3 انظر الأسماء والصفات ص87، ط دار الكتب العلمية.
4 خماصا: الخماص الجياع البطون من الغذاء، قاله ابن الأثير في جامع الأصول 10/140.
5 بطانا: البطان الشِّباع الممتلئات البطون، قاله ابن الأثير في جامع الأصول 10/140.
6 أخرجه الترمذي: كتاب الزهد باب في التوكل على الله 4/573 ح2344 والحاكم في المستدرك 4/328 كلاهما من طريق أبي تميم الجيشاني عن عمر بن الخطاب قال الترمذي على أثره: "هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي في التلخيص.
(1/345)
________________________________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم" 1.
وهذا هو رزق الأبدان.
ورزق خاص: هو رزق القلوب وتغذيتها بالإيمان والعلم والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم معه بحسب حكمته ورحمته 2.
وأثبت الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى الرازق وما يدل عليه، دل على ذلك قوله: "كان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق" 3.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "رازق بلا مؤنة" 4.
3- الخلق:
من صفات الله الفعلية الخلق، والخلق له معنيان:
المعنى الأول: التقدير.
__________
1 أخرجه البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 13/360 ح7378 من طرق أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري.
2 تفسير كلام المنان لابن سعدي 5/626، 627 بتصرف، والحق الواضح المبين ص45.
3 الفقه الأكبر ص304.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20.
(1/346)
________________________________________
المعنى الثاني: الإيجاد والإنشاء على غير سبق 1.
فالخالق والخلاق من أسماء الله تعالى.
قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} "سورة الحشر: الآية24".
وقال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} "سورة المؤمنون: الآية14".
وقوله تعالى: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} "سورة يس: الآية81".
وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} "سورة القمر: الآية49".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب هو عنده فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي" 2.
وهذا هو ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ويؤمن به. دل على ذلك قوله: "وأما الفعلية فالتخليق والإنشاء والإبداع والصنع" 3.
وقال: "كان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق" 4.
وقال: "وكان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق" 5.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "خالق بلا حاجة" 6.
__________
1 انظر كتاب شأن الدعاء ص49، واشتقاق أسماء الله للزجاجي ص166-168.
2 تقدم تخريجه ص339.
3 الفقه الأكبر ص301.
4 الفقه الأكبر ص304.
5 الفقه الأكبر ص302.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص20.
(1/347)
________________________________________
وقال: "كما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم" 1.
4- الإحياء والإماتة:
من صفات الله الفعلية الإحياء والإماتة، ومن أسماء الله تعالى المحيي والمميت، فالمحيي يدل على أن الله هو الذي يحيي النطفة الميتة فيخرج منها نسمة الحياة ويحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها عند البعث، ويحيي القلوب بنور المعرفة، ويحيي الأرض بعد موتها بإنزال الغيث وإنبات الرزق 2.
والمميت يدل على أن الله يميت الأحياء ويوهن بالموت قوة الأصحاء الأقوياء.
قال تعالى: {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "سورة الشورى: الآية9".
فتمدّح ذاته سبحانه وتعالى بالإماتة كما تمدّح بالإحياء ليعلم أن مصدر الخير والشر والنفع والضر من قِبَله وأنه لا شريك له في الملك، استأثر بالبقاء وكتب على خلقه الفناء 3.
قال الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: "وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا، استحق هذا
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص20.
2 كتاب شأن الدعاء ص79، والأسماء والصفات ص95 بتصرف.
3 انظر كتاب شأن الدعاء ص80، وكتاب الأسماء ص96.
(1/348)
________________________________________
الاسم قبل إحيائهم" 1.
وقال: "مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة" 2.
فالله هو الذي يحيي الخلق يوم النشور، ويبعث من في القبور، ويحصل ما في الصدور 3.
هذا وبعد ذكر هذه الجملة من صفات الله الثبوتية الفعلية منها والذاتية؛ يجد القارئ الكريم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى قد سار في إثبات الصفات على منهج السلف الصالح، وذلك بإثبات جميع ما أثبت الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص20.
3 المقصد الأسنى ص123.
(1/349)
________________________________________
الباب الثالث: اعتقاده في الإيمان
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: مسمى الإيمان عند أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل؟.
الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه.
الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان.
الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان.
الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبير.
(1/251)
________________________________________
الفصل الأول: مسمى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة وهل يدخل فيه العمل؟
الإيمان في اللغة:
مادة أَمِنَ معناها في اللغة وثِق واطمأنَّ، والأمانة الوثوق 1.
قال أبو زيد: "ما أمنت أن أجد صاحبَه أي ما وثِقْت" 2.
أما معنى الإيمان: فهو التصديق مع الانقياد. وهو تارة يتعدّى بالباء وتارة باللام. فمن الأول يقال: آمن به قوم3 وكذّب به قومٌ، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} "سورة البقرة: الآية3".
أي يصدقون بأخبار الله عن الجنة والنار 4.
ومن الثاني قوله تعالى حكاية عن اليهود: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} "سورة آل عمران: الآية73".
__________
1 انظر القاموس المحيط 1/182؛ والمعجم الوسيط 1/28.
2 كتاب الأفعال للمعافر ي 1/76؛ واللسان 13/21.
3 مفردات القرآن ص25.
4 انظر مادة أمن في الصحاح 5/2071؛ ومجمل اللغة 1/102؛ والقاموس المحيط 4/197؛ ولسان العرب 13/21؛ وكتاب الأفعال للمعافري 1/75.
(1/353)
________________________________________
أي لا تقروا ولا تصدقوا 1.
ومن قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} "سورة يوسف: الآية17".
أي بمصدق لنا 2.
والفرق بينهما أن المتعدي بالباء هو تصديق المخبر به والمعتدي باللام هو تصديق المُخْبِر 3.
قال الحليمي: "فمن الناس من قال: آمنت به وآمنت له لغتان يعبَّر بهما عن معنى واحد. والصحيح ما خالف هذا وهو قولهم آمنت به: يراد إثباته وتحقيقه والتصديق بكونه ووجوده، وقوله آمنت له: إنما يراد اتباعه وموافقته ... والإيمان له القبول عنه والطاعة له" 4.
الإيمان عند أبي حنيفة:
أما معنى الإيمان عند الإمام أبي حنيفة فهو إقرار باللسان وتصديق بالجَنان 5، والأعمال ليست داخلة فيه. قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "والإيمان هو الإقرار والتصديق" 6.
وقال في كتابه الوصية: "الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان، والإقرار وحده لا يكون إيمانا" 7.
__________
1 انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/97؛ ومعاني القرآن للفراء 1/222.
2 تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص213؛ ومعجم مقاييس اللغة 1/125.
3 مجموع الفتاوى 7/298-292.
4 المنهاج في شعب الإيمان 1/21.
5 الفصل 2/111؛ التمهيد 9/238.
6 الفقه الأكبر ص304.
7 كتاب الوصية مع شرحها ص2.
(1/354)
________________________________________
وقرَّر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجَنان" 1.
أدلة الإمام أبي حنيفة:
استدل الإمام أبي حنيفة على مذهبه بما يلي:
أولا: أنه في كثير من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن، ولا يجوز أن يقال ارتفع عنه الإيمان 2.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء به من الله تعالى، وكان الداخل في الإسلام مؤمنا بريئا من الشرك ثم نزلت الفرائض بعد ذلك على أهل التصديق3.
ثالثا: أن المضيِّع للعمل ليس مضيِّعا للتصديق؛ فلو كان المضيِّع للعمل مضيعا للتصديق لانتقل من اسم الإيمان بتضييعه للعمل 4.
رابعا: أن الهدى في التصديق ليس كالهدى في الأعمال، قال الإمام أبو حنيفة: "إن الهدى في التصديق بالله ورسوله ليس كالهدى في ما افترض من الأعمال" 5.
هذا ما استدل به الإمام أبو حنيفة. أما أصحابه فاستدلوا بما هو آت:
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 42.
2 كتاب الوصية مع شرحها ص6.
3 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.
4 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.
5 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.
(1/355)
________________________________________
أولا: أن الإيمان في اللغة التصديق؛ وعمدتهم في ذلك قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} "سورة يوسف: الآية17".
قال النسفي: "الإيمان معروف أنه عند أهل اللسان التصديق لا غير" 1.
وحكى الباقلاني الإجماع عليه فقال: "فإن قال وما الدليل على ما قلتم؟ قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان في اللغة قبل نزول القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق" 2.
ثانيا: أن الله فرق بين الإيمان والعمل في غير موضع من كتابه قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} "سورة العصر: الآية3".
والعطف يقتضي المغايرة.
قال النسفي: "يدل عليه أن الله تعالى فرَّق بين الإيمان وبين كل عبادة بالاسم المعطوف عليه ما فرَّق بين العبادات بالأسماء المعطوفة المفعولة لها، على ما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} "سورة التوبة: الآية18".
فقد عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان، ولا شك في ثبوت المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه"3.
__________
1 تبصرة الأدلة "ق-346/أ"، وانظر التمهيد ص99، 100، وانظر كتاب التوحيد للماتريدي ص373-377؛ والعمدة لحافظ الدين النسفي 17/أ؛ والبداية للصابوني ص152؛ وشرح العقائد النسفية ص119-123؛ وشرح المقاصد 5/2176 كلاهما للتفتازاني، وانظر الطوائع ص373، 374.
2 التمهيد للباقلاني ص346، 347..
3 التمهيد للنسفي ص99-100؛ وتبصرة الأدلة "ص336/أ-ب"؛ وشرح العقائد النسفية ص123-124.
(1/356)
________________________________________
ثالثا: قول النسفي: "ويدل عليه لو أن رجلا آمن بالله ورسوله ضحوة ومات قبل الزوال يكون من أهل الجنة، ولو كان العمل من الإيمان لا يكون من أهل الجنة؛ لأنه لم يوجد منه ذلك" 1.
رابعا: أن الله تعالى خاطب المؤمنين باسم الإيمان، ثم أوجب الأعمال على ما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} "سورة البقرة: الآية183"2.
خامسا: أن الله تعالى قال في الكفرة: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} "سورة الأنفال: الآية38".
والانتهاء عن الكفر يكون بالإيمان، ولو كانت الأعمال كلها إيمانا، لم يكن المنتهي عن الكفر منتهيا عنه ما لم يأت بجميع الطاعات، وإذا ثبت الانتهاء بالتصديق وحصلت له المغفرة عما سلف دل أنه هو الإيمان" 3.
سادسا: أن الله تعالى قال: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} "سورة آل عمران: الآية100".
"ثبت أن الإيمان هو الذي به ترك الكفر، والكفر هو الذي به ترك الإيمان" 4.
سابعا: لو قلنا: إن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان؛ لزم أن يزول الإيمان بزوال بعض الأعمال ولزم تكفير مرتكب الكبيرة 5.
__________
1 بحر الكلام ص39.
2 تبصرة الأدلة "ق-375/أ".
3 تبصرة الأدلة "ق-375/أ".
4 تبصرة الأدلة "ق-375/أ".
5 تبصرة الأدلة "ق-375/أ" بتصرف.
(1/357)
________________________________________
ثامنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل صلوات الله عليه عن الإيمان، ما أجاب عنه إلا بالتصديق حيث قال: " أن تؤمن بالله وملائكته ... ولم يذكر فيه إلا ... التصديق ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " 1.
ولو كان الإيمان اسما لما وراء التصديق، لكان أتى ليلبس عليهم أمر دينهم، لا ليعلِّمهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قصَّر في الجواب 2.
تاسعا: إن ضد الإيمان هو الكفر، والكفر هو التكذيب والجحود يصدِّقه أن الله تعالى قابل الكفر بالإيمان فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} "سورة البقرة: الآية256".
ثم المراد منها التكذيب والتصديق فدلّ أن الإيمان ذلك 3 يعني: أن الإيمان هو التصديق.
الجواب عن أدلة أبي حنيفة وأصحابه
"أ" الجواب عن أدلة أبي حنيفة:
أولا: قول أبي حنيفة: أنه في كثير من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن ولا يجوز أن يقال ارتفع عنه الإيمان.
هذا القول فيه نظر، إذ العمل لا يرتفع عن المؤمن كليّةً، بل قد يرتفع
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان 1/114 ح50 من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.
2 تبصرة الأدلة ق: 336، 337.
3 تبصرة الأدلة ق-366/أ.
(1/358)
________________________________________
عمل دون عمل، وكون الحائض يرتفع عنها عمل الصلاة والصوم، ليس معناه أن جميع الأعمال التي قد كلفت بها قد ارتفعت، ثم يقول القائل: إن إيمانها قد ارتفع. كلا فإن الحائض لم تترك الصلاة ولم تترك العمل إلا استجابة لأمر الله، وهذا في حد ذاته عمل منها؛ لأن الأعمال تنقسم إلى قسمين: عملٌ تركي، وعمل مأتيٌّ. فكون الحائض قد تركت الصلاة استجابة لأمر الله فالعمل ما زال قائما في حقها، ثم إن المرأة إذا حاضت لا يرتفع عنها جميع الأعمال التي كلفت بها، بل جميع الأعمال التكليفية تؤديها كما كانت تؤديها إبَّان طهرها، إذاً العمل في حقها ما فتِئ مستمرّا لم يرتفع بحيضها ولا بطهرها.
وأيضا يقال: إن الصلاة سماها الله إيمانا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "سورة البقرة: الآية143".
وهي من أعظم شعب الإيمان، والإيمان شعب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" 1.
إذاً فقد رُفع عن الحائض بعض شعب الإيمان بحكم الشرع، ومع ذلك فهو نقص في دينها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبٍّ منكن" قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين" 2.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب أمور الإيمان 1/51 ح9 من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
2 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات 1/86-810 ج132 من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر.
(1/359)
________________________________________
ثانيا: قول أبي حنيفة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء به من الله تعالى، وكان الداخل في الإسلام مؤمنا بريئا من الشرك ثم نزلت الفرائض بعد ذلك على أهل التصديق" 1.
جوابه من ثلاثة أوجهٍ:
1- أنه فرضت قبل فرض الصلاة والزكاة والصوم أعمال شرعية غير الشهادتين؛ كالصدق وإيفاء الوعد وتجنُّب الحرام كارتكاب الزنى وأكل مال اليتيم وغير ذلك.
2- إن الشهادتين مقتضاهما العمل، والعمل هو ترك عبادة ما سوى الله وإفراده وحده بالعبادة لأنه الإله الحق المحبوب المطاع الذي يستحق أن يعبد وحده فلا يعصى، ويخصّ بنهاية الحب والخضوع والذل، وأما ما عداه مما عبده الناس فآلهة زائفة باطلة صنعتها الجهالة والأوهام فيجب البراءة منها، وممن عبدها من دون الله تعالى.
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} "سورة الممتحنة: الآية4".
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} "سورة الزخرف: الآيتان 26-27".
فإخلاص العبادة لله تعالى والكفر بالطواغيت والبراءة منها وممن عبدها من أعظم الأعمال، بل هذا أعظم من الفرائض العملية الظاهرة، بل التصديق بدون هذا غير معتدٍّ به.
__________
1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.
(1/360)
________________________________________
3- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دعا إلى الإقرار به وبما جاء به، دعا إلى اتباعه، والتزام طاعته؛ لأن الإقرار وحده بدون التزام متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته لا يحصل به الدخول في الإسلام ولا ينجو به من العذاب، فصحّ أن العمل من مقوِّمات الإيمان وأنه لا إيمان بدون جنس العمل.
ثالثا ـ قول الإمام أبي حنيفة: "فلم يكن المضيع للعمل مضيعا للتصديق، وقد أصاب التصديق بغير عمل، ولو كان المضيِّع للعمل مضيعا للتصديق لانتقل من اسم الإيمان وحرمته لتضييعه العمل"1.
جوابه من وجهين:
1- أن يقال: إن أراد تضييع العمل مطلقا فقد تقدّم أن التصديق المجرَّد لا يحصل به الإيمان فلا ينفع التصديق إذاً مع تضييع العمل مطلقا، فإن من الأعمال ما يزول الإيمان بزواله مثل محبة الله ورسوله وبغض الشرك وأهله والبراءة منه وكذلك الصلاة يزول الإيمان بتركها عند كثير من المحققين من أهل العلم" 2.
وإن أراد عملا دون عمل؛ فمعلوم أنه لا يرتفع عنه أصل الإيمان بتضييع أي عمل وليس من شرط وجود الإيمان ألا يرتكب معصية.
2- أن المسلم لا يتصوّر منه أن يترك العمل مطلقا بل لا بد أن يعمل شيئا من الأعمال الظاهرة كالإحسان والصدق والبر وصلة الأرحام، فإذا فُرض أن شخصا لا يعمل مطلقا أي عمل كان فهذا ليس بمصدِّقٍ
__________
1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.
2 كأحمد بن حنبل والأوزاعي وسفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم، انظر اعتقاد السلف أصحاب الحديث ص76؛ وكتاب الصلاة لابن القيم ص16-20.
(1/361)
________________________________________
تصديقا يدخله في عداد المؤمنين، بل يكون في الحقيقة من المكذبين كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} "سورة آل عمران: الآية33".
رابعا: قول أبي حنيفة: قال الإمام أبو حنيفة: "إن الهدى في التصديق بالله وبرسوله ليس كالهدى في ما افترض من الأعمال" 1.
جوابه: أن التصديق له أثر والأعمال لها أثر؛ فالتصديق والأعمال جزءان من الإيمان المركب منهما والإقرار والهدى الناتج من التصديق المجرّد ليس كالهدى الناتج من التصديق والإقرار والأعمال، فإن الهدى الأول ضعيف والثاني أقوى منه.
ويقال أيضا: إن التصديق المجرد عن عمل القلب ليس فيه هدى بدليل أنه حاصل من بعض الكفار، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} "سورة آل عمران: الآية33".
وإنما الهدى في التصديق المقرون بعمل القلب، من حب الله ورسوله وحب ما جاء به من الدين والانقياد لذلك وبُغْض الدين الذي يخالفه. ولا ريب أن الهدى في اعتقاد القلب وعمله أعظم من الهدى في عمل الجوارح بل هو أصله إذ لا يلزم من الاشتراك في التسمية في الاسم اتِّحاد المرتبة، وهذا لا ينفي أن يكون كلٌّ منهما عن اعتقاد القلب وعمله مع عمل الجوارح من الإيمان.
__________
1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي ص35.
(1/362)
________________________________________
"ب " الجواب عن أدلة أصحاب الإمام أبي حنيفة:
الدليل الأول:
قولهم: إن الإيمان في اللغة التصديق، ثم حكوا الإجماع عليه فالجواب عليه من وجوه:
1- دعوى أن الإيمان مرادف للتصديق ممنوع لما يأتي:
"أ" أنه يقال للمخبر إذا صدق: صدقت ولا يقال آمنت 1.
"ب" أن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا قيل له: صدق كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر الغائب2.
"ج" أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه 3.
"د" وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} "سورة يوسف: الآية17".
فليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة هذا المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر 4.
2- لو سلمنا جدلا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فالألفاظ
__________
1 مجموع الفتاوى 7/290 بتصرف.
2 مجموع الفتاوى 7/291.
3 مجموع الفتاوى 7/292 بتصرف.
4 مجموع الفتاوى 7/126 بتصرف.
(1/363)
________________________________________
الشرعية الواردة في الكتاب والسنة كالإيمان والإسلام والصلاة والزكاة والحج وغيرها ليست على معانيها اللغوية المطلقة، بل زاد فيها الشرع قيودا لا تخرج بها هذه الأسماء عن معناها في اللغة، فمثلا الصلاة في اللغة الدعاء لكن في الشرع عبارة عن الأفعال والأقوال المخصوصة في أوقات مخصوصة بشروط مخصوصة؛ وإن كانت مشتملة على الدعاء. فهكذا الإيمان الشرعي مشتمل على التصديق بالجنان والعمل بالأركان والإقرار باللسان. ولا شك أن بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي مناسبة بالعموم والخصوص، لأن المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي، ومعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء بل بشيء مخصوص وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة 1.
3- أن دعوى الإجماع على كون الإيمان في اللغة التصديق ممنوعة وذلك لما يأتي:
"أ" نعم نقل الإجماع الباقلاني في كتابه التمهيد ص100، لكن من سلفه في هذا؟ وكيف يعلم هذا الإجماع2؟.
"ب" إن كان يعني بالإجماع إجماع أهل اللغة فهل مراده نقلتها كأبي عمرو والأصمعي والخليل ونحوهم أو مراده المتكلمون بهذا اللفظ؟.
فإن عنى الأول فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام
__________
1 مجموع الفتاوى 7/127 بتصرف.
2 مجموع الفتاوى 7/123 بتصرف.
(1/364)
________________________________________
العرب، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان فضلا عن أن يكونوا أجمعوا عليه. وإن عنى المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام؛ فهؤلاء لم نشهدهم ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك 1.
"ج" أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم وإن قدِّر أنه قاله واحد أو اثنان فليس هذا إجماعا 2.
"د" أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ، فلو قدِّر أنهم نقلوا كلاما عن العرب يفهم أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يرده؛ فظن هؤلاء ذلك فيما نقلوه عن العرب أولى 3.
"هـ" أنه لو قدِّر أنهم قالوا هذا؛ فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن في أنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق4.
"و" أنه لم يذكر شاهدا من كلام العرب على ما ادعاه عليهم 5.
__________
1 مجموع الفتاوى 7/123 بتصرف.
2 مجموع الفتاوى 7/123.
3 مجموع الفتاوى 7/123، 124.
4 مجموع الفتاوى 7/124.
5 مجموع الفتاوى 7/125.
(1/365)
________________________________________
الدليل الثاني:
قولهم: "إن الله فرق بين الإيمان والعمل في غير موضع من القرآن الكريم ... ".
الجواب عليه:
التشبث بالمغايرة في جعل الإيمان تصديقا وجعل الأعمال خارجة عنه باطل، لأن العطف يقتضي مغايرة ما، لا كلَّ المغايرة، فيكفي في العطف بين شيئين نوع من المغايرة، كالمغايرة بين الكل والجزء، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، فيجوز عطف الأعمال على الإيمان، لأن الإيمان كلٌّ والأعمال جزء منه فتتحقق المغايرة، فكيف يستدلون بالعطف على إخراج الأعمال من الإيمان، والعطف لا يقتضي ذلك فيكون تشبثهم بالعطف في غير محله ولا يتم لهم المقصود، وبمثل ما ذكرت أجاب أئمة السنة أمثال أبي يعلى وشيخ الإسلام وغيرهما وحاصل ما قالوه: أن الله عطف الأعمال الصالحة والعطف يقتضي المغايرة، فيقال لهم هذا غير صحيح فإن الله عطفها على الإيمان من باب عطف الخاص على العام كقوله تبارك وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "سورة البقرة: الآية238".
ومن المعلوم قطعا أن جبريل وميكال من جنس الملائكة، ولو كان العطف يقتضي المغايرة كما قالوا لكان جبريل وميكال من جنس آخر، وهذا لم يقل به أحد من السلف، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تناقض ذلك فمن ذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "سورة البقرة: الآية238".
ومن المعلوم أن الصلاة الوسطى من جنس باقي الصلوات، فلو كان العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه لكانت الصلاة
(1/366)
________________________________________
الوسطى غير باقي الصلوات، وهذا خلاف المعروف والمعلوم 1.
وقال ابن أبي العز الحنفي: "والمغايرة على مراتب: أعلاها أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر ولا جزءه ولا بينهما تلازم كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} "سورة الأنعام: الآية1".
{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} "سورة آل عمران: الآية3".
هذا هو الغالب.
ويليه: أن يكون بينهما تلازم كقوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "سورة البقرة: الآية42".
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} "سورة المائدة: الآية92".
الثالث: عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} "سورة البقرة: الآية238".
{مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} "سورة البقرة: الآية98".
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} "سورة الأحزاب: الآية7".
وفي مثل هذا وجهان:
أحدهما: أن يكون داخلا في الأول فيكون مذكورا مرتين.
والثاني: أن عطفه يقتضي أنه ليس داخلا فيه هنا، وإن كان داخلا فيه
__________
1 راجع مسائل الإيمان لأبي يعلى ص241، 242؛ ومجموع الفتاوى 7/179-178؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص378-380
(1/367)
________________________________________
منفردا كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوه مما تتنوع بالإفراد والاقتران.
الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} "سورة غافر: الآية3".
وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط كقوله:
فألفى قولها كذبا ومينا1"2.
فأنت ترى أن الكذب والمَيْنَ شيء واحد. ولكن جاز العطف لأجل الاختلاف في اللفظ.
والحاصل أن عطف الأعمال على الإيمان في بعض النصوص لا يدل على خروج الأعمال عن حقيقة الإيمان ومسماه، فتشبث هؤلاء بشبهة العطف لا يفيدهم إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان وحقيقته.
الدليل الثالث:
قول النسفي: "لو أن رجلا آمن بالله ورسوله ضحوة ومات قبل الزوال يكون من أهل الجنة، ولو كان العمل من الإيمان لا يكون من أهل الجنة؛ لأنه لم يوجد منه ذلك".
قلت: هذا لا يدل على كون الإيمان هو التصديق فقط لأن الله لا يكلف نفس إلا وسعها فمن صدق بالقلب ولم يجد فرصة للإقرار بأن كان أبكم مثلا فهو مؤمن، وكذا لو صدق وأقر ومات على الفور فهو مؤمن
__________
1 هذا البيت لعدي بن زيد العُبادي، انظر الصحاح 6/2210، وصدره: فقدّمت الأديم لراهشيه، انظر طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص140.
2 شرح العقيدة الطحاوية 2/484، 485. وانظر مجموع الفتاوى 7/172-178.
(1/368)
________________________________________
لأنه التزم شرائع الإيمان وعزم على العمل بالأركان فهذا العزم يعتبر في حقه كأنه عمل بالأركان، غير أنه لم يجد فرصة. فمثل هذا كيف يكون حجة بأن الإيمان هو التصديق فقط وهذا ظاهر لمن وفقه الله للهداية.
الدليل الرابع:
قول بعضهم: "إن الله خاطب المؤمنين باسم الإيمان، ثم أوجب عليهم الأعمال". أجاب عن هذا الإشكال شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: "خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال". فنقول: إن قلتم: إنهم خوطبوا قبل أن تجب تلك الأعمال فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} "سورة آل عمران: الآية97".
ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان ... وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد ... "1.
الدليل الخامس:
قولهم: إن الله تعالى قال في الكفرة: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} "سورة الأنفال: الآية38".
والانتهاء عن الكفر يكون بالإيمان ولو كانت الأعمال كلها إيمانا
__________
1 كتاب الإيمان ط المكتب الإسلامي ص185-186 ط/ الثالثة وضمن مجموع الفتاوى 7/196-197.
(1/369)
________________________________________
لم يكن المنتهي عن الكفر منتهيا عنه ما لم يأت بجميع الطاعات ...
فالجواب عنه:
إن معنى قول الله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1 أن هؤلاء المشركين والكفرة إن تابوا إلى الله عن شركهم وكفرهم وقتال المؤمنين وعداوتهم ودخلوا في الإسلام والتزموا الطاعة وانقادوا لأوامر الله؛ يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والشرك.
وليس معنى الآية: أن الله تعالى لا يغفر لهم إلا أن يأتوا بجميع الطاعات دفعة واحدة في آن واحد، لأن هذا ليس في طاقة البشر، فلا يستطيع أحد أن يأتي بطاعات جميع العمر دفعة واحدة، وإنما عليهم أن يلتزموا الطاعة وينقادوا ويتعهدوا الإتيان بالأوامر واجتناب النواهي، وهذه التوبة وهذا الالتزام هما من الأعمال وهما شرط في مغفرة ما قد سلف منهم ولا مخرج لهم من الكفر إلا بذلك، فليزم أن تكون هذه الأعمال من الإيمان وعلى هذا فالآية حجة عليهم لا لهم وهي كذلك لا تنفي تسمية سائر الأعمال إيمانا.
فالحاصل أن هذه الآية لا تدل على خروج الأعمال عن الإيمان كما أنها لا تدل على الإتيان المأمورات دفعة واحدة، وإنما فيها بيان لشرط العفو عنهم والمغفرة لهم، وهو أن يتوبوا من الشرك والكفر ويدخلوا في الإسلام ويخضعوا لأوامر الله تعالى وينقادوا لحكمه.
__________
1 انظر تفسير هذه الآية في جامع البيان للطبري 9/247؛ ومعالم التنزيل 2/248؛ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/309؛ وتيسير الكريم المنان 3/167، وتفسير القاسمي محاسن التأويل 8/55.
(1/370)
________________________________________
الدليل السادس:
قولهم: "إن الله تعالى قال: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} "سورة آل عمران: الآية100".
ثبت أن الإيمان هو الذي به ترك الكفر ... "
فالجواب عنه:
أن الله تعالى نهى المؤمنين عن طاعة الكفار، وحذرهم من موالاتهم وحبهم، لأن هذا سبيل لارتدادهم عن الإسلام 1.
ولا شك أن الإيمان هو الذي به ترك الكفر، وأن الكفر هو الذي به ترك الإيمان وكلاهما لا يجتمعان.
ولكن أين في هذه الآية الكريمة ما يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب فقط، وأن الأعمال ليست من حقيقة الإيمان، وأنها خارجة عن مسماه؟ بل الآية تدل على خلاف ما زعموه، لأن طاعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وطاعة غيرهم من الكفرة قد تتحقق في الأعمال فيكون بذلك مرتدا عن دين الإسلام، وإن كان يعتقد أن دين الإسلام حق كما وقع من أمثال أبي طالب وهرقل وغيرهما فهؤلاء قد أطاعوا الكفار، وصاروا بذلك كافرين مع بقاء تصديقهم بقلوبهم بل وبألسنتهم، فكان كفرهم بالأعمال فكيف يقال: إن الإيمان هو التصديق وأن الأعمال ليست من مسماه.
الدليل السابع:
قولهم: " إذا قلنا: إن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان؛ لزم أن يزول
__________
1 انظر تفسير هذه الآية في جامع البيان ص24، 25؛ وتفسير القرآن العظيم 2/81؛ وزاد المسير 1/430؛ وتيسير الكلام المنان 1/404؛ والمنار 4/17.
(1/371)
________________________________________
الإيمان بزوال بعض الأعمال ولزم تكفير مرتكب الكبيرة ... "
فالجواب عنه: من وجهين:
1- أن الأعمال جزء من حقيقة الإيمان، والإيمان كل له أجزاء ثلاثة فهو مركب منها:
الأول: التصديق بالجنان.
الثاني: الإقرار باللسان.
الثالثة: والعمل بالأركان.
ولا شك أن العمل يتفاوت ويتجزأ، ويزيد وينقص، وبحسب الأعمال يتفاوت التصديق ويتجزأ، ويزيد وينقص.
قال ابن أبي العز: "الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانا. فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والصوم والحج والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنها من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما" 1.
وإذا كان الأمر كذلك فمن المعلوم أن الكل المركب من أجزاء تتفاوت وتتجزأ وتزيد وتنقص، فلا يزول بزوال بعض أجزاء أجزائه. فالذي ارتكب معصية فقد نقص من عمله جزء وبذلك قد نقص من إيمانه شيء مع بقاء شيء منه، حيث نقص إيمانه بنقص بعض عمله، وبذلك قد زال جزء من إيمانه ولم يزل كل إيمانه.
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية 2/476.
(1/372)
________________________________________
مثال ذلك أن الشجرة كل مركبة من أغصان ومع ذلك لا تزول الشجرة بزوال بعض أغصانها، وكذا الإنسان كل مركب من أجزاء لكن لا يزول الإنسان بزوال بعض أجزائه1.
وهكذا في باب الإيمان فهو لا يزول بالكلية بزوال بعض الأعمال، وإذا تحقق هذا ثبت أنه لا يلزم تكفير مرتكب الكبيرة، كما لا يلزم مخالفة الإجماع، وظهر بطلان القول بعدم دخول الأعمال في مسمى الإيمان.
2- أن لفظ الإيمان ذكر في نصوص الكتاب والسنة على نوعين: مقيد ومطلق.
فإذا ورد مطلقا دخل في مفهومه الأعمال كما تدخل الأعمال، في مفهوم البر والتقوى والدين إذا وردت هذه الكلمات مطلقة.
وإذا ورد مقيدا فيغاير الأعمال وعلى هذا يقال: "إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا".
فالإيمان له مرتبتان:
مرتبة الشيء المطلق، وهي مرتبة الإيمان المطلق أي الكامل، ومرتبة مطلق الشيء، وهي مرتبة مطلق الإيمان أي ما يصدق عليه الإيمان في الجملة سواء كان كاملا أو ناقصا، فمن وفّقه الله تعالى للعمل وقوي تصديقه بالقلب وعمل ما يقتضيه إقراره باللسان فإيمانه كامل في مرتبة الشيء المطلق، أي الإيمان المطلق أي الكامل، وأما من أخل بالعمل فقد نقص إيمانه وضعف تصديقه بقلبه بقدر ما أخل به من العمل؛ ولم يستوف ما يقتضي إقراره بلسانه، فإيمانه ناقص في مرتبة "مطلق الشيء"، أي "مطلق
__________
1 مجموع الفتاوى 7/403-405 بتصرف. وانظر فتح الملهم بشرح صحيح مسلم 1/157، والسنة لعبد الله بن أحمد ص76؛ وجامع العلوم والحكم ص43؛ والإيمان لأبي يعلى ص264.
(1/373)
________________________________________
الإيمان"، أي الإيمان الناقص، فتارك العمل، ومرتكب الكبيرة لا يستحق اسم "الإيمان المطلق" الكامل لإخلاله بالعمل وضعف تصديقه ونقص إيمانه؛ ولنعم ما قال شيخ الإسلام في رده على هؤلاء بعدما حكى شبهتهم هذه حيث قال:
"وجواب هذا أن يقال: الذين قالوا من السلف إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام لم يقولوا: إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج والمعتزلة وأهل السنة الذين قالوا هذا، يقولون: الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيمان يخرجون به من النار، لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان 1 لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان ... " ثم قال شيخ الإسلام: " والتحقيق أن يقال: أنه مؤمن ناقص الإيمان مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق واسم الإيمان2 يتناوله ... " 3.
الدليل الثامن:
قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل صلوات الله عليه عن الإيمان، ما أجاب عنه إلا بالتصديق...."
فالجواب عنه:
أن يقال: إن النصوص التي ذكر فيها لفظ الإيمان والإسلام على ثلاثة أنواع:
__________
1 يعني اسم "الإيمان الكامل" وهو الإيمان المطلق.
2 يعني مطلق الإيمان وهو الإيمان الناقص.
3 مجموع الفتاوى 7/240-241.
(1/374)
________________________________________
النوع الأول: نصوص فيها ذكر الإيمان وحده كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} "سورة الأنفال: الآية2".
النوع الثاني: نصوص فيها ذكر الإسلام وحده كقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ} "سورة آل عمران: الآية85".
النوع الثالث: نصوص فيها ذكر الإيمان والإسلام كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "سورة الحجرات: الآية14".
فإذا عرف هذا عرف أيضا أنه إذا ذكر الإيمان وحده فهو يشمل الإسلام وكذا إذا ذكر الإسلام وحده فإنه يشمل الإيمان، وإذا ذكر الإيمان والإسلام معا فهما يتغايران ويختلفان، فيراد بالإيمان غير ما يراد بالإسلام، فيختص الأول يما يتعلق بالقلوب، ويختص الثاني بما يتعلق بالجوارح مع ملازمة كل منهما الآخر بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر وإن كانا يتفاوتان مفهوما ومصداقا، وهذا كما يقال: "إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا" أي إذا ذكر أحدهما فقط يراد به الآخر أيضا، وإذا ذكرا معا يراد من أحدهما غير ما يراد من الآخر مثل البر والتقوى والمسكين والفقير" 1.
فالبر إن ذكر وحده دخل فيه التقوى، وهكذا التقوى يدخل فيه البر ولكن إذا اجتمعا يراد بالبر فعل الخير ويراد بالتقوى تجنب الشر 2.
__________
1 انظر مجموع الفتاوى 10/275.
2 انظر كتاب الإيمان ص156، 157، ط المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1408هـ.
(1/375)
________________________________________
وهكذا الحال في المسكين والفقير إذا اجتمعا أو افترقا 1.
ومن هنا يتبين لنا خطأ من قال: إن الإيمان غير الإسلام مطلقا وكذا خطأ من قال مطلقا: إن الإيمان هو الإسلام والصحيح: أن الإيمان إذا ذكر وحده يشمل الإسلام وكذا الإسلام إذا ذكر وحده يشمل الإيمان، وإذا ذكرا معا يراد من الإيمان العقائد، ويراد من الإسلام الأعمال كما في حديث جبريل 2.
وإذا عرف هذا تبين لك بطلان كلامهم هذا 3.
أما إلزامهم أن الأعمال لو كانت من الإيمان، لكان جبريل أتى لتلبيس الدين وكان النبي صلى الله عليه وسلم قاصرا في الجواب.
فنقول: إن جبريل عليه السلام لم يأت لتلبيس الدين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاصرا في الجواب، بل كان جبريل أتى لتعليم الدين وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الصواب والله المستعان.
الدليل التاسع:
قولهم: "إن ضد الإيمان هو الكفر، والكفر هو التكذيب والجحود ... ".
__________
1 الفقير والمسكين إذا افترقا فهما بمعنى واحد وهو المحتاج، وأما إذا اجتمعا فالفقير هو الذي له ما يأكله وله بعض ما يقيمه، وأما المسكين فهو الذي لا شيء له فهو أسوأ حالا من الفقير وقيل العكس. انظر تهذيب اللغة 9/113، 114؛ والمصباح المنير ص108.
2 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان 1/114 ح37 من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.
3 انظر تفصيل هذا في كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/154-186، وشرح العقيدة الطحاوية ص387-395.
(1/376)
________________________________________
فالجواب عنه:
قوله: "الكفر هو التكذيب والجحود" فيه نظر: لأنه لا شك أن التكذيب والجحود نوعان من الكفر، لكنهما ليسا جميع الكفر، والكفر أعم من التكذيب والجحود فلا يتحقق الكفر في صورة التكذيب والجحود فقط، بل الإعراض والمخالفة والمعاداة بلا تكذيب وجحود، مثل كفر أبي طالب فإنه لم يكذب ولم يجحد، ومع ذلك فهو كافر حيث أعرض عن الاعتراف بالحق، ولم يظهره. وأما قوله: "إن التكذيب والجحود يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما وهو الإيمان يكون بالقلب".
فأول من عرف عنه هذا القول هو الجهم بن صفوان فقد قال: "إن الإيمان والكفر لا يكونان إلا بالقلب دون غيره من الجوارح" 1. وهذا قول فاسد، والحق أن الكفر كما يكون بالقلب، كذلك يكون باللسان والجوارح، لأن كثيرا من صناديد الكفار من مشركي قريش كانوا يكفرون ويكذبون باللسان فقط مع تصديقهم للرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم، عنادا منهم وجحودا واستكبارا بل لو قيل: إن الجحود لا يكون بالقلب فقط بل وباللسان لكان هو الصواب؛ فإن فرعون وأمثاله كانوا مستيقنين في أنفسهم وإن جحدوا بألسنتهم، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} "سورة النمل: الآية14".
وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} "سورة الأنعام: الآية33".
فالمؤمنون يصدقون بالقلوب واللسان وبالجوارح، والكفار يكذبون
__________
1 مقالات الإسلاميين ص132.
(1/377)
________________________________________
باللسان، والمنافقون يصدقون بالألسنة ويكذبون بالقلوب.
ثم إن لفظ الإيمان لا يقابل التكذيب فقط، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعا بلا تكذيب فلا بد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد، لا يكفى مجرد التصديق فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر فيجب أن يكون كل مؤمن مسلما منقادا للأمر وهذا هو العمل" 1.
أما موقفهم من النصوص الدالة على أن العمل من مسمى الإيمان، فموقف القدح والتأويل كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} "سورة البقرة: الآية143".
فحملوها على المجاز 2، ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة".
__________
1 مجموع الفتاوى 7/292، وانظر شرح العقيدة الطحاوية ص380.
2 انظر تبصرة الأدلة "337/ب".
(1/378)
________________________________________
وفي رواية: " بضع وسبعون " فقد قدحوا فيه بأنه مخالف للكتاب وبغفلة الراوي حيث تردد بين الستين والسبعين فشهد بغفلة نفسه" 1.
الجواب عن تلك التأويلات:
أولا: حملهم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} على المجاز الجواب عنه ما يأتي:
1- الأصل في كتاب الله تعالى الحقيقة، والمجاز يحتاج إلى دليل 2.
2- أن الحقيقة عند القائلين بالمجاز هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة. وقد تبين أن لفظ الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدَّعى خروجها منه عند التقييد وهذا يدل على أن الحقيقة قوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" 3.
3- أن المجاز ثبت أنه اصطلاح حادث فلم يتكلم به العرب ولا الصحابة ولا الأئمة؛ فهو شبيه بمصطلحات النحو، ولكن النحو جاء اصطلاحا مستقيما وليس فيه مفسدة، أما المجاز فهو اصطلاح غير مستقيم، وفيه مفاسد عقلية وشرعية ولغوية. أما المفسدة العقلية فهي عدم تمييزه تمييزا ظاهرا صحيحا، أما الشرعية ففيها مفاسد يوجب الشرع إزالتها ألا وهي تحريف كلام الله عزَّ وجلَّ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن حقيقته وحمل الألفاظ على معان ورد النهي عن حملها عليها وأنها يصح نفيها وكلام الله
__________
1 انظر تبصرة الأدلة "337/ب".
2 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص164.
3 مجموع الفتاوى 7/116.
(1/379)
________________________________________
عزَّ وجلَّ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أرفع شأنا من ذلك، وأنه كلام غير حقيقي والله عزَّ وجلَّ كلامه حق وعدل وصدق.
أما اللغوية فهي تغيير للأوضاع اللغوية لغير مصلحة راجحة، بل لمفسدة 1.
ثانيا: أما قدحهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون "، وفي رواية: " بضع وسبعون ". بمخالفته للكتاب وبغفلة الراوي، فالجواب عليه من وجوه:
الأول: أن ما يدل عليه هذا الحديث من تسمية الأعمال إيمانا فأين في القرآن نفي اسم الإيمان عن شرائع الإسلام الواردة فيه، بل القرآن سمى بعض الأعمال إيمانا كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم.
فالحديث موافق للقرآن لا مخالف، ولا تأتي السنة بما يخالف القرآن البتة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
ثانيها: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.
ثالثها: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما" 2.
__________
1 مجموع الفتاوى 20/451-458 بتصرف.
2 أعلام الموقعين 2/307-309
(1/380)
________________________________________
الثاني: أن هذا الحديث متفق عليه مخرج في الصحيحين، والأحاديث التي في الصحيحين قطعية الثبوت، تفيد العلم القطعي باتفاق أئمة الإسلام واعتراف بعض الحنيفة 1. فمن استجرأ الطعن في حديث هو في الصحيحين فهو لا يؤذي إلا نفسه، فلا ينبغي لمسلم أن يطعن في الثقات أو يسيء الظن بهم. قال الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في عصره: "أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع فإنهما متواتران إلى مصنفيهما وأن كل من يهوّن أمرهما مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين، فإن الشيخين لا يذكران إلا حديثا قد تناظرا فيه مشايخهما وأجمعوا على القول به والتصحيح له" 2.
ثم إننا لا نسلم أن هذا الاختلاف في العدد يوجب الاضطراب في الحديث؛ لأن العدد الأقل لا يعارض العدد الأكثر، ولأن العدد الأقل داخل في العدد الأكثر. فرواية صحيح مسلم لا تعارض رواية صحيح البخاري، لأن رواية مسلم مشتملة على ما في رواية البخاري وزيادة، وهذه الزيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، هذا ما اختاره بعض العلماء فأخذوا لفظ: "بضع وسبعون" كالحليمي 3 والقاضي عياض 4 والألباني 5، وأخذ بعض المحدثين بلفظ "بضع وستون" كابن الصلاح 6 والبيهقي 7 وابن حجر8
__________
1 انظر فيض الباري 1/45.
2 حجة الله البالغة 1/49.
3 فتح الباري 1/51.
4 فتح الباري 51.
5 سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/396-371.
6 فتح الباري 1/51.
7 فتح الباري 1/51.
8 فتح الباري 1/51.
(1/381)
________________________________________
وبهذا يتبين لنا ضعف اتسدلالاتهم وتهافتها، والقول الحق في هذه المسألة هو ما دل عليه الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة من أن الإيمان: تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "سورة الأنفال: الآيات من2-4".
وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة آل عمران: الآية175".
وقال تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة المائدة: الآية23".
وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة الأنفال: الآية 1".
وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة التوبة: الآية13".
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "سورة البقرة: الآية278".
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إن الله بالناس لرءوف رحيم} "سورة البقرة: الآية143".
(1/382)
________________________________________
"فمعنى قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} : على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه الصلاة والسلام بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسوله" 1.
وقال الحليمي: "أجمع المفسرون على أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فثبت أن الصلاة إيمان. وإذا ثبت ذلك فكل طاعة إيمان إذ لم أعلم فارقا فرّق في هذه التسمية بين الصلاة وسائر الطاعات" 2.
وقد أورد أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "الإيمان" قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} "سورة العنكبوت: الآيات من 1-3".
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} "سورة العنكبوت: الآية10".
أوردها مستدلا بها على أن العمل من الإيمان ثم قال: "أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحن صدق القول بالفعل، ولم يكتف منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهم من الآخر؟ فأي شيء يُتَّبع بعد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده هم موضوع القدوة والإمامة"3.
وأما الأدلة من السنة فكثيرة جدا:
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا:
__________
1 جامع البيان 2/18.
2 كتاب المنهاج في شعب الإيمان "3791".
3 كتاب الإيمان ومعالمه وسننه للقاسم بن سلام ص66.
(1/383)
________________________________________
الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمس ما غنمتم" 1.
قال ابن أبي العز بعد سوقه لهذا الحديث: " ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود"2.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" 3، زاد مسلم في رواية: "فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " 4.
قال ابن مندة: "فجعل الإيمان شُعَبا بعضها باللسان بالشفتين، وبعضها بالقلب وبعضها بسائر الجوارح"5.
وقوله صلى الله عليه وسلم: حين سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان 1/129 ح"35"، ومسلم كتاب الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى 1/47 ح"24" كلاهما من طريق أبي جمرة عن ابن عباس.
2 شرح العقيدة الطحاوية ص381.
3 تقدم تخريجه ص424.
4 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان 1/63 ح"58" من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
5 الإيمان 1/332.
(1/384)
________________________________________
ورسوله" 1 فأطلق العمل على الإيمان كما أطلق الإيمان على العمل.
وحكى اتفاق السلف على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، غيرُ واحد من أهل العلم كالشافعي 2 وأحمد3 والبخاري 4 وابن عبد البر 5 والبغوي 6.
قال عبد الرزاق الصنعاني: "سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا ـ ثم سردهم ـ يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" 7.
وقال الوليد بن مسلم: "سمعت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز 8 ينكرون قول من يقول إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان" 9.
وقال الإمام أحمد: "أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب من قال إن الإيمان هو العمل 1/77 ح"26". ومسلم كتاب الإيمان باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال "1/88-ف135".
كلاهما من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/886، 887.
3 مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص228.
4 فتح الباري 1/47.
5 كتاب التمهيد 9238.
6 شرح السنة 1/38، 39.
7 شرح صحيح مسلم 1/146.
8 هو سعيد بن عبد العزيز التنوخي بفتح التاء وضم النون الدمشقي قال عنه الحافظ ابن حجر: "ثقة، إمام، ساواه أحمد بالأوزاعي، وقدمه أبو مسهر ولكنه اختلط في آخر عمره، من السابعة مات سنة سبع وستين ومائة وقيل بعدها" تقريب التهذيب 1/301؛ وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 4/69.
9 عقيدة ابن جرير 10 ضمن المجموعة العلمية.
(1/385)
________________________________________
وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها الله صلى الله عليه وسلم فذكر منها: والإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية" 1.
وقال البخاري: "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص" 2.
وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك، فقالا:
أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا؛ فكان من مذهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" 3.
وقال البغوي: "اتفقت الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان" 4.
وقال الآجري: "باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمنا إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث:
ثم قال: اعلموا ـ رحمنا الله تعالى وإياكم ـ أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح. ثم اعلموا: أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق، إلا أن يكون معهما الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة
__________
1 مناقب الإمام أحمد ص228.
2 شرح أصول الاعتقاد للالكائي 1/173، 174.
3 أصل السنة لابن أبي حاتم ص225-226، طبع ضمن كتاب "أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة" لسعدي الهاشمي ط/ الجامعة الإسلامية.
4 شرح السنة 1/38، 39.
(1/386)
________________________________________
بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمنا دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين ... " 1.
والأدلة من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن سلف هذه الأمة في أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل كثيرة جدا. وأحب أن أختم هذا الفصل برد سفيان بن عيينة على من يقول الإيمان قول بلا عمل، فقد سأله رجل فقال: "كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عزَّ وجلَّ بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة على أن يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها حقنوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فلما علم صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالرجوع إلى مكة فيقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم ويصلوا بصلاتهم ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه فقال: يا رسول الله هذه رأس الشيخ الكافر، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم، فلما علم الله تعالى صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدا وأن يحلقوا رؤوسهم تذللا ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم ولا قتل آبائهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة تطرهم فأمرهم ففعلوا حتى
__________
1 كتاب الشريعة ص119.
(1/387)
________________________________________
أتوا قليلها وكثيرها، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم ولا قتل آبائهم ولا طوافهم، فلما علم الله تعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده. قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينا} "ٍسورة المائدة: الآية3".
فمن ترك خلة من خلال الإيمان جحودا بها كان عندنا كافرا ومن تركها كسلا ومجونا أدبناه وكان ناقصا، هكذا السنة أبلِغها عني من سألك من الناس" 1.
رزقنا الله الصدق في القول والإخلاص في العمل والله أعلم.
__________
1 الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة 2/630.
(1/388)
________________________________________
الفصل الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه
ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص 1، والإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان كما تقدم.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "والإيمان لا يزيد ولا ينقص" 2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى" 3.
واستدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى على مذهبه بما يأتي:
__________
1 انظر مقالات الإسلاميين ص139؛ وشرح المقاصد 5/211؛ وشرح المواقف 8/397؛ والفرق بين الفرق ص123 تحقيق الكوثري؛ والملل والنحل للشهرستاني 1/141؛ والملل والنحل للبغدادي ص140،والتبصير في الدين ص60، والتمهيد للنسفي ص102. وبحر الكلام ص41؛ والمسامرة بشرح المسايرة س317؛ والنبراس ص402؛ وشرح العقيدة الطحاوية للميداني ص99.
2 شرح كتاب الوصية ص3.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 43، 44.
(1/389)
________________________________________
أولا: لا يتصور نقصان الإيمان إلا بزيادة الكفر، ولا يتصور زيادة الإيمان إلا بنقصان الكفر. قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا" 1.
ثانيا: "أن الناس لا يختلفون في التصديق، ولا يتفاضلون فيه، وقد يتفاضلون في العمل وتختلف فرائضهم، ودين أهل السماء وين الرسل واحد؛ يقول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} "سورة الشورى: الآية13"2.
هذا وقد جاء في الفقه الأكبر قول الإمام أبي حنيفة: "وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمَن به، ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق، والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، ومتفاضلون في الأعمال" 3.
وهذا النص فيه إشكال؛ وهو أنه مخالف للمتقدم من قول أبي حنيفة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص مع تفسير الإمام للإيمان بالتصديق والإقرار، ولما ثبت عن أبي حنيفة في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وقد تقدم.
وهذا صريح في أن الإيمان وهو التصديق عنده لا تفاضل فيه بين
__________
1 كتاب الوصية ص3.
2 رسالة أبي حنيفة لعثمان البتي ص35.
3 الفقه الأكبر ص304.
(1/390)
________________________________________
المؤمنين، وإنما التفاضل بينهم في الأعمال من الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى. وهذا يقتضي أن التصديق لا يزيد ولا ينقص، وفي هذا النص من الفقه الأكبر صرح بأن الإيمان يزيد وينقص، من جهة اليقين والتصديق. فيظهر والله أعلم أن كلمة "لا" في الجملة الأولى من خطأ النسّاخ ومحلّها الجملة الثانية لتكون العبارة هكذا: "وإيمان أهل السماء والأرض يزيد وينقص من جهة المؤمن به ولا يزيد ولا ينقص من جهة اليقين والتصديق".
لتتفق مع ما تقدم من كلام أبي حنيفة وما نقله الطحاوي.
ولكن شرّاح 1 الفقه الأكبر لم يروا هذا النص مشكلا؛ فخرجوه على الفرق بين اليقين وأصل التصديق فأصل التصديق لا يتفاوت، وأما اليقين فإنه مما يجري فيه التفاضل. وهذا عندي لا يرفع الإشكال؛ فإن اليقين 2 هو التصديق الجازم الذي تستقر معه النفس فهو مرتبة من مراتب التصديق.
هذا ما استدل به الإمام أبو حنيفة، أما أصحابه فاستدلوا بما هو آت:
أولا: أن الأعمال تشارك الإيمان في اسم الطاعة، والعبادة دون اسم الإيمان. فبزيادة الأعمال تزداد الطاعة، والعبادة ولا أثر لها في زيادة الإيمان 3.
ثانيا: "أن التصديق شيء بسيط لا يتجزأ ولا ينقسم، فلا يحتمل الزيادة والنقصان، لأنه لو اختل لتبدَّل بالتكذيب، وصار باطلا زائلا
__________
1 انظر شرح الفقه الأكبر لأبي المنتهى المغنيساوي ص33؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص126، 127.
2 انظر كتاب التعريفات ص259؛ والمفردات ص552؛ والمعجم الفلسفي ص216؛ والمعجم الوسيط ص1066.
3 تبصرة الأدلة ق-399/أ.
(1/391)
________________________________________
بالكلية، ولم يبق منه شيء أصلا، ولو لم يختلَّ بقي كاملا، فالقول بزيادته ونقصانه باطل" 1.
ثالثا: أنه يلزم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه بسبب زيادة الأعمال ونقصانها ألا يوجد أحد استكمل الإيمان حتى الأنبياء والمرسلون لأنه لا حدَّ للأعمال الصالحة، فكل من يزداد من الحسنات إلى ما لا نهاية يزداد إيمانه إلى ما لا نهاية فمن كانت طاعته أكبر يكون إيمانه أكبر، ومع ذلك لم يستكمل الإيمان لأنه لو زاد طاعة أخرى زاد إيمانه أيضا" 2.
رابعا: أن الزيادة لا تتصور إلا على شيء كامل وشيء له نهاية، أما الإيمان فهو لم يزل غير كامل لأنه في صدد الزيادة، والزيادة على ما هو لم يكمل بعد ـ وهو في حد النقصان ـ محال كما أن الزيادة على ما لا نهاية له محال أيضا 3.
خامسا: "إن زيادة التصديق ونقصانه يجعلانه في مرتبة الشك والظن؛ وهذا غير مفيد في مقام الاعتقاد" 4.
سادسا: "استدل أبو الليث 5 السمرقندي بحديث أبي هريرة 6
__________
1 تبصرة الأدلة ق-399/أ، وشرح العقائد النسفية ص124.
2 تبصرة الأدلة ق-399/أ.
3 تبصرة الأدلة ق-399/أ.
4 روح المعاني 9/165.
5 هو نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي الحنفي قال عنه الذهبي: "الإمام الفقيه المحدث الزاهد ... صاحب كتاب تنبيه الغافلين وله كتاب الفتاوى يروي عن محمد بن الفضل البخاري وجماعة وتروج عليه الأحاديث الموضوعة" مات سنة خمسين وسبعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 13/322؛ والفوائد البهية 221.
6 بحر العلوم ق-99/أ.
(1/392)
________________________________________
رضي الله عنه مرفوعا ولفظه: "جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا. الإيمان كمل في القلب زيادته ونقصانه كفر" قلت وفي معنى هذا الحديث تروى أحاديث أخرى كحديث ابن عباس وابن عمر مرفوعا: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص".
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: " من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق، ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن".
الجواب عن أدلة أبي حنيفة أصحابه:
"أ" الجواب عن أدلة أبي حنيفة:
أولا: قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى: " الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر ... ".
الجواب عنه:
أن العقل يتصور اجتماع الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} "سورة يوسف: الآية106".
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "القلوب أربعة: قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب مصفَّح، فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم فأيما غلب عليه غلبه" 1.
__________
1 السنة لعبد الله بن أحمد ص102.
(1/393)
________________________________________
ويدل على قول حذيفة رضي الله عنه قول الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} "سورة آل عمران: الآية167".
فقد كان فيهم نفاق مغلوب؛ فلما كان يوم أحد غلب نفاقهم فصاروا إلى الكفر أقرب1.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان وشعبة من شعب النفاق وقد يكون مسلما وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية كما قال الصحابة ابن عباس وغيره كفر دون كفر وهذا قول عامة السلف وهو الذي نص عليه أحمد وغيره" 2.
ويقال أيضا: زيادة الإيمان ونقصانه قد تكون في صفة الإيمان كتفاوت التصديق قوة وضعفا وقد يكونان في الأعمال المستحبة فلا يلزم إذن من زيادة الإيمان ونقصانه وجود كفر ولا عدمه، فالتفاضل في اليقين وفي الأعمال المستحبة لا يوجب وجود كفر عند المفضول، وهذا ظاهر، نعم الإيمان والكفر الناقل عن الملة لا يجتمعان.
ثانيا: قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: "إن الناس لا يختلفون في التصديق ولا يتفاضلون فيه، وقد يتفاضلون في العمل وتختلف فرائضهم ... ".
الجواب عنه:
لا نسلم أن الناس لا يختلفون في التصديق ولا يتفاضلون فيه، إذ إنهم كما يتفاوتون في الأعمال كذلك يتفاوتون في التصديق ضعفا وقوة.
__________
1 انظر كتاب الإيمان لابن تيمية ص298.
2 كتاب الإيمان ص300.
(1/394)
________________________________________
فلا يشك عاقل أن تصديق الأنبياء والملائكة أقوى من تصديق عامة البشر كما صرح بذلك بعض الحنيفة 1.
وأما قوله: "ودين أهل السماء ودين الرسل واحد".
فالجواب عنه: أن مسائل الدين التفصيلية والأحكام التكليفية ليست كلها مشتركة بيننا وبين الملائكة بل ليست مشتركة بين أتباع سائر الأنبياء، بل ولا بين أتباع الرسول الواحد.
وأما قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... } .
فالمراد منها أن حقيقة دين الرسل واحدة وأصله واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وطاعته في أمره ونهيه، وأما تفاصيل الشرائع فمعلوم أنها مختلفة كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 2 " سورة المائدة: الآية48".
"ب" الجواب عن أجوبة أصحاب أبي حنيفة:
الدليل الأول:
"إن الأعمال تشارك الإيمان في اسم الطاعة والعبادة دون اسم الإيمان ... ".
الجواب عنه:
يقال: هذا مبني على أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان
__________
1 كالألوسي في روح المعاني 9/167؛ والقاري في شرح الفقه الأكبر ص127.
2 تفسير القرآن العظيم 6/192.
(1/395)
________________________________________
شرعا. وقد سبق القول فيه وذكر الأدلة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ فإذا بطل هذا الأصل بطلت هذه الدعوى المبنية عليه والله أعلم.
الدليل الثاني:
"إن التصديق شيء بسيط لا يتجزأ ولا ينقسم فلا يحتمل الزيادة والنقصان ... ".
الجواب عنه:
أن يقال هذه الشبهة مركبة من مقدمتين:
الأولى: أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط.
الثانية: أن التصديق بسيط غير مركب لا ينقسم.
أما المقدمة الأولى: فقد ظهر بطلانها مما تقدم ذكره من أدلة الكتاب والسنة الصحيحة، واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان ومسماه.
وأما المقدمة الثانية: فباطلة لأنها مخالفة لدلالة الكتاب والسنة والآثار السلفية والمعقول الصريح.
فأما الكتاب فقد قال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} "سورة الأحزاب: الآية22".
ولا شك أن المراد من الإيمان في هذه الآية إنما هو التصديق واليقين بتحقيق وعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من تحقيق النصر للمؤمنين. وهكذا قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} "سورة آل عمران: الآية173".
(1/396)
________________________________________
فأنت ترى أن المراد من الإيمان في هذه الآية ليس إلا تصديق القلب وإيقانه وإذعانه، فهاتان الآيتان تدلان على زيادة التصديق نفسه، إذ ليس هنا قطعا زيادة الأعمال.
وأما من السنة فمنها ما رواه أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت" 1.
وحديث الشفاعة الكبرى المتواتر وفيه 2:
فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ... فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان" 3.
ولا شك أن المراد من الإيمان في هذا الحديث في القلب، لأن ما في القلب ليس إلا التصديق لا غير. فهذا الحديث صريح في أن التصديق القلبي قد ينقص إلى حد يصل إلى مثقال ذرة أو خردلة، وقد يصل إلى حد يكون أدنى من مثقال حبة خردل، فدل على أن التصديق نفسه يتفاوت يزيد وينقص. وأما لآثار عن سلف هذه الأمة فمنها قول
__________
1 أخرج الإمام أحمد في المسند 1/271؛ والحاكم في المستدرك 2/321، كلاهما من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحاكم على أثره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص والألباني في مشكاة المصابيح 3/1599.
2 انظر قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي ص303؛ ولقط اللآلئ المتناثرة للزبيدي ص75-78؛ ونظم المتناثر للكتاني ص233.
3 أخرجه البخاري كتاب التوحيد باب كلام الرب عزَّ وجلَّ 13/473 ح"7510"، ومسلم كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/182، 183 ح"326" كلاهما من طريق معبد بن هلال عن أنس بن مالك.
(1/397)
________________________________________
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها" 1.
فهذا الأثر صريح في المقصود بل قال الحافظ ابن حجر:"وهذا الأثر أصرح في المقصود" 2.
لأن اليقين والفقه لا يتعلقان إلا بالقلب لأنهما من أنواع العلم، بل اليقين هو التصديق الجازم 3 وهو على ثلاث مراتب:
1- علم اليقين.
2- وعين اليقين.
3- وحق اليقين.
فقد دل على أن التصديق يتفاوت، هذا وقد قال أئمة السنة كسعيد بن جبير وسعيد والضحاك وقتادة رحمهم الله تعالى في قوله تعالى عن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} "سورة البقرة: الآية260".
قالوا: "ليزداد إيماني ويقيني" 4.
ولا ريب أن المراد هنا إيمان القلب، وهو التصديق مع الانقياد لأنه بمشاهدة كيفية إحياء الطيور مع يقينه السابق ازداد إيمانه ويقينه حتى وصل إلى عين اليقين بل حق اليقين.
__________
1 الأثر رواه أحمد في الإيمان كما قال الحافظ في الفتح 1/48 وعبد الله بن أحمد في السنة 1/368، 369، والآجري في الشريعة ص112، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/942، وقال الحافظ في الفتح 1/48، "إسناده صحيح".
2 فتح الباري 1/48.
3 انظر المفردات ص552؛ والتعريفات ص259؛ والمعجم الوسيط ص1066؛ والمعجم الفلسفي ص216.
4 انظر جامع البيان 8/50، 51، والسنة لعبد الله بن أحمد ص369.
(1/398)
________________________________________
وأما المعقول الصريح فلا يشك عاقل في أن إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، فلا تعتريهم الشبهة ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، وأما غيرهم من المؤلفة قلوبهم فليسوا كذلك 1، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكّلا منه في بعضها 2.
وبهذا سلم بعض المنصفين من الأشاعرة والماتريدية، كابن اللبان 3 والرازي والبغدادي والإيجي والجرجاني 4 والباقلاني.
قال الإيجي: "والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان من وجهين:
الأول: القوة والضعف ...
الثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان، يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، والنصوص الدالة على قبوله لهما" 5.
__________
1 انظر المنهاج شرح صحيح مسلم 1/148، 1498، وفتاوى الإمام النووي المسماة بالمسائل المنثورة ص304.
2 فتح الباري 1/46، 47.
3 هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأصبهاني. قال عنه الخطيب: "المعروف بابن اللبان أحد أوعية العلم ومن أهل الدين والفضل ... سمعنا منه وله كتب كثيرة مصنفة وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن ومن أوجز الناس عبارة في المناظرة مع تدين جميل وعبادة كثيرة وورع بيّن" مات سنة "446هـ. تاريخ بغداد 10/144. وانظر ترجمته في المنتظم "1628"، وسير أعلام النبلاء 17/653.
4 انظر أصول الدين للبغدادي ص252؛ والمواقف ص338؛ وشرح المواقف 8/331؛ وتحفة المريد ص51؛ والإيمان للقاضي أبي يعلى ص339؛ والإنصاف ص58؛ والمحصل للرازي ص239.
5 المواقف ص388.
(1/399)
________________________________________
وقال الجرجاني: "فإن التصديق من الكيفيات النفسانية المتفاوتة قوة وضعفا" 1.
الدليل الثالث: "أنه يلزم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه ألا يوجد أحد استكمل الإيمان حتى الأنبياء والمرسلون ... ".
الجواب عنه من وجوه:
1- يقال:"إنه إذا جاز عندك في النوافل أن تصفها أنها طاعة وعبادة ولا آخر لها، فما يمنع أن تصف الإيمان بذلك وإن لم يكن له آخر، وعلى أن لها آخرا في الوصف، وإن لم يكن لها آخرا في الفعل، كما أن للفرائض آخرا في الوصف دون الفعل، لأنه لو قيل بينوا في الفرائض حدا لا زيادة معه؛ لم يمكن لأنه لا يعلم منتهى أجله فيعلم قدر ما يلزمه من الفرائض" 2.
2- أن الإيمان من الكليات 3 المشككة تتفاوت أفرادها، كما أن العلم من الكليات المشككة، وهكذا من يوصف بالإيمان والعلم، فالمؤمن والعالم أيضا من الكليات المشككة، قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} "سورة يوسف: الآية76".
فإذا كان الأمر كذلك فالأنبياء والمرسلون بعد استكمال إيمانهم بأداء الواجبات واجتناب النواهي يتفاوتون في الدرجات بسبب النوافل وهذا
__________
1 شرح المواقف 8/331.
2 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص250.
3 الكلي: هو المنسوب إلى الكل، تقول: العلم الكلي: أي العلم الشامل لكل شيء. والكلي عند المنطقيين: هو الشامل بجميع الأفراد الداخلين في صنف معين أو هو المفهوم الذي لا يمنع تصوره من أن يشترك فيه. انظر التعريفات ص186، والمعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/238.
(1/400)
________________________________________
لا شك فيه، ولا عيب في ذلك عليهم، ولا يؤثر على مراتهبم بعد أن استكملوا الإيمان بأداء الواجبات واجتناب المنهيات، كيف لا وهم أكمل الناس إيمانا وعلما وبعضهم فُضِّل على بعض.
3- يقال: إن الأنبياء قد استكملوا الإيمان، وإن كان أذنب بعضهم فقد غفر الله لهم ذلك، أما من عداهم فليس مثلهم في هذا، فالطاعات لا حد لها من ناحية فعل العبد، بل العبد على الدوام في السعي إلى إكمال إيمانه حتى يدركه الموت وهو على هذا 1. وقد ورد عن السلف نحو هذا.
من ذلك ما رواه الخلال عن إسحاق بن منصور قال: "قلت: لإسحاق: هل للإيمان منتهى حتى نستطيع أن نقول: المرء مستكمل الإيمان؟ قال: لا لأن جميع الطاعة من الإيمان فلا يمكن أن نشهد باستكمال الإيمان لأحد إلا للأنبياء أو من شهد له بالجنة، لأن الأنبياء وإن كانوا قد أذنبوا فقد غير لهم ذلك الذنب قبل أن يخلقوا" 2.
وروى عبد الله بن أحمد في السنة بسنده عن الوليد بن مسلم قال: "سمعت أبا عمرو ـ يعني الأوزاعي ـ ومالكا وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى، هو في زيادة أبدا. وينكرون على من يقول: إنه مستكمل الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكال" 3.
الدليل الرابع:
"إن الزيادة لا تتصور إلا على شيء كامل وشيء له نهاية، وأما
__________
1 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص251، بتصرف.
2 كتاب السنة للخلال ص569.
3 السنة لعبد الله بن أحمد ص82.
(1/401)
________________________________________
الإيمان فهو لم يزل غير كامل لأنه في صدد الزيادة ... ".
الجواب عنه:
يقال لا شك أن الزيادة على الشيء إنما تكون بعد كماله، ولكن ما قلنا: إنه يزاد شيء على الإيمان بل قلنا: إن الإيمان نفسه يزيد وينقص، ولم نقل: إن شيئا آخر يزاد على الإيمان، فلا ترد هذه الشبهة إطلاقا".
الدليل الخامس:
"إن زيادة التصديق ونقصانه تجعلانه في مرتبة الشك والظن ... ".
الجواب عنه:
إن التصديق له مراتب تتفاوت قوة وضعفا وكلها فوق الظن والشك، فالشك إذن ضد التصديق لا جزء منه، فإذا صار التصديق ضعيفا فلا يقال: إن صاحبه وقع في الشك والظن، ولا يقال للشاك: مصدِّق، فالشك والتصديق لا يجتمعان.
قال الألوسي الحنفي: "مراتب اليقين متفاوتة: إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها" 1.
الدليل السادس:
"استدل أبو الليث السمرقندي بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ... قلت وفي معنى هذا الحديث تُروى 2 أحاديث أخرى كحديث ابن عباس ... ".
الجواب عنه:
حديث أبي هريرة أخرجه أبو الليث السمرقندي في تفسير بحر
__________
1 روح المعاني 9/165.
2 انظر السواد الأعظم ص34، والنبراس ص402.
(1/402)
________________________________________
العلوم 1 والجوزقاني في الأباطيل والمناكير 1/22-23، وقال: "هذا حديث لا يرجع منه إلى الصحة، وليس لهذا الحديث أصل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" 2.
وقال ابن كثير: "إن الإسناد من أبي الليث السمرقندي إلى أبي مطيع مجهولون، لا يعرفون في شيء من كتب التاريخ المشهورة. وأما أبو مطيع فهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، والبخاري، وأبو داود والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي، وابن عدي، والدارقطني، وغيرهم".
وأما أبو المهزوم الراوي عن أبي هريرة وقد تصحف على الكاتب، واسمه يزيد بن سفيان، فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: "لو أعطوه فلسين لحدثهم بسبعين حديثا" 3.
وبهذا يتبين أن ما استدل به السمرقندي لا تقوم به الحجة؛ إذ هو موضوع.
وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه الجوزقاني في الأباطيل والمناكير 4، وابن الجوزي في الموضوعات5 وقال: "هذا حديث
__________
1 تفسير بحر العلوم له نسخة خطية بمكتبة أوغلي باشا في إستانبول بتركيا ولها نسخة مصورة في المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية تحت رقم 107.
2 الأباطيل والمناكير 1/23.
3 شرح العقيدة الطحاوية 2/480. وفي طبعة دار البيان ص276.
4 1/16-17.
5 1/132.
(1/403)
________________________________________
موضوع من موضوعات الجويباري 1.
وهو أحمد بن عبد الله الهروي ويقال الجوباري، وجوبار من أعمال هراة 2 قال عنه ابن عدي: "كان يضع الحديث لابن كرّام على ما يريده، وكان ابن كرام يضعها في كتبه، ويسميه أحمد بن عبد الله الشيباني" 3.
وقال عنه ابن حبان: "دجال من الدجاجلة كذاب، يروي عن ابن عيينة ووكيع وأبي ضمرة وغيرهم من ثقات أصحاب الحديث، ويضع علهم ما لم يحدثوا، وقد روى عن هؤلاء الأئمة ألوف الأحاديث ما حدثوا بشيء منها، كان يضعها عليهم لا يحل ذكره في الكتب أصلا إلا على سبيل الجرح فيه" 4.
واما حديث عبد الله بن عمر فقد أخرجه الجوزقاني في الأباطيل والمناكير 5، وابن الجوزي في الموضوعات 6.
وقال الجوزقاني: "هذا حديث موضوع باطل وليس له أصل"7.
__________
1 1/132.
2 هراة: بالفتح مدينة مشهورة من أمهات مدن خراسان قال عنها ياقوت: "لم أر بخراسان عند كوني بها في سنة 607 مدينة أجل ولا أعظم ولا أفخم ولا أحسن ولا أكثر أهلا منها".
انظر معجم البلدان 5/396.
3 الكامل في ضعفاء الرجال 1/181.
4 المجروحين 1/142.
5 1/18.
6 1/131، 132.
7 الأباطيل والمناكير 1/18.
(1/404)
________________________________________
وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع من موضوعات أحمد بن عبد الله الجويباري" 1.
وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه ابن حبان في المجروحين 2. وابن الجوزي في الموضوعات 3 وقال: "هذا حديث موضوع وهو من موضوعات محمد بن القاسم الطالكاني".
ويقال: الطايكاني 4 بفتح الطاء وبالياء المثناة التحتية الساكنة وفتح الكاف نسبة إلى طايكان 5؛ قرية من قرى بلخ. قال عنه ابن حبان: "من أهل بلخ يروي عن العراقيين وأهل بلده، روى عنه أهل خراسان أشياء لا يحل ذكرها في الكتب فكيف الاشتغال بروايتها" 6. وبهذا يتبين لنا أن الأحاديث في عدم زيادة الإيمان ونقصانه لم يصح منها شيء، وما استدل به أبو الليث السمرقندي لا تقوم به حجة إذ هو موضوع.
أما موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه فتأولها بما لا يتفق مع ظاهرها وإليك نماذج من ذلك:
"أ" أن المراد من الزيادة والنقصان في الإيمان الواردين في نصوص الكتاب والسنة أنهم آمنوا في الجملة ثم يأتي فرض بعد فرض فيؤمنون بعد
__________
1 الموضوعات 1/132.
2 2/311.
3 1/133.
4 هكذا في المجروحين لابن حبان 2/311.
5 أوردها ياقوت الحموي في معجمه 4/12، سماها طيقان وقال عنها: قرية من قرى بلخ بخراسان.
6 المجروحين 2/311.
(1/405)
________________________________________
كل فرض جاء جديدا فيزداد إيمانهم بالتفصيل مع إيمانهم السابق في الجملة 1، وقالوا في قول الله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} "سورة المدثر: الآية31".
بأن هذا في حق الصحابة رضي الله عنهم فالقرآن كان ينزل في كل وقت فيؤمنون به ويكون تصديقهم الثاني زيادة على الأول وأما في حقنا فلا؛ لأنه انقطع الوحي" 2.
"ب" أن المراد من الزيادة الثبات على الإيمان والدوام عليه زيادة عليه في كل ساعة إذ يوجد في كل ساعة مثلما انعدم في الأولى 3.
"ج" أن المراد من نصوص الزيادة والنقصان في الإيمان ازدياد نوره وضيائه في القلوب بالأعمال الصالحة ونقص ذلك النور بالمعاصي 4.
الجواب عن تلك التأويلات:
أولا: قولهم: "إن المراد من الزيادة والنقصان في الإيمان أنهم آمنوا في الجملة ثم يأتي فرض بعد فرض…".
الجواب عنه: من وجهين:
"أ" أن يقال: إنكم إذا سلمتم أن المؤمن أولا يؤمن إيمانا إجماليا ثم
__________
1 تبصرة الأدلة ق-ب، ق-339/أ، وانظر النور اللامع ق-104/أ؛ والكفاية ص155؛ وشرح العقائد النسفية ص125؛ وشرح العقيدة الطحاوية للميداني ص102؛ وإتحاف السادة المتقين 2/261.
2 بحر الكلام ص42.
3 تبصرة الأدلة ق-339/أ؛ وشرح العقائد النسفية ص125.
4 تبصرة الأدلة ق-339/أ؛ وانظر شرح العقائد النسفية ص125؛ وإتحاف السادة المتقين 2/260؛ والنبراس ص404؛ والسواد الأعظم ص38؛ والبداية ص155.
(1/406)
________________________________________
إذا جاء فرض جديد فيؤمنون به فيزداد إيمانه بالتفصيل، فقد اعترفتم بزيادة الإيمان ونقصانه وهذا هو المطلوب.
"ب" أنه قد ورد النص الشرعي بزيادة الإيمان بدون إتيان شرع جديد كما في قوله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} "سورة آل عمران: الآية173".
قال ابن أبي العز الحنفي: "وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها أن الزيادة باعتبارها زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة في قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقينا ويؤيد ذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} "سورة آل عمران: الآية167" 1.
ثم إن المسلمين من غير الصحابة لا يعرفون أحكام الإسلام دفعة واحدة بل يعرفونها تدريجيا شيئا فشيئا، فيلزم من قولكم هذا أن إيمانهم أيضا يزيد وينقص فلا وجه للتخصيص بالصحابة.
ثانيا: قولهم: "إن المراد بالزيادة والنقصان الثبات على الإيمان والدوام عليه ... ".
الجواب عنه:
1- أن يقال: إن الدوام والثبات على الإيمان ليسا من باب الزيادة في الإيمان في شيء، وذلك لأن الرجل إذا لم يداوم ويثبت على الإيمان فهو مرتد والعياذ بالله تعالى، فتأويل نصوص الزيادة في الإيمان بالدوام والثبات باطل بل هو تحريف محض، وحقيقة هذا التأويل تفسير زيادة الإيمان بزيادة
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية 2/479.
(1/407)
________________________________________
زمنه بسبب الثبات والاستمرار عليه، ومعلوم أن ما ثبت على حاله إذا طالت مدته لا يقال له قد زاد، لأنه حقيقة ثابتة لم تحصل بها زيادة. نعم لا شك أن من داوم وثبت على الإيمان يكثّر طاعاته وعباداته لله تعالى فمن هذه الناحية يزيد إيمانه.
2- لو سلم قولكم لزم منه ألا يفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى أفراد أمته إلا باستمرار الإيمان لا بزيادة اليقين والأعمال. وبطلانه لا يخفى على الحمقى فضلا عن العقلاء.
ثالثا: قولهم: "إن المراد من نصوص الزيادة والنقصان ازدياد نوره وضيائه في القلوب ... ".
الجواب عنه:
إن حمل نصوص زيادة الإيمان ونقصانه على ازدياد نور الإيمان وضعفه حمل للنصوص على المجاز بدون تعذّر الحقيقة. ويقال كذلك" إن زيادة نور الإيمان وضعفه يلزم منهما قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه، وذلك أنه إذا لم تحدث الزيادة والنقصان في الإيمان لم تحدث القوة والضعف في نوره، فقوة نور الإيمان وضعفه لأجل قوة الإيمان نفسه وضعفه وهذا أمر واضح لا يخفى على ذي لب.
بل يمكن أن يقال: إن هذا اعتراف بزيادة الإيمان، فإن الإيمان نور يجعله الله في قلب من شاء من عباده فسواء قيل: إن الإيمان يزيد وينقص، أو نور الإيمان يزيد وينقص، فلا مشاحة بالتعبير إذا كانت الحقيقة واحدة. فتبين بهذا أن هذا التأويل نقض لأصل مذهبهم، وهو أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
رابعا: قولهم: "إن المراد من الزيادة الثواب على الإيمان ... ".
(1/408)
________________________________________
الجواب عنه:
أن قول السلف يقتضي الزيادة والنقصان في الإيمان وثواب الإيمان ليس بإيمان، وهذا ظاهر لأن الثواب جزاء على عمل الطاعة، وليس هو الطاعة كما أن العقاب على المعصية ليس هو المعصية1.
وبهذا يتبين لنا ضعف استدلالاتهم وتهافت تأويلاتهم والقول الحق في هذه المسألة هو ما دل عليه الكتاب والسنة وما عليه سلف الأئمة من أن الإيمان يزيد وينقص. قال الله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} "سورة آل عمران: الآية173".
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} "سورة الأنفال: الآية2".
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} "سورة التوبة: الآيتان 124-125".
وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} "سورة مريم: الآية76".
وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} "سورة الكهف: الآية13".
وقال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} "سورة الأحزاب: الآية22".
__________
1 انظر كتاب مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص407.
(1/409)
________________________________________
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} "سورة الفتح: الآية4".
وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} "سورة المدثر: الآية31".
وأما الأدلة من السنة: فقد عقد البخاري باب "زيادة الإيمان ونقصانه وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} .
وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص" 1.
ثم ساق حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير" 2.
ومن الأدلة: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبٍّ منكن" قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل
__________
1 صحيح البخاري مع فتح الباري 1/103.
2 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه 1/103 ح"44" ومسلم كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/182 ح"32 كلاهما من طريق قتادة عن أنس بن مالك.
(1/410)
________________________________________
وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين" 1.
وفي صحيح مسلم: "لقي أبو بكر حنظلة الأسدي فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" 2.
ومن الأدلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائكم" 3.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم 1/405 ح"504" ومسلم كتاب الإيمان باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات 1/87 ح"80" كلاهما من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري.
2 كتاب التوبة باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض أوقات الاشتغال بالدنيا 4/2106 ح"2750" من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي.
3 أخرجه أبو داود كتاب السنة باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه 5/60 ح4682، والترمذي كتاب الرضاع باب ما جاء في حق المرأة على زوجها 3/457 ح1162 كلاهما من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، قال الترمذي على أثره: "هذا حديث حسن صحيح".
(1/411)
________________________________________
وأما الآثار عن السلف فمنها قول عبد الله بن مسعود في دعائه: "اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها" 1.
وقول عمير بن حبيب الخطمي: "الإيمان يزيد وينقص قيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عزَّ وجلَّ وحمدناه وخشيناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا وضيعنا فذلك نقصانه" 2.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: "هلموا نزدد إيمانا فيذكرون الله" 3.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول للرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة؛ فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه" 4.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصناه في كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا، فإذا نطق بها القائل أقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله لا على تزكية النفوس، وكلما ازداد طاعة وتقوى ازداد به إيمانا" 5.
__________
1 شرح أصول الاعتقاد 3/942، وكتاب الشريعة ص112..
2 الإيمان لابن أبي شيبة ص36؛ والشريعة للآجري ص112.
3 الإيمان لابن أبي شيبة ص36؛ والشريعة للآجري ص112.
4 الإيمان لابن أبي شيبة ص36؛ والإيمان لأبي عبيد ص72؛ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/943.
5 الإيمان ص66.
(1/412)
________________________________________
وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية، والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان" 1.
والأدلة من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن السلف في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة جدا. وبمناسبة كثرة الأدلة في هذه المسألة وعدم حصرها يقول العلامة الألوسي مفتي الحنفية في بغداد: "وما عليَّ إذا خالفتُ في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالاتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام" 2.
فظهر أن القول بأن الإيمان يزيد وينقص هو الصواب؛ لأنه موجب الشرع، بل وموجب العقل لما تقدم بيانه من أن التصديق يزيد وينقص وأن اليقين على ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وهذا أمر معلوم بالفطرة إذ ليس المخبر كالمعاين كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة ... " 3.
__________
1 التمهيد 9/238.
2 روح المعاني 9/167.
3 تقدم تخريجه.
(1/413)
________________________________________
الفصل الثالث: الاستثناء في الإيمان
منع الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى الاستثناء في الإيمان وهو أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله.
نص على ذلك غير واحد من أهل العلم كالتفتازاني 1 والنسفي 2 والسمرقندي 3، وابن الهمام4، وقاسم بن قطلوبغا 5. ومنع الاستثناء بناء على ما ذهب إليه في حقيقة الإيمان من أنه تصديق وإقرار باللسان، لأن القول بالاستثناء عنده يقتضي الشك في الإيمان؛ إذ التصديق أمر معلوم لا تردد فيه عند تحقيقه، ومن تردد في تحقيقه لم يكن مؤمنا قطعا. وإذا لم يكن الاستثناء للشك والتردد فالأولى أن يترك بل يقال: أنا مؤمن حقا دفعا للإيهام 6. واستدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى على مذهبه بما يأتي:
__________
1 شرح المقاصد 5/215.
2 بحر الكلام ص41.
3 الصحائف الإلهية ص461.
4 المسايرة 2/381، ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر وفي طبعة دائرة المعارف الإسلامية 2/229.
5 حاشية قاسم بن قطلوبغا على المسايرة 2/381 ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر وفي طبعة دائرة المعارف الإسلامية 2/229.
6 شرح المقاصد 5/215.
(1/415)
________________________________________
ورد في الوصية عن أبي حنيفة أنه قال: "المؤمن مؤمن حقا والكافر كافر حقا وليس في الإيمان شك، كما ليس في الكفر شك لقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "سورة الأنفال: الآية4".
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} "سورة النساء: الآية151" 1.
قال شارح الوصية: "أقول: إن من قام به التصديق فهو مؤمن حقا، ومن قام به خلافه فهو كافر حقا ... قال أهل السنة والجماعة: إذا أتى بالإيمان يقول أنا مؤمن حقا من غير شك ولا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله..كذا في بحر الكلام" 2.
واستدل أصحاب أبي حنيفة لمذهبه ذلك بوجوه:
أحدها: أنه تقرر أن الإيمان اسم للتصديق، والتصديق من المعاني الحقيقية المعلومة التي إذا تحققت في محل وجب إتصافه بها كالقعود والجلوس والسواد والبياض، ولا شك أن هذه الأوصاف إذا حصلت لشيء صح أن يقال له قاعد، جالس، أسود، أبيض، لا محالة بدون استثناء. فكذلك الإيمان إذا حصل لشخص صح أن يقال إنه مؤمن حقا بدون استثناء" 3.
الثاني: "أن من فرق بين الاستثناء في كونه مؤمنا عنده، وبين الاستثناء في كونه مؤمنا عند الله بأن يقول: أنا مؤمن ـ أي عندي ـ بلا استثناء، ولكن أنا مؤمن عند الله إن شاء الله، فتفريقه هذا باطل لأن
__________
1 الوصية مع شرحها لحسين بن اسكندر الحنفي ص4.
2 شرح كتاب الوصية ص4.
3 تبصرة الأدلة "340/ب".
(1/416)
________________________________________
الإيمان إذا تحقق في الحقيقة كان صاحبه مؤمنا عند الله حقيقة أيضا؛ إذ لا شك في حصول الإيمان الآن، وإنما الشك في كون الإيمان باقيا عند موت صاحبه؛ لأن كون الرجل يموت على الإيمان خارج عن موضوعنا هذا.
بل الكلام في صحة إطلاق المؤمن على من عنده إيمان لا استثناء، سواء يبقى هذا الإيمان أم يزول، كما أن من حصل له القعود والقيام صح إطلاق قاعد وقائم عليه بلا استثناء سواء يزول القعود والقيام أم لا"1.
الثالث: "أن الله سبحانه وتعالى قد شهد قطعا بالإيمان لمن آمن بالله ورسله بدون استثناء فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} "سورة البقرة: الآية285" ... "2.
الرابع: "أن الله تعالى مدح المؤمنين بقطعهم بإيمانهم دون استثناء حيث قال حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} "سورة آل عمران: الآية193".
ولم يأمرهم بالاستثناء" 3.
الخامس: "أن الاستثناء يرفع جميع العقود نحو الطلاق والعتاق والنكاح والبيع فكذلك يرفع عقد الإيمان" 4.
السادس: استدل قاسم بن قطلوبغا بحديث الحارث بن مالك الأنصاري ولفظه: "أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟
__________
1 تبصرة الأدلة "340/ب-341/أ" الأزهرية.
2 تبصرة الأدلة ""341/ب".
3 بحر الكلام ص40.
4 حاشية قاسم بن قطلوبغا على المسايرة 2/381-382.
(1/417)
________________________________________
قال: أصبحت مؤمنا حقا".
وحديث عبد الله بن زيد الخطمي ولفظه: "إذا سئل أحدكم أمؤمن أنت فلا يشك".
وحديث علي بن أبي طالب ولفظه: " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا عويمر أبو الدرداء فقال: يا نبي الله، إني أقول: أنا مؤمن حقا فقال: يا أبا الدرداء، إن لم تقل حقا فكأنك قلتَ أنا مؤمن باطلا".
الجواب عن أدلة أبي حنيفة وأصحابه:
"أ" الجواب عن دليل أبي حنيفة:
قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: المؤمن مؤمن حقا والكافر كافر حقا وليس في الإيمان شك، كما ليس في الكفر شك ... ".
الجواب عنه:
إن هذا استدلال في غير محله، لأن قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . ورد بعد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} "سورة الأنفال: الآية2".
فالمؤمنون حقا هم المتصفون بهذه الصفات، وليس كل مؤمن كذلك. فهؤلاء هم الكمّل من المؤمنين الذي حققوا الإيمان ظاهرا وباطنا. ومن لم يتصف بتلك الصفات التي ذكرها الله لم يكن مؤمنا حقا، وإن كان مؤمنا، كما يفيد ذلك القصرُ في قوله تعالى: {حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "سورة الأنفال: الآيات4".
المعنى هؤلاء هم المؤمنون حقا لا غيرهم، فكيف يصح مع ذلك أن يقول كل من حصل له أصل الإيمان أنا مؤمن حقا. أما قوله: "فليس في
(1/418)
________________________________________
الإيمان شك". فنعم، إن الشك ينافي صحة الإيمان فلا يجتمع الإيمان والشك. وهذا لا يوجب منع الاستثناء في الإيمان على وجه البراءة من تزكية النفس، لكن يوجب منع الاستثناء على وجه التردد، وهذا لا يصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يقصده من يعلم من نفسه الإيمان واليقين.
"ب" الجواب عن أدلة أصحاب أبي حنيفة:
الدليل الأول:
"إنه تقرر أن الإيمان اسم للتصديق، والتصديق من المعاني الحقيقية المعلومة ... ".
الجواب عنه:
يقال: إن أساس هذه الشبهة هو أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص. وهذا الأساس باطل والحق المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الإيمان هو التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان كما تقدم بيانه.
وإذا ثبت أن الإيمان شيء مركب من أمور ثلاثة وأنه يزيد وينقص وأن الإيمان له مقتضيات ومتطلبات قد لا تتوفر في مدعي الإيمان، فليس الإيمان مثل القعود والقيام ونحوهما من الأمور المحسوسة المعلومة بالقطع، حتى يقطع الإنسان بأنه مؤمن كما يقطع بأنه قاعد أو قائم، لأن الإيمان من الكيفيات النفسانية ومن الأمور غير المحسوسة، فلا يمكن للإنسان أن يجزم قطعا بأنه أتى بجميع متطلبات الإيمان وجميع مقتضياته، وأنه قد تجنب جميع ما يناقض الإيمان ويخالفه إذا فقياس "الإيمان" على "القيام والقعود" قياس مع الفارق، لأن الإنسان إذا قام أو قعد صح أن يقال عنه: إنه قائم أو قاعد لأن ذلك من الأمور المحسوسة التي تختلف عن الأمور القلبية والنفسية كالإيمان الذي له مقتضياته ومتطلباته فإذا قال:
(1/419)
________________________________________
أنا مؤمن "بدون الاستثناء " فقد زكى نفسه بشيء لم يتوفر فيه مقتضياته وقال قولا بدون علم.
فالحاصل أن قياس الإيمان على القيام والقعود باطل، لأنه قياس مع الفارق، وتمثيل في غير محله، وخارج عن الموضوع والله أعلم.
الدليل الثاني:
"إن من فرق بين الاستثناء في كونه مؤمنا عنده، وبين الاستثناء في كونه مؤمنا عند الله ... ".
الجواب عنه:
يقال: إن هذه الشبهة مبنية على أساسين:
الأول: أنه ظن أن الاستثناء في الإيمان لأجل الموافاة والخاتمة، لا لأجل الإيمان الموجود الآن.
الثاني: أنه لا فرق بين كون الرجل مؤمنا عند نفسه وبين كونه مؤمنا عند الله.
وكلا هذين الأساسين ممنوع:
أما الأول: فلأن سلف هذه الأمة وأئمة السنة لم يقولوا بجواز الاستثناء في الإيمان لأجل الموافاة، والخاتمة، وليس هذا مأخذهم في جواز الاستثناء قطعا، وهذا خارج عن محل النزاع، بل محل النزاع هو الإيمان الحالي الموجود الآن، فكان سلف هذه الأمة وأئمة السنة يرون جواز الاستثناء في الإيمان الموجود بقطع النظر عن الموافاة والخاتمة لئلا يقع الإنسان في تزكية نفسه بدون علم.
والذي ظن أن السلف إنما كانوا يجوِّزون الاستثناء في الإيمان، إنما أرادوا الموافاة والخاتمة فقد أبعد النجعة وأتى بالباطل وكذب على سلف
(1/420)
________________________________________
هذه الأمة أو أخطأ عليهم في بيان تفسير مأخذهم ظنا منه أن هذا هو مذهب السلف، فأخطأ في بيان مذهبهم، ومثل هذا قد وقع فيه بعض الكلابية والأشعرية بل بعض من ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد وغيرهم أيضا، مع أن كلام بعض السلف صريح في أن الاستثناء في الإيمان لأجل أن ألا يقع الإنسان في تزكية نفسه، ولم يقل أحد منهم إن الاستثناء لأجل الموافاة والخاتمة 1.
وأما الثاني: فلا شك أن الرجل يكون مؤمنا عند نفسه ولا يكون مؤمنا عند الله، كالذي يرتكب شركا أكبر أو غيره من نواقض الإسلام ومع ذلك يظن أنه مؤمن وهذا واضح أفلا يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر؟ فكيف مع ذلك يقال أن من كان مؤمنا عند نفسه يجب أن يمون مؤمنا عند الله".
ولا شك أن من كان مؤمنا كما أمر الله فهو مؤمن عند الله، ولا يقدح فيه الاستثناء الذي منشؤه الحذر من تزكية النفس، وإنما يقدح فيه الاستثناء الذي منشؤه الشك. ومعلوم أن الاستثناء على هذا الوجه لا يصدر من مؤمن صحيح الإيمان؛ لأن الإيمان والشك لا يجتمعان.
الدليل الثالث:
"إن الله سبحانه وتعالى قد شهد قطعا بالإيمان لمن آمن بالله ورسله بدون استثناء ... ".
الجواب عنه:
يقال: إن قياس شهادة العبد لنفسه بالإيمان بدون استثناء على شهادة الله تعالى للمؤمنين بالإيمان بدون الاستثناء قياس باطل، لأن الله
__________
1 انظر كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ص319، 413، 418، 419، 426.
(1/421)
________________________________________
تعالى لا يقول إلا حقا ولا يشهد إلا على حق واقع، فإذا شهد الله تعالى لشخص أو أشخاص بالإيمان دل ذلك قطعا ويقينا على حصول الإيمان وأنهم مؤمنون. وهكذا شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لشخص بالإيمان دليل على كونه مؤمنا حقا يقينا، أما شهادة الناس بعضهم لبعض بالإيمان، أو شهادة الشخص لنفسه بالإيمان؛ فقد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة، ولهذا أنكر الله تعالى على الأعراب حين ادّعوا الإيمان حين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "سورة الحجرات: الآية14".
فقد ظنوا أنفسهم مؤمنين كغيرهم من المؤمنين المجاهدين الصادقين المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} "سورة الحجرات: الآية15".
ولم يكن هؤلاء الأعراب كذلك.
الدليل الرابع:
" أن الله تعالى مدح المؤمنين بقطعهم بإيمانهم دون استثناء ... "
الجواب عنه:
يقال: ما في هذه الآية خارج عن محل النزاع لأن النزاع في قول القائل: أنا مؤمن إن شاء الله بصيغة اسم الفاعل وبالجملة الاسمية التي تدل على الثبات والدوام فتشعر بالكمال الذي في دعواه تزكية النفس، وأما الجملة الفعلية فهي بخلاف ذلك، ثم إنها في الآية قد وردت في مقام التوسل إلى الله، لا في مقام الإخبار عن النفس في خطاب الناس الذي تدخله الدعوى والفخر. وفي ضوء هذا الفرق بين الجملة الاسمية والفعلية
(1/422)
________________________________________
يجوز أن يقول المرء: آمنت بالله ورسله وكتبه بدون استثناء وقد كان السلف يرون الاستثناء في الإيمان بأن يقول المرء: أنا مؤمن إن شاء الله، ولكن لو قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله لم يحتج للاستثناء.
قال الإمام أبو بكر الخلال جامع علوم الإمام أحمد: "أخبرني أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له: إذا سألني رجل أمؤمن أنت؟
قال: سؤاله إياك بدعة، لا يشك في إيمانك أو قال لا نشك في إيماننا.
قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاووس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله"1.
وهذا لأن المرء إذا قصد الإيمان المطلق الكامل ينبغي له أن يستثني، وإذا قصد مطلق الإيمان فلا يحتاج إلى الاستثناء. قال شيخ الإسلام: " ... فلما علم السلف مقصدهم ـ يعني كيد المرجئة ـ صاروا يكرهون الجواب ـ أي جواب قولهم أمؤمن أنت ـ أو يفصلون في الجواب، وهذا لأن لفظ الإيمان فيه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم أنه شاهد فيه لنفسه بالكمال، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب عن المطلق بلا استثناء يقدمه" 2.
__________
1 السنة للخلال ص601 وقال محققها: إسناده صحيح ونقل كلام الإمام أحمد هذا بهذا الإسناد بالجزم شيخ الإسلام في كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/449.
2 كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/448، 449.
(1/423)
________________________________________
وقال: فصل:
وأما الاستثناء في الإيمان ... فالناس فيه على ثلاثة أقوال:
منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، وهذا أصح الأقوال ... "1.
فتبين بهذا أن قول السلف في الاستثناء راجع إلى أن الإيمان يزيد وينقص فلما كان الإيمان منه مطلق ومقيد فهو على مرتبتين: مرتبة الإيمان المطلق الكامل، ومرتبة مطلق الإيمان؛ فأجازوا الاستثناء في الأول دون الثاني.
الدليل الخامس:
"إن الاستثناء يرفع جميع العقود نحو الطلاق والعتاق والنكاح والبيع فكذلك يرفع عقد الإيمان".
الجواب عنه:
أن يقال هذا من التلبيس، فإنه ليس النزاع في الاستثناء في عقد الإيمان، وهو ما يحصل به الدخول في الإسلام؛ فإن ذلك عقد ينافيه الاستثناء، وإنما النزاع في قول المسلم مخبرا عن نفسه: أنا مؤمن وهذا إخبار وليس بإنشاء.
الدليل السادس:
استدل قاسم بن قطلوبغا بحديث الحارث بن مالك الأنصاري ولفظه: "أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا".
وحديث عبد الله بن زيد الخطمي ولفظه: " إذا سئل أحدكم أمؤمن أنت فلا يشك ".
__________
1 كتاب الإيمان ضمن مجموع الفتاوى 7/429.
(1/424)
________________________________________
وحديث علي بن أبي طالب ولفظه: "كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا عويمر أبو الدرداء فقال: يا نبي الله، إني أقول: أنا مؤمن حقا فقال: يا أبا الدرداء، إن لم تقل حقا فكأنك قلتَ أنا مؤمن باطلا".
الجواب عنه:
أما حديث الحارث بن مالك فأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 3/302 من طريق زيد بن الحباب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم، عن الحارث بن مالك، قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه"1.
فيظهر لي أنه أراد بمن يحتاج إلى الكشف عنه محمد بن الجهم فلم أر من ترجم له سوى الحافظ ابن حجر، إذ ذكره في القسم الرابع من الإصابة وقال: إنه من أتباع التابعين 2. وعلى هذا فإسناد هذا الحديث منقطع؛ إذ محمد بن الجهم لم يدرك أحدا من الصحابة. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 11/129 ح"2114" من طريق معمر عن صالح بن مسمار وجعفر بن برقان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للحارث بن مالك، وأخرجه ابن المبارك في كتاب الزهد ص106 ح"314" من طريق معمر عن صالح بن مسمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك، وأورده ابن حجر في الإصابة وقال: "هو معضل" 3.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 11/43 ح"10474" وفي كتاب
__________
1 مجمع الزوائد 1/57.
2 الإصابة 6/330.
3 1/303. والمعضل هو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر بشرط التوالي وإن لم يكن بالتوالي فهو منقطع. انظر تدريب الراوي 1/211.
(1/425)
________________________________________
الإيمان ص38 من طريق ابن نمير عن مالك بن مغول عن زبيد. قال الألباني في حاشيته على كتاب الإيمان لابن أبي شيبة: "والحديث معضل فإن زبيدا من الطبقة السادسة التي لم تلق أحدا من الصحابة".
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار 1/26 ح"32"، والبيهقي في الشعب كما في الإصابة 1/303 كلاهما من طريق يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس بن مالك.
قال البزر على أثره: "تفرد به يوسف وهو لين الحديث".
وقال الهيثمي: "رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به" 1.
وقال البيهقي كما في الإصابة: "منكر وقد خبط فيه يوسف فقال: مرة: الحارث، وقال مرة: حارثة" 2.
قلت: يوسف بن عطية قال عنه الحافظ في التقريب: "متروك" 3.
وأما حديث عبد الله بن زيد الخطمي فأخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد 1/55، وقال عنه الهيثمي: "وفي إسناده أحمد بن بديل وثقه النسائي وأبو حاتم وضعفه آخرون".
قلت: قال فيه الحافظ في التقريب: "صدوق له أوهام" 4.
لكن الحديث لو صح؛ لم يكن دليلا على منع الاستثناء في الإيمان الذي يقول به أهل السنة، بل على منع الاستثناء الذي يتضمن الشك والتردد في الإيمان، وهو محرم عند الجميع، لأنه يناقض الإيمان. فالحديث يدل
__________
1 مجمع الزوائد 1/57.
2 الإصابة 1/303.
3 2/38
4 التقريب 1/11.
(1/426)
________________________________________
على منع الشك في الإيمان، لا على منع الاستثناء الذي يقول به أهل السنة خوفَ التزكية بدون علم مع عدم "الشك" في الإيمان. وهذا الحديث لا ينافي الاستثناء فضلا عن أن الاستدلال بهذا الحديث باطل.
وأما حديث علي فأخرجه غنجار في تاريخ بخارى، كما في حاشية ابن قطلوبغا على المسايرة 1، ولم يذكر إسناده حتى ينظر فيه، وحسبه أنه غير صحيح؛ لأنه يستبعد أن يكون هناك حديث مرفوع إسناده صحيح وتهمله جميع دواوين السنة ليحفظه لنا غنجار في تاريخ بخاري، ثم إن لفظه أشبه بلفظ الأحاديث الموضوعة البعيدة عن حسن بيانه صلى الله عليه وسلم وفصاحة تعبيره. ثم إن المستدل به لا يقول بمقتضاه وهو وجوب قول العبد: أنا مؤمن حقا بل يكفي عندهم قول: أنا مؤمن.
فواعجبا لأهل الكلام يقولون: إن أخبار الآحاد ظنية فلا يحتجون بها في العقائد، ثم يحتجون بمثل هذا الحديث الذي لا يعرف في كتب السنة المسندة، أليس هذا تناقضا واضحا؟.
وبعد فقد تبين مما تقدم ضعف القول بتحريم الاستثناء في الإيمان، كما هو قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه. ويقابل هذا القول قول طائفة أوجبت الاستثناء، لأن الإيمان عندهم هو ما يموت عليه صاحبه، والإنسان لا يعلم هل يموت مؤمنا أو كافرا، ولا يعتدون بالإيمان السابق قبل الموافاة 2. فعلى هذا الاعتبار قالوا بوجوب الاستثناء، ونسبه شيخ الإسلام إلى الكلابية وغيرهم ممن يرون الاستثناء مع القول بعدم تفاضل الإيمان ... قال شيخ الإسلام: "وهذا المأخذ مأخذ كثير من
__________
1 2/229.
2 مجموع الفتاوى 7/429، 430.
(1/427)
________________________________________
المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله؛ ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه وإنما يشك في المستقبل" 1.
فدعوى أن الإيمان المعتبر عند الله هو ما يوافي عليه العبد ربه، وأنه لا عبرة به قبل ذلك غير صحيحة، وطرد هذا أن الكافر ليس بكافر في الحال إلا بشرط أن يموت على الكفر، ثم إن هذا المعنى ليس هو تعليل السلف فهم لم يوجبوا الاستثناء لأجل هذا، وإنما قالوا بوجوبه خشية تزكية الإنسان لنفسه بدون علم. فالموافاة عندهم شرط بالفوز ودخول الجنة، لا شرط في ثبوت الإيمان في الحال.
وهناك مأخذ ثان: وهو أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله 2.
فهذا المأخذ يقتضي وجوب الاستثناء لكن لا يمنع من ترك الاستثناء إذا أريد أصل أو مطلق الإيمان. وقول الطائفتين خطأ. القول بتحريم الاستثناء مطلقا أو وجوبه مطلقا، والمذهب الحق هو الوسط؛ فلا إفراط ولا تفريط وهو الذي عليه السلف؛ فأجازوا الاستثناء باعتبار، ومنعوه باعتبار آخر، فأجازوه خوف تزكية الإنسان نفسه، ومنعوه إذا أراد المستثني الشك في أصل إيمانه 3.
__________
1 مجموع الفتاوى 7/430.
2 مجموع الفتاوى 7/446.
3 انظر كتاب الشريعة ص136، شرح العقيدة الطحاوية ص334.
(1/428)
________________________________________
قال الآجري: "من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم الاستثناء في الإيمان لا على جهة الشك نعوذ بالله من الشك في الإيمان، ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال بالإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟ وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سألوا: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار وأشباه هذا، والناطق بهذا، والمصدق به بقلبه مؤمن، وإنما الاستثناء بالإيمان لا يدري أهو ممن يستوجب ما نعت الله عزَّ وجلَّ به المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول والتصديق بالقلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك وبينه العلماء من قبلنا ... "1.
ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن السلف سلكوا مسلكا وسطا في الاستثناء وتركه، وفصلوا في ذلك، فلم يقولوا بتحريم الاستثناء مطلقا كقول المرجئة، ولا بوجوب الاستثناء مطلقا كقول الكلابية، وإنما أوجبوه في حال، ومنعوه في حال، مستدلين بأدلة 2 من الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} "سورة الفتح: الآية27".
__________
1 كتاب الشريعة ص136.
2 انظر هذه الأدلة في كتاب الشريعة ص136-140؛ وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/965-985.
(1/429)
________________________________________
وقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا} "سورة الكهف: الآيتان 23-24".
أما من السنة النبوية فحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" 1.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" 2.
وورد الاستثناء عن بعض الصحابة والتابعين من ذلك ما رواه أو عبيد القاسم بن سلام: "أن رجلا قال عند ابن مسعود: أنا مؤمن فقال ابن مسعود: أأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى" 3.
وروى اللالكائي عن جرير بن عبد الحميد قال: "كان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسييب
__________
1 أخرجه مسلم كتاب الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها 2/669 ح"102" من طريق عطاء ابن يسار عن عائشة.
2 أخرجه البخاري كتاب الدعوات باب لكل نبي: دعوة مستجابة 11/96 ح"304" من طريق الأعرج عن أبي هريرة، ومسلم كتاب الإيمان باب اختيار النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته 1/188 ح"334" من طريق أبي سلمة بن عبد الله عن أبي هريرة.
3 كتاب الإيمان للقاسم بن سلام ص67.
(1/430)
________________________________________
وابن شبرمة 1 وسفيان الثوري وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني" 2.
وروى الآجري عن الفضل بن زياد قال: "سمعت أبا عبد الله ـ أحمد بن حنبل ـ يقول: إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله فليس بشاك، قيل له: إن شاء الله أليس هو شك فقال: معاذ الله أليس قد قال الله عزَّ وجلَّ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} "سورة الفتح: الآية27".
وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله فأي شك ها هنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 3 ... " 4.
إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة، فالمقصود أن من أوجب الاستثناء مطلقا؛ فقد بالغ في إثبات الاستثناء وأفرط في ذلك، ومن حرم الاستثناء مطلقا واستند إلى دعوى لم تصح وهي أن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي فحسب؛ فقد غالط وخالف النصوص وفرق. وأما من يوجبه في حال ويمنعه في حال آخر؛ فهو أسعد الناس بالدليل لحرصه على مسايرة النصوص الشرعية واتباع ما تدل عليه دون إفراط ولا تفريط.
__________
1 هو عبد الله بن شبرمة بضم المعجمة وسكون الموحدة وضم الراء ابن الطفيل بن حسان الضبي الكوفي قال عنه ابن حجر: "أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه من الخامسة مات سنة أربع وأربعين ومائة".
تقريب التهذيب 1/422. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 5/250.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/979.
3 تقدم تخريجه.
4 كتاب الشريعة ص138.
(1/431)
________________________________________
الفصل الرابع: علاقة الإسلام بالإيمان
اختلف الناس في مسمى الإيمان والإسلام على مذاهب:
أحدها: أن الإسلام والإيمان شيء واحد وهما مترادفان، وهذا قول البخاري على ما قاله الحافظ ابن حجر في الفتح 1 والمزني 2، والمروزي 3، وابن مندة 4، وابن عبد البر 5 والبغوي 6 وأبو يعلى 7.
الثاني: التفريق بين الإسلام والإيمان، فالإسلام الكلمة، والإيمان العمل. وهذا قول الزهري 8.
__________
1 فتح الباري 1/114.
2 مسند أبي عوانة 1/49.
3 تعظيم قدر الصلاة 1/418، 2/506، 535.
4 الإيمان لابن مندة 1/321.
5 التمهيد 9/247-250.
6 شرح السنة 1/10.
7 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص429.
8 مختصر سنن أبي داود 7/49.
(1/433)
________________________________________
الثالث: قول طائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الستة، ذكره ابن أبي العز 1 ولم ينسبه لأحد.
الرابع: ان النسبة بين الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق. فالإسلام أعم مطلقا والإيمان أخص مطلقا، وذلك أن الإسلام اسم لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسم لما بطن من الاعتقاد كما في حديث جبريل. فدل على أن المسلم قد يكون مؤمنا. وقد لا يكون مؤمنا أما المؤمن فهو مسلم في جميع الأحوال، فالمسلم أعم مطلقا والمؤمن أخص مطلقا. فكل مؤمن مسلم ولا عكس إذ يجوز أن يكون مسلما ولا يكون مؤمنا. وإليه ذهب الإمام أبو سليمان الخطابي 2.
الخامس: أن الإيمان والإسلام يتفقان في موطن إذا أفردا ويختلفان في موطن آخر إذا ذكرا معا، فقد يطلق الإسلام ويراد به ما يشمل الإيمان، ويطلق الإيمان ويراد به ما يشمل الإسلام كذلك، وقد يذكر الإسلام ولا يراد به الإيمان وقد يطلق الإيمان ولا يراد به الإسلام.
وحاصل هذا المذهب أن الإسلام والإيمان إذا افترقا اجتمع مدلولهما، وإذا اجتمعا اختلف مدلولهما، وهذا قول أبي بكر الإسماعيلي 3 وابن الصلاح 4 وشيخ الإسلام 5 وابن رجب 6 وابن
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص 382.
2 مختصر سنن أبي داود 7/49، 50..
3 جامع العلوم والحكم 1/64.
4 شرح مسلم للنووي 1/147-148.
5 انظر كتاب الإيمان ص246، 257.
6 جامع العلوم والحكم 1/67، 72.
(1/434)
________________________________________
أبي العز 1. أما أبو حنيفة فهل الإسلام والإيمان عنده بمعنى واحد؟ أم أن أحدهما غير الآخر؟
فالذي ورد في الفقه الأكبر برواية ابنه حماد ما حاصله أن الإسلام والإيمان بينهما فرق من ناحية اللغة، فالإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله، والإيمان هو التصديق كما تقدم تقرير مذهبه، فيطلق الإسلام على الأعمال ظاهرة والإيمان على التصديق.
وأما من ناحية الشرع فبين الإسلام والإيمان تلازم فلا يوجد إسلام بلا إيمان ولا إيمان بلا إسلام.
قال أبو حنيفة: "والإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى، فمن طريق اللغة فرق بين الإسلام والإيمان، ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام، ولا يوجد إسلام بلا إيمان فهما كالظهر مع البطن. والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها 2" 3.
وهذا يدل دلالة صريحة على المغايرة بين مسمى الإيمان والإسلام في اللغة لكنهما في الشرع متلازمان.
هذا وقد شرح المغنساوي كلام الإمام أبي حنيفة هذا على وفق ما تقدم ذكره وكذا القاري4.
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص383-384.
2 الفقه الأكبر ص304، 305.
3 لم أقف على مثل هذا الكلام في الكتب الأخرى عن أبي حنيفة، ومن المعلوم أن الفقه الأكبر لم يثبت أن كل ما فيه من كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا سيما مثل هذه المباحث الكلامية الدقيقة الغامضة التي لم تكن في الصدر الأول، وإنما وجدت بعد تطور التأليف والتدوين في علم الكلام والتفريعات والتخريجات على كلام الأئمة.
4 شرح الفقه الأكبر ص130، 131.
(1/435)
________________________________________
وزاد المغنساوي قائلا في شرح كلام أبي حنيفة: "ولا يوجد إسلام بلا إيمان: لأن الإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى وذلك لا يوجد إلا بعد التصديق والإقرار، فلا يعقل بحسب الشرع مؤمن ليس بمسلم، أو مسلم ليس بمؤمن، وهذا مراد القوم بترادف الاسمين واتحاد المعنى" 1.
قلت: مراده بالقوم هاهنا الحنفية الماتريدية ومعنى ترادف الاسمين مع اتحاد المعنى أن يكون لمسمى واحد اسمان فما فوق.
قال الجرجاني: "الترادف عبارة عن الاتحاد في المفهوم وقيل: هو توالي الألفاظ المفردة على شيء واحد باعتبار واحد" 2.
أما الحنفية الماتريدية فنجد بعضهم يصرح بأن الإسلام والإيمان مترادفان: منهم أبو المعين النسفي فقد قال: "فصل. وإذا عرف أالإيمان هو التصديق؛ عُرف أن الإيمان والإسلام واحد. والاسمان من قبيل الأسماء المترافة وكل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم" 3.
ونرى بعضهم يصرح بأنهما واحد، كنور الدين الصابوني فقد قال: "ثم إن الإسلام والإيمان واحد عندنا خلاف أصحاب الظواهر وذلك أن الإيمان تصديق الله تعالى فيما أخبر من أمره ونواهيه والإسلام هو الانقياد
__________
1 شرح الفقه الأكبر للمغنساوي ص35. يعني المغنساوي أن المراد من الترادف الواقع في كلام أبي حنيفة ليس هو الترادف الاصطلاحي وهو كون الاثنين لمسمى واحد كالأسد والغضنفر لهذا الحيوان المفترس، بل يقصد أبو حنيفة بالترادف التلازم بمعنى أن الإيمان لا ينفك عن الإسلام وهما متلازمان في الوجود شرعا وإن كان بينهما اختلاف في المفهوم لغة.
2 التعريفات ص77، ط / دار الكتاب العربي.
3 تبصرة الأدلة ص341/أ.
(1/436)
________________________________________
والخضوع للألوهية فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكما فلا يتغايران" 1.
وعمر النسفي فقد قال: "والإيمان والإسلام واحد" 2.
وقال التفتازاني 3 في تعليل هذا القول: عين ما نقلت عن الصابوني آنفا وهكذا عبد الله النسفي فقد صرح بأنهما واحد، وقال في تفسيره لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} "سورة الذريات: الآيتان 35-36".
قال: "وفيه دليل على أن الإسلام والإيمان واحد" 4.
والذي يظهر لي أن هؤلاء الذين قالوا بالترادف لا يقصدون الترادف الاصطلاحي بمعنى أن الإسلام والإيمان اسمان لمسمى واحد، بل يقصدون أن الإسلام والإيمان في الشرع لا ينفك أحدهما عن الآخر، فهما متلازمان. وهذا يوافق ما قاله أبو حنيفة في الفقه الأكبر، ولذلك قال المغنساوي في التوفيق بين قول من قال بالترادف ومن قال بالتلازم: "وهذا مراد القوم بترادف الاسمين واتحاد المعنى" 5.
وقد علمنا مما تقدم من قول الصابوني، وشارح الفقه الأكبر المغنساوي أن معنى ترادف الإسلام والإيمان كونهما متلازمين، فيرجع هذا القول في المعنى إلى ما تقدم عن الإمام أبي حنيفة من التغاير مع التلازم بين الإسلام والإيمان. أما ما ذكره أبو المعين النسفي فلا يتفق مع مذهب
__________
1 البداية ص157.
2 العقيدة النسفية مع شرحها للتفتازاني ص128 ط/ الهندية..
3 العقيدة النسفية مع شرحها للتفتازاني ص128.
4 مدارك التنزيل 3/419.
5 شرح الفقه الأكبر للمغنساوي ص35.
(1/437)
________________________________________
أبي حنيفة ويلزم منه على قوله أن الإيمان هو التصديق، وأن الإسلام كذلك هو التصديق.
قال ابن أبي العز في مناقشة القول بأن الإسلام والإيمان مترادفان: "وطائفة جعلوا الإسلام مرادفا للإيمان ... مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد فيكون الإسلام هو التصديق، وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة وإنما هو الانقياد والطاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت" 1 ... "2.
واستدل أبو المعين النسفي بما يأتي:
1- قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} "سورة آل عمران: الآية85".
2- قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} "سورة آل عمران: الآية19".
3- قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} "سورة الذريات: الآيتان 35-36".
4- وقوله تعالى حكاية عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} "سورة يونس: الآية84".
5- وقوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} "سورة الروم: الآية53".
__________
1 أخرجه البخاري كتاب قيام الليل باب التهجد 3/2 ح"1120"، ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل 1/533 ح"769"، كلاهما من طريق طاوس عن ابن عباس.
2 شرح العقيدة الطحاوية ص382، 3853.
(1/438)
________________________________________
6- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة" 1، وفي رواية: "إلا نفس مسلمة"2.
الجواب عن أدلة أبي معين النسفي:
"أ" أن يقال: إن غاية ما في هاتين الآيتين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ ... } {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} أن كل دين غير دين الإسلام باطل. وليس فيهما إشارة إلى أن الإسلام المذكور في هاتين الآيتين هو الإسلام الشرعي المتضمن للإيمان الشرعي. وليس المراد بالإسلام في هاتين الآيتين الانقياد ظاهرا فقط، فلا دلالة في هذه الآية على أن الإسلام والإيمان مترادفان.
"ب" أما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
فغاية ما في هذه الآية جواز إطلاق المؤمن على المسلم وليس فيهما إشارة إلى ترادفهما.
قال ابن أبي العز: "فلا حجة فيه لأن أهل البيت المُخرَج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادف" 3.
وأيضا رد هذا الاستدلال أحد أئمة الحنفية الماتريدية الهندية
__________
1 أخرجه أحمد 1/79، والترمذي كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة 5/276 ح"3092"، والحاكم في المستدرك 4/178، جميعهم من طريق زيد بن يثبع عن علي بن أبي طالب. قال الترمذي: "هذا حديث حسن" وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي.
2 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه 1/105، 106 ح"178" من طريق ابن المسيب عن أبي هريرة.
3 شرح العقيدة الطحاوية ص387 ط دار البيان.
(1/439)
________________________________________
عبد العزيز الفريهاري حيث قال: "الاستثناء لا يلزم اتحاد االمستثنى والمستثنى منه، بل يجوز أن يكون الأول أعم، كقولك أخرجنا العلماء فلم نجد إلا النحاة" 1.
"ج" وأما الاستدلال بقوله تعالى حكاية عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} "سورة يونس: الآية84".
وقوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} "سورة الروم: الآية53".
يقال: غاية ما في هاتين الآيتين صحة إطلاق المسلم على المؤمن لأن الإسلام والإيمان مترادفان أعني أن هؤلاء كانوا مسلمين مؤمنين ولا يلزم من ذلك الترادف بين الإسلام والإيمان، أو أن كل مؤمن مسلم، كإطلاق الكتاب على القرآن فهما ليسا مترادفين؛ إذ كل منهما يدل على معنى في القرآن، وإن كان المسمى واحدا وهو كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} "سورة الروم: الآية53".
ففيه أن من آمن الإيمان الشرعي المتضمن الإقرار والعمل، فلا شك أنه مسلم لكن ليس فيه دليل على كون الإيمان والإسلام مترادفين.
قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآية: "لأن الذي يؤمن بآياتنا إذا سمع كتاب الله تدبره وفهمه وعقله وعمل بما فيه وانتهى إلى حدود الله الذي حد فيه فهو الذي سمع السماع النافع" 2.
__________
1 النبراس ص413.
2 تفسير ابن جرير 21/56.
(1/440)
________________________________________
"د" وأما الاستدلال بحديث: "لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة"، وفي رواية: "إلا نفس مسلمة".
يقال: غاية ما في هذا الحديث جواز إطلاق المؤمن على المسلم وبالعكس، لكن هل فيه أن الإسلام والإيمان مترادفان، بمعنى أنهما اسمان لمفهوم واحد؟
لأن النفس المؤمنة التي تدخل الجنة هي مسلمة، وكذا النفس المسلمة التي تدخل الجنة هي مؤمنة. وليس المراد من الإسلام الانقياد ظاهرا كإسلام المنافقين، كما أنه ليس المراد من الإيمان مجرد التصديق بدون العمل والإقرار؛ فهذا لم يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الذي صدق بقلبه فقط ولم يقر بلسانه ولم يعمل بالأركان فهذا ليس من المؤمنين، كما أنه ليس من المسلمين؛ فلا يدخل الجنة.
الترجيح:
الذي يظهر لي أن الراجح قول من يقول إن الإسلام والإيمان يتفقان في موطن ويختلفان في موطن آخر، فقد يطلق الإيمان ويراد به الإسلام، وبالعكس، وقد يطلق الإسلام على الأعمال الظاهرة، ويطلق الإيمان على الأعمال القلبية؛ لأنه قول وسط وبه تجمع النصوص الشرعية المختلفة، لأن للإيمان حقيقة لغوية وحقيقة شرعية، وهكذا للإسلام حقيقة لغوية وحقيقة شرعية. فباعتبار الحقيقة اللغوية يفترق الإسلام والإيمان، وباعتبار الحقيقة الشرعية يتضمن الإيمان الإسلام.
وكذا يستلزم الإيمان الإسلام هذا مقتضى النصوص الواردة في الكتاب والسنة.
وحاصل هذا المذهب أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا اختلفا في
(1/441)
________________________________________
مدلولهما وإذا افترقا اجتمعا في مدلولهما، وذلك مثل ألفاظ الفقير مع المسكين والبر مع التقوى والفحشاء مع المنكر، والخير والمعروف، والإثم والعدوان 1 ونحوهما من الألفاظ التي فيها اشتراك في موطن وافتراق في موطن آخر بحسب التقييد والإطلاق. فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل؛ ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال القلبية، فالإسلام في هذا الحديث الإيمان المقيد باعتقاد القلب، وليس المراد من الإسلام والإيمان الإيمان المطلق، والإسلام المطلق، لأن الإيمان المطلق يتضمن الإسلام والإسلام المطلق يتضمن الإيمان.
ففي حديث جبريل لما اجتمع الإسلام والإيمان افترق مدلوهما وترى في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} "سورة آل عمران: الآية19" ذكر الإسلام بدون الإيمان.
فالمراد من الإسلام هنا الإسلام المطلق الشامل للإيمان، لأنه ليس المراد الإسلام الظاهر فقط، بل المراد الإسلام الذي يشمل الأعمال الظاهرة والأعمال القلبية، وهكذا لفظ الإيمان في حديث: "لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة" يراد به الإيمان المطلق المتضمن للإسلام، وليس المراد بالإيمان هنا الإيمان المقيد الذي هو التصديق بالقلب فقط دون الإقرار باللسان والعمل بالأركان، ولذلك صح لنا أن نقول: إذا افترق الإيمان والإسلام اتفق مدلولهما. ثم يجب ألا يفهم أحد من قولنا: إذا اجتمعا افترقا أن الفرق بين الإسلام والإيمان فرق التباين والمغايرة الضدية بحيث لا يجتمعان في محل واحد كما هو الشأن في المتضادين المتباينين، لأن هذا المعنى ليس
__________
1 انظر كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ص153-159، وشرح العقيدة الطحاوية ص392، ط. المكتب الإسلامي.
(1/442)
________________________________________
المقصود من التفريق، بل المراد من هذا التفريق بين الإسلام والإيمان أن لكل واحد مسمى غير الآخر مع التلازم بينهما تلازم الروح والبدن، فقد شبه شيخ الإسلام التلازم والتباين بين الإسلام والإيمان بالروح والبدن، فالروح شيء والبدن شيء إلا أنه لا حياة للبدن بلا روح والروح لا بد لها من بدن. فالإيمان كالروح والإسلام كالبدن فهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما غير الآخر 1.
قال ابن أبي العز مبينا ارتباط الإسلام والإيمان: "لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذاً لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه" 2.
فالمقصود أن الفرق بين الإسلام والإيمان ليس للتضاد والتباين بل لأجل أن لكل منهما حقيقة لغوية وشرعية يجب اعتبارها، مع التلازم بينهما بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر كالشهادتين، لأنه لكل من الشهادتين 3 حقيقة غير حقيقة الأخرى، مع التلازم بينهما، وعدم انفكاك إحداهما عن الأخرى.
__________
1 مجموع الفتاوى 7/367.
2 شرح العقيدة الطحاوية ص392، ط/ المكتب الإسلامي ط/ الخامسة.
3 شرح العقيدة الطحاوية ص392، ط/ المكتب الإسلامي.
(1/443)
________________________________________
الفصل الخامس: حكم مرتكب الكبيرة
تمهيد
في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر وتعريف الكبيرة والصغيرة:
اختلف العلماء في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر على قولين:
1- ذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أن من الذنوب كبائر وصغائر 1.
2- وشذت طائفة فقالت: إن جميع الذنوب كبائر ليس فيها صغائر 2.
ونسب هذا القول إلى الخوارج القاضي عبد الجبار 3، ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية 4، ونسب النووي والحافظ ابن حجر هذا القول
__________
1 شرح مسلم للنووي 2/85؛ وفتح الباري 10/409؛ والمرقاة في شرح المشكاة 1/121.
2 انظر فتح الباري 10/409؛ والمراعاة 1/121.
3 انظر شرح الأصول الخمسة ص632.
4 انظر فتح الباري 10/409.
(1/445)
________________________________________
إلى أبي إسحاق الإسفراييني. وقال أيضا: "وحكى القاضي عياض هذا المذهب عن المحققين" 1.
ونسب الحافظ ابن حجر هذا القول إلى الباقلاني وأصحابه 2.
قلت: روي هذا أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه 3، ولكن قال القرطبي على ما قاله الحافظ: "ما أظنه يصح عن ابن عباس؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر" 4.
قلت: لو سلمت صحته؛ فيحمل على قوله الآخر المفسر المفصل في تحديد الكبيرة 5.
وقد تفلسف إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني فقال: "كل ذنب كبيرة بالنسبة إلى حق الله تعالى، وإن كان في الذنوب تفاوت في الصغر والكبر فيما بينهما" 6.
وقد نوه الحافظ ابن حجر بكلام الجويني هذا بعض التنويه 7. ولكن الحقيقة أن كلامه هذا من قبيل القياس الفلسفي، بل الحق أن من الذنوب كبائر وصغائر.
قال أبو حامد الغزالي: "إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه" 8.
__________
1 شرح مسلم للنووي 2/84؛ وفتح الباري 10/409.
2 انظر فتح الباري 10/409.
3 رواه ابن جرير في تفسير 5/40.
4 فتح الباري 10/410.
5 انظر حد الكبيرة عند ابن عباس في تفسير ابن جرير 5/4.
6 انظر الإرشاد ص328؛ وشرح الإرشاد لأبي بكر الميموني ص631، 632.
7 انظر فتح الباري 10/409، 410.
8 شرح مسلم للنووي 2/85؛ وفتح الباري 10/409؛ عن كتاب البسيط للغزالي.
(1/446)
________________________________________
وقال النووي والحافظ ابن حجر: "وقد تظاهر على ذلك ـ أي على الفرق ـ دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها" 1.
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: "الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف" 2.
وقال في المدارج: "الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن وإجماع السلف" 3.
أما القرآن فقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} "سورة النساء: الآية31".
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} "سورة النجم: الآية32".
أما من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرّات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" 4.
ثم اختلف القائلون بانقسام الذنوب في حد الكبيرة والصغيرة على ضربين:
الأول: من حصر الكبيرة في عدد معين ثم اختلفوا فقيل: هي
__________
1 شرح مسلم للنووي 2/85؛ وانظر فتح الباري 10/409؛ والمرقاة 1/121.
2 الجواب الكافي ص186.
3 مدارج السالكين 1/342.
4 أخرجه مسلم كتاب الطهارة باب الصلوات الخمس 1/209 ح"233"، من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة.
(1/447)
________________________________________
ثلاث 1 وقيل: هي أربع 2 وقيل: هي سبع 3 وقيل: هي تسع 4 وقيل: هي إحدى عشرة 5 وقيل: هي سبع عشرة 6 وقيل: سبعون 7 وقيل: سبعمائة.
ولا يخفى أن حصر الكبائر بعدد معين لا وجه له ولا دليل عليه. وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الذنوب بأنها من الكبائر، فقد قال عليه السلام: "اجتنبوا السبع الموبقات " 8.
وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور" 9.
وقال: "من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" 10.
__________
1 روى ذلك ابن جرير عن عبد الله بن مسعود 5/41.
2 روى ذلك ابن جرير عن عبد الله بن مسعود 5/41.
3 روى ذلك ابن جرير عن علي رضي الله عنه 5/37.
4 روى ذلك ابن جرير عن عمر رضي الله عنه 5/39.
5 الجواب الكافي ص188.
6 قال أبو طالب المكي: "أربع في القلب وأربع في اللسان وثلاث في البطن واثنتان في الفرج واثنتان في اليدين وواحدة في الرجلين وواحدة في جميع البدن". انظر الجواب الكافي ص188.
7 رواه ابن جرير عن ابن مسعود 5/41. وانظر الجامع لأحكام القرآن.
8 أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 5/393 ح"776" من طريق أبي الغيث عن أبي هريرة.
9 أخرجه البخاري كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر 10/403 ح"5976"، من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه.
10 أخرجه البخاري كتاب الأدب باب لا يسب الرجل والديه 10/403 ح"5973"، ومسلم كتاب الإيمان باب بيان الكبائر 1/92 ح"90".
كلاهما من طريق حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو.
(1/448)
________________________________________
الضرب الثاني: من عرّف الكبيرة بضابط دون ذكر عدد معين، ثم اختلفوا فقيل: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب فهو كبيرة 1.
وقيل: الكبائر ما كان فيه من المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما كان بينك وبين الله 2.
وقيل: كل معصية يقدِم عليها المرء من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والتجرؤ عليها اعتيادا 3 وقيل: كل ذنب عظم عِظَما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة 4.
وقيل: كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر 5.
والراجح: هو أن كل ذنب توعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب فهو كبيرة وهذا أمثل الأقوال قاله ابن أبي العز 6.
ومن أجمع ما قيل في بيانه؛ ما قاله المباركفوري: "والراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب في الآخرة أو ختم بالغضب واللعنة أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه أو وصف فاعله بالفسق فهو كبيرة" 7.
__________
1 روى ذلك ابن جرير عن عبد الله بن عباس 5/41.
2 قاله سفيان الثوري. انظر مدارج السالكين 1/349.
3 قاله أبو حامد الغزالي. انظر شرح مسلم للنووي 2/85.
4 قاله ابن الصلاح. انظر شرح صحيح مسلم للنووي 2/85.
5 شرح العقيدة الطحاوية ص414، د دار البيان.
6 شرح العقيدة الطحاوية ص414.
7 مرقاة المفاتيح 1/12.
(1/449)
________________________________________
قال شيخ الإسلام: " إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه:
أحدها: أنه المأثور عن السلف بخلاف تلك الضوابط فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين.
الثانى: أن الله قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} "سورة النساء:31".
فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنة أو ما يقتضى ذلك فإنه خارج عن هذا الوعد ...
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب فهو حد يتلقى من خطاب الشارع وما سوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله.
الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر ... 1.
وبما ذكر من هذه الوجوه يتبين رجحان هذا القول، وإنه أولى من سائر تلك الضوابط.
وأما الصغيرة فهي خلاف الكبيرة؛ فكل ذنب لم يقترن بوعيد أو حد أو لعن أولم يشدد النكير عليه ولم يوصف فاعله بالفسق فهو صغيرة 2.
__________
1 مجموع الفتاوى 11/654-655.
2 انظر الجواب الكافي ص188.
(1/450)
________________________________________
حكم مرتكب الكبيرة:
نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يخرج من الدين بسبب ارتكابه للكبيرة، وإنما ينقص إيمانه فلا يذهب عنه الإيمان بالكلية، بل يبقى معه مطلق الإيمان، وارتكاب الكبيرة ليس سببا للخلود في النار، إلا الشرك بالله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} "سورة النساء: الآية48".
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليها ما لم تكن الكبيرة شركا بالله" 1.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} "سورة البقرة: الآية178".
فسمى المقتول أخا للقاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} .
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} "سورة الحجرات: الآية9".
فالإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب والكبائر التي دون الشرك2.
__________
1 جامع البيان 5/126.
2 انظر تفسير الكلام المنان 7/134، 135.
(1/451)
________________________________________
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه" 1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} "سورة هود: الآية18"2.
وأدلة الكتاب والسنة جميعها متضافرة على تقرير ذلك، ولقد بوّب البخاري باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك امرؤ فيك جاهلية " 3.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب علامة الإيمان حب الأنصار 1/64 ح"11". ومسلم كتاب الحدود باب الحدود كفارا لأهلها 3/1333 ح"1709". كلاهما من طريق أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله عن عبادة بن الصامت.
2 أخرجه البخاري كتاب المظالم باب قول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 5/96 ح"2441"، ومسلم كتاب التوبة باب قبول توبة القاتل 4/2120 ح"2768"، كلاهما من طريق صفوان بن محرز عن ابن عمر.
3 رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية 1/20، ومسلم في الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك، 3/1282، رقم الحديث: 1661، من طريق المعرور عن أبي ذر.
(1/452)
________________________________________
وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} "سورة النساء: الآية48".
وهذا هو قول أهل السنة والجماعة جميعهم، قال الصابوني قي تقريره لمذهبهم: "ويعتقد أهل السنة والجماعة أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عزَّ وجلَّ إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالما غانما غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم اصطحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عفا عنه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار" 1.
وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة فمرتكب الكبيرة عنده لا يخرج من الدين ولا يذهب الإيمان عنه بالكلية، هذا بالنسبة للتسمية الدنيوية وأما في الآخرة فأمره مفوض إلى الله إن شاء غفر له وعفا عنه برحمته وفضله، وإن شاء عذبه بعدله وحكمته. دل على ذلك قول الإمام أبي حنيفة: "ولا نكفر أحدا بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسميه مؤمنا حقيقة، ويجوز أن يكون مؤمنا فاسقا غير كافر".
إلى أن قال: "وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب منها صاحبها حتى مات مؤمنا فإنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بالنار وإن شاء عفا عنه" 2.
__________
1 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص103، 104، ضمن مجموعة الرسائل الكمالية.
2 الفقه الأكبر ص304.
(1/453)
________________________________________
وقال في الرد على المخالفين في ذلك: "ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، ولا نقول: إنه لا يدخل النار، ولا نقول: إنه مخلد فيها وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا، ولا نقول: إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة، ولكن نقول: من عمل حسنة بجميع شرائطها، خالية من العيوب المفسدة والمعاني المبطلة، ولم يبطلها بالكفر والردة حتى خرج من الدنيا مؤمنا فإن الله تعالى لا يضيعها بل يقبلها منه ويثيبه عليها" 1.
وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، حيث قال: "وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر الله عزَّ وجلَّ في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} "سورة النساء: الآية48".
وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم برحمته وشفاعة الشافعين من أهل الطاعة ثم يبعثهم إلى جنته" 2. وقال الطحاوي في الرد على المخالفين في ذلك: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله"3. وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة هو الحق لدلالة النصوص الشرعية عليه فهي متضافرة على تقريره وتأصيله.
__________
1 الفقه الأكبر ص304.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص45.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 40، 41.
(1/454)
________________________________________
هذا آخر الحديث في حكم مرتكب الكبيرة. وقبل أن أختم الكلام عن اعتقاد الإمام أبي حنيفة في مسائل الإيمان أود أن أبيّن نوع الخلاف بينه وبين السلف هل هو حقيقي؟ أم لفظي؟.
فإلى الأول ذهب الألوسي وعبيد الله المباركفوري والألباني، قال الألوسي: "والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والتصديق بحدوث العالم قلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير. وما عليّ إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه للأدلة الكثيرة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالاتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام"1.
وقال المباركفوري: "وقد ظهر من هذا أن الاختلاف بين الحنفية وأصحاب الحديث اختلاف معنوي حقيقي لا لفظي، كما توهم بعض الحنفية" 2.
وقال الألباني: "وليس الخلاف بين المذهبين اختلافا صوريا كما ذهب إليه الشارح بحجة أنهم جميعا اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان وأنه في مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحا فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان؛ لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته ونقصه بالمعصية مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلك" 3.
__________
1 روح المعاني 9/176.
2 مرقاة المفاتيح 1/37.
3 متن العقيدة الطحاوية بتعليق وشرح الألباني ص42.
(1/455)
________________________________________
والقول الثاني: قال به الغزالي 1 والذهبي 2 وابن أبي العز 3. وفي ذلك يقول ابن أبي العز: "الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزء من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد" 4.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فذهب إلى أن الخلاف لفظي في بعض من المسائل المتنازع فيها، حقيقي في بعضها. وفي ذلك يقول: "إنه لم يكفر أحد، من السلف من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب" 5.
ويقول: " ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء ـ كحماد بن أبى سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم ـ متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: أن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. ويقولون: أيضا أن من
__________
1 كما في روح المعاني 9/167.
2 سير أعلام النبلاء 5/33.
3 شرح العقيدة الطحاوية ص362، ط دار البيان.
4 شرح العقيدة الطحاوية ص362.
5 كتاب الإيمان ص337، ط المكتب الإسلامي.
(1/456)
________________________________________
أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة"1.
قلت: وما ذهب إليه شيخ الإسلام من أن الخلاف في أكثر المسائل الخلافية بين مرجئة الفقهاء وبين بقية أئمة السنة يرجع إلى نزاع لفظي معناه: أن هناك بعض الجوانب يرجع الخلاف فيها إلى نزاع حقيقي، وتفصيل ذلك أن بين مرجئة الفقهاء، ومنهم الإمام أبو حنيفة، وبين بقية أئمة السنة قدرا مشتركا وقدرا مفترقا. فأما القدر المشترك فهو:
"أ" أن الإيمان مركب وليس بسيطا، كما عليه غلاة المرجئة من الكرامية والماتريدية.
"ب" أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا ينفى عنه مسمى الإيمان ولا يخلد في النار بل هو مؤمن فاسق.
"ج" أن الإقرار يزول وقت الإكراه، دون التصديق 2.
"د" أن الاستثناء في الإيمان لا يجوز لأجل الشك.
وأما القدر المفترق فيه:
"أ" أن الإيمان عند أبي حنيفة التصديق بالجنان والإقرار باللسان فقط، وأما عند بقية الأئمة فهو هذان الأمران والعمل بالأركان.
"ب" أن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان عند أبي حنيفة داخلة فيه عند بقية الأئمة.
"ج" أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أبي حنيفة ويزيد وينقص عند بقية أئمة السنة.
__________
1 مجموع الفتاوى 7/297.
2 انظر تفسير النسفي 2/228؛ وتفسير أبي السعود 5/143.
(1/457)
________________________________________
"د" لا يجوز الاستثناء في الإيمان عند أبي حنيفة مطلقا، ويجوز في حال دون حال كما تقدم عند أئمة السنة.
ويظهر لي مما تقدم أن القول بأن الخلاف حقيقي أرجح لما ترتب عليه من وجوه الافتراق المذكورة. وأما قول شيخ الإسلام: " ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي"1.
فليس مقصوده النزاعَ اللفظي الذي لا يترتب عليه خلاف في المعنى، فيكون من قبيل اختلاف التنوع، بل مقصوده أنه نزاع يتعلق بالأسماء وهي من الألفاظ، يدل عليه قوله: "بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب" 2.
__________
1 مجموع الفتاوى 7/297.
2 كتاب الإيمان ص337، ط المكتب الإسلامي.
(1/458)
________________________________________
الباب الرابع: اعتقاده في بقية أصول الدين
وفيه تمهيد وخمسة فصول
الفصل الأول: النبوات.
الفصل الثاني: اليوم الآخر.
الفصل الثالث: القدر.
الفصل الرابع: الصحابة.
الفصل الخامس: الإمامة.
(1/459)
________________________________________
تمهيد
أصول الإيمان التي ذكرها الشارع هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} "سورة البقرة: الآية177".
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} "سورة البقرة: الآية285".
وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} "سورة النساء: الآية136".
وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره" 1.
فهذه أصول الدين التي لا يتم الدين إلا بها فمن لم يؤمن بجميع هذه الأصول أو شك فيها أو حاول التشكيك فيها أو حاول التشكيك في واحدة
__________
1 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام 1/36، 37 من طريق يحيى بن يعمر عن عمر بن الخطاب.
(1/461)
________________________________________
منها كان كافرا بالله العظيم ولا حظّ له في الإسلام ولا نصيب ولا مقام له بين المسلمين بتكذيبه الله ورسوله.
ولإنكاره أمرا معلوما من الدين بالضرورة.
قال أبو حنيفة مبينا هذه الأصول العظيمة التي يصح بها الاعتقاد: "أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه يجب أن يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله تعالى والحساب والميزان والجنة والنار حق" 1.
قال القاري شارحا كلام الإمام: "ويجب" أي يفرض فرضا عينيا بعد ما يحصل علما يقينيا "أن يقول" أي المكلف بلسانه المطابق لما في جنانه: "آمنت" ... والمعنى صدقت معترفا بوجود الله سبحانه وتعالى وتوحيده في ذاته وتفرده في صفاته.
"وملائكته" بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وأنهم معصومون ولا يعصون الله ... ،"وكتبه" أي المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرهما من غير تعيين في عددها، "ورسله" أي جميع أنبيائه ... ، "والبعث" أي الحياة "بعد الموت" قيد يفيد أن المراد به الإعادة بعد فناء هيئة البداية ... ، "والقدر" أي وبالقضاء والقدر "خيره وشره" أي نفعه وضره وحلوه ومره حال كونه "من الله تعالى"، فلا تغيير للتقدير فيجب الرضا بالقضاء والقدر، وهو تعيين كل مخلوق بمرتبته التي توجد من حسن وقبح ونفع وضر وما يحيط به من مكان وزمان وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب"2.
__________
1 الفقه الأكبر ص30.
2 شرح الفقه الأكبر ص19-22.
(1/462)
________________________________________
وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "والإيمان: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، حلوه ومره من الله تعالى: ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله ونصدقهم كلهم على ما جاؤوا به" 1.
وقال: "نؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين" 2.
وقال: "ونؤمن بالكرام الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين" 3.
هذا بيان أصول الدين وأركانه إجمالا. وقد سبق الكلام في الإيمان بالله وتوحيده تفصيلا. أما بيان بقية أصول الدين تفصيلا فسأتناوله في الفصول الآتية.
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص44.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 38.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 50.
(1/463)
________________________________________
الفصل الأول: النبوات
وفيه المباحث التالية
المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول.
المبحث الثاني: آيات الأنبياء.
المبحث الثالث: عصمة الأنبياء.
المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/465)
________________________________________
المبحث الأول: الفرق بين النبي والرسول
النبي لغة: مشتق من النبأ فهو منبئ عن الله أي مخبر. وقيل: مشتق من النبوة وهو ما ارتفع من الأرض1.
والرسول لغة: مشتق من رَسََلَ. وأصل الرسل الانبعاث على التؤدة يقال: ناقة رسلة، سهلة السير، وإبل مراسيل منبعثة انبعاثا سهلا ومنه الرسول المنبعث 2.
هذا من ناحية اللغة. أما الاصطلاح فاختلف أهل العلم في بيان معنى النبي والرسول.
فقيل: إن النبي والرسول مترادفان؛ فكل نبي رسول وكل رسول نبي هذا هو ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة كما قاله القاري 3، واختاره من
__________
1 انظر الصحاح 1/74؛ ومعجم مقاييس اللغة 5/385؛ ولسان العرب 1/162؛ والمفردات ص482.
2 انظر الصحاح 4/1208؛ ومعجم مقاييس اللغة 2/392؛ والمفردات ص195.
3 شرح الفقه الأكبر ص20.
(1/467)
________________________________________
الحنفية ابن الهمام 1 والأوشي 2. وهذا هو ظاهر كلام الجويني 3 والآمدي 4 والأيجي 5 من الأشاعرة والقاضي عبد الجبار 6 من المعتزلة والطبرسي 7 من الشيعة.
فالرسول والنبي واحد فلا فرق بينهما، وإنما جمع بينهما لأن الأنبياء تخص البشر، والرسل تعم الملائكة والبشر 8. وقيل: الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك، والنبي هو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما. قاله الفراء9 والحسن النيسابوري 10 الأعرج
__________
1 شرح الفقه الأكبر ص20. وهو كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن الهمام من كبار فقهاء الحنفية وله مصنفات عديدة من أشهرها فتح القدير قال عنه اللكنوي: "كان إمام نظارا فارسا في البحث فروعيا أصوليا محدثا مفسرا" مات سنة 861هـ، والفوائد البهية ص180؛ وانظر ترجمته في شذرات الذهب 7/298؛ والبدر الطالع 2/201؛ وبغية الوعاة 1/166.
2 شرح الآمالي ص50. وهو علي بن عثمان الأوشي الحنفي له قصيدة مشهورة في أصول الدين والفتاوى السراجية وسمي بدء الأمالي توفي في سنة 569هـ. انظر ترجمته في الجواهر المضية 2/583.
3 الإرشاد ص355.
4 غاية المرام ص317.
5 المواقف ص337.
6 شرح الأصول الخمسة ص567.
7 مجمع البيان 4/119، 120. وهو الفضل بن الحسين الطبرسي الرافضي من مصنفاته مجمع البيان في تفسير القرآن، مات سنة 458هـ، انظر ترجمته في أعيان الشيعة 8/398، وتنقيح المقال 2/7-8.
8 انظر تفسير الماوردي 2/86، ومجمع البيان 4/119، 120.
9 الجامع لأحكام القرآن 12/80.
10 غرائب القرآن 17/109. وهو الحسن بن محمد القمي النيسابوري المفسر النحوي العسقلاني من مصنفاته غرائب القرآن والتفسير مات سنة 827هـ.=
(1/468)
________________________________________
وقيل: النبي إنسان حر ذكر من بني آدم أوحِي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه، والرسول إنسان حر ذكر من بني آدم وأوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، فالنبي أعم من الرسول. وهذا عليه ابن حجر 1 وابن أبي العز 2 واللقاني 3 والسفاريني 4 والقاري 5 وقد ذكر 6 القاري أن هذا هو ما عليه جمهور العلماء.
وقيل: النبي من أتاه الوحي من الله عزَّ وجلَّ ونزل عليه الملك بالوحي، والرسول من يأتي بشرع على الابتداء أو ينسخ بعض أحكام شريعة قبله. فالنبي أعم من الرسول. وهذا عليه البغدادي 7 والسمرقندي 8 وابن عاشور 9 والجاحظ 10.
وقيل: الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه، والنبي من لا كتاب له، كيوشع عليه السلام قاله الزمخشري الحنفي المعتزلي 11.
__________
= انظر ترجمته في بغية الوعاة 1/525؛ وكشف الظنون 2/1195؛ وهداية العارفين 1/283؛ والأعلام 2/216؛ ومعجم المؤلفين 3/281.
1 شرح العقيدة الطحاوية للغنيمي ص65.
2 ش شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص121.
3 شرح الجوهرة ص127.
4 لوامع النوار 1/49.
5 شرح الآمالي ص50.
6 شرح الآمالي ص50.
7 أصول الدين ص154.
8 الصحائف الإلهية ص417.
9 التحرير والتنوير 17/297.
10 تفسير الماوردي 2/87؛ ومجمع البيان 4/119.
11 الكشاف 3/18-19.
(1/469)
________________________________________
وقيل: الرسول هو المبعوث إلى أمة، والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة قاله قطرب 1.
وقيل: الرسول أعم فهو من البشر أو من الملائكة والنبي من البشر خاصة. ذكره صاحب كتاب مرام الكلام ولم ينسبه لأحد 2.
وقيل: إن الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بالتبليغ، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بالتبليغ ذكره الألوسي ولم ينسبه إلى أحد" 3.
قال الفهريهاري: المشهور عند العلماء كما ترى أن النبي أعم من الرسول إلا أنهم لم يأتوا فيه بضابط سالم من الاعتراض والقدح فمن قال: إن الرسول صاحب كتاب منزل عليه، والنبي من لا كتاب له يرد عليه أن الكتب السماوية مائة وأربعة 4 عشر والرسل فوق الثلاثمائة 5.
قلت: كذا قالوا: ولكن رواية عدد الكتب متروكة، ورواية عدد الأنبياء ضعيفة كما سيأتي.
__________
1 هو محمد بن المستنير أبو علي البصري المعروف بقطرب إمام في اللغة والنحو ومن المصنفين فيهما، من تأليفه المثلث قال عنه الخطيب: "أحد العلماء بالنحو واللغة أخذ عن سيبويه وعن جماعة من علماء البصريين ويقال: إن سيبويه لقّبه قطربا، لمباركته إياه في الأسحار قال له يوما: ما أنت إلا قطرب ليل. والقطرب دويبة تدب ولا تفتر" مات سنة 206هـ.
تاريخ بغداد 3/298؛ وانظر ترجمته في لسان الميزان 5/378؛ ونزهة الآباء 119؛ وشذرات الذهب 2/5؛ وتفسير الماوردي 3/87؛ ومجمع البيان4/119.
2 مرام الكلام ص31.
3 روح المعاني 17/173.
4 مرام الكلام ص31؛ والرسالة الجامعة لصالح الكوزة بانكي ص37.
5 انظر مرام الكلام ص31.
(1/470)
________________________________________
قال الفهريهاري أيضا: "ومن قال: "إن الرسول صاحب شرع جديد يقدح فيه أن إسماعيل بنص القرآن رسول وكان على شرع 1 إبراهيم. ومن قال: إن الرسول أعم فهو من البشر أو الملائكة فكلا القولين مدفوعان 2 بحديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا أرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا" 3. قلت
__________
1 انظر مرام الكلام ص31.
2 انظر مرام الكلام ص31.
3 رواه أحمد في المسند 5/265، 266.
عن طريق علي بن يزيد عن القاسم بين عبد الرحمن عن أبي أمامة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 1/159: "مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. قلت: عليّ هذا هو الألهاني الهلالي، قال يحيى بن معين: عليّ بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة ضعاف كلهم.
راجع التهذيب: 7/396-397؛ وانظر تقريب التهذيب: 406.
ورواه أحمد: 5/178، 179، من طريق المسعودي عن أبي عمر الدمشقي عن عبيد الخشخاش عن أبي ذر.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 1/160: "فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط".
وأخرجه ابن حبان 2/65-69؛ تحقيق الأرناؤوط؛ وأبو نعيم في الحلية 1/166؛ من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن الغساني عن أبيه عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر.
وفيه ذكر عدد الكتب السماوية أيضا.
وإبراهيم بن هشام هذا قال فيه أبو حاتم وغيره: "كذاب".
انظر موارد الظمآن: 54، وراجع الميزان 1/73.
ورواه الحاكم في المستدرك 2/59؛ والبيهقي في الكبرى 9/4؛ وأبو نعيم في الحلية ص168؛ 169، من طريق يحيى بن سعيد السعدي السعيدي العبشمي البصري، عن عبد الملك بن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر.
وقال البيهقي وأبو نعيم تفرّد به يحيى بن سعيد. وقال العقيلي: "لا يتابع على حديثه وليس بمشهور بالنقل" الضعفاء الكبير 4/404.
وقال الذهبي: في تلخيص المستدرك 2/597: "السعدي ليس بثقة".
قلت: تبيّن مما سبق أن رواية عدد الأنبياء ضعيفة ورواية عدد الكتب متروكة.
انظر مرام الكلام ص31.
(1/471)
________________________________________
وفي بعض روايات هذا الحديث ذكر عدد الكتب السماوية أيضا لكن لم يثبت.
ومن قال أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه يرد عليه أن كون النبي غيرَ مأمور بالإبلاغ فهذا كتمان للعلم، ثم هو يتعارض مع نصوص شرعية تفيد أن النبي مأمور بالإبلاغ كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "سورة المائدة: الآية44".
وكقوله تعالى عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} "سورة الأعراف: الآية150".
وقوله: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} "سورة طه:93".
مع أن هارون عليه السلام كان نبيا بنص القرآن:
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} "سورة مريم:53".
فهارون عليه السلام وإن أطلق عليه أنه رسول ولكنه كان نبيا تبعا
(1/472)
________________________________________
لموسى عليه السلام، ولم يكن صاحب كتاب وشرع جديدين، ومع ذلك كان مأمورا بالتبليغ.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ... " 1.
هذه بعض المآخذ والاعتراضات على تلك الأقوال ومن أحسن الوجوه في بيان الفرق بين النبي والرسول، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه النبوات فقد قال: "فالنبي هو الذي ينبئه الله" وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي ليس برسول.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} "سورة الحج: الآية52".
وقوله: "من رسول ولا نبي" فذكر إرسالا يعم النوعين وقد خص أحدهما بأنه رسول فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح عليه السلام ... ـ أما ـ الأنبياء فيأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قصة معينة ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/495 ح3455؛ ومسلم كتاب الإمارة باب الإمام جنّة 3/147 ح1842؛ كلاهما من طريق أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/473)
________________________________________
معنى يطابق القرآن كما فهم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود.
فالأنبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله به من الخبر والأمر والنهي فإن أرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ـ ولا بد أن يكذب الرسل قوم، قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} "سورة الذريات: الآية52".
وقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} "سورة فصلت: الآية43".
فإن الرسل ترسل إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم ... فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} دليل على أن النبي مرسل ولا يسمى رسولا عند الإطلاق لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء"1.
وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة، فإن يوسف عليه السلام كان رسولا وكان على ملة إبراهيم عليه السلام. قال تعالى عن مؤمن
__________
1 أخرجه أبو داود كتاب العلم باب الحث على طلب العلم 4/57، 58 ح3641، والترمذي كتاب العلم باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة 5/48 ح2682؛ وابن ماجه في المقدمة باب فضل العلماء 1/81 ح223 جميعهم من طريق قيس بن كثير عن أبي الدرداء. قال الترمذي على أثره: "ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندي بمتصل ... وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء وهذا أصح من حديث محمود بن خداش". وصححه الألباني في الجامع الصغير 5/302.
(1/474)
________________________________________
آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} "سورة غافر: الآية34".
"وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} "سورة النساء: الآية163" ... "1.
وهذا الضابط كما ترى لا يرد عليه من الاعتراضات ما ورد على غيره فيكون أحسن ما قيل في الفرق بين النبي والرسول.
__________
1 كتاب النبوات ص255-257. ط/ دار الكتب العلمية، وفي ط/ دار الكتاب العربي ص281-283.
(1/475)
________________________________________
المبحث الثاني: آيات الأنبياء
اقتضت حكمة الله تعالى أن يؤيد رسله وأنبياءه بآية تدل على صدق دعواهم، كالناقة لصالح، والعصا، واليد لموسى، وكخلق الطير من الطين وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى لعيسى عليهم السلام، وكانشقاق القمر لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كل هذه الآيات والعلامات دالة على نبوة الأنبياء بالإضافة إلى ما جبلوا عليه وعرفوا به من مكارم الأخلاق وأعلاها. فهم نماذج عليا بين قومهم في أخلاقهم ومعاملاتهم وفي بعدهم عن ارتكاب القبائح التي تنفر منها العقول السليمة والطباع المستقيمة، كالخيانة والغدر والفجور والكذب والحقد والحسد أو زيغ كاتخاذ الوثن وعبادة الصنم.
فأخلاق الأنبياء وسلوكهم آية على صدقهم بدعواهم للنبوة. هذا ما أشار إليه أبو حنيفة فقد قال: "ومحمد عليه الصلاة والسلام نبيه وعبده ورسوله وصفيه ونقيه، لم يعبد الصنم، ولم يشرك بالله تعالى طرفة عين قط" 1.
__________
1 الفقه الأكبر ص303.
(1/477)
________________________________________
وقال: "الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم منزهون عن الصغائر والكبائر والكفر والقبائح" 1.
ويثبت الإمام أبو حنيفة جميع آيات الأنبياء الواردة في الكتاب والسنة، دل على هذا قوله: "والآيات ثابتة للأنبياء، والكرامات للأولياء حق. وأما التي تكون لأعدائه مثل إبليس وفرعون والدجال مما روي في الأخبار أنه كان ويكون لا نسميها آيات، ولكن نسميها قضاء حاجات لهم، وذلك لأن الله تعالى يقضي حاجات أعدائه استدراجا لهم وعقوبة لهم، فيغترون به ويزدادون طغيانا، وذلك جائز وممكن"2.
فسمى أبو حنيفة ما يحصل للأنبياء من الخوارق آيات، وتسمى عند السلف دلائل النبوة وأعلام النبوة، ويسميها المتكلمون معجزات، لكن تسميتها آية أدل على المقصود من لفظ المعجزة فلا يوجد في الكتاب والسنة إلا لفظ الآية، وكذا لفظ البينة والبرهان، ثم إن لفظ الآية خاص فيما يحصل للأنبياء من خوارق أما المعجزة فقد يطلق على خوارق الأولياء إذ ليس فيه ما يقتضي اختصاص الأنبياء به 3.
وكذلك يثبت أبو حنيفة الكرامة للأولياء، وهي أمر خارق للعادة يجريها الله على يد عبد صالح متبع للشرع غير مقارن بدعوى النبوة، فإذا كان غير متبع لشرع الله ولا موافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو استدراج وإهانة 4.
__________
1 الفقه الأكبر ص303.
2الفقه الأكبر ص304.
3 انظر الجواب الصحيح 4/67-70.
4 انظر التعريفات ص184.
(1/478)
________________________________________
وقد اشتمل كلام أبي حنيفة المتقدّم على ذكر هذه الأقسام الثلاثة.
وقرر الطحاوي الكرامة في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم" 1. هذا ولقد جاء ذكر الكرامات في القرآن من ذلك قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} "سورة آل عمران: الآية37".
وكذا ذكر كرامات بعض الصالحين في السنة، من ذلك تكلم الطفل ببراءة جريج الراهب من الفاحشة 2، وانفراج الصخرة على الثلاثة الذين في الغار بعد أن وقعت عليهم وسدت المنافذ 3.
وكرامات الأولياء داخلة في آيات الأنبياء لأنها دالة على صدقهم، وأن متبّعيهم على الحق والهدى. لذلك كان من أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء. قال شيخ الإسلام: "ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجريه الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف هذه الأمة في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة"4.
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 59.
2 قصة جريج الراهب، انظر صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب تقديم بر الوالدين على التطوع 4/1976 ح255.
3 تقدم تخريجه ص270.
4 مجموع الفتاوى شيخ الإسلام 3/156.
(1/479)
________________________________________
المبحث الثالث: عصمة الأنبياء
معنى العصمة في اللغة: المنع 1 ومنه قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} 2، أي امتنع.
قال القرطبي: "سميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية" 3.
أما في الاصطلاح:
فقيل: هي حفظ الله أنبياءه ورسله من النقائص وتخصيصهم بالكمالات النفسية والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة 4.
وقيل: هي ملكة إلهية تمنع الإنسان من فعل المعصية والميل إليها مع القدرة عليها 5.
__________
1 تهذيب اللغة 2/54.
2 تفسير القرطبي 9/183.
3 تفسير القرطبي 9/184.
4 فتح الباري 1/501.
5 انظر التعريفات ص150؛ والمعجم الوسيط ص605 بتصرف؛ والمواقف ص366.
(1/480)
________________________________________
فهل الأنبياء معصومون من ارتكاب صغائر الذنوب؟ أم من الكبائر؟ أم من الذنوب جميعها؟.
اختلفت أقوال الناس ومذاهبهم مع اتفاقهم على عصمتهم في تبليغ الراسلة.
فمنهم من لم ير عصمة الأنبياء عن الكبائر والصغائر عدا الكذب، وهذا قول الكرامية 1 وبعض الخوارج 2 ونسبه ابن حزم 3 إلى الباقلاني.
ومنهم من جوّز وقوع الكبائر من الأنبياء سهوا لا عمدا وهذا ما عليه الرازي 4 من الأشاعرة.
ومنهم من يرى وجوب العصمة للأنبياء من الكبائر والصغائر، سواء كانت عمدا أو سهوا قبل النبوة أو بعدها؛ فلا يقع منهم معصية ألبتة. وهذا عليه الرافضة 5 والقاضي 6 عياض والسبكي 7 من الأشاعرة، والقاضي عبد الجبار 8 من المعتزلة.
ومنهم من يرى أن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر بعد النبوة وهذا عليه بعض الأشاعرة والماتريدية كابن مجاهد 9
__________
1 الفصل4/2.
2 أصول الدين للبزدوي ص167.
3 الفصل 4/2.
4 كتاب عصمة الأنبياء ص28.
5 شرح العقائد النسفية ص140.
6 الشفا 2/809، 848.
7 جمع الجوامع ضمن مجموعة أمهات المتون ص71.
8 شرح الأصول الخمسة ص573.
9 كما في الفصل 4/2.
(1/481)
________________________________________
والشهرستاني 1 والبغدادي 2 والصابوني 3 وذهب بعض أئمة سمرقند 4 أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر والزلات جميعا.
ومنهم من يرى أن الأنبياء معصومون من الكبائر مطلقا ومن الصغائر عمدا. وهذا عليه بعض الأشاعرة والماتريدية كالأيجي 5 والتفتازاني 6 والبزدوي 7 وابن أبي الشريف 8، والبياضي 9،
__________
1 نهاية الإقدام ص445.
2 أصول الدين ص167.
3 البداية ص96. وهو أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني الحنفي قال عنه القرشي: "الإمام صاحب البداية في أصول الدين" مات سنة 580هـ ببخارى.
انظر الجواهر المضيئة 1/328، وتاج التراجم ص10؛ والطبقات السنية 2/102؛ وطبقات الفقهاء 106؛ والفوائد البهية ص42.
4 أصول الدين للبزدوي ص167.
5 شرح المواقف 8/265.
6 شرح المقاصد 5/51.
7 أصول الدين للبزدوي ص167.
8 المسامرة ص232، 233، وهو محمد بن محمد بن أبي بكر المقدسي الشافعي المعروف بابن أبي شريف مؤلف المسامرة بشرح المسايرة قال عنه الشوكاني: "برع في العلوم وعرف بالذكاء وثقوب الذهن وحسن التصور وسرعة الفهم" مات في القدس سنة 906هـ.
البدر الطالع 2/243-244 وانظر ترجمته في شذرات الذهب 8/29، 30، والكواكب السيارة 1/11-13.
9 إشارات المرام ص56. وهو أحمد بن حسن بن سنان الدين البياضي الرومي الحنفي، قال عنه المحبّي: "قاضي العسكر وأحد صدور الدولة العثمانية من أجلاء علماء الروم وأجمعهم لفنون العلم وكان صدرا عالما وقورا جسيما عليه رونق العلم ومهابة الفضل"، توفي في سنة 1098هـ.
(1/482)
________________________________________
والجاحظ 1 والنظّام 2 والأصم 3 وجعفر بن بشر 4 ونسبه البزدوي إلى أهل السنة حيث قال: "قال أهل السنة والجماعة: إن الأنبياء والرسل معصومون من الكبائر من الذنوب والصغائر بطريق القصد، أما الزلات فغير معصومين عنها، وهو ما يقع من الذنوب منهم خطأ أو نسيانا" 5.
قلت: هذا هو ظاهر كلام 6 الإمام أبي حنيفة فقد قال: "والأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن الصغائر والكبائر والكفر والقبائح، وقد كانت منهم زلات وخطايا 7.
ومنهم من يرى أن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، فجوزوا وقوع الصغائر من الأنبياء مطلقا وهذا عليه ابن جرير 8 وابن قتيبة 9 وشيخ الإسلام 10 وابن فورك11 والجويني 12 من الأشاعرة
__________
1 كما في شرح المواقف 8/265.
2 كما في شرح المواقف 8/265.
3 كما في شرح المواقف 8/265.
4 كما في شرح المواقف 8/265.
5 أصول الدين ص167.
6 شراح الفقه الأكبر حملوا كلام أبي حنيفة على أن الأنبياء معصومون من الصغائر سواء كانت عمدا أو سهوا وهذا خلاف ظاهر كلام أبي حنيفة حيث قال: "ولهم زلات وخطايا" فظاهر كلامه يدل على أن الأنبياء تصدر منهم الذنوب خطأ وإلا تناقض صدر كلام أبي حنيفة مع عجزه والله أعلم.
7 الفقه الأكبر ص303.
8 جامع البيان 12/191، 13/1، 16/224.
9 تأويل مشكل القرآن ص402.
10 مجموع الفتاوى 10/292-293.
11 الفصل 4/2.
12 شرح المقاصد 5/51 عنه.
(1/483)
________________________________________
وأبو هاشم 1 من المعتزلة، ونسبه شيخ الإسلام إلى الجمهور حيث قال: "والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم، مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم" 2.
وقال: "والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول أنه يجوز إقرارهم عليها" 3.
وقال: "والقول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام. وجميع الطوائف حتى إنه قول أكثر أهل الكلام ... بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين إلا ما يوافق هذا القول" 4.
وما ذهب إليه الجمهور هو ما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة من ذلك قوله تعالى:
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} "سورة طه: الآية121".
وقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} "سورة ص: الآيتان 24-25".
__________
1 شرح المقاصد 5/581 عنه.
2 منهاج السنة 1/227.
3 مجموع الفتاوى 10/292، 293.
4 مجموع الفتاوى 38319.
(1/484)
________________________________________
وقوله تعالى حكاية عن يونس: {لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} "سورة الأنبياء: الآية87".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" 1.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ... " 2.
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى: "خالف أمر ربه فتعدّى إلى ما لم يكن له أن يتعدى عليه من الأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته إياه، فرزقه الرجوع إلى ما يرضى عنه، والعمل بطاعته، وذلك هو كانت توبته التي تابها عليه وهداه للتوبة ووفقه لها" 3.
ثم هذا الرأي رأي وسط بين الآراء المذكورة فمن ادّعى امتناع الذنوب على الأنبياء مطلقا فقد أفرط، ومن منع عصمة الأنبياء من الذنوب جميعا فقد فرّط، والحق دائما وسط فلا إفراط ولا تفريط.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان 1/503، ح401؛ ومسلم كتاب المساجد باب السهو في الصلاة 1/400، ح572 كلاهما من طريق إبراهيم بن علقمة عن عبد الله بن مسعود.
2 أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل 4/2087 ح2719 من طريق أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي موسى الأشعري.
3 جامع البيان 13/224.
(1/485)
________________________________________
المبحث الرابع: من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
اختص الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص وميزات على سائر الأنبياء وهي:
"أ" ختم النبوة:
الله سبحانه وتعالى ختم بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميع النبوات فلا نبي بعده، دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف. قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} "سورة الأحزاب: الآية40".
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه
__________
1 أخرجه البخاري كتاب المناقب باب خاتم النبيين 6/558 ح"3535"، ومسلم كتاب الفضائل باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين 4/1791 ح"2286" كلاهما من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
(1/486)
________________________________________
نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي" 1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي" 2.
قال القاضي عياض: "أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة للناس، وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأنه مفهومه المراد منه دون تأويل وتخصيص" 3.
فمن ادعى النبوة مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر4 وكذا من صدقه، فهذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى تنبأ رجل في زمنه وطلب الإمهال حتى يأتي بالعلامات، يقول الإمام أبو حنيفة: "من طلب منه علامة فقد كفر لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا نبي بعدي ... " 5 " 6.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب
__________
1 أخرجه أبو داود كتاب الفتن باب ذكر الفتن 4/452 ح"4252" والترمذي كتاب الفتن باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون 4/499 ح"2219" كلاهما من طريق أبي أسماء عن ثوبان قال الترمذي على أثره: "هذا حديث حسن صحيح".
2 أخرجه البخاري كتاب المناقب باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم 6/554 ح"3532"، ومسلم كتاب الفضائل باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم 4/1828 ح124 كلاهما من طريق محمد بن جبير عن جبير بن مطعم.
3 الشفا 2/271.
4 الشفا 2/270.
5 تقدم تخريجه ص473.
6 مناقب الإمام أبي حنيفة للمكي 1/161.
(1/487)
________________________________________
أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وأنه خاتم النبيين". وقال: "وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى" 1.
قال الناصري 2 الحنفي شارحا كلام الطحاوي: "فصرح فقهاء الملة رحمهم الله بكونه خاتَماً، حسما لدعوى المتنبئين والدجالين. ولهذا المعنى قال مشايخنا رحمهم الله: إذا ادعى أحد بعد نبينا محمد صلوات الله عليه النبوة لا يقال له: ما آيتك على ما تدّعي، بل يقابل بالتكذيب والرد؛ لقيام الأدلة القاطعة على أنه لا نبي بعد محمد صلوات الله عليه؛ فثبت أن من ادّعى النبوة فهو كذاب دجال" 3.
"ب" عموم الرسالة
اقتضت حكمة الله أن يرسل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة عامة للناس جميعهم على اختلاف بيئاتهم، وتنوع علاقاتهم، وتباين ألسنتهم وتقاليدهم وعاداتهم وألوانهم تضمن سعادتهم الدنيوية والأخروية.
قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} "سورة الأعراف: الآية158".
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} "سورة سبأ: الآية28".
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص22-23.
2 هو بكير بن نجم الدين التركي الناصري قال عنه اللكنوي: "كان فقيها عارفا بصيرا في الفقه ... وشرح عقيدة الطحاوية سماه بالنور اللامع والبرهان الساطع. مات ببغداد سنة "652هـ". الفوائد البهية ص56. وانظر ترجمته في الجواهر المضية 1/62؛ وتاج التراجم ص19؛ وشرح الأحياء 2/3.
3 النور اللامع ""ق-64-ب".
(1/488)
________________________________________
وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} "سورة النساء: الآية79".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تُحل لأحد قبلي، وأعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " 1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" 2.
وأجمعت الأمة على أنه مبعوث للناس جميعا.
قال القاضي عياض: "إنه أرسل كافة للناس وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره"3.
وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: "وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى وبالنور والضياء" 4.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب التيمم باب التيمم 1/435 ح"335"، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/370 ح521 كلاهما من طريق يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله.
2 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس 1/134 ح"153" من طريق أبي يونس عن أبي هريرة.
3 الشفا 2/271
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 34.
(1/489)
________________________________________
قال الناصري الحنفي شارحا كلام الطحاوي: "فهذا إخبار منهم أن رسالته عمت الجن والإنس، وإنما قالوا ذلك لدلالات موجبات العلم، منها قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} "سورة الأعراف: الآية158".
ومنها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} "سورة سبأ: الآية28".
فتعميم رسالته جميع الناس دليل على تعميمها جميع الجن ... " 1.
"ج" السيادة على الناس يوم القيامة:
جاءت الأحاديث بإثبات سيادة النبي صلى الله عليه وسلم على الناس يوم القيامة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع" 2.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد". وذكر الحديث وفيه: " فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ... "3.
__________
1 النور اللامع "ق-66-أ".
2 أخرجه مسلم كتاب الفضائل باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق 4/1782 ح2278 من طريق عبد الله بن فروخ عن أبي هريرة.
3 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 1/184 ح"194" من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.
(1/490)
________________________________________
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} "سورة الإسراء: الآية79".
قال: "هي الشفاعة" 1.
وقال ابن عمر: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًى كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود" 2.
وقد تقدم 3 حديث أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي وفيه: "أعطيت الشفاعة".
وقال ابن قتيبة: "وإنما أراد أنه سيد ولد آدم يوم القيامة لأنه الشافع يومئذ والشهيد، وله لواء الحمد والحوض، وهو أول من تنشق عنه الأرض ... وليس ما أعطى الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة من السؤدد والفضل على جميع الأنبياء والرسل بعمله، بل في تفضيل الله تعالى إياه واختصاصه له" 4.
وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: " {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} "سورة الإسراء: الآية79".
__________
1 أخرجه الترمذي كتاب تفسير القرآن باب من سورة بني إسرائيل 5/303 ح2137 من طريق الزغافري عن أبيه عن أبي هريرة قال الترمذي على أثره: "هذا حديث حسن".
2 أخرجه البخاري كتاب التفسير باب {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 8/399.
3 ص489.
4 تأويل مختلف الحديث ص109.
(1/491)
________________________________________
"فقال أكثر أهل العلم ذلك هو المقام الذي هو يقوم صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم"1.
وقال ابن كثير: "ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض، ويبعث راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق" 2.
وقال شيخ الإسلام: "وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات، أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، عن الشفاعة حتى تنتهي إليه، وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة. وهاتان الشفاعتان خاصتان له، وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار. وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها" 3.
وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وإمام الأنبياء وسيد المرسلين" 4.
وقال: "الشفاعة التي ادّخرها لهم حق كما روي في الأخبار"5.
__________
1 تفسير ابن جرير 15/143، 144.
2 تفسير ابن كثير 4/335.
3 مجموع الفتاوى 3/147.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 22.
5 شرح العقيدة الطحاوية ص30.
(1/492)
________________________________________
وقال الإمام أبو حنيفة: "وشفاعة نبينا عليه الصلاة والسلام للمؤمنين المذنبين ولأهل الكبائر منهم المستوجب العقاب حق ثابت" 1.
وقال: "وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حق لكل من هو من أهل الجنة وإن كان صاحب كبيرة" 2.
__________
1 الفقه الأكبر ص305.
2 الوصية مع شرحها ص32.
(1/493)
________________________________________
الفصل الثاني: اليوم الآخر
كل ما أخبر به الشارع مما يكون بعد الموت من أحوال البرزخ، والنفخ في الصور، والبعث
والنشور، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وما يكون قبل ذلك من أشراط الساعة،
وعلاماتها، كل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر
وسأتناول هذه الأمور في هذا الفصل في المباحث التالية:
(1/495)
________________________________________
المبحث الأول: أشراط الساعة
جاء في الكتاب والسنة أن للساعة علامات أشراطا تدلّ على قرب وقتها كظهور الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها.
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} "سورة الأنعام: الآية158".
فالكافر لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من مغربها، وكذا العاصي لا تنفعه التوبة.
وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه} ِ"سورة "النساء: الآية159".
فلا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام1.
__________
1 تفسير ابن جرير 6/18 المجلد الرابع.
(1/497)
________________________________________
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} "سورة الأنبياء: الآية96".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوفات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم" 1.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهم كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا" 2.
وهذا هو ما عليه أهل السنة؛ قال ابن أبي زمنين: "وأهل السنة يؤمنون بطلوع الشمس من مغربها".
وقال الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} "سورة الأنعام: الآية158".
وأهل السنة يؤمنون بخروج الدجال ـ أعاذنا الله من فتنه ـ ... وأهل السنة يؤمنون بنزول عيسى وقتله الدجال وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} "سورة الزخرف: الآية61". يعني عيسى.
__________
1 أخرجه مسلم كتاب الفتن باب الآيات التي تكون قبل الساعة 4/225 ح290 من طريق أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري.
2 أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب خروج الدجال 4/2260 ح2941 من طريق أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو.
(1/498)
________________________________________
وقال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه} ِ"سورة "النساء: الآية159" يعني قبل موت عيسى"1.
وقال ابن حجر: "والذي يترجح من مجموع الأخبار؛ أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم. وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب" 2.
وقال القرطبي: "الإيمان بالدجال وخروجه حق، وهذا مذهب أهل السنة وعامة أهل الفقه والحديث، خلافا لمن أنكر أمره من الخوارج وبعض المعتزلة" 3.
وقال ابن عطية: "وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى في السماء حيٌّ، وأنه ينزل في آخر الزمان؛ فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويفيض العدل، وتظهر به الملة ملة محمد صلى الله عليه وسلم" 4.
وقال السفاريني: "أما الإجماع ـ أي على نزول عيسى ـ فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة الملاحدة ممن لا يعتد بخلافه" 5.
__________
1 أصول السنة 12. 63، 648، 666..
2 فتح الباري 11/353.
3 التذكرة ص664.
4 البحر المحيط 2/473 ط. دار الفكر.
5 لوامع الأنوار 2/94.
(1/499)
________________________________________
وهذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة، فهو يؤمن بما جاءت به النصوص الشرعية من علامات الساعة وأشراطها، دل على ذلك قوله: "وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام من السماء، وسائر علامات يوم القيامة على ما وردت به الأخبار حق كائن" 1.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة من الأرض من موضعها" 2.
قال الناصري شارحا كلام الطحاوي: "ثم ذكروا عقيدتهم في أشراط الساعة فقالوا: ونؤمن بخروج الدجال، ونزول عيسى من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة من الأرض من موضعها. قال القاضي أبو حفص الغزنوي ... فيجب الاعتقاد بوجودها في المستقبل على ما تواتر من نقل، لأنها تواترت عمن شهدت له المعجزات بالرسالة والعصمة عن الباطل؛ فيتحقق وجودها لأوقاتها، كما تحقق وجود سائر الأخبار السمعية من نحو قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} "سورة الروم: الآيتان 1،4".
وتحقّق مخبره بعد الهجرة عند تمام المدة المذكورة وقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} "سورة القمر: الآية45".
نزلت بمكة ووجد يوم بدر ... فكما أذعنت لها العقول الصحيحة
__________
1 الفقه الأكبر ص306.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 59.
(1/500)
________________________________________
قبل وقوعها، وصدّق بتحقيقها أولو الألباب فكذلك تذعن لهذه الأمور المذكورة العقول الصحيحة"1.
فالواجب على كل مسلم أن يصدق بكل ما ورد في ذلك، وأن يؤمن بأنه كله حق، وأنه سيقع وفق ما أخبر به الشارع، هذا آخر ما يتعلق بمبحث أشراط الساعة، ويليه المبحث الثاني في فتنة القبر.
__________
1 النور اللامع "ق-121-أ-ب".
(1/501)
________________________________________
المبحث الثاني: فتنة القبر
يفتن الناس في قبورهم فينعمون أو يعذبون، دلّ على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} "سورة الأنعام: الآية93".
وقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} "سورة غافر: الآية46".
وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} "سورة إبراهيم: الآية27".
قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} " 1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار
__________
1 أخرجه البخاري كتاب التفسير باب يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت 8/378 ح4699 من طريق سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب.
(1/502)
________________________________________
فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة" 1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله ... " 2.
فسؤال الملكين: منكر ونكير، والعذاب في القبر ونعيمه حق واجب شرعا لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أخبار يبلغ مجموعها مبلغ التواتر 3، وهو مقتضى الأدلة من الكتاب والسنة ومتفق عليه بين أهل السنة، قال النووي: "اعلم أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة.
قال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} "سورة غافر: الآية46".
وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله الحياة في جزء من الجسد ويعذبه ...
إلى أن قال: "والمقصود أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر، كما ذكرنا خلافا للخوارج ومعظم المعتزلة وبعض المرجئة" 4.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الجنائز باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي 3/243 ح13789، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار 4/2199 ح2866 كلاهما من طريق نافع عن عبد الله بن عمر.
2 أخرجه البخاري كتاب الوضوء باب من الكبائر ألا يستتر من بوله 1/317 ح216؛ ومسلم كتاب الطهارة باب الدليل على نجاسة البول 1/240، 241 ح292 كلاهما من طريق مجاهد عن طاوس عن ابن عباس.
3 لوامع النوار 2/5، 23.
4 شرح مسلم للنووي 17/200، 201.
(1/503)
________________________________________
وهذا هو ما عليه أبو حنيفة، دل على ذلك قوله: "سؤال منكر ونكير حق كائن في القبر، وإعادة الروح إلى جسد العبد في قبره حق، وضغطة القبر وعذابه حق كائن للكفار كلهم ولبعض عصاة المؤمنين" 1.
وقال: "ونقرّ بأن عذاب القبر كائن لا محالة، ونقر بأن سؤال منكر ونكير حق لورود الأحاديث" 2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونؤمن بملك الموت الموكّل بقبض أرواح العالمين، وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران" 3.
قال الناصري الحنفي شارحا كلام الطحاوي: "وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فيجب الاعتقاد بثبوت ذلك. وأما قولهم بسؤال منكر ونكير للميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه، وقولهم بأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران؛ فإنما قالوا ذلك بما تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كله ولاتفاق الصحابة رضوان الله عنهم على ثبوته" 4.
__________
1 الفقه الأكبر ص306.
2 الوصية مع شرحها ص23-24.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 50.
4 النور اللامع "ق-110/ب".
(1/504)
________________________________________
المبحث الثالث: البعث
يبعث الله الموتى من القبور، ويعيدهم معادا جسمانيا، بأن يجمع ما تفرق من أجسامهم، ثم ينشئهم نشأة أخرى، ثم يعيد أرواحهم 1. دل على ذلك قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} "سورة الأعراف: الآيتان 24-25".
وقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} "سورة طه: الآية55".
وقوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} "سورة الحج: الآية7".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق آدم وفيه يركّب " 2.
__________
1 انظر لوامع الأنوار 2/157 بتصرف.
2 أخرجه مسلم كتاب الفتن باب ما بين النفختين 4/2270 ح"142" من طريق الأعرج عن أبي هريرة، وأخرجه بلفظ آخر مقارب له البخاري كتاب التفسير باب ونفخ في الصور 8/551 ح"4814" من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
(1/505)
________________________________________
فالأدلة من الكتاب والسنة متضافرة على إثبات البعث والنشور وما بعده. هذا مقتضى الأدلة بل أجمع عليه المسلمون.
قال الصابوني: "ويؤمن أهل السنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه من أهوال ذلك اليوم الحق، واختلاف العباد فيه والخلق فيما يرونه ويلقونه هنالك في ذلك اليوم الهائل، من أخذ الكتاب بالأيمان، والشمائل، والإجابة عن المسائل، إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم، والمقام الهائل من الصراط، والميزان، ونشر الصحف التي فيها مثاقيل الذر من الخير وغيرها" 1.
وهذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة، دل على ذلك قوله: "نقر بأن الله يحيي هذه النفوس بعد الموت، ويبعثهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة بالجزاء والثواب" 2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونؤمن بالبعث، وجزاء الأعمال يوم القيامة" 3.
قال حسين الحنفي شارحا كلام الإمام أبي حنيفة: "ونقر بأن الله يحيي هذه النفوس ... "، قال: "أجمع المسلمون على أن الله يحيي الأبدان بعد موتها، ويبعث الموتى من القبور، ومن أجواف الوحوش، ومن حواصيل الطيور، بأن يجمع أجزاءهم الأصلية بعد إعادة ما فني منها بعينه، ويعيد الأرواح إليها، وهذا هو النشء، ثم يسوقهم إلى الموقف، وهذا هو
__________
1 عقيدة السلف أصحاب الحديث ص60، 61.
2 الوصية مع شرحها ص30.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 51.
(1/506)
________________________________________
الحشر، فيجزيهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر" 1.
وقال الناصري شارحا كلام الطحاوي: "فقالوا: ونؤمن بالبعث بعد الموت، والأخبار الصادرة عن الصدق، وهي الكتب السماوية والرسل الذين قامت على حقّيّتهم الآيات المعجزة لكافة الخليقة ... فنطقت الكتب السماوية كلها بقيام الساعة، وبعث أهلها بعد موتهم وفنائهم، وكذلك نطقت الرسل والأنبياء كلهم جميعا بالبعث بعد الموت، ودلت الحكمة على تحقيق ذلك، وأنه لولا البعث لكان خلق السموات والأرض للعبث؛ إذ كان يكون الإيجاد والإعدام والبناء للهدم بلا عاقبة وذلك سفه وتعالى الله أن يكون صنعه سفها" 2.
__________
1 شرح كتاب الوصية ص30.
2 النور اللامع ق-111/أ.
(1/507)
________________________________________
المبحث الرابع: أحوال اليوم الآخر
وبعد البعث والنشور، وما يكون فيه من أهوال وشدائد، يحشر الخلائق، وتعرض الأعمال، وتوزن في الميزان، ثم المرور على الصراط، ثم إلى نعيم مقيم في الجنان، أو عذاب في النيران. وإليك بعض الأدلة مع ذكر نصوص أبي حنيفة وبعض أصحابه في ذلك.
فأما الجزاء فدليله قول الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} "سورة الأنعام: الآية160".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" 1.
وأما العرض والحساب فدليلهما قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} "سورة الحاقة: الآية18".
وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} "سورة الأنبياء: الآية47".
__________
1 أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم 4/1994 ح"2577" من طريق أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر.
(1/508)
________________________________________
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حوسب عذِّب " فقالت عائشة: يقول الله تعالى: {يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} "سورة الانشقاق: الآية8".
قالت فقال: "إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك " 1.
وأما الميزان فدليله قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} "سورة القارعة: الآيات 6-11".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده" 2.
وأما الصراط فدليله قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّا} "سورة مريم: الآيتان 71-72".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ـ حين سُئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: " هم في الظلمة دون الجسر" 3.
__________
1 أخرجه البخاري كتاب العلم باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرف 1/196، 197 ح"103" من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة ومسلم كتاب الجنة باب إثبات الحساب 4/2005 ح"80" من طريق ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة.
2 أخرجه البخاري كتاب الدعوات باب فضل التسبيح 11/206 ح"6406" ومسلم كتاب الذكر والدعاء باب فضل التهليل 4/2072 ح"2694" كلاهما من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة.
3 أخرجه مسلم كتاب الحيض باب بيان صفة منيّ الرجل والمرأة 1/252 ح"315" من طريق أبي أسماء الرحبي عن ثوبان.
(1/509)
________________________________________
وأما الحوض فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض" 1.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قَدْرَ حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء" 2.
أما الجنة والنار فأدلتهما من الكتاب والسنة لا تحصى؛ من ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "سورة الأعراف: الآية42".
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "سورة الأعراف: الآية36".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: "إني رأيت الجنة ... ورأيت النار" 3.
أما رؤية المؤمنين لربهم في الجنة؛ فدل عليها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} "سورة القيامة: الآيتان 22-23".
وقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} "سورة المطففين: الآيتان 22، 23".
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الرقائق باب في الحوض 11/463 ح"6575" من طريق شقيق عن عبد الله ومسلم كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته 4/1792 ح"2289" من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب.
2 أخرجه البخاري كتاب الرقائق باب في الحوض 11/463-464 ح"6580" ومسلم كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم 4/800 ح"2303" من طريق ابن شهاب عن أنس بن مالك.
3 أخرجه البخاري كتاب الكسوف باب صلاة الكسوف جماعة 2/540 ح"1052" ومسلم كتاب الكسوف باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف من أمر الجنة والنار 2/626 ح"907" كلاهما من طريق عطاء عن ابن عباس.
(1/510)
________________________________________
وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزَّ وجلَّ" 1.
قال الإمام أبو حنيفة: "ويبعثهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة بالجزاء والثواب" 2.
وقال: "والقصاص فيما بين الخصوم بالحسنات يوم القيامة حق" 3.
وقال: "ونقر بأن قراءة الكتاب يوم القيامة حق، لقوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} "سورة الإسراء: الآية14" 4.
وقال: "ووزن الأعمال بالميزان يوم القيامة حق" 5.
وقال: "ونقر بأن الميزان حق لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} "سورة الأنبياء: الآية47 ... " 6.
وقال: "وحوض النبي عليه الصلاة والسلام حق" 7.
وقال: "والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان، ولا تموت الحور العين أبدا" 8.
وقال: "ونقر بأن أهل الجنة في الجنة خالدون، وأهل النار في النار
__________
1 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى 1/163 ح"181" من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب.
2 كتاب الوصية مع شرحها ص305.
3 الفقه الأكبر ص305.
4 الوصية مع شرحها ص28.
5 الفقه الأكبر ص305.
6 الوصية مع شرحها ص26.
7 الفقه الأكبر ص305.
8 الفقه الأكبر ص305.
(1/511)
________________________________________
خالدون؛ لقوله تعالى في حق المؤمنين: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "سورة الأعراف: الآية42".
وفي حق الكافرين: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} "سورة الأعراف: الآية36" ... "1.
وقال: "والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم، بلا تشبيه ولا كيفية" 2.
وقال: "ونقر بأن لقاء الله تعالى حق بلا كيفية" 3.
وقال الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: "ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان" 4.
وقال: "والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته حق" 5.
وقال: "والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} "سورة القيامة: الآيتان 22-23" 6.
__________
1 الوصية مع شرحها ص33.
2 الفقه الأكبر ص304.
3 الوصية مع شرحها ص31.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 51.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 30.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 26.
(1/512)
________________________________________
الفصل الثالث: القدر
توطئة
وفيه المباحث التالية:
المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة.
المبحث الثاني: مراتب القدر.
المبحث الثالث: أفعال العباد.
المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها.
(1/513)
________________________________________
توطئة
الإيمان بالقدر جانب مهم من جوانب العقيدة الإسلامية؛ كيف لا وهو الركن السادس من أركان الإيمان، كما في حديث جبريل: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" 1.
وقد دلّ على وجوب الإيمان بالقدر نصوص قرآنية كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} "سورة القمر: الآية49".
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} "سورة الحديد: الآية22".
والإيمان بالقدر يدخل ضمن توحيد الأسماء والصفات؛ إذ هو مبني على الإيمان بصفات الله كالعلم والقدرة والإرادة.
قال ابن القيم في الكافية الشافية 2: "وحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرحمن".
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
لما حكاه عن الرضا الرباني
وكذا يدخل ضمن الإيمان بربوبية الله على خلقه؛ إذ أن من آمن بأن الله هو الخالق المدبر المتصرف في شؤون خلقه كلها، فهو مؤمن بقضائه وقدره.
__________
1 تقدم تخريجه ص461.
2 2 مع توضيح المقاصد.
(1/515)
________________________________________
فالإيمان بالقدر وربوبية الله يدخلان ضمن توحيد الأسماء والصفات، وذلك أن الرب اسم من أسماء الله، والربوبية والقدرة والعلم والإرادة من صفات الله العليا.
ولفظ القدر قد يراد به التقدير، وقد يراد به المقدر. فإذا أردت أن أفعال العباد نفس تقدير الله الذي هو علمه وكلامه ومشيئته ونحو ذلك من صفاته فهذا غلط وباطل، وإن أردت أنها مقدَّرة لله تعالى فهذا حق؛ فإنها مقدرة كما أن سائر المخلوقات مقدرة 1.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وعرشه على الماء" 2.
فالله سبق علمه بكل مخلوق وقدره، وكتب ذلك في إمام مبين، ثم شاء وخلق وقدر وجوده على وفق ما قدره، لا يخرج عن ذلك شيء، لا أفعال الإنسان ولا غيرها، سواء كانت هذه الأفعال خيرا أو شرا، طاعة أو معصية. كما لا يخرج عن ذلك ما يصيب الإنسان وما يقع في الكون من أحداث، فإذا آمن العبد بهذا كله علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
__________
1 مجموع الفتاوى 8/410.
2 أخرجه مسلم كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 4/2044 ح2653 من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(1/516)
________________________________________
المبحث الأول: كراهية الخوض في القدر عند الإمام أبي حنيفة
تقدم ذكر النصوص الشرعية التي تدل على أن القدر أصل من أصول الإيمان، ولهذا تكلم السلف في بيان هذا الأصل ومراتبه وضرورة الإيمان به وآثار هذا الإيمان، ولهم في هذا كتب ورسائل، بل قلما تجد عالما إلا وينص على هذه المسألة في عقائدهم، بيانا للحق وردا للباطل في هذا الباب الذي عظم فيه الاضطراب، حتى يكون الناس على بصيرة من أمر دينهم. ومع هذا فقد وردت نصوص شرعية فيها الأمر بالإمساك عن القدر والنهي عن الخوض فيه، ونبّه العلماء عند ذكر هذا الأصل على ذلك، ومما ورد في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا" 1.
__________
1 أخرجه الطبراني في الكبير 10/243-244 وأبو نعيم في الحلية 4/108 كلاهما من طريق أبي وائل عن ابن مسعود واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/126، 7/1250، وابن عدي في الكامل 7/2490، كلاهما من طريق أبي قلابة عن ابن مسعود وابن عدي في الكامل 6/2172 والسهمي في تاريخ جرجان ص357-358، كلاهما من طريق عطاء عن ابن عمر والطبراني في الكبير 2/96، من طريق الأشعث عن ثوبان، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/42-46 "حسن لغيره".
(1/517)
________________________________________
وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما تنازعوا في القدر: "عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه" 1.
وأخرج الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، فكأنما تفقّأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم" 2.
ومما يجب أن يعلم أن الإمساك عن القدر، وترك الخوض فيه، ليس بترك البحث فيه بإحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذا من أهم مهام الدين، ومن العلم النافع. بل المراد من الإمساك الذي أمرنا به، والخوض الذي نهينا عنه التعمق في القدر، ومحاولة معرفته عن طريق العقل.
فالعقل قاصر محدود لا يمكن أن يكتشف الغيب، ويطلع على المجهول الذي استأثر الله بعلمه، وليس أمامه إلا التسليم والإيمان بما
__________
1 أخرجه الترمذي كتاب القدر باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر 4/443 ح2133 من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة قال الترمذي: "وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" قال الألباني في تعليقه على المشكاة 1/36 "قلت لكن يشهد له الذي بعده" قلت: يشير إلى ما رواه أحمد في المسند 2/181 وابن ماجه 1/33، كلاهما من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال البوصيري عنه: "إسناده صحيح" إذن فالحديث بشواهده المتقدمة حسن.
2 أخرجه أحمد في المسند 2/178، وابن ماجه في المقدمة باب في القدر ح85، كلاهما من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال البوصيري في الزوائد:هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(1/518)
________________________________________
يطلعه الله عليه من أمور الغيب، عن طريق الرسل، ويمسك عن الخوض فيما استأثر الله بعلمه.
وكذا عن الخوض بالباطل.
الاعتراض على الله لم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ ولم أمر بكذا؟ ولم ينهى عن كذا؟ وهذا مناف للعبودية القائمة على التسليم والاستسلام لله وحده 1.
قال الآجري: "باب ترك البحث والتنقير عن النظر في أمر القدر بكيف؟ ولم؟ بل الإيمان به والتسليم، ثم قال بعد ذلك: فهذا طريق أهل العلم: الإيمان بالقدر خيره وشره، واقع من الله عزَّ وجلَّ بمقدور، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} "سورة الأنبياء: الآية23" ... 2.
وقال ابن بطة: "باب ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير عن القدر والخوض والجدال فيه"، ثم قال بعد ذلك: "فجميع ما قد رويناه في هذا الباب يلزم العقلاء الإيمان بالقدر، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وترك البحث والتنقير وإسقاط. لم، وكيف وليست، ولولا، فإن هذه كلها اعتراضات من العبد على ربه، ومن الجاهل على العالم، معارضة المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى، وسبيل أهل التقوى، ومذهب من شرح الله صدره للإسلام، فهو على نور من ربه فهو يؤمن بالقدر كله خيره وشره، وأنه واقع بمقدور الله جرى، ومن يعلم أن الله يضل من يشاء لا يسأل عما يفعل وهم
__________
1 انظر شرح العقيدة الطحاوية ص266 بتصرف.
2 كتاب الشريعة ص235.
(1/519)
________________________________________
يسألون ... " 1.
وقال ابن عبد البر: "والقدر سر الله، لا يدرك بجدال ولا يشفي منه مقال، والحجاج فيه مرتجة لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار، وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام والانقياد والإقرار بأن علم الله سابق ولا يكون في ملكه إلا ما يريد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} "سورة فصلت: الآية46"2.
وقال ابن أبي العز الحنفي: " وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة مسألة القدر وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع وقوله: فمن سأل لم فعلت؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين، اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع ... ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم"3.
وعلى هذا المنهج سار الصحابة والتابعون وتابعوهم في النهي عن الخوض في القدر، فقد سئل علي رضي الله عنه عن القدر فقال: "طريق مظلم فلا تسلكه، ثم قال السائل: أخبرني عن القدر فقال: بحر عميق فلا
__________
1 الإبانة 2/411.
2 التمهيد 6/13، 14.
3 شرح العقيدة الطحاوية ص266، 267.
(1/520)
________________________________________
تلجه، قال السائل: أخبرني عن القدر قال: سر الله فلا تكلّفه" 1.
وكذا سئل ابن عمر عن القدر: فقال: "شيء أراد الله عزَّ وجلَّ ألا يطلعكم عليه؛ فلا تريدوا من الله عزَّ وجلَّ ما أبى عليكم" 2.
وقال وهب بن منبه: "نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه" 3.
وجاء رجل إلى الإمام أبي حنيفة يجادله في القدر فقال له: "أما علمت أن الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس كلما ازداد نظرا يزداد تحيّرا" 4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: " وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلَّم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر على أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} "سورة الأنبياء: الأنبياء23".
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/629، وكتاب الشريعة ص240.
2 الشريعة ث235 والإبانة لابن بطة 2/408.
3 شرح الفقه الأكبر للقاري ص69.
4 قلائد عقود العقيان "ق77ب".
(1/521)
________________________________________
فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين" 1.
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 32، 33.
(1/522)
________________________________________
المبحث الثاني: مراتب القدر
الإيمان بالقدر يقوم على أصول ومراتب يقينية، تقوم عليها معاني القضاء والقدر، فلا يتم الإيمان بالقدر إلا بمعرفتها والإيمان بها. وفيما يلي ذكر هذه المراتب مع الاستدلال لها:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء والسابق لكل شيء.
المرتبة الثانية: الإيمان بكتابه الذي اشتمل على كل ما سيكون.
المرتبة الثالثة: الإيمان بأن الله خالق كل شيء.
المرتبة الرابعة: الإيمان بمشيئة الله وقدرته العامة على كل شيء فهو المتفرد بالخلق والإيجاد 1.
قال شيخ الإسلام: "وتؤمن الفرقة الناجية ـ أهل السنة والجماعة ـ بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين تتضمنان شيئين.
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات
__________
1 انظر شفاء العليل ص55 بتصرف. ط/ دار الكتب العلمية.
(1/523)
________________________________________
والمعاصي والأرزاق والآجال ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ... وأما الدرجة الثانية فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشية الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خلاق غيره ولا رب سواه" 1.
دل على المرتبة الأولى والثانية قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} "سورة الحج: الآية70".
وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ} "سورة الأنعام: الآية59".
وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} "سورة الطلاق: الآية12".
وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} "سورة يس: الآية12".
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منكم أحد إلا وقد كتب الله مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال اعملوا فكل ميسر ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} "سورة الليل: الآيات 5-10 ... " 2.
__________
1 مجموع الفتاوى 3/148، 148.
2 أخرجه البخاري كتاب التفسير باب تفسير سورة الليل 8/807 ح44945؛ ومسلم =
(1/524)
________________________________________
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" 1.
ودل على المرتبة الثالثة والرابعة:
قوله تعالى: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} "سورة آل عمران: الآية47".
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} "سورة هود: الآية118".
وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} "سورة يس: الآية82".
وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} "سورة التكوير: الآية29".
وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} "سورة الزمر: الآية62".
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} "سورة الفرقان: الآية2".
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" 2.
فلا يكون العبد مؤمنا بالقدر حتى يؤمن بهذا كله. وفي بيان المرتبة الأولى وهي علم الله المحيط بكل شيء، يقول الإمام أبو حنيفة: "وكان الله
__________
= كتاب القدر باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه 4/2039 ح2648، كلاهما من طريق أبي عبد الرحمن عن علي بن أبي طالب.
1 تقدم تخريجه ص516.
2 أخرجه مسلم كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء 4/2045 ح2654 من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(1/525)
________________________________________
تعالى عالما في الأزل بالأشياء قبل كونها" 1.
وقال: "يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه معدوما، ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا، ويعلم كيف يكون فناؤه" 2.
وقرر الطحاوي هذا في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم" 3.
وقال: "وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة فلا يزاد في ذلك ولا ينقص منه" 4.
وقال: "وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدّر ذلك تقديرا محكما مبرما، ليس فيه ناقص ولا معقب ولا مزيل ولا مغيِّر ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه"5.
في بيان المرتبة الثانية وهي كتابه الذي اشتمل على كل ما سيكون، يقول الإمام أبو حنيفة: "وقدّره وكتبه في اللوح المحفوظ" 6.
وقال: "ونقِرُّ بأن الله تعالى أمر القلم أن يكتب فقال القلم، ما أكتب يا رب؟ فقال الله تعالى: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة لقوله
__________
1 الفقه الأكبر ص302، 303.
2 الفقه الأكبر 302، 303.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 21.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 31.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 35.
6 الفقه الأكبر ص302.
(1/526)
________________________________________
تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} 1" سورة القمر: الآيتان52-53".
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن؛ لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه كائنا، لم يقدروا عليه، جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه" 2.
وفي بيان المرتبة الثالثة وهي الإيمان بمشيئة الله وقدرته العامة على كل شيء يقول الإمام أبو حنيفة: "ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته" 3.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وكل شيء يجري بتقديره، ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة العباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن" 4.
وفي بيان المرتبة الرابعة وهي الإيمان بأن الله خالق كل شيء يقول الإمام أبو حنيفة: "خلق الله الأشياء لا من شيء" 5.
__________
1 الوصية مع شرحها ص21.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 35.
3 الفقه الأكبر ص302.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 21.
5 الفقه الأكبر ص302.
(1/527)
________________________________________
وقال: "وكان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق" 1.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "خالق بلا حاجة ... خلق الخلق بعلمه" 2.
وقال: "ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم" 3.
__________
1 الفقه الأكبر ص304.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 20.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 21.
(1/528)
________________________________________
المبحث الثالث: أفعال العباد
يذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة، خلقها الله عزَّ وجلَّ في الفاعلين لها، دل على هذا قوله: "نقرّ بأن العبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق، فلما كان الفاعل مخلوقا، فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة" 1.
وقوله: "وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم، والله تعالى خالقها، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره" 2.
قال محمد بن الحسن بعدما ذكر قول3 عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "تكون النطفة في الرحم أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يومان ثم يعطى خلقه: فيقول: رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه ـ قال محمد بن الحسن وبهذا نأخذ وبه كان يأخذ أبو حنيفة، الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" 4.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب
__________
1 الوصية مع شرحها ص14.
2 الفقه الأكبر ص303.
3 أصله في صحيح مسلم 4/2036 يرفعه عبد الله بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/704.
(1/529)
________________________________________
أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد" 1.
وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة هو ما جاءت به الأدلة من كتاب الله كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} "سورة الزمر: الآية62".
فيخبر الله تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها وربها والمتصرف فيها وكلٌ ما تحت تدبيره وقهره وكلاءته 2، فأفعال العباد من جملة المخلوقات.
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} "سورة الحديد: الآية22".
فما يصيب الخلق من خير وشر، كله قد كتب في اللوح المحفوظ من قبل أن يخلقها سبحانه وتعالى، فالله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعالهم من الطاعات والمعاصي. وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} "سورة الصافات: الآية96".
قال البغوي في قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} قال: بأيديكم من الأصنام، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى" 3.
وقال ابن جرير في قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} "وجهان": أحدهما أن يكون قوله "ما" يعني المصدر؛ فيكون معنى الكلام حينئذ والله خلقكم وعملكم، والآخر أن يكون بمعنى الذي فيكون معنى الكلام عند ذلك: والله خلقكم والذي تعملونه: أي والذي تعملون منه الأصنام، وهو الخشب
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 53.
2 تفسير ابن كثير 6/105.
3 تفسير البغوي 4/31.
(1/530)
________________________________________
والنحاس والأشياء التي كانوا ينحتون منها أصنامهم" 1.
ورجّح الوجه الثاني ابن جرير 2 وابن القيم 3 ورجح الأول ابن كثير 4.
ومن السنة حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله يصنع كل صانع وصنعته" 5.
وصحّ عن ابن عمر أنه قال: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" 6.
وما ذهب إليه أبو حنيفة في أفعال العباد وأنها مخلوقة لله تعالى هو عين مذهب السلف.
قال اللالكائي: "إن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عزَّ وجلَّ طاعتها ومعاصيها" 7.
__________
1 تفسير ابن جرير 33/75.
2 تفسير ابن جرير 23/75.
3 شفاء العليل ص234.
4 تفسير ابن كثير 6/22.
5 أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد 39، 40، وابن أبي عاصم في السنة 1/158، وابن مندة في التوحيد 1/267؛ واللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/538، 239، والحاكم في المستدرك 1/31، 32؛ والبيهقي في الأسماء والصفات 338، وفي شعب الإيمان 1/501، 502؛ جميعهم من طريق ربعي بن خراش عن حذيفة والبزار في مسنده كما في مجمع الزوائد 1/158؛ وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح غير أحمد وهو ثقة" وقال الألباني: "إسناده جيد"، انظر ظلال الجنة 1/158، وصححه في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/181.
6 خلق أفعال العباد ص41.
7 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/534-537.
(1/531)
________________________________________
ثم ذكر ما وري عنه ذلك من الصحابة، ومن قال به من التابعين، ومن الفقهاء من أهل مكة ومصر والشام والكوفة والبصرة وبغداد. قال اللالكائي عن أهل الكوفة موطن الإمام أبو حنيفة: "من أهل الكوفة عبد الله بن شبرمة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن صالح بن حي وشريك وأبو حنيفة النعمان بن ثابت وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ... " 1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كما نص على ذلك سائر أئمة الإسلام، الإمام أحمد ومن قبله ومن بعده حتى قال بعضهم: من قال: إن أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال: إن السماء والأرض غير مخلوقة" 2.
فالمقصود أن فعل العبد فعله حقيقة، وهو مخلوق ومفعول له سبحانه، وليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق 3.
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/534-537.
2 مجوع الفتاوى 8/406.
3 مجموع الفتاوى 8/238، 393 بتصرف.
(1/532)
________________________________________
المبحث الرابع: الطوائف المنحرفة في القدر ورد الإمام أبي حنيفة عليها
المنحرفون في القدر طرفان متقابلان: طرف يثبت قدر الله سبحانه وتعالى، وغالوا فيه حتى جعلوا العبد مجبورا على فعله، ولم يثبتوا له فعلا ولا كسبا على الحقيقة، بل جعلوه كالريشة في الهواء، وجعلوا نسبة الفعل إلى العبد كنسبتها إلى الجماد، كما يقال: زالت الشمس، ودارت الرحى، وسقط الجدار. هؤلاء يسمون الجبرية 1.
وطرف غالوا في النفي وقالوا: لا قدر، والأمر أُنُف، وجعلوا الإنسان خالقا لأفعاله. وهؤلاء هم القدرية 2. وقد بسط الرد عليهم الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر بما لم يبسطه في غيره، وأتباعه متفقون على أن هذا هو مذهبه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: "إن أبا حنيفة من المقرين بالقدر باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه، وكلامه في الرد على القدرية معروف في الفقه الأكبر وقد بسط الحجج في الرد عليهم بما لم يبسطه على غيرهم في هذا الكتاب، وأتباعه متفقون على أن هذا هو مذهبه وهو مذهب الحنفية المتبعين له. ومن انتسب إليه في الفروع وخرج عن هذا من
__________
1 انظر الفرق بين الفرق ص211؛ وشفاء العليل ص109.
2 انظر الفصل 3/22؛ والملل والنحل 1/43؛ وشفاء العليل ص109.
(1/533)
________________________________________
المعتزلة ونحوهم، فلا يمكنه أن يحكى هذا القول عنه بل هم عند أئمة الحنفية، الذين يفتي بقولهم مذمومون معيبون من أهل البدع والضلالة" 1.
وإليك نماذج من كلام الإمام أبي حنيفة في الرد على القدرية والجبرية.
قال الإمام أبو حنيفة: "وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خلقها وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره، والطاعات كلها كانت واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضاه وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره، والمعاصي كلها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته لا بمحبته ولا برضائه ولا بأمره" 2.
وقال: "خلق الله تعالى الخلق سليما من الكفر والإيمان 3 ثم خاطبهم وأمرهم ونهاهم، فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده الحق بخذلان الله تعالى إياه، وآمن من آمن بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى ونصرته له" 4.
وقال: "وأخرج ذريّة آدم من صلبه على صورة الذر فجعلهم عقلاء، فخاطبهم وأمرهم بالإيمان ونهاهم عن الكفر فأقروا له بالربوبية فكان ذلك منهم إيمانا فهم يولدون على تلك الفطرة، ومن كفر بعد ذلك فقد بدّل وغيّر ومن آمن وصدّق فقد ثبت عليه وداوم" 5.
__________
1 منهاج السنة 3/139.
2 الفقه الأكبر ص303.
3 الفقه الأكبر ص302، 303.
4 الفقه الأكبر ص303.
5 الصواب خلق الله تعالى الخلق على فطرة الإسلام كما سيبينه أبو حنيفة في قوله الآتي.
(1/534)
________________________________________
وقال: "وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ" 1.
وقال: "ولم يجبر أحدا من خلقه على الكفر ولا على الإيمان، ولكن خلقهم أشخاصا، والإيمان والكفر فعل العباد، ويعلم الله تعالى من يكفر في حال كفره كافرا، فإذا آمن بعد ذلك علمه مؤمنا وأحبّه من غير أن يتغيّر علمه" 2.
__________
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأكبر ص303.
(1/535)
________________________________________
الفصل الرابع: الصحابة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم.
المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي.
المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم.
(1/537)
________________________________________
المبحث الأول: الإمام أبو حنيفة يحب جميع الصحابة ويتولاهم.
أثنى الله على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} "سورة التوبة: الآيتان 88-89".
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} "سورة التوبة: الآية100".
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "سورة الأنفال: الآية74".
فوصفهم الله بأنهم مؤمنون حقا، ومجاهدون بأموالهم وأنفسهم صدقا، وهم المفلحون والفائزون بمغفرة الله ورضوانه، فلهم من عنده تعالى الخيرات والرزق الكريم وجنات النعيم. فأي ثناء أبلغ من هذا الثناء وأي فضل أبلغ من هذا!.
(1/539)
________________________________________
وكذا أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة منها حديث جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها ... " 1.
وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 2.
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدَّ أحد ولا نصيفه" 3.
فالحديث الأول فيه بيان لفضيلة بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن بايعوه تحت الشجرة وأنهم لا يدخلون النار.
أما الحديث الثاني ففيه إثبات الخيرية لجميع الصحابة رضي الله عنهم، الذين هم خير القرون، وأنهم مقدمون في الفضل على من جاء بعدهم من التابعين.
أما الحديث الثالث ففيه بيان لفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث
__________
1 أخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أصحاب الشجرة 4/1942 ح"2496" من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله.
2 أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 7/3 ح"3650" ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة 4/1964 ح"2535" كلاهما من طريق زهدم بن مضرّب عن عمران بن الحصين.
3 أخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا " 7/21 ح"3673" من طريق ذكوان عن أبي سعيد البخدري، ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة 4/1967 ح"2540" من طريق أبي صالح عن أبي سعيد الخدري.
(1/540)
________________________________________
وصفهم بالصحبة، ونهى عن التعرض لهم وأوجب ذكرهم بالقول الحسن.
وهذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة طاعة لربه وامتثالا لأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهو يحب جميع الصحابة ويترضى عنهم ويتولاهم ولا يتبرأ من أحد منهم ولا يذكرهم إلا بالخير. دل على هذا قول الإمام أبي حنيفة: "ولا نذكر أحدا من أصحاب الرسول إلا بخير" 1.
وقوله: "ولا نتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نوالي أحدا دون أحد" 2.
وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونحب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نفرِّط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان" 3.
وقال: "ومن أحسنَ القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذريته المقدسين من كل رجز فقد برئ من النفاق" 4.
وكان أبو حنيفة يقول: "مقام أحدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة خير من عمل أحدنا جميع عمره وإن طال" 5.
ويشهد الإمام أبو حنيفة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة بالجنة.
__________
1 الفقه الأكبر ص304.
2 الفقه الأبسط ص40.
3 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 57.
4 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 58.
5 مناقب أبي حنيفة للمكي ص76.
(1/541)
________________________________________
حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وإن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله حق وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين" 1.
دل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئت لسميت العاشر قال: فقالوا: من هو؟ قال: سعيد بن زيد " 2.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" 3.
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني صص58.
2 أخرجه أبو داود كتاب السنة باب في الخلفاء 5/39 ح"4649" من طريق عبد الرحمن بن الأخنس عن سعيد بن زيد والترمذي كتاب المناقب باب مناقب عبد الرحمن بن عوف 5/648 ح"3748" والحاكم في المستدرك 3/440 كلاهما من طريق حميد بن عبد الرحمن عن سعيد بن زيد، قال الترمذي: "سمعت محمدا: يقول: "هو أصح من الحديث الأول". وقال الألباني: "صحيح". انظر تخريج الألباني على شرح العقيدة الطحاوية ص550.
3 أخرجه أحمد في المسند 1/193.
الترمذي كتاب المناقب باب مناقب عبد الرحمن بن عوف 5/647 ح"3747" كلاهما من طريق عبد الرحمن بن حميد عن أبيه قال الألباني في صحيح الجامع 1/70: "صحيح" وكذا في تخريج الطحاوية ص551 وكذا في مشكاة المصابيح 3/1727.
(1/542)
________________________________________
هذه هي عقيدة الإمام أبي حنيفة في الصحابة؛ فهو يحبهم جميعا، ويتولاهم ولا يفرط في محبة أحد منهم، ولا يذكرهم إلا بالخير.
(1/543)
________________________________________
المبحث الثاني: قول الإمام أبي حنيفة في المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما

اتفق أهل السنة والجماعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها، أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومن بعد أبي بكر عمر بن الخطاب وفي هذا يقول النووي: "اتفق أهل السنة والجماعة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر" 1.
وقال ابن الصلاح: "أفضلهم على الإطلاق أبو بكر ثم عمر" 2.
ويقول ابن حجر الهيتمي: "اعلم أن الذي اتفق عليه عظماء الملة، وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ثم عمر رضي الله عنهما" 3.
وقال القسطلاني: "إن أفضلهم على الإطلاق عند أهل السنة والجماعة إجماعا أبو بكر ثم عمر"4.
ويقول ابن تيمية: "لم يختلف علماء الإسلام في تفضيل أبي بكر
__________
1 شرح مسلم 1/148.
2 مقدمة ابن الصلاح ص149.
3 الصواعق المحرفة ص57.
4 المواهب اللدنية 7/36-39.
(1/544)
________________________________________
وعمر، وتقديمهما على جميع الصحابة. وهو قول مالك وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه ... ومن لا يحصى عدده..ممن له في الإسلام لسان صدق، كلهم يجزمون بتقديم أبي بكر وعمر" 1.
وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة بل أجمعوا عليه 2، ولكنهم اختلفوا في تفضيل عثمان على عليّ. وفي هذا يقول الشافعي: "وما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة، وإنما في علي وعثمان ونحن لا نخطِّئ واحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا" 3.
وقال الزركشي: "وإنما وقع الخلاف في التفضيل بين علي وعثمان" 4. فجمهور أهل السنة على تقديم عثمان على عليّ رضي الله عنهم أجمعين. وفي هذا يقول النووي: "وقال جمهورهم ـ يعني أهل السنة ـ ثم عثمان ثم علي" 5.
وقال ابن الصلاح: "ثم إن جمهور السلف على تقديم عثمان على عليّ ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ"6.
وقال بعض أهل السنة في تقديم عليّ على عثمان.
__________
1 منهاج السنة 7/286-288.
2 حكى الإجماع الغزالي في الاقتصاد ص154، ط دار الكتب العلمية، والأيجي في شرح المواقف 3/279.
3 الاعتقاد للبيهقي ص192.
4 الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة ص61.
5 شرح مسلم للنووي 15/48.
6 مقدمة ابن الصلاح ص177، ط مكتبة الفارابي تحقيق د/ مصطفى البغا، الطبعة الأولى 1404هـ.
(1/545)
________________________________________
وفي هذا يقول ابن كثير: "والعجب أنه قد ذهب بعض أهل الكوفة من أهل السنة إلى تقديم عليّ على عثمان، ويحكى عن سفيان الثوري، ولكن يقال إنه رجع عنه 1. ونقل مثله عن وكيع بن الجراح ونصره ابن خزيمة والخطابي وهو ضعيف مردود" 2.
وروي هذا القول عن الإمام أبي حنيفة فقد أسند إليه ابن عبد البر في الانتقاء قوله: "الجماعة أن تفضل 3 أبا بكر وعمر وعليا وعثمان وما تتنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " 4.
وجاء في السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني أن نوح بن أبي مريم سأل أبا حنيفة عن مذهب أهل السنة فقال: "أن تفضِّل أبا بكر وعمر وتحب عليا وعثمان ... " 5.
وجاء في مناقب أبي حنيفة للمكي: "كان أبو حنيفة يفضل أبا بكر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر، ثم يقول عليّ وعثمان".
وقال ابن أبي العز: "وقد روي عن أبي حنيفة تقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان على عليّ، وعلى هذا عامة أهل السنة" 6.
__________
1 انظر فتح الباري 7/16.
2 الباعث الحثيث ص183، ط دار الكتب العلمية.
3 في الأصل: "أن فضل أبا بكر.." وهو غلط، والصواب ما أثبت لأن ما بعده مفعول به منصوب.
4 ص63.
5 1/158.
6 شرح العقيدة الطحاوية ص570.
(1/546)
________________________________________
فقوله روي بصيغة التمريض؛ وهي تشعر بعدم ثبوت هذه الرواية عن الإمام أبي حنيفة. ولعله قد استند على ما روي عن الإمام أبي حنيفة في غير ما موضع من أنه كان يفضل أبا بكر وعمر ويحب عليا وعثمان فقوله: "علي وعثمان" لا يقتضي تقديم علي على عثمان لأن الوار في اللغة العربية لمطلق الجمع، ولأن التقديم الذكري لا يستلزم التقديم في الفضل، فالذي استقر عليه الإمام أبو حنيفة هو تفضيل عثمان على علي دل على ذلك قوله: "وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام أبوبكر الصديق ثم عمر بن الخطاب الفاروق ثم عثمان بن عفان ذو النورين ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عابدين ثابتين على الحق ومع الحق نتولاهم جميعا" 1.
ويقول: "ونقرّ بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين" 2.
وقال: "أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، ثم نكف عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بذكر جميلٍ" 3.
وهذا ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم
__________
1 الفقه الأكبر ص303-304.
2 الوصية مع شرحها ص14.
3 كما في النور اللامع "ق-119-ب" عنه.
(1/547)
________________________________________
الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون" 1.
وهذا ما استقر عليه أئمة الفقه كالشافعي ومالك في إحدى الروايتين.
وفي هذا يقول ابن تيمية: "وجمهور الناس فضلوا عثمان وعليه استقر أمر أهل السنة، وعليه أئمة الفقه كالشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك" 2.
وحكى القاضي عياض رجوع الإمام مالك عن الوقف في تفضيل عثمان على عليّ.
وفي هذا يقول الزرقاني: " حكى القاضي عياض عن مالك الرجوع عن الوقف إلى تفضيل عثمان وقال: إنه مشهور عن مالك والثوري وكافة أئمة الحديث والفقه وكثير من المتكلمين، وقال القرطبي: إنه الأصح عن مالك إن شاء الله" 3.
وذكر ابن بدران في المدخل أن الإمام أحمد كان يفضل أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ويسكت، ثم ربع بعلي لما ثبت له صحة حديث ابن عمر ونقل عن الإمام أحمد قوله: "كنا نقول: أبو بكر وعمر وعثمان ونسكت حتى صح لنا حديث ابن عمر" 4.
قال ابن بدران: "وأما الحديث الذي أشار إليه الإمام فإني كشفت عليه في المسند فلم أجده، ولست أدري هل فيه وزاغ عنه البصر فلم أجده؟! لكني وجدت أن الحافظ أبا القاسم ابن عساكر رواه في ترجمة
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 57.
2 منهاج السنة 8/197، 225.
3 شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 7/38.
4 المدخل ص17، 18.
(1/548)
________________________________________
أبي بكر الصديق رضي الله عنه من تاريخه الكبير عن ابن عمر قال: كنا نقول ورسول الله حي: أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينكر، وفي لفظ: ثم ندع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهما، قال ابن بدران: وحيث أن الإمام أشار إلى صحة هذا الحديث تركنا الكلام عليه اكتفاء بتوثيق إمام المحدثين" 1.
والحديث الذي رواه ابن عساكر أصله في صحيح البخاري ولفظه: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم" 2.
ولخص شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل السنة في المفاضلة بين عثمان وعلي بقوله: "ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه وعن غيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبى بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم عليا، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان" 3.
فالمقصود أن تفضيل عثمان على علي هو ما كان عليه أئمة الفقه
__________
1 المدخل ص17، 18.
2 أخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر 7/16 ح"3625" من طريق نافع عن ابن عمر.
3 مجموع الفتاوى 3/153.
(1/549)
________________________________________
وجمهور أهل السنة، ومن قال بخلاف ذلك فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار كما قال أيوب السختياني: "من لم يقدم عثمان على عليّ فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار" 1.
__________
1 مجموع الفتاوى 4/428؛ ومنهاج السنة 8/225؛ قال ابن تيمية: "ولو لم يكن عثمان أحق بالتقديم وقدموه كانوا إما جاهلين بفضله وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني، ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم".
(1/550)
________________________________________
المبحث الثالث: قول الإمام أبي حنيفة فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبهم
حرّم الله سبحانه وتعالى أن يؤذي المؤمن أخاه المؤمن بسبٍّ أو شتم أو غيبة أو همز أو لمز.
قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} "سورة الهمزة: الآية1".
فتوعد الله الهمّاز الذي يعيّر الناس، ويطعن عليهم بالإشارة أو بالفعل، وكذا اللمّاز الذي يعيبهم بقوله1، بالويل وهو واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيحهم 2، فمن آذى المؤمنين فقد أثم إثما مبينا.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} "سورة الأحزاب: الآية58".
فالوعيد الشديد والإثم الأكيد في حق من يؤذي أحدا من المؤمنين عموما بسبٍّ أو نحو ذلك، فكيف بأذية صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإثم أبلغ والجرم أعظم.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض لأصحابه بسبٍّ أو شتم فقال: "لا تسبوا أحداً من أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك
__________
1 انظر تفسير كلام المنان 7/671.
2 تفسير الطبري 30/291.
(1/551)
________________________________________
مدَّ أحدهم ولا نصيفه" 1.
فكل من يحب الصحابة فهو محب للرسول صلى الله عليه وسلم وكل من يبغضهم فهو مبغض له. فقد قال عليه الصلاة والسلام: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم، فبحبي أحبهم ومن أبغضهم، فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" 2.
كذلك نهى ابن عباس وابن عمر عن سب الصحابة، قال ابن عباس: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أمر بالاستغفار لهم" 3.
وقال ابن عمر: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره" 4.
فمن سب الصحابة، أو تنقص أحدا منهم، أو جاهر ببغضهم فليس على السنة ولا مع الجماعة.
قال الإمام أبو حنيفة: "الجماعة أن تفضل5 أبا بكر وعمر وعليا
__________
1 تقدم تخريجه ص540.
2 أخرجه أحمد في المسند 8/87، والترمذي كتاب المناقب باب 59، 5/696 ح"3862"، وابن حبان كما في موارد الظمآن ص568، 569 ح2284، جميعهم من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل. قال الترمذي على أثره: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
3 كتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 1/59 رقم "18" وطبقات ابن سعد 5/467.
4 سنن ابن ماجه المقدمة باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/57 ح"162".
5 في الأصل: "أن فضل أبا بكر ... " وهو غلط، والصواب ما أثبت، لأن ما بعده مفعول به منصوب.
(1/552)
________________________________________
وعثمان، ولا تنتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكفّر الناس بالذنوب، وتصلي على من يقول لا إله إلا الله وخلف من قال لا إله إلا الله ... " 1.
وسئل الإمام أبو حنيفة: من أي الأصناف أنت فأجاب بقوله: "أنا ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا بالذنوب" 2.
وقال أبو حنيفة: "ويحبهم كل مؤمن تقي، ويبغضهم كل منافق شقي" 3.
وقول الإمام أبي حنيفة هذا مأخوذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حق الصحابة من الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق" 4.
وقرر هذا لطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وحبهم دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان" 5.
وقال: "ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذريته المقدسين من كل رجز فقد برئ من النفاق" 6.
هذا وإذا سبهم سبا يقدح في عدالتهم ودينهم، فهو كفر ونفاق
__________
1 الانتقاء ص163، 164.
2 تاريخ بغداد 13/331.
3 الوصية مع شرحها ص14.
4 أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان 1/84 ح"129" من طريق عدي بن ثابت عن البراء.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 57.
6 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 58.
(1/553)
________________________________________
وطغيان. وأما من سبهم بما لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل بهتانا فهذا يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد 1 ذلك.
قال النسفي: "ويكف عن ذكر الصحابة إلا بخير" 2.
قال الشارح: "لما ورد من الأحاديث الصحيحة في مناقبهم ووجوب الكف عن الطعن فيهم ... فسبهم والطعن فهم إن كان مما يخالف الأدلة القطعية فكفرٌ كقذف عائشة وإلا فبدعة وفسق" 3.
وروى ابن أبي العوام أن رجلا سأل أبا يوسف فقال: "يا أبا يوسف يذكرون عنك أنك تجيز شهادة من يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على التأويل فقال: ويحك هذا أحبسه وأضربه حتى يتوب" 4.
فالمقصود أن لازم مقالة من سب الصحابة أنهم كفار أو فساق، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وإن سابقي هذه الأمة هم شرارها 5.
سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم: فقالوا: حواري عيسى، وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم 6.
__________
1 السيف المسلول.
2 العقيدة النسفية ص29 ضمن النفائس.
3 شرح العقائد النسفية للتفتازاني ص161، 162.
4 فضائل أبي حنيفة وأصحابه ص180.
5 انظر الصارم المسلول ص586، 587؛ ومنهاج السنة 1/27.
6 منهاج السنة 1/27.
(1/554)
________________________________________
الفصل الخامس: الإمامة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الإمامة في قريش.
المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين.
المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر
(1/555)
________________________________________
المبحث الأول: الإمامة في قريش
يرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن من شرط الإمام أن يكون قرشيا. دل على هذا المعتقد قول البغدادي: "دلت الشريعة على أن قريشا لا يخلو منهم من يصلح للإمامة، فلا يجوز إقامة الإمام للكافة من غيرهم. فقد نص الشافعي رضي الله عنه على هذا في بعض كتبه وكذلك رواه زرقان 1 عن أبي حنيفة " 2.
وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة هو مذهب الأئمة الثلاثة قال الإمام مالك: "ولا يكون ـ أي الإمام ـ إلا قرشيا وغيره لا حكم له" 3.
وقال الإمام أحمد: "الخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من الناس أن يتنازعهم فيها ولا يخرجه عليهم" 4.
وما ذهب إليه أئمة الفقه الأربعة هو قول جماهير أهل العلم.
قال ابن حجر: "ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيا" 5.
__________
1 لعله محمد بن حفص الزرقان.
2 أصول الدين للبغدادي ص275.
3 أحكام القرآن لابن العربي 4/1، 172.
4 طبقات الحنابلة 1/26.
5 فتح الباري 13/118.
(1/557)
________________________________________
والأصل في هذه المسائل ما ثبت في الصحيحين عن جماعة من الصحابة مما يدل على أن الإمامة في قريش. من ذلك ما رواه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب الأمراء من قريش عن معاوية رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين" 1.
وعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان" 2.
ومن ذلك ما رواه مسلم في كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليّ فسألت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال كلهم من قريش" 3.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم" 4.
قال النووي في الكلام على هذا الحديث: "إن الخلافة مختصة
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الأحكام باب الأمراء في قريش 13/113 ح7139 من طريق محمد بن جبير عن جبير بن مطعم.
2 أخرجه البخاري كتاب الأحكام باب الأمراء من قريش 13/114 ح7140 من طريق عاصم بن محمد عن أبيه عن ابن عمر.
3 أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش 13/1452 ح82 من طريق عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة.
4 أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش 3/1451 ح1818 من طريق الأعرج عن أبي هريرة.
(1/558)
________________________________________
بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة فكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرض بخلاف من غيرهم فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم بالأحاديث الصحيحة" 1.
فالمقصود أن اشتراط القرشية أمر متفق عليه بين السلف، ولم يخالفهم إلا المبتدعة 2 كبعض المعتزلة والأشاعرة وغيرهم 3.
__________
1 شرح صحيح مسلم 12/200.
2 فمن المعتزلة ضرار بن عمرو والنظام ومن الأشاعرة إمام الحرمين الجويني، انظر الملل والنحل 1/91؛ وغياث الأمم ص79، 80، 82. ط الثانية، وشرح صحيح مسلم 12/200.
3 طائفة من الخوارج، انظر شرح صحيح مسلم 12/200.
(1/559)
________________________________________
المبحث الثاني: إمامة الخلفاء الراشدين
أجمع الصحابة 1 على إمامة أبي بكر الصديق وسمّوه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له بالفضل، وذلك لفضله وسابقته في الإسلام، ولتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له على جميع الصحابة في إمامة الصلاة 2.
والدليل على خلافته: ما رواه البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ قال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" 3.
وحديث عائشة رضي الله عنهما قالت: "دخل عليّ
__________
1 انظر الإبانة للأشعري ص252؛ والبداية من الكفاية ص101؛ والمسامرة شرح المسايرة ص300؛ وشرح العقائد النسفية ص149، 150؛ وأصول الدين للبزدوي ص182.
2 المسايرة ص311؛ وأصول الدين للبزدوي ص182، 184.
3 أخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي لو كنت متخذا خليلا 7/17 ح3659؛ ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر 4/1857 ح2286 كلاهما من طريق محمد بن جبير عن جبير بن مطعم.
(1/560)
________________________________________
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتبا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " 1.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن" 2.
ثم الخليفة من بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفضله وسابقته في الإسلام وعهد أبي بكر إليه واتفاق الصحابة عليه 3.
ثم الخليفة بعد عمر عثمان بن عفان رضي الله عنه لفضله وسابقته للإسلام، ولتقديم أهل الشورى له، فبايعوه وانقادوا لأوامره، وصلوا معه الجمع والأعياد مدّة خلافته فكان إجماعا منهم على صحة خلافته 4.
ثم بعد عثمان الخليفة علي رضي الله عنه لفضله وسابقته للإسلام
__________
1 أخرجه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر 4/1857 من طريق عروة عن عائشة.
2 أخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبي بكر 7/18 ح3664؛ ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عمر 4/1860 ح2392 كلاهما من طريق ابن المسيب عن أبي هريرة.
3 شرح العقائد النسفية ص150؛ والبداية من الكفاية ص102؛ وأصول الدين للبزدوي ص1/4.
4 شرح العقائد النسفية ص151؛ والبداية ص103؛ وشرح المسايرة ص300؛ وأصول الدين للبزدوي ص57.
(1/561)
________________________________________
وإجماع الأمة على فضله 1. بعد الثلاثة وأنه أحق بالأمر من كل من سواه.
وأجمعت الأمة من بعد الصحابة على ما ذكروا من إمامة الخلفاء الراشدين وترتيبهم، ما خلا الرافضة، ولا عبرة بخلافهم.
وخلافة الخلفاء الراشدين كلهم خلافة نبوة، يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء" 2.
فمن طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار 3 أهله. يدل على ذلك ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه 4 حيث قال: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر رضي الله تفضيلا وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون" 5.
وكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "وعلماء السنة كلهم مالك وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وغير هؤلاء كلهم يحب الخلفاء
__________
1 فتح الباري 7/16؛ وشرح العقائد النسفية ص151؛ والبداية ص104.
2 أخرجه أحمد في المسند 5/44؛ وأبو داود كتاب السنة في الخلفاء 5/30؛ والحاكم في المستدرك 3/71؛ جميعهم من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه، قال الحاكم على أثره: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
3 العقيدة الواسطية مع شرحها التنبيهات اللطيفة ص93.
4 مجموع الفتاوى 3/153.
5 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 57.
(1/562)
________________________________________
ويتولاهم، ويعتقد إمامتهم وينكر على من يذكر أحدا منهم بسوء" 1.
وهذه بعض نصوص الحنفية في ذلك: قال النسفي: "وأفضل البشر بعد نبينا: أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي رضي الله عنهم، وخلافتهم ثابتة على هذا الترتيب" 2.
وقال قاسم بن قطلوبغا في شرحه لكتاب المسايرة لابن الهمام: "والإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وعند المعتزلة وأكثر الفرق "أبو بكر" بإجماع الصحابة على مبايعته "ثم عمر" باستخلاف أبي بكر له "ثم عثمان" بالبيعة بعد اتفاق أصحاب الشورى "ثم علي رضي الله عنهم أجمعين" وانعقدت إمامته بإجماع أهل الحل والعقد" 3.
وقال الصابوني الحنفي: "فصل في إمامة الخلفاء الراشدين: أولهم أبو بكر رضي الله عنه وكان مستجمعا لشرائط الخلافة، ومفضَّلا على جميع الصحابة. وقد اتفقت الصحابة على خلافته وذلك حجة قاطعة ... ثم استخلف قبل وفاته عمر ... ثم اتفقت الصحابة على خلافته ... ثم استشهد عمر رضي الله عنه وترك أمر الخلافة شورى بين ستة ... فاختار هو ـ أي عبد الرحمن ـ عثمان رضي الله عنه، وبايع له بمحضر من الصحابة فبايعوا له وانقادوا لأوامره ... ثم استشهد عثمان رضي الله عنه وترك الأمر مهملا حتى اجتمع كبار الصحابة ... والتمسوا من علي رضي الله عنه قبول الخلافة وأقسموا عليه حتى قبلها، فبايعه من حضر من كبار الصحابة"4.
__________
1 منهاج السنة 6/420.
2 شرح العقائد النسفية ص196.
3 شرح المسايرة ص300.
4 البداية ص101-103.
(1/563)
________________________________________
المبحث الثالث: الخروج على الإمام الجائر
ذهب الجمهور من أهل السنة1 إلى عدم جواز الخروج على الإمام الجائر، لما يترتّب على الخروج على السلطان من المفاسد الكثيرة من سفك للدماء، وزهق للأرواح ونهب للأموال، واستحلال للمحارم، بل في الصبر على جورهم تكفير للسيئات، ومضاعفة للأجور 2.
وقد دلّت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب طاعة وليّ الأمر وعدم الخروج عليه، ما لم يأمر بمعصية لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} "سورة النساء: الآية59".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى
__________
1 انظر شرح النووي على مسلم 12/229، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/167، 168، 175، 176، وكتاب الشريعة ص38، وأصول السنة ص98.
2 انظر شرح العقيدة الطحاوية ص430.
(1/564)
________________________________________
الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" 1.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 2.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" 3.
قال ابن المديني: " ... ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد اجتمع عليه الناس فأقروا له بالخلافة بأي وجه كانت برضا أو بغلبة فهو شاق هذا الخارج عليه العصا، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن عمل ذلك فهو مبتدع على غير السنة" 4.
وقال الإمام أحمد: "ودفع الصدقات والأعشار والخراج والفيء والغنائم إلى الأمراء عدلوا أو جاروا، والانقياد لمن ولاه الله عزَّ وجلَّ
__________
1 أخرجه البخاري كتاب الأحكام باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 13/111 ح7137، ومسلم كتاب الإمارة باب وجوب طاعة ولي الأمر في غير معصية 3/1466 ح1835 كلاهما من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
2 أخرجه البخاري كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية 13/121 ح7144، ومسلم كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية 3/1469 ح1839 كلاهما من طريق نافع عن ابن عمر.
3 أخرج البخاري كتاب الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سترون بعدي أمورا تنكرونها" 13/5 ح7054 ومسلم كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3/1478 ح1849 كلاهما من طريق أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/168.
(1/565)
________________________________________
أمركم لا تنزع يد من طاعته، ولا تخرج عليه بسيفك يجعل الله لك فرجا ومخرجا، ولا تخرج على السلطان، بل تسمع وتطيع. فإن أمرك السلطان بأمر ـ هو لله عزَّ وجلَّ معصية ـ فليس لك أن تطيعه، وليس لك أن تخرج عليه ولا تمنعه حقه ولا تعن على فتنة بيد ولا لسان، بل كف يدك ولسانك وهواك، والله عزَّ وجلَّ المعين" 1.
وقال البخاري: "ولا تنازع الأمر أهله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، إخلاص العلم لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" 2، وألا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم"3.
وقال أبو زرعة الرازي: "ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في فتنة ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عزَّ وجلَّ أمرنا ولا ننزع يدا من طاعة ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة" 4.
وقال ابن أبي زمنين: "فالسمع والطاعة لولاة الأمر واجب مهما قصَّروا في ذاتهم، فلم يبلغوا الواجب عليهم، غير أنهم يدعون إلى الحق
__________
1 كتاب السنة للإمام أحمد ص46 ضمن شذرات الذهب.
2 أخرجه الترمذي كتاب العلم باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5/34، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه أحمد 1/80 وابن ماجة كتاب المناسك باب الخطبة يوم النحر 2/1015، 1016 ح3056، والحاكم في المستدرك 1/87-88 جميعهم من طريق محمد بن جبير عن جبير بن مطعم، قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح الجامع 6/30، وفي صحيح الترغيب 1/12.
3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/175، 176.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/177.
(1/566)
________________________________________
ويأمرون به ويذبون عنه، فعليهم ما حملوا، وعلى رعاياهم ما حملوا من السمع والطاعة لهم"1.
وقال النووي: "أجمع العلماء على وجوبها ـ أي طاعة الأمراء ـ في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية. نقل الإجماع على هذا القاضي عياض" إلى أن قال: "ولا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق" 2.
وما حكي عن الأئمة في مسألة الخروج على الإمام الجائر حكي مثله عن الإمام أبي حنيفة، فقد سأله أبو مطيع البلخي قائلا له: "ما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتّبعه على ذلك ناس فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟
قال: لا، قلت ولم؟ وقد أمر الله تعالى ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا فريضة واجبة. فقال: وهو كذلك، لكن ما يفسدون من ذلك يكون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال المحارم وانتهاب الأموال، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} "سورة "الحجرات: الآية9".
قال أبو مطيع: فنقاتل الفئة الباغية بالسيف؟ قال: نعم تأمر وتنهى فإن
__________
1 أصول السنة ص980.
2 شرح مسلم 12/222، 223، 229.
(1/567)
________________________________________
قبل وإلا قاتلته فتكون مع الفئة العادلة وإن كان الإمام جائرا، ثم قال له بعد ذلك: وكن مع الفئة العادلة والسلطان الجائر ولا تكن مع أهل البغي" 1.
لكن حكى الجصاص في كتابه أحكام القرآن خلاف ذلك حيث قال: "وكان مذهبه رحمه الله مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور، لذلك قال الأوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف ـ يعني قتال الظلمة ـ فلم نحتمل، ثم قال: وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة في حمله المال إليه، وفتيا الناس سرا في وجوب نصرته والقتال ومعه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم 2 ابني عبد الله بن حسن ... " 3.
ويؤيد ما حكاه الجصاص ما أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة بسند صحيح عن أبي يوسف قال: "كان أبو حنيفة يرى السيف" 4.
وروي كذلك بسند صحيح عن إبراهيم بن شماس 5 قال: "قال
__________
1 الفقه الأبسط ص44-48.
2 خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخوه بالبصرة فأيّدهم بعض العلماء والقراء. قال ابن العماد: "خرج مع إبراهيم كثير من العلماء منهم هشيم وأبو خالد الأحمر وعيسى بن يونس وعياد بن العوام ويزيد بن هارون وأبو حنيفة كان يجاهر بأمره ويحث الناس على الخروج معه كما كان مالك يحث الناس على الخروج مع أخيه محمد" شذرات الذهب 1/214.
3 أحكام القرآن 1/70.
4 السنة 1/182.
5 هو إبراهيم بن شماس الغازي أبو إسحاق السمرقندي، قال عنه ابن حجر: "نزيل بغداد ثقة من العاشرة مات سنة إحدى وعشرين ومائتين".
تقريب التهذيب 1/36 وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/127.
(1/568)
________________________________________
رجل لابن المبارك ونحن عنده إن أبا حنيفة كان مرجئا يرى السيف فلم ينكر عليه ذلك ابن المبارك"1.
ويمكن الجواب عن هذا بأنه في أول أمره كان يرى الخروج على السلطان الجائر، ثم استقر آخر الأمر على عدم الخروج. دلّ على هذا ما قرره واختاره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزَّ وجلَّ فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" 2.
وما ذكره الطحاوي هو ما حكاه ابن الهمام عن أبي حنيفة في المسايرة وأقره الشارحان، ابن أبي الشريف وابن قطلوبغا وكذا ذكره البزدوي.
قال ابن الهمام: "وإذا قلد عدلا، ثم جار وفسق لم ينعزل، ويستحق العزل إن لم يستلزم فتنة، ويجب أن يدعى له ولا يجب الخروج عليه كذا عن أبي حنيفة وكلمتهم قاطبة" 3.
وقال البزدوي: "الإمام إذا جار أو فسق لم ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرضي"4.
__________
1 السنة 1/181، 1/182..
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص ص48.
3 المسايرة ص291 مع شرحها لابن أبي شريف وقاسم بن قطلوبغا.
4 أصول الدين للبزدوي ص190.
(1/569)
________________________________________
الباب الخامس: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأتباعه
وفيه فصلان:
الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه.
الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد
(1/571)
________________________________________
الفصل الأول: المقارنة بين عقيدة الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه الماتريدية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي وأتباعه في المنهج.
المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين.
(1/573)
________________________________________
المبحث الأول: المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي أتباعه في المنهج
أولا ـ مصادر التلقي عند كل منهما:
لقد تقدم أن منهج الإمام أبي حنيفة في تلقّي العقيدة ينحصر في الأسس التالية:
ـ الشرع "الكتاب والسنة".
ـ الفطرة.
فالكتاب والسنة هما الأساس الأول عند الإمام أبي حنيفة حيث أن نصوص الشرع هي العمدة والأصل، ومن هنا يجب تقديمهما على أي كائن مهما من كان.
فالكتاب والسنة هما دليلا الإمام أبي حنيفة غير متجاوز عنهما؛ لأن تجاوزهما قولٌ على الله بغير علم، وتقديم بين يدي الله ورسوله. ومن هنا فلا يوجد في كلام أبي حنيفة أي آية من كتاب الله قد عارضتها العقول. أو أن شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عارضه المعقول. بل لا نجد في كلامه أن الأدلة العقلية قاطعة لا تقبل التأويل ومقدمة على الأدلة السمعية، لأن
(1/575)
________________________________________
ظواهر نصوص الشرع ظنية غير قطعية، كما أنه لم يقل إن أخبار الآحاد الصحيحة لا تثبت بها العقيدة.
بل يظهر من صنيع الإمام أبي حنيفة الاستدلال بخبر الآحاد كما سبق الكلام عليه، بل إنه قد استدل في جوانب من العقيدة بأخبار الآحاد ومنه حديث الجارية.
وهذا ما عليه الإمام أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد. فقد قرر الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال ومعناه على ما أراد الله ولا ندخل في ذلك متأولين ولا متوهمين بأهوائنا" 1.
وقال محمد بن الحسن: " اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عزَّ وجلَّ ... "2.
وقال في مثل حديث النزول وغيره: ""هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها" 3.
__________
1 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 26، 27.
2 أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/432-433.
من طريق سليمان بن داود بن طلحة عن عبد الله بن أبي حنيفة الدوسي.
وأورده شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 4/4-5.
والذهبي في العلو ص113.
قال شيخ الإسلام: "ثبت عن محمد بن الحسن".
3 أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/433.
وابن قدامة في إثبات العلو ص170، ط مكتبة العلوم والحكم، والذهبي في العلو ص113.
جميعهم من طريق أبي عمرو بن وهب عن شداد بن حكيم. =
(1/576)
________________________________________
وكذا قال: "نؤمن بالله، وبما جاء من عند الله على ما أراد الله وعلى ما أراد به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نشتغل بكيفية مراد الله تعالى وبما جاء من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم" 1.
وقال أبو يوسف: " القرآن كلام الله من قال كيف؟ ولم؟ وتعاطى مراءً ومجادلة استوجب الحبس والضرب بالسوط المبرح" 2.
وبالمقارنة بين منهج الإمام أبي حنيفة في مصادر التلقي ومنهج الماتريدية لأبي منصور وأتباعه؛ نجد أن هناك تباعدا واضحا، فإنهم يرون أن مصدر التلقي الأول في معظم أبواب التوحيد هو العقل دون النقل 3؛ لأن الأدلة العقلية عندهم قطعية 4، أما السمعية فهي ظواهر ظنية 5.
__________
= قال الألباني في مختصر العلو ص59:
"أخرجه اللالكائي في السنة ... وعمرو بن وهب إن كان الطائفي فمجهول الحال وإن كان القرشي فقال ابن أبي حاتم 3/1/266" عن أبيه: "هو مضطرب الحديث"
1 بحر الكلام ص26.
2 فضائل الإمام أبي حنيفة وأصحابه لابن أبي العوام ""ق-164/ب.
3 قسمت الماتريدية أصول الدين بحسب مصدر التلقي إلى عقليات وسمعيات، فما سموه عقليات فمصدر التلقي عندهم هو العقل والعقل أصل والنقل تابع معارض له، وهذا جار في معظم أبواب التوحيد والصفات.
وما سموه سمعيات فمصدر التلقي عندهم هو النقل والعقل تابع له كعذاب القبر والصراط والميزان وأحوال الآخرة. انظر على سبيل المثال أحد كتبهم وهو المسايرة مع شرحها المسامرة. فمن أول الكتاب إلى ص249 عقليات ثم بعد ذلك سمعيات.
وانظر العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني من أول الكتاب إلى ص98 عقليات ثم بعد ذلك سمعيات.
4 انظر إشارات المرام ص189-199؛ وشرح العقائد النسفية ص5، 42؛ ونشر الطوالع ص228؛ وشرح المواقف 8/24.
5 انظر حاشية عبد الحكيم على الخيالي ص184 مع المصادر المذكورة في الفقرة السابقة.
(1/577)
________________________________________
وعند التعارض تقدم الأدلة العقلية لأنها قطعية، وتؤوّل الأدلة السمعية لأنها ظنية 1.
قال الزبيدي: "وهو أن الشرع إنما ثبت بالعقل ... فلو أتى الشرع بما يكذب العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل معا. إذا تقرر هذا فنقول كل لفظ يرد في الشرع ... وهو مخالف للعقل ... إما أن يتواتر أو ينقل آحادا. والآحاد إن كان نصا لا يحتمل التأويل؛ قطعنا بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطه، وإن كان ظاهرا فظاهره غير مراد ... وإن كان متواترا فلا يتصور نص متواتر لا يحتمل التأويل بل لا بد أن يكون ظاهرا ... " 2. والقاعدة عندهم أن كل نص إذا أخبر به الصادق وهو أمر ممكن ولم يكن مخالفا فلا يؤوّل كالبعث والنشر ونعيم الجنة وعذاب النار. أما إذا كان النص دالا على أمر محال مخالف للعقل؛ فلا بد من تأويله، كعلو الله تعالى, واستوائه على عرشه، ونزوله إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر 3. ويقولون: إن النصوص إذا كانت خلاف العقل، فإن كانت متواترة فهي، وإن كانت قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة؛ فالعقل مقدم عليها، فلذلك الأدلة النقلية تؤوَّل أو تفوَّض".
__________
1 إشارات المرام ص199؛ وشرح العقائد النسفية ص42؛ ونشر الطوالع ص228، 229؛ والمسايرة ص33، 35.
2 شرح الإحياء للزبيدي الحنفي الماتريدي 2/105-106. وانظر أصل هذا القانون الكلي في تبصرة الأدلة ص54؛ والنور اللامع ص80-81خ.
وراجع أيضا شرح المقاصد للتفتازاني 2/50؛ والطبعة التركية. وانظر شرح المواقف للجرجاني 2/56-57.
3 انظر النبراس في شرح العقائد النسفية ص316-317.
(1/578)
________________________________________
أما الأدلة العقلية فلا تأويل لها بل تأويلها محال 1.
فالحاصل أن منهج الماتريدية في نصوص الوحي منهج فاسد باطل؛ لأنه صريح في أن العقل أصل. والشرع فرع، لأن نصوص الشرع إذا كانت مخالفة لعقولهم فهم إما أن يردوها أو يؤولوها أو يفوِّضوها، لذلك أوّلوا نصوص كثير من الصفات. وأبقوا نصوص المعاد على ظواهرها، فلو كانت نصوص المعاد عندهم مخالفة لعقولهم لأوّلوها. وهذا كما ترى انحراف عن الطريق المستقيم.
فالواجب على كل مسلم أن يجعل ما قال الله ورسوله هو الأصل والعمدة فيسلم بنصوصهما، وينقاد لهما ولا يعترض عليهما، ولا يعارضهما برأيه ومعقوله وقياسه.
قال الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: "ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام" 2.
وقال أبو المظفر السمعاني: "اعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل؛ فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور للمعقول، وأما أهل السنة، قالوا: الأصل في الدين الاتباع، والمعقول تبع. ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء
__________
1 انظر شرح العقائد النسفية ص5، 42؛ وشرح المواقف 8/24، 110، 111؛ وإشارات المرام ص189-199؛ وشرح الإحياء 2/105-106؛ ونشر الطوالع ص238.
2 شرح العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص 27.
(1/579)
________________________________________
ما شاء. ولو كان الدين بني على المعقول وجب ألا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا".1
وقال الشاطبي: "إن الشريعة بنيت على أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} "سورة الإسراء: الآية15".
وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} "سورة النساء: الآية59".
وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ} "سورة الأنعام: الآية57".
وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث، فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع، وأنه محسِّن ومقبح فابتدعوا في دين الله ما ليس منه" 2.
وقال ابن أبي العز: "وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه بل قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} "سورة الأعراف: الآية12".
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} "سورة النساء: الآية80".
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "سورة آل عمران: الآية31".
__________
1 صون المنطق ص182 عن السمعاني.
2 الاعتصام 1/45.
(1/580)
________________________________________
وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} "سورة النساء: الآية65".
أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليما" 1.
لكن ليس معنى ذلك أن السلف يرفضون العقل 2 ويهملونه، بل يعملونه في عالم الشهادة لا في عالم الغيب إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل، ولا يثبتون بالعقل حكما شرعيا، فعندهم للعقل مع الشرع حالتان لا ثالث لهما:
الأولى: أن يدل على ما دل عليه الشرع فيكون شاهدا أو مؤيدا ومصدقا فيحتجون حينئذ بدلالة العقل على من خالف الشرع. وفي القرآن من هذا النوع أي من الأدلة العقلية شيء كثير كأدلة التوحيد والنبوة والمعاد، فتلك الأدلة هي عقلية شرعية.
قال ابن تيمية: " إن كثيرا مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضا، والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه كما ذكر الله ذلك في غير موضع.
فإنه سبحانه وتعالى بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك ما أرشد العباد إليه، ودلهم عليه، كما بين أيضا ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه، فهذه المطالب هي شرعية من جهتين:
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص190، 191.
2 العقل عند السلف آلة التمييز والإدراك والعلم والعمل.
(1/581)
________________________________________
من جهة أن الشارع أخبر بها.
ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها، والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسطت في غير هذا الموضع، وهي أيضا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضا" 1.
الحالة الثانية: أن لا يدل على ما دل عليه الشرع لا نفيا ولا إثباتا، فحكم العقل إذا جواز ما جاء به الشرع. أما أن يدل العقل على خلاف ما جاء به الشرع فيكون معارضا له فهذا ما لا يكون مع صحة النقل، ولهذا قال أهل السنة: إن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، وقالوا: "إن الرسل جاؤوا بمحارات العقول لا بمحالات العقول".
أي أن الرسل لا يخبرون بما يحيله العقل، ولكن يخبرون بما يجيزه العقل ويحار فيه، وهذا تحديد موقف أهل السنة من العقل مع الشرع.
ثانيا: حكم تأويل النقل:
إذا كان الأساس الأول عند الإمام أبي حنيفة هو تقديم النص الشرعي على ما سواه، فمن الطبيعي عنده رفض التأويل الكلامي ـ الذي هو في الواقع تحريف ـ وهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يراه العقل، وقد تقدمت نصوص أبي حنيفة في ذلك ولا بأس أن أذكر واحدا منها وهو قوله: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال" 2.
__________
1 مجموع الفتاوى "3/ص أبعد ص88".
2 الفقه الأكبر ص302.
(1/582)
________________________________________
فاعتبر تأويل صفة اليد بالقدرة أو النعمة يؤدي إلى تعطيل النصوص الدالة على هذه الصفة عن دلالتها على المعنى المسوق لأجله، فإذا حملت على خلاف ذلك بتأويلها كان ذلك نفيا للمعنى الذي جاءت من أجله وإثباتا لمعنى آخر لم تدل عليه النصوص لا نصا ولا ظاهرا. ولذلك صرح الإمام أبو حنيفة: "فيه إبطال الصفة" ومن هنا فلا داعي لتأويل هذه الصفة وغيرها بصرفها عن ظاهرها.
وهكذا كان الإمام أبو حنيفة ملتزما بمنهجه أثناء التطبيق؛ فأبى أن يؤول اليد بالقدرة أو النعمة 1، والرضا بالثواب 2، والغضب بالعقاب 3.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد صرّح الإمام أبو حنيفة أن تأويل الصفات كما هو تعطيل، كذلك خارج عن مذهب أهل السنة، بل هو مذهب الجهمية، دل على ذلك قوله: "وهو مذهب أهل القدر والاعتزال" 4.
وكذا لا يوجد في كلام أبي حنيفة تفويض مطلق، بل الذي في نصوص الإمام أبي حنيفة تفويض مقيّد بنفي علم الكيفية فقط لا المعنى.
__________
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأبسط ص56.
3 الفقه الأبسط ص56. وهكذا في جميع نسخ الفقه الأبسط حتى بتحقيق الكوثري، ولكن طبع الفقه الأبسط حديثا في باكستان فحرّف محقّقها نص الإمام أبي حنيفة فصار مؤدّاه تأويل الرضا بالثواب والغضب بالعقاب، نعوذ بالله من شر المحرفين.
4 الفقه الأكبر ص302.
(1/583)
________________________________________
ومن جملة تلك النصوص الدالة على هذا قوله عن صفة النزول: "ينزل بلا كيف" 1.
وقوله عن صفة الوجه واليد: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن، من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف" 2.
وقوله عن صفة الغضب والرضا: "لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف" 3.
فيتبين لنا مما سبق أن عقيدة الإمام أبي حنيفة في الصفات تتركز حول الإيمان بما ثبت من النصوص؛ حيث يؤمن بمعناها كما جاءت دون زيادة حرف أو نقصانه، مع إرجاع العلم بكيفيتها وحقيقتها إلى الله تعالى، لأن الكيف والحقيقة من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وليس للعقل مجال في بحثها، والخوض فيها، لأن العقول قاصرة عن إدراك كيفية تلك الصفات، فإذا كان الإمام أبو حنيفة رفض التأويل والتفويض المطلق، فما موقف الماتريدية من ذلك؟ وهل وافقوا الإمام أبا حنيفة؟ أم خالفوه؟.
والجواب عن هذا أن الماتريدية خالفوا الإمام أبا حنيفة فقالوا بالتفويض تارة تفويضا مطلقا، بل صرح أبو منصور الماتريدي أن آيات
__________
1 كره الإمام الصابوني عن الأستاذ أبي منصور بن حمشاد في عقيدة السلف أصحاب الحديث ص42، والبيهقي في الأسماء والصفات ص456، وسكت عليه الكوثري، ونقله الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية ص245، بتخريج الألباني، والقاري في شرح الفقه الأكبر ص60.
2 الفقه الأكبر مع شرحه للقاري ص58، 59؛ وشرح أبي المنتهى ص13، 14، وإشارات المرام ص187، 192.
3 الفقه الأبسط ص56، ونقله البياضي في إشارات المرام ص187.
(1/584)
________________________________________
الصفات كالحروف المقطّعة مثل آلم، آلمص وفي هذا يقول: "في الحقيقة إنها تحتمل وجوها:
أحدها: أن نصفه بالذي جاء به التنزيل على ما جاء، ونعلم أنه لا يشبه على ما ذكر من الفعل فيه بغيره، ... وإذا بطل هذا بطل التشابه وانتفى، ولزم أمر السمع والتنزيل على ما أراد الله" 1.
ويرى أنه يمتحن المرء بالوقوف حول نصوص الصفات، كما يمتحن بالوقوف حول الحروف المقطعة 2.
ويقول: وأما الأصل عندنا في ذلك أن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} "سورة الشورى: الآية11".
... فيجب القول بالرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل وثبت ذلك في العقل ... ونؤمن بما أراد الله به وكذلك في كل أمر ثبت التنزيل فيه نحو الرؤية وغير ذلك. يجب نفي الشبهة عنه والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيءٍ" 3.
وتارة يقول بالتأويل. وفي هذا يقول أبو منصور الماتريدي:"والثاني أن يمكن فيه معان تخرج الكلام مخرج الاختصار والاكتفاء بمواضع إفهام في تلك المواضع على إتمام البيان وذلك نحو قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} "سورة الفجر: الآية22". أي بالملك.
وذلك كقوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} "سورة المائدة: الآية24".
__________
1 تأويلات أهل السنة 1/84 ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.
2 كتاب التوحيد للماتريدي ص74، 75.
3 كتاب التوحيد للماتريدي ص74.
(1/585)
________________________________________
أي بربك "فقاتلا" إذ معلوم أنه يقاتل بربه ففهم منه ذلك ... " 1.
ويقول: "قد يفهم من الشاهد من على ومن العرش ومن الاستواء معان مختلفة، لم يجز صرف ذلك إلى أوحش وجه وثمة لأحسن ذلك مساغا" 2.
ويعني بأوحش الوجوه ما تدلّ عليه النصوص من إثبات صفة الاستواء فالإثبات عنده من أوحش الوجوه لأن ذلك يستلزم التشبيه، والله منزه عن ذلك.
لذا يرى صرف تلك النصوص بنوع من التأويل والمجاز إلى أحسن الوجوه ـ وهو في الحقيقة تحريف ومن أقبح الوجوه ـ وقد طبّق الماتريدي منهجه هذا، فقد أوّل نصوصا من الصفات إلى معانٍ توافق قاعدته، فأول صفة الاستواء إلى الاستيلاء والتمام 3، والعلو إلى علو المرتبة وعلوه عن الأمكنة وتعاليه عن الحاجة وتعاليه عن أن يخفى عليه شيء 4.
ويرد استدلال الإمام أبي حنيفة وغيره من السلف بنصوص الاستواء وبرفع الأيدي إلى السماء وقت الدعاء ويحرفه إلى أن المراد في رفع الأيدي إلى السماء أن السماء قبلة للدعاء تعبدا كتوجه المصلي إلى الكعبة وقت الصلاة 5.
ومن هنا علم يقينا أن أبا منصور الماتريدي لم يلتق مع الإمام أبي حنيفة في رفضه للتأويل مما يؤكد
عدم توافقهما. فالإمام أبو حنيفة ظلَّ
__________
1 تأويلات أهل السنة 1/84.
2 كتاب التوحيد للماتريدي ص74.
3 كتاب التوحيد ص70، 71، 73، 74.
4 كتاب التوحيد ص70، 71.
5 كتاب التوحيد ص73، 75، 76.
(1/586)
________________________________________
وفيًا للنصوص دون تأويل ظاهرها، أو تحريف لها عن معانيها. وهو يرفض التأويل ويمنعه كما تقدّم ذكره، بينما أبو منصور الماتريدي يدعو إلى التأويل أو التفويض لوحشة الإثبات عنده والله المستعان.
ثالثا ـ علم الكلام بين القبول والرفض:
موقف أبي حنيفة من علم الكلام:
يقوم علم الكلام على دعامتين أساسيتين هما اتخاذ العقل أساسا ـ ومن هنا يوجبون تقديمه على النقل ـ والجدل.
ومن الطبيعي أن يرفض الإمام أبو حنيفة علم الكلام بعد ما تضلع فيه؛ حيث أدرك خطورته على الدين وضرره على العقيدة خاصة؛ ومن هنا كان أبو حنيفة وأبو يوسف ينهيان عن الجدل وطلب الدين بالكلام.
ولا بأس أن أذكر نصا واحدا.
قال أبو حنيفة لأحد أصحابه لما سأله عن العَرَض قال: ""مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة" 1.
لذا قال محمد بن الحسن: "كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام" 2.
ويقول في هذا ابن خزيمة: " ... أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف ... ينهون عن الخوض فيه ـ يعني الكلام ـ ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة" 3.
__________
1 ذم الكلام "ق194/ب".
2 ذم الكلام "ق196/ب".
3 ذم الكلام "ق233/ب" عن ابن خزيمة.
(1/587)
________________________________________
وقال البزدوي: "ونحن نتبع أبا حنيفة فإنه إمامنا ... وإنه كان يجوِّز تعليمه وتعلّمه والتصنيف فيه ولكن في آخر عمره امتنع عن المناظرة فيه ونهى أصحابه عن المناظرة فيه" 1.
وقد يتثبّت بعض من يشتغل بعلم الكلام من الحنفية في الفرار عن أقوال أبي حنيفة في ذم الكلام، بأن مراد أبي حنيفة وكل من ذمّ علم الكلام من السلف هو علم الكلام المذموم الذي كان عليه الجهمية والمعتزلة، أما علم الكلام الذي ينتحلونه فلا يدخل تحت ذلك الذم لأنه علم كلام محمود 2.
والجواب عن هذا الإشكال أن علم الكلام كله مذموم ليس فيه حسن وسيّء. ومثل هذه الشبهة مثل من قسم البدعة إلى حسنة وسيئة.
والبرهان على ذلك أن علم الكلام الذي ذمه السلف وذم المشتغلين به ذما شديدا هو علم الكلام الذي من نتيجته وثمرته نفي صفات الله.
كالعلو، والاستواء، والنزول، والقول بخلق القرآن، والقول بالكلام النفسي، والقول بتقديم العقل على النقل. وهذا كله موجود عند كثير من الماتريدية والأشاعرة.
قال الإمام أحمد: "لا أحب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود" 3.
__________
1 أصول الدين للبزدوي ص4.
2 انظر شرح العقائد النسفية للتفتازاني ص7؛ وشرح الإحياء للزبيدي 2/52، 53.
3 درء تعارض العقل والنقل 7/155.
(1/588)
________________________________________
وقال ابن القيم: "قال شيخنا والكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وذم أصحابه والنهي عنه وتجهيل أربابه وتبديعهم وتضليلهم هو هذه الطرق الباطلة التي بنوا عليها نفي الصفات والعلو والاستواء على العرش وجعلوا بها القرآن مخلوقا ونفوا بها رؤية الله في الدار الآخرة وتكلمه بالقرآن، وتكليمه لعباده، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، فإنهم سلكوا فيه طرقا غير مستقيمة واستدلوا بقضايا متضمنة بالكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصريح المعقول" 1.
فلا شك أن ما هم عليه داخل في علم الكلام المذموم الذي ذمه أبو حنيفة والسلف.
لذا يقول شيخ الإسلام في معاصريه من المتكلمين: "وهم في الحقيقة لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا" 2.
ويقول فيهم: "يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات" 3.
__________
1 الصواعق المرسلة 4/1266-1267.
2 شرح حديث النزول ص163.
ومجموع الفتاوى 5/33، 44.
وجامع الرسائل 2/33.
3 شرح حديث النزول ص196.
ومجموع الفتاوى 3/9.
ودرء تعارض العقل والنقل 1/218.
والتدمرية ص19.
(1/589)
________________________________________
موقف أبي منصور الماتريدي وأتباعه من علم الكلام:
أما موقف أبي منصور الماتريدي وأتباعه من علم الكلام فهو على خلاف منهج أبي حنيفة فقد توغّلوا في علم الكلام واعتقدوا أنه هو العلم الحق بل هو أشرف العلوم وأعلاها، لأنه منجٍ من غياهب الشكوك وظلمات الأوهام 1.
وإليك شواهد تصدق ما قلناه.
1- إن الإمام الماتريدي ألّف كتابا في التوحيد وهو مطبوع متداول، وكل من نظر فيه عرف أنه كتاب الفلسفة والمنطق والكلام. وهو مكتظ بتعطيل الصفات وتحريف نصوصها فهو ليس كتاب توحيد في الحقيقة بل كتاب تعطيل للنصوص الشرعية. وهو شاهد عدل على ما قلناه.
2- إن الإمام أبا منصور الماتريدي، لأجل توغّله في علم الكلام ألّف في تفسير القرآن كتابا بعنوان: "تأويلات أهل السنة"، والناظر فيه يعرف بسهولة أنه مكتظ بعلم الكلام وتعطيل كثير من الصفات وتحريف نصوصها فهو حري بأن يسمى "تأويلات أهل البدع"؛ لأن تأويل الصفات ليس بمذهب السلف في شيء لا الإمام أبو حنيفة ولا غيره من الأئمة.
3- أن هناك جما غفيرا من الماتريدية أفنوا أعمارهم وأنهكوا قواهم في علم الكلام درسا وتدريسا أمثال أبي اليسر البزدوي وأبي المعين النسفي ونور الدين الصابوني ونجم الدين النسفي وحافظ الدين النسفي والتفتازاني والجرجاني وكمال الدين البياضي وعبد العزيز الفهريهاري كل هؤلاء يعظمون علم الكلام ويرونه أساسا للدين.
__________
1 انظر شرح العقائد النفسية ص2، 3.
(1/590)
________________________________________
4- إنهم أثنوا وبجّلوا علم الكلام في مقدمات كتبهم وإليك نصا واحدا على سبيل المثال:
قال التفتازاني شارح العقيدة النسفية: "فإن مبنى علم الشرائع والأحكام وأساس قواعد ـ الإسلام هو علم التوحيد والصفات الموسوم "بالكلام" المنجي من غياهب الشكوك وظلمات الأوهام" 1.
ومن هنا علمنا يقينا أن الماتريدية لم يلتقوا مع الإمام في ـ رفضه علم الكلام بل نجد أنهم توغّلوا في علم الكلام ولم يسلكوا طريقا غيره. وهكذا بمقارنة منهج الماتريدي وأتباعه بمنهج أبي حنيفة وجدنا أن أبا حنيفة سلفي يثبت ما تدلّ عليه نصوص الكتاب والسنة، ولا يبتعد عنهما أو يتجاوزهما برأي أو تأويل، ولم يعطل النصوص أو يهملهما، بل كان إعماله لها حتى ولو استوحشتها أسماع أهل الكلام، بينما يظهر لنا بعد الماتريدي وأتباعه عن منهج الإمام أبي حنيفة، حيث جعلوا العقل أصلا، وقدّموه على الشرع، وصرفوا النصوص الشرعية بتأويلاتهم العقلية المحتملة، واتخذوا علم الكلام مطية ذلك.
ومن هنا كان الخلاف بين المنهجين واضحا وإذا كان الأمر هكذا في المنهج فماذا عن التطبيق؟
هذا ما سأتناوله في الفقرة التالية إن شاء الله.
__________
1 شرح العقائد النسفية ص2، 3.
(1/591)
________________________________________
المبحث الثاني: المقارنة في مسائل أصول الدين
أولا ـ الاستدلال على وجدود الله:
يتضح مما سبق أنا أبا حنيفة سلط طريقة القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق، مستغنيا بها عن أدلة المتكلمين من معاصريه ومناهجهم. ورأينا كيف كان تطبيقه لهذا المنهج في الاستدلال على وجود الله؛ حيث استدل بالفطرة السليمة المضطرة بطبعها إلى الإقرار بوجود الله تعالى، والاعتراف بالخالق، وإن طرأ فساد على هذه الطريقة فقد يزول بالتذكير والتعليم والإرشاد. ومن هنا كانت مهمة الأنبياء والدعاة إلى الله الدعوة والتذكير والإرشاد.
وترتكز دلالة الفطرة عند الإمام أبي حنيفة على نوعي الآيات في الأنفس والآفاق.
قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} "سورة فصلت: الآية53".
فالتفكر في ملكوت السموات والأرض وفي الأنفس هو الطريق إلى الاستدلال على الخالق بالمخلوق.
(1/592)
________________________________________
وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} "سورة الذاريات: الآية21".
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} "سورة الطارق: الآيات من5-7".
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً} "سورة عبس: الآيات24-26".
فهذه النصوص الشرعية تثبّت العقيدة في النفوس عن طريق مخاطبة الفطرة وبهذا يمكن الاستغناء بها عن الطرق الكلامية الغامضة.
هذا ملخص لمنهج الإمام أبي حنيفة للاستدلال على وجود الله.
أما أبو منصور الماتريدي فقد استدل على وجود الله بالآتي:
طريقة الحدوث:
من أشهر أدلة المتكلمين في الاستدلال على وجود الله دليل الحدوث وهو إثبات حدوث العالم، وذلك أن العالم عندهم جواهر وأعراض، والجواهر لا تنفك عن الأعراض، والأعراض حادثة وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث، فالعلم إذن حادث.
قال أبو منصور الماتريدي: "الأعيان حادثة بشهادة الخبر والحس والعقل ... فأما الخبر فما ثبت عن الله تعالى من وجه يعجز البشر عن دليل مثله لأحد إنه أخبر أنه خالق كل شيء وبديع السموات والأرض وأن له ملك ما فيهن ... وعلم الحس وهو أن كل عين من الأعيان يحس محاط بالضرورة مبنىً1 بالحاجة والقدم هو شرط الغنى، لأنه يستغني بقدمه عن
__________
1 قال محقق الكتاب في الحاشية غير منقوطة في الأصل ويظهر والله أعلم أن الصواب "منبئ".
(1/593)
________________________________________
غيره والضرورة والحاجة يحوجانه إلى غيره فلزم به حدثه ... وعلى ذلك طريق علم الاستدلال مع أنه لا يخلو الجسم من حركة أو سكون وليس لهما الاجتماع فيزول من جملة أوقاته نصف الحركة ونصف السكون وكل ذي نصف متناه على أنهما إذ لا يجتمعان في القدم؛ لزم حدوث أحد الوجهين ويبطلانه أن يكون محدثا في الأزل لزم في الآخر وفي ذلك حدث ما لا يخلو عنه ... ودليل آخر أن العالم لا يخلو من أن يكون قديما على ما عليه أحواله من اجتماع وتفرق بحركة وسكون وخبيث وطيب وحسن وقبيح وزيادة ونقصان وهن حوداث بالحس والعقل إذ لا يجوز اجتماع الضدين، فثبت التعاقب وفيه الحدث وجميع الحوادث تحت الكون بعد إن لم تكن فكذلك ما لا يخلو عنها ولا يسبقها أو كان إنشاء عن أصل لا بهذه الصفة أو انتقل إليها باعتراضها فيه فإن كان كذلك ثبت أن هذا العلم حادث"1.
فإذا ثبت حدوث الأجسام، فالأجسام لا تجتمع ولا تفترق بنفسها، ولا هي قادرة على إصلاح ما فسد في حال قوتها وكمالها، وإذا كانت الطبائع المتضادة المتنافرة لا تجتمع بنفسها؛ فلا بد من قاهر يقهرها على غير طبعها وهو الله 2.
فيتضح مما سبق أن الماتريدي يستدل على وجود الخالق بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض وهي طريقة عقيمة تقوم على مقدمات غامضة بعيدة، إذ لا بد لهم لتحقيق هذه الطريقة من أمور سبعة:
__________
1- إثبات الأعراض.
2- إثبات لزومها للجسم.
1 كتاب التوحيد ص11-13 بتصرف.
2 انظر كتاب التوحيد ص17-19 بتصرف.
(1/594)
________________________________________
3- إبطال حوادث لا أول لها.
4- إلزام حوادث لا نهاية لها.
5- إثبات الجوهر الفرد.
6- إلزام كون العرض لا يبقى زمانين.
7- إثبات تماثل الأجسام. 1
ومعلوم أن إثبات هذه المقدمات كلها تعتمد على مباحث طويلة وإبطال الشبهات حولها دونها خرط القتاد فكيف يكون مثل هذه المقدمات الخفية الصعبة على الأفهام دليلا على ما هو أوضح من كل شيء 2.
فإثبات وجود الله لا يحتاج إلى أمثال هذه المقدمات الخفية البعيدة عن الأفهام بل الله سبحانه وتعالى دليل على كل شيء، وعلى هذا فطر بني آدم، إذ وجوده أوضح لدى الفطر من الشمس في رابعة النهار ولنعم ما قال القائل:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل 3
وأعظم ما في طرقهم من الفساد أن الأدلة التي أقاموها على إثبات وجود الله هي في الحقيقة أدلة على نفي وجود الله بل على امتناعه 4.
__________
1 انظر مختصر الصواعق: ص1 ط/مكتبة الرياض الحديثة، وص128 ط/ دار الندوة الجديدة.
2 راجع مناهج الأدلة لابن رشد ص135-137؛ ومفتاح دار السعادة 2/199-200، ط/ دار الكتب العلمية.
3 مدارج السالكين 1/71؛ والصواعق المرسلة 4/1221.
4 راجع رسالة في الصفات الاختيارية ضمن جامع الرسائل 2/32؛ وضمن مجموع الفتاوى 6/239؛ والصواعق المرسلة ص962-988ح ومختصر الصواعق 1/196-201، ط/ دار الرياض الحديثة، وص126-130، ط/ دار الندوة الجديدة.
(1/595)
________________________________________
ومن أعظم ما يدل على فساد هذه الطريقة أنها هي التي نفيت بها الأفعال الاختيارية، بل نفت الجهمية عن الله سائر صفاته، وهي ثابتة بالسمع والعقل، فأسماؤه وصفاته حق، وكل ما يدل على نفي الحق فهو باطل قال ابن القيم: "فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الرب تعالى فاعلا في الحقيقة وإن سموه فاعلا بألسنتهم فإنه لا يقوم به عندهم فعل، وفاعل بلا فعل كقائم بلا قيام، وضارب بلا ضرب، وعالم بلا علم، وضم الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفة لكان جسما، ولو كان جسما لكان حادثا، فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته فعطّلوا صفاته وأفعاله" 1.
وكذلك يستدل أبو منصور الماتريدي بدليل آخر هو:
ما في العالم من حكم عجيبة ونظام دقيق وتناسق بديع وكل هذا يدل على أن للعالم خالقا مدبرا حكيما 2.
ومن هنا يتفق مع الإمام أبي حنيفة في الاستدلال بالمخلوق على الخالق ويختلف معه في الاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض.
ثانيا ـ التوحيد
ويتناول أنواع التوحيد وأول واجب على المكلف.
"أ" أنواع التوحيد:
التوحيد عند الإمام أبي حنيفة معروف بأقسامه وقد تقدم بيانه.
__________
1 مختصر الصواعق 1/199-200.
2 انظر كتاب التوحيد ص21-23، 29.
(1/596)
________________________________________
أما عند الماتريدية فالتوحيد أنواع ثلاثة:
1- توحيد الذات فالله لا قسيم له أي لا يتبعض ولا يتجزأ 1.
2- وتوحيد في الصفات فالله لا شبيه له.
3- وتوحيد في الأفعال والصنع فالله لا شريك له.
وفي ذلك يقول الملا علي القاري: "واحد في ذاته واحد في صفاته وخالق لمصنوعاته" 2.
ويقول البابرتي: "وعبر بعض أصحابنا عن التوحيد فقال: هو نفي الشريك والقسيم والشبيه، فالله تعالى واحد في أفعاله لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات وواحد في ذاته لا قسيم له ولا تركيب فيه، وواحد في صفاته لا يشبه الخلق فيها" 3.
ويقول الغنيمي الحنفي: "الواحد صفة سلبية تقال على ثلاثة أنواع:
الأول: الوحدة في الذات، والمراد بها انتفاء الكثرة عن ذاته تعالى بمعنى عدم قبولها الانقسام.
والثاني: الوحدة في الصفات والمراد بها انتفاء النظير عن ذاته في كل صفة من صفاته.
والثالث: الوحدة في الأفعال والمراد بها انفراده باختراع جميع الكائنات" 4.
__________
1 انظر العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص39.
2 ضوء المعاني ص13.
3 شرح العقيدة الطحاوية للبابرتي ص29.
4 شرح العقيدة الطحاوية للغنيمي ص48.
(1/597)
________________________________________
ولا يخفى أن من تدبر في توحيد الماتريدية يتبين له ما يلي:
أولا: إنه لا يوجد عندهم توحيد الألوهية ولا اهتموا به، مع أن توحيد الألوهية هو المقصد الأعلى والهدف الأسمى من خلق الكون وما فيه وإنزال الكتب وإرسال الرسل كما تقدم بيانه.
ثانيا: اهتمامهم الكبير بتوحيد الربوبية فقد جعلوه هو المقصد الأعلى والغاية العظمى، مع أنه فطري لم يختلف فيه أهل الملل والنحل.
ثالثا: قصدهم بتوحيد الذات أن الله لا يتجزأ ولا يتبعض بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد 1.
وهذا حق، لكنهم أدخلوا فيه نفي كثير من الصفات كالوجه واليدين، وأدخلوا فيه نفي علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه. فهم يظنون أنه لو ثبت لله هذه الصفات لكان الله مركبا مبعضا. فكلامهم هذا من قبيل كلمة حق أريد بها باطل.
"ب" أول واجب على المكلف:
أول واجب على المكلف عند السلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
أما الماتريدية فقالوا: إن أول واجب على المكلف النظر والاستدلال المؤدي إلى المعرفة بالله، وأن معرفة الله 2 واجبة بالعقل، ولو لم يكن الشرع 3، وهم مقلدون في هذا المعتزلة.
__________
1 مجموع الفتاوى 3/100.
2 إشارات المرام ص84؛ وضوء المعاني ص89؛ وشرح العقيدة الطحاوية للبابرتي ص30.
3 إشارات المرام ص563؛ ونظم الفرائدص35؛ وشرح الإحياء 2/190-193
(1/598)
________________________________________
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "فاعلم أن الأدلة أربعة: حجة العقل، والكتاب والسنة، والإجماع، ومعرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل" 1، وقال: "إن سأل سائل فقال: ما أول واجب أوجب الله عليك؟ فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشهادة فيجب أن نعرفه بالتفكير والنظر" 2.
فقولهم: إن أول واجب هو النظر مخالف للصواب، فالقرآن ليس فيه أن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه أمر العباد 3 بالنظر في خلق السموات والأرض.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} "سورة الروم: الآية8".
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدْع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دلهم إليه الشهادتان 4 وبذلك أمر أصحابه، من ذلك قوله لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ... " 5.
قال ابن المنذر: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن
__________
1 شرح الأصول الخمسة ص88.
2شرح الأصول الخمسة ص39.
3 انظر درء تعارض العقل والنقل 8/8.
4 انظر درء تعارض العقل والنقل 8/6.
5 تقدم تخريجه ص210.
(1/599)
________________________________________
الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام ـ وهو بالغ صحيح يعقل ـ فإنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر، كان مرتدا".1
وشهادة أن لا إله إلا الله هي أول واجب في الشرائع، فكل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} " "سورة هود: الآية 61".
وقال عن جميعهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} "سورة النحل: الآية36".
ثالثا ـ الصفات:
تقدم الكلام على عقيدة الإمام أبي حنيفة في الصفات الذاتية منها والفعلية، فأثبت جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة؛ إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل. أما الإثبات عند الماتريدي وأتباعه فإنهم قد ضيّقوا دائرته، وتظاهروا بإثبات ثماني صفات فقط هي: "الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين"2.
ولكن الحقيقة أنهم لم يثبتوا تلك الصفات الثماني كلها بل أثبتوا بعضها ونفوا بعضها.
أما صفتا السمع والبصر فعامتهم يثبتونهما، وبعضهم يرجعهما إلى غيرهما 3.
__________
1 درء تعارض العقل والنقل 8/7.
2 إشارات المرام ص107، 114.
3 كابن الهمام في المسايرة ص69، إذ أرجعهما إلى صفة العلم.
(1/600)
________________________________________
وأما إثباتهم 1 لصفة الإرادة فليس كإثبات أبي حنيفة والسلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بالشرع ولا بالعقل بل هو مخالف للشرع والعقل، فإنه ليس في الكتاب والسنة ما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه" 2.
أما صفة الكلام فقد تظاهروا بإثباتها، ولكنهم في الحقيقة من أشدّ الناس تعطيلا لها، وتحريفا لنصوصها؛ لأنهم لم يثبتوا الكلام الذي دلّ عليه الدليل من الكتاب والسنة، بل أثبتوا لله سبحانه وتعالى ما يسمونه بالكلام النفسي الذي لا يسمع وليس بحرف ولا صوت 3.
بل ليس إلا صفة للأخرس فلا يعرف هذا ـ أي الكلام النفسي ـ وأول من أحدثه ابن كلاب ثم تبعه الماتريدية والأشعرية 4. أما صفة التكوين فهي عندهم مرجع لجميع الصفات الفعلية المتعدّية؛ كالإحياء والإماتة والتخليق وهي إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود. فهم وإن تظاهروا بإثبات هذه الصفة لكنهم في الحقيقة لا يعتبرونها صفة حقيقية لله
__________
1 قال شارح العقيدة النسفية: "أمر وناهٍ ومخبر يعني أنه صفةٌ واحدة تتكثّر بالنسبة إلى الأمر والنهي والخبر باختلاف التعلقات كالعلم والقدرة وسائر الصفات فإن كلا منها واحدة قديمة والتكثّر والحدوث إنما هو في التعلقات والإضافات كما أن ذلك أليق بكمال التوحيد" شرح العقائد النسفية ص55-56.
2 درء تعارض العقل والنقل 8/283.
3 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص58-59؛ وتبصرة الأدلة 118/ب؛ والبداية من الكافية ص60-61؛والعقائد النسفية ص53-58؛ وأصول الدين للبزدوي ص61؛ وإشارات المرام ص138-139؛ وبحر الكلام ص29-30.
4 انظر المواقف ص293؛ والإنصاف 96-97؛ والإرشاد ص128-137.
(1/601)
________________________________________
تعالى؛ لأنهم يزعمون أن الصفات الفعلية ليست قائمة بالله فرارا عن حلول الحوادث به 1.
فالحاصل أن الماتريدية لا يثبتون من الصفات الثبوتية إلا صفة الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكوين على اضطراب في بعضها واختلاف في بعضها، أما ما عداها فهم يعطلونها مثل صفة الوجه واليدين والاستواء والنزول والغضب والرضا والمحبة، والكلام، والعلو.
فعطلوا صفة الوجه، وصرفوا نصوصها إلى الذات 2 والوجود 3، وعطلوا صفة اليدين وصرفوا نصوصها إلى كمال القدرة 4 أو الملك والمنة 5.
وعطلوا صفة الاستواء وصرفوا نصوصها إلى الاستيلاء 6، وعطلوا صفة النزول وصرفوا نصوصها إلى اللطف والرحمة 7.
وعطلوا صفة الغضب، وصرفوا نصوصها إلى الانتقام 8 أو إرادة الانتقام 9.
__________
1 انظر التمهيد ص28؛ والبداية للصابوني ص67-73؛ وشرح العقائد النسفية ص53، 63، 69؛ والمسايرة ص84، 85، 89؛ وإشارات المرام ص53، 212؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص22، 25؛ والنور اللامع ق48/ب.
2 انظر مدارك التنزيل للنسفي 2/670؛ وتفسير أبي السعود 7/28.
3 إشارات المرام ص189.
4 إشارات المرام ص189.
5 بحر الكلام ص20.
6 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص72؛ وأصول الدين للبزدوي ص29، وإتحاف السادة المتقين 2/107-108.
7 شرح المواقف 8/25.
8 انظر عمدة القاري 25/115.
9 انظر مدارك التنزيل 1/6.
(1/602)
________________________________________
وعطلوا صفة الرضا، وصرفوا نصوصها إلى الثواب 1، وعطلوا صفة المحبة، وصرفوا نصوصها إلى إرادة الثواب 2، أو الرضا 3.
وعطلوا صفة الكلام التي هي الحق، وأثبتوا لله صفة الكلام النفسي التي هي الباطل4، وعطلوا صفة العلو ونفوها تماما، وأولوا نصوصها إلى علو الرتبة والمكانة 5.
رابعا ـ الإيمان:
مباحث الإيمان من الأمور التي اعتركت الآراء حولها قديما وحديثا، والماتريدية لهم موقف من الإيمان وافقوا في بعض نواحيه الإمام أبا حنيفة رحمه الله وخالفوه في بعضها، وإليك بيان ذلك:
"أ" الموافقات
اتفقت الماتردية مع أبي حنيفة في الأمور التالية:
أولا: إخراج العمل عن مسمى الإيمان وأن الإيمان هو التصديق 6.
__________
1 انظر شرح الفقه الأبسط لأبي الليث السمرقندي ص33.
2 انظر عمدة القاري 25/84، 155.
3 انظر مدارك التنزيل 1/209.
4 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص58؛ والبداية للصابوني ص60-61؛ وإشارات المرام ص138-139؛ والمسايرة مع المسامرة ص82-83؛ ونشر الطوالع ص255؛ وضوء المعالي ص29؛ وأصول الدين لأبي اليسر البزدوي ص61؛ وتبصرة الأدلة 11/ب؛ والتمهيد 23-28، كلاهما لأبي المعين النسفي؛ والعمدة 7/أ-ب، لحافظ الدين النسفي،؛ والعقائد النسفية لعمر النسفي مع شرحها للتفتازاني 53-58؛ وبحر الكلام ص29.
5 شرح المواقف 8/24-25؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص171.
6 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص332، 373، 377؛ والبداية للصابوني =
(1/603)
________________________________________
ثانيا: عدم زيادة الإيمان ونقصانه 1.
ثالثا: تحريم الاستثناء 2.
رابعا: عدم تكفير صاحب الكبيرة 3.
"ب" المخالفات
تقدم أن مفهوم الإيمان عند الإمام أبي حنيفة مركب من أمرين التصديق بالقلب، والإقرار باللسان. فالإقرار باللسان شطر من الإيمان وداخل فيه. أما الماتريدي وجمهور أتباعه 4 فقد جعلوا الإقرار باللسان خارجا عن حقيقة الإيمان، فالإيمان عندهم هو التصديق 5، غير أنهم
__________
= ص152؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص119؛ وأصول الدين للبزدوي ص153؛ وشرح المقاصد 6/176، والعمدة للنسفي ص17/1.
1 انظر أصول الدين للبزدوي ص153؛ وبحر الكلام للنسفي ص41-52؛ والبداية من الكفاية ص155؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص123-128؛ والعمدة للنسفي ص17/أ.
2 انظر كتاب التوحيد للماتريدي ص388-392؛ والمسايرة ص381-385؛ والبحر الرائق 2/46؛ والبداية ص155؛ وشرح الفقه الأكبر ص208-212؛ وبحر الكلام ص40.
3 انظر كتاب التوحيد ص333-334؛ والعقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص106-108؛ وبحر الكلام ص43-44.
4 وإنما قلت: "جمهور أتباعه" لأن بعض الماتريدية ذهبوا إلى أن الإيمان هو التصديق والإقرار. صرح بذلك التفتازاني في شرح المقاصد 5/176 الطبعة الجديدة؛ وشرح العقائد النسفية ص120، الطبعة الهندية؛ والمرعشي في نشر الطوالع ص374. وانظر أيضا أصول الدين للبزدوي ص146؛ والعقائد النسفية ص119-120؛ والمسايرة مع المسامرة ص332-333.
5 انظر بحر الكلام ص38-39؛ والمسايرة ص330-331؛ والتمهيد لأبي المعين النسفي ص26/ب؛ والبداية للصابوني ص119-123؛ وشرح المقاصد ص5/176، الطبعة الجديدة، كلاهما للتفتازاني؛ ونشر الطوالع ص373-374.
(1/604)
________________________________________
جعلوا الإقرار شرطا لإجراء الأحكام الدنيوية فقط 1.
وهذا النوع من الإرجاء الغالي.
خامسا ـ القدر
لم تختلف الماتريدية في مسائل القدر عن الإمام أبي حنيفة ولا عن بقية السلف وهذا من حسناتهم التي يشكرون عليها، وهم يثبتون أن الخير والشر من الله تعالى وإن كل ما يقع في الكون بمشيئة الله تعالى وإرادته، وأن أفعال العباد من خير وشر، خلقُ الله تعالى، وأن للعباد أفعالا اختيارية يثابون عليها ويعاقبون عليها، وأن العبد مختار في أفعاله التكليفية وله قدرة عليها، وليس مجبورا بفعلها، فهو يفعل الخير والشر بقدرته التي منحه الله إياها. ولا شكّ أنه فرّق بين حركة المرتعش والباطش فالأول بدون اختياره والثاني على اختياره. وصرّحوا بأن أفعال العباد خلق الله وبكسبهم واختيارهم وقدرتهم وإرادتهم، ومن أحسن من حرّر هذا الموضوع عمر النسفي أحد أئمة الماتريدية وفصّله التفتازاني شارحا لكلامه، حيث قال: "والله تعالى خالق لأفعال العباد من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خالق لأفعاله".
وقال: "وهي أفعال العباد كلها ومشيئته تعالى وتقدس ... وحكمه وقضيّته أي قضاءه ... وتقديره وهو تحديد كل مخلوق بحدّه الذي
__________
1 شرح الضوء اللامع ص19-20؛ والتمهيد لأبي المعين النسفي ص26/ب؛ والعمدة، لحافظ الدين النسفي ص17/أ؛ وشرح العقائد النسفية ص121؛ وشرح المقاصد ص5/178-179؛ الطبعة الجديدة كلاهما للتفتازاني، والمسايرة مع المسامرة ص334؛ ونشر الطوالع ص374-375؛ والجوهرة المنيفة ص3؛ ومختصر شرح الطحاوية للشيخ يونس الخالص الأفغاني ص9.
(1/605)
________________________________________
يوجد من حسن وقبح ونفع وضرر وما يحويه من زمان أو مكان وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب".
وقال: "وللعباد أفعلا اختيارية يثابون بها إن كانت طاعة، ويعاقبون عليها إن كانت معصية، لا كما زعمت الجبرية أنه لا فعل للعبد أصلا وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة عليها ولا قصد ولا اختيار، وهذا باطل لأنا نفرّق بالضرورة بين حركة البطش وحركة الارتعاش، ونعلم أن الأول باختياره دون الثاني إلى آخر ما قالاه1.
سادسا ـ النبوات:
يظهر للباحث في كتب الماتريدية أن مذهبهم في النبوة: أنها ليست راجعة للمشيئة المحضة حتى يكون إرسال الرسل وعدمه سواء، بل راجع أيضا إلى حكمة الله تعالى؛ فإرسال الرسل لا يخلو من حكمة الله ومصالح للعباد وسد لحوائجهم 2 خلافا للأشاعرة.
وطرق إثبات 3 نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم بالأمور الآتية:
الأول: ما تواتر من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الشخصية والخُلقية والخِلقية وسيرته وأمانته وصدقه وشجاعته وجوده وكرمه ونحوها قبل البعثة وبعدها وتركه متاع الدنيا مع اقتداره عليه.
__________
1 العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص75-83.
وانظر كتاب التوحيد للماتريدي ص215، 314؛ والمسايرة ص119-220،والنبراس ص276.
2 العقائد النسفية مع شرحها ص132-133.
3 انظر العقائد النسفية مع شرحها للتفتازاني ص 134-137؛ والتوحيد للماتريدي ص302-303؛ والبداية للصابوني ص89-93.
(1/606)
________________________________________
الثاني: أنه نُقل عنه معجزات كثيرة مثل شق القمر ومكالمة الحيوانات ونبوع الماء من بين أصابعه وتكثيره الطعام والشراب القليل ونحوه وجنس الواقع من ذلك قد بلغ حدّ التواتر وتفصيل ذلك مذكور في كتب السير.
الثالث: أنه أتى بقرآن معجز، مع أنه كان أميا لم يكتب ولم يقرأ، وكان من قوم لا كتاب لهم، وتحدّى به البلغاء مع كمال بلاغتهم فعجزوا عن معارضته بأقصر سورة كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} "سورة البقرة: الآية23".
أظهر الله دينه على الدين كله فهذا يدل دلالة قاطعة على كونه نبيا، هذا فيما يتصل بطرق النبوة.
ولم أقف لأبي حنيفة على نص في قضيّة طرق إثبات النبوة تفصيلا، وهل هي راجعة إلى المشيئة المحضة أم إلى الحكمة؟
وإنما تكلم عن العصمة، فقد صرح أن الأنبياء كانت منهم زلات وخطايا 1.
لكن نجد أن بعض الماتريدية من مشايخ سمرقند قد منعوا إطلاق اسم الزلة على ما صدر من الأنبياء من خطأ أو هفوة بل قالوا:
إنما يقال فعلوا الفاضل، وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه 2. بل صرح أبو منصور الماتريدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف منه هفوة 3، وهذا ظاهر المخالفة لما تضمنه قول الإمام أبي حنيفة، لأن الهفوة والزلة معناهما متقارب.
__________
1 الفقه الأكبر ص303.
2 مدارك التنزيل 1/43.
3 كتاب التوحيد ص202.
(1/607)
________________________________________
لذلك نرى لأمثال هؤلاء المغالين من الماتريدية في عصمة الأنبياء لمنع صدور الذنوب منهم مطلقا موقفا خطيرا من نصوص الكتاب والسنة التي تجوِّز على الأنبياء صدور جنس الذنوب والخطأ منهم. فما كان من قبيل أخبار الآحاد ردّوها صريحا وما كان من المتواتر حرفوها تحريفا قبيحا1.
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن أمثال هؤلاء المحرفين لنصوص الكتاب والسنة ما نصه: "والمنكرون لذلك ـ أي لجواز صدور الصغائر من الأنبياء ـ يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه ويقول: والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد وهى من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه 2.
وقال: "وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم"3.
سابعا ـ اليوم الآخر:
اتفق المسلمون بل وأهل الملل السماوية على الإيمان باليوم الآخر والتصديق بما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء والجنة والنار، كما اتفق
__________
1 شرح العقائد النسفية 140؛ وحاشية الكستلي على شرح العقائد ص171-172؛ والنبراس ص455-457.
2 منهاج السنة 1/227؛ الطبعة القديمة؛ ومجموع الفتاوى 10/313-314.
3 مجموع الفتاوى 10/295، 313، 314.
(1/608)
________________________________________
سلف هذه الأمة وأئمتها على التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والبعث والحشر والنشر والصحف والميزان والحساب والصراط والحوض والشفاعة وأحوال الجنة والنار وما أعد الله لأهلهما جملة وتفصيلا.
قال الأشعري:"باب ذكر ما أجمع عليه السلف من الأصول التي نبهوا بالأدلة عليها.. وأجمعوا على أن عذاب القبر حق وأن الناس يفتنون في قبورهم بعد أن يحيوا فيها ويسألون فيثبت الله من أحب نبيه، وأنهم لا يذوقون فيها ألَم الموت كما قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} "سورة الدخان: الآية56".
وعلى أنه ينفخ في الصور قبل يوم القيامة ويصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وعلى أن الله تعالى يعيدهم كما بدأهم حفاة عراة غرلا، وأن الأجساد التي أطاعت وعصت هي التي تبعث يوم القيامة، وكذلك الجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة، وأن الله تعالى ينصب الموازين لوزن أعمال العباد فمن ثقلت موازينه أفلح ومن خفت موازينه خاب وخسر وأن كفة السيئات تهوي إلى جهنم وأن كفة الحسنات تهوي عند زيادتها إلى الجنة، وأن الخلق يؤتون يوم القيامة بصحائف فيها أعمالهم فمن أوتي كتابه بيمينه حوسب حسابا يسيرا ومن أوتي كتابه بشماله فأولئك يصلون سعيرا"1.
ووافقت الماتريدية السلف عامة وأبا حنيفة خاصة بالإيمان بالآخرة بما فيها الحشر والنشر وأحوال البرزخ والجنة والنار والميزان والصراط
__________
1 رسالة إلى أهل الثغر ص62، 88، 89، تحقيق مجد الدين الجنيد ط/ دار اللواء.
(1/609)
________________________________________
والشفاعة وقالوا: إنها من الأمور الممكنة أخبر بها الصادق ونطق بها الكتاب والسنة فتحمل هذه النصوص على ظاهرها1.
ثامنا ـ الصحابة والإمامة:
لا يختلف موقف عامة الماتريدية من الصحابة عن موقف أهل السنة والجماعة بمن فيهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله. فيقولون إن أفضل البشر بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم عليّ المرتضى على ترتيب خلافتهم وما وقع بين الصحابة من حروب كان خطأً عن اجتهاد فيجب الكف عن الطعن فيهم. والطعن فيهم إما كفر أو بدعة أو فسق، والخلافة الراشدة ثلاثون سنة، وأن المسلمين لا بد لهم من إمام لتنفيد الأحكام وإقامة الحدود وسد الثغور وتجييش الجيوش وأخذ الصدقات وقهر الغلبة والمتسلطة وقطاع الطرق وإقامة الجمعة والأعياد وقطع المنازعات وأن يكون الإمام ظاهرا لا مختفيا ولا منتظرا وأن يكون من قريش ولا يشترط أن يكون معصوما وأنه تجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر ولا يجوز الخروج على الإمام الجائر"2.
__________
1 انظر شرح العقائد النسفية ص99-01؛ والبداية 158؛ والنبراس ص317.
2 انظر العقائد النسفية مع شرحها ص148-163؛ والبداية للصابوني ص100-105؛ وأصول الدين للبزدوي ص178-198.
(1/610)
________________________________________
الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد
(1/611)
________________________________________
الفصل الثاني: مدى التزام الحنفية بعقيدة الإمام أبي حنيفة في التوحيد
انتسب إلى مذهب أبي حنيفة في القديم والحديث أناس كثيرون، منهم من وافقه في الأصول والفروع، ومن من وافقه في الفروع فحسب، وهم في الأصول على طريقة المتكلمين وهذا أمر اعترف به أحد علماء الحنفيّة فقد قال اللكنوي الحنفي ما نصه:
:"وتوضيحه أن الحنفية عبارة عن فرقة تقّلد الإمام أبا حنيفة في المسائل الفرعية ... سواء وافقته في أصول العقائد أم خالفته، فإن وافقته يقال لها "الحنفية الكاملة" وإن لم توافقه يقال له "الحنفية" مع قيد، يوضّح مسلكه في العقائد الكلامية، فكم من حنفيٍ حنفيٌّ في الفروع معتزلي عقيدةً ... وكم من حنفي حنفيٌّ فرعا مرجئ أو زيدي أصلا وبالجملة فالحنفية لها فروع باعتبار اختلاف العقيدة فمنهم الشيعة ومنهم المعتزلة ومنهم المرجئة ... "1.
ثم بيّن النسبة بين الحنفية وبين أهل السنة فيذكر: أن النسبة بين الحنفية ـ بمعنى المتابعين له أصلا وفرعا ـ وبين أهل السنة عموما
__________
1 الرفع والتكميل ص385 بتصرف، وأقره محقق الكتاب ص387.
(1/613)
________________________________________
وخصوصا، فكل حنفي بهذا المعنى من أهل السنة ولا عكس لأنه قد يكون من أهل السنة ولم يكن حنفيا كأهل السنة من المالكية والشافعية وغيرهم. فأهل السنة أعم مطلقا، والحنفية الكاملة أخص مطلقا، والنسبة بين أهل السنة وبين الحنفية ـ التابعة للإمام أبي حنيفة في الفروع بدون اشتراط موافقة العقيدة ـ عموم وخصوص من وجه، فمادة الافتراق من يكون حنفيا ولا يكون من أهل السنة ـ كالمرجئة الحنفية والمعتزلة الحنفية ـ أو يكون من أهل السنة وليس حنفيا أصلا كأهل السنة من الشافعية ونحوهم فهاتان المادتان مادتا الافتراق، أما مادة الاجتماع فمن يكون حنفيا فرعا وأصلا فهو من هل السنة أيضا.
والنسبة بين أهل السنة وبين الحنفية الناقصة ـ التابعة للإمام أبي حنيفة في الفروع فقط مع اختلاف في العقيدة نسبة تباين كلِّي كالحنفية المرجئة والحنفية المعتزلة ونحوهم ليسوا من أهل السنة" 1.
قلت: لقد ذكر العلامة عبد الحي اللكنوي في كلامه هذا خمس فرق تنتسب للحنفية وهي:
أولا – الحنفية الكاملة.
ثانيا – الحنفية من الشيعة.
ثالثا – الحنفية من الزيدية.
رابعا – الحنفية من المعتزلة.
خامسا – الحنفية من المرجئة.
وإليك بيان ذلك:
__________
1 انظر الرفع والتكميل ص387. بتصرف
(1/614)
________________________________________
أولا ـ الحنفية الكاملة:
ويعني بها اللكنوي من وافق الإمام أبا حنيفة في الفروع وأصول العقيدة وهذه أسماء 1 طائفة 2 ممن انتسب 3 إلى أبي حنيفة ممن وافقه 4 في الاعتقاد سواء من تلامذته أو ممن جاء بعده وانتسب إلى مذهبه في الفروع.
1- زفر بن الهديل 5 المتوفى سنة 158هـ:
كان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي، وقفت له على كلام
__________
1 اكتفيت بذكر أسماء الموافقين لأبي حنيفة في الاعتقاد إلى القرن الرابع الهجري إذ في هذا القرن وبعده ظهر التقليد لأبي منصور الماتريدي وأبي الحسن الأشعري في الأصول ثم استحكمت أطنابه فيما بعد ذلك إذ مشى غالب الحنفية على عقيدة أبي منصور الماتريدي وذلك لانتشار علم الكلام في نواحي بلاد المسلمين في تلك الحقبة الزمنية وتغلب المتكلمين وتصدرهم في أماكن حسّاسة كالمدارس والقضاء والإفتاء والخطابة فزاحمت العقيدة الكلامية الماتريدية العقيدة السلفية التي عليها الإمام أبو حنيفة حتى أزالتها فلا يعرف حنفي إلا هو ماتريدي في الاعتقاد. هذا في الجملة وإلا فإنه يوجد فئات من الحنفية سلكت ما قرّره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه كابن أبي العز الحنفي شارح عقيدة الإمام الطحاوي.
2 رتبوا على حسب الوفيات.
3 ليعلم أن نسبة هؤلاء لأبي حنيفة نسبة التلميذ إلى شيخه لا نسبة المقلد إلى من يقلّده إذ التقليد لأبي حنيفة في الفروع لم ينشأ إلا في القرن الرابع فما بعد كما ذكر ذلك شاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة 1/152-153.
4 الموافقة في الجملة إذ لا يمنع أن تكون هناك مخالفة مع الإمام في قضية من قضايا الاعتقاد، ثم لا يمكن في هذا المقام الإحاطة بجميع عقيدة كل رجل لذا سأذكر موقفا واحدا له إن وجد أو كلاما له بين منهجه في الاعتقاد في الجملة أو كلام غيره فيه.
5 تقدم التعريف به في ص88.
(1/615)
________________________________________
حسن في الاتباع وذك الرأي وهو قوله: "لا نأخذ بالرأي ما دام الأثر وإذا جاء الأثر تركنا الرأي" 1.
2- إبراهيم بن طهمان المتوفى سنة 163هـ2:
كان شديدا على الجهمية 3 حتى إنه أخر رحلته إلى الحج للردّ على الجهمية 4 وألف في الرد عليهم كتابا بعنوان "سنن ابن طهمان" المطبوع باسم مشيخة ابن طهمان وهو أول كتاب وصل إلينا في الرد على الجهمية 5، وذكره اللالكائي فيما أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن 6، ورُمي بشيء من الإرجاء وذكر ابن حجر أنه رجع عنه 7. 3- القاسم بن معن المسعودي المتوفى سنة 175هـ 8:
روى له أصحاب السنن، وثقه أحمد وأبو حاتم وقال عنه أبوداود: "كان ثقة يذهب إلى شيء من الإرجاء" 9.
وقال عنه ياقوت: "كان فقيها على رأي أبي حنيفة ولقيه ... وكان عالما بالحديث والفقه والشعر والنسب وأيام الناس" 10.
__________
1 الفوائد البهية ص76.
2 انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 1/131؛ وتاريخ بغداد 6/107؛ والجواهر المضية 1/86؛ والطبقات السنية 1/198-200.
3 الجواهر المضية 1/86؛ والطبقات السنية 1/198.
4 تاريخ بغداد 6/107.
5 انظر مقدمة محقق كتاب مشيخة ابن طهمان ص4606.
6 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/306.
7 تهذيب التهذيب 1/131.
8 انظر ترجمته في معجم الأدباء 17/6؛ والجواهر المضيئة 2/709؛ والفوائد البهية ص154.
9 الفوائد البهية ص154.
10 معجم الأدباء 17/6.
(1/616)
________________________________________
4- يعقوب بن إبراهيم القاضي "أبو يوسف" المتوفى سنة 182هـ 1:
قرّر الطحاوي عقيدة أبي يوسف وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، أبي جعفر في الرسالة التي كتبها في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، ومن جملة ما قرره اعتقادهم في الإيمان أنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان 2 غير أن ابن حبان ذكر أنه يباين صاحبيه في الإيمان 3.
وذكره اللالكائي 4 فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن وروى اللالكائي عن أبي يوسف: "من قال القرآن مخلوق فحرام كلامه وفرض مباينته" 5 وذكره اللالكائي فيمن منع الصلاة خلف القدرية 6.
وقال: "لا أصلي خلف جهمي ولا رافضي ولا قدري" 7.
5- يحيى بن زكريا بن أبي زائدة 8 المتوفى سنة 183هـ:
روى له الجماعة، وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل
__________
1 تقدم التعريف به ض93.
2 العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني ص42.
3 الثقات 7/345.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/277.
5 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/270.
6 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/730.
7 رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 4/733.
8 انظر ترجمته في الجواهر المضية 3/185؛ والفوائد البهية 224.
(1/617)
________________________________________
بخلق القرآن1، وأقرّ قول مالك فيمن قال القرآن مخلوق بأنه كافر زنديق 2.
6- محمد بن الحسن الشيباني 3 المتوفى سنة 189هـ:
قرر عقيدة محمد بن الحسن وأبي حنيفة وأبي يوسف، أبو جعفر الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن 4 وكان لا يرى الصلاة خلف من قال القرآن مخلوق 5، ويأمر من صلى خلف من يقول: القرآن مخلوق، بالإعادة 6.
وروى اللالكائي 7 عن محمد بن الحسن أنه ذكر اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الرب عزَّ وجلَّ.
8- حفص بن غياث القاضي 8 المتوفى سنة 194هـ:
روى له الجماعة، وذكره البخاري في علماء الأمصار الذين يقولون: إن القرآن كلام الله 9، وكذا اللالكائي ذكره فيمن أجمعوا على تكفير
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/277.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/249-250
3 تقدم التعريف به ص91.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/277.
5 العلو ص113؛ ومختصر العلو ص158.
6 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/271؛ والعلو ص113.
7 تقدم تخريجه في ص657 من هذه الرسالة.
8 انظر ترجمته في الجواهر المضية 2/138-141؛ والطبقات 3/173، 177؛ والفوائد البهية ص68.
9 خلق أفعال العباد ص68-69.
(1/618)
________________________________________
القائل بخلق القرآن 1، فمن قال: القرآن مخلوق فهم عنده جهمية لا يناكحون ولا تجوز شهادتهم 2، روى عنه البخاري حديث الصوت في صحيحه 3.
9- أبو سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني 4 المتوفى سنة 200هـ:
روى اللالكائي عن القاسم بن أبي رجاء قال: "كنت عند أبي سليمان الجوزجاني وجاءه رجل فقال: مسألة بلوى فإن رجلين البارحة حلف أحدهما فقال: امرأتي طالق ثلاثا البتّة إن كان القرآن مخلوقا، وقال الآخر: امرأتي طالق ثلاثا إن لم يكن القرآن مخلوقا فقال: إن الذي حلف إن امرأته طالق إن لم يكن القرآن مخلوقا قد بانت منه امرأته"5.
وروى اللالكائي عن محمد بن عبد الله الظاهراني قال: "سمعت الجوزجاني ـ يعني موسى بن سليمان" وسأله رجل عن مسألة فأفتى ثم قال له: إن المريسي يقول بخلاف هذا فقال الجوزجاني لمن حضره: أعجب من هذا سألني عن مسألة فأجبته، ثم حكى لي عن كافر" 6.
10- معلَّى بن منصور الرازي7 المتوفى سنة 211هـ:
روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه ووثقه ابن معين قال الذهبي
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/270.
2 خلق أفعال العباد ص28.
3 انظر فتح الباري 13/453؛ ولفظه: "يقول الله: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار".
4 انظر ترجمته في الجواهر المضية 3/518؛ والفوائد البهية ص216.
5 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/271.
6 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/384.
7 انظر ترجمته في الجواهر المضية 3/493؛ والفوائد البهية ص215.
(1/619)
________________________________________
في الكاشف: "قال العجلي: هو ثقة نبيل صاحب سنة طلبوه غير مرة للقضاء فأبى وكان من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد" 1.
وذكره اللالكائي فيمن كفر القائل بخلق القرآن 2.
11- شداد بن حكيم القاضي 3 البلخي المتوفى سنة 212هـ:
ذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن 4.
12- عبد الله بن دواد الخريبي5 المتوفى سنة 213هـ:
روى له الجماعة غير مسلم، وكان شديدا على الجهمية، فقد نقل عنه البخاري قوله: "لو كان لي على المثنَّى الأنماطي سبيل لنزعت لسانه من قفاه وكان جهميا" 6.
13- هشام بن عبيد الله الرازي7 المتوفى سنة 221هـ:
من تلاميذ محمد بن الحسن وكان ليِّنا في الرواية قال عبد الرحمن بن حاتم: "وجدت في كتاب عند أبي مما وضعه هشام في الرد على الجهمية قال هشام:"وكان فيما سألتم في كتابكم عن أهل الجنة أنهم يرون ربهم قال هشام: ورد علينا في تفسير القرآن ومحكم الحديث أن الله جل ثناؤه يُرى في الآخرة ثم ذكر الروايات في تفسير القرآن والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"8.
__________
1 الكاشف 3/145؛ والفوائد البهية ص215.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/288.
3 انظر ترجمته في الجرح والتعديل 4/331؛ ومشايخ بلخ من الحنفية 1/63.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/308.
5 انظر ترجمته في الجواهر المضية 2/308؛ فقه أهل العراق 63.
6 خلق أفعال العباد ص23.
7 انظر ترجمته في الجواهر المضية 3/569-570؛ والفوائد البهية ص31.
8 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/506.
(1/620)
________________________________________
ونقل اللالكائي عن هشام قوله: "الجهمية من زعم أن القرآن مخلوق"1، وحبس رجل بتهمة التجهم حتى تاب 2. وقال عن بشر المريسي: "المريسي عندنا خليفة جهم بن صفوان الضال وهو ولي عهده ومثله عندنا مثل بلعم بن باعورا الذي قال الله فيه: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} "سورة الأعراف: الآية175"3.
14- الليث بن مساور البلخي4 المتوفى سنة 226هـ:
ذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائلين بخلق القرآن 5 وكان قاضيا ببلخ ولما ورد كتاب الخلافة بوجوب القول بخلق القرآن قال: "الله أكبر ظهر الكفر ... كل من يقول بخلق القرآن فهو كافر ثم رمى عمامته على الأرض وخلع نفسه من القضاء" 6.
15- إبراهيم بن يوسف 7 الباهلي البلخي الماكياني المتوفى سنة 239هـ:
قال عنه ابن حبان: "كان ظاهر مذهبه الإرجاء واعتقاده في الباطن السنة سمعت أحمد بن محمد بن الفضل يقول سمعت محمد بن داود الفوعي يقول: حلفت أن لا أكتب إلا ممن يقول الإيمان قول وعمل فأتيت إبراهيم بن يوسف ـ يعني الباهلي ـ فأخبرته فقال: أكتب عني فإني أقول
__________
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/271.
2 درء تعارض العقل والنقل 6/265؛ ومجموع الفتاوى 5/280
3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/384.
4 انظر ترجمته في مشايخ بلخ من الحنفية 1/164.
5 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/308.
6 مشايخ بلخ 1/125، 164.
7 انظر ترجمته في الثقات 8/76؛ والجواهر المضية 1/119؛ والطبقات السنية 1/254-255؛ والفوائد البهية ص11، 12.
(1/621)
________________________________________
الإيمان قول وعمل" 1. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت محمد بن الصديق يقول: "سمعته ـ يعني إبراهيم بن يوسف ـ يقول القرآن كلام الله ومن قال: مخلوق فهو كافر بانت منه امرأته ولا يصلَّى خلفه ولا يصلّى عليه إذا مات ومن وقف فهو جهمي" 2.
16- يحيى بن أكثم التميمي 3 القاضي المتوفى سنة 243هـ:
روى عن محمد بن الحسن وسمع منه وروى عنه البخاري في غير الجامع والترمذي وذكره اللالكائي فيمن كفر القائلين بخلق القرآن 4 وكان يقول: القرآن كلام الله فمن قال مخلوق يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه" 5.
وقال عنه الإمام أحمد: "ما عرفناه ببدعة" 6.
وقال عنه الخطيب: "كان يحيى سليما من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة" 7.
17- محمد بن أحمد بن حفص 8 الزرقان المتوفى سنة 264ـ:
له كتاب الأهواء والرد على اللفظية وكان مرافقا للبخاري في الطلب9.
__________
1 الثقات 8/76.
2 الطبقات السنية 1/255.
3 انظر ترجمته في تاريخ بغداد 14/191؛ والفوائد البهية ص224.
4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/291.
5 تاريخ بغداد 14/198.
6 تاريخ بغداد 14/198.
7 تاريخ بغداد 14/198.
8 انظر الفوائد البهية ص19.
9 انظر الفوائد ص19.
(1/622)
________________________________________
18- الحكم بن معبد الخزاعي 1 المتوفى سنة 295هـ:
مؤلف كتاب السنة 2.
قال عنه أبو نعيم: "على مذهب الكوفيين صاحب أدب وغريب" 3.
19- مقاتل بن فضل البخلي 4:
ذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن5 ...
لم أقف على تاريخ وفاته.
20- أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي 6 المتوفى سنة 321هـ:
صاحب كتاب بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني. وما يعتقدون من أصول الدين.
ولا شك أنه أثبت من غيره في تقرير عقيدة الإمام أبي حنفة وذلك للآتي:
1- الطحاوي عند أهل العلم ثقة ثبت قال عنه الذهبي: "الإمام
__________
1 ترجمته في تاريخ أصبهان 1/298؛ والجواهر المضية 2/143؛ والطبقات السنية 3/180.
2 الطبقات السنية 3/180.
3 تاريخ أصبهان 1/298.
4 انظر ترجمته في كتاب مشايخ بلخ 1/131.
5 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/308.
6 انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 15/27؛ والمنتظم 6/250؛ والجواهر المضية 1/102.
(1/623)
________________________________________
العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها"1.
وقال عنه أبو سعيد بن يونس: "كان ثقة ثبتا فقيها عاقلا لم يخلف مثله" 2.
2- إن جمهور العلماء تقلوا عقيدة الطحاوي بالقبول. قال السبكي الشافعي: "جمهور المذاهب الأربعة على الحق، يقرون عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول"3.
وقال الناصري الحنفي: "إن كتاب العقائد الذي رواه أبو جعفر الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد هو الذي اعتمد عليه أهل السنة والجماعة سلفهم وخلفهم" 4.
وقال أبو المعين النسفي: "إن أبا جعفر الطحاوي ممن احتوى على علوم سلف الأئمة على العموم، وعلى علوم أبي حنيفة وأصحابه على الخصوص. قال في كتابه الذي افتتحه في العقائد: صح عندي مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين"5.
3- إن ما قرره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه يوافق في الجملة ما قرره أبو حنيفة في الكتب المنسوبة إليه، ثم إنه كذلك موافق لعقيدة سائر أئمة السنة باستثناء مسألة الإيمان.
__________
1 سير أعلام النبلاء 15/27.
2 سير أعلام النبلاء 15/29.
3 كتاب معيد النعم ومبيد النقم ص62.
4 النور اللامع "69/أ".
5 النور اللامع "2/ب".
(1/624)
________________________________________
بخلاف ما قرره الماتريدي، فقد دخلت عليه الفلسفة والكلام، ومن ثم دخلت عليه عقائد بدعية فلسفية، فالإمام الطحاوي محدّث ثقة ثبت فيما يقرر وينقل احتوى على علوم أبي حنيفة وأصحابه، ولم تدخل عليه المذاهب الكلامية.
ثانيا ـ الحنفية من المعتزلة:
المشهور أن المعتزلة هم أصحاب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وقد تقدم أن اسمها يرجع إلى اعتزال إمامها واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري لقول واصل: إن مرتكب الكبيرة ليس كافرا ولا مؤمنا بل هو في منزلة بين المنزلتين. ولما اعتزل واصل مجلس الحسن البصري وانضم إليه عمرو بن عبيد وتبعهما أنصارهما قيل لهم معتزلة أو معتزلون 1.
وللمعتزلة أصول خمسة هي: التوحيد وهو مرادف لإنكار الصفات 2 والعدل وهو إنكار القدر وإنفاذ الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين.
وقد تسرب الاعتزال إلى الحنفية شيئا فشيئا حتى دخل الاعتزال إلى
__________
1 انظر الفرق بين الفرق ص14؛ والملل والنحل 1/30.
2 لم تكن المعتزلة في بدء الأمر معطلة لجميع الصفات بل دخل عليهم التعطيل والقول بخلق القرآن من قبل جهم بن صفوان. قال الإمام أحمد فأضل بكلامه بشرا كثيرا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية. انظر الرد على الجهمية للإمام أحمد ص104؛ والفرق بين الفرق ص14، 15؛ والملل والنحل 1/30؛ وصحيح مسلم 1/36.
(1/625)
________________________________________
أسرة الإمام أبي حنيفة فقد كان إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة من دعاة الفتنة بخلق القرآن 1، بل إن كثيرا من أئمة الفتنة والاعتزال كانوا من الحنفية المعتزلة 2 كبشر المريسي 3 228هـ وتلميذه ابن شجاع البلخي 266هـ4 وابن أبي دؤاد 5، ومحمد بن أبي الليث 6، وأبو هاشم الجبائي 7، والخصّاف8
__________
1 الانتقاء ص166؛ ولسان الميزان 1/399؛ والسنة لعبد الله بن أحمد 1/182.
2 انظر تأنيب الخطيب ص11؛ والتنكيل 1/259.
3 خالف المعتزلة في أفعال العباد ووافق السلف لذا هجرته المعتزلة. انظر الفرق بين الفرق ص205.
4 هو محمد بن شجاع الثلجي. انظر ترجمته في الجواهر المضية 3/173؛ والفوائد البهية ص171.
5 هو أحمد بن أبي دؤاد بن جرير الحنفي المعتزلي قاضي المأمون المتوفى سنة 240هـ. انظر ترجمته في الجواهر المضية في طبقات الحنفية 1/134-135؛ والطبقات السنية 1/290-331؛ وتاريخ بغداد 1/141؛ وسير أعلام النبلاء 11/169.
6 هو محمد بن أبي الليث الأصم الحنفي المعتزلي قاضي مصر وأحد رؤوس الفتنة في تعذيب أهل السنة، انظر عنه في أخبار القضاة لوكيع 3/240-326؛ وتاريخ ولاة مصر وقضاتها للكندي ص340-341؛ وضحى الإسلام 3/183-284؛ وعقيدة الإسلام لأبي الخير ص552.
7 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي الحنفي المعتزلي إمام الهاشمية من فرق المعتزلة المتوفى سنة 321هـ عده اللكنوي في عداد الحنفية من المعتزلة في الرفع والتكميل ث385. انظر ترجمته وبعض آرائه في تاريخ بغداد 11/55؛ والميزان 2/616؛ واللسان 4/16؛ ومنهاج السنة 1/127؛ ودرء التعارض 3/444، 8/320؛ وتبصرة الأدلة "37/أ" والمسايرة ص49.
8 هو أحمد بن عمر الخصّاف بفتح الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة آخره فاء يقال لمن يخصف النعل. وإنما اشتهر بالخصاف لأنه كان يأكل من صنعته، قال =
(1/626)
________________________________________
والكعبي 1، ومحمد بن علي البصري 2، وأبي علي الجبائي 3، وأبي سعيد البردعي 4، والحسين البصري5، وعثمان بن جني 6
__________
= عنه اللكنوي: "كان فرضيا عارفا بمذهب أبي حنيفة"، مات سنة 261هـ.
الفوائد البهية ص29. وانظر ترجمته في الجواهر المضية 1/230؛ وتاج التراجم ص7؛ وطبقات الفقهاء ص44، 45؛ والطبقات السنية 1/418، 419.
1 هو عبد الله بن أحمد البلخي أبو القاسم الكعبي الحنفي إمام الكعبية من معتزلة بغداد مات في سنة "319"هـ. انظر ترجمته في الجواهر المضية في طبقات الحنفية 2/296، 3/400؛ وتاج التراجم ص30.
2 هو محمد بن علي البصري أبو الحسين الحنفي المعتزلي صاحب كتاب المعتمد في الأصول مات في سنة 436هـ.
ترجم له القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية 3/261. وانظر ترجمته كذلك في تاريخ بغداد 3/100؛ والمنتظم 8/126-127.
3 هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي الحنفي المتوفى سنة 303هـ.
إما المعتزلة في وقته وشيخ أبي الحسن الأشعري. ذكره اللكنوي في عداد الحنفية من المعتزلة في الرفع والتكميل ص385 وأقره المحقق أبو غدة. انظر ترجمته في اللسان 5/271.
4 هو أحمد بن الحسين أبو سعيد البردعي القاضي الحنفي المتوفى سنة 317هـ.
رأس المعتزلة وشيخ أبي الحسن عبيد الله الكرخي. انظر ترجمته في الجواهر المضية في طبقات الحنفية 1/163؛ والطبقات السنية 1/341-342؛ والفوائد البهية ص19.
5 الحسين بن علي البصري المعتزلي الحنفي قال عنه الصيمري: "لم يبلغ أحد مبلغه في العلمين أعني الفقه والكلام" مات سنة 396هـ. انظر أخبار أبي حنيفة للصيمري ص165؛ والجواهر المضية 4/63، 2/22؛ والفوائد البهية ص67.
6 هو أبو الفتح عثمان بن جني المعتزلي.
لم أقف على ترجمة له في طبقات الحنفية غير أنه حنفي معتزلي. انظر تحقيق ذلك في مقدمة الأستاذ/ محمد علي لكتاب الخصائص لابن جني ص5-39، 40-43.
(1/627)
________________________________________
وإسماعيل السمان 1، وعبد الجبار الهمداني 2، والزمخشري 3، ونجم الدين الزاهدي 4، وغيرهم من أئمة الاعتزال.
قال السخاوي: "وكان آخر من كان في أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين والمائتين. وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن نسأل الله السلامة" 5.
__________
1 هو إسماعيل بن علي بن الحسين الحنفي المعتزلي أبو سعيد السمان المتوفى سنة 445هـ. انظر ترجمته في الجواهر المضية 1/424؛ والطبقات السنية 2/197؛ وفقه أهل العراق ص69؛ والعلماء العزاب ص64-67.
2 هو عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني نسبة إلى همدان المعتزلي الحنفي المتوفى سنة 415هـ ولم أقف له على ترجمة له في طبقات الحنفية لكن عدّه اللكنوي في عداد الحنفية من المعتزلة في الرفع والتكميل ص385. وانظر ترجمته في شذرات الذهب 3/202، 203.
3 هو محمود بن عمر الزمخشري نسبة إلى زمخشر قرية من قرى خوارزم قال عنه اللكنوي: "كان إمام عصره بلا مدافع نحويا ذكيا فقيها مناظرا متكلما أديبا شاعرا مفسرا من أكابر الحنفية، حنفي المذهب معتزلي المعتقد". مات سنة 538. انظر ترجمته في الفوائد البهية ص210؛ وتاج التراجم ص71؛ وطبقات الفقهاء ص97.
4 هو مختار بن محمد أبو الرجاء نجم الدين الزاهدي الغزميني نسبة إلى غزمين بفتح الغين ثم الميم المكسورة ثم الياء الساكنة ثم النون قصبة من قصبات خوارزم قال عنه اللكنوي: "كان من كبار الأئمة وأعيان الفقهاء عالما ... له اليد الباسطة في الخلاف والمذهب والباع الطويل في الكلام والمناظرة ... صرح ابن وهبان وغيره أنه معتزلي الاعتقاد حنفي الفروع". مات سنة 658هـ. انظر الفوائد البهية ص212؛ والرفع والتكميل ص385؛ والنافع الكبير ص18.
5 فتح المغيث 3/146.
(1/628)
________________________________________
وقال المعلمي: "وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلا على يدي 1 أصحابكم ـ يعني الحنفية من المعتزلة ـ ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم ـ يعني أبا حنفية ـ إلى أن قال: كانت المحنة على يدي أصحابكم، واستمرت خلافة المأمون، وخلافة المعتصم، وخلافة الواثق، وكانت قوة الدولة كلها تحت إشارتهم، فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد وفي الفقه في جميع الأقطار، وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه بأنواع الأذى ولذلك تعمدوا أبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر عالم الشام وارث فقه الأوزاعي والإمام أحمد بن حنبل حامل راية فقه الحديث وأبا يعقوب البويطي خليفة الشافعي وابن عبد الحكم وغيره" 2.
وكان من أشد الناس تعذيبا للمخالفين وتحمسا للقول بخلق القرآن، أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة ومحمد بن أبي الليث قاضي مصر أيام المعتصم والواثق.
قال ابن قديد3: "ورد كتاب المعتصم على هارون بن عبد الله ـ قاضي مصر ـ بحمل الفقهاء في المحنة فاستعفى هارون من ذلك فكتب ابن أبي دؤاد إلى محمد بن أبي الليث يأمره بالقيام في المحنة وذلك قبل ولايته القضاء وكان رأسا في القيام بذلك فحمل نعيم بن حماد والبويطي وخشنام المحدث في جمع كثير سواهم" 4.
وقال علي بن عمرو بن خالد: "لما استخلف الواثق ورد كتابه على
__________
1 هكذا في التنكيل، ولعل الصواب: "على أيدي أصحابكم".
2 التنكيل 1/259-261.
3 لعله علي بن الحسين بن خلف بن قديد المصري المتوفى 312هـ. انظر ترجمته في السير 14/435، 436.
4 رواه الكندي في كتاب الولاة والقضاة ص447.
(1/629)
________________________________________
محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمع، فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أُخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث بالاكتتاب على المساجد لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق فكتب بذلك على المساجد فسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد، وأمرهم ألا يقربوه"1.
واستمرت المحنة حتى تولى الخلافة المتوكل، فأظهر الله السنة وفرج عن الناس2.
قال الذهبي: "وفي سنة 234هـ أظهر المتوكل 3 السنّة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار واستقدم المحدثين إلى سمراء وأجزل لهم صلاتهم ورووا أحاديث الرؤية والصفات" 4.
وقال ابن الجوزي: "وفي سنة 408هـ استتاب القادر 5 بالله أمير
__________
1 الولاة وكتاب القضاء ص451.
2 سير أعلام النبلاء 11/265.
3 هو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد القرشي البغدادي العباسي ولد سنة 205هـ وبويع له بالخلافة سنة 232هـ بعد موت أخيه الواثق بالله فأظهر السنة ونصر أهلها ومحا البدعة مات سنة 247هـ مقتولا. تاريخ بغداد7/165-172. وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 12/30؛ وشذرات الذهب 2/114-116.
4 سير أعلام النبلاء 12/34.
5 هو أحمد بن إسحاق بن المقتدر جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي قال عنه الخطيب: "وكان من الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد وكان صنف كتابا في الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب =
(1/630)
________________________________________
المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم" 1.
وقد تقدم بيان موقف الإمام أبي حنيفة من المعتزلة، أما الصاحبان فأبو يوسف كان يرمي المعتزلة بالزندقة 2، وأما محمد بن الحسن فيوصي من صلّى خلف المعتزلي بإعادة صلاته 3 ويرى أن المعتزلي لا تجوز الصلاة عليه 4.
ثالثا ـ الحنفية من الشيعة:
تقدم التعريف بالشيعة وموقف الإمام أبي حنيفة منهم في الفصل الثاني من الباب الأول بما يغني عن الكلام فيه مرة أخرى وقد ذكر أبو المظفر الإسفراييني أن من أهل الرأي من تلبس بشيء من مقالات الروافض والقدرية، وإذا خاف سيوف أهل السنة نسب ما هو فيه إلى أبي حنيفة تسترا 5 به وكذا العلامة اللكنوي، وقد ذكر أن من فرق الحنفية
__________
= مذهب أصحاب الحديث، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن ... ". توفي القادر في سنة 422هـ. تاريخ بغداد 4/37. وانظر ترجمته في المنتظم 7/160؛ وسير أعلام النبلاء 15/127.
1 المنتظم 7/287.
2 الفرق بين الفرق ص156.
3 الفرق بين الفرق ص156.
4 أصول الدين للبغدادي ص342.
5 التبصير في الدين 1/114.
(1/631)
________________________________________
الشيعة، ومن الحنفية الذين تلبسوا بعقيدة الشيعة الباطنية الحسن بن عبد الله بن سينا المعروف بالرئيس المتوفى سنة824هـ فقد قال ابن الصلاح: "كان شيطانا من شياطين الإنس" 1.
ومع هذا هو عند بعض كتاب التراجم من الحنفية ولي من أولياء الله تعالى، صاحب كرامات مشهورة2. ولم أقف على تعيين سواه من هذه الطائفة.
رابعا ـ الحنفية من الزيدية:
هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها ولا يرونها في غيرهم، إلا أنهم جوّزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل، لذا صححوا إمامة أبي بكر رضي الله عنه. وكان زيد بن علي لا يتبرأ من الشيخين، فلما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة رفضوه فسميت رافضة 3. وقد تتلمذ زيد بن علي هذا على واصل بن عطاء الغزّال إمام المعتزلة، وحكى المقبلي 4 عن بعض الأشعرية أن الزيدية مقلدون للمعتزلة في الأصول، والحنفية في الفروع. ولكن علق على ذلك بقوله: "فليس موافقتهم للحنفية غالبة، بل ذلك في بعض أئمتهم"5.
لكن ذكر الشيخ أحمد عبد الأحد السرهندي الحنفي: "أن الزيدية في
__________
1 فتاوى ابن الصلاح 1/209.
2 انظر الجواهر المضية 2/63؛ وتبديد الظلام ص137.
3 انظر مقالات الإسلاميين ص65؛ والملل والنحل 1/154، 155.
4 العلم الشامخ ص13.
5 العلم الشامخ ص13.
(1/632)
________________________________________
الفروع على مذهب أبي حنيفة وفي الأصول على مذهب المعتزلة" 1.
أما الكوثري فقد ذكر أن مذهب زيد بن علي متفق في معظمه مع أبي حنيفة لاتحاد مصدر المذهبين2.
خامسا ـ الحنفية من المرجئة:
تقدم التعريف بالمرجئة مع بيان أنواعها في الفصل الثاني من الباب الأول.
ومن الحنفية الذين تلبسوا بعقيدة المرجئة بشر 3 بن غياث المريسي المتوفى سنة 228هـ وإليه تنسب المريسية وقد عدّها بعض كتاب المقالات 4 من فرق المرجئة. قال عنه الإسفراييني: "منهم المريسية أصحاب بشر المريسي ومرجئة بغداد من أتباعه، وكان يتكلم بالفقه على مذهب أبي يوسف القاضي ولكنه خالفه بقوله إن القرآن مخلوق وكان مهجورا من الفريقين وهو الذي ناظر الشافعي رضي الله عنه في أيامه فلما
__________
1 تائية أهل السنة ص16، طبعة حسين حلمي بإستنبول تركيا.
2 مقالات الكوثري ص123.
3 وجمع مع الإرجاء تعطيل صفات الرب أخذها عن جهم بن صفوان، وأخذ عنه ابن أبي دؤاد وجرد القول بخلق القرآن لذا كفره كثير من أئمة الإسلام وحكموا عليه بالزندقة وقد ذكر الإمام اللالكائي تكفيره عن ستة وعشرين إماما من أئمة السنة.
انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/382-383. وانظر ترجمة بشر في تاريخ بغداد 7/56-67؛ وفيات الأعيان 1/277-278؛ وسير أعلام النبلاء 10/199-202؛ والجواهر المضية 1/447؛ والفوائد البهية ص54.
4 انظر مقالات الأشعري ص140؛ والفرق بين الفرق ص192؛ والتبصير في الدين ص61.
(1/633)
________________________________________
عرف الشافعي أنه يوافق أهل السنة في مسألة والقدرية في مسألة قال له: نصفك مؤمن ونصفك كافر. وكان يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان كما قاله ابن الراوندي. هذه فرق المرجئة المحضة الذين يتبرأون عن القول بالجبر والقدر" 1.
ومنهم محمد بن كرام السجستاني 2 المتوفى سنة 255هـ وإليه تنسب فرق الكرامية وقد عدها بعض كتاب المقالات من المرجئة 3.
قال عنه الذهبي: "المبتدع شيخ الكرامية، كان زاهدا عابدا ربانيا بعيد الصوت كثير الأصحاب ... كان يقول: الإيمان هو نطق اللسان بالتوحيد مجردا عن عقد قلب وعمل جوارح. وقال خلق من الأتباع له: عن الباري جسم لا كالأجسام ... وكان الكرامية كثيرين بخراسان ولهم تصانيف ثم قلّوا وتلاشوا نعوذ بالله من الأهواء" 4.
ومنهم أبو منصور الماتريدي الحنفي المتوفى سنة 323هـ وإليه تنسب فرقة الماتريدية وقد تقدم الكلام عنه في الفصل الأول من الباب الخامس بما يغني عن الكلام فيه مرة أخرى.
هذه الفرق الخمس التي انتسبت إليها الحنفية ولا يعني هذا أن الحنفية لم يتلبسوا إلا بمقالات هذه الفرق المذكورة آنفا، بل الثابت أن من الحنفية من تلبس بمقالات فرق أخرى كالجهمية 5، بل إن منهم من اعتنق
__________
1 التبصير في الدين ص61.
2 جمع مع بدعة الإرجاء بدعة التجسيم وقد زعم أن الله تعالى له جسم له حد ونهاية. انظر الفرق بين الفرق ص217.
3 انظر مقالات الإسلاميين 1/223؛ والفرق بين الفرق ص25.
4 سير أعلام النبلاء 11/523-524.
5 كأمثال أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي المتوفى سنة 199هـ فقد قال عنه =
(1/634)
________________________________________
مذهب الحلولية الاتحادية 1.
__________
= الإمام أحمد "لا ينبغي أن يروى عنه حكوا عنه أنه يقول الجنة والنار خلقتا فستفنيان وهذا كلام جهم".
انظر الضعفاء للعقيلي 1/256؛ والميزان 1/574؛ واللسان 2/334؛ ومحمد بن شجاع البلخي المتوفى سنة 266هـ. قال عنه المزي: "كان أحد الجهمية". وقال عنه ابن كثير: "كان أحد عباد الزنادقة". وقال عنه الذهبي: "كان يقول: "عند أحمد بن حنبل كتب الزنادقة". وجاء من غير وجه أنه كان ينال من أحمد وأصحابه ويقول إيش قام به أحمد؟ وكان يقول: أصحاب أحمد يحتاجون أن يذبحوا. وكان يقول إنما أقول كلام الله كما أقول سماء الله وأرض الله. وأوصى وصية كان فيها: "لا يعطى من ثلثي إلا من قال القرآن مخلوق". وكان ينال من الإمام الشافعي ويقول: من الشافعي؟ "إنما كان يصحب بربر المغني" ورجع عن مقالاته هذه لما احتضر. ولقد ادعى هذا الجهمي أن الزنادقة قد وضعوا اثني عشر ألفا من الحديث وروّجوها على رواة الحديث.
فتحدّاه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي بوضع عشرة أحاديث فضلا عن اثني عشر ألف حديث.
انظر تهذيب الكمال النسخة المصورة 3/2110؛ والميزان 3/577-579؛ والمشتبه ص89؛ وتهذيب التهذيب 9/220، 221؛ وتبصير المنتبه 1/168، وتاريخ بغداد 5/351؛ والكشف الحثيث ص379؛ ورد الدارمي على بشر المريسي ص150-151؛ والفوائد البهية ص171.
1 "أ" أمثال السيد الشريف الجرجاني 816هـ صاحب شرح المواقف.
"ب" والفناوي بدر الدين ملا حسن الشبلي "جلي" ابن محمد شاه الرومي 886هـ.
"ج" والجامي نور الدين عبد الرحمن 898هـ.
صرح بأن هؤلاء أهل وحدة الوجود وأتباع ابن عربي المحقق ولي الدين في حاشيته على حاشية العصام على شرح التفتازاني على العقائد النسفية ص2 والجامي يشهد عليه كتابه "الدرة الفاخرة".
"د" وهكذا لطف الله بن حسن التوقاني الرومي المقتول 900هـ فقد ألف كتابا سماه "السبع الشداد". أوله: "حمدا لك يا من هو الموجود في كل مكان". انظر =
(1/635)
________________________________________
والرَزِيَّة كل الرزية أن من تلبس بشيء من هذه البدع فإنه ينسب ذلك إلى أبي حنيفة وهو بريء منها.
فقد نسب إليه الحنفية من المعتزلة بعضا من عقائدها1، وكذا المرجئة2 إرجاء مطلقا.
وقد حقق أهل العلم أن انتسابهم إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى منكر من القول وزور.
__________
= كشف الظنون 2/976، وهذا حلول صريح.
"هـ" وهكذا إسماعيل صفي بن مصطفى الجلوتي الإسلامبولي مؤلف روح البيان 1137هـ. على الطريقة الجلوتية الصوفية على غلوه في وحدة الوجود، صرح به الكوثري في مقالاته ص483.
"و" وكذا ابن الفرس أبو اليسير محمد بن محمد بن خليل القاهري 894هـ كان مع جلالته وإمامته في العلوم من الاتحادية قال البقاعي 885هـ:
" ... فصار من رؤوس الاتحادية التابعين للحلاج وابن عربي وابن الفارض".
انظر الضوء اللامع 6/220-221.
"ز" ومنهم صدر الدين أبو الفتح محمد بن يوسف الدهلوي 825هـ الاتحادي الخرافي الباطني، راجع نزهة الخواطر 3/160؛ والأعلام 7/154، والدعوة الإسلامية وتطورها في الهند ص367؛ والثقافة الإسلامية في هند ص234.
"ح" محمد بن شجاع بن معز الدين اليحيوي الهندي الاتحادي ومن أعيان القرن الثالث عشر. انظر نزهة الخواطر 6/315؛ والثقافة الإسلامية في الهند ص239.
1 كإنكار العلو والاستواء والرؤية. انظر أمثلة على ذلك في صفحة ص13 من هذه الرسالة.
2 من ذلك قول الشهرستاني "ومن العجب أن غسان كان يحكي عن أبي حنيفة رحمه الله مثل مذهبه في الإيمان ويعده من المرجئة ولعله كذب كذلك عليه".
انظر الملل والنحل 1/141.
(1/636)
________________________________________
وقال ابن أبي العز رحمه الله:"ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ـ يعني علو الله تعالى على خلقه واستواءه على عشره ـ ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداته. وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش، مشهورة" 1.
وقال شيخ الإسلام: "وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها ولا سيما وقد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك، ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد.
وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة" 2.
وقال أبو المظفر الإسفراييني: "قد نبغ من أحداث أهل الرأي من تلبّس بشيء من مقالات القدرية والروافض مقلدا فيها، وإذا خاف سيوف أهل السنة نسب ما هو فيه من عقائده الخبيثة إلى أبي حنيفة تسترا به فلا يغرنك ما ادعوا من نسبتها إليه فإن أبا حنيفة بريء منهم ومما نسبوه إليه" 3.
وقال شيخ الإسلام: "فما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام وهو منهم بريء. فقد انتسب إلى مالك أناس، مالك بريء منهم، وانتسب إلى
__________
1 شرح العقيدة الطحاوية ص302، ط دار البيان.
2 منهاج السنة 5/261.
3 التبصير في الدين ص114 تحقيق الكوثري.
(1/637)
________________________________________
الشافعي أناس هو منهم بريء، وانتسب إلى أبي حنيفة أناس هو بريء منهم" 1.
وبعد هذا العرض نصل إلى نتيجة واقعية وهي أن الحنيفة تلبس كثير منهم بعقائد فرق شتى، وجعلت كل فرقة تنسب عقيدتها إلى الإمام أبي حنيفة بخاصة وأهل السنة عامة، وكان بين هذه الفرق قدر مشترك من البدع كالتعطيل للصفات، والتحريف لنصوصها تحت ستار التنزيه، والتأويل والقول بالإرجاء. وكان بين هذه الفرق احتكاك لرابطة عقائدية فيما بينها في الجملة. ولاعتناقها المذهب الحنفي، فصار هذا كله سببا مهما في اضمحلال العقيدة الحنفية التي قررها الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وصارت العقيدة الماتريدية تمثل عقيدة جمهور الحنفية منذ عهد بعيد إلى العصر الحاضر.
__________
1 العقود الدرية ص157. انظر مجموع الفتاوى 3/185.
(1/638)
________________________________________
الخاتمة
الحمد لله الذي يسر وأعان على إتمام هذا البحث في أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فلله وحده الفضل والمنة، وقد توصلت إلى نتائج أجملها فيما يلي:
1- أن العقيدة الصحيحة التي منبعها الكتاب والسنة هي أساس الدين وأصله المتين، وكل ما يبنى على غير أساس فمآله الهدم والانهيار والاضمحلال.
2- أن اعتقاد أئمة الفقه ـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ـ واحدٌ في أصول الدين. وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة الواضحة في بيان عقيدتهم ليعرف القارئ الكريم أنهم متفقون في باب الاعتقاد.
3- أن أبا حنيفة باشر علم الكلام وتضلّع فيه ثم تحوّل عنه إلى السنة لما أدرك خطورته على الدين وضرره على العقيدة.
4- أن أبا حنيفة اعتصم بنصوص القرآن والسنة في إثبات العقائد فهما العمدة والأصل، ولأن تجاوزهما قول على الله بغير علم وتقديمٌ بين يدي الله ورسوله.
5- سلك الإمام أبو حنيفة في استدلاله على وجود الله طريقة القرآن والسنة وأعرض عن مناهج المتكلمين وطرقهم.
(1/639)
________________________________________
6- أن الضابط للإثبات والتنزيه عند الإمام أبي حنيفة قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "سورة الشورى: الآية11".
وهذا هو الصراط المستقيم في باب صفات الله إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل.
7- ليس في منهج الإمام أبي حنيفة نوع من التشبيه أو التعطيل، وكذلك لا يوجد في كلام الإمام أبي حنيفة تفويض مطلق، بل الذي في كلام أبي حنيفة تفويض مقيّد بنفي علم الكيفية فقط لا المعنى.
8- أثبت أبو حنيفة جميع الصفات: ذاتية كانت أو فعليّة بدون تأويل، أو تحريف، وظلّ ملتزما بمنهجه هذا أثناء التطبيق؛ فأبى أن يؤوّل اليد بالقدرة أو النعمة 1، والرضا بالثواب 2، والغضب بالعقاب 3.
9- سلك أبو حنيفة منهج أهل السنة والجماعة في باب القدر، وردّ على المنحرفين فيه من قدرية أو جبرية.
10- أثبت أبو حنيفة نعيم القبر وعذابه، وأحوال اليوم الآخر، وأن الجنة والنار موجودتان مخلوقتان، وأنهما باقيتان لا فناء لهما.
11- أخذ عليه رحمه الله تعالى أنه خالف جمهور السلف في مسألة إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان، ولعله رجع عنها وإن لم يكن رجع عنها فعفا الله عنا وعنه وغفر الله لنا وله وجمعنا وإياه في مستقر رحمته، فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
12- لم يصل إلينا كتب للإمام أبي حنيفة كتبت بخط يده أو نسخ
__________
1 الفقه الأكبر ص302.
2 الفقه الأبسط ص56.
3 الفقه الأبسط ص56.
(1/640)
________________________________________
معتمدة من تألفيه، غير أنه يوجد كتب منسوبة للإمام أبي حنيفة كالفقه الأكبر برواية حماد بن أبي حنيفة ورسالة أبي حنيفة للبتي والوصية.
وقد صرّح بعض الحنفية أنها ليست من تأليف الإمام مباشرة بل هي أماليه وأقواله قام التلاميذ بجمعها وتأليفها 1.
13- المقارنة بين الإمام أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي والماتريدية أظهرت أنهما مختلفان في المنهج متباعدان في التطبيق في كثير من مسائل الاعتقاد. فلم يكن الماتريدي والماتريدية على منهج أبي حنيفة في الاعتقاد وإن انتسبوا إليه في الفروع.
14- ليس كل من انتسب إلى أبي حنيفة يعدّ موافقا له في أصول الدين وفروعه، بل هناك من كبار المبتدعة من انتسب إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة بريء منهم كبراءة الذئب من دم يوسف.
15- أن بعض أقوال الإمام أبي حنيفة في الاعتقاد لم تسلم من التحريف والتبديل من قبل بعض المبتدعة المنتسبين إلى أبي حنيفة، كقوله في القرآن والرؤية والاستواء وغير ذلك.
وبعد أن عشت مع هذا البحث فترة ليست بالقصيرة ظهر لي أن هناك جانبا مهما لم يعط حقه من الدراسة ألا وهو تنقية عقائد أئمة الفقه الأربعة مما علق بها من آراء مذهبية كلامية وتأويلات جهمية، ولهذا فإنني أقترح على الدوائر العلمية الإسلامية ما يلي:
أولا: تشجيع الدارسين والباحثين على الكتابة في عقائد الأئمة الفقهاء الأربعة وأصحابهم الأوائل مع كشف ما أدخل عليهم وما علق بهم من آراء المبتدعة وتأويلاتهم.
__________
1 انظر تفصيل ذلك في ص140.
(1/641)
________________________________________
ثانيا: أن تكون دراسة العقيدة من مصدرها الأول الكتاب والسنة بعيدا عن تعقيدات المتكلمين والفلاسفة وجدلهم العقيم، ولا نخضع تلك الأدلة لتفسيرات المتكلمين وطريقتهم في الجدل.
ثالثا: تشجيع اتّجاه دراسة عقائد أتباع أئمة الفقه الأربعة ثم مقارنتها بعقيدة الأئمة لإظهار الفرق بينها مع بيان قربها أو بعدها من الكتاب والسنة فطالما يتساءل الإنسان هل أتباع الأئمة الأربعة متبعون لهم في الاعتقاد؟ أم هم مخالفون لهم؟ وهل تتفق عقائدهم مع ما جاء به التنزيل وما فطر الله عليه العباد أم لا؟
أم هم اعتنقوا أصول مذاهب مختلفة نتج عنها ميراث الخلاف المذهبي الذي يعيش فيه المسلمون اليوم بما له من آثار سيئة على الأمة والمجتمع الإسلامي؟.
رابعا: العمل على إثراء عقيدة السلف بتدوين تاريخ العقيدة السلفية إذ الحاجة ماسة إلى هذا، وأن تكون تلك الدراسة من مصادرها الأصلية وتنقيتها من الدخيل مع إعادة تقييم السلف على أنهم الأسلم والأحكم والأعلم.
وفي الختام فهذا جهد المقل، فقوى الإنسان محدودة قاصرة، فلا بد من خلل وهفوة، فإن التقصير وكثرة العيوب من صفات المخلوقين. وقد قيل: من صنّف فقد استُهدف، فرجائي من القارئ الكريم التماس العذر لكل نقص وهفوة في هذا البحث وبذل النصيحة خالية من الفضيحة، والله أسأل أن يكون هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن يوفقنا جميعا لهدي كتابه والسير على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم ال**** وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/642)
________________________________________
مصادر ومراجع
...
الفهارس
فهرس المصادر والمراجع
فهرس الموضوعات.
(1/643)
________________________________________
فهرس المصادر والمراجع
"حرف الألف"
* آداب الشافعي ومناقبه، تحقيق عبد الغني عبد الخالق تقديم الكوثري. طبعة دار الكتب العليمة ـ بيروت.
* الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، لحسين بن إبراهيم الجوزقاني. الطبعة الثانية تحقيق عبد الرحمن الفريوائي، طبعة الجامعة السلفية بناراس ـ الهند.
* الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق د. فوقية حسين. الطبعة الأولى سنة 1397هـ، دار الأنصار ـ القاهرة.
* الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للإمام بدر الدين الزركشي، تحقيق سعيد الأفغاني، مطابع دار القلم ـ بيروت.
* اختصار علوم الحديث لابن كثير مع شرحه الباعث الحثيث، لأحمد شاكر الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* أبهج المسالك لشرح موطأ الإمام مالك، للزرقاني، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
* الاتباع للعلامة القاضي ابن أبي العز الحنفي، حققه وعلق عليه د. عاصم بن عبد الله القريوتي، طبعة المكتبة السلفية ـ لاهور 1405هـ.
الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل الطبعة الثالثة 1405هـ، دار التراث ـ القاهرة.
(1/645)
________________________________________
* إثبات صفة العلو لابن قدامة المقدسي، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى سنة 1406هـ، الدار السلفية ـ الكويت.
* اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم، تحقيق د. عبد الله المعتق الطبعة الأولى 1408هـ، مطابع الفرزدق الرياض، طبعة أخرى، دار الكتب العلمية.
* الأديان والفرق، لعبد القادر شيبة الحمد، طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة.
* الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان، الطبعة الأولى سنة 1407هـ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* أحكام القرآن، للجصاص، تحقيق، محمد صادق قمحاوي، طبعة دار التراث العربي ـ بيروت.
* إحياء علوم الدين، للغزالي، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت.
* أخبار أبي حنيفة وأصحابه، لحسين الصيمري، الطبعة الثانية دار الكتاب العربي ـ بيروت.
* أخبار القضاة، لوكيع، طبعة عالم الكتب ـ بيروت.
* أبو حنيفة، حياته وعصره ـ آراؤه الفقهية، لمحمد أبو زهرة، طبعة دار الفكر العربي، الطبعة الثانية.
* الأذكار النووية للنووي، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، طبعة رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
* الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى، للحافظ ابن عبد البر، تحقيق د/ عبد الله السوالمة، طبعة دار ابن تيمية ـ الرياض.
الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني، طبعة مكتبة الخانجي بمصر، طبعة 1369هـ.
(1/646)
________________________________________
* اشتقاق أسماء الله، لأبي القاسم الزجاجي، تحقيق د. عبد الله الحصين المبارك، الطبعة الثانية، 1406هـ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
* إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
* أساس البلاغة، لمحمود الزمخشري، الطبعة الثانية، دار الكتاب بمصر سنة 1972م، طبعة أخرى دار المعرفة ـ بيروت، 1402هـ.
* إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1399هـ، المكتب الإسلامي ـ بيروت.
* الاستقامة لشيخ الإسلام تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1404 ـ الرياض.
* الأسماء والصفات للبيهقي، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لبنان، طبعة أخرى، دار الكتاب العربي، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، الأولى 1405هـ.
* الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، طبعة دار الكتب العلمية.
* أصل السنة واعتقاد الدين لابن أبي حاتم، المطبوع مع كتاب أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة لسعدي الهاشمي.
* أصول الدين، لعبد القادر البغدادي، طبعة دار الكتاب العلمية الثانية 1400هـ.
* أصول الدين، للقاضي أبو اليسر البزدوي، حققه وقدم له، د. هانز بترلانس، طبعة دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي وشركاه، القاهرة 1388هـ.
* أصول السرخسي تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
أصول السنة، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي زمنين رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تحقيق، محمد إبراهيم هارون. مطبوعة على الآلة الكاتبة.
(1/647)
________________________________________
* أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، طبعة عالم الكتب ـ بيروت.
* الاعتصام للشاطبي، طبعة دار ابن الخطاب للطباعة والنشر والتوزيع، الإسنكدرية، طبعة أخرى دار المعرفة بيروت، سنة 1402هـ.
* الاعتقاد والهداية على سبيل الرشاد، للبيهقي تحقيق أحمد عاصم الكاتب، طبعة دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401هـ.
* الإعلام، للزركلي طبعة الخامسة دار العلم للملايين ـ بيروت.
* اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي، طبعة دار الكتاب العربي الأولى 1407هـ.
* اعتقاد السلف أصحاب الحديث، للصابوني ضمن مجموعة الرسائل الكمالية، الناشر مكتبة المعارف بالطائف، طبعة أخرى تحقيق بدر البدر، طبعة دار الكتب السلفية.
* إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، تقديم وتعليق، طه عبد الرؤوف دار الجيل ـ بيروت، 1973م.
* أعيان الشيعة، لمحسن الأمين، تحقيق حسن الأمين طبعة دار التعارف، للمطبوعات ـ بيروت، 1406هـ.
* الأفعال، للمعافري سعد بن محمد تحقيق حسين محمد شرف، طبعة الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية سنة 1395هـ، القاهرة.
* إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان، طبعة المكتب الإسلامي الطبعة الأولى 1407هـ، طبعة أخرى ومكتبة مصطفى البابي الحلبي في مصر سنة 1381هـ.
أقاويل الثقات، مرعي بن يوسف المقدسي الطبعة الأولى مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1406هـ.
(1/648)
________________________________________
* الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، الطبعة الأولى سنة 1403هـ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق د. ناصر العبد الكريم العقل، الطبعة الأولى 1404هـ، شركة العبيكان ـ الرياض.
* أنباء الغمر بأبناء العمر، لابن حجر العسقلاني الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية ـ بيروت، 1406هـ.
* الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* الأنساب، لعبد الكريم السمعاني، الطبعة الأولى مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الهند، سنة 1397هـ.
* الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، للدهلوي الطبعة الثانية دار النفائس ـ بيروت، سنة 1398هـ.
* أنوار التنزيل وأسرار التأويل، لعبد الله بن عمر البيضاوي، الطبعة الأولى دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* إيثار الحق على الخلق، لمحمد بن المرتضى اليماني، طبعة دار الكتب العلمية.
* إيقاظ الهمم، للشيخ صالح الفلاني، طبعة باكستان، توزيع رئاسة الإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض، طبعة أخرى مكتبة المعارف بالطائف.
* الإيمان لابن أبي شيبة تحقيق الألباني، طبعة دار الأرقم ـ الكويت.
الإيمان لابن منده، تحقيق د. علي الفقيهي، الطبعة الأولى الجامعة الإسلامية بالمدينة سنة 1401هـ.
(1/649)
________________________________________
* الإيمان لأبي يعلى تحقيق سعود الخلف، طبعة دار العاصمة بالرياض الأولى سنة 1410هـ.
* الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى المجلد السابع، طبعة أخرى، المكتب الإسلامي ـ بيروت، الطبعة الثالثة سنة 1399هـ، والطبعة التي طبعت سنة 1406هـ، طبعة أخرى دار الطباعة المحمدية، بتعليق محمد الهراس.
* الإيمان بين السلف والمتكلمين، أحمد عطية الغامدي، رسالة ماجستير في جامعة أم القرى المطبوعة على الآلة الكاتبة.
"حرف الباء"
* الباعث الحثيث، لأحمد شاكر، تقدم.
* البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، الطبعة الثانية دار الفكر ـ بيروت سنة 1403هـ.
* البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجم المصري، طبعة سعيد كميني كراتشي.
* بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي، مخطوط.
* بحر الكلام في علم التوحيد لأبي المعين النسفي، طبعة 1340هـ، بدون ذكر مكان الطبع.
* بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر الكاساني، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت، الطبعة الثانية 1402هـ.
* بدائع الفوائد لابن القيم، طبعة دار الفكر.
البداية والنهاية لابن كثير، الطبعة الخامسة مكتبة المعارف ـ بيروت، سنة 1404هـ. طبعة أخرى دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
(1/650)
________________________________________
* البداية من الكفاية في الهداية في أصول الدين لنور الدين الصابوني تحقيق، د. فتح الله خليف، طبعة دار المعارف بمصر سنة 1969م.
* بدء الأمالي، للأوشي الفرغاني مع شرحها، وضوء المعالي للقاري، طبعة دار السعادة بتركيا.
* البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
* بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لعبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل، الطبعة الثانية دار الفكر سنة 1399هـ ـ بيروت.
* بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية ـ بيروت.
* البناية في شرح الهداية لأبي محمد محمود العيني، طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى سنة 1401هـ.
* بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لشيخ الإسلام تقديم وتعليق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، طبعة مطبعة الحكومة ـ مكة المكرة.
* البيان والتبيين، للجاحظ المطبعة التعاونية اللبنانية، سنة 1968م.
"حرف التاء"
* تاج التراجم، لقاسم بن قطلوبغا، طبعة سعد كمبيني كراتشي ـ باكستان.
* تاريخ ابن معين دراسة وتحقيق د. أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ـ مكة المكرمة سنة 1399هـ.
تاريخ التراث لفؤاد سزكين، نقله إلى العربية د. محمود فهمي حجازي، ود. فهمي أبو الفضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1977م.
(1/651)
________________________________________
* تاريخ الإلحاد في الإسلام، د. عبد الرحمن بدوي، طبعة مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة سنة 1945هـ.
* تاريخ بغداد أو مدينة السلام، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت، لبنان، طبعة أخرى دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* تاريخ الأمم والملوك، لمحمد بن جرير الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان ـ بيروت.
* التاريخ الصغير، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق محمود إبراهيم زايد، طبعة دار التراث ـ القاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ.
* تاريخ ولاة مصر، لمحمد بن يوسف الكندي، طبعة مؤسسة قرطبة ـ القاهرة بمصر.
* تأسيس التقديس للرازي، طبعة مصطفى البابي، الحلبي بمصر، ومعه الدرة الفاخرة للجامي.
* تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، طبعة دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
* تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الطبعة الثالثة سنة 1401هـ.
* التبصرة في أصول الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، للإمام أبي المظفر الإسفراييني، تحقيق كمال يوسف الحوت، عالم الكتب ـ بيروت، طبعة أخرى بتحقيق الكوثري، مطبعة الأنوار ـ القاهرة سنة 1950م.
تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي مخطوط في المكتبة الأزهرية في القاهرة تحت رقم 301.
(1/652)
________________________________________
* تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري لابن عساكر الدمشقي، دار الكتاب العربي ـ بيروت، سنة 1399هـ.
* تحفة المريد لإبراهيم البيجوري، دار الكتب الجديدة ـ القاهرة.
* تخريج مشكاة المصابيح للألباني، الطبعة الثانية المكتب الإسلامي ـ بيروت.
* تدريب الراوي في تقريب النواوي، تحقيق عبد الوهاب بن عبد اللطيف، الطبعة الثانية المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، طبعة أخرى.
* التدمرية، تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، لشيخ الإسلام. تحقيق د. محمود عودة السعوي، الطبعة الأولى.
* تذكرة الحفاظ، للإمام الذهبي، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لبنان.
* ترتيب المدارك وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك للقاضي عياض. تحقيق محمد الطنجي الطبعة الثانية سنة 1403هـ، وزراة الأوقاف بالمغرب، طبعة أخرى مكتبة الحياة ـ بيروت.
* ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير، الطاهر أحمد الزواوي، عيسى البابي وشركاه، القاهرة سنة 1972هـ.
* الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للحافظ زيد الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ضبط أحاديثه وعلق عليه مصطفى محمد عمارة، دار الفكر ـ بيروت، طبعة أخرى دار التراث القاهرة.
* التعريفات للشريف علي بن محمد الجرجاني، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403هـ طبعة أخرى دار الكتاب العربي ـ بيروت، سنة 1405هـ.
تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي، د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفروائي الطبعة الأولى سنة 1406هـ، الناشر مكتبة الدار ـ المدينة.
(1/653)
________________________________________
* تفسير ابن جرير الطبري "جامع البيان عن تأويل القرآن" حققه وعلق على حواشيه محمود محمد شاكر، راجعه وخرج أحاديثه أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية دار المعارف ـ مصر سنة 1969م، طبعة أخرى شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي ـ مصر الطبعة الثالثة سنة 1388هـ.
* تفسير ابن أبي حاتم "تفسير القرآن العظيم مسندا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين"، للحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي طبعة مكتبة الدار بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1408هـ.
* تفسير ابن الجوزي "زاد المسير في علم التفسير" المكتب الإسلامي للطباعة والنشر الطبعة الأولى ـ بيروت سنة 1385هـ.
* تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير" طبعة دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة سنة 1983م، طبعة أخرى دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة.
* تفسير البغوي "المسمى معالم التنزيل" للإمام محمد بن الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي. إعداد وتحقيق خالد عبد الرحمن وقروان سوار طبعة دار المعرفة ـ بيروت، الطبعة الأولى سنة 1406هـ.
* تفسير القرطبي، "الجامع لأحكام القرآن" لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، توزيع دار الباز ـ مكة، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
* تفسير الألوسي "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لبنان.
* تفسير الطبرسي المسمى "مجمع البيان في تفسير القرآن" للفضل الطبرسي الرافضي طبعة مكتبة الحياة بيروت.
تفسير التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور، طبع الدار التونسية للنشر 1984م.
(1/654)
________________________________________
تفسير النيسابوري المسمى "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" النيسابوري، طبعة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1385هـ.
* تفسير الماوردي المسمى "النكت والعيون"، لعلي بن حبيب الماوردي نشر المؤسسة السعدية بالرياض.
* تفسير أبي السعود المسمى "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" لأبي السعود محمد بن محمد العمادي، طبعة دار إحياء التراث العربي.
* تفسير النسفي المسمى "مدارك التنزيل وحقائق التأويل"، لعبد الله محمد بن أحمد النسفي، طبعة دار الكتاب العربي.
* تفسير الزمخشري المسمى بـ "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"، أبي القاسم جار الله محمد الزمخشري الخوارزمي، طبعة دار المعرفة طبعة أخرى.
* تفسير أسماء الله الحسنى، لابن إسحاق الزجاج، تحقيق أحمد الدقاق، طبعة دار المأمون للتراث ـ دمشق 1406هـ.
* تفسير سورة الإخلاص للإمام ابن تيمية طبعة دار الطباعة المحمدية ـ القاهرة.
* تقريب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني، حققه وعلق عليه عبد الوهاب عبد اللطيف، طبعة دار المعرفة ـ بيروت، لبنان سنة 1395هـ، طبعة أخرى دار البشائر الإسلامية تحقيق محمد عوامة، الطبعة الأولى سنة 1406هـ.
* التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح لزين الدين عبد الرحيم العراقي، طبعة دار الحديث ـ بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ، طبعة أخرى دار الفكر سنة 1401هـ.
(1/655)
________________________________________
* تلبيس إبليس، لعبد الرحمن بن الجوزي دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* تلخيص المستدرك، للحافظ الذهبي، دار الكتاب العربي ـ بيروت، لبنان.
* التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ ابن عبد البر. تحقيق مصطفى العلوي وآخرين، وزارة الأوقاف الإسلامية ـ المملكة العربية السعودية.
* التمهيد في أصول الدين لأبي المعين النسفي تحقيق د. عبد الحي قابيل، طبعة دار الثقافة بالقاهرة.
* التمهيد للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، عني بتصحيحه ونشره رتشارد يوسف مكارثي اليسوعي، طبعة المكتبة الشرقية ـ بيروت سنة 1957م.
* تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لعلي بن محمد الكتاني، تحقيق عبد الوهاب بن عبد اللطيف، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ.
* تنسيق النظام شرح مسند الإمام، لمحمد بن حسن السنبلي كتبخانه آرام باغ كراتشي باكستان.
* التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل لعبد الرحمن المعلمي تحقيق الألباني، الطبعة الأولى في الباكستان المطبعة العربية ـ بلاهور سنة 1401هـ.
* تهذيب سنن أبي داود لابن القيم تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي، توزيع دار الباز، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت سنة 1400هـ.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للإمام الحافظ جمال الدين المزي نسخة مصورة عن النسخة الخطية بدار الكتب المصرية دار المأمون للتراث دمشق، طبعة أخرى تحقيق وضبط وتعليق د. بشار معروف، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، الطبعة الأولى.
(1/656)
________________________________________
* تهذيب الأسماء واللغات للنووي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة دارة المعارف النظامية بحيدر آباد الهند، طبعة أخرى، دار الفكر، الطبعة الأولى سنة 1404هـ.
* تهذيب اللغة محمد بن أحمد الأزهري تحقيق عدد من المحققين، طبع مطابع سجل العرب ـ القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
* كتاب التوحيد للماتريدي، تحقيق د. فتح الله خليف، طبعة دار الجامعات المصرية بالإسنكدرية.
* كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عزَّ وجلَّ، للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، الطبعة الأولى سنة 1408هـ، دار الرشد بالرياض، تحقيق د. عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان. طبعة أخرى دار الكتب العلمية، بتعليق محمد خليل هراس سنة 1398هـ.
* التوسل والوسيلة "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام تحقيق د. ربيع بن هادي المدخلي، الطبعة الأولى 1409هـ، طبعة أخرى دار البيان ـ بيروت سنة 1405هـ، طبعة أخرى ضمن مجموع الفتاوى في المجلد الأول.
* تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبد الوهاب التميمي، طبعة المكتب الإسلامي ـ بيروت، الطبعة الرابعة.
"حرف الثاء"
* الثقات لمحمد بن حبان البستي، طبعة دائرة المعارف العثمانية، بالهند الطبعة الأولى سنة 1397هـ.
الثقافة الإسلامية في الهند لعبد الحي الحسيني، الطبعة الثانية، مجمع اللغة العربية ـ دمشق سنة 1403هـ.
(1/657)
________________________________________
"حرف الجيم"
* جامع الأصول في أحاديث الرسول للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك محمد بن الأثير، حققه وخرج أحاديثه عبد القادر الأرناؤوط، نشر وتوزيع مكتبة دار البيان.
* جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، للحافظ ابن عبد البر، طبعة المطبعة الفنية القاهرة سنة 1403هـ، طبعة أخرى طبعة المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، طبعة أخرى طبعة دار الكتب الإسلامية الطبعة الثانية.
* جامع الترمذي "الجامع الصحيح المسمى سنن الترمذي"، لمحمد بن عيسى الترمذي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية سنة 1398هـ.
* الجامع لشعب الإيمان للبيهقي، الناشر الدار السلفية بالهند، الطبعة الأولى سنة 1407هـ.
* جامع الرسائل لشيخ الإسلام جمع وتحقيق محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى، الطبعة الثانية دار المدني ـ جدة.
* جامع العلوم والحكم لابن رجب، طبعة لعبد الرحمن بن رجب الناشر المؤسسة السعيدية بالرياض، طبعة أخرى دار المعرفة ـ بيروت.
* جامع المسانيد، لمحمد بن محمود الخوارزمي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* كتاب الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* جلاء العينين في محاكمة الأحمدين لنعمان خير الدين الألوسي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام، طبعة المطابع المجد.
(1/658)
________________________________________
* الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لمحيي الدين أبي محمد القرشي الحنفي، تحقيق د. عبد الفتاح محمد الحلو، طبعة عيسى البابي الحلبي سنة1398هـ.
* الجواهر المنيفة في شرح وصية الإمام أبي حنيفة لملا حسين بن إسكندر طبعت ضمن الرسائل السبع الطبعة الثالثة دائرة المعارف العثمانية ـ حيدر آباد الهند، سنة 1400هـ.
"حرف الحاء"
* حاشية ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية سنة 1386هـ.
* حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية، طبعة دار سعادات تركيا سنة 1326هـ.
* حاشية عبد الحكيم السيالكوتي على حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية ضمن مجموعة الحواشي البهية طبعة كردستان العلمية ـ مصر.
* حاشية الكستالي على شرح العقائد النسفية، طبعة دار سعادات تركيا سنة 1326هـ.
* حاشية ولي الدين على حاشية العصام على شرح التفتازاني ضمن مجموعة الحواشي البهية على شرح العقائد النسفية سنة 1329هـ.
* حاشية قاسم بن قطلوبغا على المسامرة، طبعة المكتبة التجارية بمصر، طبعة أخرى.
* حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح، لأحمد بن محمد الطحطاوي، طبعة دار الإيمان ـ دمشق.
حاشية لوامع الأنوار البهية، لعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين والشيخ سليمان بن سحمان وغيرهما من أهل العلم، مؤسسة الخافقين مكتبها ـ دمشق الطبعة الثانية 1402هـ.
(1/659)
________________________________________
* الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم إسماعيل بن محمد التميمي الأصبهاني، تحقق محمد ربيع المدخلي، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى مطبوعة على الآلة الكاتبة.
* حجة الله البالغة، لولي الله الدهلوي، طبعة المكتبة السلفية لاهور باكستان، طبعة أخرى دار التراث ـ القاهرة.
* حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي ـ بيروت، لبنان، طبعة ثانية 1387هـ.
* الحق الواضح المبين لعبد الرحمن بن سعدي، طبعة المكتبة السلفية بمصر، طبعة أخرى، دار ابن القيم الدمام.
* الحموية لشيخ الإسلام، تقديم الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة نشر مؤسسة المدني ـ جدة سنة 1403هـ، وهي في مجموع الفتاوى المجلد الخامس.
"حرف الخاء"
* خطط المقريزي المسمى "الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، لتقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي، دار صادر ـ بيروت.
* خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد الأمين المحبي، طبعة دار صادر ـ بيروت.
* خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للإمام، أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، الناشر مكتبة المطبوعات الإسلامية الطبعة الثانية سنة 1391هـ.
* خلق أفعال العباد، لمحمد بن إسماعيل البخاري تحقيق بدر البدر، طبعة الدار السلفية الكويت الطبعة الأولى، طبعة أخرى تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، دار عكاظ للنشر ـ جدة.
الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان لأحمد بن حجر الهيثمي، تحقيق خليل الميس، الطبعة الأولى دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(1/660)
________________________________________
"حرف الدال"
* دائرة المعارف الإسلامية، نقلها إلى العربية ثابت الفندي، وآخرون، طهران بوذ رجمهري.
* درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام، تحقيق د. محمد رشاد سالم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى سنة 1402هـ.
* الدر المنثور في التفسير بالمأثورن للإمام جلال الدين السيوطي، الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت، لبنان.
* الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة دار الجيل ـ بيروت.
* الدرة الفاخرة للجامي، مطبوعة مع أساس التقديس للرازي، طبعة مصطفى البابي، بمصر سنة 1354هـ.
* دعوة التوحيد، د. محمد خليل هراس، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب المالكي لابن فرحون المالكي تحقيق وتعليق، د. محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث للطبع والنشر ـ القاهرة.
* ديوان الهذليين، مطبعة دار الكتب المصرية سنة 1364هـ.
"حرف الذال"
* ذم التأويل، لابن قدامة المقدسي، تحقيق بدر البدر، الطبعة الأولى دار السلفية الصفاة ـ الكويت.
* ذكر أخبار أصبهان للإمام أبي نعيم الأصبهاني، مطبعة بريل ليون سنة 1934م.
* ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل بن إسحاق بن حنبل، تحقيق د. محمد نغش ـ القاهرة سنة 1397هـ.
(1/661)
________________________________________
* ذم الكلام للهروي مخطوط، توجد منه نسخة بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية.
* ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي، تحقيق محمد حامد الفقي، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
"حرف الراء".
* رد الدارمي على بشر المريسي، صححه وعلق عليه محمد حامد الفقي.
* الرد على الجهمية، للإمام الحافظ ابن منده، حققه وعلق عليه د. علي بن محمد ناصر فقيهي، الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
* الرد على الجهمية، للإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي تحقيق بدر البدر، طبعة دار السلفية بالكويت، طبعة أخرى المكتب الإسلامي ـ بيروت.
* الرد على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، الطبعة الثانية سنة 1402هـ، دار اللواء الرياض.
* الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية، إدارة ترجمان السنة باكستان.
* الرد على من أنكر الحرف والصوت، للسجسي، رسالة ماجستير، تحقيق محمد باكريم، الجامعة الإسلامية، طبعت على الآلة الكاتبة.
* رسالة أهل الثغر، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد الجنيد، طبعة دار اللواء بالرياض.
* الرسائل الكبرى لابن تيمية، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده ـ القاهرة.
* رسالة التوحيد لمحمد عبده، الطبعة الخامسة سنة 1405هـ، دار إحياء العلوم ـ بيروت.
الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر، طبعة الحلبي.
(1/662)
________________________________________
* الرسالة الجامعة، للأحكام والدلائل النافعة، تأليف صالح الكوزة يانكي، طبعة مطبعة الزهراء الحديثة ـ الموصل، العراق سنة 1404هـ.
* رسالة أبي حنيفة إلى البتي، تحقيق محمد زاهد الكوثري، طبعة مطبعة الأنوار بالقاهرة سنة 1386هـ.
* الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، لمحمد بن جعفر الكتاني، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية ـ بيروت، طبعة أخرى.
* رسم المفتي ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لبنان.
* الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، للكنوي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة الطبعة الثالثة، دار البشائر الإسلامية ـ بيروت، طبعة أخرى، طبعة سنة 1380هـ، بمكتبة ابن تيمية ـ حلب.
* الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية، لأبي عذبة الحسن بن عبد المحسن، طبعة دائرة المعارف العثمانية ـ حيدر آباد.
"حرف الزاي"
* زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي طبعة المكتب الإسلامي ـ بيروت.
"حرف السين"
* سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي.
* السنة لعبد الله بن أحمد، تحقيق د. محمد بن سعيد القحطاني طبعة دار ابن القيم الدمام 1406هـ، طبعة أخرى تحقيق أبي هاجر محمد بسيوني زغلول، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت سنة 1405هـ.
السنة لابن أبي عاصم ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة للشيخ الألباني، الطبعة الأولى المكتب الإسلامي ـ بيروت.
(1/663)
________________________________________
* السنة لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال تحقيق د. عطية الزهراني طبعة دار الراية للنشر والتوزيع بالرياض، الطبعة الأولى 1410هـ.
* السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي د. مصطفى السباعي المكتب الإسلامي ـ بيروت.
* سنن أبي داود، للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، إعداد وتعليق عزت عيد الدعاس وعادل السيد، دار الحديث ـ سوريا.
* سنن الدارقطني، للإمام علي بن عمر الدارقطني، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني، طبعة دار المحاسن للطباعة ـ القاهرة سنة 1386هـ.
* السنن الكبرى للبيهقي، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، دار الفكر ـ بيروت.
* سنن النسائي، للإمام أحمد بن شعيب النسائي، طبعة دار البشائر ـ بيروت، سنة 1406هـ.
* سنن ابن ماجه لمحمد بن يزيد القزويني، ترقيم وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار الفكر العربي ـ بيروت.
* سير أعلام النبلاء للذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين، طبعة مؤسسة الرسالة ـ الطبعة الأولى سنة 1402هـ.
"حرف الشين"
* الشامل في أصول الدين للجويني، حققه وقدمه د. علي سامي النشار وآخرون، الناشر منشأة المعارف الإسكندرية سنة 1969م.
شأن الدعاء، لأبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي، تحقيق أحمد يوسف الدقاق، طبعة دار المأمون للتراث الطبعة الأولى 1404هـ.
(1/664)
________________________________________
* شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لأبي الفلاح عبد الحي بن عماد الحنبلي، طبعة دار الميسرة ـ بيروت.
* الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، تحقيق علي محمد البجاوي، طبعة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة.
* شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، الناشر مكتبة دار التراث ـ مصر.
* شرح السنة، للإمام محمد بن الحسين بن مسعود الفراء البغوي، حققه وخرج أحاديثه شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى سنة 1390هـ.
* شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم هبة الله بن الحسين بن منصور الطبري اللالكائي، تحقيق د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر والتوزيع ـ الرياض.
* شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار الهمداني، تحقيق د. عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة ـ القاهرة، الطبعة الأولى.
* الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
* شرح الإرشاد، لأبي بكر بن ميمون، تحقيق د. أحمد حجازي، طبعة دار التضامن ـ مصر.
* شرح صحيح مسلم، للنووي، المطبعة المصرية ومكتبتها ـ القاهرة.
* شرح الشفا، لملا علي القاري، طبعة مكتبة المدني جدة، طبعة أخرى دار الكتب العلمية ـ بيروت.
شرح علل الترمذي، تحقيق صبحي السامرائي، طبعة عالم الكتب ـ بيروت 1405هـ.
(1/665)
________________________________________
* شرح العقيدة الأصبهانية، لابن تيمية، طبعة دار الفكر ـ بيروت، طبعة أخرى دار الكتب الحديثة ـ مصر.
* شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، طبعة مكتبة دار البيان، طبعة أخرى المكتب الإسلامي، طبعة أخرى مؤسسة الرسالة.
* شرح العقائد النسفية، لنجم الدين عمر النسفي التفتازاني، كتبخانة إمدادية دي يوند ـ الهند.
* شرح العقيدة الطحاوية، للغنيمي الميداني، تحقيق وتعليق محمد مطيع الحافظ، الطبعة الثانية، دار الفكر ـ دمشق سنة 1402هـ.
* شرح العقيدة الطحاوية، للبابرتي، لمحمد بن محمد البابرتي، تحقيق د. عارف أيتكن، الطبعة الأولى سنة 1409هـ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ الكويت.
* شرح الفقه الأبسط لأبي حنيفة، لأبي الليث السمرقندي المطبوع خطأ باسم أبي منصور الماتريدي ضمن الرسائل السبع في العقائد، طبعة دائرة المعارف العثمانية الهند، الطبعة الثالثة سنة 1400هـ.
* شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة، للمغنساوي، طبعة دائرة المعارف العثمانية ـ الهند.
* شرح الفقه الأكبر للقاري، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت 1404هـ.
* شرح مسند أبي حنيفة، للقاري، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
* شرح المقاصد للتفتازاني، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، ط. عالم الكتب ـ بيروت الأولى 1409هـ، طبعة أخرى تركيا مطبعة محرم أفندي سنة 1035هـ.
شرح الوصية، لملا حسين بن الإسكندر، طبعة دائرة المعارف العثمانية ـ حيدر آباد الهند
(1/666)
________________________________________
* شرح المواقف، للجرجاني، طبعة مطبعة السعادة ـ مصر سنة 1305هـ.
* شرح الجوهرة، للبيجوري، طبعة دار الكتب الحديثة ـ القاهرة.
* شرح حديث النزول، لشيخ الإسلام، طبعة المكتب الإسلامي ـ بيروت، طبعة أخرى بتحقيق محمد الخميس، رسالة ماجستير، جامعة الإمام محمد بن سعود على الآلة الكاتبة.
* شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، للقسطلاني، دار المعرفة ـ بيروت.
* شرح العقيدة الواسطية، د. محمد خليل الهراس، مراجعة الشيخ عبد الرزاق العفيفي، طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة، طبعة أخرى دار الإفتاء بالرياض.
* شرف أصحاب الحديث، لأبي بكر بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق محمد سعيد الخطيب أوغلي، طبعة دار إحياء السنة النبوية.
* الشريعة للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق محمد حامد الفقي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403هـ.
* شعب الإيمان للبيهقي، طبعة الدار السلفية ـ الهند.
* الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، لطاش كبري زاده، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت سنة 1395هـ.
"حرف الصاد"
* الصارم المسلول، لابن تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبعة دار الفكر، طبعة أخرى نشر زكريا علي يوسف ـ القاهرة.
الصارم المنكي، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي، تعليق إسماعيل الأنصاري، طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ـ الرياض سنة 1403هـ.
(1/667)
________________________________________
الصحائف الإلهية، لشمس الدين السمرقندي، تحقيق د. أحمد الشريف، طبعة مكتبة الفلاح ـ الكويت، الطبعة الأولى 1405هـ.
* الصحاح "تاج اللغة وصحاح العربية"، لإسماعيل بن محمد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين ـ بيروت، الطبعة الثانية سنة 1399هـ.
* صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري "ومعه فتح الباري" رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه، محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وتصحيحه وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب، المكبتة السلفية.
* صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، نشر وتوزيع رئاسات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض سنة 1400هـ.
* صحيح ابن خزيمة، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية سنة 1395هـ.
* صحيح الجامع الصغير، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية سنة 1399هـ.
* الصفات، للإمام الحافظ أبي الحسن الدارقطني، تعليق وتخريج د. علي بن محمد الفقيهي، الطبعة الأولى سنة 1401هـ.
* كتاب الصلاة، للإمام ابن القيم، تحقيق تيسير زعيتر، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى سنة 1401هـ.
* صريح السنة، للإمام محمد بن جرير الطبري، تحقيق بدر المعتوق، طبعة دار الخلفاء للكتاب الإسلامي ـ الكويت.
* الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، للإمام ابن القيم تحقيق د. علي بن محمد دخيل الله، طبعة دار العاصمة بالرياض، الطبعة الأولى سنة 1408هـ.
* الصواعق المحرقة، للهيثمي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت سنة 1403هـ.
(1/668)
________________________________________
صون المنطق والكلام، للسيوطي، تعليق د. علي سامي النشار، طبعة الكتب العلمية.
"حرف الضاد"
* ضحى الإسلام، لأحمد أمين، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت.
* الضعفاء الكبير، لمحمد بن عمر العقيلي، تحقيق د. عبد المعطي قلعجي، طبعة دار الكتب العلمية.
* الضعفاء والمتروكون، للنسائي، طبعة مؤسسة الكتب الثقافية ـ بيروت.
* الضعفاء والمتروكون، للدارقطني، طبعة مكتبة المعارف بالرياض.
* كتاب "الضعفاء والمتروكون" لابن الجوزي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للسخاوي، مكتبة الحياة ـ بيروت.
"حرف الطاء".
* الطبقات السنية للتميمي، تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، طبعة دار الرفاعي للنشر والتوزيع بالرياض.
* طبقات الفقهاء، لطاش كبري زادة، طبعة مطبعة الزهراء الحديثة ـ الموصل.
* الطبقات الكبرى لابن سعد، دار صادر ـ بيروت.
* طبقات الحفاظ، للسيوطي، تحقيق علي محمد عمر، الناشر مكتبة وهبة، الطبعة الأولى سنة 1393هـ.
* طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، دار المعرفة بيروت.
(1/669)
________________________________________
طبقات الشافعية للسبكي، تحقيق محمود الطانحي، طبعة مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة 1383هـ.
* طبقات الشعراء لابن قتيبة الدينوري، تحقيق. مفيد قميحة، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الأولى سنة 1401هـ.
* طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي، طبعة دار الرائد العربي ـ بيروت، لبنان، الطبعة الثانية سنة 1401هـ.
* طرح التثريب في شرح التقريب، لزين الدين أبي الفضل، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لبنان.
"حرف العين".
* العالم والمتعلم لأبي حنيفة، محمد زاهد الكوثري، طبعة مطبعة الأنوار بالقاهرة سنة 1368هـ.
* العبودية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة المكتب الإسلامي.
* العبر في خبر من غبر، للحافظ الذهبي، تحقيق محمد بسيوني زغلول، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت سنة 1405هـ، طبعة أخرى تحقيق صلاح الدين المنجد، مطبعة حكومة الكويت.
* العرش، لابن أبي شيبة، تحقيق محمد الحمود، الطبعة الأولى، مكتبة المعلا الكويت 1406هـ.
* عصمة الأنبياء، للرازي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الأولى سنة 1401هـ.
* العقائد السلفية، لأحمد بن حجر البطامي، الطبعة الأولى بيروت سنة 1970م.
* عقائد السلف للأئمة أحمد بن حنبل للبخاري وابن قتيبة والدارمي جمع وترتيب د. علي سامي النشار، طبعة منشأة المعارف الإسكندرية سنة 1971م.
(1/670)
________________________________________
* العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، لمحمد بن أحمد الفاسي مطبعة السنة المحمدية ـ القاهرة.
* عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي الشافعي، توزيع مكتبة الإيمان السليمانية المدينة المنورة.
* عقيدة ابن جرير ضمن المجموعة العلمية السعودية، نشرها الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله تعالى، طبعة مطبعة النهضة الحديثة بمكة.
* العقائد النسفية، لنجم الدين عمر النسفي مع شرح التفتازاني لها، طبعة كتبخان إمدادية دي يوند ـ الهند، طبعة ضمن مجموعة النفائس ـ بيروت، لبنان، مركز الخدمات الثقافية.
* عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي، لمحمد بن أيوب أبي الخير، طبعة المؤسسة الإسلامية دكا بنجلادش.
* عمدة الاعتقاد، لحافظ الدين النسفي، مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 711.
* عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، طبع ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، طبعة أخرى بتحقيق بدر البدر، الدار السلفية ـ الكويت.
* العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة المردية، لعبد الله بن يوسف الجديع، الطبعة الأولى 1408هـ ـ الكويت.
* العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، لأبي المعالي الجويني، تقديم وتحقيق د. أحمد حجازي، مكتبة الكليات الأزهرية.
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، للإمام أبي الفرج بن الجوزي، تحقيق رشاد الحق الأثري، طبعة دار نشر الكتب الإسلامية لاهور باكستان.
(1/671)
________________________________________
العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ، لصالح بن مهدي اليماني، طبعة دار الحديث للطباعة ـ بيروت، طبعة أخرى دار البيان ـ دمشق.
* العلو للعلي الغفار في صحيح الأخبار وسقيمها، مراجعة، عبد الرحمن محمد عثمان، طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة سنة 1388هـ.
* عمدة القاري لشرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، لبنان.
* عمل اليوم والليلة، للنسائي، دراسة وتحقيق فاروق حمادة، طبعة رئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض.
* العناقيد الغالية من الأسانيد العالية، لمحمد عاشق إلهي، نشر مكتبة بهادر كراتشي، باكستان سنة 1408هـ.
* عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر، طبعة مكتبة الرياض الحديثة.
"حرف الغين".
* غاية الأماني في الرد على النبهاني، لأبي المعالي محمود الألوسي، طبعة دار إحياء السنة بالإسكندرية.
* غاية المرام في علم الكلام، سيف الدين الآمدي تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ـ القاهرة سنة 1391هـ.
* غريب الحديث أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت سنة 1396هـ.
"حرف الفاء"
* فتاوى ومسائل ابن الصلاح، عبد الرحمن بن عثمان الشهرورزي، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
(1/672)
________________________________________
* الفتاوى الكبرى، لشيخ الإسلام، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
* فتاوى العز بن عبد السلام، توزيع دار الباز، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
* الفتاوى البزازية، للكردي بزازي، مطبوع على هامش الفتاوى الهندية.
* الفتاوى الهندية، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، الطبعة الثالثة.
* فتح الباري، شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، طبعة دار السلفية في مصر.
* فتح المغيث شرح ألفية الحديث، للسخاوي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت سنة 1403هـ.
* فتح القدير، لابن همام، طبعة الفكر ـ بيروت، طبعة أخرى.
* فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن عبد الوهاب، طبعة دار البيان ـ دمشق، طبعة أخرى.
* فتح الملهم شرح صحيح مسلم، شبير أحمد العثماني، طبعة مكتبة الحجاز كراتشي باكستان.
* الفرق بين الفرق لعبد القادر بن طاهر البغدادي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة محمد علي صبيح وأولاده مصر.
* الفرق الكلامية الإسلامية، علي عبد الفتاح المعربي، طبعة مكتبة وهبة ـ مصر.
* الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت سنة 1395، طبعة أخرى تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار عكاظ للنشر والتوزيع سنة 1402هـ.
فضائل الصحابة، للإمام أحمد بن حنبل تحقيق وصي الله بن محمد عباس مؤسسة الرسالة ـ بيروت سنة 1403هـ.
(1/673)
________________________________________
* فضائل أبي حنيفة وأصحابه، لابن أبي العوام، مخطوط دار الكتب المصرية.
* الفقه الأبسط، لأبي حنيفة، تحقيق محمد زاهد الكوثري، طبعة مطبعة الأنوار ـ القاهرة سنة 1368هـ.
* الفقه الأكبر، لأبي حنيفة، طبعة دار الكتب العلمية بيروت، سنة 1404هـ.
* الفهرست، لابن النديم، تحقيق رضا تجددي، طبعة أخرى دار المعرفة ـ بيروت.
* الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لعبد الحي اللكنوي، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
* فيض الباري على صحيح البخاري، أنور شاه الكشميري، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
"حرف القاف".
* القائد إلى تصحيح العقائد، عبد الرحمن المعلمي، طبع ضمن التنكيل وطبع مستقلا في المكتب الإسلامي ـ بيروت.
* قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. ربيع مدخلي، طبعة مكتبة لينة دمنهور ـ مصر.
* قاموس الفارسية، لعبد المنعم محمد حسنين، طبعة دار الكتاب العربي.
* القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
* القصيدة النونية "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية"، ابن القيم، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، محمد صديق خان، تحقيق د. عاصم بن عبد الله القريوتي، طبعة شركة الشرق الأوسط ـ عمان، الأردن.
(1/674)
________________________________________
قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة.
* قلائد عقود العقيان، لأبي القاسم عبد العليم بن عثمان اليمني الحنفي، مخطوط بالمكتبة المركزية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
* قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث، للعلامة محمد كمال الدين القاسمي، طبعة دار المكتب العلمية ـ بيروت.
"حرف الكاف".
* الكافي في فقه الإمام أحمد، عبد الله بن قدامة المقدسي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية سنة 1399هـ.
* الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، للإمام محمد بن عثمان الذهبي، طبعة دار النصر ـ القاهرة، الطبعة الأولى 1392هـ.
* الكامل في ضعفاء الرجال، أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى سنة 1404هـ.
* كتاب اللطيف لشرح مذهب أهل السنة والجماعة، لعمر بن أحمد بن شاهين تحقيق عبد الله البصيري، رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية بالمدينة 1404هـ.
* كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين البخاري، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت.
* الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث، برهان الدين الحلبي، طبعة مطبعة العاني ـ بغداد.
* كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون، لحاجي خليفة دار العلوم الحديثة ـ بيروت.
(1/675)
________________________________________
* الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، تحقيق أحمد عمر، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت.
* الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، الشيخ عبد العزيز السلمان، طبعة مكتبة الرياض الحديثة.
* الكواكب الدراري، بشرح صحيح البخاري، للكرماني طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروزت سنة 1401هـ.
* كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي، صححه ووضع فهارسه الشيخ صفوت السقا، المطبعة العربية ـ حلب.
* الكنى والأسماء، لأبي بشر الدوالبي، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، لبنان، الطبعة الثانية سنة 14036هـ.
"حرف اللام".
* اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، طبعة دار المعارف ـ بيروت.
* اللباب في تهذيب الأنساب، لابن منظور، طبعة المؤسسة المصرية العامة للتأليف، طبعة أخرى، دار صادر ـ بيروت.
* لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي، للمطبعات ـ بيروت، لبنان، طبعة ثانية سنة 1390هـ.
لوامع الأنوار البهية لشرح الدرر المضية في عقيدة الفرقة الناجية، محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي، طبع دار الخافقين.
(1/676)
________________________________________
* لامع الدراري على جامع البخاري، رشيد أحمد، طبعة كراتشي سنة 1395هـ.
"حرف الميم".
* المبسوط، لشمس الدين السرخسي، دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت، لبنان.
* مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، طبعة مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
* المجروحون من المحدثين والضعفاء والمتروكين، الإمام أبو حاتم محمد بن حبان البستي، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت.
* مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لأبي بكر الهيثمي، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت، الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
* مجموع مهمات الفنون، لأبي بكر الهيثمي، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت، الطبعة الثانية سنة 1402هـ.
* مجموعة التوحيد، طبعت على نفقة محمد العبيكان.
* مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي وساعده ابنه محمد، طبعة مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
* مجموعة الرسائل والمسائل، للإمام ابن تيمية، طبعة دار الكتب العلمية.
* محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، للإمام فخر الدين الرازي، الناشر دار الكتاب العربي.
* مختار الصحاح، تأليف محمد بن أبي بكر الرازي، طبعة دار الكتب العربية. طبعة أخرى مكتبة لبنان.
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، اختصره الشيخ محمد بن الموصلي، طبعة مكتبة الرياض الحديثة، طبعة أخرى، دار الندوة الجديدة سنة 1405هـ.
(1/677)
________________________________________
مختصر العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي، اختصره وحققه وعلق عليه وخرج آثاره محمد بن ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي الطبعة الأولى.
* مدارج السالكين بين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ابن القيم طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، لبنان.
* المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، لعبد القادر بن بدران الدمشقي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 145هـ.
* مراقد المعارف، لمحمد حرز الدين، طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف سنة 1389هـ الأولى.
* مرام الكلام لعبد العزيز الفريهاري، طبعة ملتان باكستان.
* مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لأبي الحسن عبيد الله المباركفوري، طبعة المكتبة الأثرية، باكستان.
* مسائل الإمام أحمد، أبو داود السجستاني، توزيع، مكتبة المعارف بالرياض، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت، لبنان.
* مسائل الإيمان، للقاضي أبي يعلى، تحقيق سعود الخلف، طبعة دار العاصمة بالرياض، طبعة 1410هـ الأولى.
* مسألة الاحتجاج بالشافعي، تحقيق د. ملا خاطر، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض.
* المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، ابن الهمام، مع شرحيه: المسامرة لابن أبي الشريف، وشرح قاسم بن قطلوبغا، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبعة مطبعة السعادة ـ مصر.
* المستدرك على الصحيحين، للحاكم، طبعة مكتبة ابن العربي ـ لبنان.
* مسند الإمام أحمد بن حنبل، طبعة المكتب الإسلامي، للطباعة والنشر.
(1/678)
________________________________________
* مسند أبي عوانة، للإمام أبي عوانة يعقوب بن إسحاق، طبعة دار المعرفة للنشر والتوزيع ـ بيروت.
* مشايخ بلخ من الحنفية، د. محمد محروس عبد اللطيف، طبعة الدار العربية ـ بغداد سنة 1978م.
* المشتبه، للذهبي، تحقيق علي البجاوي، طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة.
* مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي، تحقيق الألباني، طبعة المكتب الإسلامي ـ بيروت، الطبعة الثانية.
* مشكل الآثار، للإمام أبي جعفر الطحاوي، طبعة دائرة المعارف النظامية ـ حيدر آباد الهند.
* مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، طبعة الدار العربية للطباعة والنشر والتوزيع.
* المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي، طبعة دار الكتب العلمية، طبعة أخرى مكتبة لبنان.
* المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، طبعة الدار السلفية الهند، الطبعة الثانية سنة 1399هـ.
* المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعمي، طبعة المكتب الإسلامي.
* معاني القرآن، لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء، طبعة عالم الكتب ـ بيروت.
* معالم التنزيل للبغوي، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
* المعارف، لابن قتيبة، طبعة دار المعارف بمصر ـ القاهرة مصر.
معجم الأدباء، ياقوت بن عبد الله الحموي، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
(1/679)
________________________________________
معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، طبعة مكتبة المثنى ـ بيروت، لبنان.
* معجم البلدان، لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
* معجم الطبراني الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، طبعة مطبعة الوطن العربي، الجمهورية العراقية.
* المعجم الفلسفي، إصدار مجمع اللغة العربية، جمهورية مصر العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية سنة 1399م.
* المعجم الفسلفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني سنة 1982م.
* المعجم الوسيط، قام بإخراجه، د. إبراهيم أنيس وآخرون، المكتبة الإسلامية إستانبول تركيا.
* المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان البسوي، طبعة مؤسسة الرسالة.
* مفتاح السعادة ومصباح السيادة، طاش كبري زادة، الطبعة الأولى سنة 1405هـ، دار الكتب العلمية ـ بيروت، طبعة أخرى دار الكتب الحديثة، بالقاهرة ش الجمهورية.
* المفردات في غريب القرآن، ابن القاسم حسين بن محمد الأصفهاني، طبعة دار المعرفة ـ بيروت.
* مقالات الكوثري، طبعة مطبعة الأنوار ـ القاهرة.
* المقدمة، لعبد الرحمن بن خلدون، طبعة دار النهضة، بمصر الطبعة الثالثة.
* مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبعة مكتبة النهضة العربية سنة 1389هـ، طبعة أخرى تحقيق هلموت ريتر، طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
* الملل والنحل، للشهرستاني، تعليق محمد سيد كيلاني، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، الطبعة الثانية سنة 1395هـ.
(1/680)
________________________________________
مناقب الإمام أحمد، الإمام عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق د. عبد الله التركي، الطبعة الأولى سنة 1399هـ، مكتبة الخانجي القاهرة، طبعة أخرى دار الآفاق الجديدة ـ بيروت، لبنان.
* مناقب الإمام أبي حنيفة، للذهبي، نشرة إحياء المعارف النعمانية ـ حيدر آباد بالهند.
* مناقب أبي حنيفة، الإمام موقف أحمد المكي، طبعة دار الكتاب العربي، طبعة أخرى طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الهند.
* مناقب أبي حنيفة، الإمام حافظ الدين الكردري، طبعة الكتاب العربي ـ بيروت، لبنان، طبعة أخرى طبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الهند.
* مناقب الشافعي للبيهقي، تحقيق السيد أحمد صقر، الطبعة الأولى سنة 1391هـ، طبعة دار التراث ـ مصر.
* المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي، الطبعة الأولى سنة 1358هـ، طبعة دار المعارف العثمانية ـ حيدر آباد الدكن.
* منهاج السنة النبوية، ابن تيمية تحقيق د. محمد رشاد سالم رحمه الله، سنة 1406هـ، طبعة جامعة الإمام بالرياض، طبعة أخرى مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
* المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، عبد الرحمن بن محمد العليمي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، راجعه وعلق عليه عادل نويضي، طبعة عالم الكتب ـ بيروت، الطبعة الأولى سنة 1403هـ.
* المهند على المفند، خليل أحمد السهارنفوري، طبعة إدارة إسلاميات، لاهور، باكستان سنة 1404هـ.
* موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، للهيثمي، تحقيق ونشر محمد عبد الرزاق حمزة، دار الكتب العلمية ـ بيروت، لبنان.
(1/681)
________________________________________
* المواقف في علم الكلام، عبد الرحمن بن أحمد الأيجي، نشر دار الباز للطباعة والنشر دار عالم الكتب ـ بيروت.
* الموسوعة العربية الميسرة، دار نهضة لبنان للطباعة والنشر ـ بيروت، لبنان.
* الموضوعات، لابن الجوزي، تقديم وتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، طبعة المكتبة السلفية ـ المدينة المنورة، الطبعة الأولى سنة 1386هـ.
* موطأ الإمام مالك، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه.
* ميزان الاعتدال، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق علي بن محمد البجاوي، دار المعرفة ـ بيروت، لبنان.
* الميزان الكبرى، لأبي المواهب عبد الواهب بن أحمد الشعراني، طبعة دار الفكر ـ بيروت.
* معيد النعم ومبيد النقم، لعبد الوهاب السبكي، طبعة مؤسسة الكتب الثقافية ـ بيروت، لبنان.
"حرف النون".
* النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير، عبد الحي اللكنوي، طبعة إدارة القرآن والعلوم الإسلامية كراتشي ـ باكستان.
* النبراس، عبد العزيز الفريهاري، طبعة كتبخانة إكرامية، بشاور ـ باكستان.
* النبوات، لشيخ الإسلام، طبعة مكتبة الرياض الحديثة، وطبعة أخرى دار الكتاب العربي.
* النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جمال الدين أبي المحاسن بن تغري بردي الأتابكي، طبعة دار الكتب المصرية سنة 1383هـ ـ القاهرة.
نشر الطوالع، للمرعشي، طبعة مكتبة العلوم العصرية.
(1/682)
________________________________________
* نظم الدرر في شرح الفقه الأكبر، للقاضي عبيد الله المفتي، طبعة المجلس العلمي ـ كراتشي سنة 1985م.
* النظم المتناثر من الحديث المتواتر، لأبي الفيض الكتاني، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت، لبنان.
* نقض المنطق، لشيخ الإسلام، طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.
* النكت على كتاب ابن الصلاح، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق ربيع بن هادي مدخلي، الطبعة الأولى سنة 1404هـ، الناشر الجامعة الإسلامية.
* النهاية في غريب الحديث والآثار، ابن الأثير، تحقيق محمود محمد الطناحي، طبعة دار الفكر ـ بيروت.
* نهاية الأقلام في علم الكلام، عبد الكريم الشهرستاني، حرره الفرد جيوم.
* النور اللامع والبرهان الساطع شرح عقائد أهل السنة والجماعة، للناصري، مخطوط في المكتبة السليمانية تحت رقم 2973 بتركيا.
"حرف الهاء".
* هداية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، أسماعيل البغدادي، طبعة دار العلوم الحديثة - بيروت، لبنان سنة1955م.
"حرف الواو"
* الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل الصفدي، طبعة دار النشر فرانز شتاينز ـ بفس بادن سنة 1389هـ.
* وفيات الأعيان وأنباء الزمان، أحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق د. إحسان عباس، طبعة دار صادر ـ بيروت.
(1/683)
________________________________________


http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أسوأ, الدين, الإمام, حنيفة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 12-07-2020 10:23 AM
شرح ابن عقيل على ألفية الإمام الحجة الثبت أبى عبد الله محمد جمال الدين بن مالك Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 11-26-2020 10:27 AM
تشويه ‏الفن‬ لرجال الدين.. متعمد أم لزوم الحبكة؟! حنان الجزائرية مقالات وتحليلات مختارة 0 06-20-2015 05:11 PM
الإمام الشافعي في ضيافة الإمام أحمد صابرة الملتقى العام 0 05-12-2015 02:33 PM
الإمام أبو حنيفة - سيرة حياة محمد خطاب الكاتب محمد خطاب ( فلسطين) 2 05-10-2014 07:12 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:48 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59