#1  
قديم 11-26-2020, 11:46 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,589
افتراضي فلسفة الأخلاق عند الجاحظ


فلسفة الأخلاق عند الجاحظ


البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org

GahedP.jpg


د. عزت السيد أحم



منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ 2005



الإهداء





إن كانت الوراثة وحدها أساس الأخلاق
أو كانت التربية وحدها أساس الأخلاق
أَو كانت البيئة وحدها أساس الأخلاق
أَو كانت كلها معاً أساس الأخلاق
فليس هناك من هو أحق من أمي وأبي بإهدائي
فإليهما أهدي كتابي


عزت السيد أحمد






اشْتُهر الجاحظ أكثرَ ما اشتُهر بكتابه البخلاء الَّذي تَعَرَّضَ فيه بالنَّقد اللاذع المرِّ لسلوكات البُخلاء وأنماط تفكيرهم وتعاملهم، معرِّجاً في ذلك على حججهم وأساليبهم وآليات تفكيرهم وادعاءاتهم؛ يناقشها تارةً وتاراتٍ يكتفي بعرضها عرضاً تهكُّميًّا أو يصوِّرها تصويراً جماليًّا بديعاً يكاد يكون منقطع النَّظير بروعته وسحره الأخَّاذ الذي يأخذ بمجامع القلوب.
الحقيقة أنَّ كتاب البخــلاء وإن كان كتاباً عالميًّا بكلِّ ما للعالميَّة من مقاييس ومعايير فإنَّه قد لا يكون أكثر كُتب الجاحظ أهميَّةً بالنِّسبة للجاحظ خاصَّةً وبالنِّسبة إلى بقيَّة كتبه الأخرى على صعيد مجمل إنتاجه عامَّةً وعلى صعيد فلسفته الأخلاقيَّة خاصَّةً. وإذا كُنَّا قد عُنِيْنَا هنا بفلسفته الأخلاقيَّة فمن الضَّروريِّ أن نشير إلى أنَّ النِّسبة العظمى من كتب مفكِّرنا قد عُنِيَتْ بالأخلاق من مختلف جوانب البحث والتَّناول.
فعلى صعيد النَّظريَّة الأخلاقيَّة يمكن القول إنَّ نظريَّة الجاحظ الأخلاقيَّة مبثوثةٌ في معظم كتبه، أَو يمكن اشـتقاق معالم هذه النَّظريَّة من معظم كتبه ورسائله لأنّ معظمها يدور في فلك الأخلاق بصورةٍ أَو بأخرى، ورُبَّما لا يقلُّ كتاب عن آخر قيمةً في هذا الإطار. ولذلك فإنَّ كتبه البعيدة في عناوينها عن الأخلاق ليست أقلَّ قيمةً من الكتب الواضحة الانتساب إلى الأخلاق، ومن ذلك على سبيل المثال أنَّ كتابه الحيوان حوى الكثير من الرُّؤى والمواقف والتَّنظيرات الأخلاقيَّة، وكذلك شأن كتابه المحاسن والأضداد( ) الذي هو في محوره كتاب في الأدب واللغةٍ.
أمَّا القيم الأخلاقيَّة فقد كان نصيبها أكثر من سبعة كتب ورسائل كبيرة، فقد تناول الأمانة والائتمان في كتابٍ مستقلٍّ هو استنجاز الوعد ووقف عند العداوة والحسد والحاسد والمحسود في كتابين هما: فصل ما بَيْنَ العداوة والحسد، والحاسد والمحسود. وتناول الأمانة والائتمان وخاصَّة فيما يتعلَّق بحفظ السِّر في كتاب كتمان السِّر وحفظ اللسان. ومثل ذلك فعل في المودَّة والخلطة في كتاب حمل العنوان ذاته. ووقف عند الجد والهزل في كتاب بالعنوان ذاته أيضاً. وأفرد لقيمة النُّبل وما يتعلَّق به كتاباً حمل عنوان: النُّبل والتَّنبُّل وذم الكبر.
أما الأخلاق المشخَّصة أي توصيف الأخلاق المعاشة أَو الممارسة واقعيًّا فقد خصَّها بأكثر من عشرين كتاباً مما عرفناه من كتبه المنشورة ناهيك عن المفقود وغير المنشور وغير الموجود، فإلى جانب البخلاء كانت رسالته في الأخلاق التي حملت عنوان المعاش والمعاد التي هي رؤيَّة في الأخلاق النَّظريَّة والأخلاق المشخَّصة المعاشة في الوقت ذاته، ورُبَّما يمكن إدراج التَّربيع والتدوير في هذا الإطار بوصفها قراءة في أنموذج فرديٍّ من الأخلاق المشخَّصة.
أمَّا كتبه الأخرى ورسائله في الأخلاق المشخَّصة فقد تناول فيها أخلاق مختلف الفئات والشَّرائح الاجتماعيَّة وفق الانتماءات المهنيَّة ووفق الانتماءات الجغرافية أَو العرقيَّة وحَتَّى وفق الخصائص البيولوجية أَو الفيزيولوجيَّة:
وفق الانتماء الجغرافي كانت لـه الكتب التالية: فخر السُّودان على البيضان، ومناقب التُّرك، والنَّابتة، والعباسيَّة...
ووفق الانتماء المهني كتب: ذمُّ أخلاق الكُتَّاب، والمعلمين، والقيان، وطبقات المغنِّين، ومدحُ التُّجَّار وذمُّ عمل السلطان، والتَّبصُّر بالتِّجارة، ومدحُ النَّبيذ وصفةُ أصحابه، والشَّارب والمشروب...
ووفق الطَّبيعة أَو الخصائص البيولوجيَّة والفيزيزلوجيَّة كتب: مفاخرة الغلمان والجواري، والنِّساء، والبرصان والعرجان والعميان والحولان..
هذه الكتب جميعاً، التي هي في المحصلة معظم كتب الجاحظ إن لم تكن كلها، تنطوي على مواقف أخلاقيَّة ورؤى وتحليلات وانتقادات... هي التي تغلب على مضامين هذه الكتب، ولكِنَّها ليست كتباً في الأخلاق أَو الفلسفة الأخلاقيَّة بقدر ما هي كتب موسوعيَّة اشتملت على جوانب أخرى كثيرة حاولت في كثيرٍ من الحالات تغطية الموضوعات المدروسة من مختلف جوانبها التي تستحقُّ الدِّراسة من وجهة نظر الجاحظ في إطار عصره وظروفه الموضوعيَّة ومعطياته المعرفيَّة وشروطه التَّاريخيَّة.
هذا يعني أنَّ الأخلاق فلسفةً وتوصيفاً ونقداً ليست مساحة عَرَضيَّةً وهامشيَّة عند الجاحظ وإنَّما هي جزءٌ صميميٌّ من فلسفته التي يمكن وسمها بالفلسفة النَّقديَّة.
كتابنا هذا يقف خاصَّةً عند الفلسفة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة بوصفها جزءاً من مذهبه النَّقديِّ أو أحد أوجه فلسفته. وقد رأينا أن نعرض هذه الفلسفة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة في ثمانية فصولٍ وخاتمة كان الفصل الأوَّل والثاني تمهيديين أكثر من أن يكونا في صلب النَّظرية الأخلاقيَّة.
الفصل الأوَّل كان للتَّعريف بالجاحظ؛ اسمه ونسبه، وثقافته، وفلسفته واعتزاله، ومنهجه العلمي، وشخصيَّته، وآثاره. وكان الفصل الثَّاني لعصر الجاحظ من خلال أبرز معالمه؛ الفكرية والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة... التي تشكِّل تمهيداً ضروريًّا للوقوف على أبعاد النَّظريَّة الجاحظيَّة في الأخلاق من حيث أرضيتها ودوافعها ومدى صلتها بالواقع الذي انبثقت منه ومدى تعبيرها عنه.
أما نظريته الأخلاقيَّة فقد استعرضناها في ستَّة فصولٍ حَمَلَ أوَّلها، وهو الفصل الثالث، عنوان أصل القيمة الأخلاقيَّة، تناولنا فيه ثلاثة محاور هي مصدر القيمة الأخلاقيَّة، والخلق بَيْنَ السَّجية والرَّويَّة، وضرورة الشَّر. أما الفصل الرَّابع فقد حمل عنوان تحديد الأخلاق ودار حول أربعة محاور هي جدليَّة الخير والشَّر، وحقيقة الخير، ومفهوم الْخُلُق، ومعيار الفضيلة.
في الفصل الخامس تناولنا علاقة الأخلاق بالبيئة تحت العنوان ذاته ووقفنا فيه عند ستة محاور عريضة هي النَّزعة الإنسانيَّة، وأسباب تباين الطَّبائع، وأثر البيئة في الأخلاق، وأنموذجين تطبيقيين على علاقة الأخلاق بالبيئة هما: خصال قريش وبخل أهل مرو، وختمنا هذا الفصل بالعلاقة بَيْنَ البيولوجيا والأخلاق.
أمَّا الفصل السَّادس فقد حمل عنوان الوقائع الأخلاقيَّة ووقفنا فيه عند خمسة محاور هي الأخلاق أساس الاجتماع، والأخلاق النَّظريَّة والأخلاق العمليَّة، وتفاوت أخلاق الناس، وواقعيَّة الجاحظ، وختمناه بتعقيب للمقارنة بَيْنَ جهود مفكرنا وجهود بعض فلاسفة الأخلاق المعاصرين.
الفصل التَّالي، وهو الفصل السَّابع، حَمَلَ عنوان أخلاق المنفعة ووقفنا فيه عند ثلاثة محاور هي المنفعة واللذة، واللذة والسعادة، والأخلاق الاقتصاديَّة. وحمل الفصل الثَّامن عنوان أخلاق التَّهكُّم ووقفنا فيه عند بواعث التَّهكُّم، ووظائف التَّهكُّم، والتَّهكُّم الذَّاتي.
الفصل الأخير وهو الفصل الختامي جعلنا عنوانه النقدية الأخلاقيَّة، وفيه كان الخلوص إلى بعض الاستنتاجات والنَّتائج التي يمكن إجمالها تحت قواعد المنهج النقدي الأخلاقي الجاحظي، أَو ما يمكن أن يندرج أيضاً تحت عنوان خصائص الأخلاق الجاحظيَّة.
هذه أبرز معالم المسائل والنِّقاط التي عالجناها من الفلسفة الأخلاقيَّة عند الجاحظ في هذا الكتاب. وهي بالتَّأكيد ليست كلُّ ما يمكن أن يثار من نقاطٍ من هذه الفلسفة، فلا شكَّ في أنَّ ثَمَّةَ نقاطاً أُخرى ومسائل قمينةً بأن تُعرَض وتُناقَش. رُبَّما ينهض غيرنا لهذا الجهد ورُبَّما نعود إليه لاحقاً ورُبَّما لا يمكننا ذلك... حسبنا التَّذكير بأنَّ البحث، أيُّ بحثٍ، لـه بدايةٌ وغالباً ما لا يكون لـه نهاية.


الدكتور عزت السيد أحمد
دمشق 1994م








الفصل الأول

شخصية الجاحظ وفلسفته


 اسمه ونسبه
 ثقافته
 فلسفته واعتزاله
 منهجه العلمي
 شخصيَّته
 آثاره



الجَاحِظُ المتوفََّى عَامَ 255 هـ/ 869م هُوَ أَعْظَمُ رَجُلٍ أَخْرَجَتْهُ لَنَا مَدْرَسَةُ النَّظَّامِ، كان الجاحظ أَدِيباً ظَرِيفاً، وفَيْلَسُوفاً طَبِيعِيَّاً( ).
ج. دي بور

على الرَّغْمِ مما بلغه الجاحظ من مكانةٍ وشهرةٍ اجتماعيَّةٍ وفكريَّةٍ وأدبيَّةٍ، فقد ظَلَّت بعض معالم حياته وأصله وتاريخ مولده ومكانه مثار نقاشٍ وجدالٍ بَيْنَ الباحثين الذين لم يبتُّوا فيها حَتَّى الآن. والحقُّ أنَّ ذلك إن كان مشكلةً فهي غير ذات شأنٍ خطيرٍ يؤثر فيما قدَّمه أو فيما نحن الآن بصدده، ولذلك ليس يعنينا هنا خوض غمار الكشف عن أصله، وضبط ساعة ولادته ومكانها، وإنما سنمرُّ على ما لابدَّ من المرور به من ذلك، بقدر ما يخصُّ بحثنا ويكون بمنـزلة تمهيد وتعريف بهذا المفكر الذي شغل معاصريه ولاحقيه، ووصل الأمر بانشغالهم به وبأهميته إلى حدِّ أنَّهُ ذهب بعضٌ منهم إلى أنَّهُ إن كان المتنبي ملك الشِّعر العربيِّ منازعاً أو غير منازعٍ فإنَّ ملك النَّثر العربيِّ غير منازعٍ
هو الجاحظ.
اسـمه ونسـبه
هو عمرو بن بحر الكناني البصري المكنَّى بأبي عثمان، كان ثَمَّةَ نتوءٌ واضحٌ في حدقتيه فلقب بالحدقي ولكنَّ اللقب الذي التصق به أكثر وبه طارت شهرته في الآفاق هو الجاحظ، وقد بذل من المساعي أعزَّها وأجلَّها كيما يمحو هذا اللقب الذي كان ينفر منه عنه، ولكنَّه عبثاً كان يحاول ذلك الذي لم يؤت له( ).
أما ولادته فلم تعرف بالضَّبط مَتَى كانت، فعلى الرَّغْمِ من أنَّ ياقوت الحموي أورد أنَّ الجاحظ قال: «أنا أسنُّ من أبي نواس بسنة، ولدت في أول خمسين ومئة، وولد في آخرها»( ) فإنَّ هناك من يصرُّ على تواريخ أُخْرَى، فمنهم من ذهب مع القول السَّابق، ومنهم من قال إنَّما ولادته كانت سنة 155 هـ، وجعلها بعضهم سنة 159 هـ، ولكنَّ جلَّ الباحثين قالوا: إنَّ تاريخ ميلاده الصَّحيح هو عام 160هـ( ) أما وفاته لم نجد من يشكَّ في أنَّها كانت بالبصرة سنة 255 هـ /896م.
وكما اختلفت أقوال المؤرِّخين في تاريخ الولادة، فقد تباينت الآراء كذلك في تحديد أصله؛ فمن ذاهبٍ إلى أنَّه عربيٌّ صرفٌ من بني كنانة، وكنانة عربيَّة الأصل، ترجع إلى مُضَر، ولذلك نُعِتَ الجاحظ أيضاً بالكناني( ). وذهب آخرون إلى أنَّه من الموالي، أعجميُّ الأصل أو متحدِّرٌ من الزِّنج( ). ومهما يكن من أمر مشكلة أصل الجاحظ فإنَّها غيرُ ذاتِ شأنٍ يذكر أو يستحقُّ إثارة البحث فيها هنا على الأقل لأن لهذا الأمر شأناً آخر، ولأنَّ ذلك من ناحيةٍ أخرى لن يغيِّر أو يؤثِّر في شيءٍ، أو أنَّه لن يقود البتة إلى تغيير نظرتنا فيه، فولاؤه للعروبة أشدُّ وضوحاً من الشَّمس في رابعة النَّهار، وانتماؤه إلى العروبة واضحٌ في كتاباته هو ذاته وخاصَّةً منها ما يتعلَّق بردِّه على الشُّعوبيَّة وتفنيد حججهم وادِّعاءاتهم( ).

ثقافته :
كان للجاحظ منذ نعومة أظفاره ميلٌ واضحٌ ونزوعٌ عارمٌ إلى القراءة والمطالعة حَتَّى ضَجِرَتْ أُمُّهُ وتبرَّمت به( ). وظلَّ هذا الميل ملازماً لـه طيلة عمره، حتَّى إنَّه فيما اشتُهِرَ عنه لم يكن يقنع أو يكتفي بقراءة الكتاب والكتابين في اليوم الواحد، بل كان يكتري دكاكين الورَّاقين ويبيت فيها للقراءة والنَّظر( ) ويورد ياقوت الحموي قولاً لأبي هفَّان ـ وهو من معاصريه ومعاشريه ـ يدلُّ على مدى نَهَمِ الجاحظ بالكتب، يقول فيه: «لم أر قطُّ ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَطُّ إلا استوفى قراءته كائناً ما كان»( ) ولا عَجَبَ إذ ذاك في أن يُفْرِد الصَّفحات الطِّوال مرَّات عدَّة في كتبه، للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها. والحقُّ أنَّه «كان أشبه بآلة مصوِّرةٍ، فليس هناك شيءٌ يقرؤه إلاَّ ويرتسم في ذهنه، ويظلُّ في ذاكرته آماداً متطاوله»( ).
ولكن الجاحظ لم يقصر مصادر فكره ومعارفه على الكتب، وخاصَّةً أنَّ ذلك عادةٌ مذمومةٌ فيما أخبرنا هو ذاته وأخبرنا كثيرون غيره، إذ العلم الحقُّ لا يؤخذ إلا عن معلم، فتتلمذ على أيدي كثيرٍ من المعلمين العلماء واغتنى فكره من اتصاله بهم، وهو وإن لم يتَّفق مع بعضهم أو لم يرض عن فكرهم فإنَّهُ أقرَّ بفضل الجميع ونقل عنهم وذكرهم مراراً بين طيات كتبه.
لقد تكوَّنَتْ لدى الجاحظ ثقافةٌ هائلةٌ ومعارفُ طائلةٌ عن طريق «التحاقه بحلقات العلم المسجديَّة التي كانت تجتمع لمناقشة عددٍ كبيرٍ وواسعٍ من الأسئلة، وبمتابعة محاضرات أكثر الرِّجال علماً في تلك الأيَّام، في فقه اللغة وفقه النَّحو والشِّعر، وسرعان ما حصَّل الأستاذيَّة الحقيقيَّة في اللغة العربيَّة بوصفها ثقافةً تقليديَّة، وقد مَكنَّهُ ذكاؤُه الحادُّ من ولوج حلقات المعتزلة حيث المناقشات الأكثر بريقاً، والمهتمَّة بالمشكلات الَّتي تواجه المسلمين، وبالوعي الإسلامي في ذلك الوقت»( ).
ونظراً لسعة علمه وكثرة معارفه وَصَفَهُ ابن يزداد بقوله: «هو نسيج وَحْدِهِ في جميع العلوم؛ علم الكلام، والأخبار، والفتيا، والعربيَّة، وتأويل القرآن، وأيَّام العرب، مع ما فيه من الفصاحة»( ).
وإن كان معاصرو الجاحظ من العلماء، على موسوعيَّة ثقافتهم، أقرب إلى التَّخصص بالمعنى المعاصر، فإن «تردُّد الجاحظ على حلقات التَّدريس المختلفة قد نجَّاه من عيب معاصريه ذوي الاختصاص الضَّيِّقِ. فهو بدرسه العلوم النقليَّة قد ارتفع فوق مستوى الكُتَّاب ذوي الثَّقافة الأجنبيَّة في أساسها القليلة النَّصيب من العربيَّة وغير الإسلاميَّة البتَّة»( )، ولذلك «لم يكتف بالتردُّد على أوساطٍ معيَّنةٍ بغية التَّعمق في مادَّة اختارها بل لازمَ كلَّ المجامع، وحضر جميع الدُّروس، واشترك في مناقشات العلماء المسجديين، وأطال الوقوف في المربد ليستمع إلى كلام الأعراب، ونضيف إلى جانب هذا التكوين، الذي لم يعد لـه طابع مدرسي محدود، المحادثات التي جرت بينه وبين معاصريه وأساتيذه في مختلف المواضيع»( ).
أما أساتذة الجاحظ الذين تتلمذ عليهم وَرَوَى عنهم في مختلف العلوم والمعارف فهم كثيرون جدًّا، وهم معظم علماء البصرة إبَّان حياته، المظنون أنَّ الجاحظ لم ينقطع عن حضور حلقاتهم. ولكنَّ مترجميه يكتفون بقائمةٍ صغيرةٍ منهم غالباً ما تقتصر على العلماء الأَجِلَّة المشهورين. ومهما يكن من أمر، وبناءً على بعض المصادر، نستطيع القول: إنَّ أهمَّ هؤلاء الأساتذة هم( ):

ـ في ميدان علوم اللغة والأدب والشِّعر والرِّواية: أبو عبيدة معمر بن المثنَّى التميمي والأصمعي وأبو زيد بن أوس الأنصاري ومحمد بن زياد بن الأعرابي وخلف الأحمر وأبو عمرو الشَّيباني وأبو الحسن الأخفش وعلي بن محمد المدائني.
ـ في علوم الفقه والحديث: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ويزيد بن هارون والسري بن عبدويه والحجَّاج بن محمد بن حماد بن سلمه بالإضافة إلى ثمامة بن الأشرس الذي لازمه الجاحظ في بغداد.
ـ في الاعتزال وعلم الكلام: أبو الهذيل العلاَّف والنَّظَّام ومويس بن عمران وضرار بن عمر والكندي وبشر بن المعتمر الهلالي وثمامة بن أشرس النُّميري( ). وأحمد بن حنبل الشيباني.
وثَمَّةَ علماء ومفكرون آخرون لا تقلُّ أهمِّيَّتهم عن هؤلاء، والجاحـظ ذاته لم يَغفل عن ذكر معظمهم.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك أصالة الجاحظ ونبوغه وألمعيَّته واتِّقاد قريحته، وجليل إسهامه وإبداعاته وجدناه يستحقُّ بجدارةٍ كاملةٍ كلَّ ما قاله فيه مريدوه ومحبُّوه والمعجبون به من تقريظاتٍ ساحرةٍ باهرةٍ، تكاد تبدو لمن لم يطَّلع على آثار الجاحظ وحياته وفكره أنَّها محض مبالغات. ومما أورده ياقوت الحموي، ويوجز فيه لنا ما سبق بلفظٍ أنيقٍ وتعبيرٍ رشيقٍ قولـه: «أبو عثمان الجاحظ، خطيبُ المسلمين، وشيخُ المتكلِّمين، ومَدْرَهُ المتقدمين والمتأخِّرين. إن تكلَّم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النَّظَّام في الجدال، وإن جدَّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هَزَلَ زاد على مزبد، حبيب القلوب، ومزاج الأرَّواح، وشيخ الأدب، ولسان العرب، كتبه رياضٌ زاهرةٌ، ورسائله أفنانٌ مثمرةٌ، ما نازعه منازعٌ إلا رشاه أنفاً، ولا تعرَّض لـه منقوصٌ إلا قدَّم لـه التَّواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصَّة تسلِّم له، والعامَّة تحبُّه. جَمَعَ بَيْنَ اللسان والقلم، وبَيْنَ الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلَّته، ووطئ الرِّجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه»( ).
فلسـفته والاعتزال
تلاقحت في ذهن الجاحظ أصالته المبدعة وقريحته المتَّقدة مع غزارة المعارف والآداب والعلوم التي استقاها من مناهل متعدِّدة الجوانب ومتباينة الاتِّجاهات، وأثمرت رؤيةً جاحظيَّةً، لمختلف هذه المعارف والآداب والعلوم. ولو أردنا تتبع كلَّ جوانب أصالته ومواقفه من كلِّ ما ذكرناه لطال بنا الأمر كثيراً وخرجنا عن صلب بحثنا، ولذلك سَنُعْرِضُ عن كثيرٍ من الجزئيات والأعراض، ونقتصر قَدْرَ المستطاع على أهمِّ ما امتازَ بهِ مَنْحَى الجاحظ الفكري والفلسفي وأَبْيَنِهِ.
صحيحٌ أنَّ للفلسفة تعريفاتٍ متباينةً متباعدةً( ) إلا أنَّ هذا الانشعاب ليس افتراقاً من غير ملتقى، ولا تنافراً من غيرما تجاذبٍ، وإنَّما ثَمَّةَ محاور محدَّدة تنتظم حولها كلُّ التَّعريفات مهما تباعدت مراميها وألفاظها المعبرة عنها. والحقُّ أنَّه وإن لم يدرج مؤرخو الفلسفة على إدراج الجاحظ ضمن الفلاسفة فإنَّهُ ليس من العسير وصفه بالفيلسوف الملهم إلا إذا أصررنا على التَّعامل مع الفلسفة التَّعامل النَّمطي الذي يمحو أيَّ إسهامٍ للعرب في الفلسفة( ). بل حَتَّى لو تعاملنا مع الفلسفة التَّعاملَ النَّمطيَّ الذي فرضه التَّأريخ الغربيُّ للتَّفلسف من خلال المعايير الغربيَّة فإنَّنا غير عاجزين عن تلمس ما يفسح في المجال بَيْنَ مقاعد الفلاسفة لمقعد جاحظيٍّ.
وعلى أيِّ حالٍ لن نحاور أو نداور لعدِّ الجاحظ فيلسوفاً أَو لدحض مزاعم من يريدون إخراجه من قاعة الفلاسفة، فليس في ذلك أيَّةُ مشكلةٍ، لأنَّنا لا نستطيع أن ننكر البتَّة أنَّ الجاحظ قدَّم قراءاتٍ وأفكاراً فلسفيَّةً مهمَّةً وأغنى البحث الفلسفيَّ بمعالجاته لمختلف الموضوعات الفلسفيَّة؛ الفيزيائيَّة والميتافيزيائيَّة؛ فتحدَّث في الألوهيَّة والخلق والنبوَّة، والإنسان ومشكلاته الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة والدِّينيَّة والنَّفسيَّة... وأضفى عليها من شخصيَّته وأسلوبه رونقاً وأَلْقاً خاصًّا، ووصل إلى نتائج إمَّا قديمةٍ ولكن بأسلوبه وطريقته ومنهجه، وإمَّا جديدةٍ لم يُسبق إليها، وهذه مسألةٌ يطول البحث فيها، على أنَّنا وإن لم نجد من اضطلع بهذه المهمَّة كاملةً فإنَّ كثيرين تطرَّقوا لفكر الجاحظ وكشفوا النِّقاب عن بعض ذلك، ولذلك نأمل إمَّا أن تتاح لنا فرصة العودة إلى هذه المهمَّة أو أن ينهض غيرنا بها، لأنَّها تستحقُّ أن يبذل من أجلها جهدٌ خاصٌّ، ومهما يكن من أمر فإنَّ ما قدَّمه أبو عثمان لا يقلُّ البتَّة عمَّا قدَّمه أيُّ فيلسوفٍ، ويكفينا لتأكيد جدارة الجاحظ بلقب (فيلسوف) ما سنعرض لـه من كونه صاحب اتِّجاهٍ معتزلي، إذ المعلوم أنَّ علماء الكلام كانوا فلاسفة في إطار خصوصيَّة الفلسفة العربيَّة، هذا من دون أن ننسى منهجه الفلسفي وروحه النَّقديَّة.
يُعدُّ الجاحظ في رأي ج. دي بور مؤرِّخِ الفلسفة الإسلاميَّة «أعظم رجل أخرجته لنا مدرسة النَّظَّام»( )، ويُجمع مؤرِّخو الفِرَقِ الإسلاميَّة أمثال أبي الحسن الأشعري في كتابِه مقالات الإسلاميين، وابن المرتضى في كتابه طبقات المعتزلة، والشهرستاني في كتابه الملل والنِّحل، والمسعودي في كتابه مروج الذهب، وابن خلدون في مقدِّمته وغيرهم كثيرون من مؤرِّخي الفكر العربي والأدب العربي، على أنَّ الجاحظ أحد كبار شيوخ المعتزلة وصاحب فرقة من فرقهم هي التي دعيت بالجاحظيَّة وكان لها أنصار وأتباع.
لم يفترق أبو عثمان عن المعتزلة في مبادئهم الرئيسة، المعروفة بالمبادئ الخمسة وهي: العَدْلُ، والتَّوحيد، والمنـزِلَة بَيْنَ المنـزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. ولكنَّه انفرد عنهم واستقل باتِّجاهه بمجموعةٍ من الآراء والمواقف الخاصة، وتَمثَّل ذلك بنظريته في المعرفة التي قادته إلى آرائه الخاصة في الله والنُّبوة والإمامة.
من أهمِّ ما انفرد به قوله: «إنَّ المعارف كلَّها ضروريَّةٌ طباعاً، وليس شيءٌ من ذلك من أفعال العباد وليس للعباد كَسْبٌ سوى الإرادة، وتحصل أفعاله منه طباعاً كما قال ثمامة. ونُقل عنه أيضاً أنَّه أنكرَ أصلَ الإرادة، وكونها جنساً من الأعراض، فقال: إذا انتهى السَّهو عن الفاعل وكان عالماً بما يفعله، فهو المريد على التَّحقيق، وأمَّا الإرادة المتعلِّقة بفعل الخير فهو ميل النفس إليه، وزاد ذلك بإثبات الطَّبائع للأجسام كما قال الطَّبيعيون من الفلاسفة، وأثبت أنَّ لها أفعالاً مخصوصةً بها. وقال باستحالة عدم الجواهر، فالأعراض تتبدَّل، والجوهر لا يجوز أن يفنى»( ).
ويتابع ج.دي.بور اجتهاده في نظريَّة المعرفة قائلاً: «والإنسان عنده قادرٌ أن يعرف الخالق بعقله، وعلى أن يدرك الحاجة إلى الوحي الذي ينـزل على الأنبياء، وعنده أنَّ العالم الحقَّ يجب أن يضمَّ إلى دراسة علم الكلام دراسة العلم الطَّبيعي، وهو يصف في كلِّ شيء أفاعيل الطَّبيعة، ولكنَّه يشير إلى ما في هذه الأفاعيل من أثر خالق الكون»( ).
ومن ذلك أيضاً «قوله في أنَّ أهل النَّار لا يخلَّدُون فيها عذاباً، بل يصيرون إلى طبيعة النَّار. وكان يقول: النَّار تجذب أهلها إلى نفسها من دون أن يدخل أحدٌ فيها»( )، وهذا ما سيبني عليه الفلاسفة اللاحقون ما سمي مشكلة حشر الأرواح لا الأجساد التي كفَّرهم بها الإمام الغزالي في كتابه التهافت( ).
وإذا كان مذهبه في إثبات القَدَرِ؛ خيره وشره من العبد، هو مذهب المعتزلة بإجماع مؤرِّخيه فإنَّ مذهبه في نفي الصِّفات هو مذهب الفلاسفة فيما رأى شفيق جبري الذي أضاف أنَّ الكعبي «حكى عنه في نفي الصِّفات أنَّه قال: يوصف البَّاري تعالى بأنَّه مريدٌ، بمعنى أنَّه لا يصحُّ عليه السَّهو في أفعاله، ولا الجهل، ولا يجوز أن يُغلبَ ولا أن يُقهرَ... ومن انتحل دين الإسلام، فإن اعتقد أنَّ الله تعالى ليس بجسمٍ ولا صورةٍ ولا يُرى بالأبصار، وهو عدل لا يجور، ولا يريد المعاصي، وبعد الاعتقاد والتبيين أقرَّ بذلك كلِّه، ثُمَّ جحده وأنكره،
أَو دان بالتَّشبيه والجبر، فهو مشركٌ كافرٌ حقًّا. وإن لم ينظر في شيءٍ من ذلك، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الله رَبَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، فهو مؤمنٌ لا لوم عليه، ولا تكليف عليه غير ذلك»( ).
وفي قلب هذه الرؤية الاعتزالية الواضحة التي كانت عماد الاعتزالية الجاحظيَّة وجزءاً صميماً من الفكر الاعتزالي في عمومه، كانت هناك بعض اللمسات الفلسفيَّة التي أفاد منها الفلاسفة اللاحقون عليه ونهلوا من معينها، ومنها ما تَمَّت الإشارة إليه، ومنها أيضاً على سبيل المثال فيما رواه الكعبي عنه أنَّهُ قال: «إنَّ الخلق كلَّهم من العقلاء، عالمون بأنَّ الله تعالى خالقهم، وعارفون بأنَّهم محتاجون إلى النَّبي، وهم محجوجون بمعرفتهم، ثمَّ هم صنفان؛ عالمٌ بالتَّوحيد وجاهلٌ به، فالجاهل معذورٌ، والعالم محجوجٌ...»( ) فمثل هذا ما ذهب إليه معاصره الكندي والفلاسفة اللاحقون من حديثهم في الحاجة إلى النبوة والفطرة التي فُطِرَ عليها الخلق.
منهجه العلمي
انتـهج الجاحظُ في كتبه ورسـائله أسلوباً بحثيًّا أقلُّ ما يقال فيه إنَّهُ منهجُ بحثٍ علميٍّ مضبوطٌ ودقيقٌ، يبدأ بالشَّك لِيُعْرَضَ على النَّقد، ويمرُّ بالاسـتقراء على طريق التَّعميم والشُّـمول بنـزوعٍ واقعيٍّ وعقلانيٍّ، وهو «في تجربته وعيانه وسماعه ونقده وشكِّه وتعليله كان يطلع علينا في صورةِ العالم الذي يُعْمِلُ عقله في البحث عن الحقيقة»( )، ولكنَّه استطاع برهافة حسِّه أن يسبغ على بحثه صبغة أدبيَّةً جماليَّة تُضفي على المعارف العلميَّة رواءً من الحسن والظَّرْف، يرفُّ بأجنحته المهفهفة رفيف العاطف الحاني على معطيات العلم في قوالبها الجافية، ليسيغها في الأذهان ويحببها إلى القلوب، وهذه ميزة قلَّت نظيراتها في التُّراث الإنساني.
1ـ الشك
لم يكتف أبو عثمان بالشَّك أساساً من أسس منهجه في البحث العلميِّ بل عَرَضَ لِمَكانة الشَّك وأهمِّيَّته من النَّاحية النَّظريَّة في كثيرٍ من مواضع كتبه، ومن أهم ما قاله في ذلك: «واعرف مواضع الشَّك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت ، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه. ثمَّ اعلم أنَّ الشَّكَّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في القوَّة والضَّعف»( ).
تتبيَّنُ لنا من ذلك مجموعةٌ من النِّقاط المهمَّة التي تفصح عن أصالة الجاحظ وتجلو ملمحاً من ملامح عبقريَّته، فهو لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك، ولا يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق ولا في كلِّ أمرٍ على حدٍّ سواءٍ ولا بالطريقة ذاتها؛ إن الشَّك الجاحظيَّ، بهذا المعنى، لا يختلف البتة عن الشَّك المنهجيِّ عند الإمام الغزالي والفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت ـ Rene Descrtes( )، فكلُّ منهم أراد الشَّكَّ طلباً للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة، التي لا تقبل تفاوتاً في الدَّرجات.
2 ـ النـقـد
إنَّ تتبـُّعَ كتب الجاحظ ورسائله يكشفُ لنا عن عقليَّة نقديَّةٍ بارعةٍ؛ نقديَّةٍ بالمعنى الاصطلاحي المنهجي وبالمعنى الشَّائع للانتقاد، فنقده بالمعنى الشَّائع يتجلَّى أكثر ما يتجلَّى في تهكُّمه وتعليقاته السَّاخرة التي لم يسلم منها جانبٌ من جوانب المعرفة ولا مخطئٌ أمامه أو واصلٌ إليه خبره، ومن ذلك مثلاً تهكُّمه بالخليل بن أحمد الفراهيدي من خلال علم العروض الذي قال فيه: «العروض علمٌ مردود، ومذهبٌ مرفوض، وكلام مجهول، يستكدُّ العقول، بمستفعل ومفعول، من غير فائدة ولا محصول»( ).
أما نقده المنهجيُّ فما أكثر ما تجلَّى في كتبه ورسائله في تعامله مع مختلف الموضوعات المعرفيَّة؛ العلميَّة والأدبيَّة، ومن ذلك نقده لعلماء عصره ومحدِّثيه ورواته وفقهائه والعلماء السَّابقين، والشَّواهد على ذلك جدِّ كثيرة، تجعلنا حقًّا في حيرة أمام اختيار واحد منها.

انتقد بعضهم اتجاه علماء الكلام نحو الأمور الطَّبيعية بالعناية والدِّراسة فقال: «لو كان بدلُ النَّظرِ فيهما النَّظرَ في التَّوحيد( )، وفي نفي التَّشبيه، وفي الوعد والوعيد، وفي التَّعديل والتَّجويد، وفي تصحيح الأخبار، والتَّفضيل بَيْنَ علم الطَّبائع والاختيار، لكان أصوب. فردَّ عليه الجاحظ ناقداً ادعاءه بقوله: العَجَبُ أنَّك عمدت إلى رجالٍ لا صناعة لهم ولا تجارة إلا الدُّعاءُ إلى ما ذكرت، والاحتجاجُ لما وصفت، وإلاَّ وضع الكتب فيه والولايةُ والعداوةُ فيه، ولا لهم لذَّة ولا همٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلاَّ عليه وإليه؛ فحين أرادوا أن يقسِّطوا بَيْنَ الجميع بالحِصص، ويَعْدِلوا بين الكلِّ بإعطاء كلِّ شيءٍ نصيبه، حَتَّى يقع التَّعديلُ شاملاً، والتَّقسيط جامعاً، ويظهر بذلك الخفيُّ من الحكم، والمستور من التَّدبير، اعترضتَ بالتعنُّت والتَّعجُّب، وسطَّرت الكلام، وأطلت الخطب، من غير أن يكون صوَّب رأيك أديبٌ، وشايعك حكيمٌ»( ).
وبنظرةٍ عجلى في آثار الجاحظ « فإنك تراهُ وهو يطلق العنان لقلمه في جلِّ كتبه ـ يزيِّف الخرافات والتُّرَّهات في عصره وقبل عصره، ويورد عليك نقداته ومباحثاته، فيقطع في نَفْسك أنَّه لو جاء كثيرٌ مثله في عقلاء العلماء لخلت كتب الأقدمين من السَّخافات، إذ إنَّ الجاحظ نفسه يقول: ومما لا أكتبه لك من الأخبار العجيبة التي لا يجسر عليها إلا كلُّ وقاح أخبار( )...»( ) ولذلك ما أكثر ما كان يستفتح الأخبار المغلوطة أو الأسطورية بقوله زعم فلان، وزعموا، ثُمَّ يُعَقِّبُ بتحليله ونقده «بعقلٍ راجحٍ، ونظرٍ صائبٍ، وأسلوبٍ سهلٍ عَذْبٍ متنوِّعٍ دقيقٍ فكهٍ، يَتَتَبَّعُ المعنى ويقلِّبُه على وجوهه المختلفة، ولا يزال يولِّده حَتَّى لا يترك فيه قولاً لقائل»( ).
3 ـ التجريب والمعاينة
إذا كان النَّقد هو الخطوة اللاحقة على الشَّكِّ فإنَّ المعاينة والتَّجريب هي الخطوةُ المقترنة بالنَّقد والمتلازمة معه، وخاصَّةً في مسائل العلم الطَّبيعي، والجاحظ لم ينس هذه الخطوة ولم يتناسها بل جعلها عماداً لازماً من أعمدة منهجه البحثي، وقد بدا ذلك في اتجاهين؛ أولهما قيامه هو ذاته بالمعاينة والتَّجريب، وثانيهما نقل تجارب أساتذته ومعاصريه. وقـد أجرى الجاحظ كما أخبرنا تجارب ومعايناتٍ كثيرةً للتَّثبُّت من معلومةٍ وصلت إليه، أو لنفي خبرٍ تناهى إلى سمعه ولم يستسغه عقله، والأمثلة على ذلك جدُّ كثيرة نذكر منها تجربته في زراعة شجرة الآراك وقصَّته الطَّويلة معها للتَّأكُّد مما قيل عن تكاثر الذَّرِّ عليها( ) ويصف لنا بُرنيَّةَ زجاجٍ وُضِع فيها عشرون فأراً مع عشرين عقرب، وما فعلته العقارب بالفئران( ) وكذلك عندما أجمع أناس، بينهم طبيبٌ، على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات والتمست خصيته وشقشقته فإنهما لا توجدان، فأرسل إلى جزَّار أن يأتيه بالخصية والشقشقة إذا نحر جملاً، ففعل، فلم يكتف بذلك، فبعث إليه رسولاً يقول: «ليس يشفيني إلا المعاينة» ففعل ودحض هذا الادعاء( ) ولجأ أيضاً إلى تجريب بعض المواد الكيماويَّة في الحيوان ليعلم مبلغ تأثيرها فيها، وليتأكَّد مما قيل في ذلك( ) ومما أورده من تجارب غيره تجربة أستاذه النَّظَّام عندما سقى الحيوانات خمراً ليعرف كيف يؤثِّر الخمر في الحيوان، ولم يكتف بنوعٍ واحدٍ بل جرَّب على عددٍ كبيرٍ من الحيوانات كالإبل والبقر والجواميس والخيل والبراذين والظِّباء والكلاب والسَّنانير والحيَّات وغيرها( ).
شخصيَّته
قال الأُستاذ المرحوم شفيق جبري في مستهلِّ محاضراته في الجاحظ:
«إنَّ أوَّل أثرٍ من آثار دراسة كتُبه حيرةٌ يحارها المرء في خصب عبقريَّته، فلا يعرف كيف يبدأ بالكلام على هذه العبقريَّة، ولا كيف يفرغ من هذا الكلام، ولا عجب في ذلك، فإنَّ رجلاً يكتب لـه أن يعيش قرناً بوجه التَّقريب، لم يقع في خلاله بيده كتاب إلا استوفى قراءته، كائناً ما كان، إنَّ رجلاً يكتري دكاكين الورَّاقين، ويبيت فيها للنَّظر، لا عجب من خصب عقله»( ) ونظراً لوشاجة الصِّلة ووثاقة العلاقة بَيْنَ العبقريَّة والإبداع من جهة والشَّخصية من جهة ثانية، ونظراً لما لخصائص الشَّخصيَّة من دلالات مهمَّة تجلو لنا مزيداً من الجوانب الخفيَّة في أسلوب الكاتب ومقاصده، فقد بات من الضَّرورة الملحفة بمكان أن نعرِّج على بعض أهمِّ جوانب شخصيَّة الجاحظ، من دون الاستطراد أو التَّوسع في ذلك، لأنَّه أمر قد يحتاج إلى بحث مستقلٍّ مطوَّلٍ، وخاصَّةً أنَّ الحديث على الشَّخصيَّة قد لا يتوقَّفُ عند أهمِّ خصائصها المميَّزة، بل قد يتعدَّى ذلك إلى ميولها وأهوائها وقدراتها والمؤثِّرات المختلفة فيها، وغير ذلك ممن يُدْرَجُ في بابه، ولذلك سنقف، باختصار، عند النقاط الثَّلاث التَّالية:
أولاً: خصائصه الجسمية
يستدلُّ شارل بللا من شدَّة سُمْرَةِ الجاحظ، مستعيناً بنظريَّة الوراثة، على أنَّه ذا أصلٍ إفريقيٍّ( ) وليس يعنينا من ذلك هنا إلا أنَّ الجاحظ كان ذا بشرةٍ شديدةٍ السُّمرة تقرب من بشرة الزِّنج، ويضاف إلى ذلك ما أجمعت عليه المصادر القديمة من أنَّه كان قصير القامة، صغير الرَّأس، ناتئ العينين، دقيق العنق، صغير الأذنين، حَتَّى أصبح مضرب المثل في القبح والدَّمامة، وقيل في ذلك شعرٌ، أورده البغدادي في الفرق بَيْنَ الفرق( ) والأبشيهي في المستطرف( ) وهو:

لَوْ يُمْسَخُ الخِنْزِيرُ مَسْخاً ثَانِياً

مَا كانَ إِلاَّ دُوْنَ قُبْحِ الجَاحِظ

رَجُلٌ يَنُوبُ عَنِ الجحِيْمِ بِوَجْهِهِ

وَهُوَ القَذَى فِي عَيْنِ كُلِّ مُلاَحِظِ

وَلَوَ انَّ مرْآةً جَلَتْ تِمْثَالَهُ

وَرَآهُ، كَانَ لـه كَأَعْظَمِ وَاعِظِ

بل إنَّ الجاحظ ذاته، فيما وَصَلَ إلينا من الأخبار عنه، قد تندَّر بقبحه، وسنعرض لبعض ذلك في فصل أخلاق التهكم، ومنها قوله مثلاً: «ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلمَّا رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني»( ) ومن ذلك أيضاً حديثه عن المرأة التي اقتادته من أمام منـزلـه إلى دكَّان الصَّائغ لتقول للأخير مثل هذا وتنصرف، ليتضح للجاحظ أنَّها شبَّهته بالشَّيطان وأرادت من الصَّائغ أن ينقش لها صورته على قلادتها( ).
فهل كان الجاحظ قبيحاً إلى هذا الحد؟
يرى شارل بللا أنَّه من الجدير بنا في هذا المجال ألاَّ نبالغ في قبح الجاحظ، فإنَّ تاريخ الأدب القديم قد رسم لنا صورةً ليس فيها شيءٌ من الأناقة، بل يذهب به الأمر إلى حدِّ التَّشكيك في تندُّر الجاحظ بقبحه ويظن ذلك منسوباً إليه استناداً إلى ميل الجاحظ للدعابة والتَّهكم( ) ومهما يكن من أمر فإنَّنا لا نستطيع أن نسم أبا عثمان بالوسامة والحسن ، كما لا نستطيع إلا الإقرار بأنَّه كان على نصيبٍ من القبح والبشاعة لثبوت ذلك وصفاً، واستقرائه من سمات الجاحظ الجسميَّة، ولعلَّ هذا ما أثار إرادة التَّحدِّي في قرارة نفسه ودفعه إلى مواصلة الجدِّ والجهد للتفوق وإبراز الإمكانات الإبداعيَّة والأساليب الممتعة المشوِّقة كيما يتصدَّر المكانة المرموقة والمهمَّة بَيْنَ مفكِّري عصره، وهذا ما كان منه مما يُفسَّر بالارتكاس على عقدة الشُّعور بالنقص.
ثانياً: عبقريته
تجلَّت عبقريَّة أبي عثمان في مناحٍ جدِّ متعدِّدةٍ ومتباينةٍ، ولَعَلَّها تتجلَّى أكثر ما تتجلَّى في الكمِّ الكبير من الكتب والرَّسائل التي خلَّفها لنا. وقد لاحت ملامح هذه العبقريَّة في فترة مبكرة من حياته وهي التي جعلته يفرض ذاته حلقةً من حلقات المعتزلة.
ولن نطيل الحديث في هذه العبقريَّة هنا لأنَّنا كشفنا بعض جوانبها، وحسبنا أن نشير إلى ما وصل إليه من مكانةٍ ساميةٍ عليَّةٍ جنى ثمارها بفضل هذه العبقرية، بل هناك من ذهب إلى أنَّه لم يضع كلَّ علمه في كتبه، ولاسيما في البلاغة، ضنَّاً به على غير أهله( ).
ولا ننسى قوَّة عارضته في النِّقاش والْجَدَل، وقدرته النَّقديَّة وفنونه الكلاميَّة، ومنهجه وأسلوبه وغير ذلك من الأمارات التي يضيق المجال عن التَّوسع في إيضاحها هنا.
ثالثاً: أسلوبه
إنَّ الكلام على أسلوب الجاحظ بعيد الغَوْرِ واسعُ المدى، فهو لا يقتصر على طرائق تناوله موضوعاته، ولا يتوقَّف عند تراكيبه وعباراته، ولا ينحصر في تنويعه واستطراده، ولا يكفي فيه انتقاؤه ألفاظه، ولا حَتَّى طرائق تعامله مع النَّاس في حياته، إنَّه كلُّ ذلك وأكثر، وخاصَّةً أن للأسلوب في كلِّ ذلك ما يُنْبِي عن الشَّخصية وتركيبتها النَّفسيَّة، كما يقول علماء النفس. ولذا فإننا قد لا نغلو إن عرضنا هذا التَّقريظ البديع لأسلوب الجاحظ الذي أورده أبو حيان التوحيدي ألمع تلاميذ الجاحظ، وهو يكشف عن كثيرٍ مما يعتلج في نفسنا، ويعبِّر عن جلِّ ما ذكرنا، بأسلوب لا يقلُّ روعةً عن أسلوب الجاحظ وببلاغة لا تقلُّ عن بلاغته، يقول:
«وأبو عثمان الجاحظ، فإنَّك لا تجد مثله، وإن رأيتُ ما رأيتُ رجلاً أسبق في ميدان البيان منه، ولا أبعَدَ شوطاً، ولا أمدَّ نَفَساً، ولا أقوى منه، إذا جاء بيانُه خَجِلَ وَجْهُ البليغ المشهور، وكَلَّ لسانُ المسحنفر الصَّبور، وانتفخ سحر العارم الجسور، ومتى رأيت ديباجة كلامه رأيت حَوْكاً كثير الوَشْي، قليل الصَّنعة، بَعِيدَ التَّكلُّف، مليح العَطَل، لـه سلاسةٌ كسلاسة الماء، ورِقَّةٌ كرقَّة الهواء، وحلاوةٌ كحلاوة النَّاطل، وعزَّة كعزَّة كليب وائل، فسبحان من سَخَّرَ لـه البيان وعلَّمه، وسلم في يده قصب الرِّهان وقدَّمه، مع الاتِّساع العجيب، والاستعارة الصَّائبة، والكتابة الثَّابتة، والتَّصريح المغني، والتَّعريف المُنْبِي، والمعنى الجيِّد، واللفظ المفخَّم، والطَّلاوة الظَّاهرة، والحلاوة الحاضرة، إن جدَّ لم يسبق، وإن هَزَلَ لم يُلْحَقْ، وإن قال لم يُعَارَضْ، وإن سكت لـم يُعرض له»( ).
لا نريد أن نطلق عنان التَّأويل لاستيلاد خصائص شخصيَّة الجاحظ وسماتها من هذا النَّص، ولكنَّنا، ومن غير مبالغةٍ، نستطيع القول: إنَّ هذا الوصف، الذي كثر ما يماثله في تقريظ الجاحظ، يدلُّ على شخصيَّة فَذَّةٍ، واثقة الخطى، جَمَّة الثَّقافة والمعرفة، غنيَّة الفكر واللغة، ميالةٍ إلى المرح والدعابة، متفائلة، وكلُّ ذلك من خصائص شخصيَّة الجاحظ فعلاً، ويمكن اكتشافه بيسر من مطالعة بعض كتبه.
آثاره
اختلف المؤرِّخون في عدد كتب الجاحظ، بل لم يتَّفقوا على عناوين بعضها، ففي حين أنَّ صاحب المؤلَّفات ذاته سردها لنا في مقدِّمة كتابه (الحيوان) فكانت نحو ستة وثلاثين كتاباً، فإنَّ الأقوال الأخرى للمؤرِّخين قد تباينت تبايناً شديداً تراوح ما بَيْنَ المئة والمئتين، فالذي كتب عن الجاحظ في الموسوعة الإسلامية رأى أنَّه خَّلَّفَ ما ينوف عن مئتي أثر، اكْتُشِفَ منها خمسون صحيحة النِّسبة، ومعها ثلاثون ما بَيْنَ الموثوق في نسبها إليه والمشكوك في أن تكون له( ).
وكان ابن النديم قد أحصى هذه الآثار ووضع ثبتاً بما يناهز مئةً وواحداً وعشرين أثراً. وتبعه ياقوت الحموي فأوصلها إلى نحو مئةٍ وثلاثةٍ وعشرين. ثُمَّ جاء حسن السَّندوبي الذي اهتم بشخص الجاحظ وفكره وآثاره ووضع قائمة بمؤلفات الجاحظ اعتمد فيها اعتماداً أساسيًّا على ياقوت الحموي، وطبع هذه القائمة في كتابه أدب الجاحظ. وعقبه بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي فأورد نحو مئةٍ وستةٍ وسبعين كتاباً اعتمد فيها على الذين سبقوه.
وكانت المحاولة الأخيرة بهذا الصَّدد تلك التي اضطلع بها شارل بللا بعنوان «محاولة كشف نتاج الجاحظ» وهي مقالة نشرها في مجلة «أربيكا» العدد الثالث سنة 1956م، وقد استفاد فيها من المحاولات السَّابقة ـ عدا فهرست ابن النديم ـ وخاصَّة من بروكلمان كما يعترف هو ذاته، ووصل لديه العدد إلى مئةٍ وثلاثةٍ وتسعين أثراً( ).
والحقُّ أنَّ هذه مهمَّةٌ شاقَّةٌ وعسيرة، ولا أظنُّني أستطيع، في أفقي الرَّاهن، أن أضيف إلى جهود هؤلاء الباحثين الأجلَّة شيئاً في هذا الصَّددِ، ولأنَّ كشَّافاً بآثار الجاحظ موجود في أكثر من كتاب وبحث( ) فإنَّه من غير المفيد أن نكرِّر هذا الثَّبت هنا، وخاصَّةً أنَّ القسم الأعظم منه غير مُكْتَشَفٍ حَتَّى الآن، ولذلك نظنُّ أنَّهُ من الأكثر جدوى أن نقتصر على ما طُبع من آثار الجاحظ تاركين ما ثبت نحله لـه مع تعليقٍ صغيرٍ بأهميَّة هذه الآثار ومكانتها إن اقتضى الأمر ذلك.
بلغت كتب الجاحظ من الشَّأو والشُّهرة، وكذلك المكانة والأهميَّة، ما لم تبلغه جلُّ كتب الأقدمين، من سابقيه ومعاصريه واللاحقين عليه، ولحسن حظِّه فقد شهد على ملء عينه هذا الازدهار والانتشار والرواج لكتبه، والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة ولكن لن نطيل في ذكرها، وحسبنا منها شهادة من خصم، وقصة حدثت مع الجاحظ ذاته( ).
يقول المسعوديُّ، الذي يعدُّ من خصوم الجاحظ، في نعت كتبه: «وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور( )، تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنَّه نَظَمَهَا أحسن نظمٍ، ووصفها أحسن وصفٍ، وكَسَاها من كلامه أجزل لفظٍ، وكان إذا تخوَّف مَلَلَ القارئ، وسآمة السَّامع، خرج من جدٍّ إلى هزلٍ، ومن حكمةٍ بليغةٍ إلى نادرةٍ طريفةٍ. ولـه كتب حسان، منها كتاب البيان والتبيين، وهو أشرفها، لأَنـَّه جمع فيه بَيْنَ المنثور والمنظوم، وغرر الأشعار، ومستحسن الأخبار، وبليغ الخطب، ما لو اقْتُصِرَ عليه لاكتفى به، وكتاب الحيوان، وكتاب الطُّفيليين والبخلاء، وسائر كتبه في نهاية الكمال، ما لم يقصد منها إلى نصب»( ).
وإليك صورةٌ تنبيك عن مبلغ ذيوع كتب الجاحظ، وتقفُك على مقداره: روى الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد( ) وكذلك ياقوت الحموي في معجم الأدباء( ) عن يحيى بن علي أنَّه قال: حَدَّثني أبي قال: قلت للجاحظ: إنِّي قرأت في فصلٍ من كتابك المسمَّى البيان والتَّبيين: إنَّ ممَّا يستحسن من النِّساء اللحن في الكلام، استشهدت ببيتي مالك بن أسماء:

وَحَدِيثٌ أَلَذَّهُ هُوَ مِمَّا

يَنْعَتُ النَّاعِتُونَ يُـوْزَنُ وَزْناً

مَنطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَانَاً

وَخَيْرُ الحَدِيْثِ مَا كَانَ لَحْناَ

قال: هو كذلك. قلت: أَفَمَا سمعت بخبر هند بنت أسماء بنت خارجة مع الحجاج، حينَ لَحَنَتْ في كلامها، فعابَ ذلك عليها فاحتجَّت ببيتي أخيها، فقال لها: إنَّ أخاك أراد أنَّ المرأة فطنةٌ، فهي تلحن بالكلام إلى غير المعنى في الظَّاهر، لتستر معناه وتورِّي عنه، وتُفْهمَهُ من أرادت بالتَّعريض، كما قال الله تعالى: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِيْ لَحْنِ القَوْلِ } ولم يرد الخطأ من الكلام.


والخطأ لا يستحسن من أحد؟! فَوَجَمَ الجاحظ ساعةً ثُمَّ قال: لو سَقَطَ إليَّ هذا الخبرُ لما قلتُ ما تقدَّم فقلت له: فأَصلحه: فقال: الآن وقد سار الكتاب في الآفاق!! هذا لا يُصْلَح!
أما آثار الجاحظ المطبوعة فقد أحصينا منها خمسة وخمسين أثراً مؤكَّد النِّسبة له، وهذا مسردٌ لها. ذاكرين عدد طبعاتها أَو أهمِّها. معرضين عن تبيان المصادر القديمة التي ذُكِرَتْ فيها لأنَّ ذلك لن يقدِّم أو يؤخر في شيءٍ بَعْدَ ثُبُوتِ نسبتها إليه ، تاركين الآثار التي ثبت نحلها إليه مثل التَّاج في أخلاق الملوك وتهذيب الأخلاق والأمل والمأمول( ).
1 ـ استحقاق الإمامة: طُبِعَتْ هذه الرِّسالة مرَّات عدَّة مجموعةً مع رسائل أخرى، مثل مجموعة عبد السَّلام هارون ومجموعة علي أبو ملحم ومجموعة عمر أبو النَّصر المسمَّاة بآثار الجاحظ.
2 ـ استنجاز الوعد: طبعت هذه الرِّسالة في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
3 ـ الأوطان والبلدان: رسالة، طُبِعَتْ في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
4 ـ البخلاء: هذا الكتاب من أكثر كتب الجاحظ أهميَّةً وأكثرها انتشاراً وتداولاً بَيْنَ النَّاس منذ أيام الجاحظ وحَتَّى الآن، ونظراً لهذا الرَّواج الكبير فقد وجد ترحيباً كبيراً في دور النَّشر، فَطُبِعَ لذلك مرَّاتٍ عدة قاربت العشرين طبعة ورُبَّما أكثر بكثيرٍ، وتعاقب على شرحه وتحقيقه كثيرٌ من المفكِّرين المختصين والمهتمِّين بفكر الجاحظ وغيرهم ممن لم يذكر اسمه، ومن أهم هذه التَّحقيقات التي قام بها محمد مسعود في عام 1905م وصدر عن مطبعة الجمهورية بالقاهرة في العام ذاته، ثُمَّ عُنِيَ بضبطه وشرحه وتصحيحه أحمد العوامري وعلي الجارم في طبعة صدرت عن وزارة المعارف بالقاهرة
عام 1938م. وتتالت بعد ذلك تحقيقاتٌ وشروحاتٌ وتعليقاتٌ كثيرةٌ لهذا الكتاب صَدَرَتْ في طبعات مختلفة منها طبعة طه الحاجري، دار المعارف، القاهرة 1958م. وطبعة فوزي عطوي، الشَّركة اللبنانيَّة عام 1969م. وغيرهم كثير جدًّا.

5 ـ البرصان والعرجان والعميان والحولان: طُبِعَ أكثر من طبعةٍ من تحقيق محمد مرسي الخولي وهارون كلٌّ على حدةٍ. عن مؤسسة الرِّسالة،
بيروت 1972م و1981م وعن دار الجيل، ببيروت عام 1990م.
6 ـ البغال: أو رسالة في البغال، طُبِعَ في كتاب مستقلٍّ تحت عنوان القول في البغال، وقد عني بتحقيقه وإخراجه شارل بللا، صَدَرَ عن دار مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة عام 1956م، وأعاد شرحه والتَّقديم لـه الدكتور محمد علي أبو ملحم في طبعة أصدرتها دار مكتبة الهلال ببيروت عام 1990م، وطبع مضموماً إلى رسائل أخرى للجاحظ في مجموعة هارون ومجموعة عبد الأمير مهنا.
7 ـ البلاغة والإيجاز: وهي رسالةٌ صغيرةٌ اقترنت باسم رسالةٍ في البلاغة والإيجاز أو رسالة البلاغة والإيجاز. طُبِعَتْ في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
8 ـ بني أميَّة: أو رسالة في بني أميَّة، طُبِعَتْ في مجموعة عمر أبو النَّصر.
9 ـ البيان والتبيين: وهو في نَظَرِ النُّقَّاد إمام كتب الجاحظ وأهمُّها غير منازعٍ، ولهذا فقد لقي عنايةً خاصَّةً من الباحثين والنَّاشرين، فَصَدَرَ حَتَّى الآن فيما يزيد عن عشر طبعات مختلفة التَّحقيق، أوَّلها التي أخرجتها المطبعة العلميَّة بالقاهرة عام 1893م. ثُمَّ عني الباحثون بتحقيقه وشرحه والتَّعليق عليه، أمثال جميل جبر ببيروت 1959م في مجلدٍ واحدٍ، وفوزي عطوي في ثلاثة مجلَّدات عن دار صعب، بيروت عام 1968م، وهارون في أربعة أجزاء بمجلدين عن لجنة التأليف والترجمة 1949م، ودار الجيل 1980م ومكتبة الخانجي 1985م. وميشال عاصي في مجلدٍ واحدٍ عن مكتبة سمير بيروت1970م. هذا إلى جانب طبعات أخرى كثيرةٍ مغفلةٍ من المحقِّق مثل طبعة دار الفكر للجميع في ثلاثة مجلَّدات،
عام 1968م وغيرها، وقد اختصر هذا الكتاب غير مرَّة ونشرت فقرات ومنتخبات منه إمَّا مستقلَّةً في كتابٍ أو ملحقة مع عدد من الرَّسائل.
10 ـ التبصر بالتجارة: كتاب عُنِيَ بتحقيقه حسن حسني عبد الوهاب، صَدَرَ عن دار الكتاب اللبناني بيروت عام 1966م.
11 ـ التربيع والتدوير: يعدُّ هذا الكتاب الرِّسالة من أبدع الآيات الجماليَّة في النَّثر العربي على الإطلاق، وواحداً من أروع رسائل التَّهكم والهجاء في تاريخ الأدب العربي، فطبع لذلك مع هذه الرَّسائل في طبعةٍ واحدةٍ تحت عنوان: ثلاث رسائل في الهجاء، هي إلى جانب التَّربيع والتَّدوير؛ مثالب الوزيرين والرِّسالة الهزليَّة لابن زيدون، صدرت عن دار القلم، الكويت عام 1981م. وأولى طبعات هذا الكتاب هي التي قدَّمتها مطبعة الجمهور عام 1906م، وبعد تسع وأربعين سنة حقَّقه شارل بللا وأصدره عن المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، وأعاد فوزي عطوي تحقيقه وإصداره في طبعةٍ جديدةٍ عام 1969م عن الشَّركة اللبنانية للكتاب. وضمَّه مؤخَّراً أبو ملحم إلى مجموعته في طبعة جديدة.
12 ـ تفضيل البطن على الظّهر: رسالةٌ طبعت في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
13 ـ تفضيل النُّطق على الصَّمت: رسالة طُبِعَتْ في مجموعتي هارون
وأبو ملحم.
14 ـ الجدُّ والهزل: أو رسالة في الجدِّ والهزل، طُبِعَتْ في كتابٍ مستقلٍّ تحت عنوان فلسفة الجدِّ والهزل، بشرح محمد علي الزعبي عن منشورات حمد بيروت. وصدرت ضمن أكثر من مجموعة من رسائل الجاحظ هي مجموعات هارون وأبو ملحم ومجموعة كراوس والحاجري، ومجموعة مهنَّا.
15 ـ الجوابات في الإمامة: طبعت هذه الرِّسالة ضمن مجموعة
علي أبو ملحم.
16 ـ الحاسد و المحسود: طبعت هذه الرِّسالة في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
17 ـ الحجاب: طُبِعَتْ هذه الرِّسالة مع معظم مجموعات رسائل الجاحظ، وهي مجموعة هارون ومجموعة أبو ملحم ومجموعة أبو النَّصر ومجموعة مهنَّا.
18 ـ حجج النُّبُوة: طُبِعَتْ هذه الرِّسالة في مجموعات هارون وأبو ملحم
وأبو النَّصر.
19 ـ الحكمين وتصويب علي بن أبي طالب: طبعت في مجموعة علي
أبو ملحم.
20 ـ الحنين إلى الأوطان: طُبِعَتْ هذه الرِّسالة في مجموعات هارون ومهنَّا ودار الثَّقافة وقد صَدَرَتْ لأوَّل مَرَّة في كتاب عن مطبعة المنار بالقاهرة عام 1915م، بعناية طاهر الجزائري، وصدرت ببيروت عام 1982 عن دار الرائد العربي.
21 ـ الحيوان: وهو الكتاب الأضخم والأكثر شمولاً من كتب الجاحظ وله أهمِّيَّةٌ كبرى على صعدٍ مختلفةٍ، لاقى عناية معظم المهتمِّين بتحقيق تراث الجاحظ وطُبِعَ طبعات مختلفة تراوحت بَيْنَ 3 مجلدات و8 مجلدات، منها طبعة عبد السَّلام هارون الصَّادرة عن البابي الحلبي 1945م، وعن المجمع العلمي العربي ببيروت 1950م وفي القاهرة 1980م، وعن دار الجيل 1980. وكذلك طبعة فوزي عطوي الصَّادرة ما بَيْنَ بيروت ودمشق عام 1978م و1980م و1982. وهذا الكتاب هو ثاني الكتب المطبوعة للجاحظ فقد صدرت طبعته الأولى عن المطبعة الحميدية عام 1904م ثم عن دار التقدم عام 1907م. إلى جانب بعض الطبعات الأخرى.
22 ـ خلق القرآن: رسالة طبعت في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
23 ـ الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير: طبع في حلب عام 1928م عن المطبعة العلمية.
24 ـ ذمُّ أخلاق الكُتَّاب: طبعت هذه الرِّسالة اللطيفة في جلِّ مجموعات رسائل الجاحظ. فهي موجودة في مجموعات كل من هارون وأبو ملحم وأبو النصر ومهنَّا والثَّقافة ويوشع فنكل.
25 ـ الردُّ عل المشبِّهة: رسالة كلاميَّة طُبِعَتْ في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
26 ـ الرَّد على النَّصارى: طبعت هذه الرِّسالة ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم وأبو النصر ويوشع فنكل.
27 ـ رسالة إلى أبي الفرج: طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم ومهنَّا.
28 ـ سلوة الحرِّيف بمناظرة الربيع والخريف: رسالة صدرت في كتاب عن دار الرائد العربي ببيروت عام 1982، وصدرت لأوَّل مرة في
عام 1902م بيروت مضمومةً إلى رسالة أخرى مناظرة بالعنوان لأبي بكر محمد عارف المكِّي وهي: مسامرة الصيف بمفاخرة الشتاء والصيف، ولعلَّ هذه الرسالة هي أول الآثار المطبوعة للجاحظ.
29 ـ الشارب والمشروب: صدرت هذه الرسالة ضمن ثلاث مجموعات من رسائل الجاحظ هي مجموعات هارون وأبو ملحم وأبو النَّصر.
30 ـ صناعة القوَّاد: طبعت ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم وأبو النصر وعبد الأَمير مهنَّا.
31 ـ صناعة الكلام: أو في صناعة الكلام وقد أضيفت لها لفظة رسالة أيضاً طُبِعَتْ في مجموعتي هارون وأبو ملحم.
32 ـ طبقات المغنِّين: طُبِعَتْ ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.
33 ـ العباسية: طُبِعَتْ هذه الرِّسالة في مجموعتي أبو ملحم وأبو النصر.
34 ـ العثمانية: كتاب حقَّقه وشرحه عبد السلام محمد هارون وطبعه عام 1955م، وصدر في طبعة جديدة عن دار الجليل عام 1991م. وطبع ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.
35 ـ الفتيا: أو رسالة الفتيا: طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم ومهنا.
36 ـ فخر السودان على البيضان: رسالة طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم ومهنا.
37 ـ فصل ما بين العداوة والحسد: طُبِعَتْ هذه الرسالة ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم ومهنَّا والثَّقافة.
38 ـ فضل هاشم على عبد شمس: رسالة طُبِعَتْ ضمنَ مجموعتي أبو ملحم وأبو النصر.
39 ـ القيان: طُبِعَتْ هذه الرسالة الطَّريفة ضمن جلِّ مجموعات رسائل الجاحظ وهي مجموعات هارون وأبو ملحم وأبو النَّصر ومهنَّا ويوشع فنكل والثَّقافة.
40 ـ كتمان السر وحفظ اللسان: وهذه الرِّسالة قد طُبِعَتْ أيضاً ضمن معظم مجموعات رسائل الجاحظ وهي مجموعة هارون ومجموعة أبو ملحم ومجموعة كراوس والحاجري ومجموعة مهنَّا ومجموعة الثقافة.
41 ـ المحاسن والأضداد: كتابٌ جميلٌ طبع لأوَّل مرة عام 1912م في المطبعة الجميلية بالقاهرة، بتصحيح محمد أمين الخانجي، ثم عني بتحقيقه فوزي عطوي وأصدره في عام 1969م عن الشَّركة اللبنانيَّة للكتاب.
42 ـ مدحُ التُّجَّار وذمُّ عمل السلطان: طبعت هذه الرِّسالة ضمن مجموعة علي أبو ملحم.
43 ـ مدحُ النبيذ وصفةُ أصحابه: طُبِعَتْ هذه الرِّسالة ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.
44 ـ المسائل والجوابات في المعرفة: رسالة كلامية طبعت ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.
45 ـ المعاش والمعاد: رسالة في الأخلاق طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون، وأبو ملحم، وكراوس والجابري، ومهنَّا.
46 ـ المعلمين: طُبِعَتْ هذه الرسالة ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.
47 ـ مفاخرة الغلمان والجواري: طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم ومهنَّا.
48 ـ مقالة الزيدية والرافضة: طُبِعَتْ ضمن مجموعة هارون.
49 ـ مناقب الترك: طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم ومهنَّا.
50 ـ المودَّة والخلطة: طُبِعَتْ ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.
51 ـ النابتة: طُبِعَتْ هذه الرسالة ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم ومهنَّا.
52 ـ النبل والتنبل وذم الكبر: طُبِعَتْ ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.
53 ـ النساء: طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون وأبو ملحم وأبو النصر.
54 ـ نفي التشبيه: أو في (نفي التشبيه) طُبِعَتْ ضمن مجموعات هارون
وأبو ملحم ومهنَّا.
55 ـ الوكلاء: طُبِعَتْ ضمن مجموعتي هارون وأبو ملحم.





LLL








الفصل الثاني

معالم عصر الجاحظ



 الحياة الفكرية
 الحياة الاجتماعية
 الحياة السياسية


يملكُ المولى من عَبدهِ بَدَنَهُ، فأمَّا قلبه فليس لـه عليه سلطان. والسُّلطان نفسه وإِنْ مَلَكَ رِقابَ الأمَّة فالنَّاس يختلفون في جهة الطَّاعة؛ فمنهم من يُطيعُ بالرَّغبة، ومنهم من يُطيعُ بالرَّهبة، ومنهم من يطيع بالمحبَّة، ومنهم من يطيع بالديانة( ).
الجاحظ

لقد بات من الثَّابت الأكيد أنَّ الحاملَ الحضاريَّ، بكلِّ مقوَّماته وعناصره، لأيِّ مرحلةٍ تاريخيَّةٍ، هو الحاضنةُ والفاطمة لفكر أيِّ مبدعٍ ترعرع ونما في ظلال هذه المرحلة. ولذلك نجدنا مضطرين ونحن نعرض لجانب مهمٍّ من جوانب فكر الجاحظ أن نعرض لأهمِّ خصائص المرحلة التَّاريخيَّة التي أنبتته وأنمته، لأنَّ فكره كان انعكاساً خلاَّقاً بديعاً للظُّروف والمعطيات الحضاريَّة التي عاش فيها. وإن كانت فلسفته الأخلاقيَّة أكثر جوانب فكره تأثراً بهذه الحاضنة الحضاريَّة وتعبيراً عنها فإنَّ الجوانب الأخرى قد لا تقلُّ تأثراً وتعبيراً عن شجون هذه المرحلة التَّاريخيَّة وخصائصها. ولعلَّ نظرةً عجلى إلى عناوين كتب الجاحظ ورسائله وإلى طبيعة عصره الحضاريَّة تكفي لإنبائنا بمدى التَّلازم والتَّواصل بَيْنَ هذه الآثار والعصر الذي ولدت فيه. ناهيك، فيما يخصُّ بحثنا هذا، عن أنَّ نحو نصف آثاره التي أثبتناها في خاتمة الفصل السابق تدور في فلك الأخلاق؛ فلسفة ونقداً وتصويراً...
والحق أنَّ هـذه مهمَّةٌ شاقَّةٌ عسيرةٌ، وليس في مكنتنا جلوها في جزءٍ من بحثنا لأنَّها واسعة المداخل، كثيرة الأبواب، متشـابكة التُّخُوم، ليس يكفيها أضعاف ما بذلناه من الجهد ولا أضعاف الحجم الذي خصصناه به، الأمـر الذي قد يخرجنا عن موضـوعنا، ولكن ذلك لا ينفي أهميَّة هذه الخطوة ولا يقلِّل من شأنها أبداً. ودليلنا على ذلك تلك الأبحاث والكتب الكثيرة التي أفردت لمعالجة هذه المرحلة بعمومها أو لتتناول بالبحث أجزاء محدَّدةً منها. ولهذه الأسباب سنكتفي بعرضٍ وجيزٍ لمعالم عصر الجاحظ، من خلال ثلاثة جوانب تُعدُّ الأهم وهي الحياة الفكرية والحياة الاجتماعية والحياة السياسية.
الحياة الفكرية
إنَّ الازدهار الفكريَّ، على مختلف صعده ومستوياته الذي شهدته الحاضرة العبَّاسيَّة طول الفترة التي عاشها الجاحظ على وجه الخصوص، ازدهارٌ منقطعُ النَّظير في تاريخ العرب والإسلام، فقد تسارعت وتائر النُّمو وتكاملت أوجه الفاعليَّة والنَّشاط على نحوٍ يدعو إلى الدَّهشة حقًّا. لقد كانت الحاضرة العبَّاسيَّة إبَّان تلك المرحلة أشبه بخليَّة النَّحل التي لا تعرف الكَللَ ولا المللَ، ولا تجد فيها إلا ناشطاً بعملٍ وعازماً على آخر، ولتتلاقح ثمار الجهود ونتائجها وتتفاعل وتتكامل لتصبَّ في نهر الحضارة الكبير بغزارةٍ وقوَّةٍ وغنًى، وألوانٍ متعدِّدةٍ متباينةٍ من الرَّفد والعطاء؛ برَّاقة مؤتلقة، استطاعت أن تحفر في وجدان العالم بصمات جدارتها، وشرف مكانتها، ونبل أغراضها وغاياتها.
تستوقفنا من الحركة الفكريَّة في هذه المرحلة مسائل كثيرةٌ ملحَّةٌ ومهمَّةٌ، ولَعَلَّ معظمها جديرٌ بالطرح والمعالجة والنَّشر في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمَّتنا، فلا نستطيع البتَّة أن نغفل الحديث عن حرِّيَّة الفكر، ولا أن نُعرض عن نشاط التَّرجمة والتَّعريب، ولا أن نضرب صفحاً عن الحركة العلميَّة والفكريَّة التي أنبتت جيل عباقرة أمَّتنا الذين هم موضع فخرنا واعتزازنا مادامت أمَّتنا ودام أبناؤها. كما أنَّه من غير اللائق أن نتناسى تأسيس علوم اللغة العربيَّة المتعدِّدة، ولا نشأة الفرق الدِّينيَّة ولا الكثير الكثير الذي يطرق ذاكرتنا بقوَّة جدارته.
أولاً : حُريَّةُ الفكر
بلغت حريَّةُ الفكر والاعتقاد والسُّلوك في عصر الجاحظ وحدهُ مبلغاً نَدَّعي أنَّه، على نحو ما كان عليه، قليل النَّظير في تاريخ البشريَّة على إطلاقها( )، وهذه الحريَّة بحدِّ ذاتها هي الحامل الفكري المحوري لتلك الحقبة، الذي قاد حملة التَّطور والتغيُّر والحركة والنَّشاط آنئذٍ، ولعلَّ نقطةَ بدء هذه المرحلة تتمثل بتولِّي المأمون الخلافة، فعلى يديه اتَّسعت أبواب المناظرات والمناقشات، وبَيْنَ يديه كان يجتمع المفكِّرون والفقهاء على اختلافهم، ويتجاذبون أطراف الحوار، ويتَّفقون ويختلفون، ويختلفون مع المأمون ذاته ويخطِّئونه من غير خوفٍ ولا تهيُّبٍ، ويطرح عليهم المسائل ليدلي كلٌّ منهم بدلوه، ويفتح لهم باب مساءلته ومحاجاته، وكم أشرقت عليهم الشَّمس وارتفعت في كبد السَّماء وهم لا يزالون في المناقشة والمناظرة. والعيب الذي قد يكون وحده في هذا المجال المأخوذ على المأمون فالمعتصم والواثق هو محنة خلق القرآن التي كانت من كبريات مشكلات ذاك العصر، وهو وإن كان ينطلق فيما يفعل عن اعتقاده بأنَّه حرصٌ على الدِّين والإيمان، حرصٌ على العقيدة، فإنَّه أدَّى بذلك إلى نموِّ البدع والضَّلالات، وزاد في تَشَعُّب الفرق الدِّينيَّة التي كان كثيرٌ منها لا يمتُّ إلى الدِّين بصلة. «فبعد أن كانت الأمة تحت لواءٍ ناظمٍ واحدٍ، ودينٍ واحدٍ، لا تعرف غير الكتاب والسُّنَّة، اختلفت كلمتهم حتَّى أصبح الإنسان يحار في كثرة الفرق ما بَيْنَ حديثيٍّ ومعتزليٍّ وشيعيٍّ وزيديٍّ ورافضيٍّ وبكريَّةٍ وجبريَّةٍ وفضليَّةٍ وشمَّريَّةٍ ومرجئةٍ وعثمانيٍّ وخارجيٍّ ونابتةٍ وحشويَّةٍ وغاليةٍ وسميطيَّةٍ وكميليَّةٍ وسبليَّةٍ وديصانيَّةٍ وجهميَّةٍ وصوفيَّةٍ وناحبةٍ وصفريَّةٍ والأزارقة، فضلاً عن المارقة والمانيَّة والدهريَّة وأشباهها»( ).
ولكن ينبغي أن لا يعمي ذلك أبصارنا ولا بصائرنا ليقودنا إلى تجاهل محاسن هذه الحريَّة وفوائدها التي تجلَّت في تلك المرحلة... ومن هذه التَّجليَّات الجليلة أنَّك تجد المسلم والمسيحي واليهودي والمجوسي... يتحاورون بمنتهى الحرية والأريحيَّة من غير ما خوفٍ ولا تهيُّبٍ ولا حَرَجٍ. وتجدهم على اختلافهم يتكاملون ويتضافرون في العمل الواحد. ومن هذه التَّجليات أيضاً إطلاق أعنَّة الفكر والقلم ليقول المفكرون والأدباء ما يشاؤون من دون رقيب ولا محاسب، وقد استفاد الجاحظ ذاته من ذلك أيَّما استفادة، ولن يتعب القارئ كثيراً حَتَّى يكتشف ذلك في كتبه ورسائله. فقد صال وجال وفسَّر وأوَّل في القرآن والحديث وضروب الفكر والأدب والأخلاق على النَّحو الذي شاء غير مُبالٍ بأحدٍ كائناً من كان، كما أورد لنا كثيراً من آراء وأقوال وتحليلات المجوس والزَّنادقة والملاحدة وغيرهم.
ثانياً : النشاط العلمي
استطاع الأمويون أن يرسوا دعائم الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة ويشيدوا حصونها المنيعة ضدَّ الاعتداءات الخارجيَّة إن وجدت، وقد فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، لتستقرَّ الأمور العسكريَّةُ، إلى حدٍّ ما، من جهة، وليبدأ التَّفرغ للنَّظر والفكر والأدب، وقد كان ذلك من نصيب الدَّولة العباسيَّة التي أخذت الأمور عن دولة بني أميَّة جاهزةً ناهزةً، فما لبثت أن استقرت مقاليد الأمور لخلفاء بني العباس حَتَّى دبَّت في البلاد حركةٌ علميَّةٌ أخذت تتَّسع دوائرها شيئاً فشيئاً حَتَّى بلغت أوجها في مرحلة الجاحظ وما بعده بفترة لا بأس بها، والذي أنجح هذه الحركة العلميَّة هو النَّشاط التَّعليمي الباهر الذي مالت إليه النَّاس على عمومها وخصوصها، ويروي لنا المؤرخون من أخبار هذا النشاط ما يثير الدهشة حقاً( ).
وللحقِّ فإنَّنا لا نستطيع الفصل بَيْنَ النَّشاط التَّعليميِّ والحركة العلميَّة في الحاضرة العباسيَّةِ لأنَّ انتشار التَّعليم هذا الانتشار العظيم هو الذي شكَّل النَّواة الرَّئيسة للحركة العلميَّة المتمثِّلة بالنَّشاط الإبداعي والاكتشافي في مختلف صعد العلم والمعرفة، وتكميل ما بدأه الأقدمون من أممٍ أخرى.
ولقد كانت المساجد إلى جانب وظيفتها الدِّينيَّة، هي التي تقوم بمهمة منابر العلم والتَّعليم، ويمكن تشبيهها بالجامعات الحرَّة، حيث يختلف الطُّلاب إلى من يشاؤون من العلماء والفقهاء، من غير قيدٍ ولا شرطٍ، فيتعلَّم الطَّالب بذلك ما شاء أو مال إليه ووجد نفسه فيه من العلوم مهما كانت، دينيَّة أو دنيويَّة، علميَّة أو أدبيَّة، وقد كان للدَّولةِ شديدُ الأثر في تنشيط هذه الحركة وتفعيلها فقد أجرت الرَّواتب والأجور المجزية للعلماء ولكثيرٍ من الطَّلبة الفقراء في بعض الأحيان والمراحل، وأعان الدَّولةَ المركزيَّةَ على ذلك حكَّامُ الولايات والأمراء وذوي اليسار والغنى ممن طابت في نفوسهم هذه المهمَّة وسرَّهم الإسهام في الإنفاق على العلماء وطلبة العلم.

ولذلك يصحُّ تماماً ما رآه شوقي ضيف من أنَّهُ «يحسُّ كلُّ من يتعقَّب الحركة العلميَّة كأنَّ سِباقاً نشب بَيْنَ العلماء والعلم، فهم يجدُّون في طلبه وتحصيله، وهم يصارعونه صراعاً متَّصلاً يريدون أن يذلِّلوه ويقهروه في جميع الميادين، وهو صراعٌ كان يداخله شغفٌ شديدٌ به، كما كان يداخله إيمانٌ لأنَّه لن يخضع لهم إلا إذا تجرَّدوا لـه وتوفَّروا عليه وأمضوا فيه بياض النَّهار وسواد اللَّيل في غير كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، بل في حبٍّ لا يفوقه حبٌّ، وهذا الشَّغف العلميُّ الشَّديد هو الذي دفع العلماء إلى الرِّحلة من بلدٍ بعيدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ طلباً للعلم، مهما تجشَّموا في ذلك من مشاقَّ، فكان اللغويون يرحلون إلى البوادي محتملين ما فيها من شظف العيش وخشونته في سبيل جمع اللغة، وكان الفقهاء يرحلون بدورهم للتتلمذ على أئمتهم، ومثلهم العلماء المختلفون في كلِّ فرع من فروع العلم»( ).
وكثيرةٌ هي الأخبار التي تناقلتها الكتب التي تصوِّر هذا النَّهم والسَّعي في طلب العلم، ولَعَلَّكَ لا تجد كتاباً قديماً أو ترجمةً لمبدعٍ كبيرٍ إلا وجدت فيه مثل هذه الصُّورة. ومن الأخبار الجمَّة التي أوردها ياقوت الحموي نقتطف ما رواه عن أبي زيد البلخي الذي دعته نفسه وهو في عنفوان شبابه إلى الرَّحيل عن بَلْخ ودخول أرض العراق ليجثوَ بَيْنَ أيدي العلماء ويقتبس من علومهم، وليقصد الحجَّ بعدها ويظلَّ هناك ثماني سنوات طوَّفَ خلالها البلاد المتاخمة لها، والتقى بالكبار والأعيان وتتلمذ على أبي يوسف يعقوب ابن اسحاق الكندي، وحصَّل من عنده علوماً جمَّة، وتعمَّق في الفلسفة، وهجم على أسرار علم التَّنجيم والهيئة، وبرَّز في علوم الطِّبِّ والطبائع وبحث في أصول الدين( ).
ثالثاً: الترجمة والتعريب
بدأت حركة نقل تراث الأقدمين من الأمم الأخرى كالهنديَّةِ والفارسيَّة واليونانيَّةِ منذ مطالع تولِّي بني العبَّاس سدَّة الخلافة الإسلاميَّة، وقد كانت حركةً ناشطةً تسير بوتائر متسارعةٍ، الأمر الذي أوقعها في بعض العثرات التي لم يكن من اليسير الوقوف على عواقبها في المراحل الأولى منها، مثل عدم دقَّة التَّعريب والابتعاد عن الألفاظ الاصطلاحيَّة التي لم تكن قد تحدَّدت أبعاد معانيها، وكذلك نقل كتبٍ عن لغاتٍ غير لغاتها الأصليَّة الأمر الذي أفقدها شيئاً من الدقَّة والضَّبط تفاوت بتفاوت المترجم والنسخة المترجمة والموضوع...( ). وقد حدَّثنا الجاحظ ذاته عن هذه المشكلة فقال: «وقد نُقِلَتْ كتب الهند، وترجمت حكم اليونان، وحُوِّلتْ آداب الفرس، فبعضها ازداد حسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوِّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنَّهُم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفطنتهم وحكمهم، وقد نقلت هذه الكتب من أمَّةٍ إلى أمَّةٍ، ومن قرنٍ إلى قرنٍ، ومن لسانٍ إلى لسانٍ، حَتَّى انتهت إلينا، وكنَّا آخر من ورثها ونظر فيها» ( ).
وينتبه أبو عثمان إلى خصوصية بعض الموضوعات وخصوصية الأساليب التي تختلف باختلاف أصحاب الأقلام فيقول: «ثُمَّ قال بعض من ينصر الشِّعر ويحوطه ويحتجُّ له: إن التُّرجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيَّات حدوده، ولا يَقْدِرُ أن يوفيها حقوقها، ويؤدِّي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم ال****، ويجب على المجرى، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصدقها إلاَّ أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق وابن ناعمة، وابن قرَّة، وابن فهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفَّع، مثل أرسطاطاليس، ومتى كان خالد مثل أفلاطون» ( ).
ويضع شروطاً للتَّرجمة وضوابط لا بُدَّ من توافرها فيمن يعزم على الترجمة، والشروط التي وضعها الجاحظ هي عماد الشروط التي نظلُّ نرددها اليوم وكلَّ يوم بسبب سوء ما آل إليه حال الترجمة، وما نراه من تطفل على هذا الميدان، فيقول: «ولابدَّ للتُّرجمان من أن يكون بيانه في نفس التَّرجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتَّى يكون فيها سواء عليه، وكلَّما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفي بواحدٍ من هؤلاء العلماء، هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه...» ( ).
أدرك مفكِّرو عصر الجاحظ هذه الحقيقة وأسهموا بإعادة ترجمة بعض الكتب على نحوٍ أكثر دقَّةً وضبطاً واصطلاحيَّةً ورجعوا إلى الكتب في لغاتها الأصليَّة وتسارعت وتائر تقدُّم حركة التَّرجمة أكثر مما كانت عليه بكثير، حَتَّى «يخيَّل إلى الإنسان أنَّهُم لم يتركوا حينئذٍ كتاباً يونانياً، في أصله اليوناني أو في ترجمته السريانيَّةِ إلا ترجموه إلى العربيَّة، وكان الذي أذكى التَّرجمة والنَّقل حينئذٍ الأموال الضَّخمة التي كان يغدقها المتوكل وغيره من الخلفاء على المترجمين، ويكفي أن نذكر ما أهداه المتوكل إلى حنين بن اسحاق المتوفى سنة 264هـ، فإنَّه أهداه ثلاث دورٍ من دوره وحمل إليها كلَّ ما تحتاج إليه من الأثاث والفرش والآلات والكتب وأنواع السَّتائر الأنيقة وأقطعه بعض الإقطـاعات وجعل لـه راتباً شهرياً خمسة عشر ألف درهم، غير ثلاثة خدم من الرُّوم وغير ما أسبغه على أهله من الأموال والخِلَع والاقطاعات»( )، والحقُّ أن العناية بالمترجمين وإغداق الأموال والهبات عليهم لم يكن وقفاً على الخلفاء بل تجاوزهم إلى الأمراء والوزراء وذوي اليسار أيضاً. كما كانوا يجعلون بَيْنَ أيديهم «نحارير عالمين بالترجمة يترجمون بَيْنَ أيديهم وهم يتصفحون ما قاموا به».
عند هذه النُّقطة تلاقت جهود المترجمين مع نشاط حركة العلم والتَّعليم وأثمرت في المحصِّلة علماء كباراً في مختلف المجالات، راحوا يخطُّون بجهودهم الجليلة معالم الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة المشرقة التي أدَّت إلى ولادة علوم جديدة لم يسبق لها الوجود في تاريخ العلم، ولحضارتنا الفضل المحض في ولادتها وحَتَّى في تطورها، كما تابعت جهود الأقدمين من الأمم الأخرى، وأَثَّرت فيما بعد عميق الأثر في النَّهضة الأوروبيَّة الحديثة. ولم يكن الجاحظ بمنأى عن هذه التَّطوُّرات العاصفة، فقد كان يرقبها عن كثب، ويستفيد منها، بل كان أحد كبار المسهمين فيها فعلى يديه بدأت معظم علوم اللغة العربيَّة بالتَّحدد والتَّبلور، فوضع أسس علوم الفصاحة والبيان والبلاغة والمعاني.
الحياة الاجتماعية
كان تنوُّع الحياة الاجتماعيَّة وتطوُّرها بما لا يقلُّ عن غنى الحياة العلميَّة وثرائها، ولعَلَّنا لا نعدو الحقَّ إذا قلنا بأنَّ ثَمَّةَ ترابطاً وثيقاً بَيْنَ هذين الثَّرائين في التَّنوع وتسارع وتائر تنامي التَّطورات، فكيف لا تؤثِّر حريَّة الفكر في العادات والأخلاق؟ وكيف تنفصل ترجمات آثار الشُّعوب الأخرى عن التَّأثير في المجتمع الذي يطلع عليها ويجد فيها أشياء لم يألفها ولم يعتد عليها؟! وكيف لا تؤثِّر الأخلاق والعادات الاجتماعيَّة والحالة الاقتصاديَّة في الحركة العلميَّة؟! أليست شبكةً متداخلةً تداخلاً يتعذَّر معه الفصل بينها؟
إنَّ محض التَّفكير في الحديث عن الحياة الاجتماعيَّة لفترةٍ تاريخيَّةٍ محدَّدة يوحي بمجموعةٍ من المسائل التي لا يمكن تجاوزها، وحديثنا على الحياة الاجتماعيَّة في عصر الجاحظ يثير لدينا جملةً من الموضوعات المهمَّة أبرزها التَّرف الذي وصلت إليه الحاضرة العباسيَّة في تلك المرحلة وما قاد إليه من تطوُّرات وتغيُّرات على مختلف صعد الحياة الاجتماعيَّة كانتشار ضروب اللهو والمتعة والمجون... كما يضع أمامنا انصراف بعضهم في تلك الحقبة إلى الزُّهد والتَّصوف، ولا ننسى الحديث في التَّوزع الطَّبقي لمجتمع الحاضرة العباسية آنذاك، وكذلك الأوضاع الاقتصاديَّة، والزَّندقة التي انتشرت وتفشَّت كثيراً آنها، إنَّها مسائل كثيرة تستحق الوقوف عندها ولو وقفة صغيرةً سنحاول فيما يلي كشف أهم معالمها.
أولاً: طبقات المجتمع
توزَّع أفراد مجتمع الحاضرة العباسيَّةِ في عصر الجاحظ بَيْنَ ثلاث طبقات رئيسة؛ عليا ووسطى ودنيا، وهذا التوزُّع لا يختلف عن أي توزُّع طبقيٍّ في أي مجتمعٍ من المجتمعات، أو حتَّى عن أي عصرٍ من العصور، ولكن الاختلاف هو في المنتمين إلى هذه الطَّبقات الذين يتفاوتون ويتباينون من مجتمع إلى آخر، ومن عصر إلى غيره، وعلى الرَّغْمِ من ذلك، فقد وجدنا اختلافا بَيْنَ المؤرِّخين في توزيع طبقات مجتمع هذه المرحلة فذهب شوقي ضيف إلى توزيعٍ شبيهٍ بالمبدأ الذي أدرجناه وقسَّم المجتمع إلى «ثلاث طبقات أساسيَّة: طبقة عليا تشتمل على الخلفاء والوزراء والقواد والولاة ومن يلحق بهم من الأمراء وكبار رجال الدَّولة ورؤوس التَّجار وأصحاب الإقطاع من الأعيان وذوي اليسار، وطبقة وسطى تشتمل على رجال الجيش وموظفي الدَّواوين والتَّجار والصُّناع الممتازين، ثُمَّ طبقة دنيا تشتمل على العامَّة من الزرَّاع وأصحاب الحرف الصَّغيرةِ والخدم والرَّقيق، ويأتي في إثر تلك الطَّبقات أهل الذمَّة»( ).
أمَّا شارل بللا فذهب إلى أنَّ «التَّسلسل الاجتماعي في المدن المؤسسة حديثاً كالبصرة، والنَّاتج عن امتزاج مفهومين في الدِّين والجنس يحتوي على أربع طبقات أساسية:
أ ـ الفاتحون العرب ومواليهم القدامى.
ب ـ المسلمون الجدد من الأعاجم الذي اعتنقوا الإسلام.
جـ ـ غير المسلمين.
د ـ الرَّقيق.
على أن توسُّع البصرة الاقتصادي سبَّب تمازجاً اجتماعياً أدَّى إلى نشوء مجتمعٍ جديدٍ منظَّمٍ على أسسٍ مختلفةٍ، فقد غدت الثَّروة مقياس الرِّجال، ويمكننا منها تبيين أربع طبقات هي:
أ ـ الطَّبقة الارستقرطيَّة المؤلَّفة من العرب الأقحاح.
ب ـ الطَّبقة البرجوازيَّة المؤلَّفة من عناصر عربيَّة وأعجميَّة، مسلمة وغير مسلمة.
جـ ـ الشَّعب.
د ـ الرَّقيق( )».
والحق أن المستشرق الفرنسيَّ وإن أصابَ من حيث مبدأ التَّوزيع إلى حدٍّ بعيدٍ إلا أنَّهُ لم يصب عين الحقِّ في تفصيل هذه الطَّبقات، فنحن نخطِّئهُ أولاً في إفراد طبقةٍ خاصةٍ بالرَّقيق، لأنَّ الرَّقيق في الحاضرة العربيَّة الإسلاميَّة لم يكن شأنه شأن الحاضرة اليونانيَّة أو الرُّومانيَّة، وإنَّما كان للعبيد والإماء شخصيَّاتهم المستقلَّة وآراؤهم ومواقفهم التي تخوِّلنا إدراجهم، على أقلِّ تقديرٍ، ضمن الطَّبقة الدُّنيا، لا يختلفون عن أفرادها في شيءٍ، هذا إن لم تكن لهم محاسن ومزايا أكثر، ودليلنا على ذلك ما وصل إليه كثيرٌ من العبيد والجواري من مكانةٍ وأهمِّيَّةٍ في الفنون والآداب خصوصاً، والثَّقافة الواسعة والعالية التي كانت تتثقَّفُ بها الإماء، وشارل بللا ذاته يتحدَّث عن أحوال الإماء في تلك الفترة ومن كثير ما قال فيهن «إنَّ تعليمهنَّ يشمل أولاً الخطَّ والنَّحو والشِّعر والغناء مما يظهر الفرق بينهن وبَيْنَ الحرائر الجاهلات، ويكسبهن جاذبية تحسُّ بها قلوب الرِّجال، وقيل إنَّ سعة علم إحداهنَّ كانت سبباً في استدعاء المازني اللغوي إلى البلاط في بغداد، وأخرى سألها الأصمعي بأمرٍ من الرشيد فأجابت السَّائل بثقةٍ حتَّى خُيِّلَ إليه أنَّها تقرأ الجواب في كتاب»( ).
ومن ناحيةٍ ثانيةٍ فإنَّ التَّقسيم الأول لشارل بللا يخلو تماماً من الدِّقَّة وليس ثَمَّةَ ما يثبته على نحو ما قدَّمه، ولذلك نتحدَّث على التَّقسيم الثَّاني الأقرب إلى الصَّواب، ولعلَّ الخطأ الوحيد الذي وقع فيه هنا، ما عدا إفراد طبقة للرَّقيق، هو حصر الطَّبقة الأولى بالعرب الأقحاح، فإن كان ذلك في البصرة وحدها فهو صحيحٌ، وإن كان في عموم الحاضرة العبَّاسيَّة فهو خالٍ من المصداقيَّة وبعيد عن الصَّواب لأنَّ كثيراً من الولاة وذوي اليسار الكبار كانوا من غير العرب، وهذا مما بات في حكم الشَّائع والمعروف.
ومهما يكن من أمر ففي مكنتنا الخلوص إلى أنَّ المجتمع قد انقسم إلى طبقات ثلاث: الطَّبقة الأولى وهي العليا وتضمُّ السُّلطة السِّياسيَّة والعسكريَّة، بدءاً بالخلفاء فالأمراء والوزراء ثُمَّ قادة الجيوش والولاة وصولاً إلى كبار أعوان الدَّولة من أصحاب الإقطاعات ورؤوس التُّجار. والطَّبقة الثَّانية وهي الوسطى، وتضمُّ رجالات الفكر والعلم والدِّين والأدب والتُّجار وموظفي الدَّواوين ورجال الجيش والصنَّاع المهرة. وأخيرا الطبقة الدُّنيا، وتضمُّ عامَّةَ أفراد الشَّعب من صغار الكسبة والحرفيين والزرَّاع والخدم والرَّقيق. وغنيٌّ عن البيان أنَّ الطَّبقة العليا كانت تعيش سابحةً في بحرٍ من النَّعيم والتَّرف يشبه الأحلام أو يفوقها. فحاكوا الحالي من بدائع الوشي والمنمنم للبسهم، وشادوا روائع القصور والمنازل المحفوفة بالخضرة والأمواه وكلَّ ما يخطر بالبال من بواعث الجمال. وتفنَّنوا في أساليب اللهو وضروب الاستمتاع... حَتَّى حِيْكَتْ في ذلك قصصٌ نُسِبَتْ إلى هذه الحاضرة هي قصص ألف ليلة وليلة التي تصوِّر بأسلوبٍ مغرقٍ في الخيال، مبدع في التَّشويق والإثارة، رفاهيَّة هذه الطَّبقة وإنغماسها في النَّعيم واللهو وطلب اللذات ومدى يسار أحوالها.
أمَّا الطَّبقة الوسطى التي شَمَلَتْ أربابَ الفكرِ والعلم والغناء والأدب والشِّعر والدِّين والمعلمين وكثيراً من موظفي الدَّولة ورجالَ الجيش والصُّنَّاع المهرة، فقد تفاوتت أحوالهم وتباينت حَتَّى امتدت ما بَيْنَ ذوي اليسار الذين يدانون الطَّبقة العليا، وبَيْنَ الكفاية التي تكاد تُدْنِيْهِم من الطَّبقة الدُّنيا، وقد ارتبط ذلك بمدى ما يحقِّقونه من النَّجاح أو ينالهم من الإخفاق في التَّقرُّب من السُّلطة أو النَّجاح في ميادينهم.
«ومن هذه الطَّبقة أوساط الصنَّاع وخاصَّةً ممن كانوا يقومون على أثاث المساكن والأزياء والطَّعام، ويدخل في الأثاث صناعة البسط والسَّجاجيد والنَّمارق والمقاعد والتُّخوت والوسائد. وكان مركز الصِّناعات الأسواق مثلها مثل التِّجارات، وكانوا، معظمهم، يتناولون غداءهم بمطاعم في أسواقهم أو دكاكينهم، وكانوا لا يتركونها إلا في المساء... وكان هناك جهابذةٌ كثيرون وإذا عرفنا أنَّهُ كان يسكن بغداد بضعة ملايين في تقدير بعض المؤرِّخين عرفنا كثرة ما كان بها من التُّجار والصُّناع، ونجد من كبارهم من كان يربح في صفقةٍ واحدةٍ ألوف الدَّنانير، أما أوساطهم فقلَّما كان يزيد رأس أموالهم في تجاراتهم على ثلاثة آلاف دينار( ). وكان النَّاس يودعون أموالهم لدى بعض التُّجار الأمناء للاتجار لهم بها مناصفةً في الأرباح. ونستطيع أن نتصوَّر مستوى المعيشة في بغداد مما يُروى أنَّ الأسرة كان يكفيها شهريًّا خمسة وعشرون درهماً، وكأنَّ نفقات اليوم المتوسطة لا تحتاج إلى أكثر من درهمٍ واحدٍ. وقد لا يصوُّر ذلك حياة الطَّبقة الوسطى تماماً، ولكنَّه يشير إلى أنَّ نفقاتها لم تكن كبيرةً، وكان يعدُّ من يقتني سبعمئة دينارٍ صاحب ثروةٍ كبيرةٍ، وكثير من الصنَّاع والتُّجار لم تكن ثرواتهم تزيد على ذلك، وهم الذين كانوا يندمجون في الطَّبقة الوسطى من الأمَّة»( ).
أمَّا الطَّبقة الدُّنيا التي ضمَّت عامَّة أفراد الشَّعب فعلى عاتقها كانت تقوم أعباء العمل والإنتاج بمختلف صنوفه بدءاً من الزِّراعة مروراً بالصِّناعات الصَّغيرة وصولاً إلى الخدمة في كنف الأمراء والوزراء والأثرياء.
قد لا يكون للتَّفاوت في فُحْشِ الثَّراء عظيم الأثر وواضحه في تفاوت أنماط المعيشة ونوعيَّة متطلَّبات أصحابها ولا في كيفيَّة إرواء هذه الحاجات أو تلبية الرَّغبات، ولكن ذلك أمرٌ جدُّ مختلفٍ بالنِّسبة للطَّبقة الدُّنيا على وجه الخصوص، فصحيحٌ أنَّ هذه الطَّبقة كلَّها تعيش في حدود الكفاف إلا أنَّها متفاوتةٌ في مستويات المعيشة، تَبْعاً للتَّباين في مستوى الدُّخول ونوعيَّة موارد الرِّزق ومصادرها، ولا نريد أن نطيل الحديث في هذه الطَّبقة لأنَّه يكفينا أن نشير إلى أنَّها كانت تعيش الكفاف الذي يتراوح ما بَيْنَ تمام الكفاية الدُّنيا وفضول القليل من الدَّخل، وبَيْنَ الإدقاع والضَّنك والبؤس والشَّقاء، وهذا مما شكَّل أحد العوامل الرَّئيسة في دفع أفراد هذه الطَّبقة إلى النِّقمة والتَّمرد حيناً كان من ثورة الزنج والقرامطة.
ثانياً: البذخ والترف
ألمحنا في مفتتح هذه الفقرة إلى تفنُّن أفراد الطَّبقة العليا، وخاصَّةً الخلفاء والأمراء والوزراء، في ضروب البذخ والتَّرفِ وفي مختلف مناحي الحياة وأنماط المعيشة، والسَّرَفَ في إغداق الأموال على ذلك ودواعيه، ولعلَّ أكثر من تجسَّد لديه ذلك وبه كان المُبْتَدَى هو المتوكل الذي مات والجاحظ في سنةٍ واحدةٍ.
إنَّ الحديث في البذخ والتَّرف المسرف إلى حدٍّ لا يطيقه الفقير ويأنفه متوسِّط الحال ويشمئزُّ منه العاقل المفكِّر، أمرٌ يطول بنا جداًّ لأنَّ الأخبار في هذا الموضوع جدُّ كثيرةٍ يضيق المجال عن سردها أو عرض معظمها، ولذلك سنكتفي بأنموذجٍ واحدٍ نستجلي من خلاله مدى ما وصل إليه المبذِّرون الكبار من إسرافٍ مبالغٍ به في البذخ والنَّفج وحبِّ المباهاة.
أقام الخليفة المتوكِّل حفلاً بمناسبة إعذار (ختان) ابنه المعتز، فأمر وزيره الفتح بن خاقان، أن يلتمس في خزائن الفرش بساطاً لإيوان قصره (البركوار) الذي أقام فيه الإعذار، وأن يكون في طوله وعرضه، وكان طوله مئة ذراعٍ وعرضه خمسين. ووجد طلبه: بساطاً مُذَهَّباً مُبَطَّناً، يقال إنَّ التُّجار قَوَّموه بعشرة آلاف دينار. وبُسِطَ في الإيوان ووُضِعَ للمتوكِّل في صدره سرير، مُدَّ بَيْنَ يديه أربعة آلافَ مرفعٍ (كرسيٍّ) مُذَهَّبَةٍ مُرَصَّعَةٍ بالجواهر، وعليها تماثيل العنبر والنَّدِّ والكافور، ومُدَّت الموائد وتغدَّى المتوكل والنَّاس، وجلس على السَّرير وأحضر الأمراء والقوَّاد والنُّدماء فَأُجْلِسُوا على مراتبهم، وجيء بأوعيةٍ مملوءةٍ دراهم ودنانير نصفين، صُبَّتْ فيها حَتَّى ارتفعت. ووزَّع الغلمانُ الشَّرابَ. ودعوا كلَّ من يشرب إلى أن يأخذ ثلاث حفنات أو ما حملت يداه من ذلك المال. وكان النَّاس يجمعونه في أكمامهم الواسعة ويخرجون إلى غلمانهم فيدفعونه إليهم ويعودون إلى مجالسهم، وكلَّما خلا وعاءٌ مما فيه أتى الفرَّاشون بما يملؤه من الدَّنانير والدَّراهم حتَّى يعود كما كان. وخلع على سائر من حضر ثلاث خلع، وحُمِلوا عند انصرافهم من الحفل على الخيل المطهَّمة، وأعتق المتوكل ألف رقبة، وأمر لكلِّ عتيقٍ بمئة درهمٍ وثلاثة أثوابٍ، وكان في صحن الدَّار بَيْنَ يدي الإيوان أربعمئة جاريةٍ بَيْنَ أيديهن أطباق الفواكه من كلِّ صنفٍ، وخمسة آلاف باقة نرجسٍ، وعشر آلاف باقة بنفسجٍ... ترفٌ لا يماثله ترف! ونثر المتوكل على هؤلاء الجواري وخدم الدَّار والحاشية عشرين مليون درهم، ونثرت زوجه قبيحة أم المعتز مليون درهمٍ على المزيِّن ومن كانوا في جانبه من الغلمان وبعض الجنود وقهارمة الدَّار والخدم الخاصَّة من البيضان والسُّودان، مالٌ ينفق ويبعثر من دون حسابٍ، وكأنَّما أمسك به سفهاءٌ، لا يعرفون حقوقاً لرعيَّةٍ ولا يقدِّرون مسؤوليَّةً. وَحَضَرَ الحفل كثيرٌ من النُّدماء في مقدِّمتهم ابن حمدون وابن نجم، وكثيرٌ من الشُّعراء في مقدمتهم الحسين بن الضَّحَّاك وعلي بن الجهم، وكثيرٌ من المغنِّين في مقدِّمتهم عمرو بن بانة وابن المكي وعثعث وسليمان الطبَّال وصالح الدَّفَّاف وزنام الزَّامر، وكثيرٌ من المغنِّيات في مقدمتهمَّ عَريب وبدعة جاريتها وشارية وجواريها. ويقال إنَّه أنفق على هذا الإعذار أو الختان ستة وثمانون مليوناً من الدَّراهم!!( ) هذا في الوقت الذي كان فيه متوسِّط إنفاق الأسرة يقلُّ عن الدِّرهم الواحد في اليوم الواحد.
هذه واحدةٌ من قصصٍ لا حدود لضفافها، ولا حوافَّ لإفراطها، ولذلك لن نمضي في الحديث عن أمثالها سيَّان أفي إشادة القصور المفعمة الفخامة أم الملابس الفاحشة الوثار أم في المآكل والمشارب الغريبة التَّطرُّف فالقصَّة السَّالفة الذِّكر وحدها فيها الكثير مِمَّا يدل على مبلغ المبالغة في كلِّ ذلك وغيره مما كانت تعيشه السُّلطة ورجالاتها الكبار.
ثالثا : اللهو والمجون
مما يتَّصلُ بما سبق ويُلحق به الحديث على ما وصل إليه المجتمع من حالات اللهو والفسق والمجون والجواري والغناء وغير ذلك مما يدور في فلكه. ولقد أفاض الجاحظ ذاته في الحديث عن ذلك كلِّه.
أما اللهو فله ضروبٌ كثيرةٌ جلُّها مستحدثٌ في الحاضرة العربيَّة الإسلاميَّة، وهي من دواعي التَّرف التي تنشأ مع ازدهار العمران وتطوره كما يقول ابن خلدون، ولعلَّها تغدو من ضروريات الحياة المترفة، ولذلك لن نستفيض في عرضها ونقدها ونكتفي بالإشارة إلى أنواعها وخاصَّةً أيضاً أننا نفهمها في إطار مرجعيَّة تاريخيَّة محدَّدة لتفسير آلية التَّطور الحضاريِّ وتبلور العادات والأنماط الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة والنَّفسيَّة للتَّمدُّن والتَّحضُّر.
نَشَأَ في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء والوزراء فنٌّ جديدٌ على الحاضرة العربيَّة الإسلاميَّة ـ لَعَلَّهُ لم يُعْرَفْ من قبل ـ هو فنُّ المحاكاة بالتَّمثيل الهزلي وارتبط بهما فنٌّ آخر من فنون التَّسلية قريبٌ من فنون الخِفَّة وقد حدَّثنا أبو عثمان عن ذلك فقال: «وفي النَّاس من يحرِّك أذنيه من بَيْنَ سائر جسده، وربَّما حرَّك إحداهما قبل الأخرى، ومنهم من يحرِّك شعر رأسه، كما أنَّ منهم من يبكي إذا شاء، ويضحك إذا شاء.
وخبَّرني بعضهم أنَّه رأى من يبكي بإحدى عينيه، وبالتي يقترحها عليه الغير، وحكى المكِّي عن جَوَارٍ باليمن لهنَّ قرون مضفورة من شعر رؤوسهن، وأنَّ إحداهن تلعب وترقص على إيقاعٍ موزونٍ، ثُمَّ تُشخِصُ قرناً من تلك القرون، ثُمَّ تلعب وترقص، ثمَّ تُشخِصُ من تلك الضَّفائر المرصَّعة واحدةً بعد أخرى، حتَّى تنتصب كأنَّهَا قرونٌ أوابدٌ في رأسها.
ويحاول الجاحظ تحليل هذا الفعل بوصفه ظاهرةً طبيعيَّةً أو علميَّةً فيقول: «فقلت له: فلعلَّ التَّضفير والتَّرصيع أن يكون شديد الفتل ببعض الغسل والتلبيد،

فإذا أخرجته بالحركة التي تثبتها في أصل تلك الضفيرة شخصت، فلم أره ذهب إلى ذلك، ورأيته يحقِّقه ويستشهد بأخيه»( ).
ومن ضروب اللهو الكثيرة التي حدَّثنا الجاحظ عنها أيضاً، الاجتماع لمشاهدة نطاح الكباش ومناقرة الدِّيَكَةِ وتواثب السِّباع والفيلة وغير ذلك من الحيوانات المدرَّبة وسباق الخيل واللعب بالصَّولجان. وكذلك الشطرنج والنرد والقمار والرهان، والخروج للصيد والقنص، من دون أن يفارقهم الولع بالمرح والتندُّر في كلِّ ذلك، ومن طريف الأخبار في هذا المجال أنَّه «خرج المهدي إلى الصَّيد ومعه علي بن سليمان وأبو دلامة، فَرَمَى المهديُّ ظبياً فصاده، ورمى علي بن سليمان فاصطاد كلباً، فقال أبو دلامة( ):
قَدْ رَمَى المَهْدِيُّ ظَبْياً
شقَّ بِالسَّهْمِ فُؤَادَهُ

وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ
رَمَى كَلباً فَصَادَهُ

فَهَنِيئاً لَهُمَا كُلُّ
امرِئٍ يَأْكُلُ زَادَهُ

أما المجون فقد كانت البساتين حول سامرَّاء وبغداد تمتلئ بحانات الخمر والسَّماع، وكان الشُّعراء والنَّاس، يختلفون إليها، وقد يختلفون بأنفسهم إلى زاوية في بستان ويتَّخذون منها لأنفسهم حانةً، يشربون فيها على أزهار الرِّياض وأبصارهم تتملَّى بجمال الجواري، وآذانهم تستمتع بالسَّماع، وكثيراً ما صوَّر الشُّعراء هذا الإمتاع المضاعف بجمال الطَّبيعة وجمال المرأة ونشوة الخمر من مثل قول البحتري( ):
إِشْرَبْ عَلَى زَهْرِ الرِّياضِ يَشُوبُهُ


زَهْرُ الخُدُودِ وَزَهْرَةُ الصَّهْبَاءِ

مِنْ قَهْوَةٍ تُنْسي الهُمُومَ وَتَبْعَثُ

الشَّوْقَ الَّذِي قَدْ ضَلَّ فِي الأَحْشَاءِ

ولم يتوقَّف المجون عند هذا الحدِّ بل تجاوزته الخاصَّة والعامَّة إلى الافتنان فيه وفي أنواعه حَتَّى وَصَلَ إلى حدٍّ جدِّ ممجوج ونابٍ عن الذَّوق الأخلاقيِّ، يكاد، فيما يصوِّر الجاحظ وغيره ـ لا يخلو منه شارع، وما أكثر الأشعار والنكت والأخبار المفرطة في الإباحيَّة الجنسيَّة التي تصوِّر هذا الوضع ولا يسمح بنا المقام البتة إلى عرض بعضها. وطفح الكيل أكثر باستشراء آفة حبِّ الغلمان حبَّا جنسيَّاً، وقد أفرد الجاحظ رسالة خاصة للحديث عن الفرق بَيْنَ الغلمان والجواري وخاصَّةً من النَّاحية الجنسيَّة وأتخمها بالنُّكت المتطرِّفة في إباحيتها وملأها بمزايا الغلمان المُرْدِ ومفاخرة المغرمين بهم بهذه المزايا، ولما تولَّى المهتدي الخلافة «همَّ بحمل النَّاس على الحقِّ والأخلاق، فحرَّم الشَّراب ونَهَى عن القيان والسَّماع إليهن، غير أن العامَّة والخاصَّة استطالوا حكمه واحتال عليه الأتراك حتَّى قتلوه بعد سنةٍٍ واحدةٍ من خلافته. ولما جاء المتَّقي ليصنع صنيعه بأواخر ذلك العصر لقي المصير ذاته»( ).
إنَّ الحديث في الحياة الاجتماعيَّة في هذا العصر أمرٌ يطول بنا، فما زلنا حَتَّى الآن لم نتحدَّث عن الجواري والغناء والأخلاق والزُّهد والتَّصوف والزَّندقة والحياة الدِّينيَّة، وكلُّها أمورٌ مترابطةٌ متلازمةٌ، وإن كنَّا قد وقفنا على قبائح هذا العصر فإننا لا نعني خلوَّه من المحاسن، ولكن الأعم والأشمل هو سيطرة روح التَّحضُّر والتَّمدُّن والانخراط بعجلة الحياة السَّريعة المتغيرات، الكثيرة المعطيات، ولا شكَّ في أنَّ للازدهار الحضاري بمختلف حوامله الفكريَّة والعلميَّة والفنيَّة ضريبةً لا بُدَّ من دفعها، ولو قارنَّا سالف حضارتنا في عزِّ أمجادها مع الحضارة الأوروبيَّة والحضارة الأمريكيَّة المعاصرتين لما وجدنا أيَّ فرقٍ يذكر من النَّواحي الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والأدبيَّة والفنيَّة إلا اللهم فارق الزَّمن ودلالاته وخصوصيَّة المجتمع/ الأمَّة. ولا نعارض في أن تكون هذه المقارنة ضرباً من تسويغ هذا النُّشوز والانحراف لا دفاعاً عنه، فالحرام حرام ولو فعله كلُّ الأنام، والخطأ خطأ في أيِّ زمانٍ ومكانٍ، وتسويغ الخطأ أو فرضه بسلطة أو بأخرى ليس يعني تحوَّله إلى حقٍّ أو صوابٍ.
الحياة السياسية
السِّياسة والآداب والفنون والعلوم والعادات والسُّلوكات الاجتماعيَّة، كلُّها أوجه موشورٍ واحدٍ هو المجتمع، كلُّ وجهٍ يريك جانباً منه. وبدهيٌّ لذلك أنَّ كلَّ تغيُّرٍ أو تطوُّرٍ في أيِّ واحدٍ من هذه الأوجه يقود إلى تغيُّرٍ في الأوجه الأخرى، ولقد مرَّ المجتمع في المرحلة التي نتحدَّث عليها، بتغيُّرات عاصفةٍ في مختلف مجالات الحياة وأوجه النَّشاط فيها، ولذلك كان لا بُدَّ أن تطرأ على الحياة السِّياسيَّة جملةٌ من التَّغيُّرات التي لا نعدُّها نتيجةً فَقَطْ، ولكِنَّها بمنـزلة المقدِّمة والنَّتيجة في آن معاً، من حيث تأثُّرها وتأثيرها في الجوانب الأخرى.
ومن الأحداث السِّياسيَّة التي حَفَلَ بها عصر الجاحظ وما تلاه من الحقبة ذاتها: سَـيطرةُ التُّرك على مقاليد السُّلطة، وتفاقم النَّـزَعَاتِ الشُّعوبيَّة، وبدء تدهور الخلافة الإسلاميَّة، وبعض الثَّورات والتَّمرُّدات؛ مثل ثـورة الزنج وثورة القرامطة اللتين بدأت إرهاصاتهما بالظهور مع أيَّام الجاحظ ولكنَّهُ لم يشهدهما لوقوعهما بعد وفاته.
أولاً: سيطرة الترك
نال الفرس في العصر العبَّاسيِّ الأوَّل قِسطاً وافراً من السُّلطة والحكم ولكنَّ هذا الحال لم يدم طويلاً إذ سرعان ما نكبهم بنو العبَّاس نكبات مُرَّة أشهرها نكبة البرامكة. ومع ازدياد نقمتهم ونزعتهم الشعوبية وتطلُّعهم إلى إحياء الدَّولة السَّاسانية محلَّ العربيَّة رَجَحَ في تفكير المعتصم الميل إلى الاعتماد على عنصرٍ جديدٍ في الحروب وتدعيم سلطته بغير الفرس فما كان منه إلا الاستكثار من استقدام الموالي الأتراك حَتَّى ضاقت بهم شوارع بغداد، «وكان جمهور هذا الرَّقيق بدواً جُفاة يركبون الخيل ويركضونها في الشَّوارع فتطأ بعض الشيوخ والأطفال والنِّساء. مما اضطر المعتصم أن يبني لهم مدينة سامراء شمالي بغداد وانتقل معهم إليها، وظلَّت حاضرةً للخلفاء حَتَّى أواخر عهد المعتمد سنة 276 للهجرة»( ).

وباعتماد المعتصم على الأتراك جنداً أساسيين للسُّلطة فَتَحَ أمامهم باب قيادة دفَّة السُّلطة والتَّحكُّم بها، فصار منهم الولاة والممسكون بزمام الأمور الإداريَّة والعسكريَّة ولَعَلَّ هذا ذاته هو الذي مَثَّلَ مفتاح تدهور السُّلطة العربيَّة وبدء انهيار الخلافة ومركزيتها، إذ لم يكن الأتراك كالفرس في حضارتهم ومدنيَّتهم التي أسهموا من خلالها في العصر العباسي الأول بنفـخ روحٍ حضاريَّةٍ جديدةٍ في الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة وإذكائها بالثَّقافات الأجنبيَّة المختلفة كالهنديَّة والفارسيَّة واليونانيَّة، أما الأتراك فقد كانوا خلاف ذلك تماماً، ولقد خَصَّهم الجاحظ بوصفهم ظاهرةً من ظواهر عصره برسالة خاصَّة سمَّاها: «مناقب التُّرك»، يُبَيِّنُ فيها مناقبهم وما يفتخرون به، ولكنَّه لم يبالغ في مدحهم وتقريظهم تخوُّفاً من تسيدهم، بل على العكس فقد أبان أنَّهُم غير أهل حضارة فقال: «والتُّرْكُ أَصْحَابُ عَمَدٍ وسُكَّانُ فَيَافٍ وأَرْبابُ مَوَاشٍ، وهُمْ أَعْرَابُ العَجَمِ، كما أنَّ هذيلاً أَكْرَادُ العَرَبِ. فَحِيْنَ لَمْ تَشْغَلْهُمُ الصِّناعاتُ، والتِّجاراتُ، والطِّبُّ، والفِلاحَةُ، والْهَنْدَسَةُ؛ ولا غَرْسٌ ولا بُنْيَانٌ، ولا شَقُّ أَنْهَارٍ، ولا جِبَايَةُ غَلاَّتٍ، وَلَمْ يَكُنْ هَمُّهُم غَيْرَ الغَزْوِ والغَارَةِ والصَّيْدِ وَرُكُوْبِ الْخَيْلِ، وَمُقَارَعَةُ الأَبْطَالِ وَطَلَبِ الغَنَائِمِ وَتَدْوِيْخِ البُلْدَانِ، وَكَانَتْ هِمَمُهُم إلى ذَلكَ مَصْرُوفَةً، فَصَارُوا فِي الْحَرْبِ كَاليُوْنَانِيِّيْنَ فِي الْحِكْمَةِ، وَأَهْلِ الصِّيْنِ في الصِّنَاعَات، وَكَآلِ ساسانَ فِي الْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ»( ).
ثانياً : الشُّعوبيَّة
«ظلَّت في هذا العصرِ نيرانُ الشُّعوبيَّةِ مستعرةً على نحو ما كانت مسـتعرةً في العصر العبَّاسيِّ الأوَّل، إذ مَضَى كثيرون يشيدون بفضائل الشُّعوبِ القَدِيْمَةِ وَحَضَارَاتِها ومدنيَّتِها، وفي مقدِّمتها الفرس بسياساتهم وآدابهم، والرُّوم بعلومهم وفلسفاتهم، والهند بسحرها ومعارفها الرِّياضيَّة وغير الرِّياضيَّة، وانضمَّ إلى هذه الدَّعوة كثيرون من أبناء الشُّعوب الأخرى؛ من النَّبْطِ والسِّريان وغيرهما. وكأنما ذَهَبَتْ أدراج الريَّاح مناداة الإسلام بِهَدْمِ الفَوَارِقِ العصبيَّة بَيْنَ القبائل والفوارق الجنسيَّة بَيْنَ الشُّعوب، وكأنَّما كان هؤلاء الشُّعوبيُّون يبتغون أن يُحدثوا صدعاً لا يلتئم ولا يمكن رأبه بين أفراد الأمَّة»( ).

وبغضِّ النَّظر عن دعاوى هؤلاء وأساليبهم فقد كان لهم عظيمُ الأثر في نفس الجاحظ الأمر الذي انعكس في أدبه وظهر في معظم كتبه، فانبرى للدِّفاع عن العروبة والإسلام والذَّود عن حياضهما بكلِّ ما أوتي من مَلَكَاتٍ ومواهب إبداعيَّةٍ، وبراعة في النِّقاش والجدال، وهو وإن لم يُفْرِدْ كتاباً خاصًّا بالمضمون والعنوان لهذا الغرض فإنَّك واجدٌ ذلك في كلِّ كتبه وآثاره، وفي كلِّ نَفَسٍ من أنفاسه، ولَعَلَّنا لا نبالغ إذا قلنا إنَّ ابتداعهُ الحديث في البلاغة الفصاحة والبيان كان وجهاً من أوجه الرَّدِّ على الشُّعوبيَّة ودحض ادَّعاءاتها واتهاماتها... ناهيك عن الفصول الكثيرة التي ملأت آثاره المخصوصة لدحض مزاعم الشُّعوبية وادعاءاتها ضد العرب.
ثالثا: أحداث مختلفة
حَدَثَتْ في عصر الجاحظ عدَّة تَمَرُّداتٍ وثوراتٍ في أصقاع مختلفة من الدَّولة العباسيَّة نذكر منها ثورة محمد بن البعيث في أذربيجان سنة 234هـ/848م، وثورة البجَّة في شمالي السُّودان سنة 241هـ/854م على والي مصر وامتناعها عن دفع الخراج. وفي هذه المرحلة بدأت أيضاً ثورة الزنج. ولا ننسى أخيراً أن نذكر أنَّه قد تعاقب تسعةٌ من الخلفاء على السُّلطة طيلة حياة الجاحظ، كان المتوكِّل آخرهم وقد مات والجاحظ في عامٍ واحدٍ. وقد تفاوتت خصائص هؤلاء التِّسعة تفاوتاً عظيماً ما بَيْنَ الشدَّة والضَّعف، والإيمان والحرص على الدِّين والفسق والمجون والفجور، وما بَيْنَ النـزوع العربي وإطلاق يد الأجانب في السُّلطة، فقد ولد أبو عثمان إبان خلافة المنصور الذي توفي سنة 158هـ/775م، فعقبه المهدي وبعده الهادي فالرَّشيد ثُمَّ الأمين والمأمون وبعده المعتصم وبعد المعتصم جاء الواثق وأخيراً المتوكِّل. وأوَّل اتِّصال الجاحظ بالخلفاء كان بالمأمون الذي بَدَأَ معه مجده وعزَّه الذي لم ينته إلا مع المتوكِّل الذي غيَّر المسار ولكن الجاحظ كان قد ناهز السَّبعين مع أوائل خلافته وقد دبت الأمراض به، وتشاء الأقدار أن يموتا في عامٍ واحدٍ، هو عام 255هـ/869م.

خاتمة
صحيحٌ أنَّ الأخلاق سلوكاتٌ فرديَّةٌ في المحصِّلة إلا أنَّها أيضاً خلاصة القيم التي يحملها المجتمع ويتبناها، وهي في الوقت ذاته واحدةٌ من نتائج العلاقات القائمة في هذا المجتمع أَو ذاك في مرحلة زمنيَّة معينة. وهذا يعني أنَّهُ من المنطقيِّ تماماً أن تتغيَّر المنظومة القيميَّةُ الحاملةُ للمجتمع والتي يحملها المجتمع تبعاً للظُّروف المرحليَّة والتَّاريخيَّة التي يعيشها المجتمع بمختلف حواملها الفكريَّة والعلميَّة والسِّياسيَّة والاجتماعيَّة...
هناك أخلاقٌ مطلقةٌ تعلو الزَّمان والمكان كما قال كانت، وهذه حقيقةٌ فوق الشَّكِّ عند كثيرٍ من المفكِّرين والفلاسفة. ولكن أن تكون هذه الأخلاق مطلقةً لا يعني أنَّها سلوكٌ مطلقٌ أيضاً وإنَّما مطلقيَّتها تكون من حيث كونها قيماً لا من حيث هي سلوكات واقعيَّة. السُّلوكات الواقعيَّة هي التي تتغير تبعاً للظروف والمعطيات المرحليَّة والتاريخيَّة التي يمرُّ بها المجتمع.
في الحالين كليهما نحن أمام مهمة المفكر والفيلسوف التي لا تنفصل عن المعطيات والشروط والظروف التي تحتضنه وتلعب دورها التأثيري في فكره، ومن هنا تنبع أهميَّة الوقوف على معالم المرحلة التاريخيَّة التي عاشها الفيلسوف أَو المفكر للوقوف على صلة فكره بهذا الواقع ومدى تعبيره عنه، وكيف كان هذا التَّعبير: هل هو تصويريٌّ أم نقديٌّ أم تجاوزيٌّ أم غير ذلك؟ وسنلاحظ كيف كانت الفلسفة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة صدى لعصر الجاحظ ومنظومته القيميَّة بمختلف حواملها من حيث تحديده مفهوم الأخلاق وتصويرها ونقدها.




LLL








الفصل الثالث


أصل القيمة الأخلاقية


 مصدر القيمة الأخلاقية
 الخلق بَيْنَ السجية والروية
 ضرورة الشر



من لم يعلم أنَّ فوقه ناقماً عليه، وأنَّ لـه منتقماً لنفسه من نفسه، أو مقتضياً منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطَّبيعة ودواعي الشَّهوة طبعاً لا يمتنع معه، وواجباً لا يستطيع غيره( ).
الجاحظ

لَعَلَّنا لا نبتعدُ عن الصَّواب إذا نحن صدَّرنا مبحث القيم الأخلاقيَّة عند أبي عثمان الجاحظ بتناول مصدر القيم الأخلاقيَّة، وذلك لأكثر من سببٍ وباعثٍ، منها ما هو عامٌّ ومنها ما هو خاصٌّ، أما العامُّ فهو أن مضمون هذا العنوان يشغل بحدِّ ذاته منـزلةً مهمَّةً وأساسيَّةًً في النَّظريَّة الأخلاقيَّة على عمومها وخصوصها:
على عمومها لأنَّ القيم الأخلاقيَّة تتحدَّد في الأغلب الأعم، إن لم يكن دائماً، باستنادها إلى الأرضيَّة الفكريَّة التي يستند إليها المفكر أَو الفيلسوف في تحديد مصدر القيم الأخلاقيَّة أَو أصل هذه القيم، هذا الأصل أَو المصدر الذي قد يكون تبعاً للمفكر إمَّا إلهيًّا أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو طبيعيًّا أَو غير ذلك...
وعلى خصوصها لأنَّ أيَّة نظريَّة أخلاقيَّة لا تكون نظريَّة متكاملةً ما لم تقم بتحديد مصدر القيمة الأخلاقية التي تدور في فلكها هذه النَّظرية، بل على ضوئها يمكن فهم النَّظرية الأخلاقية وتفسيرها بمختلف أبعادها ومضامينها. على أنَّ تحديد هذا الأصل أَو المصدر قد يكون مضمراً وقد يكون صريحاً، فإذا كان مضمراً أمكن التماس طبيعته أَو الكشف عنها من خلال سياق عرض النَّظرية الأخلاقيَّة ومناقشتها، وإن كان التَّحديد صريحاً كان للتَّصريح غايةٌ محدَّدةٌ في الأغلب الأعم.
أما الباعث الخاص على تصدير البحث في نظرية الجاحظ الأخلاقيَّة بنظريَّته في أصل القيمة الأخلاقيَّة فليس يندُّ عما سبق، إنَّهُ في حقيقة الأمر متمثِّلٌ في مدى إسهامه في الكشف عن هذه النَّظريَّة، وكشف ما يمكن أن يكون فيها من غوامض وملتبسات، وسد ما يمكن أن يصادفنا من ثغرات، وكذلك تيسير الفهم والتَّفسير، لأنَّ معرفة مصدر القيم الأخلاقيَّة هو في حقيقته معرفة للنبع الذي تنهل منه مُثلُها وتحدد وفقه حقائقها ومبادئها.
في مصدر القيمة الأخلاقية
تختلف اتِّجاهات تحديد طبيعة مصدر القيم الأخلاقيَّة تَبعاً للزَّمان والمكان والعقائديَّة أو الأيديولوجيا التي ينتمي إليها الباحث أو المفكر، ولعلَّها ترتبط أيضاً بتجربته الشَّخصيَّة والنَّفسيَّة وقدرته على التَّحليل والرَّبط والتَّركيب، ولذلك نجدنا أمام كثيرٍ من الأفكار المتباينة والمختلفة التي قد لا نستطيع حصرها ضمن أُطرٍ واضحةٍ أو اتِّجاهاتٍ محدَّدةٍ.
وعلى أيِّ حال هناك العديد من اتِّجاهات تحديد مصدر القيمة الأخلاقيَّة، ومن أبرز هذه الاتِّجاهات:
ـ الاتجاه الإلهي: وهو الاتجاه الذي يرى أنَّ الله هو مصدر القيم الأخلاقيَّة. بمعنى أنَّ القيم الأخلاقيَّة تستمدُّ إلزامها وقوَّتها وحقيقتها وطبيعتها من الله. وهذا الاتجاه في عمومه اتجاهٌ دينيٌّ وتندرج تحت إطاره بعض الاتجاهات المثاليَّة التي تقترب في فهمها لله من المفهوم الديني.
ـ الاتجاه الاجتماعي: وهو الذي يجعل المجتمع مصدراً للقيمة الأخلاقيَّة، فما يتواضع عليه المجتمع على أنَّهُ قيمةٌ أخلاقيَّةٌ يكون قيمةً أخلاقيَّةً لدى هذا المجتمع. وهذا يعني بالضَّرورة أنَّ لكلٍّ مجتمعٍ قيمه الأخلاقيَّةُ التي تخصُّه دون سواه من المجتمعات، وفي هذا ما يفسِّر لنا الاختلافات القيميَّة القائمة بَيْنَ مجتمع وآخر.
ـ الاتجاه الطبيعي: هو الاتِّجاه الذي يرى أنَّ مصدر القيم الأخلاقيَّة هو التَّطورية الطبيعيَّة القائمة على الاصطفاء الطَّبيعي ونظريَّة الصِّراع من أجل البقاء أَو الوجود... فالإنسان في تطوره واصطفائيته الطبيعيَّة يكوِّن منظوماته الأخلاقيَّة وقيمه التي يمنحها من خلال هذه التطورية والاصطفائيَّة ما يكفي من الإلزام والقوَّة ليحمي ذاته ويحدد علاقاته مع الآخرين.
ـ الاتجاه النَّفسي: هو الاتجاه الذي يرى أنَّ مصدر القيم الأخلاقيَّة في طبيعتها وقوَّتها وإلزامها هو البنية النفسيَّة، هذا الاتجاه أقرب إلى الفرديَّة لأنَّهُ يجعل مصدر القيمة الأخلاقيَّة شخصيًّا أَو فرديًّا أَو ذاتيًّا بالمعنى الأكثر دقَّة، ومثل هذا الاتجاه هو ما تنادي به الاتجاهات ذاتية النَّـزعة عامَّة.
ـ الاتجاه الاقتصادي: هو الاتِّجاه الذي يرى أنَّ البنية الاقتصاديَّة للمجتمع من حيث القوَّة والضَّعف والآليَّة... هي التي تقوم بالمهمَّة الأساسيَّة والحاسمة في تحديد القيم الأخلاقيَّة ومنحها القوَّة والقدرة على الإلزام. كما أنَّ تموضع الفرد على السُّلم الاقتصادي للمجتمع يلعب الدَّور الحاسم أيضاً في صوغ وعيه الأخلاقي ومنظومته القيميَّة الأخلاقيَّة. ومن ذلك على سبيل المثال يصحُّ القول عن أخلاق فقراء وأخلاق أثرياء، كما يصحُّ الحديث عن افتراق أخلاق المجتمع القوي اقتصاديًّا عن أخلاق المجتمع المتخلف اقتصاديًّا... وهكذا.
ـ الاتجاه التَّاريخي: هو الاتجاه الذي يرى أنَّ مصدر القيمة الأخلاقيَّة هو السيرورة التَّاريخيَّة للإنسان والمجتمع البشري التي ينتقل بها من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة تاريخيَّة أخرى، وكلُّ مرحلة تاريخيَّة هي التي تقرر طبيعة القيم الأخلاقيَّة وطبيعة إلزامها وقوَّتها.
في حقيقة الأمر من المتعذر القول إنَّ هذه الاتجاهات في تحديد مصدر القيمة الأخلاقيَّة هي وحدها الموجودة أَو التي وجدت، فلا يوجد ما يمنع من وجود غيرها سابقاً ولا لاحقاً. كما أنَّهُ في الوقت ذاته من الصَّعب القول إنَّ كلاًّ من هذه الاتجاهات مستقلٍّ تمام الاستقلال، لأنَّهُ من الممكن جدًّا أن تكون هناك بعض التَّداخلات فيما بَيْنَ بعض الاتجاهات التي يكون ثَمَّةَ نوعٌ من الانسجام فيما بينها أو رُبَّما يحتاج بعضها إلى بعضٍ فلا يقوم بنفسه من دون غيره. ولذلك وجدنا مذاهب تربط بَيْنَ أكثر من اتجاهٍ ووجدنا نقاداً يقولون بتعذر الفصل بينها، وصادفنا ظواهر تخرج عن هذا وتندُّ عن ذاك... إنَّنا إذن أمام مشكلة غير يسيرة في حقيقة الأمر. فكيف عالجها أبو عثمان وأين وقف منها؟
مصدر القيمة الأخلاقية عند الجاحظ
ينفي الجاحظ أن تكون القيمةُ الأخلاقيَّة ذاتيَّةً أو شخصيَّة المنشأ لأنَّ هذا الاعتبار لا يقيم فرقاً بَيْنَ الإنسان والحيوان، ويقود إلى احتقار الأخلاق بدايةً ويوصل في منتهاه إلى ارتكاب الفواحش والآثام والحرام من دون الخوف من عقابٍ أيِّ عقاب، لأنَّ الوازع الشَّخصي والرَّادع الخارجي غير موجودين، وهذا ما جاء في ردِّه على أحد الدَّهريين بقوله: «ولا ينبغي لهذا الدَّهري أن يعرض لكتابنا هذا وإن دلَّ على خلاف مذهبه، ودعا إلى خلاف اعتقاده، لأنَّ الدَّهريَّ ليس يرى أنَّ في الأرض ديناً أو نِحْلَةً أو شريعةً أو مِلَّةً، ولا يرى للحلال حرمةً ولا يعرفه، ولا للحرام نهايةً ولا يعرفه، ولا يتوقَّع العقاب على الإساءة، ولا يترجَّى الثَّواب على الإحسان، وإنَّما الصَّواب عنده والحق في حكمه، أنَّه والبهيمة سيَّان، وأنَّهُ والسَّبع سيَّان؛ ليس القبيح عنده إلا ما خالف هواه، وأنَّ مدار الأمر على الإخفاق والدَّرك، وعلى اللذة والألم، وإنَّما الصَّواب فيما نال من المنفعة، وإن قتل ألف إنسان صالح لمنالة درهم رديء»( ).
أدرك أبو عثمان أنَّ ربط منشأ القيم الأخلاقيَّة بالإنسان، الفرد على الأقل، كما فعل المغالطون قديماً، والنَّفعيُّون والوضعيون وكثيرٌ من الوجوديين حالياً، سيؤدِّي بالضَّرورة إلى القضاء على الأخلاق، ورُبَّما القضاء على البشر لأنَّ ضوابط السُّلوك ستكون ذاتيَّة فقط ولا يوجد أيُّ ضامنٍ لتوجيهها نحو الأفضل أو نحو الخير بالمعنى الأخلاقي. ولذلك راح يبحث عن مصدرٍ آخر للقيم الأخلاقيَّة. ولَعَلَّهُ تساءل في قرارة نفسه عمَّا إذا كان حكم ما مضى من كلامه مقتصراً على الملاحدة والدَّهريين أم يندرج المؤمنون تحته أيضاً، حَتَّى اضطر إلى البحث في طبائع النَّاس وشهواتهم. ووجد أنَّ النَّاس مجبولون على الشَّهوات والطَّبائع القابلة للتَّقلب من حالٍ إلى حالٍ، بل إنَّها أَمْيَل إلى الانقلاب نحو ما يهلك ويفسد، بغضِّ النَّظر عن التَّفاوت في الفروقات الفرديَّة والجمعيَّة؛ الفرديَّة كالإيمان والكفران، والنَّفسية وغير ذلك، والجمعيَّة كالعوام والخواص وما إليها، ولذلك أصبح من المتعذَّر أيضاً فيما يرى الجاحظ أن ننسب نشأة القيم الأخلاقيَّة إلى البشر بالإطلاق؛ فرادى أو جماعات. ولم يبق أمامنا إلا الله عز وجلَّ مصدراً للقيم الأخلاقيَّة، فيقول:
«إنَّا لما رأينا طبائع النَّاس وشهواتهم من شأنها التَّقلب إلى هلكتهم وفساد دينهم وذهاب دنياهم، وإن كانت العامَّة أسرع إلى ذلك من الخاصة، فلا تنفكُّ طبائعهم من حملهم على ما يرد بهم ما لم يردوا بالقمع الشَّديد في العاجل ومن القصاص من العادل، ثُمَّ التَّنكيل في العقوبة على شرِّ الخيانة، وإسقاط القدر، وإزالة العدل مع الأسماء القبيحة والألقاب الهجينة، ثُمَّ بالإخافة الشَّديدة والحبس الطَّويل والتَّغريب عن الوطن، ثُمَّ الوعد بنار الأبد مع فوات الجنَّة، وإنَّما وَضَعَ الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوَّة العقل مادَّةً، ولتعديل الطبائع معونةً، لأنَّ العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على عقله ورأيه أُلفي بصيراً بالرُّشد غير قادرٍ عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله وأوامر رأيه، فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشَّهوات وحبِّ العاجل فضل على زواجر العقل وأوامر الغي، كان العبد ممعناً في الغيِّ والنساء والمكاثرة، والعجب والخيلاء وأنواع هذه إذا قويت دواعيها لأهلها واشتدت جواذبها لصاحبها، ثُمَّ لم يعلم أنَّ فوقه ناقماً عليه، وأنَّ لـه منتقماً لنفسه من نفسه، أو مقتضياً منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطَّبيعة ودواعي الشَّهوة طبعاً لا يمتنع معه وواجباً لا يستطيع غيره»( ).
يبدو من هذا النَّص أنَّ الجاحظ قد حلَّ مشكلةً مركَّبَةً قد تُثار حولها التَّساؤلات أو الاعتراضات، وذلك عندما أبان أنَّ الطَّبائع قابلةٌ للتَّعديل وليست ثابتةً جامدةً، ولا معدَّة وَفْقاً أو عكساً لأوامر الله ونواهيه وهي ما يمثِّل عند الجاحظ القيم أو المثل الأخلاقيَّة الإيجابيَّة والسَّلبيَّة، ليخرج بذلك من دائرتي التَّسيير والتَّخيير المتفاصلتين ليكونَ الإنسانُ كما أكَّد مفكِّرنا في موضع آخر «مسخَّراً لأَمْرٍ ومخيَّراً في آخر»( )، ويعقِّبَ قائلاً: «ولولا الأمر والنَّهي لجاز التَّسخير في دقيق الأمور وجليلها، وخفيِّها وظاهرها، لأنَّ بني الإنسان إنَّما سُخِّروا لعائدة عليهم، ولم يُسَخَّروا للمعصية كما لم يسخَّروا للمفسدة، وقد تستوي الأسباب في مواضع وتتفاوت في مواضع، كلُّ ذلك ليجمع الله تعالى مصالح الدُّنيا ومراشد الدِّين»( ).
ولكن على الرَّغْمِ مما مضى، لابدَّ أن نجد من يتساءل هنا قائلاً:
ـ طالما أنَّ الله عزَّ وجلَّ ـ كما يقول الجاحظ ـ يريد أن يجمع للإنسان مصالح الدُّنيا ومراشد الدِّين، فلمََّ لم يجعل الطَّبائع موافقةً لأوامره ونواهيه، بحيث لا يفعل الإنسان إلا ما أمره الله به ويجتنب كلَّ ما نهاه عنه فتسود ضروب الخير وتنتفي أشكال الشَّر؟
إضافة إلى ما تقدَّم أجاب الجاحظ عن هذا السُّؤال إجابةً رائعةً بارعةً تنفرع إلى شفعين متباينين، لا يخلو كلاهما من الطَّرافة والجدَّة والأهميَّة. نحا في أولهما منحًى فلسفيًّا في تحديد نسغ جوهر الفعل الأخلاقيِّ ونسيج مادته، واستقلَّ في الثَّاني بوجهة نظرٍ غريبةٍ في ظاهرها، تدعو إلى وقفة تأمُّلٍ وتفكيرٍ، وإن كانت عين الصَّواب في رأينا.
ويمكننا عامَّة أن نجمل الحديث عن إجابته هذه تحت العنوانين التاليين: الخلق بَيْنَ السَّجيَّة والرَّويَّة، وضرورة الشَّر. ولكن لا بُدَّ من أن نشير قبل أن نلج إليهما إلى مسألةٍ مهمَّةٍ أثارها أبو عثمان في سياق النَّص السَّابق والتي تمسُّ الفعل الخلقي من حيث الأمر والنَّهي. إذ يبدو لمفكِّرنا أنَّ النَّهي عن الإتيان بطائفةٍ من الأفعال ليس مرتبطاً بالإساءة إلى الآخرين والتَّعدي على حقوقهم وحسب وإنَّما يتجاوز ذلك إلى اعتداء المرء على نفسه وإساءته إليها، بمعنى أنَّ الذي ينتهك النَّواهي والمحرَّمات الأخلاقيَّة إنَّما يعتدي على نفسه بالدَّرجة الأولى، ولذلك فإنَّ المحاسبة أو العقاب إنَّما تكون للاعتداء على النَّفس أو على الآخرين أو على كليهما معاً، وهذا ما يبدو في قوله: «ومن لم يعلم.... أنَّ لـه منتقماً لنفسه من نفسه، أو مقتضياً منه لغيره...».
الحق أنَّ هذه الفكرة وإن كانت مستمدَّةً من روح الدين الإسلامي التي تؤكِّدُ أنَّ الرُّوح أو النَّفس إنَّما هي لله وليس للإنسان أن يعتدي عليها. وانطلاقاً من هذه الفكرة كان تحريم الانتحار والتَّشديد على هذا التَّحريم، إلا أنَّنا لا نستطيع إلا أن نعدَّها مأثرةً عظيمة للجاحظ لا ينبغي أن تجحد.
الخلق بـين السجيَّة والرَّويَّة
لا أعتقد أنَّ ثَمَّةَ اختلافاً في أنَّ الفعل ذا الصُّورة الأخلاقيَّة لا يمكن أن ينعت بأنَّهُ خُلُقٌ ما لم ينبثق من النَّفس على نحوٍ تَلقائيٍّ غير مُتَكَلَّفٍ، ليس بالمعنى الذي ذهب إليه ليفي بريل ـ Lévy Bruhl في تحديد الأخلاق بمطابقة السُّلوك للواجب( )، وإنَّما بالمعنى الذي أطَّره الإمام الغزالي بقوله: «الخلق عبارةٌ عن هيئةٍ في النَّفس راسخةٌ، عنها تصدر الأفعال بسهولةٍ ويسرٍ من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويَّة... وإنَّما اشترطنا أن تصدر الأفعال بسهولة من غير رويَّة لأنَّ من تكلَّف بذل المال أو السُّكوت عند الغضب بجهد ورويَّة لا يقال خُلُقُهُ السَّخاء والحلم»( ).
ولذلك ذهب لالاند ـ Lalande في مفهومه الثَّاني للأخلاق بوصفها السُّلوك الواقعي للنَّاس إلى إمكان وسمها بعلم وصف السَّجايا أو الطبائع( )، وبمعنى مشابه تقريباً عرَّف فولكييه ـ Foulquie الأخلاق بأنَّهَا منظومة قواعد السلوك التي ينبغي على المرء اتباعها ليحيا وفق طبيعته( ).
أما الجاحـظ الذي سبق جميع هـؤلاء زمانياً فقد سـبقهم فكريًّا أيضاً بوضعه هذا الحدَّ للخــلق فقال بإيجاز بديع: «متى أَعَدَّت النَّفس عذراً، كانت إلى القبيح أسرع»( ). وغني عن البيان ما في هذا القول من دلالةٍ واضحةٍ على ما سـبق، ذلك أنَّهُ يرتكز على «الفكرة الجوهريَّة التي يقوم عليها الفعل الأخلاقي ويصدر عنها، وهي الرُّسـوخ في النَّفس والتَّلقائيَّة. وأعني بذلك الوجدان والنِّيَّة، إذ الفعل الأخلاقيُّ العَرَضيَّ ليس موجباً لوصـف فاعله بأنَّهُ أخـلاقيٌّ أو غير أخـلاقيٍّ، كما أنَّ إطالة التَّفكير وتَكَلُّف الجهد لدفع الذَّات إلى الفعل الأخلاقيِّ ليس كافياً لعدِّ صاحب الفعل مُتَخَلِّقاً به»( )، ولذلك يقف صاحب العثمانيَّة مندهشاً أمام من يكون على طبعٍ كيف يؤول إلى غيره، كأن يكون كريماً ويموت بخيلاً... ويقول: «وليس العجب من رجلٍ في طباعه سببٌ يصل بينه وبَيْنَ بعض الأمور يحركه في بعض الجهات، ولكن العجب ممن مات على أن يذكر بالجود، وأن يسخى، وهو أبخل الخلق طبعاً، فتراه كَلِفاً باتِّخاذ الطَّيِّبات ومستهتراً بالتَّكثير منها، ثُمَّ هو أبداً مفتضحٌ وأبداً منتقص الطِّباع، ظاهر الخطأ، سيِّئ الجزع عند مؤاكلة من كان هو الدَّاعي له، والمرسل إليه، والعارف مدار لقمه ونهاية أكله»( ).
هنا يمكن أن نعرض جواب الجاحظ عن السُّؤال الآنف ـ المطروح قبل هذه الفقرة ـ فنقول: يلزم عمَّا أسلفنا ضرورةً وجود إمكانيَّة الاختيار بَيْنَ بديلين نقيضين لا رديفين لكلِّ سلوكٍ يندرج ضمن فئة الأفعال الأخلاقيَّة، كيما تكون ثَمَّةَ أفعال تصدر عنه تلقائيَّة الطَّبع أو السَّجيَّة ـ أو ما يمكن نعتها بالموافِقة للنية ـ يمكن وصفها بأنَّها أخلاقيَّة أو غير أخلاقيَّة فيثاب صاحبها أو يعاقب «ولذلك ـ كما يقول الجاحظ ـ وضع الله في الإنسان طبيعة الغضب وطبيعة الرِّضا والبخل والسَّخاء والجزع والصَّبر والرِّياء والكبر والتَّواضع والسُّخط والقناعة، فجعلها عروقاً، ولن تفي قوَّة غريزة العقل لجميع قوى طبائعه وشهواته حَتَّى يقيم ما اعوجَّ منها ويسكن ما تحرك دون النَّظر الطَّويل الذي يشدها، والبحث الشَّديد الذي يشحذها، والتَّجارب التي تحنِّكها والفوائد التي تزيد منها، ولن يكثر النَّظر حَتَّى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حَتَّى تكثر الحوائج، ولن تبعد إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة، ولو أنَّ النَّاس تركوا وقواهم ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكير في معاشهم وعواقب أمورهم، وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولدها مباشرة حواسهم دون أن يسمعهم الله خواطر الأولين وآداب السَّلف المتقدمين وكتب ربِّ العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير، ولما مَيَّزوا من الأمور إلا القليل»( ).
وبهـذا المعنى نجـد أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يخلق الإنسـان ليلقي به في مهبِّ رياح تناقض الطَّبائع والأوامر والنَّواهي، وإنَّما آتاه العقل «للتفكير في معاشه وعواقب أموره». «وأسمعه خواطر الأولين وآداب السَّلف» ليدرك بذاته أنَّ عواقب الالتزام بأوامر الله ونواهيه خيرٌ، وأنَّ مخالفتها شرٌ، ولتغدو المعرفة بهذا المعنى خيراً بالمعنى السُّقراطي من حيث لا يرتكب إنسانٌ الإِثْمَ والشَّر إلا عن خطأٍ وجهلٍ( )، أو كما يقول الجاحظ: «المعرفة كُلُّها بَصَرٌ، والجهل كُلُّه عمى، والعمى كلُّه شينٌ ونقصٌ، والاستبانة كلُّها خير وفضل»( ).
ضرورة الشر
هل الشَّر ضروري الوجود حقاً؟
لعلَّنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنَّهُ لا تمرُُّّ حقبةٌ من الدَّهر إلا ويمرُّ شتم الشَّرِّ ولعنه وتمنِّي زواله على لسانٍ كلِّ أهل الحقبة حَتَّى الشريرين منهم. فكيف يجرؤ الجاحظ على الجهر بمثل هذه الفكرة، فكرة أنَّ الشَّرَّ ضروري الوجود «والشر المطلق ـ كما يقول الدكتور عادل العوا ـ ينحلُّ، آخر المطاف، إلى زوال الضَّمائر وامحائها»( )، هذه الفكرة التي عبَّر عنها جوتة ببراعة على لسان شيطانه مفيستوفيليس ـ مثال الشَّر ـ الذي عرَّف الشَّر بالذَّات، الشَّر المطلق بقوله: «إنَّني الرُّوح الذي ينفي دائماً. ذلك أنَّهُ ـ كما يعقب أستاذنا العوا ـ يتطلع إلى خسارة الضَّمائر جميعاً. بعد أن حَكَمَ عليه أن يضلَّ إلى الأبد، فالنهاية الأخيرة لفاعليته هي إبادة الكون الرُّوحي ذاته»( ).
الحقُّ أنَّ الجاحظ لم يُرِدْ هذا كلَّه، فهو لم يدعُ إلى انتشار الشَّر كما أنَّهُ لم يدافع عنه ولم يؤيده ولم يناصره، وإنَّما أثبت أنَّ انتفاء الشَّر غير ممكنٍ، ليس جواباً عن سؤالنا الآنف وحسب، وإنَّما لأسبابٍ أخرى كثيرة يمكن إجمالها فيما يلي:
أولاً: زعمت بعضُ الفرق ولاسِيَّما المعطلة أنَّ وجود الشَّر دليلٌ على عدم وجود الله «فلو كان للعالم خلاَّق رؤوف رحيمٌ ـ كما يزعمون ـ فلِمَ تحدث فيه مثل هذه الأمور المكروهة؟» ( ) ولكن الجاحظ لم ترقه هذه الفكرة ولم يقتنع بها وذهب إلى أنَّ وجود الشَّر دليلٌ على وجود الله وعلى حكمته «فلو خلا العالم من المكاره والشُّرور وغدت الحياة كلُّها صفاءً لا يكدِّره مكدِّرٌ فإنَّ الإنسان سيركبه الأشر( ) والعتو، والأشر والعتو يقودانه إلى فساد الدين والدنيا»( ).
ثانياً: ولكن ماذا لو اعترض هؤلاء المعطِّلة بأنَّ الأفضل للإنسان هو أن يعيش من غير متاعبٍ ولا شرورٍ ولا مآسٍ ولا أخطار... وأنَّ على الله بوصفه خلاَّقاً عليماً حكيماً أن يحرص على مصالح العباد فَيُخْلِي حياتهم من المشكلات ويرفع عنهم الأعمال ويمحو من حياتهم المتاعب... ويملؤها متعاً ولذائذ...!!
فَطِنَ الجاحظ لهذا الاعتراض وافترضه موجوداً وردَّ عليه بقوله: «اعرضوا على امرئٍ صحيح الجسم والعقل أن يجلس منعَّماً ويكفى كلَّ ما يحتاج إليه بلا سعي واستحقاق فانظروا هل تقبل نفسه ذلك؟ بل ستجدونه بالقليل عما يناله بالسَّعي والحركة أشد سروراً واغتباطاً منه بالكثير مما يناله بلا استحقاق، وكذلك نعيم الآخرة إنَّما يكون لأهله بأن ينالوه بالسَّعي والاستحقاق»( ).
إنَّ الجاحظ بهذا الرَّدِّ يضعنا أمام مسألتين على غاية من الأهميَّة، أولاهما أنَّهُ لا يجوز الاحتكام في القضايا الفكريَّة والمصيريَّة إلى ذوي العاهات الجسميَّة والعقليَّة والنفسيَّة لأنِّ أحكامهم ستكون عاريةً من الموضوعيَّة، منبجسة مما يعانونه من عقد نقصٍ مختلفةٍ. وثانيهما أنَّ المرء لا يستمرئ الثَّناء أو الثَّواب من غير جَهْدٍ أو سَبَبٍ، ومن ثَمَّ فإنَّ محاربة الشَّر والفساد مدخلٌ من مداخل الاستمتاع بالحياة. وكذلك فإنَّ النَّعيم أو التَّرف ليسا موجبين للمتعة بحدِّ ذاتهما، وإنَّما ما يبذل من جهد للحصول عليهما هو أساس الشُّعور بالمتعة. ومن ثَمَّ أيضاً فإنَّ نعيم الآخرة الخالي من ضروب المتاعب والمشاق ليس إلا ثواباً على المجاهدة بمختلف ضروبها في الحياة الدُّنيا.

ثالثاً: ولطالما كان الأمر على هذا النَّحو فإنَّنا نستطيع القول بالمفهوم الجاحظي: إنَّ الشَّر يقود إلى بعض المحاسن بحدوثه لا بمادَّته ونتائجه المباشرة، ويمكن للصالح والطَّالح في آن معاً أن يستجليا هذه المحاسن، فحدوث الشَّر «للصالحين يذكِّرُهم بنعيم رَبِّهم عندهم في سالف أيَّامهم فيدفعهم هذا إلى الشُّكر والصَّبر، أمَّا إصابة الطَّالحين فمن شأنه أن يخفف شرتهم ويمنعهم عن المعاصي والفواحش»( ).
وبهذا المعنى فإنَّ ثَمَّةَ اختلافاً كبيراً وبوناً شاسعاً بَيْنَ فكر الجاحظ عن الشَّرِّ ورؤية مفيستوفيلس شيطان جوتة، ونظرية نيتشة التي رأى فيها: «أنَّ الحياة ذاتها بالدَّرجة الأولى إنَّما هي تَملُّكٌ وعدوانٌ وإخضاع الغريب والضَّعيف، وهي اضطهاد وقسوة وفرض المرء لأشكاله الخاصة، إنَّها على الأقل استغلال»، بل إنَّ الفريقين يقفان على طرفي نقيض، ففي حين ذهب الجاحظ إلى استنفاد طاقة البشر في سبيل الخير وسعادة الإنسان، والاستدلال به، عند وجوده، للوصول إلى الخير والحقِّ ومعرفتهما، نجد أن نيتشة وشيطان جوتة يريدان أن يسيطر الشَّر ويسود.
رابعاً: إن انتفاء الشَّر، كما يحبُّ بعض النَّاس ويرغب، ليسود الخير وحده في العالم محرراً من نقيضه، ليس بالأمر الحسن كما يعتقده هؤلاء ويتمنُّون لأنَّ عدم وجود الشَّر يعني استواء ضروب السُّلوك والأفعال والأقوال... في الميزان، وهذا ما يؤدِّي إلى خمود العقل ومن ثَمَّ إلى انتفاء الفكر لأنَّهُ ـ كما يقول الجاحظ ـ «لو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النَّظر وما يشحذ عليه وما يدعو إليه ولتعطَّلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها»( )، ويقول أيضاً: «ولو كان الخير محضاً سقطت المحنة وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التَّمييز، ولم يكن للعالم تثبُّت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم...» ( ).
خاتمة
بتحديد مصـدر القيمة الأخلاقيَّة وموقع الخلق بَيْنَ السجية والرَّوية والكشـف عن طبيعة وجود الشر في الوجود وضرورة وجوده يكون الجاحظ قد أرسى قواعد انطلاقه في تحديد نظريَّته الأخلاقيَّة ورسم معالمها من جهة وفي وضعنا أمام الأسس التي بنى عليها نقده أخلاق معاصريه من جهة ثانية.
إنَّ نقد أخلاق البخلاء على نحوٍ خاصٍّ إلى جانب كونها صورة جماليَّة مبدعة هي ممارسة نقديَّة أخلاقيَّة مستندة إلى الأساس النَّظري لنظريَّته الأخلاقيَّة في كون مصدر القيم إلهيًّا من جهةٍ أولى وفي أنَّ البخل ضرب من الشَّر الذي لا بدَّ من وجوده من جهةٍ ثانيةٍ. ولكن ضرورة وجود الشَّرِّ لا تمنع نقده ولا تعني تقبله. وكذلك الأمر في بقية المباحث الأخلاقيَّة التي تناولها الجاحظ فإنَّها إنَّما تقوم على رؤيَّةٍ فلسفيَّةٍ متكاملةٍ.






LLL













الفصل الرابع


تحديد الأخلاق



 جدلية الخير والشَّر
 حقيقة الخير
 مفهوم الخلق
 معيار الفضيلة



من قامت أخلاطُه على الاعتدال وتكافأت خواطِرُه في الوَزْنِ لم يعرف من الأعمال إلا الاقتصاد، ولم يجد أفعاله أبداً إلا بَيْنَ التَّقصير والإفراط، لأنَّ الموزون لا يولد إلا موزوناً، كما أنَّ المختلف لا يولد إلا مختلفاً( ).

الجاحظ

يرى الجاحظ كما بدا لنا في الفصل السَّابق أنَّ الشَّرَّ ضروري الوجود، ولعلَّنَا لا نبتعد عن الصَّواب إذا قلنا: إنَّ هذه الضَّرورة قابلةٌ للفهم بالمعنيين؛ المنطقيِّ والقيميِّ؛ المنطقي من حيث اللزوم، والقيمي بمعنى وجوب الأمثل. ولكنَّا أشرنا إلى أنَّ هذا المفهوم الجاحظي يندرج في إطار المسعى النَّبيل لا لفهم حياة الإنسان الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة وحسب وإنَّما لإسباغ طابع العقلانيَّة والجدِّيًّة عليها، وتسخير هذا الكشف من أجل حفز الإنسان على مزيدٍ من الحيويَّة والفاعليَّة والانطلاق الدَّائم نحو الأفضل. ولذلك من العسير حصر الجاحظ مع فئة التشاؤميين أو ذوي النَّـزعة الثَّائرة أمثال نيتشة أو العدوانية من طراز شيطان جوتة.
جدلية الخير والشر
ولكن إذا كان الشَّرُّ ضروريَّ الوجود فما حال الخير: أليس ضروري الوجود كذلك؟
وإن كنَّا لن نحاول الإجابة عن أبي عثمان إلا أنَّنا لابدَّ أن نشير إلى أنَّ هذا السُّؤال الافتراضي غير مسوَّغٍ لأنَّ طرح مشكلة وجود الشَّر إنَّما ينبثق من التَّسليم بوجود الخير ضرورةً لا معدَّى عنها أو لا شكَّ فيها، ولكن أبا عثمان لم يتوقَّف عند هذا الحدِّ فعالج مشكلتي الخير والشَّرِّ في آن معاً تحت إطار مشكلةٍ واحدةٍ، فخصَّ لذلك فصلاً مطوَّلاً ـ بالمقارنة ـ في كتابه الحيوان لتأكيد أنَّ مصلحة الكون تكمن في امتزاج الخير بالشَّرِّ.
يؤكِّد الجاحظ أنَّ حياة الإنسان على الأرض لا يمكن أن تنال قسطها من التَّكامل والانسجام ما لم يوجد الخير والشَّرُّ ممتزجين لأنَّ لكلٍّ منهما في آنٍ معاً وظيفةً يؤدِّيها وغاية ينهد لإتمامها، فلو كان الشَّرُّ صرفاً لهلك البشر وإن كان الخير محضاً انقلبت الحياة إلى ضرب من الرَّتابة المملَّة التي تحوِّل البشر إلى أبعد ما يكون عن البشر، ومن ذا الذي يسرُّه أن يكون غير بشرٍ، كالحجر أو النجم، أو البهيمة أو الشَّجر...
هذا ما رآه الجاحظ وأبانه في عباراته الرشيقة وألفاظه الدقيقة الأنيقة فبدأ نصَّه بتبيان أن مصلحة البشر في امتزاج الثنيائيات والمتناقضات مع بعضها في علاقة جدليَّة فيما بينها، فقال: «اعلم أنَّ المصلحة في أمر ابتداء الدُّنيا إلى انقضاء مُدَّتِها امتزاج الخير بالشَّر، والضَّار بالنَّافع، والضِّعَةِ بالرِّفْعَةِ، والكثرة بالقلَّةِ»( ).
ثُمَّ يبين ما ستكون عليه الحال لو أنَّ أحد النَّقيضين وحده هو الذي كان موجوداً: فماذا لو وجد الشرُّ وحده أو وجد الخير وحده؟ يجيب قائلاً: «لو كان الشَّر صرفاً هَلَكَ الخلق ، أو كان الخير محضاً سَقَطَت المحنة وتقطَّعت أسباب الفكرة. ومع عدم وجود الفكرة يكون عدم الحكمة»( ). ولا يكتفي بذلك بل يبين لنا السَّبب الذي يكمن في انعدام التَّخيير، أي بمعنى آخر في الحريَّة، وكأَنَّهُ يريد القول: إنَّ وجود أحد النَّقيضين وحده في حياة الإنسان يعني انعدام حريته، وانعدام حرية الإنسان انعدام لإنسانيَّته، وفي ذلك يقول: «متى ذهب التَّخيير ذَهَبَ التَّمييز، ولم يكن للعالم تثبُّتٌ وتوقفٌ وتعلُّمٌ، ولم يكن علمٌ، ولا يعرف التَّبيًّن، ولا دفعُ مضرَّة، ولا اجتلابُ منفعةٍ، ولا صبرٌ على مكروهٍ، ولا شكرٌ على محبوبٍ، ولا تفاضلٌ في بيانٍ، ولا تنافسٌ في درجةٍ، وبطلت فرحةُ الظَّفر، وعزُّ الغلبة، ولم يكن على ظهرها محقٌّ يجدُ عزَّ الحقِّ، ومبطلٌ يجدُ ذلة الباطل، وموقنٌ يجدُ بردَ اليقين، وشاكٌّ يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم، ولم تكن للنُّفوس آمالٌ ولم تتشعبها الأطماع، ومن لم يعرف كيف الطَّمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس جهل الأمن»( ).
وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يمكن أن تكون عليه الحال؟
يرى الجاحظ أن الإنسان سيفقد ما يكون به إنساناً، وستعود به الحال «من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء، إلى حال السَّبع والبهيمة، وإلى حال الغباوة والبلادة، وإلى حال النُّجوم في السخرة، فإنَّها أنقص من حال البهائم في الرتعة، ومن هذا الذي يسره أن يكون الشَّمس والقمر والنَّار والثَّلج، أو برجاً من البروج أو قطعةً من الغيم، أو يكون المجرَّة بأسرها، أو مكيالاً من الماء أو مقداراً من الهواء؟! وكلُّ شيءٍ في العالم فإنَّما هو للإنسان ولكلِّ مختبرٍ ومختارٍ. ولأهل العقول والاستطاعة، ولأهل التَّبين والرَّويَّة»( ).
ويتابع في توضيح فكرته بمقارنة بَيْنَ لذة الحيوان الغريزيَّة ولذة الإنسان التي ينالها بوصفه إنساناً، بوصفه عقلاً غريزة، أي بوصفه مختاراً بَيْنَ خير وشر، فيقول:
«وأين تقع لذَّة البهيمة بالعلوفة، ولذَّة السَّبع بلطع الدَّم وأكل اللحم من سرور الظَّفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان القرع؟ وأين ذلك من سرور السُّؤدد ومن عزِّ الرِّياسة؟ وأين ذلك من حال النُّبوَّة والخلافة، ومن عزِّهما وساطع نورهما؟ وأين تقع لذَّة درك الحواس الذي هو ملاقاة المطعم والمشرب، وملاقاة الصَّوت المطرب واللون المونق، والملمسة اللينة من السُّرور بنفاذ الأمر والنَّهي، وبجواز التَّوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطَّاعة ويلزم من الحجة؟! ولو استوت الأمور بطُل التَّمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة، ولو كان بطلت ثمرة التَّواكل على الله تعالى، واليقين بأنَّه الوَزَرُ( ) والحافظ، والكالئ والدَّافع، وأن الذي يحاسبك أجود الأجودين، وأرحم الرَّاحمين، وأنَّهُ الذي يقبل اليسير ويهب الكثير، ولا يهلك عليه إلا هالك، ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النَّظر وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطَّلت الأرواح من معانيها، والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها. فسبحان من جعل منافعها نعمة ومضارها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسَّمها بَيْنَ مُلِذٍّ ومؤلِمٍ، وبَيْنَ مؤنسٍٍ وموحشٍ، وبَيْنَ صغيرٍ حقيرٍ وجليلٍ كبيرٍ، وبَيْنَ عدوٍّ يرصدك، وبَيْنَ عاقلٍ يحرسك، وبَيْنَ مسالمٍ يمنعك، وبَيْنَ معينٍ يعضدك، وجعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعهما تتمُّ النِّعمة، وفي بطلان واحدٍ منهما بطلان الجميع، قياساً قائماً وبرهاناً واضحاً، فإنَّ الجميع إنَّما هو واحدٌ ضُمَّ إلى واحدٍ وواحدٍ ضُمَّ إليهما، ولأنَّ الكلَّ أبعاض، ولأنَّ كلَّ جثَّة فمن أجزاء، فإذا جَوَّزتَ رفع واحدٍ والآخر مثله في الوزن وله مثل علَّته وحظِّه ونصيبه، فقد جوَّزتَ رفع الجميع، لأنَّهُ ليس الأول بأحق من الثَّاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثَّاني كذلك والثَّالث والرَّابع، حَتَّى تأتي على الكلِّ وتستفرغ الجميع، كذلك الأمور المضمنة والأسباب المقيَّدة؛ ألا ترى أنَّ الجبل ليس بأدلَّ على الله تعالى من الحصاة، وليس الطَّاووس المستحسن بأدلَّ على الله تعالى من الخنـزير المستقبح، والنَّار والثَّلج وإن اختلفا في جهة البرودة والسُّخونة، فإنَّهما لم يختلفا في جهة البرهان والدَّلالة... فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل»( ).
وليخلص الجاحظ من ذلك إلى نتيجةٍ مهمَّةٍ توجز لنا كلَّ ما سبق في فكرةٍ واحدةٍ، وهي أن انتفاء الشُّرور والمفاسد وما جرى في مجراها أمرٌ لا يجوز على هذه الحياة الدُّنيا لأنَّ انتفاء هذه الأمور من خصائص دار الجزاء فهناك يثاب كلٌّ بما عمل في دار العمل. وفي ذلك يقول: «وليس يجوز أن تصفو الدُّنيا وتنفى من الفساد والمكروه حَتَّى يموت جميع الخلائق وتستوي لأهلها، وتتمهَّد لسكَّانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأنَّ ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل»( )، ذلك أنَّ دار العمل أو هذه الحياة الدُّنيا ليست إلا اختباراً يؤدِّي في نهايته إلى دار الجزاء. والاختبار هذا نوعي غير اختبارات البشر؛ إنَّهُ امتحان من الله لعباده، ومحور هذا الامتحان التَّخلُّق بأوامر الله وتجنُّب نواهيه، والصَّبر على قضائه وقدره. ولذلك فإنَّ الوحوش والحشرات التي لا نظنُّ فيها خيراً إنَّما هي مُسَخَّرةٌ من الله تبارك وتعالى «واعلم أنَّ مواقع منافعها من جهة الامتحان والبلوى، ومن جهة ما أعدَّ الله عزَّ وجلَّ للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أنَّ الخيار والاختبار لا يكونان والدُّنيا كلها شرٌّ صرفٌ أو خيرٌ محض، فإنَّ ذلك لا يكون إلا بالمزاوجة بَيْنَ المكروه والمحبوب، والمؤلم والملذِّ، والمحتقر والمعظَّم، والمأمون والمخوِّف»( ).
حقيقة الخير
لَعَلَّ من يتساءل هنا: ما الخير وكيف نعرفه؟
الحقُّ أنَّ هذه المشكلة قديمةٌ جديدة في آن معاً، وأعني بذلك أنَّها رافقت الإنسان منذ مطالع وجوده وما تزال ملازمةً لـه. وأعني بكونها مشكلةً أنَّها مازالت عرضةً للآراء والأفكار المتباينة، وهي وثيقة الارتباط بأصل القيمة الأخلاقيَّة، ولذلك وجدنا من يردُّ مفهوم الخير ومعياره إلى الإنسان الفرد كما فَعَلَ المغالطون، ومن ينسبه إلى المجتمع كما فعل الماركسيُّون والنَّفعيُّون والذَّرائعيُّون. ومن يجعل أساسه نفسيًّا كما فعل الفرويديون ورُبَّما النَّفعيُّون أيضاً...
وقف الجاحظ عند هذه المشكلة غير مرَّة، وقد جلونا في الفصل السَّابق إفصاحه عن اتجاهه القيمي الذي ذهب فيه إلى أنَّ الله عزَّ وجلَّ هو مصدر القيم الأخلاقيَّة، ولكنَّه لم يتوقَّف عند ذلك بل تساءل عن كيفيَّة التَّمييز بَيْنَ الخير والشَّرِّ ـ الأمر الذي شغل باله كثيراً ـ واستقرَّ على أنَّ العقل الذي أوتيه الإنسان أمانةً من الله وتشريفاً، هو الذي يتحمَّل مسؤوليَّة التَّمييز بَيْنَ الخير والشَّرِّ، ذلك أنَّ «استبانة الشَّرِّ ناهيةٌ عنه كما أنَّ استبانة الخير آمرة به»( )، وفي معرض التَّمييز هذا ذاته فإنَّ المشكلة فيما يبدو تكاد تكون محلولةً لأنَّ الخير والشَّرَّ طرفا متناقضةٍ لا يحتاج التَّمييز بينهما إلى كثيرٍ من التَّفكير والجهد، ولو تأمَّلنا هذا الخبر الذي أورده أبو عثمان لوجدنا فيه مبتغانا، يقول: «ولقد مرَّ المسيح عليه السَّلام بخلق من بني إسرائيل فشتموه؛ كلَّما قالوا شرًّا قال المسيح خيراً، فقال لـه شمعون الصفي: أكلَّما قالوا شرَّاً قلت خيراً؟ قال المسيح: كلُّ امرئ يعطي ما عنده»( ). هذا بغضِّ النَّظر عن الأحاديث النَّبويَّة الشَّريفة الكثيرة التي تؤكِّد أنَّ الحلال بيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ والتي مثلت منهل الجاحظ الفكري والأخلاقي.
يبدو من النَّصَّين السَّابقين كأنَّ الجاحظ يحيلنا إلى مفهوم الوجدان في الاصطلاح الأخلاقيِّ المعاصر، الذي يتميَّز «أوَّل ما يتميَّز، بأنَّه يؤلِّف نظاماً تبدو فيه الأشياء في آنٍ واحدٍ إلزاميَّةً ومرغوباً فيها، أي مطلوبةً. فالوجدان آمرٌ ملزمٌ. وتلك صفةٌ بديهةٌ يشعر بها كلُّ ذي وجدانٍ مرهفٍ يقظٍ شعوراً حدسيًّا مباشراً، وهذا الإلزام ضرورة تمسُّ إرادتنا ومقاصدنا، ورُبَّما جاز التملُّص من إلزام الوجدان من النَّاحية المادَّية، ولكن من المحال أن يتملَّص المرء من وجدانه في أعماق نفسه، ولذا فإنَّ ضرورة الإلزام في الواجب ضرورةٌ راسخةٌ ثابتةٌ لا مفرَّ منها أبداً، وبهذا المعنى يقال: (إنَّ الوجدان يُلْزِمُ من غير أن يُرْغِم)»( )، وانطلاقاً من هذا الأساس، في اعتقادنا، كانت «استبانة الشَّر ناهيةً عنه واستبانة الخير آمرةً به». وعليه كان المسيح عليه السَّلام يقابل الشرَّ بالخير وليؤكِّد الجاحظ من هذا الشَّاهد ما سبق وأَبنَّا عنه لدى الحديث عن الخلق بَيْنَ السَّجيَّة والرَّويَّة الذي يرسِّخ الحكمة الأخلاقيَّة القائلة: «لا يستطيع الكريم إلا أن يكون كريماً»، أو ما يمكن التَّعبير عنه بالمثل الشَّائع: «الطَّبع غلب التَّطبع». ولذلك ذهب الجاحظ فيما يبدو إلى أنَّ الالتزام بالواجب أو بأوامر الوجدان هو الأصل في حَمْدِ الإنسان وشكره على تسخيره ملكاته وقدراته في فعل الخير فقال: «وَلَمْ نجدهم ـ أبقاك الله ـ يحمدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ولا يذمُّون العجز إلا لما يفوت من إتيان الجميل»( ). أي إنَّ القدرة في حدِّ ذاتها ليست مما يستدعي الشُّكر والوفاق ولا المدح أو الذَّمَّ ولكنَّ توجيه هذه القدرة نحو الخير هو ما يستحقُّ الحمد والثَّناء، وكذلك العجز ليس عيباً في حدِّ ذاته وإنَّما يعاب إذا كان سبباً في التَّقصير عن الخير، من دون أن ينفي ذلك ما للنِّية من أثرٍ بالغٍ في إسباغ الخيريَّة على الفعل أو سلبها عنه إذ لا نَعْدَمُ أن نجد أفعالاً صورها شرٌّ والنوايا التي انبعثت عنها خيِّرة والعكس كذلك، الأمر الذي يجعلنا ننظر في مسألة الاختيار والإجبار على الفعل، هذا الأمر المرتبط بالنية ارتباطاً وثيقاً. ولأنَّ النِّية داخليَّة لا يدري كنهها إلا صاحبها فإنَّ المحاسبة عليها لا تكون إلا لله علاَّم الغيوب فمنه الثَّواب ومنه العقاب العادل والحقيقي وعلى هذا الأساس يقول الجاحظ: «إنَّ الأجر لا يقع إلا على جهة التَّخيُّر والتَّكلُّف، وإلا على ما يُنَالُ بالاستطاعة، والأوَّل إنَّما يُنَالُ بالخلقة وبمقدار من المعرفة، ولا يبلغ أن يُسَمَّى عقلاً، كما أنَّهُ ليس كلُّ قوَّة تسمَّى استطاعةً، والله سبحانه وتعالى أعلم»( ).
وبهذا المعنى فإنَّ ردَّ الخير إلى الاختيار بوصفه مصدراً لغويًّا لدلالة اللفظ قد بات أمراً جدَّ مقبولٍ، سيَّان أكان الاختيار إنسانيًّا أم إلهياً، فقد أقرَّ الجاحظ بالمعنيين كليهما( )، فالاختيار الإنسانيُّ يعنى الالتزام بأوامر الوجدان ونواهيه، والاختيار الإلهي يأتي تأكيداً لما ذهب إليه أبو عثمان من أنَّ «ما اختار الله فهو خير»( )، ويكون الله بذلك مصدرَ كلِّ خيرٍ من حيث ما أُمِرْنَا به ونُدِبنا إليه من أفعالٍ وصفاتٍ وأحوال.
مفهوم الخُلق
ليس ثَمَّةَ إجماعٌ بَيْنَ المفكِّرين على تعريف الأخلاق تعريفاً جامعاً مانعاً بالمعنى المنطقي، شأنها في ذلك شأن جلِّ الاصطلاحات والمفاهيم المستخدمة في العلوم الاجتماعيَّة، فهي تطلق مثلاً على السُّلوك الفرديِّ المتوافق مع أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده السَّائدة، «كما تطلق على قواعد السُّلوك وأسلوب المرء وطريقته في الحياة»( )، ويرى بعضهم أنَّ الخلق «هو العادة، والسَّجيَّة، والطبع، والمروءة ، والدِّين»( )، وتتَّخذ أيضاً صيغةً عرفيَّةً لتدلَّ على أخلاق فئةٍ من النَّاس تجمعهم مهنةٌ أو صفةٌ معيَّنةٌ، فيقال لذلك: أخلاق المعلمين وأخلاق الأطباء وأخلاق النَّجارين وأخلاق المحامين وهلمَّ جرًّا مما يندرج تحت هذا الإطار، هذا من دون أن ننسى الدَّلالة الاجتماعيَّة للأخلاق من حيث اتجاهها للاقتران بالعادات والأعراف والتَّقاليد المؤطَّرة بزمانٍ ومكانٍ محددين( )، ثُمَّ كذلك المنحى الدِّيني الذي يربط الأخلاق بالحلال والحرام.
وعلى العموم يمكننا القول: الخلق هو كلُّ سلوكٍ بشريٍّ معنويٍّ يمكن نعته بأنَّه خيرٌ أو شرٌّ. وهذا التَّعريف في اعتقادنا هو الأكثر جَمعاً للنِّقاط المشتركة والأساسيَّة بَيْنَ مختلف الاتجاهات.
وهنا نتساءل: أين يقف الجاحظ من كل ذلك؟
الحقُّ أنَّ الجاحظ لم يتوقَّف ولو مرَّةً ليقدم لنا تعريفاً محدَّداً أو مقصوداًً للأخلاق ولكننا نستطيع أن نرسم ملامح مفهومٍ جاحظيٍّ للأخلاق من سياق بعض كلامه، يقول مثلاً: «ويعرض للخصي العَبَثُ واللعب بالطَّير، وما أشبه ذلك من أخلاق النِّساء، وهو من أخلاق الصِّبيان أيضاً، ويعرض لـه الشَّره عند الطَّعام، والبخل عليه، والشُّح العام في كلِّ شيء. وذلك من أخلاق الصِّبيان ثُمَّ النِّساء.
ويعرض للخصيِّ سرعة الغَضَبِ والرِّضا، وذلك من أخلاق الصِّبيان والنِّساء، ويعرض لـه حبُّ النَّميمة، وضيق الصَّدر بما أودع من السِّر وذلك من أخلاق الصِّبيان والنِّساء، ويعرض لـه دون أخيه لأمِّه وأبيه، ودون ابن عمه وجميع رهطه البصر بالرَّفع والوضع، والكنس والرَّش، والطَّرح والبسط، والصَّبر على الخدمة، وذلك يعرض للنساء»( ).
إنَّ هذا المفهوم الجاحظيَّ للأخلاق، وإن كان لا يفضل الاتجاهات السَّابقة في المنهجيَّة والدِّقة الاصطلاحيَّة فإنَّهُ لا يقلُّ عنها أبداً. ولَعَلَّهُ يسبق معظمها زمانياً وخاصَّة في ربطه بَيْنَ الأخلاق والبيولوجيا( ). ويتعزَّز كلامنا هذا إذا ما علمنا أنَّ «الأخلاق، بوجهٍ عامٍّ، تستهدف دراسة اتِّجاه الفاعليَّة البشريَّة للكشف عن المبادئ، القيم، وتسعى إلى تبيان مغزى التَّجربة الإنسانيَّة بالإضافة إلى كلِّ فردٍ من الأفراد، فتعدُّ الوجود الفرديَّ، كلَّ وجودٍ، وجهة نظرٍ معيَّنةٍ تمس الواقع ـ في الواقع ـ وتبدو في حالة تأليف يشمل ظروفاً يطبعها الشَّخص الأخلاقيُّ بطابعه، فتغدو الأخلاق، أخلاق المرء، تعبيراً عن ذاته من خلال جريان الحوادث، وتتعيَّن رسالة الأخلاق في فهم الأشكال المختلفة التي تحقِّق هذا التَّعبير.
هذا إلى جانب أنَّ الأخلاق تجنح إلى الحكم على أشكال السُّلوك الكثيرة المتفاوتة، فتحبِّذ موقفاً من المواقف وتستحسنه، وتذمُّ موقفاً آخر وتستقبحه، تأمر وتنهى، تبيح وتمنع، فتحدِّد بوجه الإجمال أنماط السُّلوك تحديداً منهجياً واعياً»( ).
ويتابع الجاحظ تحديده لمفهوم الأخلاق من خلال نصيحة تربوية قيِّمة يقود الأخلاق من خلالها لتغدو «فَّن الحياة الجيدة»( ) كما يقول الدُّكتور عادل العوا»، فيقول: «اجعل محاسبة نفسك صناعة تعتقدها، وتفقُّد حالاتك عقدةً ترجع إليها، حَتَّى تخرج أفعالك مقسومةً محصَّلةً، وألفاظك موزونةً معدَّلةً، ومعانيك مصفَّاةً مهذَّبَةً، ومخارج أمورك مقبولةً محبَّبةً، فمتى كنت كذلك، كانت رِقَّتك على الجاهل الغبي، بقدر غلظتك على المعاند الذَّكي، وتحبُّ الجماعة بقدر بغضك للفرقة، وترغب في الاستخارة والاستشارة بقدر زهدك في الاستبداد واللجاجة، وتبدأ من العلم بما لا يسع جهله، مثل التَّطوع بما يسع جهله»( ).
وهكذا في مكنتنا الخلوص إلى أنَّ الأخلاق في المفهوم الجاحظي هي ضروب السُّلوك البشري الباعثة للسُّرور والغبطة في نفوس الآخرين إن كانت إيجابيَّة، والدَّاعية للهجنة والنُّفور في نفوسهم إن كانت سلبيَّة.
معيار الفضيلة
لولا أنَّ الجاحظ جهر غير مرَّةٍ بإقراره مبدأ عدِّ الخير وسطاً بَيْنَ مرذولين، أو اعتدالاً بَيْنَ تطرفي الإفراط والتَّفريط لَمَالَ بنا الظنُّ إلى أنَّهُ ينحو منحى آخر في تحديد المفاهيم الأخلاقيَّة التي حاول ضبطها وتحديدها ـ كما غيرها ـ بوصفه لغوياً بارعاً أرسى أسس علوم البلاغة والفصاحة العربيَّة.
من الجَليِّ أنَّ أبا عثمان قد استوفى نظريَّته في الاعتدال أو التَّوسط من القرآن الكريم والحديث النَّبويِّ الشَّريف، وكذلك من أقوال الصَّحابة والفقهاء التي كانت تعبيراً أو توكيداً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيورد لذلك شواهد كثيرة من هذا النَّوع، ومنها مثلاً قول عبد الله بن مسعود: «خير الأمور أوساطها، وما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى، نفس تنجيها خير من إِمارةٍ لا تحصيها»( )، ومنها كذلك ما قاله الحسن البصري في ردِّه على الأعرابي الذي سأله: «أن يعلِّمه ديناً وسطاً لا ذاهباً شطوطاً ولا هابطاً هبوطاً، فقال الحسن: لئن قلت ذلك: إنَّ خير الأمور أوساطها»( )، ويورد في ذلك شعراً جميلاً أيضاً فيقول: قال الشَّاعر( ):

عَلَيْكَ بِأَوْسَاطِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا

نَجَاةٌ وَلاَ تَرْكَبْ ذَلُوْلاً وَلاَ صَعْبَا


وقال آخر:
لا تَذْهَبَنَّ فِي الأُمُورِ فَرَطَا

لا تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا

وكُنْ مَعَ النَّاسِ جَمِيْعَاً وَسَطَا

لقد بدا للجاحظ أنَّ الإفراطَ والتَّفريطَ أمران مرذولان كلاهما، ولذلك لا ينبغي أن يجنح المرء إلى العنت كما لا يجوز أن يستسهل مسالك التَّفريط التي تبدو يسيرةً سهلةً. ولذلك قال: «الإفراط في الجود يوجب التَّبذير، والإفراط في التَّواضع يوجب المذلَّة، والإفراط في الكبر يدعو إلى مقت الخاصَّة، والإفراط في المؤانسة يدعو إلى خلطاء السُّوء، والإفراط في الانقباض يوحش ذا النَّصيحة، وآفة الأمانة ائتمان الخانة، وآفة الصَّديق تصديق الكذبة، والإفراط في الحذر يدعو إلى ألا يوثق أحد»( ).
يبدو أنَّ الجاحظ لا يَقْصُرُ نظريَّته في التَّوسط أو الاعتدال على القيم الأخلاقيَّة وحسب بل يرى أنَّها الأكثر صواباً في كلِّ مجالات الحياة وبمختلف ضروبها، وقد بدا لنا ذلك في نظريَّته الجماليَّة التي خصصنا لها كتاباً مستقلاًّ( )، كما يبدو لنا ذلك أيضاً من قوله: «وإنَّما وَقَعَ النَّهيُ عن كلِّ شيءٍ جاوز المقدار. ودين الله تعالى بَيْنَ المقصر والغالي»( ). ثُمَّ يحاول الجاحظ في كتابه البخلاء أن يوجد أساساً فيزيولوجياً لدى الإنسان لتأكيد هذه القاعدة في تحديد الفضائل الأخلاقيَّة فيرى أنَّ الإنسان قد يقوم على ضروبٍ متباينةٍ من الأخلاط، أما الذين قامت أخلاقهم على التَّطرفِ السَّلبيِّ أو الإيجابيِّ فهم أولئك الذين تأتي أفعالهم وسلوكاتهم ظاهرة المبالغة في الخير والشَّر، حَتَّى تبدو أو تكاد تبدو نابيةً وشاذَّةً. «ولهذا ـ كما يقول ـ من قامت أخلاطه على الاعتدال وتكافأت خواطره في الوزن لم يعرف من الأعمال إلا الاقتصاد، ولم يجد أفعاله أبداً إلا بَيْنَ التَّقصير والإفراط، لأنَّ الموزون لا يولد إلا موزوناً، كما أنَّ المختلف لا يولد إلا مختلفاً، فالمتتايع( ) لا يثنيه زجرٌ، وليست لـه غاية دون التَّلَفِ. والمكتفي ليس لـه مأتى ولا وجهة، ولا لـه رُقْية ولا فيه حيلة، وكلَّ متكوِّن في الأرض فمنحلُّ العقد، ميسرٌ لكلِّ ريحٍ»( ).
ولكنَّ صاحب البيان والتَّبيين يأبى أن يترك نظريَّته في الاعتدال معلَّقَةً من دون ضبطٍ وتحديدٍ للمفاهيم التي تدور في فلكها، فهو لا يقبل أن يتوقَّف عند أنَّ الفضيلة أو البِّرَّ هو ما توسَّط بَيْنَ طريفين مرذولين، وإنَّما يحاول بوصفه لغويًّا أن يبيِّنَ أنَّ لكلِّ حدٍّ سمته واسمه. ولقد أدرك أنَّ من الممكن جدًّا اختلاف اللغويين أو فلاسفة الأخلاق في تحديد التَّسميات: تسميات القيم الأخلاقية المتفاضلة في درجاتها ومقاديرها؛ فالجود مثلاً اسم لمقدار من المقادير يتوسَّط ما بَيْنَ البخل والتَّبذير، وما بَيْنَ الجود والبخل والجود والتبذير درجات لكلِّ درجةٍ اسمٌ وسِمَاتٌ وصفاتٌ، وهنا تكمن المشكلة.
لم يحل الجاحظ هذه المشكلة حلاًّ حاسماً وإنَّما قَدَّم مفتاح الحلِّ. فذهب إلى أنَّ لكلِّ مقدارٍ اسماً ولا يجوز إطلاق الأسماء على المقادير كيفما اتفق «فالعشق ـ كما يقول ـ اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب، وليس كلُّ حبٍّ يسمَّى عشقاً، وإنَّما العشق اسم لما فضل عن ذلك المقدار، كما أنَّ السَّرَفَ اسمٌ لما زاد عن المقدار الذي يُسَمَّى جوداً، والبخل اسمٌ لما ينقص عن المقدار الذي يُسَمَّى اقتصاداً. والجبن اسمٌ لما قصر عن المقدار الذي يُسَمَّى الشَّجاعة»( ). ويبدو ميله لتحديد القيم الأخلاقية وضبطها في كتاب البيان والتبيين أيضاً، فيقول: «رووا أنَّ رجلاً مَدَحَ الحياء عند الأحنف وأنِّ الأحنف قال: بم يعود ذلك ضعفاً والخير لا يكون سَبَباً للشَّر؟ ولكنَّنا نقول: إنَّ الحياء اسم لمقدارٍ من المقادير، ما زاد عن ذلك المقدار فسمِّه ما أحببت، وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير، فالسَّرَفَ اسمٌ لما فضل عن ذلك المقدار، وللحزم مقدار، فالجبن اسمٌ لما فضل عن ذلك المقدار، وللاقتصاد مقدار، فالبخل اسمٌ لما خرج عن ذلك المقدار. وللشَّجاعة مقدارٌ فالتَّهور والخور اسمٌ لما جاوز ذلك المقدار»( ).
إنَّ نظريَّة الاعتدال الجاحظيَّة هذه تثير لدينا تساؤلاً مهمًّا عمَّا إذا كان الجاحظ قد اطَّلع على نظريَّة أرسطو المشابهة في الأخلاق، إذ المعلوم لدى المهتمين بالفكر الفلسفيِّ أنَّ أرسطو هو أول من أطَّر هذه النَّظرية بصيغةٍ فلسفيَّةٍ، ولن نناقش هنا ما إذا كان الفيلسوف اليوناني هو الأسبق تاريخياً بالفعل في ذلك أم أنَّ هناك من سبقه إلى ذلك.
حَتَّى نجيب عن هذا التَّساؤل لا بُدَّ لنا أن نقف عند ما نعدَّه حقيقةً أساسيَّةً مهمَّةً تتمثَّل في أنَّ الوقوف على أسبقيةٍِ تاريخيَّةٍ لظهور فكرةٍ ما عند مفكِّر على آخر لاحقٍ عليه زمانيًّا لا يعني بالضَّرورة تفوُّق أو تميُّز السَّابق على اللاحق ولا يجوز اعتماد ذلك دليلاً على التَّفوق والامتياز، وإنَّما ذلك هو الدليل الأكيد على وحدة الفكر أو العقل الإنساني وأساس التَّواصل الفكريِّ والحضاريِّ، وبهذا المعنى نقول: ليس في الحقِّ تأثُّرٌ وتأثيرٌ. إنَّ الحقَّ حقٌّ والخير خيرٌ والشَّرُّ شرٌّ لدى جلجامش وهيردوت وأرسطو والجاحظ والغزالي وديكارت والبشر كافَّةً، ولكن باشتراط العقل والجسم السَّليمين الخاليين من العاهات وعقد النَّقص والقصور كما طلب مفكِّرنا قبل قليلٍ، وهذا الاشتراط في الحقيقة هو جذر مشكلة المعرفة والأخلاق، التي مازلنا نقف عاجزين عن حلِّها، وإن كنَّا نؤكِّد دائماً أنَّ مشكلات المباحث القيميَّة لا ترنو إلى الحلِّ بِقَدْرِ ما تشرئبُّ إلى الاغتناء والاكتناز بالطُّروحات والاقتراحات والأفكار المتجدِّدة الحيويَّة.
ولذلك ليس يعاب المفكِّر إن جاء بشيءٍ كان هناك من سبقه به، ولا ينبغي أن يُتَّخَذَ حجَّةً لإدانة هذا المفكِّر أو ذاك إلا اللهم إن كان ضارباً بالأمانة والأخلاق عرض الحائط، أي أن يكون سارقاً أفكار الآخرين ناسباً إياها لنفسه غير مشيرٍ إلى أصحابها، وهذا كثيرُ الحدوث، فهل كان الجاحظ كذلك؟
إن تتبُّع كتابات الجاحظ يشير إلى أنَّه كان ناقلاً أميناً في مواطن النَّقل، صادقاً في النِّسبة، متحرِّياً عن الحقيقية، ما جاء بقولٍ أو رأيٍ أو خبرٍ إلا ذكر صاحبه، ولذلك كثرت أسماء الأعلام الواردة في كتبه كثرة بالغة، وهذا مما يجعلنا نشكُّ في أنَّ الجاحظ قد تأثر بأرسطو في هذه النَّظريَّة، على أنَّ الجاحظ كان واسع الثَّقافة والمعرفة كثير الاطلاع على آداب الآخرين وأفكارهم؛ عرباً وغير عرب، ويشهد بذلك ترديده أسماءهم فقد وردت لديه الكثير من الأسماء غير العربيَّة، ومعظمها يوناني، ومن هذه الأسماء: أبرهة الأشرم وأبرويز وأبقراط وأرذيانوس وأرسطاطاليس والإسكندر وأفلاطون وإقليدس وبطليموس وجالينوس وديمقريطس وزرادشت... وغيرهم مما يدلُّ على أنَّه قد اطَّلع على الثَّقافة اليونانيَّة، ولكنَّهُ على الأرجح لم يطَّلع على كتابات أرسطو الأخلاقيَّة التي ذكر فيها نظريَّة الاعتدال ودليلنا على ذلك أكثر من واحدٍ:
أوَّلها أمانته في النَّقل فلو اطلع عليها لذكر ذلك إذ إنَّهُ ذَكَرَ أرسطو في كثيرٍ من الأخبار والرِّوايات المختلفة التي وافقه في بعضها وعارضه في بعضها الآخر، ولا يوجد البتة ما يمنعه من ذكر نظريته لو أنه اطلع عليها.
وثانيها أنَّه لو عرف نظريَّة أرسطو الأخلاقيَّة لقدَّم نظريته هو على نحو أكثر ضبطاً وتحديداً مما هي عنده كما فعل المفكرون اللاحقون عليه.





LLL







الفصل الخامس


الأخلاق والبيئة


 النزعة الإنسانية
 أسباب تباين الطبائع
 أثر البيئة في الأخلاق
 خصال قريش
 بخل أهل مرو
 البيولوجيا والأخلاق



كَيْفَ تَسْلَمُ القِيْنَةُ من الفِتنةِ أو يُمْكِنُها أن تكونَ عَفِيفةً، وإنَّما تكتسبُ الأهواءَ وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لَدْنِ مَوْلِدِها إلى أَوَان وفاتها بِمَا يصدُّ عن ذكر الله مِنْ لَـهْـوِ الحديث بَيْنَ الْخُلَعَاء والمجَّان( ).

الجاحظ

لا شَكَّ في أنَّ الأخلاق هي أخلاق الإنسان، الإنسان وحسب دون ما سواه من المخلوقات. ذلك أنَّ شروط الفعل الأخلاقي اللازمة، التي يمكن أن تكون كافيةً، والمتمثِّلة بحريَّة الاختيار والنيَّة والإرادة ، لا توجد في حدود ما نعلم إلا عند الإنسان، ولذلك نجدنا مُتَّفقين مع هارتمان ـ N. Hartmann فيما ذهب إليه من «أنَّ الموجود البشري هو وحده الحامل للقيم الأخلاقيَّة، فهو الكائن الوحيد الذي لا يتحدَّد وجوده إلا من خلال علاقته بالقيم»( ) وكذلك مع هيجل ـ G. H. Hegel الذي قال: «الأخلاق طبيعةٌ ثانيةٌ للإنسان ذلك أنَّ الطَّبيعة الأولى للإنسان هي وجوده الحيواني المباشر»( ) وعلى هذا الأساس لن نُقْدِمَ على مناقشة أحاديث الجاحظ المسهبة عن أخلاق الحيوان، وتفضيله بعضها على بعضٍِ وتفضيل بعضها على الإنسان أحياناً، وحسبنا أن نقف الآن عند مشكلةٍ أخلاقيَّةٍ أساسيَّةٍ ومهمَّةٍ، وهي علاقة الأخلاق بالبيئة، أليست الأخلاق للإنسان وحده؟! أوليس هذا النَّشاط القيمي مرتبطاً أوثق الارتباط بعلاقات البشر بعضهم ببعضٍ؟! فأين تتوضَّع الأخلاق في خضم هذه العلاقات البشريَّة؟
يقودنا هذا السؤال مباشرة، من حيث المبدأ، إلى تذكُّر الاتجاه الاجتماعي في فهم الوجدان والأخلاق وتفسيرهما، هذا الاتجاه الذي «ينضوي تحت راية المذهب التَّجريبي الذي يقرِّرُ أنَّ كلَّ فردٍ يلقى من بيئته الاجتماعية العناصر الرَّئيسة في الوجدان، ويأخذها من العادات الذَّائعة، والأمثال، والتَّقاليد، والأعراف، وأنماط الثَّواب والعقاب، ويتأثَّر بضربين من التَّربية: تربيةٍ مقصودةٍ هادفةٍ موجهةٍ، وتربيةٍ شاملةٍ مشتقَّةٍ منتثرةٍ. وقد صرَّح بهذا الرأي في القرن الثامن عشر الموسوعيون وأمثالهم من المؤمنين بأنَّ نموَّ المعرفة التَّاريخية يُبَيِّنُ نشأة الوجدان ويوضح تشكُّله على صورة رواسب حملها التَّحَاتُّ والائتكالُ من العصور الغابرة فأصبحت طبقات منضدٌ بعضها فوق بعض... وكذلك أوجست كونت ـ Auguste Comte الذي حطَّ من قيمة الفرد من حيث هو فرد. وَعَدَّهُ تجريداً يكاد لا يوجد إذا نسخ عن البيئة أو المجتمع... وتابع ـ من بعده ـ إميل دوركهايمEmile Durkheim من حيث أظهر أنَّ الحادث الاجتماعي يتَّصف بصفات عامَّةٍ تقرِّب بَيْنَهُ وبَيْنَ الحادث الأخلاقي بالمعنى الدَّقيق»( ).
ولكن هل البيئة الاجتماعيَّة وحدها هي التي تحدِّدُ الأخلاق كما يريد أنصار هذا الاتجاه، أو تؤثر فيها من وجهة نظرنا؟ قطعاً، لا يمكن الإجابة بالإيجاب على ذلك لسببين على الأقل؛ أولهما أنَّ مفهوم البيئة غير مقتصرٍ على المحيط الاجتماعي، وإنَّما يتعدَّاه إلى المحيط الجغرافيِّ والنَّفسيِّ والعضويِّ وغير ذلك مِمَّا يمكن أن يندرج في هذا السِّياق، وثانيهما تعقُّد شبكة العلاقات النَّاظمة لحياة الإنسان النَّفسيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة والجسميَّة والروحيَّة... التي تُمَثِّلُ لغزاً لا يزال العلم ـ على مجده ورفعة ما وصل إليه ـ ماضيا في سبيل حلِّه.
ترى كيف حاول أبو عثمان الجاحظ أن يحلَّ هذه المشكلة؟
قد نكون مخطئين إن نحن طالبنا مفكِّرنا، في إطار خصوصيَّته التَّاريخيَّة، أن يعالج هذه المشكلة على نحو ما نفكِّر فيه وبه اليوم من معطيات ومستجدَّات علميَّة من العسير حصرها، ولكننا ـ في اعتقادي ـ لا نبالغ إذا قلنا إنَّه قدَّم معالجاتٍ وإجاباتٍ لا تبتعد كثيراً عمَّا قدَّمه المفكرون المعاصرون، وقد لا تفترق عنها أبداً ـ إذا ما أخذنا الظُّروف التَّاريخيَّة والمعرفيَّة التي أحاطت بالجاحظ بـعـين النَّظر والحسبان.
النزعة الإنسانية
لن نشتطَّ في التَّأويل فنقول إن الجاحظ كان السبَّاق إلى فتح باب النَّـزعة الإنسانيَّة التي ظهرت في أوروبا مع الفلاسفة الموسوعيين، لأنَّ مسألة السَّبق هذه ذاتُ دلالةٍ فكريَّةٍ أشرنا إليها في صفحاتنا السَّابقة، وخاصَّةً في مثل هذه المسألة؛ مسألة نزوع الإنسان الفرد للالتقاء مع الإنسان الجنس أو العام، مسألة نزوع الإنسان إلى البحث عن محاور الالتقاء ونقاط الاتفاق مع أبناء جنسه وتعميقها وتوطيدها، فإنَّنا لا نعدم في كلِّ زمان ومكانٍ على الأرض من نزع هذا النُّـزوع وبذل كثيراً من أجله. ومفكِّرنا الجاحظ واحدٌ من هؤلاء الذين وضعوا الإنسانيَّة نصب أعينهم وأكَّدَوا وحدة الجنس البشـري وضرورة تلاحمه وتعاونه وتآزره، وضرورة إقصاء عوامل الفرقة والتَّباعد والتَّنافر. هذا الأمـر الذي بدا في أكثر من موضعٍ من كتبه على الرَّغْمِ من عمق شعوره بالمسـؤوليَّة أمام انتمائه للعروبة والإسلام، ونهوده للدِّفاع عن هذا الانتماء دفاعاً ماجداً باسلاً ضدَّ حملات الشُّعوبيَّة والزَّنادقة وبعض الاتجاهات أو الأشخاص الذين أساؤوا للدِّين بتأويلاتهم الخاطئة واجتهاداتهم المسيئة( ).
بادئ ذي بدءٍ يؤكِّد الجاحظ أنَّ دواعي الإلفة والتَّحابب والتَّعاون والانسجام بَيْنَ بني الإنسان أقوى وأشدَّ وأكثر من دواعي التَّنافر والتَّحارب والتَّشاحن والبغضاء، ولذلك لا عجب في أن تكون الغلبة دائماً للالتقاء بالوداد والمحبة، ويكون الوَهَنُ من نصيب دواعي التَّنافر( ). ويدافع عن هذا الاعتقاد بأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد جَعَلَ الخلائق على ضروبٍ مختلفةٍ ومتباينةٍ منها: البشر والملائكة والحيوانات وغيرها مما لا نعلم. وجعل البشر على هيئةٍ واحدةٍ من دون أن يفضِّلَ بعضهم على بعضٍ، أو أحداً على أحدٍ، وليس يُعْجِزُهُ أن يُوْجِدَ التَّفاوت فيما بينهم، لكنَّه لحكمةٍ منه جعلهم سواءً وسواسيةً، من حيث الإنسانيَّة «وله أن يجعل من عباده من شاء عربيًّا ومن شاء أعجميًّا، ومن شاء قرشيًّا ومن شاء زنجيًّا، كما لـه أن يجعل من شاء ذكراً ومن شاء أنثى ومن شاء خنثى، ومن شاء أفرده من ذلك فجعله لا ذكراً ولا أنثى ولا خنثى، وكذلك خَلَقَ اللهُ الملائكةَ وهم أكرم على الله من جميع الخليقة، وخلق آدم فلم يجعل لـه أباً ولا أمَّا، وخلقه من طين ونسبه إليه، وخلق حواء من ضلع آدم وجعلها لـه زوجاً وسكناً، وخلق عيسى من غير ذكر ونسبه إلى أمه التي خلقه منها»( ).
ولذلك فإنَّ بني البشر ـ فيما يرى أبو عثمان ـ وإن تباينوا واختلفوا في انتماءاتهم وولاءاتهم ولغاتهم فإنَّهُم متَّفقون في الأصل والفصل والجوهر والمظهر بما تَمَيَّزوا به عن جميع خلائق الله تعالى، وما نُدِبُوا لـه وأُوْكِلَ إليهم( ). ليخلص من ذلك إلى نتيجة قد تلقى الهجنة والاستغراب في عصرنا هذا، عصر فوران الانتماءات القوميَّة والعرقيَّة، وهي أنَّ انتماء المرء إنَّما يكون إلى القوم الذين يعيش بَيْنَ ظهرانيهم لا إلى الذين كان مَنْبَتُهُ أو أصله منهم، بمعنى أنَّ المولى الذي يعيش مع العرب مثلاً يصبح منهم، ويلتصق نسبه بنسبهم ـ استناداً إلى قوله عليه الصلاة والسلام ـ مولى القوم منهم( ).
الحقيقة أنَّ الجاحظ يريد أن يقول من ذلك: إنَّ الشعوبي؛ الفارسي أَو الرومي أَو غيره... الذي يعيش في كنف العرب هو ابن هذا القوم وإليهم ينتسب لأنَّهُ بفضل حضـارتهم صار ما صار إليه من حال... ولكنَّه أيضاً يكاد يقول لعرب اليوم إنَّ الانتماء إلى قومٍ هو شعور المرء بهذا الانتماء، ولذلك فالعربي الذي يذمُّ العرب ويقدح فيهم ترديداً لما يريده أعداء العرب ويستقوي بالأعداء ويعتزُّ بهم لا يجـوز القول إنَّهُ عربي وإنَّما هو من القوم الذين يردِّد دعواهم ضدَّ العرب ويحتمي بهم. وكل ما هو مثل ذلك قابل لأن يقاس عليه.
ثُمَّ يعقِّب على ذلك بعد قليلٍ قائلاً: «وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالبنوي خراساني، وإذا كان الخراساني مولى، والمولى عربي، فقد صار الخراساني والبنوي والمولى والعربي واحداً، وأدنى ذلك أن يكون الذي معهم من خصال الوفاق غامراً ما معهم من خصال الخلاف، بل هم في معظم الأمر وعمود النسب متفقون»( ).
وحَتَّى لا يظنَّن ظانٌّ أنَّ هذه الأقوال جاءت عَرَضاً أو على نحوِ شبه العَرَضِ فقد عزَّز مفكِّرنا رسالته في مناقب التُّرك بنـزعة إنسانيَّة واضحةٍ صريحة، إذ يقول: «وكتابنا هذا إنَّما تكلَّفناه لنؤلِّف بَيْنَ قلوبهم التي كانت مختلفة، ولنـزيد الإلفة إن كانت مؤتلفةً، ولنخبر عن اتِّفاق أسبابهم لتجمع كلمتهم، ولتسلم صدورهم، وليعرف من كان لا يعرف منهم موضع التَّفاوت في النَّسب، وكم مقدار الخلاف في الحسب، فلا يعير بعضهم معير، ولا يفسد عدوٌّ بأباطيلَ مموهةٍ وشبهاتٍ مزوَّرةٍ، فإنَّ المنافق العليم والعدو ذا الكيد العظيم، قد يصوِّر لهم الباطل في صورة الحقِّ، ويلبس الإضاعة ثياب الحزم»( ).
بديهيٌّ أنَّ الوقوف على هذه الحقيقة من قِبَلِ عموم البشر سيقود إلى مزيدٍ من الألفة والانسجام والتَّفاهم بَيْنَ البشر، ويسهم في تخطِّي ما بينهم من حواجز وموانع وتنافر وبغضاء، وهذا ما ذهب إليه مفكِّرُنا بقوله: «وإذا عُرِفَ سائر ذلك سامحت النُّفوس، وذهب التَّعقيد، ومات الضَّغْنُ، وانقطع سَبَبُ الاستثقال ، فلم يبق إلا التَّحاسد والتَّنافس الذي لا يزال يكون بَيْنَ المتقاربين في القرابة وفي المجاورة»( ).
يبدو جلياً في هذه الخاتمة كيف أنَّ الجاحظ لم يأخذه الإسترسال وسحر المثال ليظنَّ أنَّ معرفة هذه الحقيقة ستقضي على كلِّ تنافرٍ وتنابذٍ بَيْنَ البشر، وإنَّما ظَلَّ واقعيًّا ملتزماً بِمَا قدَّم به من جدليَّة الخير والشَّر، وعدم إمكان انتفاء الشَّر، فقال ببقاء التَّنافس والتَّحاسد وما جرى مجراها مما لا ينتفي من بَيْنَ الأقارب بالقربة والجوار، وكأَنَّهُ يريد القول إنَّ معرفة حقيقة وحدة الانتماء الإنسانيِّ لن تقضي على الشَّـرِّ بالإطلاق وإنَّما ستحطِّم الحواجز بَيْنَ الأمم والشُّعوب لتجعلهم وكأنَّهُم قبيلةٌ أو أمَّةٌ واحدةٌ، يجري على الإنسانيَّة من أساليب التَّعامل والعلاقات ما يجري على هذه الأمَّة.
أسباب تباين الطبائع
إنَّ ما سَلَفَ نعته ودار عليه الحديث من نزوع الجاحظ الإنسانيِّ يوحي للمتتبِّع بأنَّ مفكِّرنا يريد أو قد يريد القول بتماثل النَّاس وتشابههم في الميول والطَّبائع والأهواء... في حين أنَّ الواقع ينطق بغير ذلك تماماً، فالنَّاس أممٌ وشعوبٌ وقبائل، وحتَّى الأمَّةُ الواحدة فيها من الاختلاف والتَّباين ما يكاد يداني الفوارق بَيْنَ أمَّة وأخرى، فكيف وفَّق مفكِّرنا بَيْنَ نزوعه الإنساني والواقع المليء بالاختلافات والتَّناقضات؟
أقرَّ أبو عثمان بهذه الفوارق والاختلافات بَيْنَ الشُّعوب من جهة وبَيْنَ أبناء الأمَّة الواحدة أو المجتمع الواحد من جهةٍ ثانية. وذهب إلى أنَّ وراء ذلك عِللاً وأسباباً مزدوجةَ الطَّابع، طرفها الأول إلهيٌّ وطرفها الآخر طبيعة حياة البشر على الأرض وما تفرضه من معطياتٍ وظروفٍ تقتضي هذا التَّباين، وفي ذلك يقول: «واعلم أنَّ الله تعالى إنَّما خالف بَيْنَ طبائع النَّاس ليوفِّق بينهم، ولم يحب أن يوفِّق بينهم فيما يخالف مصلحتهم، لأنَّ النَّاس لو لم يكونوا مسخَّرين بالأسباب المختلفة وكانوا مجبرين في الأمور المتَّفقة والمختلفة لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفي هذا ذهاب العيش وبطلان المصلحة والبوار والثَّواء، ولو لم يكونوا مسخِّرين بالأسباب مرتهنين بالعلل لرغبوا عن الحجامة أجمعين وعن البيطرة والقصابة والدِّباغة، ولكن لكلِّ صنفٍ من النَّاس مزينٌ عندهم ما هم فيه ومسهِّلٌ ذلك عليهم، فالحائك إذا رأى تقصيراً من صاحبه أو سوء حذقٍ أو خرقاً قال لـه يا حجَّام، والحجَّام إذا رأى تقصيراً من صاحبه قال لـه يا حائك. ولذلك لم يجمعوا على إسلام أبنائهم في غير الحياكة والحجامة والبيطرة والقصابة»( ).
ولا يتوقَّف رأيه عند هذا الحدِّ بل يذهب إلى أنَّ هذه الضُّروب من التَّفارق إنَّما هي أسباب التَّوافق استناداً إلى ما أكَّده من ضرورة التَّجادل الدَّائم بَيْنَ الخير والشَّر فيقول: «ولولا أنَّ الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبباً للاتفاق والائتلاف لما جعل واحداً قصيراً وآخر طويلاً، وواحداً حسناً والآخر قبيحاً، وواحداً غنيًّا وآخر فقيراً، وواحداً عاقلاً وآخر مجنوناً، وواحداً ذكيًّا وآخر غبيًّا، ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختبار يطيعون، وبالطَّاعة يسعدون، ففرَّق بينهم ليجمعهم وأحبَّ أن يجمعهم على الطَّاعة ليجمعهم على المثوبة، فسبحانه وتعالى ما أحسن ما أبلى، وأولى وأحكم ما صنع، وأتقن ما دبَّر، لأنَّ النَّاس لو رغبوا كلُّهم عن عار الحياكة لبقينا عراة، ولو رغبوا بأجمعهم عن كدِّ البناء لبقينا بالعراء... فسخَّرهم على غير إكراه، ورغَّبهم من غير دعاء»( ).
هذا فيما يخصُّ الاختلاف بَيْنَ أفراد الأمَّة الواحدة، أما فيما يخصُّ افتراق الشُّعوب فقد انطلق الجاحظ من الأسباب ذاتها ليبرهن هذا الافتراق بَيْنَ الشُّعوب، وليصل من خلالها إلى عوامل جديدة تكرِّس هذا الافتراق في الطَّبائع والعادات والأخلاق وأنماط الحياة، وأهمها الشُّعور بالانتماء إلى الوطن، والعوامل الجغرافيَّة، فيقول: «ولولا اختلاف طبائع النَّاس وعللهم لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها، ومن البلاد إلا أعدلها، ومن الأمصار إلا أوسطها، ولو كان كذلك لتناجزوا على طلب الواسط، وتشاجروا على البلاد العليا، ولما وسعهم بلد، ولما تَمَّ بينهم صلحٌ، فقد صار بهم التَّسخير إلى غاية القناعة. وكيف لا يكون كذلك وأنت لو حَوَّلْتَ ساكني الآجام إلى الفيافي وساكني السَّهل إلى الجبال، وساكني الجبال إلى البحار، وساكني الوَبَرِ إلى الْمَدَرِ، لأذاب قلوبهم الهمُّ، ولأتى عليهم فرط النِّزاع، وقد قيل: عَمَّرَ الله البلدان بحبِّ الأوطان. وقال عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى: ليس النَّاس بشيءٍ من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم. وقال الله جـلَّ وعزَّ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِم أَنِ اقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوْا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوْهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ مِنْهُمْ}( ) فَقَرَن الضَّنَّ بالأوطان إلى الضَّنِّ بِمُهَجِ النُّفوس، وليس على ظهرها إنسانٌ إلاَّ وهو معجب بعقله لا يسرُّه أنَّ لـه جميع ما لـه ما لغيره، ولولا ذلك لماتوا كَمَداً، ولذابوا حسداً»( ).
ولهذه الأسباب اتَّسمت كلُّ أمَّةٍ بخصائص وصفاتٍ افترقت بها عن غيرها وامتازت بها، فوجَّه العرب قِوَاهم واهتمامهم إلى قول الشِّعر والعناية باللغة، وقيافة الأثر وحفظ الأنساب والاهتداء بالنُّجوم وتعرُّف الأنواء والبصر بالخيل والحرب، فبلغوا في ذلك الغاية وأدركوا كلَّ أمنيةٍ، ولم يكونوا أصحاب تجارةٍ أو صناعةٍ أو طبٍّ أو حسابٍ أو فلاحةٍ لخوفهم من صَغَار الجزية، ولم يكونوا فقراء حَتَّى الإدقاع ولا أغنياء إلى الحدِّ الذي يورث البلادة، وإنَّما كانوا أصحاب أذهان حدادٍ ونفوسٍ أبيَّة وإحساسٍ مرهفٍ، وكلُّ هذا يتلاءم مع حياة البداوة والفيافي ويُعِيْنُ على النُّبوغ في الآداب( ).
أما التُّرك فلم ينصـرف اهتمامهم وانشغالهم إلى الطبِّ والتِّجارة والصِّناعة والفلاحـة والهندسة، ولا إلى البنيان وشـقِّ الأنهار وجباية الغلاَّت، وإنَّما كانوا أصحاب عمد وسكَّانَ فيافٍ وأرباب مواشٍ، وهم أعراب العجم، ولم يكـن همُّهم غير الغزو والغارة والصَّيد وركوب الخيل ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم، وبهذا عرفوا وعليه قامت مفاخرهم جميعاً( ).
أمَّا اليونانيون فقد اهتمُّوا بالفلسفة وتفرَّغوا للنَّظر في الأسباب والعلل لأنَّهُم لم يكونوا تُجَّاراً أو صُنَّاعاً بأكفهم، ولا أصحاب زَرْعٍ وبناءٍ وغرسٍ، ولا أصحاب جَمْعٍ وَمَنْعٍ وَحِرْصٍ وَكَدٍّ، وكان الملوك يفرغون المفكرين ويجرون عليهم كفايتهم، فانصرفوا للتَّفكير في أنفسهم، فاستخرجوا الآلات والأدوات والملاهي والمزامير والمعازف والطِّب والحساب واللحون وآلات الحرب كالمجانيق والعرَّادات( ) والرتيلات والدبابات( ) وأكثر النفط( ) وغير ذلك( ).
وأمَّا أهـل الصِّين فهم أصحاب السَّبك والصِّياغـة، والإفراغ والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنَّحت والتَّصاوير، والنَّسخ والخطِّ، ورفق الكفِّ في كلِّ شيءٍ يتولُّونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره وتباينت صنعته وتفاوت ثمنه( ). أمَّا الفرس فقد ذهب اهتمامهم إلى العناية بالملك والرِّياسة والسِّياسة، فنظَّموا الإدارة ووضعوا القوانين الدَّقيقة المحكمة( ).
وليخلص في نهاية مطاف تحليله وعرضه لأحوال الأمم وأسباب اختلافها وتباينها إلى نتيجة يعرضها في كتاب البيان والتبيين يرى فيها أنَّ الأمم التي فيها الأخلاق والآداب والعلم والحكم أربعة هي: العرب والهند وفارس والرُّوم( ).
أثر البيئة في الأخلاق
انطـلاقاً مِمَّا سـبق نسـتطيع تَبَيُّنَ كيفيَّة تأثير البيئة الجغرافيَّة والطَّبيعيَّة ودورها في تحديد سلوك النَّاس وميولهــم وأهوائهم وطبائعهم... إلى حدٍّ جدِّ بعيدٍ، ويؤكِّد مفكِّرنا هذه الحقيقة مرَّة أخرى فيقول: «لولا ما مَنَّ الله به على كلِّ جيلٍ منهــم من التَّرغيب في كلَّ ما تحت أيديهم، وتزيين كلِّ ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوَّضاً إلى العقول، وإلى اختيارات النُّفوس ـ ما سَكَنَ أهل الغياض والأدغال في الغَمَق( ) واللَّثَق( )، ولما سكنوا مع البعوض والهمج، ولما سَكَنَ سُكَّان القلاع في الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذِّئاب والأفاعي وحيث من عزَّ بزَّ، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتَّغرير، ولما رضي أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، ولالتمس الجميع السَّكن في الواسطة، وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمتعة. وكذلك تكون أحوالهم في اختيار المكاسب والصِّناعات، وفي اختيار الأسماء والشَّهوات، ولاختاروا الخطير على الحقير، والكبير على الصغير»( ).


ثُمَّ يتابع معقباً بأن هذه السبب هو الذي حدا بأناس إلى اختيار ما لا يقبله غيرهم ولا يرضون به، بل إلى استحسان القبيح على الحسن عند بعض الناس، فقال: «ألا تراهم قد اختاروا ما هو أقبح على ما هو أحسن من الأسماء والصِّناعات، ومن المنازل والديارات، من غير أن يكونوا خدعوا أو استكرهوا، ولو اجتمعوا على اختيار ما هو أنفع، ورفض ما هو أوضع من اسم أو كنية، وفي تجارة وصناعة، ومن شهوةٍ وهمَّةٍ، لذهبت المعاملات، وبطل التَّمييز، ولوقع التَّجاذب والتَّغالب، ثُمَّ التَّحارب، ولصاروا غَرَضاً للتَّفاني، وأكلةً للبوار»( ).
ولا عجب إذ ذاك في أن يكون لهذه البيئة تأثيرٌ واضحٌ في الأخلاق، وخاصَّةً إذا علمنا أنَّ الأخلاق أو الآداب قد «وُضِعَتْ على أصول الطَّبائع»( ) كما يقول الجاحظ.
ولعلَّ في هذا ما يفسِّر لنا اجتماع أفراد كلِّ أمَّةٍ من الأمم على أنماطٍ معيَّنَةٍ من السُّلُوْكِ الأخلاقيِّ والاجتماعيِّ والنَّفسيِّ «فالعرب كلُّهم ـ على سبيل المثال، كما يقول أبو عثمان ـ شيءٌ واحدٌ، لأنَّ الدَّار والجزيرة واحدةٌ، والأخلاقَ و الشِّيمَ واحدةٌ، وبينهم من التَّصاهر والَّتشابك والاتفاق في الأخلاق والأعراق، من جهة الخؤولة المردَّدَةِ والعمومة المشتبكة، ثُمَّ المناسبة التي بنيت على غريزة التُّربة، وطباع الأهواء والماء، فهم في ذلك شيءٌ واحدٌ في الطَّبيعة واللغة، والهمَّة والشَّمائل، والمراعي والرَّاية، والصِّناعة والشَّهوة»( ).
يبدو من ذلك أيضاً أنَّ الجاحظ يميل إلى أنَّ العوامل الطَّبيعيَّة تلعب دوراً ما في الأخلاق والعناصر المركِّبة للإنسان وهذا ما يؤكِّده في مكانٍ آخر فيقول: «ويدلُّ على صلاح مائهم كثرةُ دورهم، وطول أعمارهم، وحسن عقولهم، ورفق أكفِّهم، وحذقهم بجميع الصِّناعات، وتقدُّمهم في ذلك لجميع النَّاس»( ).
البيئة ـ كما أشرنا ـ ليست مقتصرةً على المحيط الجغرافيِّ، وإنَّما تمتدُّ لتشمل الإطار الاجتماعيَّ والنَّفسيَّ والتَّربويَّ والدِّينيَّ... للفرد. وهذا ما لم يغفله الجاحظ فقد تناوله بمزيدٍ من الإسهاب والتَّفصيل ـ وهذا ما عرضنا لبعضه، وسنعرض لبعضه الآخر في فصلٍ قادمٍ ـ وحسبنا أن نشير هنا إلى أنموذجٍ بديعٍ في تبيان أثر المحيط الاجتماعي في الفرد، إذ يكشف الجاحظ عن أسباب تَهَتُّكِ القيان وبعدهن عن اتِّباع الأخلاق المحمودة، وعن تمثُّل القيم الأخلاقيَّة الإيجابيَّة، فيقول: «وكيف تسلم القِيْنَةُ من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً، وإنَّما تكتسب الأهواء وتتعلَّمُ الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث، وصنوف اللعب والأخانيث، وبين الخلعاء والمجَّان، ومن لا يُسمَعُ منه كلمة جدٍّ ولا يرجع منه إلى ثقة، ولا دين ولا ***** مروءة»( ).
ويتابع في وصف حال القيان وما هنَّ عليه من اهتمامات وممارسات، وكيف يرتبط ذلك بما هو مطلوب منهنَّ تبعاً لطبيعة انتمائهنَّ، فيقول: «تروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً، يكون الصَّوت فيما بَيْنَ البيتين إلى أربعة أبيات، عدد ما يدخل في ذلك من الشِّعر إذا ضرب بعضه ببعضٍ عشرة آلاف بيتٍ، ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلةً، ولا تهيُّب من عقابٍ، ولا ترغيب في ثواب، وإنَّما بنيت كلُّها على ذكر الزِّنى والقيادة، والعشق والصَّبوة، والشَّوق والغَلَمَة.
ثُمَّ لا تنفكُّ من الدِّراسة لصناعتها منكبَّةً عليها، تأخذ من الْمُطارحين الذين طَرْحُهُم كلُّه تجميش وإنشادهم مراودة، وهي مضطرَّة إلى ذلك في صناعتها، لأنَّها إن جفتها تفلَّتت، وإن أهملتها نقصت... فهي لو أرادت الهدى لم تعرفه، ولو بغت الغفلة لم تقدر عليها»( ).

ثُمَّ يعرض الجاحظ لنماذج كثيرة من أثر البيئة في طبائع الإنسان وأخلاقه، منها ما هو على المستوى الفردي ـ باعتبار ـ كحال القيان سالف الذِّكر ونماذج كثيرة من البخلاء والمغنِّيين والكُتَّاب والمعلِّمين والغلمان والجواري والوكلاء والتُّجار وسواهم( ). ومنها ما هو على المستوى الجمعي من حيث يتَّصل باقتفاء أفراد أمَّةٍ ما أو بلدٍ ما ضروباً معيَّنةً من أنماط السُّلوك والأخلاق والعادات والأعراف والتَّقاليد... وانتقال ذلك من جيلٍ إلى جيلٍ بانطباع الجديد بالقديم من حيث يدري أو لا يدري عَبْرَ ما يمكن أن نسمِّيه التَّأثير البيئيِّ الشَّامل في الأفراد، ومن ذلك نجد حديثه في خصال قريش وهاشم ومصر والكوفة والبصرة ومناقب التُّرك والعثمانيَّة والنَّابتة والبيضان والسُّودان( )... وتأكيداً لذلك وتوضيحاً لـه سنقف عند أنموذجين؛ أولهما خصال قريش وثانيهما بخل أهل مرو.
خصال قريش
يخلص الجاحظ مما سبق إلى أنَّ البشر ينقسمون باعتبارٍ أوَّل إلى أممٍ، وكلُّ أُمَّة تختصَّ بمجموعةٍ من السِّمات والمزايا الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والنَّفسيَّة... التي تكوَّنت بفعل ظروفٍ متعدِّدة من أكثرها أهمِّيَّة البيئة الجغرافيَّة والطَّبيعيَّة، ثُمَّ تنشعب كلُّ أمَّةٍ إلى قبائل أو بلدانٍ وضياعٍ يتَّسم أهل كلٍّ منها أيضاً بخصائص تنفرد بها عمَّن سواها من قبائل أو بلدان أخرى من الانتماء إلى الأمَّة ذاتها، وهذا ما أكَّده غير مرَّةٍ، ويعود ليؤكِّده هنا إبَّان عرضه لخصال قريش دون سائر العرب فيقول:
«ونحن وإن أطنبنا في ذكر جملة القول في الوطن، وما يعمل في الطَّبائع، فإنَّا لم نذكر خصال بلدةٍ بعينها، فنكون قد خالفنا إلى تقديم المؤخَّر وتأخير المقدَّم. وقلتم: خبِّرونا عن الخصال التي بانت بها قريش عن جميع الناس، وأنا أعلم أنَّك لم ترد هذا، وإنَّما أردت الخصال التي بانت بها قريش من سائر العرب، كما ذكرنا في الكتاب الأول الخصال التي بانت بها العرب عن العجم، لأنَّ قريشاً والعرب قد يستوون في مناقب كثيرة، قد يُلفى في العرب الجواد المبرُّ وكذلك الحليم والشُّجاع، حَتَّى يأتي على خصالٍ حميدة؛ ولكنَّنا نريد الخصائص التي في قريش دون العرب.
فمن ذلك أنَّا لم نر قريشيًّا انتسب إلى قبيلة من قبائل العرب، وقد رأينا من قبائل العرب الأشراف رجالاً ـ إلى الساعة ـ ينتسبون في قريش، كنحو الذي وجدنا في بني مرَّة بن عوف، والذي وجدنا من ذلك في بني سليم، وفي خزاعة، وفي قبائل شريفة.
ومما بانت قريش أنَّها لم تلِدْ في الجاهلية ولداً قطُّ لغيرها، ولقد أخذ ذلك منهم سكَّان الطَّائف، لقرب الجوار وبعض المصاهرة، ولأنَّهُم كانوا حُمْساً وقريش حَمَّستهم( ).
ومما بانت به قريش من سائر العرب أنَّها لم تكن تزوِّج أحداً من أشراف العرب إلا على أن يتحمَّس، وكانوا يُزَوَّجُون من غير أن يشترط عليهم، وهي عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، والحارث بن كعب. وكانوا ديانين، ولذلك تركوا الغزو لما فيه من الغصب والغشم، واستحلال الأموال والفروج.
ومن العجب أنَّهُم مع تركهم الغزو كانوا أعزَّ وأمثل، مثل أيَّام الفجار وذات كهف، ألا ترى أنَّهُم عند بنيان الكعبة قال رؤساؤهم: لا تخرجوا في نفقاتكم على هذا البيت إلا من صدقات نسائكم، ومواريث آبائكم! أرادوا مالاً لم يكسبوه ولا يشكُّون في أنَّه لم يدخله من الحرام شيء.
ومن العجب أنَّ كسبهم لمَّا قلَّ من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعترهم من بخل التجَّار قليلٌ ولا كثيرٌ، والبخل خِلقةٌ في الطِّباع، فأعطوا الشُّعراء كما يعطي الملوك، وقَــرَوا الأضياف، ووصلوا الأرحام و‏قاموا بنوائب زوَّار البيت، فكان أحدهم يَحِيْسُ( ) الْحَيْسَةَ في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد، والرَّاجل والرَّاكب وأطعموا بدل الحيس الفالوذج.
ومن خِصالهم أنَّهم لم يشاركوا العرب والأعراب في شيءٍ من جفائهم، وغِلَظِ شهواتهم، وكانت العرب قاطبةً تَرِدُ مكَّة في أيام الموسم، وتَرِدُ أسواق عكاظٍ وذا المجاز، وتقيم هناك الأيَّام الطِّوال، فتعرف قريش، لاجتماع الأخلاق لهم والشَّمائل والألفاظ، والعقول والأحلام، وهي وادعةٌ وذلك قائمٌ لها، راهنٌ عندها في كلِّ عامٍ، تتملك عليهم فيقتسمونهم، فتكون غطفان للميرة، وبنو عامر لكذا، وتميم لكذا، تغلبها المناسك وتقوم لجميع شأنها( ).
قالوا: وقد تعجَّب النَّاس من ثبات قريش، وجزالة عطاياهم، واحتمالهم المؤن الغلاظ في دوام كسبهم من التِّجارة، وقد علموا أنَّ البخل والبصر في الطَّفيف مقرونٌ في التِّجارة، وذلك خُلُقٌ من أخلاقهم. وعلى ذلك شاهد أهل التَّرقيح( ) والتَّكَسُّب والتَّدنيق، فكان في ثبات جودهم العالي على جود الأجواد، وهم قوم لا كسب لهم إلا من التِّجارة، عجبٌ من العجب»( ).
بخل أهل مرو
أما بخل أهل مرو؛ هذا البخل الغريب حَتَّى الطَّرافة، والطَّريف حَتَّى الإدهاش، فقد أفاد منه مفكرنا في تأكيد نظريَّته القائلة بوضع الأخلاق على أصول الطَّبائع، وأنَّ الطَّبائع انعكاسٌ مباشرٌ للبيئة الجغرافيَّة والطَّبيعيَّة والاجتماعيَّة، ويتجلَّى ذلك بنصاعة ووضوح في القصَّة التَّالية التي يرويها لنا أبو عثمان:
قال أحمد بن رشيد: «كنت عند شيخٍ من أهل مرو، وصبيٌّ لـه صغيرٌ يلعب بَيْنَ يديه، فقلت له، إمَّا عابثاً وإمَّا ممتحناً: أطعمني من خبزكم. قال: لا تريده، هو مرٌّ. فقلت: فاسقني من مائكم. قال: لا تريده، هو مالحٌ. قلت: هات لي من كذا وكذا. قال: لا تريده، هو كذا وكذا. إلى أن عددت أصنافاً كثيرةً، كلُّ ذلك يمنعُنِيه ويبغِّضه إليَّ. فضحكَ أبوه وقال: ما ذنبنا؟ هذا من عَلَّمَهُ ما تسمع؟ يعني أنَّ البخل طبعٌ فيهم وفي أعراقهم وطينتهم»( ).
والأغرب من ذلك والأكثر إدهاشاً، حسبما اكتشف الجاحظ ولاحظ، هو أنَّ هذا الطَّبع غير مقتصرٍ على طينة النَّاس وأعراقهم وحسب بل يمتدُّ إلى الحيوانات أيضاً، الأمر الذي وسمها بالشُّح والأنانيَّة حَتَّى راحت تتصرَّف كما لو أنَّها بشرٌ، وهذا ما يعكس أثر البيئة في الكائنات الموجودة فيها عكساً واضحاً، وإن كنَّا لا نميل إلى الذَّهاب مع الجاحظ في هذه المبالغة التي لا نظنُّ إلا أنَّ المراد منها هو لإثارة الضَّحك والتَّهكم اللاذع. يقول: «قال ثمامة: لم أر الدِّيك في بلدة قطُّ إلا وهو لافظٌ؛ يأخذ الحبَّة بمنقاره، ثُمَّ يلفظها قُدَّام الدَّجاجة. إلا دِيَكَة مروٍ، فإنِّي رأيت دِيَكَةَ مروٍ تسلب الدَّجاج ما في مناقيرها من الحبِّ. قال: فعلمت أنَّ بخلهم شيءٌ في طبع البلاد وفي جواهر الماء، فمن ثُمَّ عمَّ جميع حيواناتهم»( ).
ولا يكتفي أبو عثمان بحكمه هذا على أهل مرو فيورد لتأكيد ذلك نماذج متعدِّدة ومتباينة من نوادر بخل أهل مرو وطرائفهم نقتطف فيما يلي بعض هذه النَّوادر( ).
المروزي وزائره: قال أصحابنا: يقول المروزي للزَّائر إذا أتاه، وللجليس إذا طال جلوسه: تغديت اليوم؟ فإن قال: نعم، قال: لولا أنَّك تغدَّيت لغدَّيتك بغداءٍ طَيِّبٍ، وإن قال: لا، قال: لو كنت تغدَّيت لسقيتك خمسة أقداح. فلا يصير في يده على الوجهين قليلٌ ولا كثيرٌ.
ابن أبي كريمة والوضوء بالعذب: وكنت في منـزل ابن أبي كريمة، وأصله من مـرو. فرآني أتوضأ من كوز خَزَفٍ، فقال: ســبحان الله! تتوضـأ بالعذب، والبئر لك معرضــة؟ قلت: ليس بعذب، إنَّما هو من ماء البئر. قال: فتفسد علينا كوزنا بالملوحــة. فلم أدر كيف أتخلَّص منه.
بخلٌ شديد الغرابة: وزَعَمَ أصحابنا أنَّ خُراسانيَّة ترافقوا في منـزل، وصَبَرُوا عن الارتفاق بالمصباح ما أمكن الصَّبر. ثُمَّ إنَّهُم تناهدوا وتخارجوا، وأبى واحدٌ منهم أن يعينهم، وأن يدخل في الغُرْمِ (ما يجب أداؤه من المال) معهم، فكانوا إذا جاء المصباح شدُّوا عينيه بمنديلٍ، ولا يزال ولا يزالون كذلك إلى أن يناموا ويطفئوا المصباح، فإذا أطفأوه أطلقوا عينيه.
من غريب الاتفاق: ورأيت أنا حمَّارة منهم، زهاء خمسين رجلاً، يتغدُّون على مباقل( ) بحضرة قرية الأعراب، في طريق الكوفة، وهم حجَّاج، فلم أر من جميع الخمسين رجلين يأكلان معاً، وهم في ذلك متقاربون، يحدِّث بعضهم بعضاً، وهذا الذي رأيته منهم من غريب ما يتَّفق للنَّاس.
النظَّام وجاره الخراساني: حدَّثَني أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّار النظَّام قال: قلت مرَّةً لجارٍ كان لي، من أهل خراسان: أعرني مقلاتكم، فإنِّي أحتاج إليه. قال: قد كان لنا مِقلى ولكنَّه سُرِق. فاستعرت من جار لي آخر، فلم يلبث الخراساني أن سمع نشيش اللحم من المقلى، وشم الطُّباهج( ) فقال لي، كالمُغضب: ما في الأرض أعجب منك، لو كنت خبَّرتني أنَّك تريده للحمٍ أو لشحمٍ لوجدتني أسرع إليك به، إنَّما خشيتك تريده للباقلَّى (الفول)، وحديد المقلى يحترق إذا كان الذي يقلى فيه ليس بدسم. وكيف لا أُعيرك إذا أردت الطُّباهج، والمقلى بعد الردِّ من الطَّباهج أحسن حالاً منه وهو في البيت؟

كلام بكلام: قال إبراهيم بن السندي: بينما كان خراساني يتغدَّى في بستان إذ مرَّ به رجلٌ فسلَّم عليه، فردَّ السَّلام، ثُمَّ قال: هلمَّ عافاك الله! فلما نظر إلى الرَّجل قد انثنى راجعاً، يريد أن يطفر الجدول أو يعدِّي النَّهر، قال له: مكانك، فإنَّ العجلة من الشَّيطان. فوقف الرَّجل، فأقبل عليه الخراساني وقال: تريد ماذا؟ قال: أريد أن أتغدى. قال: ولم ذاك؟ وكيف طمعت في هذا؟ ومن أباح لك مالي؟ قال الرَّجل: أوليس قد دعوتني؟ قال: ويلك، لو ظننتُ أنَّك هكذا أحمق ما رددت عليك السَّلام، الآيين (العادة) ( ) فيما نحن فيه أنْ تكون إذا كنت أنا الجالس وأنت المار، أن تبدأ أنت فتسلِّم، فأقول أنا حينئذٍ مجيباً لك: وعليكم السَّلام، فإن كنتُ لا آكل شيئاً سكتُّ أنا وسكت أنت، ومضيت أنت وقعدت أنا على حالي. وإن كنت آكل فههنا آيين آخر، وهو أن أبدأ أنا فأقول: هلمَّ، وتجيب أنت فتقول: هنيئاً. فيكون كلام بكلام. فأمَّا كلامٌ بفعالٍ وقولٌ بأكلٍ فهذا ليس من الإنصاف. قال: فَوَرَدَ على الرَّجل شيءٌ لم يكن في حسابه. فقال: قد أعفينا من السَّلام ومن تَكَلُّف الرَّدِّ. قال: ما بي إلى ذلك حاجة، إنَّما هو أن أعفي أنا نفسي من هلمَّ وقد استقام الأمر.
البيولوجية والأخلاق
وأخيراً، يحقُّ لنا أن نتساءل في نهاية هذا المطاف، ورُبَّما استناداً إليه: هل ثَمَّةَ علاقة بَيْنَ الأخلاق والبيولوجية؟ بمعنى، هل تؤثر البيولوجيا في الأخلاق أو تتأثر بها؟ الحقُّ أن هذا التَّساؤل بقدر ما هو غريب وطريف فإنَّهُ ينطوي على قيمةٍ معرفيَّةٍ ويضرب على وترٍ حسَّاسٍ من أوتار وَلَعِ الإنسان بالوصول إلى الحقيقة والكشف عن العلل التي تُسيِّره وتقف وراء ضروب سلوكه وتصرفاته، وأفعاله وردود أفعاله. وهو وإن كان يبدو غير مسوَّغٍ لدى كثيرين فإنَّه لا يعدم مشـروعيَّته في الحقل المعرفيِّ والفلسفيِّ، ويجب أن يُعطى حَقَّهُ من البحث والدِّراسـة على ضوء ما وصلت إليه العلوم النَّظرية والتطبيقيَّة من معارف ومعطيات جديدة. وهذا ما لا نعزم خوض غماره الآن لأنَّهُ أمرٌ يطول بنا ويستحقُّ بحثاً مستقلاً، وإنَّما نريد الوقوف على رأي الجاحظ في هذه المشكلة.
وصل مفكرنا من خلال تجربته الحياتيَّة ومعارفه إلى نتيجةٍ تؤكِّدُ ما أجمعت النَّاس في عصره «على أنَّهُ ليس في الأرض أمَّةٌ السَّخاءُ فيها أعمُّ وعليها أغلب من الزنج، وهاتان الخلتان لم توجدا قطُّ إلا في كريمٍ. والزِّنجي من حسن الخلق وقلَّة الأذى لا تراه أبداً إلا طيب النَّفس، ضحوك السِّنِّ، حسن الظَّنِّ. وهذا هو الشرف»( ).
ولكنَّه وجد من يعترض على هذا الحكم بقوله: «إنَّهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ولقصر نظرهم»( )، الأمر الذي أثار حفيظة مفكِّرنا وحفزه على مناقشة هذا الاعتراض الادعاء وتبيان جوانب التَّناقض فيه. فقال: والقول واضحٌ والنِّقاش لا يحتاج إلى أي تعليق:
«فقلنا لهم: بئس ما أثنيتم على السَّخاء والأَثَرَةِ، وينبغي في هذا القياس أن يكون أوفر النَّاس عقلاً وأكثر النَّاس علما أبخل النَّاس بخلاً وأقلَّهم خيراً وقد رأينا الصَّقالبة أبخل من الرُّوم، والرُّوم أبعد رويَّة وأشدُّ عقولاً، وعلى قياس قولكم أنْ قد كان ينبغي أن تكون الصَّقالبة أسخى أنْفُساً وأسمح أكفَّا منهم.
وقد رأينا النِّساء أضعف من الرِّجال عقولاً، والصبيان أضعف عقولاً منهم، وهم أبخل من النِّساء، والنِّساء أضعف عقولا من الرِّجال. ولو كان العقل كلَّما كان أشدَّ كان صاحبه أبخل، كان ينبغي أن يكون الصَّبي أكرم النَّاس خصالاً. ولا نعلم في الأرض شرًّا من صبي: هو أكذب النَّاس وأنمُّ النَّاس، وأشره النَّاس وأبخل النَّاس، وأقلُّ النَّاس خيراً وأقسى النَّاس قسوةً، وإنَّما يخرج الصَّبي من هذه الخلال أولاً فأولاً. على قَدْرِ ما يزداد من العقل فيزداد من الأفعال الجميلة.

فكيف صارت قِلَّةُ العقل هي سبب سخاء الزِّنج، وقد أقررتم لهم بالسَّخاء ثُمَّ ادَّعيتم ما لا يعرف. وقد وقَّفناكم على إدحاض حجتكم في ذلك بالقياس الصَّحيح.
وهذا القول يوجب أن يكون الجبان أعقل من الشُّجاع، والغادر أعقل من الوفي، وينبغي أن يكون الجزوع أعقل من الصَّبور. فهذا ما لا حجَّة فيه لكم، بل ذلك هبة في النَّاس من الله. والعقل هبة، وحسن الخلق هبة، والسخاء والشجاعة كذلك»( ).
وبهذا المعنى فإنَّ الحالة البيولوجيَّة السَّويَّة للإنسان لا تمارس أيَّة ضغوطٍ أو تأثيراتٍ سلبيَّة أو إيجابيَّة في أخلاق الإنسان وإنَّما يظلُّ الأساس في السُّلوك الأخلاقيِّ هو الطَّبع الذي جُبِلَ عليه الإنسان بفعل الخلق الإلهيِّ والاكتساب الذي تسهم فيه العوامل البيئيَّة المتعدِّدة.
ولكن ماذا لو كان ثَمَّةَ خللٌ في البيئة البيولوجيَّة للإنسان أو أنَّ شذوذاً عن الأصل قد وقع لإنسانٍ ما، فهل يظلُّ الحكم السَّابق سارياً؟
يبدو أنَّ الجاحظ يميل إلى القول بأنَّ بعض التَّغيرات البيولوجيَّة والفيزيولوجيَّة في جسم الإنسان تؤدِّي إلى تغيُّرٍ في أخلاق المرء وسلوكه، سواء أكانت خَلْقِيَّة أم لاحقةً على الخلقة. أما الخلقيَّة فيمكن استنتاج حكمها من اشتراط الجاحظ فيمن يُحكَّم في الأمور المعرفية أن يكون «سليم العقل والجسم»( )، وأمَّا الطَّارئة على الخلقة فيمكن استنتاجها من حديثه عما يعرض للخصيِّ من أخلاقٍ جديدةٍ بقوله: «ويعرض للخصيِّ العَبَثُ واللَّعِبُ واللهو بالطَّير، وما أشبه ذلك من أخلاق النساء، وهو من أخلاق الصبيان أيضاً، ويعرض لـه الشره عند الطعام، والبخل عليه، والشحَّ العام في كلِّ شيءٍ، وذلك من أخلاق الصبيان ثُمَّ النِّساء، ويعرض للخصي سرعة الغضب والرِّضا، وذلك من أخلاق الصبيان ثُمَّ النِّساء، ويعرض لـه حبُّ النَّميمة، وضيق الصَّدر بما أودع من السِّر، وذلك من أخلاق الصبيان والنساء، ويعرض لـه دون أخيه لأمِّه وأبيه، ودون ابن عمِّه وجميع رهطه البصر بالرفع والوضع، والكنس والرَّش، والطَّرح والبسط، والصَبر على الخدمة، وذلك يعرض للنساء»( ).
وكما نَقَضَ ادِّعاء من ذَهَبَ إلى أنَّ خُلُق السَّخاء والكرم ناجمٌ عن تدنِّي السَّويَّة العقليَّة فقد رَفَضَ أيضاً أن يكون للأخلاق السَّيِّئة انعكاسات بيولوجيَّة أو فيزيولوجيَّة معيَّنة كأن يؤدِّي الكذب مثلاً إلى الخرس أو أن تسبب الخيانة العمى بالفعل المباشر لا بما ينجم عنه، وفي مثل ذلك يقول: «قال رباح بن سبيب الجوهري: دعاني يوماً جعفر بن يحيى وهو كئيب حزين خاشع الطرف شديد الانكسار، فرفع لي عن بطنه، فإذا على بطنه مقدار الدِّرهم برص، فقال: يا أبا علي: هذا ثمن العقوق»( ).
ولكنَّ الجاحظ لا يقتنع بهذا التَّفسير ولذلك يعقب قائلاً: «وأطباء الهند تزعم أن العقوق يورث البَرَصَ، وهذه القصِّة مجانبةٌ لسبيل الطِّب»( ).



LLL







الفصل السادس

الوقائع الأخلاقية


 الأخلاق أساس الاجتماع
 الأخلاق النظرية والأخلاق العملية
 تفاوت أخلاق الناس
 واقعية الجاحظ
 تعقيب



لكلٍّ نصيبٌ من النَّقص، ومِقْدارٌ من الذُّنوب، وإنَّما يَتَفَاضلُ النَّاسُ بكثرةِ المحاسن وقلَّة المساوئ؛ فأَمَّا الاشتمال على جميع المحاسن، والسَّلامة من جميع المساوئ ودقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيِّها، فهذا لا يُعْرَف( ).
الجاحظ


قبل البدء يَخْطِرُ في بالنا أن نتساءل: ما المقصود بالوقائع الأخلاقيَّة، وما المعاني التي تشير إليها؟
بداءةً نجدنا أمام الاصطلاح بحدِّ ذاته وموقعه بَيْنَ الدقَّة والضَّبط من جهة، والمطواعيَّة والمرونة من جهة ثانية. والحقُّ أنَّ هذه مشكلةٌ فلسفيَّةٌ مازالت معلَّقةً حَتَّى الآن؛ معلَّقةً دالاًّ ومدلولاً، لفظاً ومعنى، فمن حيث اللفظ أو الدَّال نجدنا أمام تسميات أخرى مثل: الحوادث الأخلاقيَّة، والعادات الأخلاقيَّة، والأخلاق المشخَّصة، والأخلاق العمليَّة، والأخلاق المعاشة، والظَّواهر الأخلاقيَّة... وإلى ما هنالك مما يجري في هذا السِّياق. والمشكلة في اعتقادنا لا تقع هنا، لأنَّهُ لو اقتصر الاختلاف على ذلك لظلَّ اختلافاً شكليًّا وانتهت المشكلة، ولكنَّهُ يَمْثُلُ في دلالات هذه الاصطلاحات التي تباعدت أبعادها ومراميها، حَتَّى وجدنا أنفسنا أحياناً خارج إطار هذه المفاهيم، ولن نطيل هنا في عرض هذه المشكلة لانفتاح أفقها واتِّساع أبعادها التي قد تذهب بنا بعيداً عن صلب موضوعنا، وحسبنا هنا ما ليس يخفى تلميحاً ولا يطول تصريحاً، على أنا سنجعل ذلك في خاتمة هذا الفصل لمقارنته بما فعله مفكرنا.
لم يُبَيِّن الجاحظ المقصود بالوقائع أو الحوادث الأخلاقيَّة، بل إنَّه لم يأت على ذكر هذا الاصطلاح أو المفهوم البتة، ولا حَتَّى ما يماثله أو يقاربه، وإنَّما الذي قام به هو عرضٌ موضوعيٌّ للأخلاق التي سادت في عصره، وحلَّلها تحليلاً وإن لم يكن منهجياً، إلا أنَّهُ كان علميًّا مفعماً بالحسِّ بالمسؤوليَّة العلميَّة، مجلَّلاً بالموضوعيَّة والواقعيَّة، متوخِّياً الوصول إلى الحقيقة، الحقيقة وحسب، بعيداً عن أيِّ نزوعٍ فرديٍّ أو تدخُّلٍ للذَّات وميولها وأهوائها وأغراضها، فحاول الوقوف على الأسباب والدَّوافع التي أدت إلى اتِّباع النَّاس خلقاً ما؛ مستحباً كان أم مستهجناً في التَّقويم الأخلاقي. وهذا عين ما نقصده من اصطلاح الوقائع الأخلاقيَّة.
إنَّ الجاحظ وإن لم يُشِرْ إلى هذا الاصطلاح من قريبٍ أو من بعيدٍ، إلا أنَّ ما فعله لا يقلُّ ولا يبتعد أبداً عمَّا أراده كبار أصحاب النَّظريَّات الأخلاقيَّة الحديثة والمعاصرة، بغضِّ النَّظر عن بعض الافتراقات في المرامي والغايات والأطر النَّظريَّة، وبعض ما نعتقده مبالغةً وتطرفاً عند هؤلاء المفكِّرين الذين شَطَحَ بعضهم إلى نفي الأخلاق النَّظريَّة نفياً مطلقاً، وهذا ما نأمل أن تتاح لنا العودة إليه في غير هذا الموضع والموضوع.
الأخلاق أساس الاجتماع
إذا كان اجتماع النَّاس ضرورةً اجتماعيَّةً مُلْحِفَةً فإنَّ الأخلاق في نظر الجاحظ تمثِّل الأساس الذي لا معدى عنه لهذه الضَّرورة. ذلك أنَّ حاجة النَّاس إلى بعضهم بعضاً لازمةٌ غيرُ منقطعةٍ، بل هي طبعٌ قائمٌ في جواهر البشر، كلِّ البشر، لا يزول ولا يحول «ثُمَّ اعلم، رحمك الله تعالى، أنَّ حاجة بعض النَّاس إلى بعضٍ، صفةٌ لازمةٌ في طبائعهم، وخلقةٌ قائمةٌ في جواهرهم، وثابتةٌ لا تزايلهم، ومحيطةٌ بجماعتهم، ومشتملةٌ على أدناهم وأقصاهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم مما يعيشهم ويحييهم، ويمسك بأرماقهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم»( ).
وعلى ذلك فإنَّ التَّعامل بَيْنَ النَّاس من خلال مختلف العلاقات التي تنشأ فيما بينهم بسبب هذا الاجتماع أمرٌ لا يمكن التَّغافل عنه، وبالتَّالي فإنَّ الأخلاق الاجتماعيَّة هي المحور النَّاظم لهذه العلاقات. وأشدُّ ما يحتاج إليه النَّاس لتمتين أواصر اللقاء وتوثيق عرى التَّعامل والعلاقات فيما بينهم، هو التَّعاون، فإنَّ «حاجتهم إلى التَّعاون في درك ذلك، والتَّوازر عليه كحاجتهم إلى التَّعاون على معرفة ما يضرُّهم، والتَّوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشَّاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، معانٍ متضمَّنة، وأسباب متَّصلة ، وحبال منعقدة»( ). وهذا الخلق، خلق التَّعاون والتَّآزر، فيما يبدو من كلام الجاحظ قائم بَيْنَ النَّاس بالضَّرورة لا بالاختيار، وكلُّ النَّاس يعملون به، من دون أن يعني ذلك صفاء النِّية ونزاهة القصد دائماً من التَّخلق بهذا الخلق، فقد ينطلق فعلاً من مقاصد أخلاقيَّة نبيلة، ونزوعٍ إلى الخير الصَّادق، ولكنَّهُ قد ينبجس أيضاً من دوافع ذاتيَّة أنانيَّة، وقد تكون حالة نفسيَّة معيَّنَة وراءه... هذا فيما خلا أنَّه ضرورة بحدِّ ذاته لا يمكن أن يستغني عنها كبيرٌ ولا صغيرٌ، ولا غنيٌ ولا فقيرٌ، ولا رعاعٌ ولا أميرٌ، ولا كريمٌ ولا حقيرٌ، إذ «لَمْ يَخْلُقِ اللهُ تَعَالَى أَحَداً يَسْتَطِيْعُ بُلُوْغَ حَاجَتِهِ بِنَفْسِهِ دُوْنَ الاسْتِعَانَةِ بِبَعْضِ مَنْ سُخِّر لَهُ، فَأَدْنَاهُمْ مُسَخَّرٌ لأَقْصَاهُمْ، وَأَجَلَّهُمْ مُيَسَّرٌ لأَدَقِّهِمْ، وَعَلَى ذلِكَ أَحْوَجَ الْمُلُوْكَ إِلَى السُّوَقَةِ فِيْ بَابٍ، وَأَحْوَجَ السُّوَقَةَ إِلَى الْمُلُوْكِ فِي بَابٍ، وَكَذلِكَ الغَنِيَّ وَالفَقَيْرَ، وَالعَبْدَ وَسَيِّدَهُ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى كُلَّ شَيءٍ للإنْسَانِ خَوْلاً، وَفِي يَدِهِ مُذَلَّلاً مُيَسَّراً؛ إِمَّا بالاحْتِيَالِ لـه وَالتَّلَطُّفِ فِي إِرَاغَتِهِ وَاسْتِمَالَتِهِ، وَإِمَّا بِالصَّوْلَةِ عَلَيْهِ، وَالفَتْكِ بِهِ، وَإمَّا أَنْ يَأْتِيَهُ سَهْواً وَرَهْواً»( ).
ولعلَّ الجاحظ يميل إلى أنَّ الأخلاق الاجتماعيَّة، أو الأخلاق العمليَّة المقارِنة للسُّلوك الاجتماعي اليومي المرتبطة بمتطلبات الحياة الضَّروريَّة، إنَّما هي خبرةٌ تراكميَّةٌ تنتقل من حينٍ إلى حينٍ عَبْرَ وسائط مختلفةٍ، فكانت، بذلك، حاجةُ النَّاس إلى أخبار من سبقهم حاجة ضروريَّة أيضاً، ولذلك قال: «وحاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا، ولذلك تقدَّمت في كتب الله البشَّارات بالرُّسل، ولم يسخر لهم جميع خلقه، إلا وهم يحتاجون إلى الارتفاق بجميع خلقه، وجعل الحاجة حاجتين: إحداهما قوام وقوت، والأخرى لذَّة وإمتاع وازدياد في الآلة، وفي كلِّ ما أجذل النُّفوس، وجمع لهم العتاد، وذلك المقدار من جميع الصنفين وفقٌ لكثرة حاجاتهم وشهواتهم، وعلى قَدْرِ اتِّساع معرفتهم وبُعْدِ غورهم، وعلى قَدْرِ احتمال طبع البشريَّة وفطرة الإنسانيَّة، ثُمَّ لم يقطع الزِّيادة لعجز خلقهم عن احتمالها، ولم يجز أن يفرِّق بينهم وبَيْنَ العجز، إلا بعدم الأعيان، إذ كان العجز صفةً من صفات الخلق، ونعتاً من نعوت العبيد»( ).
الأخلاق النظرية والأخلاق العملية
صحيحٌ أنَّ مشكلة العلاقة بَيْنَ الأخلاق النَّظريَّة والأخلاق العمليَّة مازالت قائمةً أمام الباحثين دون بتٍّ في أمرها، بل لم يُتَّفق على قول فيها، إنَّها عالقةٌ لا تنتظر حلاً، بل تنتظر إغناءً بالآراء ورافداً بالأفكار، لأنَّها في اعتقادنا غير قابلةٍ للحلِّ المطلق القطعيِّ، فقد ذهب بعضٌ، مثل ليفي بريل ـ Levy Bruhl إلى نفي الأخلاق النَّظريَّة نفياً تامًّا، وذهب بعضٌ آخر مثل جورج جورفيتش ـ G. Gurvitch إلى إقامة تطابق بَيْنَ الأخلاق النَّظريَّة والأخلاق العمليَّة، وبَيْنَ هذين التَّطرُّفين لا نعدم كثيراً من التَّيَّارات والاتجاهات في فهم العلاقة وتفسيرها بَيْنَ الأخلاق النَّظريَّة والأخلاق العمليَّة.
لقد وقف الجاحظ من هذه المشكلة بالتَّحديد موقفاً وسطاً، معتدلاً، يتَّفق واتجاهه في تحديد طبيعة الخير والجمال، المنبثق أصلاً من موقفه الاعتزالي، فهو يرى أنَّ هناك أخلاقاً عمليَّةً، هي الأخلاق الموجودة في الواقع المعاش، أو هي الوقائع الأخلاقيَّة. ولكنَّه يرى من جهةٍ أخرى أنَّهُ لا بُدَّ للإنسان من الانطلاق في تعامله الأخلاقيِّ من الأخلاق النَّظريَّة، أي الْمُفَسِّرة لمصدر الإلزام الأخلاقي والمتمثلة ـ باعتبار ـ بالأوامر والنَّواهي الأخلاقيَّة التي تدعو إلى سلوك الأفضل والتَّخلُّق بالأمثل، لأنَّ ترك الحبل على الغارب واتباع هوى النَّفس يقود إلى التَّهوُّر، والتَّهوُّر يقود إلى المهالك والمآسي وسيطرة النَّزعة الفرديَّة المحض، وإن كان مفكِّرُنا قد احتاط من التَّطرف بقوله بجدليَّة الخير والشَّر، فأمن بذلك من التَّورط بالقول بسيطرة الشَّر وسيادته المطلقة، وبالتَّالي مهما حدث فإنَّ التَّجادل بَيْنَ الخير والشَّرِّ ـ من حيث تجسُّدهما سلوكاتٍ واقعيَّةً ـ سيظلُّ موجوداً، وهو الذي يقود دَفَّة الحياة إلى غاياتها.
وعلى الرَّغْمِ من أنَّنا قد ألمحنا إلى ما يشبه ذلك في فصلٍ سابقٍ، فإنَّنا نجد في النَّص التَّالي ما يمكن أن يكشف عن موقف الجاحظ في العلاقة بَيْنَ الأخلاق النَّظريَّة والأخلاق العمليَّة، ويفصح عن رأيه فيها بشكلٍ أوضح.
جليٌّ أنَّ الأخـلاق النَّظريَّة تتجلَّى أكثر مـا تتجلَّى في الأوامر والنَّواهي المعبِّرة عن الأخلاق المثلى في نظر المجتمع، أو هي ما يُسَمَّى بالمُثُل الأخـلاقيَّة العليا، وتتَّخذ الأوامر والنَّواهي الأخلاقيَّة أشـكالاً جمَّة منها ما هو مباشرٌ ومنها ما هو غير مباشرٍ، فالمباشرة تكون أوامر ونواهٍ صريحةً مثل: الزم الصِّدق، وكن أميناً، وابتعد عن الخداع، وجاف المخاتلة... أمَّا غير المباشرة فتتخذ أشـكالاً تعبيريَّةً مختلفةً كالقصص والحكـم والأمثال والعظات والعِبَرِ، وكل ذلك مما ينقل بالمشافهة والتَّربية القصديَّة والعفويَّة، ومنذ عُرف الكتاب أصبح مستودعاً لهذه الحكم والأمثال والعظات حَتَّى غدت الكتب أحد المصادر المهمَّة لنقل تعاليم الأخلاق من جيلٍ إلى جيلٍ، وفي ذلك يقول الجاحظ: «حدَّثَني صديقٌ لي قال: قرأت على شيخٍ شاميٍّ كتاباً فيه من مآثر غطفان فقال: ذهبت المكارم إلا من الكتب»( ) ولمثل ذلك «قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زرَّاد أو ورَّاق»( ). وقال ابن الجهم: «إذا غشيني نعاس في غير وقت النَّوم تناولت كتاباً من كتب الحكم، فأجد اهتزازي للفوائد، والأريحيَّة التي تعتريني عند الظَّفر ببعض الحاجة، والذي يغْشي قلبي من سرمد الاستبانة وعزَّ التَّبيين أشد إيقاظاً من نهيق الحمير وهدَّة الهدم»( ).
ولذلك رأى الجاحظ في الكتاب رأياً يسمو به عن دنو صورته إلى مصاف سموِّ جوهره ومادَّته، حَتَّى يجعله كأَنَّهُ كائنٌ حيويٌّ ربَّما يرقى على الإنسان رفعة، لأنَّ في مكنته أداء خير ما يؤدِّيه بشرٌ من حيث كينونته الجسميَّة اللاحيويَّة واللاحركيَّة التي تعني للإنسان تمام السَّمع والطَّاعة من دون أدنى اعتراضٍ أو تذمُّرٍ أو إزعاجٍ أو انزعاجٍ... ومن حيث جوهره ناصحاً أميناً يسوق للمرء فرائد الفوائد، وطرائف المعارف، وغوالي الأمالي، وجميل الشَّمائل، ومدارك المسالك، ليغدو بهذا الاعتبار كأَنَّهُ الكائن الذي يُجَسِّدُ المثل الأخلاقيَّة العليا كلَّها تجسيداً واقعيًّا، وليكون بذلك مثل الخلق الكامل، والمعلم الحق، وهذا ما عَبَّر عنه مفكِّرُنا في نصٍّ جميلٍ لا يخلو من المتعة والفائدة.
يقول: «والكتاب هو الجليسُ الذي لا يُطريك، والصَّديق الذي لا يغريك، والرَّفيقُ الذي لا يملُّك، والمستميح الذي لا يسترثيك، والجار الذي لا يستطيبك، والصَّاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالْمَلَق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنِّفاق، ولا يحتال لك بالكذب. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوَّد بنانك، وفخَّم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمَّر صدرك ومنحك تعظيم العوامِّ وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرِّجال في دهر، مع السَّلامة من الغُرم، ومن كدِّ الطَّلب، ومن الوقوف بباب المكتسب بالتَّعليم، ومن الجلوس بَيْنَ يدي من أنت أفضل منه خُلُقاً، وأكرم منه عِرْقاً، ومع السَّلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء، والكتاب هو الذي يطيعك بالليل طاعته بالنَّهار، ويطيعك في السَّفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلُّ بنومٍ، ولا يعتريه كلال السَّهر. وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يُخْفِرك، وإن قطعت عنه المادَّة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عُزِلتَ لم يدع طاعتك، وإن هبَّت ريح أعاديك لم ينقلب عليك، ومتى كنت منه متعلِّقاً بسببٍ أو معتصماً بأدنى حبل، كان لك فيه غِنًى من غيره، ولم تضطرَّك معه وحشة الوحدة إلى جليس السُّوء. ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك، إلا منعة لك من الجلوس على بابك، والنَّظر إلى المارَّة بك، مع ما في ذلك من التَّعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النَّظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار النَّاس، وحضور ألفاظهم السَّاقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرَّديَّة، وجهالاتهم المذمومة، لكان في ذلك السَّلامة، ثُمَّ الغنيمة، وإحراز الأصل، مع استفادة الفرع. ولو لم يكن في ذلك إلا أنَّهُ يشغلك عن سخف المعنى وعن اعتياد الرَّاحة، وعن اللعب، وكلِّ ما أشبه اللعب، لقد كان على صاحبه أسبغ النِّعمة وأعظم المنَّة»( ).
ولكنَّ ذلك ليس يعني أنَّ كلَّ من يقرأ الكتب سيفيد منها في الارتقاء بأخلاقه ودوافعه والتَّرفُّع عن الشُّرور والمفاسد والرَّذائل لأنَّ الكتاب لا يفرض على المرء ذاته ولأنَّ المرء يجد فيه ما يبحث عنه كما قال الجاحظ، ولأنَّ ثَمَّةَ أُناساً استهواهم المروق وأغوتهم الأهواء «وقد علمنا أنَّ أفضل ما يقطع به الفُرَّاغ نهارهم، وأصحاب الفكاهات ساعات ليلهم، الكتاب. وهو الشَّيء الذي لا يُرى لهم فيه مع النَّيل أثرٌ في ازدياد تجربةٍ ولا عقلٍ، ولا مروءةٍ، ولا في صون عِرْضٍ، ولا في إصلاح دينٍ، ولا في تثمير مالٍ، ولا في رَبِّ صنيعة( ) ولا في ابتداء إنعام»( ).
تفاوت أخلاق الناس
في مكنتنا الآن، الاستنتاج من كلِّ ما سبق أنَّهُ لا يوجد أيُّ إنسانٍ تقوم أخلاقه على محض الخير وخالص الصَّواب، بحيث يكون الْمَثَلَ الكاملَ في الأخلاق، كما لا يوجد من انسلخ عن الخير انسلاخاً كُلِّيًّا فغدا شريراً صرفاً لا يعرف للخير وجهاً ولا باباً، ذلك أنَّه كما يقول الجاحظ: «لكلٍّ نصيبٌ من النَّقصِ، ومِقْدَارٌ من الذُّنوب، وإنَّما يتفاضل النَّاس بكثرة المحاسن وقِلَّةِ المساوئ، فأمَّا الاشتمالُ على جميع المحاسن، والسَّلامة من جميع المساوئ ودقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيِّها، فهذا لا يعرف»( ) وهذا، في رأي مفكِّرنا، ما لا يمكن لأحدٍ أن يجحده أو يعترض عليه، فإنَّ النَّاس مجمعون على «إقرارهم جميعاً بتفرُّق الأمور المحمودة والمذمومة من الجمال والدَّمامة ، واللؤم والكرم، والجبن والشَّجاعة، في كلِّ حينٍ، وانتقالها من أمَّةٍ إلى أمَّة، ووجود كلِّ محمودٍ ومذمومٍ في أهل كلِّ جنسٍ من الآدميين. وهذا غير مدفوعٍ عند الجميع»( ).

وهذا يعني بالضَّرورة أنَّ النَّاس على درجاتٍ متفاوتةٍ فيما يمتلكونه من إمكانات خَلقيَّة وخُلقيَّة، وهذا مما يُمَيِّزُ أيَّ فردٍ عمَّن سواه، ويكوِّن شخصيَّته، والسِّمات المحدِّدة للشَّخصيَّة هي التي تسهم في تحدُّد ضُروبٍ معيَّنةٍ من السُّلوك الأخلاقيِّ والاجتماعيِّ والنَّفسيِّ لدى هذا الفرد أو ذاك، ولَعَلَّ في هذا الأمر ما يفسِّر التَّشابه في بعض ضروب السُّلوك بَيْنَ الأفراد الذين ينتمون إلى فئةٍ أو طبقةٍ معيَّنةٍ. ولذلك يقول أبو عثمان: «وما أشكُّ في أنَّ عند الوزراء في ذلك ما ليس عند الرَّعيَّة من العلماء، وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء، وعند الأنبياء ما ليس عند الخلفاء، وعند الملائكة ما ليس عند الأنبياء، والذي عند الله أكثر، والخلق عن بلوغه أعجز، وإنَّما علَّم اللهُ كلَّ طبقةٍ من خلقه بقدر احتمال فطرهم، ومقدار مصلحتهم»( ).
واقعية الجاحظ
على الرَّغْمِ من رفض الجاحظ لضروب سلوك البخلاء، والمبذِّرين، ومناقشته لحججهم وأفكارهم الخاطئة، وردِّها عليهم، إلا أنَّهُ ظَلَّ أميناً في تصوير الوقائع، واقعيًّا في تعامله مع أخلاقهم، موضوعيًّا في أحكامه، ولذلك لم يمنعه اعتراضه عليهم من الإعجاب بذكائهم وفطنتهم وظرافتهم وطرافتهم، كما لم يَقُدْهُ ذلك إلى التَّبرُّم بهم أو النُّفور منهم أو السَّخط عليهم، وهذا يبدو بالتَّلميح والتَّصريح في كثيرٍ من مواضع كتابه في البخلاء وكتبه ورسائله الأخرى.
ولم تتوقَّف واقعيَّتُه وموضوعيَّتُه ـ في إطار موضوعنا ـ عند تعامله ونظرته إلى البخلاء والمبذِّرين، وحسب، بل ظَلَّ محافظاً عليها دائماً، فعلى الرَّغْمِ من موقفه النَّظري الصَّريح من الكذب بوصفه سلوكاً أخلاقيًّا مشيناً وقولـه: «احذر الكذب فإنَّهُ جِماع كلِّ شرٍّ، وقد قالوا: لم يكذب أحدٌ قَطُّ إلا لصغر قَدْرِ نفسه عنده»( ). فإنَّهُ ينقل عن أحدهم «أنَّ النَّاس يظلمون الكذب بتناسي مناقبه وتذكُّر مثالبه، ويحابون الصِّدق بتذكر منافعه وبتناسي مضارِّه، وأنَّهُم لو وازنوا بَيْنَ مرافقهما وعدَّلوا بَيْنَ خصالهما، لما فرَّقوا هذا التَّفريق ولما رأوهما بهذه العيون»( ).
وعندما تحدَّث عن العداوات بَيْنَ النَّاس بَحَثَ عن أسبابها الواقعيَّة ولم يقفز فوق جدران الواقع ليفترض أسباباً تخيُّليَّةً أو ميتافيزيائيَّة فقال: «وأسباب عداوات النَّاس ضروبٌ: منها المشاكلة في الصِّناعة، ومنها التَّقارب في الجوار، ومنها التَّقارب في النَّسَبِ، والكثرة من أسباب التَّقاطع في العشيرة والقبيلة، والسَّاكن عدوٌّ للمُسْكِن، والفقير عدوٌّ للغني، وكذلك الماشي والرَّاكب، وكذلك الفحل والخصيُّ. وبغضاء السُّوَقِ ( ) موصولةٌ بالملوك... ولجميع هذا تفسير ولكنه يطول»( ).
وهاهو ذا يطلق حكما قد ينطوي على بعض الغرابة ولكنَّهُ جدُّ واقعيٍّ تشهد به حياة النَّاس. صحيحٌ أنَّ القاعدة الشَّرعية تقول: «الحرام حرام ولو فعله كلُّ الأنام» إلا أنَّ الجاحظ يقول: «كل خُلُقٍ فارق أخلاق النَّاس فإنَّهُ مذمومٌ»( ). وكأَنَّهُ يقول: إن قوماً تَفَشَّى فيهم خُلُقٌ سيِّئ ما، سيجدون من الغضاضة أن يخالفَهم أحدٌ وسينظرون إليه بعين الازدراء والاستغراب ويعدُّونه شاذاً.
تعقيب
الآن نستطيع العودة إلى حكمنا البدئي الذي قرَّرنا فيه أنَّ الجاحظ لم يبتعد فيما فعله عما أراده بعض كبار أصحاب النَّظريات الأخلاقيَّة، الحديثة والمعاصرة، بغضِّ النَّظر عن قليل من الافتراقات في المرامي أو الغايات والأطر النَّظريَّة، وإن كانت عميقة في جوهرها.
يتساءل البير باية ـ A. Bayet بداية بقوله: «ما هو الحادث الأخلاقي؟» ويرى أنَّ طرح هذا السُّؤال من الضَّرورة الملحفة بمكان «لأنَّ إغفاله يفسح في المجال لرجوع الشُبه الميتافيزيائيَّة القديمة فيمتنع ثبات الفكر في موضوع معيَّنٍ، ويصبح الهدف قَصيًّا يكاد لا يُدْرك ولا يُنَال، ولكنَّ الباحث لا يجتاز هذه العقبة الأولى حَتَّى تطالعه عقبة أخرى وهي: إذا ترتَّب على المبتدئ أن يطلب الأخلاق في الحوادث الاجتماعيَّة، ففي أيِّ فئةٍ من فئات هذه الحوادث يجدها؟»( ).
ولكن باية سرعان ما يكشف عن مراده المتمثل بدراسة الأخلاق من النَّاحية العلميَّة، ويسمِّي هذا المبحث بعلم الحوادث الأخلاقيَّة، وقد «أظهر أنَّ الأخلاق توجد بالضَّرورة على شكل من الأشكال، حيث يوجد تمييز بَيْنَ الخير والشَّرِّ، ومهما كان التَّمييزُ شاملاً إجماليًّا، أو دقيقاً جزئياً فإنَّهُ هو الحادث الأخلاقي ذاته ـ ورأى ـ أنَّ الحادث الأخلاقيَّ لا يوجد في حال النَّقاء الحرِّ في مكانٍ ولا زمانٍ، إنَّهُ لا يوجد وجوداً محضاً في أيِّ مكانٍ ولا في أي زمانٍ، ولابُدَّ من بذل الجهد لاستخراجه من معدن الوقائع الاجتماعيَّة، التي لا ينطوي أحدها عليه بأسره، ولا يوجد فيها كُلُّها وعلى قدر السَّواء»( ).
وكان إميل دوركهايم ـ Emile Durkheim قد قَدَّم حـلاًّ مقارباً لهذه المشكلة فذهب إلى أنَّ «الحوادث الأخلاقيَّة تتَّفق مع الحوادث الاجتماعيَّة في أنَّها مستقلةٌ عنَّا، ومفروضةٌ علينا، غير أنَّ للحوادث الأخلاقيَّة صفةً خاصَّةً تنفرد بها، وهي صفة القداسة، وإن يكن المجتمع أصل هذه القداسة ومبعثها»( ).
وإذا كان المجتمـع هو أصل قداسة الحوادث الأخلاقيَّة فإنَّ للحادث الأخــلاقي جملة من الخصـائص الصِّفات التي تعزز هذه القداسة، «فالحادث الأخلاقيُّ يمتاز ـ فوق ذلك ـ بأنَّهُ قاعدةٌ تؤيدها العقوبة عند الاقتضاء، ولكن أهمَّ صفةٍ تُمَيِّزُ هذا الحادث في الواقع وتفرقه عن الحادث الاجتماعيِّ بوجه عامٍّ هي أنَّه يثيرُ عاطفتنا عن طريق تمثيل غاية عليا، وتصوُّر هدفٍ أسمى أو خيرٍ نسعى إلى تحقيقه أو نرغب في نواله»( ).
أما لوسيان ليفي بريل ـ Lucien Levy Bruhl فقد ذهب إلى أنَّ «الوقائع الأخلاقيَّة حوادث مشاهدة، وأنَّ بعض أنماط الفعل تظهر إلزاميَّةً، وأخرى ممنوعةً، وثالثةٌ حياديَّةً، وفي نظر جميع البشريَّة التي تعيش في مدنيَّةٍ واحدةٍ، وعصرٍ واحدٍ، مثل مدنيتنا وعصرنا، ولا مجال لفرض قواعد علميَّةٍ، وأوامر أخلاقيَّة، باسم نظريَّةٍ فلسفيَّةٍ، أو مذهبٍ مجرَّدٍ، وإنَّما تمتاز الوقائع الأخلاقيَّةُ بأنَّهَا تتَّصف بصفات سائر الحوادث الاجتماعيَّة، وبأنَّهَا حوادث لا يمكن إغفالها»( ).
يبدو من خلال هذا، وببساطة شديدة، مدى التَّوافق بَيْنَ ما فعله أبو عثمان وما أراده هؤلاء المفكرون، ولولا بعض الافتراقات الجوهريَّة لكانت هذه النَّظريات شبه تأطير نظريِّ أَو صدى يتردَّد لما قام به مفكرنا، فدوركهايم يرى بأنَّ «أوَّل صفةٍ من صفات العمل الأخلاقيِّ هي روح الانتظام، أي روح الاتِّفاق مع قواعد موضوعة قبلاً»( ) الأمر الذي يخوِّلنا، بصورةٍ أو بأخرى، عدَّ الوقائع الاقتصاديَّة تطبيقاً عمليًّا للأخلاق النَّظريَّة، وهذا ما يتناقض مع الواقع، ورُبَّما مع نظريَّة دوركهايم الأخلاقيَّة ذاتها. إلا إذا فهمنا من ذلك أنَّهُ يريد القول بأنَّ وراء الوقائع الأخلاقيَّة قواعد وأسساً يمكن الكشف عنها علميًّا.
أمَّا ليفي بريل فقد شَطَحَ إلى نفي الأخلاق النَّظريَّة نفياً مطلقاً وحذَّرنا قائلاً:
«إنَّ الأخلاق النَّظريَّة لا توجد، ولا يمكن أن توجد، وإن الذي يوجد فعلاً إنَّما هو المعطى الأخلاقيُّ الرَّاهن الذي يماثل المعطى الفكري الرَّاهن تماماً»( ) وهذا رأي لم يقرَّ به الجاحظ، وإن نحن قلنا به فإننا سنقود أنفسنا إلى مشكلة قيميَّة يعسر حلُّها.
ولعَلَّ جورج جورفيتش ـ G. Gurvitch هو الأقرب من الجاحظ، من حيث أراد بناء علم اجتماعٍ أخلاقيٍّ حدَّه بأنَّهُ «دراسة أنواع السُّلوك الإرادي التي يمكن أن نشاهد جميع تحوُّلاتها الخاصَّة مشاهدةً خارجيَّةً، والتي تجري بصورةٍ جمعيَّةٍ، أو تنجب أصداءً جمعيَّةً إذا جرت في نطاق فردي»( )، هذا وإن ذهب في الاتجاه المعاكس لاتِّجاه ليفي بريل بِعَدِّهِ أنَّ «الأخلاق النَّظريَّة هي بالدَّرجة الأولى أخلاقٌ مشخَّصةٌ، حركيَّةٌ، وثيقة الاتصال بالحياة والعمل، لا تهمل مفصلاً من مفاصلها، إنَّهَا أخلاقٌ تعدُّديَّةٌ بالمعنى الدَّقيق، وتجريبَّيِه بالمعنى الصَّحيح، وهي وحدها تطابق بنية التَّجربة الأخلاقيَّة»( ). وهذا ما لا نتفق معه فيه تماماً، لأنَّ حكمنا فيه شأنه شأن حكمنا في قول ليفي بريل الجانح إلى عدم وجود أخلاقٍ نظريَّةٍ، اللهم إلا إذا حملنا كليهما على التَّأويل ورُبَّما التَّأويل الشَّاطح.






LLL






الفصل السابع



أخلاق المنفعة



 المنفعة واللذة
 اللذة والسعادة
 الأخلاق الاقتصادية


اعلم أنَّ الله جلَّ ثناؤه خَلَقَ خَلْقَهُ، ثُمَّ طَبَعَهُم على حبِّ اجترار المنافع، ودفع المضارِّ، وبُغْضِ ما كان بخلاف ذلك. هذا فيهم طبعٌ مركَّب، وَجِبِلَّةٌ مَفْطُورَةٌ، لا خلاف بَيْنَ الخلق فيه، موجودٌ في الإنسان والحيوان، لم يدَّع غيره مدَّع، من الأولين والآخرين( ).

الجاحظ

ما إن تُذْكَرُ أخلاق المنفعة حَتَّى تتداعى الأفكار وتتوارد الخواطر المذكِّرة بالاتجاه الفلسفي الشَّهير في تفسير الأخلاق الذي بدأ، عَرَضَا، مع توماس هوبز ـ Thomas Hobbes فيما يمكن نعته بأخلاق المنفعة الفرديَّة الذي ردَّ السُّلوك البشريَّ إلى حركات جسميَّة تنشأ عن مؤثِّرات خارجيَّة، وقال بأنَّ جميع الدَّوافع الإنسانيَّة تهدف إلى حبِّ الذَّات( )، وتنامى هذا الاتجاه لينعطف إلى تفضيل المصلحة العامَّة؛ مصلحة الجماعة، على المصلحة الفرديَّة، بما دعي أخلاق المنفعة العامَّة، هذا الاتجاه الذي وجد بذرته الأولى عند فرنسيس بيكون ـ F. Bacon الذي صَدَّر المصلحة العامَّة لائحة الأخلاق والتَّشريع القانونيِّ، ووصل إلى ذروته على يدي جيرمي بنتام ـ J.Bentham وجون ستيوارت مل ـ J.S.mill، فالأول هو الرَّائد الأكبر لأخلاق المنفعة العامَّة في صورتها التَّجريبيَّة، الذي أقام مذهبه على حثِّ الإنسان على العمل لتحقيق أكبر قَدْرٍ من المنفعة لأكبر عدد من الناس( )، والثاني اقتفى خطى هذا الرَّائد وحاول إثبات أنَّ الأخلاق علمٌ وصفيٌّ وليس معيارياً، على ضوء الاتجاه المذكور( ).
وقد مرَّ هذا الاتجاه بمراحل متعدِّدة على أيدي فلاسفةٍ مختلفي الاتجاهات الفلسفيَّة مثل هنري سدجويك ـ H.Sidgwick ذي المنحى الحدسي( ) وهربرت سبنسر ـ H.Spenser صاحب الاتجاه التَّطوري( ) وليصل في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة الأمريكية ويتخذ هناك طابعاً جديداً يكاد يكون مستقلاً عن سابقه يتحول معه اسم هذا الاتجاه ويصبح (الذَّرائعية ـ Pragmatism) بعدما كان (النفعية ـ Utilitarianism)، وذلك على يدي جون ديوي ـ J.Dewey الذي قاد هذا الاتجاه إلى أوجه، وتتامَّ به تياراً فلسفيًّا( )، هذا بعد الإسهامات التي قدَّمها كلٌّ من بيرس ـ C.S.peirce وشيلر ـ F. C. S. Schiler ووليم جيمس ـ W.James الذين أُرسِيَتْ على أيديهم دعائم هذا الاتجاه وخصائصه المميزة( ).
وفي مجمل القـول: يختلف هؤلاء المفكِّرون عن الجاحظ من حيث المنحى والمراد والمنهج وأرضيَّة المنطـلق، وإن توافقوا في مسائل وأفكارٍ محدَّدةٍ، فقد ذهـب هؤلاء إلى أنَّ اللذَّة، عنصرُ المنفعة المحوري، هي وحدها الخير الأقصى. والألم هو وحده الشَّر الأقصـى، وعلى ذلك فإنَّ الأفعال الخيِّرة هي التي تقود إلى لذَّةٍ مباشرةٍ أو متوقَّعَةٍ، فإن نتج عنها خلاف ذلك كانت شرًّا، فأوقفوا الأخلاق بذلك على النَّتائج دون الإرادة والنوايا والمقاصد، هذا في عموم الاتجاه وذلك أنَّهُم اختلفوا في كثيرٍ من الدَّقائق والتَّفاصيل، أمَّا الجاحـظ فلم يرنُ إلى مثل ذلك البتة، لا من حيث أخلاقُ المنفعة التي تحــدَّث فيها وحلَّلها، ولا من حيث نظريته في اللذَّة والسَّعادة التي سنأتي عليها الآن، وتتَّضح الافتراقات أكثر لدى مقـارنة ما جاء به هؤلاء الفلاسفة، مما أوردنا ومما لم نورده، مع ما سبق وتحدثنا فيه من فكر الجاحظ الأخلاقي.
المنفعة واللذَّة
يتَّفق مذهـب النَّفعيين وبعض الذَّرائعيين مع رأي الجاحظ في إقامة شـبه تطابقٍ بَيْنَ المنفعة واللذة، وخاصَّةً إذا حملنا اللذَّة على مزيدٍ من الشُّمول والمرونة الدَّلاليَّة، وخاصَّةً أيضاً أنَّه قد وسَّع من معنى المنافع والمضار حَتَّى شـملتا جميع المحابِّ والمكاره، ولكنَّه يختلف مع معظمهم بذهابه إلى أنَّ الغُرم باللذَّة طبعٌ وضعه اللهُ تبارك وتعالى في الإنسـان وَفَطَرُه عليه، وهذا ما عَبَّرَ عنه بقـوله: «اعلم أنَّ الله جـلَّ ثناؤه خلق خلقه، ثُمَّ طبعهم على حبِّ اجترار المنافع، ودفع المضارِّ، وبُغْضِ ما كان بخلاف ذلك. هذا فيهم طبعٌ مركَّب، وَجِبِلَّةٌ مَفْطُورَةٌ، لا خلاف بَيْنَ الخلق فيه، موجودٌ في الإنسان والحيوان، لم يدَّع غيره مدَّع، من الأولين والآخرين. وبِقَدْرِ زيادة ذلك ونقصانه تزيد المحبة والبغضاء، فنقصانه كزيادته تميل الطَّبيعة معها كميل الميزان، قَلَّ ذلك أو كثر.
وهاتان جملتان داخلٌ فيهما جميع محابِّ العباد ومكارههم. والنَّفس في طبعها حبُّ الرَّاحة الدِّعة، والازدياد والعلو، والعزَّ والغلبة، والاستطراف والتَّنوُّق وجميع ما تستلذ الحواسُّ من المناظر الحسنة، والرَّوائح العَبِقَة، والطُّعوم الطَّيِّبة، والأصوات المونَّقة، والملامس اللَّذيذة، وممَّا كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفت لك وخلافه»( ).
صحيحٌ أنَّ أبا عثمان الجاحظ لم يُفصح تصريحاً عن أنَّ الله عزَّ وجلَّ أراد الخير للبشر في ذلك، إلا أنَّنا نستطيع استشفافه من تضاعيف كلامه الذي يلمح إلى أنَّ وظيفة هذا الطَّبع تحقيق التَّوازن في حياة الإنسان، الفرديَّة والجمعيَّة، بل حَتَّى ولو لم يشر إلى ذلك ففي مكنتنا اشتقاقه من ثنايا انتمائه الفكري المتمثل بالاعتزال «وقد ذهب المعتزلة عموماً إلى أنَّ الله تعالى أراد الخير أن يكون، والشرَّ ألاَّ يكون ـ وكذلك ـ مبدأ الصَّلاح والأصلح»( ). وعلى الرَّغْمِ من أنَّ كبار أقطاب النَّفعيَّة والذَّرائعيَّة قد حاولوا الاتجاه بمذاهبهم هذا الاتجاه الذي يرمي إلى السَّعادة الجمعيَّة إلا أنَّهُم لم يستطيعوا الهروب من مزلق الذاتانيَّة والأثرة لدى ولوجهم باب فهم اللَّذة وتفسيرها. أمَّا الجاحظ فقد أَمِنَ السَّقطة في مثل هذه الورطة عندما أناط الأمر ـ أمر الغُرم باللذَّة والمنفعة ـ بصلة أوجدها الله ذاته مع عباده تشعرهم بوجوب الفيئة إلى الحق والرُّشد، فقال: «وهذه الخلال التي تجمعها خلتان غِرازٌ في الفِطَر، وكوامن في الطَّبع، جِبِلَّة ثابتة، وشيمة مخلوقة، على أنَّهَا في بعضٍ أكثر منها في بعضٍ، ولا يعلم قَدْرَ القلَّة فيه والكثرة إلا الذي دبرهم.
فلمَّا كانت هذه طباعهم، أنشأ لهم في الأرض أرزاقهم، وجعل في ذلك ملاَّذَّ لجميع حواسهم، فتعلَّقت به قلوبهم، وتطلَّعت إليه أنفسهم. فلو تركهم وأصل الطَّبيعة، مع ما مكَّن لهم من الأرزاق المشتهاة في طباعهم، صاروا إلى طاعة الهوى، وذهب التَّعاطف والتَّبارُّ، وإذا ذهبا كان ذلك سبباً للفساد، وانقطاع التَّناسل، وفناء الدُّنيا وأهلها، لأنَّ طَبْعَ النَّفس لا يسلس بعطية قليلٍ ولا كثيرٍ مما حوته، حَتَّى تعوِّض أكثر مما تعطي، إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلاً مما تستلذُّه حواسها»( ).
ولم يكتف مفكِّرُنا بذلك بل عزَّز موقفه هذا ـ في ضبط التَّهالك وراء اللذَّات والشَّهوات وتبيان أسباب قبول النَّاس بهذا الضَّبط ـ وذلك بمبدأي التَّرغيب والتَّرهيب، التَّحفيز والرَّدع، المكافأة والعقاب... هذان المبدآن اللذان وإن تعددت أسـماؤهما فإنهما في الأصل والأساس والغاية واحدان، ويشكِّلان عماد النَّظريات التَّربوية المعاصرة كلِّها، وإن تنوعت أَو اختلفت الأفكار في طبيعة المكافأة والعقاب، أَو الترغيب والترهيب، وفي ذلك يقول مفكِّرنا:
«فعلم اللهُ أنَّهُم لا يتعاطفون ولا يتواصلون ولا ينقادون إلا بالتَّأديب، وأنَّ التَّأديب ليس إلا بالأمر والنَّهي، وأنَّ الأمر والنَّهي غير ناجعين فيهم إلا بالتَّرغيب والتَّرهيب اللذين في طباعهم، فدعاهم بالتَّرغيب إلى جنَّته، وجعلها عوضاً مِمَّا تركوا في جنب طاعته. وَزَجَرَهُم بالتَّرهيب بالنَّار عن معصيته، وخوَّفهم بعقابها عن ترك أمره. ولو تركهم جلَّ ثناؤه والطِّباع الأوَّل جَروا على سُنن الفطرة، وعادة الشِّيمة.
ثُمَّ أقام الرَّغبة والرَّهبة على حدود العدل، وموازين النَّصفة، وعدَّلهم تعديلاً متفقاً، فقال:
 فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ( ).
ثُمَّ أخبر الله تبارك وتعالى أنَّه غَيْرُ داخلٍ في تدبيره الخللُ، ولا جائز عنده المحاباة، ليعمل كلُّ عاملٍ على ثقةٍ مما وعده وأوعده، فتعلقت قلوب العباد بالرَّغبة والرَّهبة، فاطَّرد التَّدبير، واستقامت السِّياسة، لموافقتهما في الفطرة، وأخذهما بمجامع المصلحة.
ثُمَّ جعل أكثر طاعته فيما تستثقل النُّفوس، وأكثر معصيته فيما تلذ، ولذلك قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلم: « حُفَّت الجنة بالمكاره، والنَّار بالشَّهوات». يخبر أنَّ الطَّريق إلى الجنَّة احتمال المكاره، والطَّريق إلى النَّار اتِّباع الشَّهوات.
فإذا كانوا لم يصلحوا لخالقهم أو لم ينقادوا لأمره إلا بما وصفت لك من الرَّغبة والرَّهبة، فأعجز النَّاس رأياً وأخطؤهم تدبيراً، وأجهلهم بموارد الأمور ومصادرها، من أمَّل أو ظنَّ أو رجا أنَّ أحداً من الخلق ـ فوقه أو دونه أو من نظرائه ـ يصلح لـه ضميره، أو يصحُّ لـه بخلاف ما دبرهم الله عليه، فيما بينه وبينهم.
فالرَّغبة والرَّهبة أصـلا كلِّ تدبيرٍ، وعليهما مدار كلِّ سياسةٍ، عظمت أو صغرت، فاجعلهما مِثالك الذي تحتذي عليه، وركنك الذي تستند إليه. واعلم أنَّك إن أهملت ما وصفت لك عرَّضت تدبيرك للاختلاط وإن آثرت الهــوينى واتَّكلت على الكُفاةِ في الأمر الذي لا يجوز فيه إلا نظرك، ورجيت أمورك على رأي مدخـول، وأصل غير محكم، رجـع ذلك عليك بما لو حُكِّم فيك عدوُّك كان ذلك غاية أمنيته، وشفاء غيظه»( ).
اللذَّة والسَّعادة
نظراً لوثيق الصِّلة ووشيج العلاقة بَيْنَ اللَّذة والمنفعة والسَّعادة من جهةٍ والأخلاق من جهةٍ ثانيةٍ، ثُمَّ ارتباط ذلك بموضوعنا الآن فإننا نميلُ إلى عرض رأي الجاحظ فيما بَيْنَ اللَّذة والسَّعادة من صلات، وخاصَّةً أنَّ معالجتنا لهذا الموضوع ذات ارتباطٍ بما كنَّا نتحدَّث فيه قبل قليلٍ من حيث حرص الجاحظ على عدم قَصْرِ الأخلاق على اللذَّة وعلى عدم وقف اللذَّة على المتع الحسِّية وإرواء شهوات الغرائز.

إضـافة لمفهوم مفكِّرنا السَّابق عن اللذَّة نجده هنا يُضْفِي عليها بعداً آخر غير معهودٍ وهو البعد المعرفي من حيث جعل العلم ضرباً من ضروب اللذَّة، والحـقُّ أنَّه، في هذه الفكـرة، يردُّ في الأصل على فريقٍ من النَّاس ذهـب إلى أنَّ السَّعادة تتمثَّل في اللَّذات الحسيَّة وحسـب، على نحوٍ مشابهٍ لما ذَهَبَ إليه النَّفعيُّون والذَّرائعيُّـون، فعالج مفكِّرُنا هذا الادعَّاء بأسلوبٍ منطقيٍّ بديعٍ ولغةٍ رصينةٍ أسبغت على المناقشة جلالاً أدبيًّا، وهذا نصُّه، يقول( ):
«ومن النَّاس من يقول: إنَّ العيش كلُّه في كثرة المال، وصحَّة البدن وخمول الذِّكر. وقال من يخالفه: لا يخلو أصاحب البَدَنِ الصَّحيح والمال الكثير، من أن يكون بالأمور عالماً، أو يكون بها جاهلاً. فإن كان بها عالماً فعلمه بها لا يتركه حَتَّى يكون لـه من القول والعمل على حسب علمه، لأنَّ المعرفة لا تكون كعدمها، لأنَّها لو كانت موجودةً غير عاملةٍ لكانت المعرفة كعدمها، وفي القول والعمل ما أوجب النَّباهة، وأدنى حالاته أن تخرجه من حدِّ الخمول، ومتى أخرجته من حدِّ الخمول فقد صار معرَّضاً لمن يقدر على سلبه.
وكما أنَّ المعرفة لا بُدَّ لها من عملٍ، ولابدَّ للعمل من أن يكون قولاً أو فعلاً، والقول لا يكون قولاً إلا وهناك مقولٌ له، والفعل لا يكون فعلاً إلا وهناك مفعولٌ له، وفي ذلك ما أخرج من الخمول وعُرِف به الفاعل.

وإن كانت المعرفـة هذا عملها في التَّنبيه على نفسها. فالمال الكثير أحقُّ بأنَّ عمله الدَّلالة على مكانه، والسِّـعاية على أهله، والمال أحقُّ بالنَّميمة، وأولى بالشُّكر، وأخدع لصاحبه، بل يكون لـه أشدُّ مَهراً، ولحيِّـهِ أَشدُّ فساداً.
وبعد فليس يفهم فضيلة السَّلامة، وحقائق رشدِ العاقبة الذين ليس لهم من المعرفة إلا الشَّدو( )، وإلاَّ خَلاَق أوساط الناس( ) ومتى كان ذلك كذلك لم يعرف المدخل الذي من أجله يكره ذو المال الشُّهرة. ومن عرف ذلك على حقِّه وصدقه، لم يدعه فهمه لذلك حتَّى يدلَّ على فهمه. وعلى أنَّه لا يفهم هذا الموضع حتى يفهم كل ما كان في طبقته من العلم. وفي أقلِّ من ذلك ما يبين به حاله من حال الخامل.
وشروط الأماني غير شروط جواز الأفعال وإمكان الأمور، وليس شيء ألذُّ ولا أسرُّ من عزِّ الأمر والنَّهي، ومن الظَّفر بالأعداء، ومن عقد المنن في أعناق الرِّجال، والسُّرور بالرِّياسة وبثمرة السِّيادة، لأنَّ هذه الأمور هي نصيبُ الرُّوح، وحظُّ الذِّهن، وقِسمُ النَّفس. فأمَّا المطعم والمشرب والمنكح والمشمَّة، وكلُّ ما كان من نصيب الحواس، فقد علمنا أنَّ كلَّ ما كان أشدَّ نهماً وأرغب؛ كان أتمَّ لوجدانه الطَّعم. وذلك قياسٌ على مواقع الطَّعم من الجائع، والشَّراب من العطشان.
ولكنَّا إذا ميَّلنا( ) بَيْنَ الفضيلة التي مع السُّرور، وبَيْنَ لذَّة الطَّعام، وما يُحْدِث الشَّره لـه من ألم السَّهر والالتهاب والقلق وشدَّة الكَلَب، رأينا أنَّ صاحبه مفضولٌ غير فاضلٍ. هذا مع ما يُسَبُّ به، ومع حمله لـه على القبيح، وعلى أن نعمته متى زالت لم يكن أحدٌ أشقى منه. هذا مع سرور العالمِ بما وهب الله لـه من السَّلامة من آفة الشَّره، ومن فساد الأخلاط.

وبعد فلا يخلو صاحب الثَّروة والصَّامت الكثير( )، والخامل الذِّكر من أن يكون ممَّن يرغب في المركب الفاره، والثَّوب اللَّين، والجارية الحسنة، والدَّار الجيدة، والمطعم الطَّيِّب، أو أن يكون ممن لا يرغب في شيءٍ من ذلك. فإن كان لا يرغب في هذا النَّوع كلِّه، ولا يعمل في ماله للدَّار الآخرة، ولا يُعجب بالأحدوثة الحسنة، ويكون ممَّن لا تعدو لذَّته أن يكون كثير الصَّامت، فإن هذا حمارٌ أو أفسد طبعاً من الحمار، وأجهل من الحمار، وقد رضي أن يكون في ماله أسوأ حالاً من ال****.
وبعد فلابدَّ للمال الكثير من الحراسة الشَّديدة، ومن الخوف عليه، فإن أَعْمَلَ الحراسة له، وتعب في حفظه وحَسَبَ الخوف، خرج عليه فضلٌ. فإن هو لم يخف عليه ـ ولا يكون ذلك في سبيل التَّوكُّل ـ فهو في طبع الحمار وجهله. والذي أوجب لـه الخمول ليؤدِّيه إلى سلامة المال له، قد أعطاه من الجهل ما لا يكون معه إلا مثل مقدار لذَّة البهيمة في أكل الخبط( ).
وإن هو ابتاع فُرَّه الدَّواب، وفُرَّه الخدم والجواري، واتخذ الدَّار الجيدة، والطَّعام الطَّيب والثَّوب اللين وأشباه ذلك، فقد دلَّ على مالِهِ، ومن كان كذلك ثُمَّ ظهرت لـه ضيعةٌ فاشِيَةٌ، أو تجارةٌ مربحةٌ، يحتمل مثل ذلك الذي يظهر من نفقته. وإلا فإنَّه سيوجد في اللصوص عند أوَّل من يقطع عليه، أو مكابرة تكون، أو تعب يؤخذ لأهله المال العظيم.
ولو عني بقـوله الخمول وصــحَّة البدن والمال، فذهب إلى مقدارٍ من المال مقبولاً( ) ولكـن لمن كان ماله لا يجاوز هذا المقدار يتهيأ الخمول».
الأخلاق الاقتصادية
لَعَلَّ فيما قدَّمه الجاحظ من أخبار البخلاء وطرفهم ونوادرهم واحتجاجاتهم لسـلوكاتهم، ما يمثل أنمـوذجاً طريفاً من نماذج الوقائع الأخلاقيَّة في عصره، وتطبيقاً لما تحدَّثنا فيه على أخــلاق المنفعة، وليس بَدْعاً من القـول أن نذهب إلى أنَّ الملكية، بكلِّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى، هي المحور الأساسي في مشكلتنا، «وقد رأى فيخته ـ J.G.Fichte وهيجل ـG. F.Hegel أنَّ الملكية عماد الازدهـار الشَّخصي، ويرى باستيا ـ Pastya أنَّها منطلق المبادهة والإبداع، ولكنَّ حقَّ التَّملك يقابل في الواقع واجباً لازباً يفرض على المالك أن يجعل موضـوع ملكيته نافعاً، بل نافعاً باطراد»( ).
أمَّا هربرت سبنسر أحد أبرز أعلام النظريَّة التَّطوريَّة فقد كان من الطَّبيعي أن يحاول إيجاد الصلات بَيْنَ عالم الإنسان وعالم الحيوان بما ينسجم مع تطوريَّته بل بما يخدمها، فقد «ذهب إلى أنَّ لرغبة الامتلاك والحفاظ على الملكيَّة أُسساً عميقةً تمتدُّ جذورها إلى دنيا العجماوات... ومهما يكن من أمر الوسائل والطَّرائق التي أنضجت ـ عَبْرَ التَّاريخ ـ مفهوم التَّملك والقِنْيَة، فإنَّ مردَّ هذا المفهوم يرجع إلى فكرة النَّفع النَّاجم عن علاقة النَّاس بالأشياء، بل من علاقات النَّاس بعضهم بالبعض بصدد الأشياء إنتاجاً بالعمل، أو مبادلةً بالتِّجارة، أو استيلاءً لشغورٍ، أو إرثاً، أو هبةً أو غَصْباً بالعنف، أو سرقةً خلسةً أو جهاراً، وهذا النَّفع يعدُّه الاقتصاديُّون المدرسيُّون مصلحةً فرديَّةً ويرون أنَّهُ الحافز الوحيد، أو على الأقل الحافز الأساسي للفاعليَّة الإنسانيَّة بأسرها. فما هي التَّقديرات الأخلاقيَّة التي تكتنف هذا المطلب النَّفعي الرَّئيسيِّ في سلوك النَّاس؟»( ).
لقد أفرد الجاحظ كتاباً كاملاً، على الأقلِّ، للإجابة عن مثل هذا السُّؤال؛ صحيحٌ أنَّ جوابه ومعالجته كانتا شاملتين لجوانب السُّؤال وأبعاده، إلا أنَّنا سنقتصر هنا على أنموذجٍ صغيرٍ هو الجانب العملي في سلوك البخلاء، كون ذلك من الوقائع الأخلاقيَّة، وسنغضُّ الطَّرف الآن، عن الجانب النَّظري في المسألة الاقتصاديَّة المعالجة في تضاعيف كتاب البخلاء وغيره من كتب الجاحظ ورسائله.
وإن كنَّا سنتحدَّث في أخلاق البخلاء الاقتصاديَّة إلا أنَّنا لا نستطيع ـ إلى حدٍّ ما ـ فَهْمَ هذه الأخلاق بعيداً عن المرجعيَّة التَّاريخيَّة والحضاريَّة التي قادتهم صوب هذا الضَّرب من السُّلوك، ويتجلَّى ذلك أكثر ما يتجلَّى في النقلة الحضاريَّة بمختلف حواملها؛ الفكرية والاجتماعيَّة والعلميَّة والنَّفسيَّة والاقتصاديَّة، التي وصلت إليها الحاضرة العباسيَّة، وتمثَّلت بتغيراتٍ كثيرةٍ على مختلف هذه الصُّعد من النَّاحية القيميَّة والواقعيَّة. فأصبح «الدِّرهم ـ كما يقول ابن التوأم في رسالته التي أوردها الجاحظ ـ هو القطبُ الذي تدور عليه رحى الدُّنيا»( ).
فتحكَّم سحر الدِّرهم في النُّفوس حَتَّى عزَّ الفكاك من أسر هذا السِّحر أَو التَّخلُّص منه، ومن استطاع التَّخلُّص منه من باب تعلَّق به من أبواب أخرى، وفي ذلك يتابع قائلاً: «واعلم أنَّ التَّخلص من نزوات الدِّرهم وتفلته والاحتراس من سكر الغنى وتقلبه شديد. فلو كان إذا تفلَّت كان حارسه صحيح العقل سليم الجوارح، لردَّه في عقاله ولشدَّه بوثاقه، ولكنَّا وجدنا ضعفه عن ضبطه، بقدر قلقه في يده، ولا تغترَّ بقولهم: مالٌ صامتٌ، فإنَّه أنطق من كلِّ خطيبٍ، وأنمُّ من كلِّ نمَّام، فلا تكترث بقولهم: هذين الحجرين( ) وتتوهم جمودهما وسكونهما وقلَّة ظعنهما وطول إقامتهما، فإنَّ عملهما وهما ساكنان، ونقضهما للطَّبائع وهما ثابتان، أكثر من صنيع السُّم النَّاقع والسَّبع العادي. فإن كنت لا تكتفي بصنعة حَتَّى تفتقده، ولا تحتال فيه حَتَّى تحتال له، فالقبر خير لك من الفقر، والسِّجن خير لك من الذُّل»( ).
وقد قال ابن العاص أيضاً، مما أورده الجاحظ: «المال فاتنٌ، والنَّفس راغبةٌ، والأموال ممنوعةٌ، وهي على ما منعت حريصة، وللنُّفوس في المكابرة/المكاثرة( ) علة معروفة، ولأنَّ من لا فكرة لـه ولا روية موكلٌ بتعظيم ذي الثَّروة، وإن لم يكن مناله»( ). ولذلك انكب كثيرٌ من النَّاس على السَّعي من أجل الغنى «وقد قال الحضين بن المنذر: وددت أنَّ لي مثل أُحُدٍ ذهباً لا أَنْتَفِعُ منه بشيءٍ. قيل فما ينفعك من ذلك؟ قال: لكثرة من يخدمني عليه. وقال أيضاً: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن لك فيه إلا أنَّه عزٌّ في قلبك وشبهة في قلب غيرك. لكان الحظُّ فيه جسيماً والنَّفع فيه عظيماً»( ).
لهذه الأسباب كما صوَّر لنا الجاحظ تَهَافَتَ كثيرٌ من النَّاس على طلب الغنى بوسائل مختلفة، وتمادى بعضهم في الاعوجاج في هذه المسالك بافتنان طرائق غريبةٍ، فريدةٍ، تدعو إلى الاستهجان والاستنكار، فابتكروا من وسائل التَّوفير والتَّقنين ما قد لا يَخْطِرُ في بالٍ، فهذا أحدهم يَعْمَدُ من أجل عَدَمِ هَدْرِ الماء المستخدم، إلى حفر حفرة بالقرب من المتوضأ، ويجري إليها الماء الذي يغتسل به أو يتوضأ به، ليقضي به أوطاراً أخرى( ) وهذا آخر يوصي أولاده بأكل عَلَفِ البهائم بقوله: «لا تلقوا نوى التَّمر والرُّطب، وتعودوا ابتلاعه، وخذوا حلوقكم بتسويغه، فإنَّ النُّوى يعقد الشَّحم في البطن، ويدفئ الكليتين بذلك الشَّحم. والله لو حملتم أنفسكم على البزر والنُّوى، وعلى قضم الشَّعير واعتلاف القتِّ( ) لوجدتموها سريعة القبول... وأنا أقدر أن أبتلع النُّوى وأعلفة الَّشاء ولكني أقول ذلك بالنَّظر مني لكم»( ).
وهذا آخر يُجْرِي لأُمِّه درهماً من الأضحى إلى الأضحى ويعزَّ عليه هذا الدِّرهم فَيُدْخِلُ أضحى في أضحى( )، وهذا آخر يسوِّغ عدم غسله الثَّوب على نتنه بقوله: «فإذا اجتمعت هذه الخواطر هممت بغسلها. فإذا هممت به عارضني معارض يوهمني أنَّهُ أتاني من جهة الحزم ومن قبل العقل، فقال: أوَّل ذلك الغُرم الذي يكون في الماء والصَّابون. والجارية إذا ازدادت عناءً، ازدادت أكلاً، والصَّابون نورة، والنورة تأكل الثوب وتبلي الخز، ولا يزال الثَّوب على خطر حَتَّى يسلم إلى القصر والدَّقِّ، ثُمَّ إذا أُلْقِي على الرَّسن فهو بعرض الجذبة والنَّترة والعلق، ولا بُدَّ من الجلوس يومئذٍ في البيت، ومتى جلست في البيت فتحوا علينا أبواباً من النَّفقة وأبواباً من الشَّهوات، والثِّياب لا بُدَّ لها من دقٍّ، فإن نحن دققناها في المنـزل قطعناها، وإن نحن أسلمناها إلى القصَّار فَغُرْمٌ على غُرْمٍ، وعلى أنَّه ربَّما أنزل بها من المكروه ما هو أشد. فإذا أنا لبستها، وقد ابيضت وحسنت وجَفَّتَ وطَابت، تبينتُ عند ذلك وَسَخَ جَسَدِي وَكَثْرَةَ شعري، وقد كان بعض ذلك موصولاً ببعض، ففرَّقته، فاستبان لي ما لم يكن يستبين، واكترثت لما لم أكن أكترث له، فيصير ذلك مدعاة على دخول الحمَّام، فإن دخلته فَغُرْمٌ ثقيلٌ، مع المخاطرة بالثِّياب. ولي امرأة جميلةٌ شابَّةٌ، إذا رأتني قد أطليت وغسلت رأسي وبيَّضت ثوبي، عارضتني بالتَّطيب وبلبس أحسن ثيابها، وتعرضت لي، وأنا فحلٌ والفحل إذا هاج لم يردَّ رأسه شيءٌ، فإذا أردت مواقعتها، ورأت حرصي نَثَرَتْ عليَّ الحوائج نثْراً، ثُمَّ احتجنا إلى تسخين الماء،... وأشد من كذا ونحتاج كذا فنقع في ما لا غاية له»( ).
انظر كيف كادت الدنيا تقوم ولا تقعد لمجرد التفكير بغسل ثوبه النتن الذي يلبسه، بفتح أبواب إنفاق كأد في إغلاقها، لأنها في الواقع المعقول والمقبول، غير قابلة للإغلاق، ومثل هذا البخيل كثير في إيغالهم في مسالك الغرابة والطَّرافة حرصاً على المال. حتى صار عند بعضهم «الطعن في الإسلام أهون عليه من أن يطعن في الرغيف الثاني، وليس شق عصا الدين أشد عليه من شق رغيف، لا يعدُّ الثلمة في عرضه ثلمة، ويعدها في ثريدته من أعظم الثلم»( ).
هذا أنموذجٌ تطبيقيٌّ يُبْرِزُ فيه الجاحظ أخلاق المنفعة عندما تُفهم فهماً خاطئاً، وليس يعنينا موقفه من هذا الأخلاق بِقَدْرِ ما يعنينا عرضه لها، لأنَّ موقفه وضح لدينا في غير هذا الموضع، ولَعَلَّهُ يستحقُّ معالجةٍ مستقلَّةٍ، وليس هذا غرضنا في هذا الفصل، ونظنُّ أنَّ فيما أوردناه ما يكفي لأنَّهُ يتعذَّر علينا ذكر كلِّ ما أورده من نماذج لا تقلُّ طرافةً وتندُّراً عمَّا أوردناه ولعَلَّ فيما أغفلناه ما يبزُّ ما أوردنا، ولكنَّ الإطالة لن تكون إغناءً بِقَدْرِ ما ستكون تكراراً، ناهيك عن أنَّ الوظيفة التي تؤديها واحدةٌ يكفي منها ما يعبر عنها.

خاتمة
هذه أبرز معالم أخلاق المنفعة وفق النَّظرة الجاحظيَّة، ولكن يبدو من خلال ما سبق أنَّ أخلاق المنفعة هذه ليست أخلاقاً متبنَّاةً أو نظريَّة متبنَّاة من قبل الجاحظ وإنَّما هي توصيف لما آلت إليه الأخلاق في عصر مفكرنا. وهذه نقطة الخلاف الأساسيَّة بَيْنَ الجاحظ وفلاسفة أخلاق المنفعة المعاصرين الذين كوَّنوا تياراً اجتماعيًّا وفكريًّا وفلسفيًّا في الفلسفة الأوربية والأمريكيَّة، هؤلاء الفلاسفة الذين جعلوا المنفعة أساساً فلسفيًّا للممارسة الأخلاقيَّة في المجتمع، وكانوا في استعراض هذا الأساس الفلسفي منظِّرين لهذا السلوك ومتبنين له. أما الجاحظ فلم يتعد أن يكون واصفاً لهذا السلوك الاجتماعي ناقداً لـه غير مؤمنٍ به.
يبدو أنَّ الجاحظ قد نظر إلى أخلاق المنفعة على أنَّها أخلاق نابية عن الذوق والعرف والدارج والمألوف في العقليَّة العربيَّة خاصَّة والشرقيَّة أَو الإسلاميَّة عامَّة. ولذلك كانت نظرته النَّاقدة والتهكُّميَّة إلى هذا النُّبوِّ والانحراف عن العادات الشائعة والأعراف في المجتمع العربي. وقد بدا هذا النقد أكثر ما بدا في ما أدرجناه تحت إطار الأخلاق الاقتصاديَّة.
ولكن هذا لا يعني أنَّ الجاحظ كان يرفض أيَّ تفكير في المنفعة أَو أنَّهُ كان ينفي أثرها في حياة الإنسان والمجتمع، فقد بدا لنا كيف أرسى المنفعة أساساً من أسس الممارسة الأخلاقية في حياة الفرد وحَتَّى المجتمع، لأنَّ المنفعة فطرة فطر اللهُ الناس عليها، مثل غيرها من أنواع الفطرة.
أي إنَّ تفكير الإنسان في مصلحته واجبٌ لا تطوعٌ، بل إنَّ من لا يفكِّر في منفعة نفسه هو الذي يكون فيه خللٌ أَو نقصٌ. ولكن في الوقت ذاته أبان الجاحظ أنَّ التَّمادي والتَّطرُّف في السَّعي وراء المنفعة هو المذموم المرفوض لأنَّهُ يخرج بالإنسان عن حدود الفطرة الإنسانيَّة إلى الممارسة البهيميَّة.
فما الحل إذن بَيْنَ طرفي هذه المزدوجة؟
لم يترك الجاحظ هذه المشكلة من دون حلٍّ فقد مرَّ معنا أكثر من مرَّة أنَّهُ يرى الحل في الاعتدال والوسطيَّة؛ فلا ترك المنفعةِ محمودٌ ولا التَّمادي في السَّعي وراءها محمودٌ.





LLL








الفصل الثامن


أخلاق التهكم


 بواعث التَّهَكُّم
 وظائف التَّهَكُّم
 التَّهَكُّم الذاتي



لَقَدْ رُزِقَ الجاحِظُ حِسَّ اكتِشافِ الْجَوَانِبِ الْمُضْحِكَةِ في طَبَائِعِ النَّاس، كما رُزِقَ رُوحاً تَهَكُّميَّةً نادرةً تَتَناقَضُ بِصُوْرِةٍ فَرِيْدَةٍ وَابْتِذَالِ الْمُهَرِّجِيْنِ والْمُحْتَرِفِيْنِ الذين كَانَ يَشْعُرُ بِدافعٍ لِمُعَاشَرَتِهِمْ ومُصَادَقَتِهِمْ( ).

شارل بللا

التَّهَكُّم في أصل ما اجتمع لـه من اللُّغة والاصطلاح هو الإزراء والعبث بالمتهكَّمِ به، الذي يُشترط أن يكون إنساناً، فلا تَهَكُّم بحيوانٍ أو نباتٍ أو جمادٍ، والتَّهَكُّم بما هو كذلك يقوم إمَّا على إرسال القول على غير وجهه كأن تقول قولاً وأنت تقصد ضدَّهُ. ومن ذلك قولك: «عظيم!!»، وأنت تقصد: «ما أسوأ ذلك». أو أن تقول: «خيرُ ما فعلت»، ومرماك: «أسوأ ما فعلت»... وغير ذلك من أمثاله. وإما أن يقوم على المبالغة المقصودة في الوصف أو التَّقدير إلى حدِّ الطَّرافة والشُّذوذ. وقد يكون وصف أشكالٍ أو أفعالٍ. أما موضوع التَّصوير فقد يكون موجوداً في الموصوف حقًّا وقد لا يكون، فإن كان موجوداً كان التَّهَكُّم بالعَبَثِ به تطويلاً وتقصيراً وتقريباً وتبعيداً، تماماً كما يفعل الرسَّام السَّاخر «رسام الكاريكاتير»، وإن لم تكن موجودةً كان المراد منها تركيب صورةٍ مسخيَّةٍ أو هزليَّةٍ أو ساخرةٍ... من خلال تناقض أبعادها وعدم توافق تراكيبها، وبذلك فالتَّهَكُّم بعيد عن الموضوعية بالضّرورة( ).
ولذلك يجوز لنا القول إنَّ «التَّهَكُّم شكلٌ من أشكال الكَذِبِ. إنَّه الكذب الذي لا يرمي إلى الخداع دائماً، على الرَّغْمِ من أنَّه يرمي غالباً إلى الخداع. إنَّه يفترض، ككلِّ كذب، تناقضاً بين التَّعبير وبين جزءٍ من الفكرِ على الأقل، وإنَّ التَّهَكُّم يعرف، بوجهٍ عامٍّ، هذا التَّناقض، بل ويرضى به، ويقدِّر شأنه ومداه، ويستخدمه ابتغاء غايةٍ جماليَّةٍ أو عمليَّةٍ»( ).
«وهناك أنواعٌ من التَّهَكُّم ليست كلُّها صالحةً بالطبع، هناك تهكُّم سمجٍ ثقيلٍ منحطٍّ، وتهكُّمُ مجنَّحٍ رهيفٍ، هناك تهكُّمُ شرِّيرٍ، وتهكُّمُ مزدرٍ أو عطوفٍ، هناك تهكُّمُ ساذجٍ وتهكُّمُ عليمٍ؛ هناك تهكُّمُ عدوٍّ للإنسانيَّة وتهكُّم محبِّها. هناك تهكُّم القاتل الذي يسخر من ضحيته، والتَّهَكُّم الذي قد يوحي إلى مُثل جان هوس ـ Jean Huss على محرقته... ومهما تفاوتت أنواع التَّهَكُّم فإنَّها تصدر
عن طبيعة من يستخدمها وتتأثَّر بظروف حياته. فكلُّ إنسانٍ يذود عن نفسه كيفما يستطيع»( ).
إنَّ ما سبق وأسلفناه يطرح على بساط بحثنا مسألتين نعتقد أنَّ الضَّرورة تلحف علينا أن نسلِّطَ عليهما ولو بقعة صغيرة من الضَّوء، وهما وظائف التَّهَكُّم وبواعثه، ونجدنا مضطرين هنا أيضاً إلى بسط ديباجتنا القديمة ذاتها، التي تصرُّ على عدم القبول بالتَّفاصل القطعيِّ بَيْنَ الوظائف والبواعث، فهما ترفدإحداهما الأخرى تكاملاً وتواصلاً.
بواعث التَّهَكُّم
كما أنَّ الضَّحك جزءٌ من طبائع الإنسان كذلك شأن التَّهَكُّم، ولكنَّهُ يختلف عنه من حيث مبدأ ارتباط النَّعت بالمنعوت، فالضَّحك خاصَّةُ جِنْسٍ، ولكن التَّهَكُّم خاصَّة فردٍ، ويشبه ذلك العلاقة بين التذُّوق الفني والجمالي، والإبداع؛ فالتَّذوق خاصَّةٌ عامَّةٌ للإنسان، وإن تفاوتت وتباينت، أمَّا الإبداع فهو خاصَّةُ أفراد. بمعنى أن التَّهَكُّم فنٌّ، والفنُّ بحاجةٍ إلى موهبةٍ والموهبةُ لا توجد عند
كلِّ النَّاس.
فالتَّهَكُّم إذاً واحدٌ من فنون الإضحاك وأساليبه، وأن تجعل إنساناً أضحوكة لك أو لغيرك فهذا يعني أن تخفضه دونك ودون الآخرين، وخفض الآخر يقابله التَّعالي عليه، والتَّعالي إمَّا أن يكون طبعاً أو أن يكون تشفِّياً، فإن كان طبعاً كان أصله إما تكبُّراً أو غروراً أو ميلاً إلى الدَّعابة والفكاهة. وإن كان تشفيَّاً إمَّا أن يكون حقداً أو حسداً أو هزءاً أو استنكاراً لأمرٍ غير مقبولٍ ولا مستساغٍ. ولعلَّنَا لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الجاحظ قد حوى ذلك جميعه تقريباً في شخصه.
أولاً: التَّهَكُّم بالطبع
يؤكد الجاحظ أنَّ من كان فيه طبع التَّهَكُّم واصطناع الفكاهة يصعب عليه التَّخلِّي عن هذا الطَّبع وإن غلا ثمنه أَو عَظُمت عواقبه، ويورد حادثةً طريفةً تؤكِّد هذا الرَّأي، وتعبر عن إيمانه بهذه الحقيقة، يقول: «كان رجل من أهل السَّواد (فلاحي أرض العراق وزرَّاعها) يتشيَّع، وكان ظريفاً، فقال ابن عمٍّ له: بَلَغَنِي أنَّك تبغض عليَّاً؟ والله لئن فعلت لَتَرِدَنَّ عليه الحوض يوم القيامة ولا يسقيك!
فقال: والحوض في يده يوم القيامة؟
فقال: نعم
فقال: .... والله لا تركت النَّادرة ولو قتلتني في الدُّنيا وأدخلتني النَّار في الآخرة»( ).
والجاحظ ذاته مطبوعٌ على حبِّ التَّهَكُّم واصطناع الفكاهة «فقد رُزِقَ حسَّ اكتشاف الجوانب المضحكة في طبائع النَّاس، كما رُزِقَ روحاً تهكُّميَّةً نادرةً تتناقض بصورةٍ فريدةٍ وابتذال المهرِّجين والمحترفين الذين كان يشعر بدافعٍ لمعاشرتهم ومصادقتهم»( ) هذا الحسُّ الذي وإن تنامى وتطوَّرَ واغتنى مع الأيام فإنَّهُ لم يأت طارئاً ولا عارضاً وإنَّما «ظَهَرَ ميله إلى الاستهزاء منذ غضاضة عوده، واستحكم فيه هذا الميل بعد أن تهيَّأت لـه أسباب التَّهَكُّم بحذافيرها، فقد خُلِقَ مطبوعاً على هذا التَّهَكُّم، وقَوَّت فيه ثقافته هذا الطبع»( )، «ويجدر بنا ألا ننسى أنَّهُ عاش في البصرة في وسطٍ سادت فيه الخفَّة والتَّهَكُّم، وعمَّه الميل إلى العبث والتَّندر، ومن هنا نشأَ ميله إلى المزاح، شريطة ألا يخرج عن حدوده»( ).

ورُبَّما كان لشعوره بمقدراته ومواهبه وأهمِّيَّتها أثر في هذا الميل والتَّوجُّه، ويؤكِّد لنا هذه الحقيقة عَبْرَ تهكُّم لطيف شكلاً، لاذعٍ مضموناً، فقد «دخل عليه رجل فقال له:
ـ يا أبا عثمان، كيف حالك؟
ـ فقال الجاحـظ: سألتني عن الجملة فاسـمعها مني واحداً واحداً. حـالي أنَّ الوزير يتكلَّم برأيي وينفِّذ أمري، ويواتر الخليفة الصِّلات إليَّ، وآكل من لحـم الطَّير أسـمنها، وألبس من الثِّياب أفخرها، وأجلس على ألين الطبري، وأتكئ على هذا الريش، ثُمَّ أصبر على هذا حَتَّى يأتي الله بالفَرَج.
ـ فقال الرُّجل: الفَرَجُ ما أنت فيه.
ـ قال: بل أحبُّ أن تكون الخلافة لي، ويعمل محمد بن عبد الملك بأمري ويختلف إليَّ، فهذا هو الفرج»( ).
لا تفوتنا هنا الإشارة إلى أنَّ ما يعنيه التَّهَكُّم بالطبع أنَّه مرتبطٌ بسرعة البديهة في الرَّدِّ ونوعيَّة الرَّدِّ التي قد تكون مثل الصَّفعة على الخدِّ أحياناً وقد تكون شبه وخزة، مما يدور في رحاب ما أسلفناه في التَّهَكُّم. ولذلك فإنَّ المطبوع على التَّهَكُّم مغرمٌ به، وغالباً يأتي منه عفو البديهة سهواً رهواً من غير تكلُّف، ومن ذلك نورد بعض هذه الطَّرائف الجاحظيَّة في التَّهَكُّم:
ـ قال أبو العيناء: كان الجاحـظ يأكل مع محمد بن عبد الملك الزَّيات فجاؤوا بفالوذجة، فتولَّم محمد بأبي عثمان الجاحظ وأمر أن يُجعل من جهته ما رقَّ من الجام، فأسرع في الأكل فتنظَّف ما بَيْنَ يديه، فقال ابن الزيَّات: تقشَّعت سماؤك قبل سماء النَّاس؟ فقال الجاحظ: لأنَّ غيمها كان رقيقاً!!( ).
ـ قال الجاحظ: نـزلت على صديقٍ لي فلم آكل عنده لحماً، فعرضت له، فقال: إنِّي لا أكثر من اللحم منذ سمعت الحديث: « إنَّ اللّه يكره البيت اللحم » فقلت: يا أخي، إنَّما أراد البيت الذي تؤكل فيه لحوم النَّاس بالغيبة!! فلم يؤخِّر حضور اللحم من ذلك اليوم»( ).
ويتابع الدكتور جميل جبر بالتعليق على هذا الخبر نقلاً عن المصدر: «وهذه إحدى معابث الجاحظ وتلاعبه بالكلام حَتَّى يصرفه عن وجهه، فإنَّ الحديث متواترٌ على الصِّحة. ومهما يكن من شيء فهي من ألطف النكات»( ).
ـ قال أبو بكر محمد بن إسحاق: قال لي إبراهيم بن محمود ونحن ببغداد: ألا تدخل على عمرو بن بحر الجاحظ؟ فقلت: ما لي وله؟ فقال: إنَّك إذا انصرفت إلى خراسان سألوك عنه! فلو دخلت إليه وسمعت كلامه؟ فدخلت عليه فقدَّم لنا طبقاً عليه رطب. فتناولت منه ثلاث رطبات ثُمَّ أمسكت، ومرَّ فيه إبراهيم. فأشرت إليه أن يمسك. فرمقني الجاحظ وقال لي: دعه يا فتى فقد كان عندي بعض إخواني فقدمت إليه الرُّطب فامتنع فحلفت عليه فأبى إلا أن يبرَّ قسمي بثلاثمئة رطبة!!( ).
ثانياً: تهكم التَّشفِّي
«من الطَّبيعي أنَّ قيمة التَّهَكُّم هي قيمة الفكر المتهكِّم، فالتَّهَكُّم أسلوبٌ عامٌّ ممتازٌ، ولكن من الجائز أن يساء استعماله؛ إنَّهُ أسلوبٌ دفاعيٌّ قد يحمي أحياناً أشياء مؤسفة. هناك تهكُّم العاجزين الذين لا يملكون سواه؛ إنَّهُم يسخرون مما لا يستطيعون فهمه، ولا يستطيعون الشُّعور به، ولا يستطيعون فعله. وهم بالتَّهَكُّم يردُّون جميع الأفكار وجميع العواطف العليا التي تغزوهم وهم يقصِّرون عن استقبالها واحتضانها. إنّهم يحاولون، هم أيضاً، أن يجعلوا حياتهم أمراً لا يطاق، ولكننا لا نعجب بهم.
وثَمَّةَ تهكُّم أشبه بالتَّهَكُّم السَّابق، هو تهكُّم الحسَّاد. فقد نجد أناساً غير عاجزين من جهةٍ، ولكنَّهُم لا يطيقون من جهةٍ أُخْرَى إلاَّ أن يروا الآخرين عاجزين. إنَّهُم يحتاجون إلى ازدراء ما لم يستطيعون امتلاكه، وخاصَّةً عندما يرغبون فيه. ولذا فإنَّهم يحملون النَّاس، ويحملون أنفسهم، على تقدير ما يبقى لهم... وتهكم الحسَّاد هذا ـ ذائع أكثر الذيوع»( ).
ولكن ليس هـذا تَمَام تَهَكُّم التَّشفِّي ولا كلَّه، إنَّهُ أَحَدُ ضــروبه التي وإن وجدت مكانها في الفلسـفة الأخلاقية فإنَّها رُبَّما لا يُفسح لها في المجال للانضـمام إلى رحـابة الأدب، وهذا ما ليس يعنينا كثيراً الآن، وإنَّما غرضنا أن نظهر أن دائرة تهكُّم التَّشفِّي تتسع لاحتواء ضروب أخرى، هي ما يمـكن أن نؤطِّـرها بالهزء والسُّخرية بالغلط والتَّمادي والجهل والغباء وغير ذلك مما يندرج عليه حكم هذه المفاهيم، ليغدو تهكُّم التَّشفِّي بهذا المعنى نشاطاً جمالياً وأخلاقيًّا في آن معاً، يهدف إلى الكشف عن الانحراف ومعاقبة صاحبه معاقبةً أدبيَّةً ترنو إلى إصلاحه وتبيان خطئه، وهذا موضوع حديثنا في وظائف التَّهَكُّم، ومن تهكُّم الجاحظ على هذا الصَّعيد جلُّ ما قدمه في كتاب البُخلاء، وكتاب التَّربيع والتَّدوير، وفي غيرهما من كتبه.
لننظر في هذا التَّهَكُّم الجاحظي. «قال: جاءني يوماً بعض الثُّقلاء فقال: سمعت أنَّ لك ألف جوابٍ مسكتٍ، فعلِّمني منها؟
فقلت: نعم
فقال: إذا قال لي شخصٌ: يا زوج القحبة، يا ثقيل الرُّوح، أي شيء أقول له؟
فقلت: قل له: صدقت!!»( ).
ولنتساءل الآن، ألا يستحقُّ السَّائل مثل هذا التَّهَكُّم اللاَّذع الذي يبذُّ إيلامه إيلام لسعة السوط على الظَّهر العاري؟ لعلَّنا لا نبالغ إذا قلنا إنَّ السَّائل ذاته هو الذي فرض على الجاحظ هذا التَّهَكُّم، لأنَّه لو كان معتدلاً في سؤاله لن يبلغ التَّهَكُّم به ما بلغ جرَّاء هذا السُّؤال.
ويستفتح أبو عثمان رسالة التَّربيع والتدوير، هذا العنوان التَّهَكُّمي بحدِّ ذاته، بتهكُّمٍ طريفٍ بديعٍ، لعلَّهُ من الآيات الجمالية الفريدة في النثر العربي فيقول( ): كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدَّعي أنَّه مفرط الطول. وكان مربَّعاً، وتحسبه لسعة جفرته( )، واستفاضة خاصرته، مدوَّراً. وكان جعد الأطراف قصير الأصابع، وهو في ذلك يدَّعي البساطة والرَّشاقة، وأنَّه عتيق الوجه، أخمص( ) البطن، معتدل القامة، تام العظم. وكان طويل الظَّهر، قصير عظم الفخذ، وهو، مع قصر عظم ساقه، يدَّعي أنَّهُ طويل الباد( )، رفيع العماد، عاديُّ القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم، والسعة في العلم. وكان كبير السِّنِّ، متقادم الميلاد، وهو يدَّعي أنَّه معتدل الشَّباب، حديث الميلاد.
وكان ادِّعاؤه لأصناف العلم على قَدْرِ جهله بها، وتكلُّفه للإنابة عنها على قدر غباوته عنها. وكان كثير الاعتراض، لهجاً بالمراء، شديد الخلاف، كَلِفاً بالمجاذبة، متتابعاً في العنود، مؤثراً للمغالبة، مع إضلال الحجَّة، والجهل بموضع الشُّبهة، والخطرفة عند قصر الزَّاد، والعجز عند التَّوقُّف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء، ومغبَّة فساد القلوب، ونكد الخلاف، وما في الخوض من اللغو الدَّاعي إلى السَّهو، وما في المعاندة من الإثم الدَّاعي إلى النَّار، وما في المجاذبة من النَّكد، وفي التَّغالب من فقدان الصَّواب.
وكان قليل السَّماع غمراً، وصحفياً( ) غفلاً، لا ينطق عن فكر، ويثق بأوَّل خاطر، ولا يفصل بين اعتزام الغمر، واستبصار المحقِّ، يعدُّ أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلَّق منهم بسبب. وليس في يده من جميع الآداب إلاَّ الانتحال لاسم الأدب.
وظائف التَّهَكُّم
بأخذ بواعث التَّهَكُّم بعين النَّظر يمكننا الحديث على وظائفه باختصارٍ نظراً لوثيق التَّرابط بينهما، بل وحَتَّى التَّشابه. ولكنَّ ذلك ليس يعني أنَّه في مكنتنا استنتاج إحداهما من الأخرى استنتاجاً منطقيًّا أو رياضيًّا، أو أن نربط باعثاً ما بوظيفة ما، هكذا، بطريقةٍ ساذجةٍ أو عشوائيَّةٍ.
قد تكون وظائف التَّهَكُّم كثيرة، ولكن بالإمكان إجمالها في وظيفتين محوريتين، يمكن أن تنشعب كلٌّ منهما إلى أفرع مختلفة. وهاتان الوظيفتان هما الشَّجب بمعناه الواسع بوصفها دالَّةً متعدِّدة الأسهم المؤشرة على معان ومقاصد متباينة. والدِّفاع عن الذَّات بالمعنى الأوسع شمولاً.
أولا: الشجب
لنأخذ هذه الوظيفة بالطَّريقة التي حدَّدها أناتول فرانس ـ Anatole France الذي يضمُّه بعضهم إلى كوكبة حذَّاق المتهكِّمين في التَّاريخ، يقول: «لا أزداد تفكيراً في حياة البشر إلا ازددتُ اعتقاداً أنَّ من الواجب علينا أن نجعل شهود هذه الحياة وقضاتها: التَّهَكُّم والشَّفقة. فالتَّهَكُّم بابتسامةٍ يحبِّب إلينا الحياة، والشّفقة بدموعها تقدِّس هذه الحياة، والتَّهَكُّم الذي أرغب فيه ليس فيه شيء من القساوة، إنَّه لا يستهزئ بالحبِّ والجمال، فهو رقيقٌ وفيه عطف، فضحكه يكظم من الغيظ، وهذا هو التَّهَكُّم الذي يعلمنا أن نسخر من الأشرار والحمقى، ولولاه لأفضى بنا الضَّعف إلى كراهيتهم»( ).
يبدو أن الوظيفة التي أناطها أناتول فرانس بالتَّهَكُّم هي إضفاء مسحةٍ جماليَّةٍ على الحياة برفِّ رفيف الفكاهة على النفوس. وذلك بشجب أفعال الأشرار وسخافات الحمقى بطريقةٍ أنيقةٍ خاليةٍ من القسوة والعنف، بل مفعمة برهافة الجمال وشفافيته. ولهذا الغرض خصَّ الجاحظ، في اعتقادنا، كتاب البخلاء على أقلِّ تقدير، ثُمَّ ما وشَّى به بقيَّة كتبه. وسنعرض فيما يلي لأنموذجين من التَّهَكُّم الجاحظي الذي يشرئب إلى تحقيق هذا الغرض الوظيفي للتهكم، أولهما حوار وثانيهما سلوك تهكُّمي يتشفَّى من موقف غير لائقٍ ولا محمود.
حدَّث سلام بن يزيد قال: قصدت بغداد فسألت عن الجاحظ فقيل لي: هو بسرَّمن رأى. فاصعدت إليها، فقيل لي: قد انحدر إلى البصرة، فانحدرت إليها. وسألت عن منـزله فأرشدت إليه، فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبيًّا ليس فيهم ذو لحية غيره، فدهشت، فقلت: أيكم أبو عثمان؟
فرفع يده وحرَّكها في وجهي وقال: من أين؟
قلت: من الأندلس.
فقال: طينة حمقاء. فما الاسم؟
قلت: سلام.
فقال: اسم كلب الطرَّاد، ابن من؟
فقلت: ابن زيد.
فقال: بحقِّ ما صرت أبو من؟
فقلت: أبو خلف.
فقال: كنية قرد زبيدة. ما جئت تطلب؟
فقلت: العلم.
فقال: ارجع بوقتك فإنَّك لا تعلم.
فقلت له: ما أنصفتني! فقد اشتملت على خصال أربع: جفاء البلديَّة، وبعد الشقة، وعزَّة الحداثة، ودهشة الداخل.
فقال: فترى حولي عشرين صبيًّا ليس فيهم ذو لحيةٍ غيري، أكان يجب أن تسأل: أيكم أبو عثمان؟( ).
أما السُّلوك التَّهكُّمي فقد قال: صحبني محفوظ النقَّاش من مسجد الجامع ليلاً. فلمَّا صرت قرب منـزله، وكان منـزله أقرب إلى مسجد الجامع من منـزلي، سألني أن أبيت عنده وقال: أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنـزلي منـزلك، وأنت في ظلمة وليس معك نارٌ، وعندي لِبأ( ) لم ير الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة، لا تصلح إلا لك.
فملت معه. فأبطأ ساعةً ثُمَّ جاءني بجام لِبأٍ وطبق تمرٍ، فلمَّا مددت يدي قال: يا أبا عثمان إنَّه لِبأٌ وغِلَظُه( )، وهو الليل وركوده، ثمَّ ليلة مطرٍ ورطوبة، وأنت رجلٌ قد طعنت في السِّنِّ، ولم تزل تشكو من الفالج طَرَفاً، ومازال الغليل( ) يسرع إليك. وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء. فإن أكلت اللِّبأ ولم تبالغ، كنت لا آكلاً ولا تاركاً، وحرَّشت طباعك( )، ثُمَّ قطعت الأكل أشهى ما كان إليك. وإن بالغت بتنا في ليلة سَوْءٍ، من الاهتمام بأمرك. ولم نعدَّ لك نبيذاً ولا عسلاً. وإنَّما قلت هذا الكلام، لئلا تقول غداً: كان وكان. والله قد وَقَعْتُ بَيْنَ نابي أسدٍ، لأنِّي لو لم أَجِئْكَ به، وقد ذكرته لك، قلتَ: بخل به وبدا لـه فيه. وإن جئت به، ولم أحذِّرك منه، ولم أذكِّرْك كلَّ ما عليك فيه، قلتَ: لم يشفق عليَّ ولم ينصح. فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً. فإن شئت فأكلة وموتة، وإن شئت فبعض الاحتمال، ونوم على سلامة.
ولكنَّ الجاحظ لم يترك الأمر يمرُّ هكذا فعقَّب قائلاً: فما ضحكت قطُّ كضحكي تلك الليلة، ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنَّشاط والسُّرور، فيما أظنُّ. ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلَّم به لأتى عليَّ الضحك، أو لقضى عليَّ. ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب( ).
إنَّ سلوك الجاحظ التَّهَكُّمي يتجلَّى هنا في سرعة استجابته لدعوة الرَّجل لـه في منتصف الليل وهو يعلم أنَّ ذلك إنَّما كان من باب المجاملة واللباقة أو تخوفاً مما قد يبدر من الجاحظ من تعليقٍ أو قولٍ يعيب الرَّجل لأنَّهُ لم يدعه. ويتجلَّى أيضاً في أنَّه، على الرَّغْمِ من كلِّ ما أفاض به الرَّجل من الحديث عن مساوئ هذا الطَّعام ومضاره عليه، فقد أصرَّ على تناوله، ولتأكيد تهكُّمه لم يكتف منه بقليل بل أتى عليه كله.
ثانياً: الدِّفاع عن الذات
لا يتوقَّف تهكُّـم الدِّفاع عن الذَّات عند ردود الأفعال التَّهَكُّمية الصَّادرة عن الحسَّاد وأضـرابهم، ولا يختصُّ بتهكُّم الخـائفين مما يهدِّدهم عند افتقارهم إلى الوسائل الدِّفاعية الأخرى. لقد قصدنا بهذا الضَّرب من التَّهَكُّم ـ بوصفه وظيفة لـه ـ كلَّ تخلُّص تَهَكُّميٍّ من أيِّ مأزقٍ حرجٍ سواء أكان حرج الحاسد أمام ذاته من محسوده أم كان تهرُّباً من قول حقٍّ، أو فِراراً من مهمَّة، أو تَمَلُّصاً من واجبٍ غير مستحبٍّ أَو غير مرغوبٍ في تأديته...«ولا يقتصر التَّهَكُّم على أن يكون دفاعاً عن الذَّات ضدَّ الآخرين وإنَّما قد يكون كذلك دفاعاً عن الذَّات ضدَّ الذَّات وضدَّ ذوات الآخرين»( ).
ولكن، ما لا بُدَّ من الإشارة إليه هنا، هو «أنَّ التَّهَكُّم ـ هذا ـ لا يقود بالضَّرورة إلى سوء النِّية والشَّراسة حتماً. فهو ليس بالضَّرورة موقف امتهانٍ وترفُّعٍ واحتقارٍ. وربَّما صحبته مشاعر الطِّيبة والتَّعاطف والصَّلاح. ومن الملاحظ أنَّ التَّهَكُّم يحمي الضَّعف أيضاً»( ) وهذا ما ينطبق على أنموذجنا الآتي من نماذج التَّهَكُّم الجاحظي الذي يؤدِّي وظيفة الدِّفاع عن الذَّات ليحمي ضعفها أمام جبروت السُّلطان.
«كان الجاحظ ذا حظوةٍ فريدةٍ عند خلفاء بني العباس، فكانوا يكبرون شأنه ويحترمون معارفه الواسعة، ويقدِّرون ما طُبِعَ عليه من لُطْفِ المعشر ولذعة النكتة، فلَّما ظهرت العداوة بين الوزيرين ابن الزيَّات والقاضي أحمد بن داؤد آثر أبو عثمان صداقة الأول فبقي وفيًّا لـه حتَّى قُبِضَ عليه ففرَّ الجاحظ فسأله الوزير لَمَّا جِيء به إليه مكبَّلاً: لِمَ هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التَّنور»( ) إشارة إلى التَّنُّور الذي صنعه ابن الزيَّات وجعل في جوفه المسامير ليعذب به خصومه، فعُذِّبَ هو فيه حَتَّى مات وهذه قِصَّةٌ طويلةٌ فيها أكثر من موقف تهكُّمي أو مضحك من هذا النوع.
التَّهَكُّم الذاتـي
إنَّ براعة الجاحظ التَّهَكُّميَّة ـ التي سَبَقَ الحديث فيها ـ حَدَتْ بشارل بللا ـ Charles Pellat إلى القول بأنَّ الجاحظ هو نَسِيْجُ وَحْدِهِ في هذا الباب ، وذهب إلى الظنِّ بأنَّ تهكُّمه ذاتيٌّ، وأنَّ ملاحظته وتصويره عيوب معاصريه يجعلانه أقرب إلى لابرويير ـ La Bruyére وموليير ـ Moliére منهما إلى غيره من كتَّاب العربيَّة( ).
إن التَّهَكُّم الذَّاتي الذي قصده الباحث الفرنسي غير التَّهَكُّم الذَّاتي الذي عنونا به هذا الفصل، ذلك أنَّه يريد من الذَّاتية إضفاء إحساسه وخصائص شخصيَّتِهِ على تَهَكُّمِهِ ليغدو الذَّاتي بهذا المعنى مقارناً للنَّـزعة أو الاتجاه الذَّاتي في الاصطلاح الفلسفيِّ، أمَّا نحن فإنَّنا نقصد بالتَّهَكُّم الذَّاتي ضرباً جديداً من التَّهَكُّم هو جَعْلُ الذَّاتِ موضوعاً يَتَهَكَّمُ به صاحبها. وهذا من الطَّرافة والأصالة والجدَّة بباب ما يستحقُّ وقفة تأمُّلٍ وتفكُّرٍ طويلةٍ، وخاصَّةً أنَّه قلَّ نظيره ونَدَرَ في التُّراث الإنسانيِّ.
لا شكَّ في أنَّنا إذا تكلَّفنا عناء البحث والتَّفتيش فإنَّنا سنجد في بطون الكتب وفي متون غرائب الأخبار طرائف ونوادر من التَّهَكُّم الذَّاتي، ولَعَلَّ أوَّل ما يَخْطِرُ في بالنا هنا هو قِصَّةُ الحطيئة عندما ضاقت به نفسه لهجوٍٍ في خياله ليس يدري لمن يقوله، حَتَّى وصل إلى بركة ماء فرأى فيها وجهه فأكمل فكرته وقال:
أَبَتْ شَــفَتَايَ اليَوْمَ إلاَّ تَكُلُّما

بِهَـجْوٍ وَلا أَدرِي لمـن أَنَا قَائلهْ

أَرى لِيَ وَجْــهاً قَبَّح الله وَجْهَهُ

فَقُبِّحَ مِن وجهٍ وقُبِّحَ حاملهْ

طبعاً، لا نريد أن نحلِّل هذين البيتين أو نناقشهما، ولكن لا بُدَّ أن نشير إلى أنَّهُمَا ليسا نتيجةً لضيق نَفَسِ الشَّاعر لأنَّهُ لم يجد من يهجوه ففرَّج عن نفسه بهجو نفسه، وإنَّما هو تندُّرٌ من الشَّاعر طريفٌ غريبٌ. وعلى نحوٍ مشابهٍ لهذه القصَّة نجد تندُّر الأديب السَّاخر برنارد شو في قصته مع المرأة الجميلة التي قالت له: ما رأيك لو تتزوجني؛ أنت رجلٌ ذكيٌّ جدًّا، وأنا امرأةٌ جميلةٌ جدًّا. فيأتي ابننا وارثاً الجمال عنِّي والذَّكاء عنك، فيكون أعجوبة زمانه.
فعلَّق برنارد شو قائلاً: أخاف أن يرث الجمال عنِّي والذَّكاء عنك فيكون أضحوكة أهل زمانه.
وهذا نابليون يعلِّق تعليقاً طريفاً لا يخلو من تهكُّم بالذَّات إذ يقول: «سيصرخ العالم بعد موتي قائلاً: أوف»( ).

ولكنَّ تهكُّماً بالذَّات على النَّحو الذي افتنَّه الجاحظ وَبَرَعَ فيه حَتَّى اسـتطاع بجدارةٍ وحقٍّ أن ينتـزع الضِّحك من أفواهنا انتزاعاً في الوقت الذي يزيد صاحبه من نفوسـنا اقتراباً وفي قلوبنا حبًّا ووداداً، لأنَّ تهكُّـمَهُ هذا تهكُّم حاذقٍ خبيرٍ، وبارعٍ قديرٍ، لا تهكُّم السَّاذج أو الغرِّ أو الأحمق. وإن كان قد أطرب نفوسنا ببديع شدوه ورنيم عزفه على أوتار حماقات هذه الفئة من النَّاس، وكأَنَّهُ لا يريد أن يفوِّت على قرَّاء كتبه فرص الاستمتاع بكلِّ صنوف الفكاهات والطَّرائف الصَّادرة عن مختلف شرائح المجتمع وفئاته وأفراده، حَتَّى ما كان منها على ذاته.
إنَّ تَهَكُّم الجاحظ الذَّاتي، وهذا ما سيتضح لنا جلياً في أثناء عرضه، ينبي عن خصائص وسمات أخلاقيَّةٍ رفعيةٍ ومستحبَّةٍ ومحمودةٍ، نتمنَّى وجودها لدى كلٍّ منا؛ كالأريحيَّة في التَّعامل مع الذَّات والآخرين، والبساطة في ذلك بعيداً عن عُقَدِ النَّقص والقصور ومتاهات الخداع والتضليل التي قلَّما وجدنا من تعافى منها، كُلَّها أو بعضها، كما يكشف هذا التَّهَكُّم عن تواضعٍ جليلٍ، وصدقٍ نبيلٍ، وأمانةٍ في النَّقل والتَّصوير، وبالمختصر؛ لم يكن التَّهَكُّم الذَّاتي عند الجاحظ لمحض الإضحاك أو تكميل سلسلة ضروب فنون الإضحاك، وإنَّما كان مؤشِّراً على مجموعةٍ من الخصال الأخلاقيَّة اللطيفة الظَّريفة، وحَتَّى وإن كان غرض الجاحظ من ذلك محض الإضحاك فإننا لا نستطيع إلا أن نؤكِّد ما تؤشِّر إليه من الخصال الأخلاقيَّة السَّالفة الذِّكر، وفي النَّماذج التَّالية ما يؤكِّد هذا الاتِّجاه
خير التَّأكيد.
تصالح الأضداد
كلُّ إنسانٍ معرَّضٌ للمرض على اختلاف ضروبه وتباين آلامها، ولكلِّ إنسانٍ أسلوبه وطريقة تعامله مع المرض، ولكن قلَّ ونَدَرَ كلَّ النُّدْرَةِ أن تجد من يتعامل مع مرضه لا بروح تفاؤليَّة وإنَّما بِنَفَسٍ دعابي فَكِهٍ مثل الجاحظ، فها هو يصوِّر حاله، بعد أن أصابه الفالج، تصويراً تهكميًّا لطيفاً فيقول: « قد اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي»( ).
لقد وَصَفَ بعضهم نُكَتَ الجاحظ بأنَّهَا صعبةٌ حيناً وممتنعةٌ على بعض الأذهان ضيِّقةِ الأفق أحياناً، والحقُّ أنَّهُم لم يتعدُّوا الصَّواب في ذلك، فلَعَلَّكَ قرأت لـه طرفةً أو نكتةً من دون أن تجد فيها، ما يدعو إلى الضَّحك ولكنَّكَ إن أمعنت التَّفكير فيها وتفقَّهتها ستجد نفسك مرغماً على الضَّحك، ولَعَلَّ هذا التَّهَكُّم من هذا النَّوع، فـهو يحتاجُ إلى نوعٍ من خصوبة الخيال في تتبع الحال، انظر إلى تركيبته التَّهَكُّـمية البديعة أولاً، إنَّ الأضداد لا تتصالح ولا تتوافق، ولكِنَّها اتَّفَقَتْ وتضـافرت عند الجاحظ في مرضه فأوقعته في تناقضٍ رهيبٍ، إن أكل بارداً أخذ الألم برجله وإن أكل حاراً أخذ الألم برأسه، ولَعَلَّهُ قَصَدَ بالحارِّ والبارد أمزجة الأشياء التي إما أن تكون حارةً أو باردةً وعندها ستكون الطَّامة الكبرى والمصيبة العظمى. لأنَّه لا شيء يكون إلا بارد المزاج أو حارَّه.
ويصوِّرُ تصالح الأضداد في جسده مرَّة أخرى وبصورة متباينة لا تقلُّ إضحاكاً عن الأولى إن لم تفقها في ذلك، قال أبو العباس المبرد: «عدت الجاحظ فسمعته يقول: أنا من جانبي الأيسر مفلوجٌ، فلو قُرِضَ بالمقاريض ما علمت، ومن جانبي الأيمن منقرسٌ، فلو مرَّ بي الذبَّان لأَلِمْتُ، وبي حصاة لا ينسرح البول معها، وأشدُّ ما عليَّ سِتٌّ وتسعون (عمره حينها)( ).
لاحظ في التَّهَكُّم السَّابق كيف أنَّ السِّن لم تُغَيِّر من روحه المرحة وميله إلى الدَّعابة والفكاهة، حَتَّى على ذاته، وهذا هو أيضاً في أواخر عمره يصوِّر ذاته صورةً تهكُّمِيَّةً بديعةً، ولكِنَّها بِقَدْرِ ما تستثيره من الضَّحك فإنَّها تنتزع الشَّفقة والحسرة على ما آل إليه، قال يموت بن المزرع (ابن أخت الجاحظ): «إنَّ المتوكل، في السَّنَةِ التي قُتِلَ فيها، وَجَّه إلى الجاحظ أن يُحمل إليه من البصرة، فوجده لا فضل فيه، فقال لمن أراد حَمْلَهُ، ما يصنع بامرئ
ليس بطائل، ذي شقٍّ مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقلٍ زائل، ولونٍ حائل؟»( ).
البادئ أظلم
ومن بدائع تهكُّمه الذَّاتي وروائعها قِصَّتَاه فيمن أخجله وغلبه، ولطرفتهما فقد شـاعتا شـيوعاً كبيراً حَتَّى تكاد لا تجـد مثقفاً ورُبَّما غير مثقف إلا وقد حفظ إحـداهما على أقل تقدير، ونتركه يرويها لنا بذاته.
قال: ما أخجلني أحدٌ إلا امرأتان، رأيت إحداهما في العسكر، وكانت طويلة القامة، وكنتُ على طعام، فأردت أن أمازحها، فقلت لها: انـزلي كلي معنا، فقالت: اصعد أنت حَتَّى ترى الدُّنيا!!
وأما الأخرى فإنَّها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي، فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغٍ يهودي وقالت له: مثل هذا!!! وانصرفت. فسألته عن قولها فقال: إنَّها أتت إليَّ بفصِّ وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان! فقلت لها: يا ستي ما رأيت الشَّيطان؟!! فأتت بك وقالت ما سمعت؟!! ( ).
لاحظ هذه الأريحيَّة في نقل الخبر والتَّعامل معه وكأَنَّهُ انتزع ذاته من ذاته ليجعلها موضوعا لهزئه وسخريته، وكأَنَّ هذا القبيح كلَّ القبح هو شخصٌ آخر غيره، وتزداد حيرةً وضحكاً في آن معاً عندما تعلم أنَّه قال في غير هذا الموضع: «إنَّ ضرب المثل بقبح الشَّيطان دليل على أنَّهُ في الحقيقة أقبح من
كلِّ قبيح»( ).
وهاهو يعرض علينا أيضاً موقفاً أشدَّ إحراجاً وأعمق تهكُّماً وهو المحرج وهو موضوع التَّهَكُّم، ولكنَّه لا يجد حرجاً من إطلاعنا عليه، بشقَّيه، وكأن المحرج والمتهكَّم به شخصٌ آخر لا علاقة لـه بالجاحظ.
قال: ما غلبني أحد إلا رجل وامرأة.
فأمَّا الرَّجل فإني كنت مجتازاً في بعض الطَّريق فإذا برجلٍ قصيرٍ بطينٍ، كبير الهامة طويل اللحية، مؤتزر بمئزر، وبيده مشط يمشِّطها، فقلت في نفسي، رجلٌ قصيرٌ بطينٌ ألحى! فقلت: أيها الشَّيخ، لقد قلت فيك شعراً! فترك المشط من يده وقال: قل. فقلت:
كَأَنَّكَ صَعْوَةٌ فِي أَصْلِ حُشِّ أَصَابَ الحُشَّ طشٌّ بَعْدَ رشِّ( )
فقال: اسمع جواب ما قلت: فقلت هات، فقال:
كَأَنَّكَ جُنْدُبٌ فِي ذَيْلِ كَبْشٍ تَدَلْدَلَ هَكَذَا وَالكَبْشُ يَمْشِـي
وأمَّا المرأة فإني كنت مجتازاً في بعض الطَّريق فإذا أنا بامرأتين، وكنت راكباً على حمارةٍ، (فَأَحْدَثَت) الحمارة. فقالت إحداهما للأخرى، وَيْ! حمارة الشَّيخ (تُحْدِث)!! فغاظني قولها فقلت لها: إنَّهُ ما حملتني أنثى قطُّ إلا (أَحْدَثَتْ). فضربت بيدها على كتف الأخرى وقالت: كانت أمُّه منه تسعة أشهرٍ في جهد جهيد؟!! ( ).
ولَعَلَّ قصَّتَهُ مع الجارية السِّنديَّة تدخل في هذا الباب، فقد أعيته بعجزها عن النُّطق السَّليم، فاضطرته إلى الاستسلام والانسحاب.
قال: أتيت منـزل صديقٍ لي فطرقت الباب فخرجت إليَّ جارية
سنديَّةٌ فقلت :
ـ قولي لسيِّدك: الجاحظ بالباب.
ـ فقالت: أقول الجاحد بالباب؟ على لغتها.
ـ فقلت: لا، قولي: الْحَدَقِيُّ بالباب.
ـ فقالت: أقول الْحَلَقِيُّ بالباب؟
ـ فقلت: لا تقولي شيئاً، ورجعت( ).
واحدة بواحدة
قال: سألني بعضهم كتاباً بالوصيَّة إلى بعض أصحابي، فكتبت لـه رقعةً وختمتها، فلَّما خَرَجَ الرَّجُل من عندي فضَّها فإذا فيها:
«كتابي إليك مع من لا أعرفه، ولا أوجب حقَّه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددت لم أذمَّك».
فرجع الرَّجل إليَّ فقلت له: كأنَّك فضضت الورقة؟
فقال: نعم.
فقلت: لا يضيرك ما فيها فإنَّهُ علامةٌ لي إذا أردت العناية بشخص.
فقال: قطع الله يديك ورجليك ولعنك.
فقلت: ما هذا؟
فقال: هذا علامة لي إذا أردت أن أشكر شخصاً( ).
في هـذه الطُّرفة يبدو تهكُّم الجاحظ المزدوج، فهو يتهكَّم بمن عَهَدَ إليه بالوساطة وهـو لا يعرفه، ويَتَهَكَّم بصاحبه الذي إن أقام للصحبة شأناً لم يُحْمَدْ على فعله، وإن أدار لها ظـهره لم يذم على ذلك، ولكن المستوسط كان أشدَّ تهكُّما، وردَّ الصَّاع بالمكيال ذاته مضـاعفاً. وعلى الرَّغْمِ من ذلك فقد تقبَّل الجاحظ جزاءه ولم يأنف من تفكيهنا به، وإمتاعنا بطرافته.
سلطان الذبَّان
حدَّثنا أبو عثمان ببلاغة ناصعة وفصاحة مؤتلقة وبيان مشرق عمَّا أصاب القاضي عبد الله بن سوار من الذُّبَّان، وذا هو يعرض علينا قصته هو مع الذبَّان( ) بما لا يقلُّ دقَّةً في الوصف ورونقاً في التَّصوير وإمتاعاً في التَّعبير عمَّا سبق فيقول:
فأمَّا الذي أصابني أنا من الذُّبَّان، فإنِّي خرجت أمشي في المبارك أريد دير الرَّبيع، ولم أقدر على دابَّةٍ، فمررت في عشبٍ أَشِبٍ( ) ونبات ملتفٍّ كثير الذبَّان، فَسَقَطَ ذبابٌ من تلك الذُّبَّان على أنفي فطردته، لم أقدر، فتحوَّل إلى عيني، فطردته فعاد إلى مؤق عيني، فزدت تحريك يدي، فتنحَّى عنِّي بقدر شدَّة حركتي وذبِّي عن عيني. ولذبَّان الكلأ والغياض والرِّياض وَقْعٌ ليس لغيرها، ثُمَّ عاد إليَّ فعدت عليه، ثُمَّ عاد إليَّ فعدتُ بأشدَّ من ذلك، فلمَّا عاد استعملت كمِّي، فَذَبَبْتُ به عن وجهي، ثُمَّ عاد وأنا في ذلك أحثُّ السَّير، أؤمل بسرعة انقطاعه عنِّي، فلمَّا عاد نـزعت طيلساني من عنقي، فذببتُ به عنِّي بَدَلَ كمِّي، فَلَمَّا عاد ولم أجد لـه حيلةً استعملت العَدْوَ، فَعَدَوْتُ منه شوطاً تامًّا لم أتكلَّف مثله مذ كنتُ صبيَّاً، فتلقاني الأندلسي: فقال لي: ما لَكَ يا أبا عثمان، هل من حادثة؟ قلت: نعم، أكبر الحوادث، أريدُ أنا أخرجَ من موضع ليس للذبَّان عليَّ فيه سلطانٌ. فضحك حتَّى جلس وانقطع عني، وما صدَّقت بانقطاعه عنِّي حتَّى تباعد جداً( ).
يبدو من هذا النصِّ المفعم بالتَّعريض التَّهَكُّمي أنَّ الجاحظ يمارس مهمة المعلم المربِّي الذي ينقل علمه ومعارفه إلى قارئه وسامعه بطريقة فنيَّةٍ ممتعةٍ، موشَّاةٍ بالطَّرافة، موشَّحةٍ بالظَّرافة، فهو بمعنى من المعاني يحكي لنا ما حدث لـه مع الذُّباب بوصف أنيقٍ ولفظٍ رشيقٍ وتصويرٍ دقيقٍ، ولكنَّه في الوقت ذاته يطلعنا على معارف محدَّدة، يريد نقلها لنا عن الذبَّان، من حيث شدَّة إلحاحه، وخاصَّة ذُبَّان الكلأ والغياض والرِّياض التي لها وقعٌ ليس لغيرها، وإن كان قد جعل من عبد الله بن سوار القاضي وسيلة لنقل مثل هذه المعلومات، فإنَّه لا يجد حرجاً في أن يكون هو ذاته هذه الوسيلة، حَتَّى وإن كانت تهكميَّة، مع اختلاف الغرضين هنا وهناك.
حقًّا إنَّ الجاحظ، على عبقريته وألمعيَّته، وسموِّ مكانته ورفعته، شخصٌ مفعمٌ بالطَّرافة، موشَّحٌ بالظَّرافة. متفرِّدٌ في روحه الدعابيَّة الفَكِهَةِ، متفرِّدٌ في ذلك ببراعته وأسلوبه وخصائصه وموضوعاته، «إنَّ حدَّة قوى ملاحظته، وريبيَّته ـ Scepticism وقلبه المستنير، وحسُّه السَّاخر الهازئ، قد قادته إلى تكييف فكره مع ميوله في تصوير النَّماذج الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، موظِّفاً كلَّ مهاراته ومعارفه في ثلب أخلاق عصره وعاداته وأحواله»( )، كلُّ ذلك بأسلوبٍ ممتعٍ رشيقٍ، ومنهجٍ علميٍّ دقيقٍ، ولفظ باهرٍ، وتعبيرٍ ساحرٍ، ممتزجاً بالنكتة حيناً، وبالسُّخرية حيناً، وبالتَّهَكُّم حيناً ثالثاً، يواجهك في الخطاب تارة، ويتوارى خلف شخصيَّات محدِّثيه تارةً أخرى، يناقشك بمشكلة ويترك لك الباب مفتوحاً لتدلي بدلوك إن شئت.
ولعلَّنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الجاحظ قد بلغ بفنِّه التَّهَكُّمي مبلغاً منقطع النَّظير في التَّاريخ، ولبراعته في ذلك فقد طاش ذكره وفنُّه على ملء عينه، وارتفعت مكانته وسمت بين معاصريه، فصار المقرَّب من ندماء الخلفاء والوزراء والأمراء على الرَّغْمِ من دمامة خلقته وقبيح هيئته، حَتَّى صار يتهكَّم بمن يتهكَّم ولا يجد من يجرؤ على التَّهَكُّم به. قال ياقوت الحموي: «قيل لأبي هفَّان لم لا تهجو الجاحظ وقد ندَّد بك وأخذ بمخنقك؟
فقال: أمثلي يخدع عن عقله، والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طنَّ بيتٌ في ألف سنة»( ).
وهذا حقُّ ولا غرابة فيه، فحديثه وتهكُّمه بالبخلاء حَتَّى في أحاديثه من دون الكتاب، خوَّف النَّاس من شرِّ لسانه فتحاشى من يعرفه ألا يظهر كريماً أمامه، وأظهر البخلاء بخلهم أمامه ليطير ذكرهم في البلاد وتبتعد النَّاس عنهم خشية اضطرار تكلُّف أقلِّ القليل، وما زلنا نتندر بطرائف قصصه ونوادره، وبدائع تهكُّمه حَتَّى الآن، وكيف لا يحلِّق قوله في أذهان النَّاس وأخيلتهم وهو الذي لم ينس نفسه من التَّهَكُّم، حَتَّى فيما لا يظنُّ فيه إمكان تهكُّم؛ في نسيان اسمه، وهل هناك من ينسى اسمه؟! قال: «نسيت كنيتي ثلاثة أيام فسألت أهلي: بم أكنَّى، فقيل لي: أبو عثمان»( ).
ولو أردنا تتبع العوامل المؤثِّرة في ميل الجاحظ التَّهَكُّمي لوجدنا إضافةً إلى ما سبق عاملاً لا يمكن نعته بالوراثي، وهذا مما جنح إليه بعض الباحثين، ألا وهو شخصيَّة أمِّه ونـزوعها التَّهَكُّمي، ويؤكِّد ذلك قصَّته الشَّهيرة معها إبان مرحلة الطُّفولة، وقد كان مغرماً بطلب العلم والمعرفة، الأمر الذي أثار أمَّه ودفعها إلى التَّهَكُّم به إذ «يُروى أنَّ أمَّه ضاقت بانهماكه في الدَّرس والقراءة، فطلب منها يوماً طعاماً، فجاءته بطبق مليءٍ بكراريس أودعها البيت، وقالت له: ليس عندي من طعام سوى هذه الكراريس. تريد أن تنبهه إلى التكسُّب. ولكن الجاحظ على صغر سنِّه أبى أن يترك الأمر يمرَّ هكذا من دون ردٍّ، وكان الردُّ تهكميًّا أيضاً. فقد ذَهَبَ إلى الجامع مغتمًّا، ولقيه مويس بن عمران أحد رفاقه الأثرياء في الدَّرس. فسأله: ما شأنك؟ فحدَّثه بحديث أمِّه. فأخذه إلى منـزله وأعطاه خمسين ديناراً، فأخذها فرحاً، ودخل السُّوق، واشترى الدَّقيق وحمله الحمَّالون إلى داره، وسألته أمُّه: من أين لك هذا؟ فقال لها: من الكراريس التي قدَّمتها إليَّ»( ).



LLL







الفصل التاسع


النقدية الأخلاقية


 الموضوعيَّة
 الواقعيَّة
 المنطقيَّة
 العقلانيَّة
 العفويَّة
 مراعاة العرف
 مراعاة الخصوصيَّة


لو كان الأمر على ما يشتهيه الغِرِّير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النَّظر وما يشحذ عليه وما يدعو إليه ولتعطَّلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها( ).
الجاحظ

بعد استعراض الفلسفة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة من جوانب مختلفة وزوايا متباينة مع محاولة تغطية أبرز جوانب هذه الفلسفة وأكثرها أهميَّة رُبَّما يستحسن أن نجعل هذا الفصل الختامي خلاصةً للفلسفة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة في تركيبةٍ جديدةٍ لا تعدو كونها إعادة تركيب لهذه الفلسفة في خلاصة تكثيفيَّة سنسمِّيها النقديَّة الأخلاقيَّة.
لن نزعم أنَّ الجاحظ هو الأسبق إلى الفلسفة النَّقديَّة على ما لـه من قيمة في فلسفته النقديَّة لأنَّ ذلك لا يقلِّل في قليلٍ أَو كثير من قيمة الجاحظ ومكانته، ورُبَّما لن يزيد فيها قليلاً أَو كثيراً. ولذلك لن نقف عند الفلسفة النقديَّة التي اشتُهر بها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، ولن نقيم أيَّ مقارنة بينهما لأنَّ الفرق بينهما أصلاً كبير وإن تقاطعتا في العديد من النِّقاط، وخاصَّة فيما يتصل بأصل القيمة الأخلاقيَّة ومصدرها.
ما يعنينا هنا هو الأسس المنهجيَّة للنقديَّة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة، أو بمعنى آخر عناصر المنهج النقدي الأخلاقي عند الجاحظ. هذه العناصر التي كانت أساس نظريَّته من جهة، وأساس ممارسته النَّقديَّة الأخلاقيَّة، حَتَّى الممارسة الوصفيَّة الأخلاقيَّة.
يقودنا فكر الجاحـظ إلى استنتاج مجموعة من العناصر التي تشكِّلُ البنية الأسـاسيَّة لمنهجه النَّقديِّ وهذه العناصـر هي: الموضوعيَّة، والواقعيَّة، والمنطقيَّة، والعقلانية، والعفويَّة، ومراعاة العرف، ومراعاة الخصوصيَّة. ولكن من الضَّـروري الإشارة هنا، قبل أن نعرض لهذه العناصر، أنَّها تمثِّل رؤية محتملة من الرُّؤى التي يمكن أن تكون كثيرة، ولكِنَّها وإن كانت كثيرةً فإنَّها ستدور في فلك هذه العناصر؛ تزيد قليلاً أَو تنقص قليلاً، أو رُبَّما تتغيُّر بعض تسمياتها وعناوينها، ولكن يفترض بالرُّؤية المنطقيَّة والمنهجيَّة أن لا نكون أمام اختلافاتٍ جذريَّة أو كبيرةٍ في هذا الإطار.
هذه العناصر المنهجيَّة الجاحـظيَّة فيما يبدو ليست مقتصرة على الممارسـة النَّقديَّة والتَّنظيريَّة والتَّوصيفيَّة عند الجاحظ وحسب بل إنَّها دعوة منه إلى أيِّ ممارسة نظريَّة ونقديَّة لأنَّها في حقيقة الأمر تمثل المطلب الذي يتنادى الجميع له، وتمثل في الوقت ذاته الادعاء العريض الذي يتحرَّك الجميع تحت ظلاله، لأنَّها عناصر لا يجرؤ أحدٌ على إشهار أنَّهُ يتحرك خارجها
أَو بعيداً عنها أَو في ميدان مخالفٍ لها حَتَّى وإن كان يمارس ذلك في حقيقة سلوكه.
ومما لا بدُّ من الإشارة إليه هنا هو أنَّ هذه العناصر هي اشتقاقيَّة من مجمل فكره وفلسفته ولم يقدمها الجاحظ كما سنوردها لا في التَّرتيب ولا في العدد. والتَّرتيب الذي اعتمدناه اعتمدناه على أساس من المنطقيَّة أَو الأولويَّة المنهجيَّة التي لا يوجد ما يمنع من إعادة ترتيبها بأولويَّات أخرى. أما هذه العناصر فهي:
الموضوعيَّة
الموضوعيَّة في الاصطلاح الفلسفي كما حددها جميل صليبا في معجمه الفلسفي هي «وصفٌ لما هو موضوعيٌّ، وهي بوجهٍ خاصٍّ مسلك الذِّهن الذي يرى الأشياء على ما هي عليه، فلا يشوِّهها بنظرةٍ ضيِّقةٍ، أَو بتحيُّزٍ خاصٍّ»( ). ويرى الدكتور صلاح قنصوه أنَّ للموضوعيَّة أكثر من دلالة ويحدِّثنا عن دلالتين؛ أخلاقيَّة وإيبستمولوجيَّة. «أمَّا دلالتها الخلقيَّة فتعني النَّزاهة في القصد، والبعد عن الهوى، والتَّجرُّد من العواطف الذَّاتيَّة... وفي الدلالة الإيبستمولوجيَّة هي التعبير عن الواقع تعبيراً حقيقيًّا»( ).
لقد بدت لنا موضوعيَّة الجاحظ كما لاحظنا في الممارسة النقديَّة خاصَّة، وفي تحليل ضروب السلوك الأخلاقيَّ المختلفة للبخلاء وغيرهم من نماذج المجتمع، وإن كان يجنح كثيراً إلى الدعابة والرُّوح التَّهكميَّة في معظم ذلك فإنَّ ذلك لم يبتعد به عن الموضوعيَّة، فهو مثلاً في مناقشته أخلاق البخلاء وعرضها وتصويرها وردها عليهم... لم يبتعد عن الموضوعيَّة في تصوير هذه الوقائع ونقلها ومناقشتها، ولكنَّ براعته في التصوير وروحه التهكميَّة البارعة اللاذعة هي التي توحي بأنَّ الذاتيَّة أخذت مأخذها في الممارسة النقديَّة الجاحظيَّة، وهذا في حقيقة الأمر حكمٌ غير دقيق، بل يجافي الموضوعيَّة لأننا كما لاحظنا نقده أخلاق البخلاء وجدنا في الوقت ذاته يبدي إعجابه بذكائهم وفطنتهم وظرفهم وطرافتهم، ولم يقده ذلك إلى التَّبرُّم بهم أو النُّفور منهم أو السَّخَط عليهم، وهذا ما يبدو بالتلميح والتصريح في كثير من مواضع كتابه في البخلاء وكتبه ورسائله الأخرى، حَتَّى وجدنا من يتَّهمه بأنه من أعلام البخل في عصره من كثرة ما أبرز حجج البخلاء ودافع عن سلوكهم من وجهة نظرهم. وأغلب الظنِّ أن هذا الاتِّهام بالبخل ليس إلا وقوعاً في الوهم الذي أدت إليه موضوعيَّة الجاحظ في عرض حجج البخلاء وذرائعهم إلى جانب انتقاده لهم النَّقد التَّهكُّمي اللاذع، بل والمرِّ في أحيانٍ كثيرة.
إن موضوعيَّته في تعامله الوصفي والتحليلي والنَّقدي لم تتوقف عند تعامله مع البخلاء والمبذِّرين ونظرته إليهم فقط، بل لقد كانت هي دأبه وطبعه الذي ظلَّ محافظاً عليه دائماً، فعلى الرَّغْمِ مثلاً من موقفه النَّظري الصَّريح من الكذب بوصفه شائنةً أخلاقيَّة وتأكيده ذلك بقوله: «احذر الكذب فإنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ شرٍّ.
وقد قالوا: لم يكذب أحدٌ قَطُّ إلا لصغر قَدْرِ نفسه عنده»( ). فإنَّهُ نَقَلَ عن امرئٍ بكلِّ المصداقيَّة والأَمانة، وهو أَكثر من أَصرَّ على الأمانة في الخبر، وجَعَلَ الصِّدق أَحد أَهمَّ معايير البلاغة، فقال: «إنَّ النَّاس يظلمون الكذب بتناسي مناقبه وتذكُّرِ مثالبه، ويحابون الصِّدق بتذكُّرِ منافعه وبتناسي مضارِّه، وإنَّهُم لو وازنوا بَيْنَ مرافقهما وعدَّلوا بَيْنَ خصالهما، لما فرَّقوا هذا التَّفريق ولما رأوهما بهذه العيون»( ).


لا شكَّ في أَنَّ لكلِّ مفكِّرٍ معاييره الخاصَّة، بل لا نغامر إذا قلنا إنَّ لكلِّ مفكرٍ نظرته الخاصَّة لمفهوم الموضوعيَّة وآليَّة التعامل معها، على الرَّغْمِ من الاتفاق العام على معناها في إطارها العام، ولكنَّنا أيضاً لا نغامر إذا قلنا بأنَّ الجاحظ ومعاييره قد وصلا إلى أقرب ما يكون من الموضوعيَّة بمعناها العام الذي يحظى بما يشبه الإجماع على دلالته.
الواقعيَّة
الواقعيَّة هي الخطوة الثَّانية من خطوات المنهج النَّقدي الجاحظي. والواقعيَّة في الاصطلاح الفلسفيِّ هي كما قال جميل صليبا: صفة الواقعي، ومن ذلك نقول واقعيَّة التفكير، أي مطابقته للواقع( ). وللواقعيَّة دلالات اصطلاحيَّة أخرى لا تفترق في إطارها العام عن مفهوم الواقعيَّة السابق هذا( ).
ولكنَّ الواقعيَّة بهذا المعنى لا تبتعد كثيراً عن الموضوعيَّة. بل يكاد يكون ثَمَّةَ تطابق بينهما على هذا الأساس. ولذلك من الضروري تبيان الفرق الأساسي بينهما والمتمثِّل بأنَّ الموضوعيَّة مرتبطة بالذات المتعاملة مع الموضوع الذي هو الواقع بمعنى من المعاني. أمَّا الواقعيَّة فهي مرتبطة بالموضوع أَو بالواقع ذاته.
الموضوعيَّة التي تتعامل مع الموضوع من دون تأثيرات الذات المختلفة تقابل الذاتيَّة التي تخضع لتأثير الذات المختلفة في التعامل مع الموضوع. أمَّا الواقعيَّة التي تعتمد على الواقع أَو الوقائع ذاتها في التحليل والبحث والدراسة فتقابل اللاواقعيَّة، ورُبَّما يصعب القول إنَّها تقابل النظريَّة أَو التخيليَّة أَو المثاليَّة لأنَّهُ لا مجال للمقابلة بَيْنَ أحدها والمثاليَّة تقابلاً تضادِّيًّا أَو عكسيًّا.
الواقعيَّة إذن هي التَّعامل مع الواقع ذاته والوقائع ذاتها بالمعاينة المباشرة أَو حَتَّى الاستقرائيَّة. وإذا نظرنا إلى فلسفة الجاحظ الأخلاقيَّة، وحَتَّى فلسفته بوجهٍ عامٍّ، وجدنا أنَّ الواقعيَّة ركنٌ أساسيٌّ من أركان فلسفته. وقد بدا ذلك جليًّا بَيْنَ صفحات كتبه معظـمها. ومن ذلك على سبيل المثال أنَّهُ عندما تحدث عن العداوات بَيْنَ النَّاس لم يقف عند تأمُّله النَّظري وفكره المسبق وتجربته الشَّخصيَّة الخاصة في الحكم عليها بل بحث في أسبابها الواقعيَّة من دون أيِّ محاولة للقفز فوق جدران الواقع لافتراض أسباب تخيليَّة أو ميتافيزيائيَّة فقال:
«وأسباب عداوات النَّاس ضروبٌ: منها المشاكلة في الصِّناعة، ومنها التَّقارب في الجوار، ومنها التَّقارب في النَّسب، والكثرة من أسباب التَّقاطع في العشيرة والقبيلة... والسَّاكن عدوُّ للمُسكن، والفقير عدوٌّ للغنيِّ، وكذلك الماشي والرَّاكب، وبغضاء السُّوقة موصولةٌ بالملوك، ولجميع هذا تفسير ولكنَّهُ يطول»( ).
إنَّ هذا العرض الذي يبدو قريباً من التحليل النَّظري هو في حقيقة الأمر تنقيب في الوقائع وسبرٌ لها، وحَتَّى يؤكِّد هذه الواقعيَّة في الجانب الأخلاقي كان كثيراً ما يصرُّ على ضرورة معاينة الواقعة أَو الحدث ليكون الحكم عليها دقيقاً، ووجدنا في التعريف بالجاحظ كيف أنَّهُ جعل من معاينة الواقعة أو الحدث واحدة من أركان عمله العلمي، ويبدو لنا مثل ذلك فيما وصفه من سلوك أبي جعفر إذ قال: «لم أرَ مثل أبي جعفر … فإنَّهُ زار قوما فأكرموه وطيَّبوه، وجعلوا في سبلته غالية( ). فحكَّته شفته العليا، فأدخل إصبعه فحكَّها من باطن الشفة، مخافة أن تأخذ إصبعه من الغالية شيئاً إذا حكَّها من فوق»( ).
لقد ركَّز الجاحظ على ضرورة المعاينة عندما بدأ الحكاية بقوله: لم أرَ مثل أبي جعفر …ولم يكتف بهذا التَّأكيد بل ختم به عندما أكَّد أيضاً أنَّه مهما كان الكلام بليغاً دقيقاً فإنَّه قاصرٌ عن تصوير الحقيقة كما هي ولذلك عقَّب بقوله: «وهذا وشبهه إنَّما يطيب جدًّا إذا رأيت الحكاية بعينك. لأنَّ الكتاب لا يصوِّر لك كلَّ شيءٍ، ولا يأتي على كنهه، وعلى حدوده حقائقه»( ). وفي هذه الخطوة أسبقيَّة تاريخيَّة مهمة في المنهج العلمي ينبغي أن تسجَّل للجاحظ.
المنطقيَّة
الخطوة الثالثة من خطوات المنهج النقدي الجاحظي هي ما سندرجه تحت عنوان المنطقيَّة. ونعني بها الاتكاء على قواعد الفكر السليم في تحليل الظواهر والتَّعامل معها. وهذه الخطوة مكملة للخطوات السَّابقة ولكِنَّها مختلفة عنها من حيث التَّركيز على المتعامل مع الواقع أَو الحدث الأخلاقيِّ. فإنْ كان قد ركَّز على المتعامل مع الواقعة الأخلاقيَّة من حيث الذَّاتيَّة والموضوعيَّة في العنصر الأول من عناصر منهجه فإنَّهُ هنا يركز على المتعامل مع الحدث أَو الواقعة الأخلاقيَّة من حيث سلامة العقل والتَّفكير، ليكشف عن مسألة جدِّ خطيرة ومهمة في ميدان الفكر والنظر وهي أنَّ من ينظِّر ويحلل يجب أن يكون سليم العقل والحواس كيما يكون تحليله خالياً من المؤثِّرات التي تحيد به عن الموضوعيَّة في التحليل، وسليم العقل كيما يكون التَّفكير منطقيًّا متوافقاً مع قواعد التفكير السَّليم. ولذلك عندما احتجَّ عليه بعضهم أَو افترض اعتراض بعضهم على أحد أحكامه احتكم وإياهم إلى عرض الموضوع على أيِّ واحد سليم العقل والتَّفكير، دالاًّ في ذلك على منطقيَّته واستناده في حكمه إلى ما ينبغي أن يتوافق الجميع عليه لأنَّهُ يتحرك في إطار بداهات العقل، وفي ذلك يقول: «اعرضوا على امرئٍ صحيح الجسم والعقل أن يجلس منعَّماً ويكفى كلَّ ما يحتاج إليه بلا سعي واستحقاق فانظروا هل تقبل نفسه ذلك؟ بل ستجدونه بالقليل عمَّا يناله بالسَّعي والحركة أشدَّ سروراً واغتباطاً منه بالكثير مما يناله بلا استحقاق، وكذلك نعيم الآخرة إنَّما يكون لأهله بأن ينالوه بالسَّعي والاستحقاق»( ).
وسلامة العقل لا تقتصر على الجنون أَو الحمق وحسب بل إنَّهُ قابل للتعميم على الجاهل الذي لا يعرف من الأمر شيئاً أَو لا يعرف ما يؤهِّله للحكم، ولذلك يقول: «لو كان الأمر على ما يشتهيه الغِرِّير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النَّظر وما يشحذ عليه وما يدعو إليه ولتعطَّلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها»( ). ورُبَّما لذلك يوجه كلامه في مكان آخر للذين يتطلعون إلى زوال الشرِّ من الدنيا، من حياة البشر، لتقتصر الحياة على السعة والهناء و الفرح والسرور فيقول: «ليس يجوز أن تصفو الدُّنيا وتنفى من الفساد والمكروه حَتَّى يموت جميع الخلائق وتستوي لأهلها، وتتمهَّد لسكَّانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأنَّ ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل»( ).
إنَّ الجاحظ بهذه المناقشة يضعنا أمام مسألة على غاية من الأهميَّة وهي أنَّهُ لا يجوز الاحتكام في القضايا الفكريَّة والمصيريَّة إلى ذوي العاهات الجسميَّة والعقليَّة والنَّفسيَّة لأنِّ أحكامهم ستكون عاريةً من الموضوعيَّة، منبجسةً مما يعانونه من عقد نقصٍ مختلفةٍ. أَو قصور عن التفكير السليم.
العقلانية
العقلانيَّة في الاصطلاح الفلسفي هي عامَّة «القول بأوليَّة العقل»( )، وتستخدم العقلانية عند الفلاسفة والمفكرين بمعانٍ متعدِّدة منبثقة عن هذا الأصل الاصطلاحي العام، حصرها جميل صليبا بخمسة معانٍ يعنينا منها هنا الأول والثالث والرابع لأنَّها هي التي نقصدها هنا في العقلانيَّة بوصفها الخطوة الرابعة من خطوات المنهج النقدي الجاحظي. وهذه المعاني هي( ):
الأول: هو القول إنَّ كلَّ موجودٍ لـه علَّةٌ في وجوده بحيث لا يحدث في العالم شيءٌ إلا وله مرجع معقول.
الثاني: هو القول إنَّ وجود العقل شرط في إمكان التجربة، فلا تكون التجربة ممكنة إلا إذا كانت هنالك مبادئ عقليَّة تنظم المعطيات الحسيَّة. وهذا المعنى أقرب إلى الخطوة السابقة من خطوات المنهج الجاحظي التي سميناها المنطقيَّة.
الثالث: هو الإيمان بالعقل وبقدرته على إدراك الحقيقة.
تقترب هذه المعاني الثلاثة من بعضها اقتراباً شديداً يكاد لا يبدو معه الفرق فيما بينها، والحقيقة أنَّ الفرق بَيْنَ هذه المعاني الثلاثة يبدو أكثر في التفاصيل لا في العموميَّات. وبهذا الاقتراب بَيْنَ المعاني الثلاثة كانت العقلانية التي أرادها الجاحظ خطوة من خطوات منهجه النَّقدي. وقد بدا استناده إلى هذه الخطوة في معظم حديثه ومناقشاته. ومن ذلك مثلاً ما وصل مفكِّرنا من خلال تجربته الحياتيَّة ومعارفه إلى نتيجةٍ تؤكِّدُ ما أجمعت النَّاس في عصره «على أنَّهُ ليس في الأرض أمَّةٌ السَّخاءُ فيها أعمُّ وعليها أغلب من الزِّنج. وهاتان الخلَّتان لم توجدا قطُّ إلا في كريمٍ. والزِّنجي من حسن الخلق وقلَّة الأذى لا تراه أبداً إلا طيِّب النَّفس، ضحوك السِّنِّ، حسن الظَّنِّ. وهذا هو الشَّرف»( ).
هذا الحكم كان في عصره في حكم المعرفة العامَّة أَو الشائعة بالاتفاق على صحتها، وأكَّد ذلك الجاحظ بالتَّجربة والمعايشة. ولكنَّه مع ذلك وجد من يعترض على هذا الحكم بقوله: «إنَّ الزنج صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ولقصر نظرهم»( ).
هنا كان أثر العقلانيَّة في تفهم الاعتراض ومناقشته لقبوله أو رفضه على ضوء ما تؤدي إليه المناقشة. وبالمناقشة تبيَّن لـه أنَّ هذا الاعتراض زائف مليء بالتَّناقض، لأنَّ القبول به على أساس الحجج التي أثارها المعترضون يعني القبول بما يؤدي إليه القياس، وما يؤدي إليه القياس كله غلط وخطر كبير. ولننظر كيف ناقش هذا الاعتراض:
«فقلنا لهم: بئس ما أثنيتم على السَّخاء والأَثَرَةِ، وينبغي في هذا القياس أن يكون أوفر النَّاس عقلاً وأكثر النَّاس علما أبخل النَّاس بخلاً وأقلَّهم خيراً وقد رأينا الصَّقالبة أبخل من الرُّوم، والرُّوم أبعد رويَّة وأشدُّ عقولاً، وعلى قياس قولكم أنْ قد كان ينبغي أن تكون الصَّقالبة أسخى أنْفُساً وأسمح أكفَّا منهم. وقد رأينا النِّساء أضعف من الرِّجال عقولاً، والصِّبيان أضعف عقولاً منهم، وهم أبخل من النِّساء، والنِّساء أضعف عقولا من الرِّجال. ولو كان العقل كلَّما كان أشدَّ كان صاحبه أبخل، كان ينبغي أن يكون الصَّبي أكرم النَّاس خصالاً. ولا نعلم في الأرض شرًّا من صبي: هو أكذب النَّاس وأنمُّ النَّاس، وأشره النَّاس وأبخل النَّاس، وأقلُّ النَّاس خيراً وأقسى النَّاس قسوةً، وإنَّما يخرج الصَّبي من هذه الخلال أولاً فأولاً. على قَدْرِ ما يزداد من العقل فيزداد من الأفعال الجميلة. فكيف صارت قِلَّةُ العقل هي سبب سخاء الزِّنج، وقد أقررتم لهم بالسَّخاء ثُمَّ ادَّعيتم ما لا يعرف. وقد وقَّفناكم على إدحاض حجتكم في ذلك بالقياس الصَّحيح. وهذا القول يوجب أن يكون الجبان أعقل من الشُّجاع، والغادر أعقل من الوفي، وينبغي أن يكون الجزوع أعقل من الصَّبور. فهذا ما لا حجَّة فيه لكم، بل ذلك هبة في النَّاس من الله. والعقل هبة، وحسن الخلق هبة، والسخاء والشجاعة كذلك»( ).
وكما نَقَضَ ادِّعاء من ذَهَبَ إلى أنَّ خُلُق السَّخاء والكرم ناجمٌ عن تدنِّي السَّويَّة العقليَّة فقد رَفَضَ أيضاً أن يكون للأخلاق السَّيِّئة انعكاسات بيولوجيَّة أو فيزيولوجيَّة معيَّنة كأن يؤدِّي الكذب مثلاً إلى الخرس أو أن تسبب الخيانة العمى بالفعل المباشر لا بما ينجم عنه، وفي مثل ذلك يقول: «قال رباح بن سبيب الجوهري: دعاني يوماً جعفر بن يحيى وهو كئيب حزين خاشع الطرف شديد الانكسار، فرفع لي عن بطنه، فإذا على بطنه مقدار الدِّرهم برص، فقال: يا أبا علي: هذا ثمن العقوق»( ). ولكن هذا التفسير لا يتفق مع العقلانيَّة ولا الواقعيَّة، ولذلك عقَّب عليه قائلاً: «وأطباء الهند تزعم أنَّ العقوق يورث البَرَصَ، وهذه القصِّة مجانبةٌ لسبيل الطِّب»( ). ومعروف عنه أنَّهُ يضيف الزَّعم إلى أيِّ حكمٍ غير مقنعٍ أَو مفتقر إلى البرهان والدَّليل.
في إطار هذه العقلانيَّة يحاول الجاحظ إقامة الفعل الأخلاقي على قواعد منطقيَّة يسيرة تبدأ من المقدمات وتنتهي بالنتائج، مستنداً في ذلك إلى الحديث النبوي الذي هو في حكم البداهة، والذي يقول: «الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ»، ويربط ذلك بقوله: «استبانة الشَّر ناهية عنه كما أن استبانة الخير آمرة به»( ). لينتهي إلى توجيه نصيحته في ضبط السلوك على قواعد العقلانية فيقول: «اجعل محاسبة نفسك صناعة تعتقدها، وتفقُّد حالاتك عقدةً ترجع إليها، حَتَّى تخرج أفعالك مقسومةً محصَّلةً، وألفاظك موزونةً معدَّلةً، ومعانيك مصفَّاةً مهذَّبَةً، ومخارج أمورك مقبولةً محبَّبةً، فمتى كنت كذلك، كانت رِقَّتك على الجاهل الغبي، بقدر غلظتك على المعاند الذَّكي، وتحبُّ الجماعة بقدر بغضك للفرقة، وترغب في الاستخارة والاستشارة بقدر زهدك في الاستبداد واللجاجة، وتبدأ من العلم بما لا يسع جهله، مثل التَّطوع بما يسع جهله»( ).
العفويَّة
وحَتَّى تكون أحكامنا الأخلاقيَّة صائبة، وتحليلاتنا صحيحة، ونقدنا سليماً يضعنا الجاحظ أمام عنصر آخر من عناصر منهجه النقديِّ وهو ضرورة الانتباه إلى أنَّ السلوك الأخلاقي المعني دائماً بالحكم هو ما صدر عن المرء صدوراً تلقائيًّا عفويًّا من غيرما تكلف، لأنَّ التكلف في الفعل أَو السلوك الأخلاقي يعني انعدام مصداقيَّته، ولذلك يقول: «متى أعدَّت النفس عذراً، كانت إلى القبيح أسرع»( ).
والجاحظ يرى أنَّ هذه العفويَّة طبع، والطبع لا يقبل التغيير بَيْنَ الساعة والأخرى، لأنَّ التقلب في السلوك الأخلاقي يعني إما التكلف والتصنع وإما عدم استقرار الخلق في الطبع، ولذلك وقف مندهشاً أمام من يكون على طبع كيف يتحول إلى غيره، كأن يكون كريماً مثلاً ويموت بخيلاً أَو أَن يكون حليماً ويموت غضوباً... فيقول: «وليس العجب من رجل في طباعه سببٌ يصل بينه وبين بعض الأمور يحرِّكه في بعض الجهات، ولكن العجب ممن مات على أن يذكر بالجود، وأن يسخى، وهو أبخل الخلق طبعاً، فتراه كلفاً باتخاذ الطيبات ومستهتراً بالتكثير منها، ثم هو أبداً مفتضحٌ وأبداً منتقص الطباع، ظاهر الخطأ، سيِّئ الجزع عند مؤاكلة من كان هو الداعي له، والمرسل إليه، والعارف مدار لقمه ونهاية أكله»( ). ولذلك عندما توجَّه بالنصح قائلاً: «اجعل محاسبة نفسك صناعة تعتقدها، وتفقُّد حالاتك عقدة ترجع إليها....»( ). فهو يريد في حقيقة الأمر ترسيخ الخلق في النَّفس لجعله جزءاً من السَّجيَّة والعفويَّة بعيداً عن التَّكلف والتَّصنع.
واستناداً إلى هذه الخصيصة من خصائص السلوك الأخلاقي التي يريدنا الجاحظ مراعاتها والانتباه لدى الحكم على فعل أَو سلوك وتحليله ونقده يصل إلى قاعدة أخلاقيَّة وهي أنَّ الطَّبع يغلب التَّطبُّع، وإذا كانوا قد قالوا: «لا يستطيع الكريم إلا أنَّ يكون كريماً»، فكذلك يمكن القول مع الجاحظ: «لا يستطيع الخلوق إلا أنَّ يكون خلوقاً». ويستشهد مفكِّرنا لتأكيد هذه الحقيقة بما كان يسلكه المسيح عليه السلام، إذ قال: «ولقد مرَّ المسيح عليه السَّلام بخلقٍ من بني إسرائيل فشتموه؛ كلَّما قالوا شرًّا قال المسيح خيراً، فقال لـه شمعون الصفي : أكلَّما قالوا شرَّاً قلت خيراً؟ قال المسيح: كلُّ امرئ يعطي ما عنده»( ).
مراعاة العرف
القاعدة السَّابعة من قواعد منهجه النَّقدي الأخلاقي، أَو العنصر السابع، هي ضرورة مراعاة الأعراف، فالأعراف جزء من القوانين، أَو لها قوَّة القوانين. حَتَّى ولو كان هذا العرف أَو ذاك غريباً أَو عجيباً أَو مرفوضاً عند قومٍ آخرين.
صحيحٌ أنَّ القاعدة الشَّرعية تقول: «الحرام حرام ولو فعله كل الأنام» إلا أنَّ الجاحظ يقول: «كلُّ خلقٍ فارق أخلاق النَّاس فإنه مذموم»( ). وهو في ذلك يقرر وجود الأَعراف والتَّقاليد ويقرُّ بفاعليَّتها وقدرتها على فرض ذاتها على أَفراد المجتمع حتَّى وإن كانت خاطئة، ومن هذا الباب فإنَّ تفشي خلقٍ سيئٍ ما في مجتمع ما، سيجعل من الغضاضة عند أفراد هذا المجتمع أن يخالفهم أحدٌ، وسينظرون إليه بعين الازدراء والاستغراب ويَعدُّونه شاذًّا. ومثل هذا ما نجده اليوم وكلَّ يوم في مجتمعنا المعاصر وفي كثيرٍ من المجتمعات التي انتشرت فيها عادات سيئة أو خاطئة.
مراعاة الخصوصيَّة
القاعدة المنهجيَّة الأخيرة في النقديَّة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة هي ضرورة مراعاة الخصوصيَّة في السلوك المحكوم عليه، وفي صاحب السلوك أَو الفعل الأخلاقي. لأنَّهُ ليس من الجائز، أَو ليس من العدل أن يُعامَلَ النَّاسُ كلُّ الناس بمعيار واحدٍ بعيداً عن المرونة ومراعاة الخصوصيَّة في الفعل والفاعل؛ أحدهما أَو كليهما.
رُبَّما يبدو ذلك غريباً أَو مرفوضاً من بعضهم، ولكنَّهُ في حقيقة الأمر مطلب مهمٌّ وضروريٌّ، وفيه التفاتةٌ بارعة. فالسلوك الكريم إذا تساوت صورته بَيْنَ شخصين أَو أكثر لا يعني تساوي قيمة الكرم في الفعلين من الشَّخصين على الإطلاق فقد يعلو أحدهما الآخر ويقدَّر أكثر منه. ولذلك ينبهنا إلى بعض الحالات الخاصَّة التي تصيب بعض الأشخاص باضطرابات أَو تغيرات ينبغي أخذها بعين النظر لدى الحكم على سلوكهم وفعالهم وأخلاقهم، ومن ذلك على سبيل المثال ما يعرض للخصي من تغيرات، يصفها بقوله:
«ويعرض للخصي العبثُ واللعبُ بالطير، وما أشبه ذلك من أخلاق النِّساء، وهو من أخلاق الصِّبيان أيضاً، ويعرض لـه الشَّره عند الطعام، والبخل عليه، والشُّح العامُّ في كلِّ شيءٍ. وذلك من أخلاق الصِّبيان ثُمَّ النِّساء. ويعرض للخصي سرعة الغضب والرِّضا، وذلك من أخلاق الصِّبيان والنِّساء، ويعرض لـه حبُّ النَّميمة، وضيق الصَّدر بما أودع من السِّرِّ وذلك من أخلاق الصِّبيان والنِّساء، ويعرض لـه دون أخيه لأمِّه وأبيه، ودون ابن عمه وجميع رهطه البصر بالرَّفع والوضع، والكنس والرَّش، والطَّرح والبسط، والصَّبر على الخدمة، وذلك يعرض للنساء»( ).
خاتمة
هذه القواعد المنهجيَّة السَّبع للنقديَّة الأخلاقيَّة الجاحظيَّة، منها ما يصلح قاعدة منهجيَّة فكريَّة عامَّة في الأخلاق وغيرها مثل الموضوعيَّة والمنطقيَّة والعقلانيَّة...، ومنها لا يصحُّ إلا في التعامل مع الأخلاق مثل مراعاة الخصوصيَّة والأعراف والعفويَّة، وإن كان من الممكن نقل هذه الفئة إلى ميادين أخرى بعد تجريدها من الخصوصيَّة ونقلها إلى إطار عام.
إنَّ ما يعنينا من هذه القواعد المنهجيَّة هو بضع نقاط نختم بها بحثنا. أول هذه النِّقاط هو مدى كفاية هذه القواعد أَو العناصر لتكون منهجاً نقديًّا، وثانيها مدى اتساقها وتكاملها مع بعضها بعضاً، وثالثها مدى استفادة الجاحظ ذاته منها في فلسفته الأخلاقيَّة.
لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنَّ الجاحظ قد اعتمد فعلاً على هذه القواعد في فلسفته الأخلاقيَّة؛ تنظيراً وتحليلاً ونقداً، ولا غرابة في ذلك فهذه القواعد مشتقَّة أصلاً من صلب نظريته وممارسته النقديَّة، وقد قدَّم هذه القواعد أَو العناصر المنهجيَّة في سياق بحثه الأخلاقي بمختلف جوانبه وأبعاده.
أما الكفاية والاتساق والتَّكامل فهي أمور قد تكون مسألة خلافيَّة حَتَّى وإن أمكن إخضاعها لضوابط منهجيَّة وعلميَّة، ولكن حسنا أن نشير إلى أنَّها من النَّاحية النظريَّة المحض، وبالتَّجريد، موضع إجماع حَتَّى بَيْنَ الفرقاء المختلفين من حيث الأهميَّة والضَّرورة والحاجة. ويصدق ذلك إلى حدٍّ كبير من حيث الاتساق فيما بينها والكفاية والتَّكامل.






LLL
فهر س الأعلام


إبراهيم بن السندي: ..................109
إبراهيم بن محمود:.................. 149
أبرهة الأشرم: .........................89
أبرويز: ................................ 89
الأبشيهي: ...............................27
أبقراط: ................................. 89
أحمد الحوفي: ......................... 15
أحمد العوامري: ...................... 33
أحمد أمين: ............................. 16
أحمد بن حنبل الشيباني: ............. 19
أحمد بن رشيد: ...................... 107
أحمد بن عبد الوهاب: .............. 150
الأحنف: ............................... 88
الأخفش، أبو الحسن: ................. 19
أرذيانوس: ............................ 89
أرسطو: ..... 46 ـ 88 ـ 89 ـ 90
الإسكندر: ............................. 89
الأشعري، أبو الحسن: ............... 21
الأصمعي: .................... 19 ـ 50
أصيبعة، (ابن أبي أصيبعة):......... 46
أفلاطون: ..................... 46 ـ 89
إقليدس: ................................ 89
ألبيير باية: ........................... 123
إمام عبد الفتاح إمام (الدكتور): 84 ـ 93
إميل دوركهايم: (انظر دوركهايم)
الأمين (الخليفة): ..................... 59
أناتول فرانس: ...................... 152
الأندلسي: ............................ 162
الأنصاري، أبو زيد بن أوس: ...... 19
أوجست كونت: ...................... 94
باستيا: ................................ 137
البحتري (الشاعر): ................... 55
بدعة (المغنية): ........................ 53
بسَّام (ابن بسَّام): ...................... 29
بشر بن المعتمر الهلالي: ............. 19
البطريق، (ابن البطريق): ............ 46
بطليموس: .............................. 89
البلخي، أبو زيد البلخي: .............. 45
بيرس: ................................ 130
التوأم، (ابن التوأم): ................. 138
التوحيدي، أبو حيان: 29 ـ 30 ـ 44
توماس هوبز: ........................ 129
ثقيف: ................................. 105
ثمامة بن الأشرس: ................... 19
ثيفيل: ................................... 46
الجاحظ: ..................
جالينوس: .............................. 89
جعفر بن يحيى: ........... 112 ـ 175
جلجامش: ............................... 89
جميل جبر (الدكتور): ........ 24 ـ 34 ـ 147ـ 148 ـ 149 ـ 150 ـ 153 ـ 155 ـ 157 ـ 159 ـ 160 ـ 163
جميل صليبا: ................ 83 ـ 168 ـ 170 ـ 173
جوته: .................. 71 ـ 73 ـ 77
جورج جورفيتش: ........ 118 ـ 125
جون ديوي: .......................... 130
جون ستيوارت مل: ................. 129
جيرمي بنتام: ........................ 129
حارث بن كعب: ..................... 105
الحجَّاج بن محمد بن حماد بن سلمه:... 19
الحسن البصري: ...................... 86
حسن السندوبي (الدكتور): .... 15 ـ 16 ـ 30 ـ 31
حسن حسني عبد الوهاب: ........... 34
الحضين بن المنذر: ................. 139
الحطيئة: .............................. 156
حمدون (ابن حمدون): ............... 53
حنين بن إسحاق: ..................... 47
الخطيب البغدادي:..... 9 ـ 27 ـ 32
خلدون (ابن خلدون): ................ 53
خلف الأحمر: ......................... 19
خلكان (ابن خلكان):....... 16 ـ 18 ـ 28 ـ 158
الخليل بن أحمد الفراهيدي: ......... 24
دلامة (أبو دلامة): ................... 55
دوركهايم، إميل:.. 94 ـ 124 ـ 125
دي بور، ج:.......... 15 ـ 21 ـ 22
ديكارت، رينيه: ....................... 24
ديمقريطس: ............................ 89
زرادشت: .............................. 89
زنام الزَّامر: ........................... 53
زيدون (ابن زيدون): ................. 35
الزيَّات (انظر محمد بن عبد الملك).
سحبان (البليغ): ........................ 19
السري بن عبدويه: ................... 19
سلام بن يزيد: ....................... 152
سليمان دنيا: ........................... 22
سليمان الطبَّال: ........................ 53
شارل بللا: .................. 15 ـ 16 ـ 17 ـ 18 ـ 27 ـ 28 ـ 31 ـ 34 ـ 35 ـ 49 ـ 50 ـ 145 ـ 147 ـ 155 ـ 163
شارية (المغنية): ...................... 53
شفيق جبري: ................ 22 ـ 27 ـ 43 ـ 147 ـ 152
شمعون الصفي: ............ 81 ـ 177
الشهرستاني: .................. 21 ـ 22
شوقي ضيف (الدكتور): ..... 16 ـ 17 ـ 45 ـ 47 ـ 49 ـ 52 ـ 56 ـ 58 ـ 164
الشيباني، أبو عمر: ................... 19
شيلر: ................................. 130
صالح الدَّفَّاف: ........................ 53
صلاح قنصوه (الدكتور): .......... 168
ضرار بن عمر: ...................... 19
طاهر الجزائري: ..................... 35
طه الحاجري: ................ 16 ـ 33 ـ 35 ـ 37 ـ 38
عادل العوا (الدكتور): ....... 25 ـ 71 ـ 82 ـ 85 ـ 94 ـ 123 ـ 125 ـ 132 ـ 137 ـ 145 ـ 149ـ 154 ـ 156
العاص (ابن العاص): .............. 138
عامر بن صعصعة: ................. 105
عامر بن عبد قيس: ................... 19
عبد الأَمير مهنَّا: .............. 34 ـ 35 ـ 36 ـ 37 ـ 38
عبد السَّلام هارون: ........... 31 ـ 33 ـ 34 ـ 35 ـ 36 ـ 37 ـ 38
عبد الله بن الزبير: .................... 99
عبد الله بن سوار (القاضي): ....... 162
عبد الله بن مسعود: ....................86
عبد المنعم خفاجي: .....................23
عثعث: .................................. 53
عَريب (المغنية): ...................... 53
عزت السيد أحمد:.. 12 ـ 69 ـ 145
العسقلاني، ابن حجر: ................ 15
العلاَّف، أبو الهذيل: .................. 19
علي ابن الجهم: ....................... 53
علي أبو ملحم: ............ 31 ـ 33 ـ 34 ـ 35 ـ 36 ـ 37 ـ 38
علي الجارم: .......................... 33
علي بن سليمان: ...................... 55
علي بن محمد المدائني: ............. 19
عمر أبو النَّصر: ........... 33 ـ 34 ـ 35 ـ 36 ـ 37 ـ 38 ـ 88
عمر فروخ: ............................ 16
عمرو بن بانة: ........................ 53
العيناء (أبو العيناء): ................ 148
الغزالي، أبو حامد: ........ 22 ـ 24 ـ 68 ـ 69 ـ 89
فرنسيس بيكون: ..................... 129
فهريز (ابن فهريز): .................. 46
فوزي عطوي: .............. 9 ـ 33 ـ 34 ـ 35 ـ 36 ـ 37
فولكييه: ................................ 69
فيخته: ................................ 137
القاضي عبد الجبار: ................. 18
قبيحة أم المعتز (زوجة المتوكل):.. 53
قتيبة (ابن قتيبة): .................... 55
قرَّة (ابن قرَّة): ....................... 46
القفطي: ....................... 15 ـ 46
كارل بروكلمان:....... 9 ـ 16 ـ 31
كانت، إيمانويل: .................... 167
كراوس:............... 35 ـ 37 ـ 38
كريمة (ابن أبي كريمة):........... 108
الكعبي: ........................ 22 ـ 23
كليب وائل: ............................ 30
الكندي، أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق: 19 ـ 23 ـ 45
لابرويير: ............................. 155
ليفي بريل، لوسيان: 68 ـ 124 ـ 125
المازني: ................................ 50
مالك بن أسماء: ....................... 32
المأمون (الخليفة): ... 42 ـ 43 ـ 59
المبرد، أبو العباس: ................. 158
المتقي: .................................. 56
المتنبي: ................................. 15
المتوكل (الخليفة): ............ 47 ـ 52 ـ 53 ـ 59 ـ 158
محفوظ النقَّاش: ...................... 153
محمد ابن إسحاق، أبو بكر: ........ 149
محمد أمين الخانجي: ........... 9 ـ 37
محمد بن البعيث: ...................... 59
محمد بن زياد بن الأعرابي: ......... 19
محمد بن عبد الملك ابن الزَّيات: 148 ـ 155
محمد عارف المكي (أبو بكر):...... 36
محمد علي الزعبي: .................. 35
محمد كرد علي: ...................... 25
محمد مرسي الخولي: ................ 34
محمد مسعود: ......................... 33
المرتضى (ابن المرتضى): .......... 17
المرتضى: ............................. 15
مزبد: ................................... 19
المسعودي: .................... 15 ـ 21 ـ 28 ـ 31 ـ 32
المسيح ():...... 81 ـ 82 ـ 177
مصطفى صادق الرافعي: ............ 16
المعتز (ابن المتوكل): ................ 53
المعتمد (الخليفة): ..................... 57
معمر بن المثنَّى التميمي، أبو عبيدة:.... 19
مفيستوفيليس: .......................... 71
المقفَّع (ابن المقفَّع): ................... 46
المكي (ابن المكي): ................... 53
المنصور: .............................. 59
منظور (ابن منظور): .............. 105
المهتدي (الخليفة): .................... 56
المهدي (الخليفة): ............. 55 ـ 59
المهلب: ............................... 119
موليير: ............................... 155
مويس بن عمران:........... 19 ـ 164
ميشال عاصي (الدكتور): ........... 34
ناعمة (ابن ناعمة): .................. 46
نجم (ابن نجم): ....................... 53
النديم (ابن النديم): ........ 15 ـ 17 ـ 30 ـ 31 ـ 44 ـ 46
النظَّام، أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّار: 19 ـ 108
نيتشة، فردريك:................ 73 ـ 77
الهادي (الخليفة):................... 59
هارتمان، نيقولاي: ................... 93
هارون الرَّشيد (الخليفة): ............ 59
هربرت سبنسر:........... 130 ـ 137
هند بنت أسماء بنت خارجة: ........ 32
هنري سدجويك: ..................... 130
هيجل: ........................ 93 ـ 137
هيردوت: ............................... 89
الواثق (الخليفة): .............. 43 ـ 59
وليم جيمس: .......................... 130
وهيلي (ابن وهيلي): .................. 46
ياقوت الحموي: ............... 15 ـ 16 ـ 17 ـ 19 ـ 30 ـ 32 ـ 44 ـ 45 ـ 158 ـ 163
يحيى بن علي: ........................ 32
يزيد بن هارون: ....................... 19
يعقوب بن إبراهيم القاضي (أبو يوسف):19
يموت بن المزرع (ابن أخت الجاحظ): 158
يوشع فنكل: ................. 36 ـ 37



LLL
المصادر والمراجع
أولا : العربية والمعربة
 الأبشيهي، محمد بن أحمد أبو الفتح: المستطرف في كل فن مستظرف ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1983م.
 أحمد الحوفي: الجاحظ ـ مطبعة نهضة مصر ـ القاهرة ـ د.ت.
 أحمد الطبال: الجاحظ؛ دراسة نصوص وخصائص عامة ـ دار الشمال ـ طرابلس / ليبيا ـ 1986م.
 أحمد الطويلي: أبو عثمان الجاحظ؛ دراسة ومنتخبات ـ الشركة التونسية ـ تونس ـ ط 1 ـ 1983م.
 أحمد أمين: ضحى الإسلام ـ لجنة التأليف والترجمة ـ القاهرة ـ ط 2 ـ 1934م.
 أحمد كمال زكي: الجاحظ ـ دار الكتاب العربي ـ القاهرة ـ 1967م.
 الأشعري، أبو الحسن: مقالات الإسلاميين ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ ط 2 ـ 1969م.
 أصيبعة (ابن أبي أصيبعة): عيون الأنباء في طبقات الأطباء ـ دار النفائس ـ بيروت ـ ط4ـ1987 م.
 إمام عبد الفتاح إمام: فلسفة الأخلاق ـ دار الثقــافة للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ 1985م.
 البغدادي، أحمد بن علي الخطيب: تاريخ بغداد؛ مدينة السلام ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ 1975م.
 البغدادي: خزانة الأدب ـ المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة ـ 1347هـ.
 التوحيدي، أبو حيان: البصائر والذخائر ـ تحقيق الدكتور إبراهيم الكيلاني ـ مكتبة أطلس ـ دمشق ـ 1964م.
 الجاحظ: آثار الجاحظ ـ تحقيق عمر أبو النصر ـ مطبعة النجوى ـ بيروت ـ 1969م.
 الجاحظ: البخلاء ـ دار صادر ـ بيروت ـ د. ت.
 الجاحظ: البرصان والعرجان والعميان والحولان ـ تحقيق محمد مرسي الخولي ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط 2 ـ 1981م.
 الجاحظ: البيان والتبيين ـ تحقيق فوزي عطوي ـ الشركة اللبنانية للكتاب ـ بيروت ــ 1968م.
 الجاحظ: التربيع والتدوير ـ تحقيق فوزي عطوي ـ الشركة اللبنانية للكتاب ـ بيروت ـ د.ت.
 الجاحظ: الحيوان ـ تحقيق عبد السلام محمد هارون ـ دار الجيل ـ بيروت/ دار الفكر ـ دمشق ـ 1408 هـ/ 1988 م.
 الجاحظ: الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير ـ المطبعة العلمية ـ حلب ـ 1928م.
 الجاحظ: المحاسن والأضداد ـ تحقيق فوزي عطوي ـ دار صعب ـ بيروت ـ1969م.
 الجاحظ: رسائل الجاحظ ـ تحقيق عبد السلام محمد هارون ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ 1965م.
 الجاحظ: رسائل الجاحظ «الرسائل الأدبية» ـ قدم لها وبوبها وشرحها د.علي أبو ملحم ـ دار مكتبة الهلال ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1987م.
 الجاحظ: رسائل الجاحظ «الرسائل السياسية» ـ قدم لها وبوبها وشرحها د.علي أبو ملحم ـ دار ومكتبة الهلال ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1987م.
 الجاحظ: رسائل الجاحظ «الرسائل الكلامية» ـ قدم لها وبوبها وشرحها د.علي أبو ملحم ـ دار ومكتبة الهلال ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1987م.
 بسام (ابن بسام): الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ـ لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ القاهرة ـ 1939م.
 توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق؛ نشأتها وتطورها ـ دار الثقافة للنشر والتوزيع ـ القاهرة ـ ط 5 ـ 1985م.
 جميل جبر (جمع وتقديم): نوادر الجاحظ ـ دار الأندلس ـ بيروت ـ 1963م.
 جميل صليبا: المعجم الفلسفي ـ الشركة العالميَّة للكتاب وآخرون ـ بيروت ـ 1994م.
 حسن السندوبي: أدب الجاحظ؛ بحث تحليلي ـ المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة ـ 1931م.
 خلكان (ابن خلكان): وفيات الأعيان ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ
ط 1 ـ 1948م.

 دي بور، ج: تاريخ الفلسفة في الإسلام ـ ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ ط 5 ـ د. ت.
 شارل بللا: الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء ـ ترجمة: د. إبراهيم الكيلاني ـ دار الفكر ـ دمشق ـ ط 1 ـ1406هـ/ 1985م.
 شفيق جبري: الجاحظ معلم العقل والأدب ـ محاضرات كلية الآداب ـ دمشق ـ 1351هـ/ 1932م.
 الشهرستاني: الملل والنحل ـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ القاهرة ـ 1961م.
 شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي «العصر العباسي الأول» ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ ط 2 ـ 1973م.
 صلاح قنصوه: موضوعية ـ ضمن الموسوعة الفلسفيَّة العربية ـ معهد الإنماء العربي ـ بيروت ـ 1986م.
 طه الحاجري: الجاحظ؛ حياته وآثاره ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1962م.
 عادل العوا: الأخلاق ـ منشورات جامعة دمشق ـ المطبعة الجديدة ـ دمشق ـ 1398هـ/ 1987م.
 عادل العوا: الأخلاق والحضارة ـ منشورات جامعة دمشق ـ مطبعة جامعة دمشق ـ 1398هـ/ 1978م.
 عادل العوا: أسس الأخلاق الاقتصادية ـ منشورات جامعة دمشق ـ المطبعة الجديدة ـ دمشق ـ 1403هـ/ 1983م.
 عادل العوا: بحوث أخلاقية ـ منشورات جامعة دمشق ـ مطبعة ابن حيان ـ دمشق ـ 1408 هـ/ 1988م.
 عادل العوا: دراسات أخلاقية ـ منشورات جامعة دمشق ـ المطبعة الجديدة ـ دمشق ـ 1403هـ/ 1983م.
 عادل العوا: الفلسفة الأخلاقية ـ منشورات جامعة دمشق ـ مطبعة ابن حيان ـ دمشق ـ 1403 هـ/ 1983م.
 عادل العوا: القيمة الأخلاقية ـ الشركة العربية للطباعة والنشر ـ دمشق ـ 1385هـ/ 1965م.
 عادل العوا: المذاهب الأخلاقية؛ عرض ونقد ـ منشورات جامعة دمشق ـ مطبعة جامعة دمشق ـ دمشق ـ ط 3 ـ 1383 هـ/ 1964م.

 عادل العوا: المذاهب الفلسفية ـ منشورات جامعة دمشق ـ مطبعة ابن حيان ـ دمشق ـ1407هـ/ 1964م.
 عزت السيد أحمد: التهكم وفن الإضحاك عند التوحيدي ــ مجلة الموقف الأدبي ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ العدد 277 أيار ـ 1994م.
 عزت السيد أحمد: الشك المنهجي من الإمام الغزالي إلى ديكارت ـ مجلة التراث العربي ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ العدد 44 ـ 1991م.
 عزت السيد أحمد: الفلسفة والفلسفة اللانمطية؛ ملاحظات لإعادة كتابة تاريخ الفلسفة ـ مجلة المعرفة ـ وزارة الثقافة ـ دمشق ـ العدد 497 ـ
شباط 2005م.
 عزت السيد أحمد: مقومات الأخلاق عند الغزالي ـ مجلة التراث العربي ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ العدد 52 ـ 1993م.
 فارس (ابن فارس): معجم مقاييس اللغة ـ تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون ـ شركة مصطفى البابي الحلبي ـ القاهرة ـ ط 2 ـ 1389 هـ / 1969م.
 العسقلاني، ابن حجر: لسان الميزان ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ 1971م.
 الغزالي: إحياء علوم الدين ـ دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ د. ت.
 الغزالي: تهافت الفلاسفة ـ تحقيق سليمان دنيا ـ دار المعارف ـ القاهرة.
 فارس (ابن): معجم مقاييس اللغة ـ شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ـ القاهرة ـ 1972م.
 فكتور شلحت اليسوعي: النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ ـ دار المعرفة ـ القاهرة ـ 1964م.
 فوزي عطوي: الجاحظ؛ دائرة معارف عصره «ينابيع الفكر العربي» ـ دار الفكر العربي ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1989م.
 القاضي عبد الجبار الهمذاني: فرق وطبقات المعتزلة ـ تحقيق وتعليق الدكتور علي سامي النشار وعصام الدين محمد علي ـ دار المطبوعات الجامعية ـ مصر ـ 1972م.
 قتيبة (ابن): الشعر والشعراء ـ تحقيق الدكتور مفيد قميحة ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1405هـ/1985م.
 القفطي، جمال الدِّين: أَخبار العلماء بأخبار الحكماء ـ دار الآثار للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع ـ القاهرة ـ د.ت.

 القفطي، جمال الدِّين: إنباه الرُّواة على أَنباه النُّحاة ـ تحقيق؛ محمد أَبو الفضل إبراهيم ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة / مؤسسة الكتب الثَّقافيَّة ـ بيروت ـ 1986م.
 كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي ـ ترجمة عبد الحليم النجار والسيد يعقوب بكر ورمضان عبد التواب ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1981م.
 محمد عبد المنعم خفاجي: أبو عثمان الجاحظ ـ دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ـ ط1 ـ 1973م.
 محمد كرد علي: أمراء البيان ـ دار الأمانة ـ بيروت ـ 1969م.
 المرتضى، أحمد بن يحيى بن المرتضى: طبقات المعتزلة ـ المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت ـ 1961م.
 المرتضى، علي بن الحسين: أمالي المرتضى ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ 1967م.
 المسعودي: مروج الذهب ـ تحقيق محيي الدين عبد الحميد ـ المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة ـ 1964م.
 مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب ـ دار القلم ـ بيروت ـ د.ت.
 منظور (ابن منظور): لسان العرب ـ دار إحياء التراث العربي/ مؤسسة التاريخ العربي ـ بيروت ـ ط 3 ـ 1413 هـ/ 1993م.
 النديم (ابن النديم): الفهرست ـ المطبعة الرحمانية ـ القاهرة ـ 1348 هـ.
 ياقوت الحموي: معجم الأدباء؛ إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ـ دار المشرق ـ بيروت ـ د.ت.

ثانياً: الأجنبية

 Albee . E : Hestory of English Utilitarianism . London .
 Bentham . J : AnIntroduction to principles of Morals and Legislation . London .
 Bruhi . L :La Morale et la Science des Mœurs . Paris .
 Deweey . J :Logical Conditions of a Scintific Treatment of Morality. New york .
 Foulquiè . P : Traite Elèmantaire de Philosophi . Paris .
 Hobbes . Th :The Elements of Low, Moral and political .London .

 James . W :Pragmtism , A New **** for Same Old Wqys of Thinking . New york .
 Lalande . A : Vocabulaire Techique et de la Philosophie . 8ème ed. Paris . 1960 .
 Mill . J. S : Utilitarianism . Chicag : Encyclopedia Britannica . Great books of the western world . 3 ed . 1952.
 Sidgwick . H :Methods of Ethics . London .
 Spencer. H : principesde psychologie . Paris .
 The Encyclopedia of Islam . Leiden , Netherlands . 1983 .
 The Enyclopedia of PHilosophy . Macmillan publishing co, New york / London . 1972 .



aaaac.gif
صدر من كتب المؤلف

آفاق التغير الاجتماعي والقيمي؛ الثورة العلمية والمعلوماتية والتغير القيمي ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشق ـ 2005م.
الأمم المتحدة بين الاستقلال و الاستقالة و الترميم : مأزق الأمم المتحدة في النظام العالمي الجديد ـ دار الفتــــح ـ دمشـق ـ 1993م .
أَميرة النَّار والبحار (شعر) ـ دار الأَصالة ـ دمشق ـ 1997م.
أنا صـدى الليـل ـ (شـعر) ـ دار الأَصالة للطباعة ـ دمشـق ـ 1995م.
أنا لست عذري الهوى (شعر) ـ دار الأصالة للطباعة ـ دمشق ـ 1999م.
أنا وعيناك صديقان (شعر) ـ دار الأصالة للطباعة ـ دمشق ـ 2001م.
أُنشودة الأَحزان (شعر) ـ دار الأَصالة للطِّباعة ـ دمشق ـ 1996م.
انهيار أُسـطورة السَّــلام؛ مصير السلام العربي الإسرائيلي ـ دار الفتح ـ دمشق ـ 1996م .
ـ انهيار أُســطورة السَّلام؛ مصير السلام العربي الإسرائيلي ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشـق ـ ط2 ـ 2001م .
انهيار الشِّعر الحر ـ دار الثـقافـة ـ دمشـق ـ ط1 ـ 1994م.
ـ انهيار الشـعر الحر ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشق ـ ط2 ـ 2003م.
انهيار دعاوى الحداثة ـ دار الثـقافـــة ـ دمشـق ـ 1995م .
انهيار مزاعم العولمة؛ قراءة في لقاء الحضارات وصراعها ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 2000م.
بديـع الكسـم ـ ( إعداد و تقديم ) ـ وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 1994م.
الحداثة بين العقلانية واللاعقلانية؛ انهيار دعاوى الحداثة ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشق ـ 1999م.
الدخيل على المصلحة ( قصص ) ـ ن . م ـ دمشق ـ 1993م.
دفاع عن الفلسفة : الفلسفة ثرثرة أَم أُمُّ العلوم ؟ ـ دار الأصـالة للطباعة ـ دمشق ـ 1994م.
علم الجمال المعلوماتي؛ نحو نظريَّة جديدة ـ دار الأصـالة للطباعة ـ
دمشق ـ 1994م.
غاوي بطالة (قصص قصـيرة) ـ دار الأَصالة للطِّباعة ـ دمشق ـ 1996م.
فلسـفة الفن و الجمال عند ابن خلدون ـ دار طلاس ـ دمشق ـ 1993م.
قراءات في فكر بديع الكسم ـ دار الفكر الفلسـفي ـ دمشق ـ 1998م.
قراءات في فكر عادل العوا ـ دار الفكر الفلسـفي ـ دمشق ـ 2001م.
كيف ستواجه أمريكا العالم : الهيمنة الأمريكية و النظام العالمي الجديد ـ دار السلام للطباعة ـ دمشــق ـ 1992م .
لا تعشقيني ( شعر ) ـ دار الأصـالة للطباعة ـ دمشــق ـ 1994م.
مكيافيليَّة ونيتشويَّة تربويَّة؛ نحو سلوك تربوي عربي جديد ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشق ـ 1998م.
من رسائل أبي حيان التوحيدي ـ وزارة الثقافة ـ دمشـق ـ 2001م.
من يسمم الهواء ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشق ـ 2005م.
الموت من دون تعليق ( قصص قصيرة جداً ) ـ دار الأصالة للطباعة ـ
دمشق ـ 1994م.
النظام الاقتصادي العالمي الجديد؛ من حرب الأعصاب إلى حرب الاقتصاد ـ دار الفتح ـ دمشق ـ 1993م.
نهاية الفلسفة ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشق ـ 1999م.
هؤلاء أَساتذتي : من رواد الفكر العربي المعاصر في سوريا ـ دار الثقافة ـ دمشــق ـ 1994م.
ـ هؤلاء أساتذتي؛ من رواد الفكر العربي المعاصر في سوريا ـ دار الفكر الفلسفي ـ دمشـق ـ ط2 ـ 2003م .






الفهرس



العنوان الصفحة

الإهداء 5
عزت السيد أحمد 5
مقدمة 9
الفصل الأول: شخصية الجاحظ وفلسفته 13
اسـمه ونسـبه 15
ثقافته : 17
فلسـفته والاعتزال 20
منهجه العلمي 23
1ـ الشك 23
2 ـ النـقـد 24
3 ـ التجريب والمعاينة 26
شخصيَّته 27
أولاً: خصائصه الجسمية 27
ثانياً: عبقريته 29
ثالثاً: أسلوبه 29
آثاره 30
الفصل الثاني: معالم عصر الجاحظ 39
الحياة الفكرية 42
أولاً : حُريَّةُ الفكر 42
ثانياً : النشاط العلمي 44
ثالثاً: الترجمة والتعريب 45
الحياة الاجتماعية 48
أولاً: طبقات المجتمع 48
ثانياً: البذخ والترف 52
ثالثا : اللهو والمجون 54
الحياة السياسية 57
أولاً: سيطرة الترك 57
ثانياً : الشُّعوبيَّة 58
ثالثا: أحداث مختلفة 59
خاتمة 60
الفصل الثالث: أصل القيمة الأخلاقية 61
مصدر القيمة الأخلاقية 64
مصدر القيمة الأخلاقية عند الجاحظ 65

العنوان الصفحة

الخلق بـين السجيَّة والرَّويَّة 68
ضرورة الشر 71
خاتمة 74
الفصل الرابع: تحديد الأخلاق 75
حقيقة الخير 81
مفهوم الخُلق 83
معيار الفضيلة 86
الفصل الخامس: الأخلاق والبيئة 91
النزعة الإنسانية 95
أسباب تباين الطبائع 97
أثر البيئة في الأخلاق 101
خصال قريش 104
بخل أهل مرو 106
البيولوجية والأخلاق 109
الفصل السادس: الوقائع الأخلاقية 113
الأخلاق أساس الاجتماع 116
الأخلاق النظرية والأخلاق العملية 118
تفاوت أخلاق الناس 121
واقعية الجاحظ 122
تعقيب 123
الفصل السابع: أخلاق المنفعة 127
المنفعة واللذَّة 131
اللذَّة والسَّعادة 134
الأخلاق الاقتصادية 136
خاتمة 141
الفصل الثامن: أخلاق التهكم 143
بواعث التَّهَكُّم 146
أولاً: التَّهَكُّم بالطبع 147
ثانياً: تهكم التَّشفِّي 149
وظائف التَّهَكُّم 151
أولا: الشجب 152
ثانياً: الدِّفاع عن الذات 154
التَّهَكُّم الذاتـي 155
تصالح الأضداد 157
البادئ أظلم 159

العنوان الصفحة

واحدة بواحدة 160
سلطان الذبَّان 161
الفصل التاسع: النقدية الأخلاقية 165
الموضوعيَّة 168
الواقعيَّة 170
المنطقيَّة 172
العقلانية 173
العفويَّة 176
مراعاة العرف 177
مراعاة الخصوصيَّة 178
خاتمة 178
فهر س الأعلام 180
المصادر والمراجع 184
أولا : العربية والمعربة 184
ثانياً: الأجنبية 188
صدر من كتب المؤلف 190
الفهرس 193
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-04-2021, 03:59 PM
سيليا غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2021
المشاركات: 5
افتراضي

مشكور على المجهود الرائع
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الأخلاق, الجاحظ, فلسفة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع فلسفة الأخلاق عند الجاحظ
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
غايات الدلالة عند الجاحظ عبد الله بولنوار مقالات 0 02-24-2017 03:18 PM
الموازنة بين اللفظ والمعنى عند الجاحظ عبد الله بولنوار مقالات 0 02-24-2017 03:16 PM
إعدامات العراقيين والحلم الأمريكي الشيعي الخادع عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 01-28-2014 08:41 AM
الجاحظ Eng.Jordan شخصيات عربية وإسلامية 0 04-29-2013 12:27 PM
نقد الشعر عند الجاحظ د. المهدي المامون أبشر Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 11-11-2012 01:37 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:44 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59