#1
|
||||
|
||||
الكتاب: التَّوَرُّقُ المَصْرَفِيُّ
الكتاب: التَّوَرُّقُ المَصْرَفِيُّ المؤلف: رياض بن راشد عبد الله آل رشود الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر الطبعة: الأولى، 1434 هـ - 2013 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] دولة قطر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أوقاف AWQAF الإدارة العامة للأوقاف General Directorate of Endowments التَّوَرُّقِ المَصْرَفِيُّ تأليف رياض بن راشد عبد الله آل رشود إصدارات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بتمويل الإدارة العامة للأوقاف إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر (1/1) ________________________________________ بسم الله الرحمن الرحيم (1/2) ________________________________________ التَّوَرُّقِ المَصْرَفِيُّ (1/3) ________________________________________ جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1434 هـ -2013 م (1/4) ________________________________________ مقدمة الحمد لله حمدًا يوافي نِعَمَهُ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه، وخاتم رسله، وبعد: فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر -وقد وفَّقها الله لأن تضربَ بسهم في نشر الكتب النافعة للأمة- لتحمد الله سبحانه وتعالى على أن ما أصدرته قد نال الرضا والقبول من أهل العلم. والمتابعُ لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهودُ دولة قطر في خدمة تراث الأمة منذ ما يزيد على ستة عقود، وقد جاء مشروعُ إحياء التراث الإسلامي الذي بدأته الوزارة منذ سبع سنوات امتدادًا لتلك الجهود، وسيرًا على تلك المحجَّة التي عُرفت بها دولة قطر. ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسَّر الله جلَّ وعلا للوزارة إخراجَ مجموعة من أمهات كتب العلم في فنون مختلفة معظمها يُطبع لأول مرة، ففي التفسير وعلوم القرآن أصدرت الوزارةُ عدة كتب: منها تفسير العُليمي المسمى بـ: "فتح الرحمن في تفسير القرآن"، وهو يُطبع لأول مرة، وكتاب: "تهذيب تفسير الجلالين" لمحمد لطفي الصباغ، وكتاب: "الدّر النثير في اختصار تفسير ابن كثير" لمحمد بن موسى آل نصر، ونحن الآن بصدد إصدار جديد متميز لكتاب: "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية مقابلًا على عدة نسخ خطية، ومحقَّقًا تحقيقًا علميًّا جيدًا، وفي علم رَسْم المصحف أصدرت (1/5) ________________________________________ الوزارةُ كتاب: "مرسوم المصحف" للعُقيلي، وكتاب: "الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة" لأبي بكر عبد الغني المشتهر باللبيب. وفي علم القراءات أصدرت الوزارةُ كتاب: "البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة" لأبي حفص سراج الدين النَّشَّار، تحقيق الدكتور أحمد عيسى المعصراوي، وكتاب: "معاني الأحرف السبعة" لأبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي، تحقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر. وفي السنة النبوية وشروحها: أصدرت الوزارةُ عدة كتب، مثل كتاب: "التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقن، وكتاب: "حاشية مسند الإمام أحمد" للسندي، و"شرحين لموطأ الإمام مالك" لكُلِّ من القنازعي، والبوني، وكتاب: "شرح مسند الإمام الشافعي" للرافعي، وكتاب: "نخب الأفكار شرح معاني الآثار" للبدر العيني، وكتاب: "عون الباري بحلّ أدلة البخاري" لصدِّيق ابن حسن خان، وكتاب: "مصابيح الجامع" للقاضي بدر الدين الدَّمَاميني، إضافة إلى "صحيح الإمام ابن خزيمة" بتحقيقه الجديد المتقن، وكذا كتاب "السنن الكبرى" للإمام النسائي المحقَّق على عدة نسخ خطية، وكتاب: "جامع الأصول في أحاديث الرسول" لابن الأثير الجزري، وكتاب: "الجامع لشعب الإيمان" للبيهقي، وكتاب: "المخلصيات" لأبي طاهر المخلص، وكتاب "التقاسيم والأنواع" للإمام ابن حبان، وكتاب: "مطالع الأنوار" لابن قرقول، والكتابان الأخيران ينشران لأول مرة، وهناك مشاريعُ أخرى تقوم بها الوزارة، وسوف يُعلن عنها في حينها. وفي الفقه وأصوله: أصدرت الوزارةُ عدة كتب، منها: كتاب: "نهاية المطلب في دراية المذهب" للإمام الجويني بتحقيقه المتقن للأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب -رحمه الله تعالى- عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، (1/6) ________________________________________ وكذلك كتاب: "الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف" للإمام ابن المنذر بمراجعة دقيقة للشيخ الدكتور عبد الله الفقيه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي أيضًا، وكتاب: "التبصرة" للإمام اللخمي، وكتاب: "حاشية الخلوتي" في الفقه الحنبلي، وكتاب: "الإقناع في مسائل الإجماع" للإمام ابن القطان الفاسي، وكتاب: "أخصر المختصرات في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل" لمحمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي، وكتاب: "بغية المتتبع لحل ألفاظ روض المربع" لإبراهيم بن أبي بكر القرشي العوفي الصالحي الحنبلي، وكتاب: "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام" لعزّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وكتاب: "منحة السُّلوك في شرح تحفة الملوك" للبدر العيني، وأخيرًا كتاب: "الأصل" لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) كاملًا محققًا على أصول عدة، وفي الطريق إصداراتٌ أخرى مهمة تُمثِّل الفقه الإسلامي في عهوده الأولى. وفي السيرة النبوية أصدرت الوزارةُ الموسوعةَ الإسنادية الكبيرة: "جامع الآثار في السير ومولد المختار" لابن ناصر الدين الدمشقي. وفي العقيدة والتوحيد أصدرت الوزارةُ كتابًا نفيسًا لطيفًا وهو: "الاعتقاد الخالص من الشكِّ والانتقاد" لابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله تعالى، وكتاب: "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العزّ الحنفي، وغيرها. وفي مجال الدراسات المعاصرة أصدرت الوزارةُ مجموعةً متميزة من الرسائل العلمية وغيرها، منها: "القيمة الاقتصادية للزمن"، و"نوازل الإنجاب"، و"مجموعة القره داغي الاقتصادية"، وغيرها، وفي الطريق -بإذن الله تعالى- ما تقرُّ به العيون من دراسات معاصرة في القرآن والسنة، والنوازل ومستجدات الثقافة الإسلامية النقية. واليوم تقدم الوزارةُ للقراء الكرام بحثًا قيمًا، ودراسة متميِّزة بعنوان: (1/7) ________________________________________ "التَّورُّق المصرِفي" يتناول من خلالها المؤلف تلك النازلة الحديثة التي لا زالت محل نظر واجتهاد من قِبل أهل العلم الكرام، ولا يخفى على طالب العلم أهمية هذا الموضوع وفائدته، فالحاجةُ ماسّةٌ إلى بيان حكم هذا التورق، ومعرفة أثر عملياته على مستقبل البنوك الإسلامية، وعلى مستقبل الحركة الاقتصادية، ومدى ملاءمة إجراءاته للشريعة الإسلامية، وقد اجتهد المؤلفُ في تصوير المسألة قبل بيان حكمها، وساق مذاهب الفقهاء المعتبرة من مصادرها الأصلية، وناقش الأدلة. والله نسأل أن يجزي المؤلفَ خير الجزاء، وأن ينفعَ بكتابه هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين. (1/8) ________________________________________ المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فإن المتأملَ في نصوص الشَّريعة الإسلامية يجد أن الرِّبا من أبشع الذنوب، وأكبرها، فالله سبحانه قد توعَّد من يتعامل به بالعذاب الأليم، وأذن فيه بالحرب، وما ذلك إلا لأن الرِّبا عين الظلم، فهو ظلم الدائن للمدين وأكل أموال الناس بالباطل. "ولقد كان للربا في الجاهلية مفاسده وشروره، ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم، وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدَّمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. . . فالنظام الرَّبوي بلاء على الإنسانية -لا في إيمانها، وأخلاقها، وتصوّرها للحياة فحسب- بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية، والعملية، وإنه أبشع نظام يمحقّ سعادة البشرية محقًّا، ويعطّل نموّها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخداع، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام" (1). وإننا في هذا العصر نرى أن الرِّبا قد انتشر، وسرى في المجتمع سريان __________ (1) تفسير آيات الرِّبا، سيد قطب ص (7). (1/9) ________________________________________ النار في هشيم الحطب، عن طريق النظم المصرفية، فالمرابون الذين كانوا يتمثلون في الماضي في صورة أفراد، أو بيوت مالية، هم موجودون الآن في صورة بنوك تقدم الرِّبا لعملائها جهارًا في وضح النهار، ولذلك نشأت البنوك الإسلامية لترفع عن الأمة مصيبة الرِّبا، التي أضحت ظاهرة جلية في المجتمعات الإسلامية، وقد اجتهد المسؤولون عن تلك البنوك في ابتكار بدائل تكون خاضعة للقواعد والضَّوابط الشرعية، وتلبي حاجة الإنسان في هذه الحياة إلى السُّيُولة النَّقْديّة. ولأن التطور سُنَّة الحياة، فإن البنوكَ الإسلامية قد تطورت، وتطورت معها صيغُ التَّمويل الذي تقدمه لعملائها، فنرى في الآونة الأخيرة بعض البنوك قد لجأت للتورق، باعتباره الطريق الناجح الذي يلبي حاجةَ الإنسان إلى السُّيُولة النَّقْديّة. والتَّورُّق الذي تقدّمه المصارف لعملائها اليوم يختلف عن التَّورُّق الذي يمارسه الأفراد، والذي دار حوله خلاف بين العلماء قديمًا وحديثًا، ولذلك كان لا بُدَّ من إلقاء الضوء على عملية (التَّورُّق المصرفي) لمعرفة حكمها، وأثرها على مستقبل البنوك الإسلامية، وعلى الجوانب الاقتصادية لصيغ التَّمويل، التي تقدمها البنوك الإسلامية، فعملية التَّورُّق المصرفي نازلة حديثة، لا زالت محل نظر واجتهاد، تستوجب اجتهاد المجتهدين، لا سيما وأن استخدام هذه العملية كان له أثر كبير في تقلص القروض الربوية في بعض البنوك، حيث انحسرت نسبة نشاطها إلى (30 %)، واستحوذ التَّورُّق على (70%)، وبزيادة مستمرة، فلابد من بيان حُكْم هذه العملية، وهل يصح فعلًا أن تكون بديلًا شرعيًا عن القروض الربوية؟. (1/10) ________________________________________ ولا يخفى على طالب العلم ما يحويه هذا الموضوع من أهمية، وفائدة، تتلخص فيما يأتي: 1 - الحاجة الماسة إلى بيان حكم التَّورُّق المصرفي، حيث إن البنوك في هذه الأيام تنشر الإعلانات عن برامج التَّورُّق المصرفي في شتى وسائل الإعلام، حتى أحدث ضجة عند المتعلمين والمختصين عن مشروعيته، إضافة إلى استفسارات الناس عن حكمه الشرعي. 2 - معرفة أثر عمليات التَّورُّق المصرفي على مستقبل البنوك الإسلامية، وعلى مستقبل الحركة الاقتصادية. 3 - ضرورة شرح إجراءات عملية التَّورُّق المصرفي، ومدى ملاءمتها للشريعة الإسلامية، حتى يتسنى لكل شخص الاطلاع على تلك الإجراءات، وفهمها، ومعرفة حكمها. أسباب اختيار الموضوع: 1 - رغبتي الشديدة في فهم وإدراك المعاملات المصرفية، حيث إن القراءة، والدراسة النظرية لا تفيد بقدر ما يفيد النزول إلى الميدان، والذهاب إلى البنوك، ومناقشة الأساتذة، والمشائخ، والمختصين الاقتصاديين. 2 - الإعلانات التي تطرحها البنوك في وسائل الإعلام، المرئي منها، والمسموع، عن التَّورُّق المصرفي، جعلتني ألقي الضوء على هذا الموضوع، وأكتب فيه لمعرفة حكمه، فالبنوك دائمًا تعلن عن برامج التَّورُّق المصرفي، ويصفونها بأوصاف توحي بمشروعية هذه البرامج، كوصفهم للبرنامج بالمبارك، أو بالخير، أو بالتيسير، إلى غير ذلك من الأوصاف. 3 - كثرة السؤال، والاستفتاء عن برامج التَّورُّق المصرفي. (1/11) ________________________________________ الدراسات السابقة: بعد البحث في فهارس البحوث التابعة للمعهد العالي للقضاء لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، وبحوث الدراسات العليا في كلية الشَّريعة، وبعد الاطلاع على البحوث في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، فإنه تبين لي أنه لم يُكتب في هذا الموضوع كرسالة جامعية، وإنما فقط بحوث شخصية قُدِّمت للدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة (19 - 24/ 10/ 1424 هـ)، وبعضها قُدِّمت لندوة البركة الرابعة والعشرين (29) شعبان- (2) رمضان (1424 هـ)، وبعضها قُدِّمت إلى مؤتمر دور المؤسَّسات المصرفية الإسلامية في الاستثمار والتنمية في (26 - 28) صفر (1423 هـ). وقد قدمت للمعهد العالي مقارنة بين ما سأكتب وبين بعض البحوث، وقد أوضحتُ الإضافات الجديدة التي سأتطرق إليها، ولعل أبرز وأحسن ما كتب من تلك البحوث: 1 - بحث الدكتور: سامي السويلم (التَّورُّق والتَّورُّق المنظم). 2 - بحث الدكتور: عبد الله السعيدي (التَورُّق كما تجريه المصارفُ في الوقت الحاضر). وقد بيَّنت في المقارنة بين بحثي والبحثين السابقين تلك الإضافات العلمية الجديدة، التي لم يسبقني إليها أي باحث من أولئك الباحثين، بل إن الدكتور سامي السويلم أشار علي الكتابة في بعض تلك الإضافات، حتى يكون الموضوع مكتملًا من جميع الجوانب، وأبرز تلك الإضافات العلمية التي سأتطرق لها هي على النحو التالي: 1 - بيان الإجراءات المصرفية للتورق في كل معاملة تجريها المصارف. 2 - بيان الحاجة الاقتصادية إلى السُّيُولة. (1/12) ________________________________________ 3 - الكلام في مبدأ الحِيَل في الشَّريعة الإسلامية. 4 - صور التَّورُّق الفردي. 5 - شروط التَّورُّق الفردي. 6 - الفروق بين التَّورُّق المصرفي والرِّبا. 7 - الآليات العملية للتورق المصرفي، ومدى انضباطها. 8 - علاقة التَّورُّق المصرفي بصيغ التَّمويل الأخرى. 9 - التكييف الفقهي للتورق المصرفي في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية. 10 - التكييف الفقهي للتورق، الذي يمكِّن العملاء من سداد مديونياتهم لدى المصارف التقليدية، والانتقال إلى التَّعامُل مع المصارف الإسلامية. 11 - التَّورُّق عن طريق البطاقات الائتمانية. 12 - أوجه الشبه والاختلاف بين بطاقتي التيسير والخير. 13 - التكييف الفقهي للتورق في بطاقتي التيسير والخير. 14 - التَّورُّق باستخدام الأسهم. 15 - التكييف الفقهي للتورق باستخدام الأسهم. 16 - بيان الفرق بين التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم وبين برنامج (وطني) لتقسيط الأسهم. 17 - التطرق إلى برامج التَّورُّق المصرفي المعلنة في وسائل الإعلام. 18 - مفهوم المصارف الإسلامية، وخصائصها. 19 - أثر عمليات التَّورُّق على مستقبل المصارف. وأما المنهج الذي اتبعتُه في هذا البحث فهو على النحو التالي: (1/13) ________________________________________ 1 - تصوير المسألة المراد بَحْثُها تصويرًا دقيقًا قبل بيان حكمها، ليتَّضح المقصود من دراستها. 2 - إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق، فيذكر حكمها بدليله، مع توثيق الاتفاق من مظانه المعتبرة. 3 - إذا كانت المسألةُ من مسائل الخلاف فيتبع ما يلي: أ- تحرير محلّ الخلاف إذا كانت بعضُ صور المسألة محل خلاف، وبعضها محلّ اتفاق. ب- ذكر الأقوال في المسألة، وبيان مَنْ قال بها من أهل العلم، وأسوق الأقوال سياقًا مذهبيًا، ثم بعد ذلك أذكر الخلاف بالإجمال حسب الاتجاهات الفقهية. ج- الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة، مع العناية بذكر ما تيسر الوقوف عليه من أقوال السلف الصالح، وإذا لم يوقف على المسألة في مذهب ما، فيسلك بها مسلك التخريج. د- توثيق الأقوال من مصادرها الأصلية. هـ- ذِكْر بعض أدلة الأقوال، مع بيان وجه الدلالة، وذِكْر ما يرد عليها من مناقشات، وما يجاب به عنها إن كانت، وأن يذكر ذلك بعد الدليل مباشرة. و- الترجيح مع بيان سببه. 4 - الاعتماد على أمهات المصادر، والمراجع الأصلية، والبحوث المعاصرة في التحرير، والتوثيق، والتخريج، والجمع. 5 - التركيز على موضوع البحث، وتجنب الاستطراد. 6 - العناية بضرب الأمثلة، خاصة الواقعية. (1/14) ________________________________________ 7 - تجنب ذِكْر الأقوال الشاذة. 8 - العناية بدراسة ما وُجد من القضايا مما له صلة واضحة بالبحث. 9 - ترقيم الآيات، وبيان سُوَرِها مضبوطة الشكل. 10 - تخريج الأحاديث من مصادرها الأصلية، وإثبات الكتاب، والباب، والجزء، والصفحة، وبيان ما ذكره أهل الشأن في درجتها -إن لم تكن في الصحيحين، أو أحدهما- فإن كانت كذلك فيكتفى حينئذ بتخريجها منهما، أو من أحدهما. 11 - تخريج الآثار من مصادرها الأصلية، والحكم عليها. 12 - التعريف بالمصطلحات من كتب الفن الذي يتبعه المصطلح، أو من كتب المصطلحات المعتمدة. 13 - توثيق المعاني من معاجم اللغة المعتمدة، وتكون الإحالة عليها بالجزء، والصفحة. 14 - العناية بقواعد اللغة العربية، والإملاء، وعلامات الترقيم. 15 - تكون الخاتمة متضمنة أهم النتائج، والتوصيات التي أراها. 16 - ترجمة للأعلام غير المشهورين بإيجاز. 17 - إتباع البحث بالفهارس الفنية المتعارف عليها، وهي: - فهرس الآيات القرآنية. - فهرس الأحاديث الآثار. - فهرس الأعلام. - فهرس المراجع والمصادر. - فهرس الموضوعات. (1/15) ________________________________________ وأما خطة البحث، فإنها تتكون من مقدمة، وتمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة، وهي كالتالي: المقدمة: وتتضمن الآتي: أ- تحديد موضوع البحث، وعنوانه. ب- أهمية الموضوع، وأهدافه. ج- أسباب اختياره. د- الدراسات السابقة. هـ- منهج البحث. و- خطة البحث. التمهيد: التعريف بمفردات عنوان البحث، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف التَّورُّق الفردي (الفقهي) لغة، واصطلاحًا. المطلب الأول: تعريف التَّورُّق لغة. المطلب الثاني: تعريف التَّورُّق اصطلاحًا. المسألة الأولى: التحقيق في استعمال مصطلح التَّورُّق عند الفقهاء. المسألة الثانية: تعريف التَّورُّق اصطلاحًا. المبحث الثاني: تعريف التَّورُّق المصرفي لغةً، واصطلاحًا. المطلب الأول: تعريف المصرف في اللغة، والاصطلاح. المطلب الثاني: تعريف التَّورُّق المصرفي. المسألة الأولى: اختلاف مسميات التَّورُّق المصرفي. المسألة الثانية: تعريف التَّورُّق المصرفي اصطلاحًا. المبحث الثالث: حاجة الحياة الاقتصادية إلى السُّيُولة. (1/16) ________________________________________ الفصل الأول: التَّورُّق الفردي (الفقهي) وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: مبدأ الحِيَل في الشَّريعة الإسلامية. المطلب الأول: معنى الحيلة لغةً، واصطلاحًا. المطلب الثاني: تحرير محل النزاع. المطلب الثالث: موقف العلماء من الحِيَل. المطلب الرابع: الأدلة، والترجيح. المسألة الأولى: الأدلة. المسألة الثانية: الترجيح. المبحث الثاني: علاقة التَّورُّق بالعِيْنَة، وفيه مطلبان: المطلب الأول: حكم العِيْنَة. المسألة الأولى: تعريف العِيْنَة لغةً، واصطلاحًا، وبعض صورها. المسألة الثانية: تحرير محل النزاع. المسألة الثالثة: موقف العلماء من بيع العِيْنَة. المسألة الرابعة: الأدلة، والترجيح. الفرع الأول: الأدلة. الفرع الثاني: موقف الشافعي من الأحاديث الدالة على تحريم العِيْنَة. الفرع الثالث: الترجيح. المطلب الثاني: دخول التَّورُّق في العِيْنَة. المسألة الأولى: شمول العِيْنَة لمعنى التَورُّق. المسألة الثانية: أوجه التشابه بين التَّورُّق والعِيْنَة. (1/17) ________________________________________ المسألة الثالثة: الفرق بين التَّورُّق والعِيْنَة. المبحث الثالث: صور التَّورُّق الفردي. المبحث الرابع: حكم التَّورُّق الفردي. المطلب الأول: تحرير محل النزاع. المطلب الثاني: موقف الفقهاء المتقدمين من بيع التَّورُّق. المطلب الثالث: موقف العلماء المتأخرين والمعاصرين من بيع التَّورُّق. المطلب الرابع: الأدلة، والترجيح. المسألة الأولى: الأدلة. المسألة الثانية: الترجيح. المبحث الخامس: شروط التَورُّق الفردي. الفصل الثاني: تصوير التَّورُّق المصرفي، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: صورة التَّورُّق المصرفي، والأطراف المشتركة فيه. وفيه مطلبان: المطلب الأول: صورة التَّورُّق المصرفي. المسألة الأولى: الصُّورة العامة لعملية التَّورُّق كما تجريها المصارف. المسألة الثانية: ميزة التَّورُّق المصرفي. المسألة الثالثة: ماهية السِّلع المستخدمة في عمليات التَّورُّق المصرفي. المطلب الثاني: الأطراف المشتركة في التَّورُّق المصرفي. المبحث الثاني: الفروق بين التَّورُّق المصرفي والتورُّق الفردي. (1/18) ________________________________________ المبحث الثالث: الفروق بين التَّورُّق المصرفي والرِّبا. المبحث الرابع: الآليات العملية للتورق المصرفي، ومدى انضباطها. المبحث الخامس: التَّورُّق المصرفي، وعلاقته بصيغ التَّمويل الأخرى. الفصل الثالث: تطبيقات على التَّورُّق، واستخدامه في العمل المصرفي: المبحث الأول: التَّورُّق المصرفي في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية، وفيه مطلبان: المطلب الأول: تصوير المعاملة، وبيان إجراءاتها. المطلب الثاني: التكييف الفقهي لهذه المعاملة. المبحث الثاني: التَّورُّق لتمكين العملاء من سداد مديونياتهم لدى المصارف التقليدية، والانتقال إلى التَّعامُل مع المصارف الإسلامية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: تصوير المعاملة، وبيان إجراءاتها. المطلب الثاني: التكييف الفقهي لهذه المعاملة. المبحث الثالث: استخدام التَّورُّق المصرفي في التَّمويل الشخصي، وفيه مطلبان: المطلب الأول: التَّورُّق عن طريق البطاقاتِ الائتمانية، وفيه أربع مسائل: المسألة الأولى: تصوير عملية التَّورُّق في بطاقة تيسير الأهلي. المسألة الثانية: تصوير عملية التَّورُّق في بطاقة الخير للبنك الأمريكي. المسألة الثالثة: أوجه الشبه والاختلاف بين بطاقتي التيسير، والخير. (1/19) ________________________________________ المسألة الرابعة: التكييف الفقهي للتورق في بطاقتي التيسير، والخير. المطلب الثاني: التَّورُّق باستخدام الأسهم، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: تصوير التَّورُّق بالأسهم. المسألة الثانية: التكييف الفقهي للتورق بالأسهم. المبحث الرابع: حكم برامج التَّورُّق المصرفي في البنوك المعاصرة. المطلب الأول: موقف الفقهاء من التَّورُّق المصرفي. المطلب الثاني: موقف العلماء المعاصرين والمختصين الاقتصاديين من التَّورُّق المصرفي. المطلب الثالث: الأدلة، والإشكالات، والمناقشات. المسألة الأولى: الأمور الدَّالة على تحريم التَّورُّق المصرفي. المسألة الثانية: الإشكالات المتعلِّقة بإجراءات عملية التَّورُّق المصرفي. المسألة الثالثة: الشبه التي تمسَّك بها من أجاز التَّورُّق المصرفي، ومناقشتها. المطلب الرابع: قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بشأن موضوع التَّورُّق المصرفي. المبحث الخامس: التَّورُّق المصرفي، ومستقبل البنوك الإسلامية، وفيه ثلاثةُ مطالب: المطلب الأول: مفهوم البنك الإسلامي، وخصائصه. المطلب الثاني: أثر عمليات التَّورُّق على مستقبل البنوك الإسلامية. المطلب الثالث: البديل للتمويل النَّقْديّ. (1/20) ________________________________________ الخاتمة: وتشمل أهم نتائج البحث، والتوصيات: الفهارس: وتشمل ما يأتي: - فهرس الآيات القرآنية. - فهرس الأحاديث، والآثار. - فهرس الأعلام. - فهرس المراجع، والمصادر. - فهرس الموضوعات. وإني أشكر الله -عز وجل- على أن أتمَّ عليَّ كتابة هذا البحث، رغم الضَّائقات الشديدة، التي أحاطت بي من كل جانب، والتي أتعبتني كثيرًا حين كتابة هذا البحث، وأسأل الله تعالى أن يجعلَ لي من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا. وقد واجهتُ بعض الصعوبة حين جَمْع المراجع، حيث سافرت إلى مدن داخلية وخارجية، لجمع المراجع المتعلقة بهذا الموضوع. ولا يفوتني في هذا المقام أن أقدِّم باقة شكر معطرة بالتقدير والوفاء إلى كل من ساعدني في إعداد هذا البحث، وعلى رأسهم فضيلة الشيح: سعد الخراشي المشرف على هذا البحث، والدكتور: سامي السويلم، والدكتور: عبد الله السعيدي. وإلى كل مَنْ ساعدني من موظفي البنوك، وأسأل الله عز وجل أن يوفِّقنا إلى كلِّ ما هو خير في الدنيا والآخرة. (1/21) ________________________________________ التمهيد المبحث الأوَّلُ تعريفُ التَّورُّقِ الفرديِّ لغةً، واصطلاحًا المطلب الأول: تعريفُ التَّوَرُّق لُغَةً التَّوَرُّقُ لغةً مأخوذٌ من الوَرِقِ، بفتح الواو وكسر الراء، وهي الدَّراهمُ المضروبة (1). والوَرِقُ أيضًا -بفتح الراء-: المالُ من دراهمَ وإبل، وقال أَبو عبيدة: الوَرِقُ: الفِضَّة، كانت مضروبةً كالدَّراهمِ أو لا (2) ومن ذلك قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} (3) أي: بدراهِمِكُم. والتَّوَرُّقُ: طَلَبُ الوَرِق، كما تقول: التَّفَقُّهُ، وهو طَلَبُ الفقه والتعلُّم، وهو طَلَبُ العِلْمِ، وقدْ ذَكَرَ عُلَماءُ اللغَةِ أَنَّ في الوَرِقِ ثلاثَ لغاتٍ: (وَرِق) و (وَرَق) و (وَرْق) (4). ومِنْ خِلالِ الاطِّلاعِ على كُتُبِ أهلِ اللغةِ، يُلاحَظُ أنَّ الأفعالَ التي ذَكَروها __________ (1) مختار الصحاح، للرازي (1/ 299). (2) لسان العرب، لابن منظور (10/ 375). (3) سورة الكهف آية (19). (4) مختار الصحاح، للرازي (1/ 299). (1/23) ________________________________________ تَنْحَصرُ في الإِيراقِ والاسْتيراقِ، فَيُقالُ: أَوْرَقَ الرَّجُلُ، إِذا كَثُرَ مالُهُ، ويُقالُ: المسْتَورِقُ، لِلَّذي يَطْلبُ الوَرِقَ، وورَّقتِ الشَّجرةُ تَورِيقًا، وَأَوْرَقَتْ إِيْراقًا، إذا أخرجتْ وَرَقَها (1)، ولم يَذكُروا مُصْطَلَحَ التَّوَرُّقِ، وَلَعلَّ الفُقهاءَ وَضَعوا اصْطِلاحَ التَّوَرُّقِ في كتُبهِم لِمَنْ يَتَكلَّفُ الحصولَ على الوَرق، فالتَّوَرُّقُ بِصُورتِهِ التي ذَكروها في كُتُبِهم فيها تَكَلُّفٌ وجهْدٌ للحصولِ على الورق، فأصْلُ التَّوَرُّقِ إذًا طَلَبُ النُّقودِ مِن الفضَّةِ، ثمّ تحوَّلَ المفهومُ إلى طَلَبِ النَّقْدِ عمومًا، سواء أكانَ النَّقدُ فِضةً، أمْ ذَهبًا، أم أوراقًا نقدية، وبذلك نعرفُ أنَّ مدلولَ لَفظِ التَّوَرُّقِ قد توسَّعَ بناءً على التَّوسُّعِ في مفهوم النَّقْدِ (2). * * * المطلب الثاني: تعريفُ التَّوَرُّقِ اصطلاحًا الْمَسْأَلَةُ الأولى: التَّحقيقُ في استعمالِ مصطلحِ التَّوَرُّقِ عند الفقهاء: الجديرُ بالذِّكْرِ أنَّ مصْطلحَ التَوَرُّقِ لم يرِدْ بهذهِ التَّسْميةِ في كتبِ الفُقهاءِ إلا عندَ بَعضِ فقهاءِ الحَنابلةِ، يقولُ شمسُ الدِّينِ بنُ مُفْلِح -رحمه الله-: "وَلَوِ احْتاجَ إلى نَقْدِ ما يُساوي مِئَة بِمئَتَيْن فلا بَأْس، نصَّ علَيه، وهو التَوَرُّقُ" (3). وقال البهوتيُّ -رحمه الله-: "ولو احتاجَ إنسانٌ إلى نَقْدٍ فاشتَرى ما يساوي مِئَة بمِئة وخمسين مثلًا، فلا بأسَ بذلك، وهي مسألةُ التَّوَرُّقِ" (4) وكذلك المرداويُّ ذَكَرَ التَّوَرُّقَ في كتابه (5). __________ (1) لسان العرب، لابن منظور (10/ 375). (2) انظر: حكم التَّوَرُّق كما تجريه المصارف الإسلامية، عبد الله المنيع (5). (3) الفروع (4/ 126). (4) كشاف القناع (3/ 186). (5) الإنصاف (4/ 337). (1/24) ________________________________________ وَلَعلَّ أَوَّلَ مَن تَحَدَّثَ عن حُكمِ التَّوَرُّقِ بِشَكلٍ مُفَصَّلٍ هو شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمية -رحمه الله-، فقد تحدَّثَ عَن حُكْمِه في مجموع الفتاوى (1)، وكذلك ابنُ القَيِّمِ في (إعلامِ الموقعين) (2)، غير أنه قد وَرَدَ ما يدلُّ على أَنَّ هذا المصطلحَ معروفٌ عندَ السَّلَفِ، فقدْ نَقَلَ شيخُ الإسلامِ عن عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ - رضي الله عنه - قوله: (التَّوَرُّقُ آخيةُ الرِّبا) (3). ويقول ابنُ القيِّمِ: "وقدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في كَراهيتِها -أَي: صورة التَّوَرُّقِ- فكانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العزيزِ يَكْرهُها، وكان يقول: التَّوَرُّقُ آخيةُ الرِّبا، ورخَّص فيها إياسُ بنُ معاوية" (4). وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ مُصْطَلَحَ التَّوَرُّقِ مَعروفٌ عندَ السَّلَفِ. وممَّا سبقَ يَتَّضِحُ أنَّ ابْنَ تيميةَ، وابنَ القيِّمِ، وشمسَ الدِّينِ بن مُفْلِح، والبهوتي، والمرداوي، هم الذين ذكروا مصطلحَ التَّوَرُّقِ في كتبِهم، ولم يذكرْهُ الباقونَ مِن فُقهاءِ الحنابِلَةِ. وأمّا بقيَّةُ المذاهبِ الأُخرى فَلَمْ يَذْكُروا التَّوَرُّقَ بهذا الاسمِ، وإنَّما يتعرَّضونَ لِحُكْمه عندَ حديثِهِمْ عَنِ العِيْنَة، فالحنفية، لم يذكروا مصطلحَ التَّوَرُّقِ، وإنْ كانتْ صورةُ التَّوَرُّقِ موجودةً عندهم، ويذكرونها كَصُورةٍ جائزةٍ مِن صُوَرِ العِيْنَة، فقد ذكر بعضُهم تفسيرَ العِيْنَة، التي وَرَدَ النَّهْيُ عنها بتفسيرٍ هو عَيْنُ __________ (1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 302 - 303). (2) إعلام الموقعين (3/ 170). (3) في الحقيقة أني لم أجد هذا اللفظ في كتب الآثار، ولم يذكره سوى ابن تيمية في مجموع الفتاوى (29/ 303) وابن القيم في تهذيب السنن (5/ 108) وإعلام الموقعين (3/ 170) والذي وجدته في مصنف ابن أبي شيبة أن عمر بن عبد العزيز عبَّر بالعينة ولم يذكر التَّورُّق، فقد جاء في المصنف: جاء كتابُ عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد: إنه من قبلك عن العينة فإنها أخت الربا. انظر: مصنف ابن أبي شيبة: من كَره العينة (4/ 282). (4) تهذيب السنن (5/ 108). (1/25) ________________________________________ التَّوَرُّقِ، فقالوا: "أن يأتيَ الرجلُ المحتاجُ إلى آخر، ويَسْتَقْرِضُه عشرةَ دراهم، ولا يرغبُ المقرضُ في الإقراض. . . فيقول: لا أقرضك، ولكن أبيعكَ هذا الثوبَ إن شئتَ باثني عشر درهمًا، وقيمتُه في السُّوقِ بعشرة، ليبيعه في السُّوق بعشرة، فيرضى به المستقرضُ فيبيعه كذلك، فيحصلُ لِرَبِّ الثَّوبِ درهمان، وللمشتري قَرْضُ عشرة" (1). وقال أَبو يوسف: "العِيْنَة جائزةٌ، مأجورٌ مَنْ عَمِلَ بها" (2)، وَيُحْمَلُ قَولُه على عَدَمِ عَوْدِ السِّلْعَةِ إلى بائعها الأول، كما سيأتي بيانه. وأمّا المالِكيةُ فلا يوجَدُ عندَهم ذِكْرٌ لمصْطَلحِ التَّوَرُّقِ صراحة، غيرَ أنَّهمُ اشْترَطوا لِكَراهةِ العِيْنَة أَنْ تُباعَ السِّلْعَةُ إلى البائعِ الأوَّلِ فَخَرَجَ مِن ذلكَ التَّوَرُّق (3)، إِضافةً إلى أَنَّ البعضَ مِنْهم ذَكَرَ صُورًا للتَّوَرُّقِ مِن غَيرِ أنْ يُطْلِقَ مُصطلحَ التَوَرُّقِ على تِلكَ الصُّوَرِ (4). وفُقَهاءُ المالِكيَّةِ يَذكُرونَ بيْعَ العِيْنَة تحتَ بُيُوعِ الآجالِ التي ظاهِرُها الجَوازُ، غيرَ أنَّها تؤدِّي إلى الممْنوعِ (5)، وَلذلكَ فإنَّ الباحِثَ عن حُكْمِ التَّوَرُّقِ عندَ المالكيةِ، يَجدُهُ تحت كِتاب بُيُوعِ الآجالِ، ولا يجدُهُ صريحًا بِلَفْظِ التَوَرُّقِ، __________ (1) حاشية ابن عابدين (5/ 273). (2) المرجع السابق (5/ 273). (3) انظر: حاشية الدسوقي (3/ 77). (4) انظر: البيان والتحصيل، لابن رشد (7/ 86، 90) الخرشي على مختصر خليل (5/ 106) المقدمات والممهدات، لابن رشد (2/ 524، 528) عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس (2/ 689). (5) انظر: التاج والإكليل، لابن أبي القاسم العبدري (4/ 303 - 308) والشرح الكبير، لأحمد الدردير (3/ 76). (1/26) ________________________________________ وإنَّما يُذكَر كصورةٍ مِن صُوَرِ العِيْنَة، أو أنَّهُ يخرجُ من كلامِهِم عندَ اشْتِراطِهم لِكَراهِيَةِ العِيْنَة. وأمّا الشافِعيّةُ فَلم يَذْكُروا مصطَلَحَ التَّوَرُّقِ في كُتبِهم، ولم يَتَطَرَّقُوا لِحُكْمِهِ، والسببُ في ذلك: أنّ جمهورَ الشافعيَّةِ يرَوْنَ جَوازَ بَيْعِ العِيْنَة، فَالتَّوَرُّقُ يَكونُ أولى بِالجَوازِ مِن العِيْنَة (1). مِمَّا سَبَقَ يَتَّضِحُ أنَّ مُصْطلحَ التَّوَرُّقِ بهذهِ التَّسميةِ هو مَشْهورٌ عندَ البَعضِ مِن فُقهاءِ الحنابلةِ لا كلّهم، والمذاهبُ الأخرى لم يُصَرِّحوا بهذا المصطلحِ، وإنَّما يَذْكُرونَ التَّوَرُّقَ كَصورةٍ مِن صُوَرِ العِيْنَة، كما عندَ الحَنَفِيَّةِ والمالكيَّةِ، أو أنَّهُ يخرجُ مِن كَلامِهم عنِ العِيْنَة، كما عندَ الشافعيَّةِ. الْمَسْأَلَةُ الثّانيةُ: تَعريفُ التَّوَرُّقِ اصطلاحًا التَّوَرُّقُ في اصطلاحِ الفُقهاءِ هو: (أنْ يَشتريَ الرَّجلُ السِّلْعَةَ نَسِيئَةً، وبَبِيعَها نَقْدًا لِغَيْرِ بائِعِها) وهذا التَّعريفُ يُفْهَمُ مِن كَلامِ الفُقهاءِ الَّذينَ تَحَدَّثوا عَنِ التَّوَرُّقِ (2)، فَهُم لمَّا تَحَدَّثوا عَنهُ اكْتَفوا بِذِكْرِ صُورَتِه، وَوَصْفِه مِن غَيرِ النَّصِّ على التَّعريفِ، وَقدْ ذَكَرَ الباحثونَ في (الموسوعَةِ الفِقْهيةِ) تَعريفَ التَّوَرُّقِ فقالوا: "أنْ يَشتريَ سلعَةً نسيئةً، ثمّ يبيعَها نَقْدًا لِغَيرِ البائعِ، بِأَقَلّ مِمّا اشْتَراها بِهِ، لِيَحْصلَ بِذلكَ على النَّقْدِ" (3) وَرُبما يكونُ هذا التعريفُ أَدَقَّ مِنَ التَّعريفِ السَّابِقِ، ذَلكَ لأنَ التَّعريفَ السّابِقَ لم يَذْكُرْ أنَّ الْمُتَوَرِّقَ يَبيعُ السِّلْعةَ بِأَقَلّ مما اشْتراها بِهِ، وهَذا __________ (1) انظر: الأم، للشافعي (7/ 297) وانظر: روضة الطالبين، للنووي (3/ 417). (2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 302). إعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 170) الفروع، لابن مفلح (4/ 126). كشاف القناع، للبهوتي (3/ 186). (3) الموسوعة الفقهية الكويتية (14/ 147). (1/27) ________________________________________ قَيْدٌ يُفيدُ في فَهْمِ التَّوَرُّقِ على نَحوٍ أَفْضَلَ؛ لأَنَهُ يَسْتَحيلُ على الْمُتَوَرِّقِ أَنْ يَبيعَ السِّلْعَةَ نَقْدًا بِنَفْسِ تَكْلِفَتِها بِالأَجَلِ. وَمِثالُ التَّوَرُّقِ: أَنْ يَأتيَ شَخْصٌ مُحتاجٌ لِلنَّقدِ إلى بائعِ التَّمْرِ، فَيشتري المحتاجُ مِئةَ صاعٍ بِأَلفٍ وَخمسِمئة نَسيئةً، ثمَ يأخُذ المحْتاجُ هذا التَّمْرِ، وَيَبيعهُ على غَيرِ البائعِ بِأَلْفٍ نَقْدًا لِيَحْصلَ بِذلكَ على النُّقودِ. وَقدْ عَرَّفَ مجمعُ الفِقهِ الإِسلامِيّ التَّوَرُّقَ بِقَولِهِ: هو شِراءُ سِلْعَةٍ في حَوْزَةِ البائِعِ وَمُلْكِهِ بِثَمَنٍ مؤجَّل، ثمَّ يَبيعُ المشتَري بِنَقْدٍ لِغَيرِ البائعِ لِلحُصولِ على النَّقْدِ (1). وقالَ الشَّيخُ عبدُ العزيزِ بنُ باز -رحمه الله-: "أمّا إذا كانَ المشتري اشْتَرى السِّلْعَةَ إلى أَجَلٍ لِيَبيعَها بِنَقْدٍ بِسَببِ حاجَتِهِ إلى النَّقْدِ في قَضاءِ الدَّينِ، أَو لِتَعْميرِ مَسْكَنٍ، أَو لِلتَّزْويجِ. . فَهَذهِ المعامَلَةُ تُسَمَّى عِندَ الفُقهاءِ (التَّوَرُّق)، وَيُسمِّيها بَعضُ العامَّةِ (الوعدة) " (2). وبالنَّظَرِ إلى التَّعارِيفِ السَابِقةِ نَسْتنتِجُ أنَّ العَناصِرَ الأَساسِيَّةَ للتَّوَرُّقِ ثَلاثةٌ: 1 - أنْ يَشتريَ الْمُتَوَرِّقُ السِّلْعَةَ نَسيئةً. 2 - أنْ يَبيعَها نَقْدًا. 3 - أنْ يَبيعَها على غَيرِ بائِعِها. وَيتَّضِحُ مما سَبَقَ أنَّ الْمُتَوَرِّقَ اشْتَرى السِّلْعَةَ لَيْسَ لِغَرَضِ المتاجَرَةِ بِها، وتَحْصِيلِ رِبْحٍ، وَلَيْسَ لِغَرَضِ الاسْتِخْدامِ وَالانْتِفاعِ بِها، وَإِنَّما منْ أَجْلِ إِعادَةِ بَيعِ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ أَقَلّ مِن الثَّمَنِ الذي اشْتراها بهِ، والدّافِعُ الأَساسيُّ للدُّخولِ في بَيْعِ __________ (1) انظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في القرار الخامس في الدورة الخامسة عشرة المنعقدة في مكلة المكرمة، ابتداء من يوم السبت 11/ 7/ 1419 هـ (ص 320). (2) مجموع فتاوى ابن باز (99/ 19). (1/28) ________________________________________ التَوَرُّقِ هو الحاجَةُ للسُّيولَةِ النَّقْديَّةِ لِيَسْتَطيعَ بِذلكَ تَغْطِيَةَ حاجاتِهِ النَّقْدِيَّةِ، فالْمُتَوَرِّقُ ليسَ أَمامَهُ للْحُصولِ على السُّيولَةِ سِوَى سَبيلينِ: 1 - القَرْض الحَسَن، وَليسَ هُناكَ مَنْ يُقْرِضُهُ. 2 - القَرْض بِالفائِدَةِ. فَيَلْجَأُ إلى التَّوَرُّقِ الذي يُبْعِدُهُ عَنِ الرِّبا، وَيُمَكِّنُهُ مِنْ تَغْطِيَةِ حاجاتِهِ النَّقْدِيَّةِ. (1/29) ________________________________________ المبحث الثّاني تَعْرِيفُ التَّورُّقِ المصْرِفيّ لغةً، واصطلاحًا كَثِيرًا ما نَسْمَعُ في الآوِنَةِ الأَخِيرةِ عنْ مُصْطَلَحِ (التَّوَرُّقِ المصْرِفيّ) لا سِيَّما في وَسائِلِ الإِعْلامِ المرْئِيّ مِنْها وَالمسْموعِ، ويجُدُر بِالباحِثِ أنْ يُبَيِّنَ مَعْنى هذا المصْطَلَحِ في اللغةِ وَالاصطلاحِ، وَلا داعِيَ إلى بَيانِ ما يَتعلقُ بِلَفْظِ التَّوَرُّقِ في هذا المبحث لِتَطَرُّقي لَهُ في المبحث السَّابِقِ، وَغايَةُ ما يَهُمُّ -هُنا- هو بَيانُ ما يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ المصْرفِ الذي جاءَ وَصْفًا لِلتَّوَرُّقِ. * * * المطلب الأوَّلُ تَعْرِيفُ (المصْرف) في اللغةِ والاصْطِلاحِ المصْرفُ: اسْمُ مَكانٍ يَتِمُّ فِيهِ الصَّرْفُ، وَالصَّرْفُ لغةً: رَدُّ الشَّيءِ عَنْ وَجْهِهِ، صَرَفَهُ يَصْرِفُهُ صَرْفًا فَانْصَرَفَ (1). وأمّا الصَّرْفُ عِنْدَ الفُقهاءِ: "اسْمٌ لِبَيْعِ الأَثْمانِ المطْلَقَةِ بَعْضها ببعض، وَهو بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، والفِضَّةِ بِالفِضَّةِ، وَأَحَدُ الجِنْسَيْنِ بِالآخَر، فَاحْتَمَلَ تَسْمِيَةَ هذا النّوعِ مِنَ البَيْعِ صَرْفًا لِمَعْنى الرَّدِّ وَالنَّقْلِ" (2). وأمّا الصَّرْفُ في اصْطِلاحِ الاقْتِصادِيينَ: مُبادَلَةُ عُمْلَةٍ وَطَنِيَّةٍ بِعُمْلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ (3). ومِمّا يَنْبَغي التَّنْبِيهُ عَلَيه أنَّ كَلِمَةَ (بَنْك) أَجْنَبِيَّةٌ، وَلَسْتُ مِنَ المشَجِّعِينَ على __________ (1) انظر: لسان العرب، لابن منظور (9/ 189). (2) بدائع الصنائع، للكاساني (5/ 215). (3) المعجم الوسيط (1/ 513). (1/30) ________________________________________ اسْتِخْدامِ هذه الكَلِمَةِ، وَإِنْ صارتْ مُصْطَلَحًا عُرْفِيًّا دارِجًا عندَ النّاسِ، غَيْرَ أنَّ الأَفْضَلَ اخْتِيارُ كَلِمَةٍ عَرَبِيَّةٍ أَصيلَةٍ، فَاسْتِعْمالُ كَلِمَةِ (مَصْرف) أَجْدَرُ وَأَوْلَى؛ لأَنَّها تُعْطِينا ما تُعْطِيهِ كلمةُ (بنك) منَ الدَّلالَةِ. وأمّا التَّعْريفُ الاصْطِلاحِيُّ لِلْمَصْرفِ، فَإِنَّ بَعْضَ الباحِثينَ يُشِيرُ إلى عَدَمِ وُجودِ تَعْريض مُنْضَبِطٍ لِلْمَصْرفِ، والبَعْضُ يَذْكُرُ تَعْريفاتٍ لِلْمَصْرفِ، فَقالُوا: "المصْرفُ هو مَكانٌ يَحْفَظُ النّاسُ فَيهِ أَمْوالَهم في زَمانٍ وَيسْتَردُّونَها حِينَ يَحْتاجونَ إِلَيْها، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُم بِأَنَّهُ مُنْشَأَةٌ مَحَلِّيَّةٌ يَتَعَلَّقُ عَمَلُها بِالمالِ تَنْصَبُّ عَمَلِيَّاتُها الرَّئِيسِيَّةُ على تَجْمِيعِ النُّقودِ الفائِضَةِ عن حاجَةِ الجُمْهورِ، أو مُنْشَآتِ الأَعْمالِ، أو الدَّوْلَةِ لِغَرَضِ إِقْراضِها لِلآخَرينَ، وَفْقَ أُسُسٍ مُعَيَّنةٍ، أو اسْتِثْمارِها في أَوْراقٍ مالِيَةٍ مُحَدَّدَةٍ" (1). * * * المطلب الثّاني تَعْريفُ التَّوَرُّقِ المصْرفيّ الْمَسْأَلَةُ الأُولى: اختِلافُ مسَمّياتِ (التَّوَرُّقِ المصرفيّ) أُريدُ أنْ أُبيِّنَ -قَبْلَ بَيانِ التَّعريفِ- أنَ هذه المعامَلَةَ المعْنِيَّةَ بِالدِّراسَةِ في هذا البَحْثِ يُسَمِّيها البَعْضُ بِالتَّوَرُّقِ المنَظَّمِ (2)، والبَعْضُ يُسَمِّيها بِالتَّوَرُّقِ المصْرفيّ (3)، وَكِلا التَّسْمِيَتَيْنِ صَحيحةٌ، فَمَنْ سَمّاها (بِالتَّوَرُّقِ المصْرفيّ) فَإِنَّهُ يَنْسِبُ هذه المعامَلَةَ إلى المَصارَف، وَمَنْ سَمّاها (بِالتَّوَرُّقِ المنَظَّمِ) فَلأَنَّ هذه __________ (1) انظر: المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، عبد الرزاق الهيتي (30، 32). (2) انظر: التَّوَرُّق والتَّوَرُّق المنظم، سامي السويلم (59). (3) انظر: التَّوَرُّق كما تجريه المصارف، محمد العلي القريّ (13)، وانظر: حكم التَّوَرُّق كما تجريه المصارف الإسلامية في الوقت الحاضر، عبد الله المنيع (3). (1/31) ________________________________________ المعامَلَةَ تَقومُ على تَنْظيمٍ بينَ أَطْرافٍ عِدَّة، يَكونُ العَميلُ والمصْرفُ أَساسِيَّيْن في هذه المعامَلَةِ، إِضافَةً إلى أَطْرافٍ أُخْرى سَأُفْصِحُ عنهم في ثَنايا هذا البَحْثِ. وَحِينَ النَّظَرِ إلى البُنوكِ المعاصِرَةِ نَجِدُ أنَّها تطْلَقُ على هذه المعاملةِ أَسْماء خاصَّة بِها، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ البُنوكِ، فَالبَنْكُ العَرَبِىُّ الوَطَنيُّ يُطْلِقُ على هذه المعاملةِ بـ (التَّوَرُّق المبارَك)، والبَنْكُ الأَهْلِيُّ يُطْلِقُ عليها اسْمَ (تَيْسير الأَهْلِيّ)، وَالبَنْكُ السُّعودِيُّ الأَمْريكِيُّ يُطْلِقُ عليها اسْمَ (تَوَرُّق الخَيْر)، والبَنْكُ السُّعودِيُّ البَريطانيُّ يُطْلِقُ عليها اسْمَ (مال) (1)، وهذه البُنوكُ -التي ذَكرْتُها على سَبيلِ التَّمْثيلِ لا الحَصرِ- لَدَيْها اسْتِعْدادٌ لِتَغْييرِ مُسَمَّى هذه المعاملةِ في مُسْتَقْبَلِ الأَيامِ، فَالعَصْرُ الذي نَعِيشُهُ هو عَصْرُ التَجَدُّدِ والتَّحْديثِ، فقد يأتي زَمانٌ تَتَجَدَّدُ فيه هذه المسَمّياتُ، بَينما نَفْسُ المعاملةِ لم يَطْرَأْ عَليها أيُّ تَغْييرٍ، فَالكلامُ في هذا البَحْثِ يَنْطَبِقُ على المعاملةِ نَفْسِها بِغَضِّ النَّظَرِ عن مُسَمّياتِها؛ لأنِّي كما ذكرتُ أنَّ الأسْماءَ قابِلَة لِلتَّغْييرِ وَالتَّحْديثِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَعْريفُ التَّوَرُّقِ المصْرفيّ اصْطلاحًا: التَّوَرُّقُ المصْرفيُّ مُعامَلَةْ جَديدَةٌ ظَهَرَتْ في الآوِنَةِ الأَخيرَةِ، وتُعْتَبُر صِيغةً مِنْ صِيَغِ التَّمْويلِ التي طَرَحَتْها البُنوكُ، وقدْ تَلَقَّتْها وسائِلُ الإعْلامِ بِتَرْويجِ الإِعْلاناتِ المخْتلفَةِ عَنْها، والتَوَرُّقُ المصْرفيُ يَخْتلِفُ عنِ التَّوَرُّقِ الذي يُمارسُهُ الأفرادُ، والذي دارَ حولَهُ خِلافٌ بينَ العُلماءِ، ولذلكَ لا يُوجدُ تَعريفٌ لِهذهِ المعاملةِ عندَ الفُقهاءِ القُدامى، وَمنْ خلال الاطِلاعِ على بعضِ المجلّاتِ والبُحوثِ والمنشوراتِ التَّعريفيَّةِ التي تُصْدِرُها البنوكُ في هذا الموضوعِ، لم أَجِدْ تَعريفًا لِلتوَرُّقِ المصْرفيِّ سِوَى تَعريْفَيْن: __________ (1) انظر: بحث حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر، د. محمد الأمين الضرير (5). (1/32) ________________________________________ • التَّعْريفُ الأوَّلُ: تَعريفُ د: سامي السُّوَيلم، حَيثُ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ "قيامُ المصْرفِ، أوِ المؤَسَّسَةِ الماليَّةِ بِتَرْتيبِ عَمَلِيَّة التَّوَرُّقِ للعَميلِ، بِحيثُ يَبيعُ المصْرفُ سِلْعَةً -وَهي غالِبًا مَعْدِنٌ منَ المعادِنِ المتوفِّرةِ في الأسْواقِ الدُّوَليَّةِ- على العَميلِ بِثَمن آجل، ثمَّ يُوَكِّلُ العَميلُ المصرفَ بِبَيعِ السلعةِ نَقدًا لِطَرَفٍ آخَرَ، ويُسَلِّمُ المصْرفُ الثَّمَنَ النَّقْدِيَّ لِلعميلِ"، وقال أيْضًا: "المقْصودُ بِالتَّوَرُّقِ المنَظَّمِ هو قِيامُ البائِعِ (المصرف) بِتَرْتِيبِ عَمَلِيَةِ التَّوَرُّقِ لِلمُشْتري، بحيثُ يَبيعُ سِلعةً على الْمُتَوَرِّقِ بِثَمَن آجل، ثمَّ يَنوبُ البائعُ عنِ المشتري بِبيعِ السِّلعةِ نَقْدًا لِطَرَفٍ آخَرَ، ويُسَلِّمُ الثَّمنَ النَّقْديَّ لِلمُتَورِّقِ" (1). • التَّعْريفُ الثّاني: تَعْريفُ د. عبدِ اللهِ السّعيديّ، حيثُ عَرَّفَهُ بأنه "تَحْصيلُ النَّقْدِ بِشراءِ سِلْعَةٍ من البنكِ، وتَ****ه في بَيعِها، وقَيْد ثمنِها في حِساب المشتري" (2). وَقَدْ بَنَى تَعْرِيفَهُ هذا على أنَّ التَوَرُّقَ المصْرفيَّ يُشابِهُ التَوَرُّقَ المعْلومَ عندَ الفُقهاءِ، ويَفْترقُ عنهُ مِن جِهَةِ ما هو عَلَيهِ مِن تَنْظيمٍ صارَ وَصْفًا لازِمًا له، ومؤثِّرًا فيهِ، يَقولُ الدّكتور: "ولِذا سَيأخُذُ -أي: تَعريفُه السابِقُ- مِن تَعريفِ التَّوَرُّقِ بطَرفٍ بقدرِ ما يتَّفِقانِ فيهِ، وسَيَفْتَرِقُ عَنْهُ بِقَدرِ ما يَفْتَرقانِ فيهِ" (3). • المقارنةُ بين التَّعريفين: بعد النَّظَر والتَّأمل في التعريفين أرى أنَّ التعريفَ الأول يعطي تصوُّرًا عن المعاملة أفضل وأشمل من التصور الذي يعطيه التعريفُ الثَّاني، وذلك لسببين: __________ (1) التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتَّوَرُّق، سامي السويلم (18). (2) التَوَرُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر، عبد الله السعيدي (13). (3) المرجع السابق (13). (1/33) ________________________________________ - السبب الأول: أنَّ التعريفَ الثَّاني لم يذكرْ قيدَ الأجل، بمعنى أن العميلَ حينما يشتري السِّلعة من البنك فإنَّه يشتريها بثمني آجل، والدكتور عبد الله السَّعيدي اقتصر في تعريفه بقوله: "تحصيل النقد بشراء سِلْعة من البنك. . ." ولم ينصَّ على كون الشراءِ يكونُ بالأجل، ولا يخفى أن العنصرَ الأساسيَّ والأهمَّ في عَمَلِيَّةِ التَّوَرُّقِ -سواء كانت مصرفية أم فردية- هو الأجل، وإلا لم تنشأ هذه المعاملةُ أصلًا، بينما نجدُ أن التعريفَ الأوَّلَ قد نصَّ على أن العميلَ يشتري السِّلعةَ من المصرف بثمنٍ آجل، وبهذا القيدِ يتَضحُ المحورُ الأساسيُّ، الذي تقومُ عليها هذه المعاملة. - السبب الثاني: أنَّ التعريفَ الأوَّلَ قد أثبتَ الطَّرفَ الثالثَ في عَمَلِيَّة التَّوَرُّقِ المصرفي، بمعنى: أنَّ العميلَ بعد شرائه السَّلعة من المصرف بثمن آجل يقوم بت**** المصرف ببيعها لطرف آخر، أي: لطرفٍ ثالث، وهذا الطَرفُ تفتقرُ إليه عَمَلِيَةُ التَّوَرُّقِ، فرديةً كانت أم مصرفية، وإلا كانتِ المعاملةُ عينةً محرَّمة، فالدكتور سامي السويلم قد أثبتَ في تعريفه الطَّرَفَ الثَّالثَ، بقوله: ". . ثم يُوكِّل العميلُ المصرفَ ببيع السِّلعة نقدًا لطرفٍ آخر. . ." بينما نجدُ تعريف الدكتور عبد الله السعيدي لم يتطرَّقْ للطرف الثالث، وإنما اكتفى بقوله: "تحصيلُ النَّقد بشراءِ سلعةٍ من البنك، وت****ه في بيعها" وهذا غير مانع لدخول العينة المحرمة؛ لأنَّ البنكَ لما كان ****ًا في بيع السِّلعة، فقد يتبادرُ إلى أذهانِ البعضِ أنه يجوزُ للبنك بيعُها لنفسه، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَ البنك إذا باعها لنفسه فإنَّ المعاملة تؤولُ إلى العِيْنَة المحرَّمة. مِمَّا سبق يتَّضحُ أن التعريف الأول يعطي تصورًا عن المعاملة أكثر من التعريف الثاني لما ذُكِرَ سابقًا، إضافةً إلى أن التعريفَ الأوَّلَ قد ألمح إلى ماهية السِّلع المتداولةِ عند إِجْراء عمليات التَّوَرُّقِ، ولم يذكر ذلك في التَّعريف الثَّاني. (1/34) ________________________________________ وأما المنشوراتُ التعريفيةُ التي تصدرها البنوكُ كإعلانات لبرامجِ التَّوَرُّقِ المطروحةِ لديهم، فهي خاليةٌ من التعريفات، وليس فيها إلا بيانُ صورةِ البرنامج وتوصيفه، وبالمثال يتَّضحُ المقال: البنكُ السعوديُّ الهولنديُّ طَرَحَ برنامجًا للتَّورُّق، وسماه (تورُّق اليسر) وقد وضع البنكُ منشوراتٍ تعريفيةً توضِّحُ الآليةَ التي يسيرُ عليها البرنامجُ، وبيان الصُّورة والوصف فقط، دون التَّطرُّق إلى التعريف، فقد جاء في منشوراتهم التَّعريفية "تورُّق اليسر هو برنامجُ تمويلٍ مبنيٌّ على صفة التَّوَرُّقِ المباحة. . . وبهذا البرنامجُ يمكنُ للعميل شراءُ كميةٍ محدَّدةٍ من أي سِلْعة مقبولةٍ شرعًا، مملوكة عند البيع للبنك السُّعودي الهولندي على أساس المرابحة، ثم بَعْدَ أن يتملَّكها العميلُ يمكنُ له بيعها إلى طرفٍ ثالثٍ للحصول على ثمنها النَّقْدي" (1) وبيانهم هذا هو بمثابةِ الوَصْف والتصويرِ وليس تعريفًا، وهكذا كلُّ البنوك التي تنشرُ المنشوراتِ التعريفيةَ لإيضاح برامج التَّوَرُّقِ. __________ (1) انظر المنشورة التعريفية التي تحمل عنوان (تورق اليسر) والتي تصدرها جميع فروع البنك السعودي الهولندي. (1/35) ________________________________________ المبحث الثالث حاجةُ الحياة الاقتصادية للسُّيولة النقدية ينظرُ الإسلامُ للمال على أنه قوامُ الحياة، به تنتظمُ معايشُ الناس، وبه يستطيعُ الإنسانُ تلبيةَ حاجاته، وحُبُّ المال فطرةٌ أودعها الله سبحانه في هذا الإنسانِ العجيب، فهي فطرةٌ تُولَد مع الإنسانِ، وتنمو معه. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (1) وقال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (2). والإنسانُ مدنيٌّ بالطبع، يُولَد في المجتمع، ولا يعيشُ إلا فيه، ولو تصوَّر شخصٌ ما أن الإنسانَ قد يعيشُ خارجَ مجتمعه، فإنَ هذا ضَرْبٌ من ضُروبِ الوهم والخيال، وهذا العيشُ المشتركُ بين أبناءِ جنسه يُولِّد معاملاتٍ وتبادلاتٍ بينهم تتطلَّب وجودَ وسيطٍ تتمُّ من خلاله عملياتُ التبادل، ولذلك كانت السيولةُ النقديةُ في غايةِ الأهميَّة، فالحياةُ الاقتصاديةُ قديمًا وحاضرًا تقتضي الحصولَ على السُّيولة الكافيةِ لمتطلبات السُّوق، والعمل، والبيع، والشراء، والشَّرعُ المطهَّر لم يهدرْ قيمةَ السُّيولة، ولم ينكرْ أهميَّتها في الوسط الاقتصاديِّ، والدليلُ على ذلك: أن الإسلامَ شَرَعَ عُقُودًا تهدفُ إلى توفير السُّيولة للمحتاج مع ما تحقِّقه تلك العقودُ من فوائدَ اقتصاديةٍ، ومن ذلك: __________ (1) سورة العاديات آية (8). (2) سورة الفجر آية (20). (1/36) ________________________________________ 1 - مشروعيةُ عَقْدِ السّلم: فبيعُ السّلم يحقِّقُ السّيولة للبائع، الذي يكونُ في غايةِ الحاجة لها، ليستطيعُ بتلك السُّيولة تلبيةَ حاجاتِ المشتري. 2 - مشروعيةُ عَقْد الاستصناع: فصاحبُ العمل يفتقرُ للسُّيولة النقدية لشراءِ المواد الأولية، والتي من خلالها يستطيعُ أن يقوم بالعَمَلِيَّةِ الإنتاجيةِ المطلوبةِ منه. 3 - مشروعيةُ التَّوَرُّقِ الفردي: فإن الْمُتَوَرِّقَ حين يشتري السِّلْعة، فإنه يشتريها ليس لغرضِ إلاستهلاك، ولا لغرضِ المتاجرةِ والرِّبحِ، وإنما يفعلُ ذلك لتحصيل السُّيولةِ النقديةِ، التي بها قوامُ الحياة. 4 - مشروعيةُ المضاربة: فعقدُ المضاربة يدلُّ على أنَّ الشَّرعَ المطهَّر لم يغفلْ جانبَ السُّيولة، ولم يهدرْ قيمتها، فقد يملكُ فردٌ المالَ، ولا يملكُ الخبرةَ، وقد يملكُ آخر الخبرةَ ولا يملكُ المال، وبعقدِ المضاربةِ يعطي صاحبُ المالِ السيولةَ لذي الخبرةِ، فتستغلّ استغلالًا يعودُ على الحياة الاقتصادية بالمنافع، والخيرات (1) وحين ننظرُ إلى الأمم والشُّعوب اليوم نجدُ أن الاقتصادَ وشؤونَ الرزق، والمعاش، والسيولة النقدية يستحوذُ على كلِّ اهتمامهم وعنايتهم، بدليل أن الدولَ العظمى وما دُونها تهتمُّ بأمورِ المعاش والاقتصاد، إلى درجةِ شنِّ الحروب، والحصارات الاقتصادية لتحقيق أهدافِهم المنشودةِ، التي يُعَدُّ الهدفُ الاقتصاديّ من أكبرها (2)، ولا يخفى أن السيولةَ النقديةَ تفتقرُ إليها الحياةُ الاقتصاديةُ المعاصرة، بدليل أن الحاجةَ إلى السُّيولة دعتْ إلى إيجادِ مؤسَّساتٍ ماليةٍ يكونُ نشاطُها الأساسيُّ توفيرَ السُّيولة لمريديها بأي صيغةٍ من صيغِ __________ (1) انظر: الاقتصاد الإسلامي. حسن سري (249). (2) الإسلام ومعضلات الاقتصاد. أبو الأعلى المودودي (5). (1/37) ________________________________________ التعامل، فنشأتْ تلك المؤسساتُ، وقامت بإيجادِ صيغٍ للتمويل، تكون كفيلةً بتغطية الحاجة إلى السُّيولة (1). ولا يخفى أن متطلباتِ السُّوق، والعمل، والإنتاج تفتقرُ إلى السُّيولة النقدية، "فمستودعاتُ السِّلع مثلًا حلقةٌ مهمَّةٌ في عملياتِ إنتاج وتسويق السِّلع في الدُّول الغربية، وهي تنهضُ بدور مهمٍّ في توفير السُّيولة للمنتجين، ومعلومٌ أن الدورةَ الإنتاجيةَ لجميع السِّلع في القطاعاتِ الزِّراعية والصِّناعية تبدأ بوجودِ المال المخصَّص لشراءِ المواد الأولية، وتغطية النفقات الأساسية للعَمَلِيَّةِ الإنتاجية، ثُمَّ بعد عَمَلِيَّةِ الإنتاج يكونُ لدى المزارع، أو صاحب المصنع سِلَعًا يمكنه بيعُها في السُّوق، واستخدام ثمنها في شراء المواد الأولية، وبدء دورة جديدة للإنتاج، وهكذا، إلا أنَّ الأمورَ لا تسيرُ دائمًا بهذه الطريقة، إذ يقعُ في أكثر الأحيان أن المنتجَ لا يستطيع تصريفَ إنتاجه بمجرد الإنتاج، فتبقى في مستودعاته لفترةٍ من الزمن تطولُ أو تقصرُ. . . وفي هذه الحالة يحتاجُ ذلك المنتجُ إلى ما يُسمَّى (تمويل المخزون) فيقترضُ من البنك، لكي يقومَ بدورة في إنتاجيةٍ جديدة" (2). وغالبُ المنتجين في العصرِ الحديثِ يقومُون بالاقتراض من البنوك، لكي لا تتوقَّفَ عجلةُ الانتاج والتسويق، ولولا السيولةُ النقدية لعجزتِ القطاعاتُ الزراعيةُ والصناعيةُ عن دورتها الإنتاجية. وحين التأمل إلى حركة الصِّناعة والتِّجارة نعرفُ "أن المشروعات الصناعية والتجارية، بحاجة إلى مقادير متزايدةٍ من السُّيولة لضمانِ نموها، وارتقائها فضلًا عن اسْتِمرارها" (3). وبهذا يتَّضحُ أن __________ (1) انظر: حكم التَّوَرُّق كما تجريه المصارف. عبد الله المنيع (16). (2) التَّوَرُّق كما تجريه المصارف دراسة فقهية اقتصادية. محمد العلي القريّ (22). (3) مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي وبعض تطبيقاته. د: سعاد إبراهيم صالح (171). (1/38) ________________________________________ السيولةَ تلعبُ دورًا كبيرًا لإنعاشِ الحياةِ الاقتصاديةِ واستمرارها، وتقضي على الرُّكود والكسادِ، الذي قد يعتري الحركةَ التجاريةَ. (1/39) ________________________________________ الفصل الأول التَّوَرُّقُ الفرديُّ (الفقهى) الجديرُ بالذِّكر أنَّ عملياتِ التَّوَرُّقِ المصرفيِّ لا يمكن أن تفهمَ وتدركَ إلا بدراسةِ ما تقومُ عليه عمليات التَّوَرُّقِ في المصارف اليوم، وبقراءةِ الآليات العَمَلِيَّة للتَّوَرُّقِ المصرفي عرفت أنه لا يمكنُ تصوُّرُ التَوَرُّقِ المصرفي، وفَهْمه، وإدراكه إلا بدراسةِ ثلاثةِ أمور: 1 - مبدأ الحِيَل وموقف العلماء منها. 2 - موقف العُلَماء من بيع العِيْنَة، وعلاقتها بالتَّوَرُّقِ. 3 - موقف العلماء من التَّوَرُّقِ الفردي. ولذلك سأقومُ بدراسة هذه الأمور بشكلٍ مختصرٍ يفيدُنا في تصوُر عمليات التَّوَرُّقِ، التي تجاريها المصارفُ اليوم. (1/40) ________________________________________ المبحث الأوَّل مبدأ الحِيَل في الشَّريعةِ الإسلامية المطلب الأول معنى الحيلة لغةً، واصطلاحًا الحيلة في اللغة: هي الحذقُ، وجودةُ النظر، والقدرة على دقَّة التصرف (1). واحتال: طلب الحيلة. والحيلةُ في الاصطلاح: هي تقديمُ عَمَل ظاهر الجواز، لإبطال حُكْم شرعي، وتحويله في الظَّاهر إلى حُكْم آخر (2). وعَرَّفها البعضُ بأن يظهرَ تصرُّفًا مباحًا يريدُ به محرِّمًا مخادعة، وتوسُّلًا إلى فِعْل ما حَرَّم الله عز وجل، واستباحة مَحْظُوراته، أو إسقاط واجب، أو رفع حقّ، ونحو ذلك (3). * * * المطلب الثاني تحريرُ محلِّ النزاع لمعرفة محلِّ النزاع لا بُدَّ من بيانِ أقسامِ الحيلة من حيثُ هي، إذ تنقسمُ إلى __________ (1) انظر: لسان العرب لابن منظور (11/ 186). (2) انظر الموافقات للشاطبي (4/ 201). (3) انظر: المغني لابن قدامة (4/ 56). (1/41) ________________________________________ ثلاثة أقسام، أغلبُها محلُّ اتفاقٍ، وبعضها الآخر محل نزاعٍ واختلافٍ، ولذلك لا بُدَّ من الإفصاح عنها، ثم أبين ما هو محلُّ الاتفاق منها، والاختلاف. تنقسمُ الحيلةُ من حيثُ هي إلى ثلاثة أقسام (1) 1 - قسمٌ هو قُربة وطاعةٌ لله، إذ يُتوصَّل به إلى فعل ما أمر الله، وترك ما نهى عنه، والحيلةُ في هذا القسم مشروعةٌ ومحمودةٌ، ويُثابُ فاعِلُها، ومثالُ هذا النوع: الخداعُ بحقّ كما في الحروب، حيثُ قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الحَرْبُ خدْعَةٌ" (2). 2 - قسمٌ جائزٌ مباحٌ، ولا حَرَجَ على فاعله، ولا على تاركه، حيث يحتالُ للتوصُّل إلى الحق، أو لدفع الظلم بطرقٍ مباحةٍ لم تُوضع مُوصلة إلى ذلك، بل وُضعت لغيره، فيتَّخذها هو طريقًا إلى هذا المقصودِ الصَّحيح، ومثالُ هذا النوع: إذا سُرِقَ له متاعٌ فقال لامرأته: إنْ لم تُخْبريني مَنْ أخذه فأنت طالقٌ ثلاثًا، والمرأةُ لا تعلمُ مَنْ أخذه، فالحيلةُ للتخلُّص من هذه اليمين أن تذكرَ الأشخاصَ الذين لا يخرجُ المأخوذُ عنهم، ثم تفرد كلّ واحد وتقولُ: هو أخذه، فإنَّها تكونُ مخبرةً عن الآخذ، وعن غيره، فيبرّ في يمينه ولا تطلق. 3 - قسم فيه احتيالٌ على المحظورات، وهذا القسمُ هو الذي جرى في بعض أنواعه الخلافُ، ولذلك يلزمُ ذِكْرُ الأنواعِ الدَّارجة تحت هذا القسم، وهي كالتالي: __________ (1) انظر هذه الأقسام بتفصيل أكثر في إغاثة اللهفان، لابن القيم (2/ 94، 112) إعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 331). (2) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة (3/ 1102) رقم: (2866)، وانظر: صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب (3/ 1361) رقم: (1739). (1/42) ________________________________________ أ- الطرقُ الخفيةُ التي يُتوصَّلُ بها إلى ما هو مُحَرَّم في نفسه، ومقصودُ صاحبها كما يظهر الشَّرُّ والظلمُ كالتَّحيُّل على هلاكِ النفوسِ، وهذه الحِيَل حُكْمُها التَّحريم باتفاقٍ، كما ذكر ابنُ القَيِّم. ب- الطرقُ الخفيَّةُ التي يُتوصَّل بها إلى ما هو مُحَرَّم في نفسه، ولا يظهرُ أن مقصودَ صاحبِها الشَّر والظلم، بل يظهرُ أن قصده الخير، وهو في الحقيقةِ في باطن نفسه قَصْده الظُّلم والبغي، مثل إقرار المريض بوارثٍ وهو غيرُ وارث، إضرارًا بالورثة، وهذا حُكْمُه التَّحريم باتفاق، كما ذكر ابنُ القيِّم. ج- ما هو مُباحٌ في نفسه، لكن يتوصَّل به إلى الحرام، كالسَّفر لِقَطْع الطريق وقَتْل الأنفس، فالحيلةُ هنا مُحَرَّمةٌ، حتى ولو كانت الحيلة، جائزةً من حيثُ هي، ولكن لما كانت وسيلةً إلى مُحَرَّم حرمت لكونها توصل إلى مُحَرَّم. د- وهذا هو محلُّ النِّزاع، والذي جرى حوله خلافٌ بين العلماء: أن يقصدَ المحتالُ حَلَّ ما حَرَّمه الشَّارعُ، أو سقوط ما أوجبه بأن يأتيَ بسببٍ نَصَبَهُ الشَّارعُ سببًا إلى أمرٍ مباحٍ مقصود، فيجعله المحتالُ سببًا إلى أمرٍ مُحَرَّمٍ مقصود اجتنابه، ومثاله: الحِيَل الرَّبويةُ كالعِيْنَة الثنائية والثلاثية، والبعضُ من العلماء عَدَّ التَّوَرُّقَ الفردي والتَوَرُّقَ المصرفي من هذا النَّوع، ولهذا القسمِ أمثلةٌ كثيرةٌ، ولكن اقتصرتْ على ما يتعلَّق بموضوعِ البحث. وبهذا نعلمُ أن النَّوعَ الرَّابعَ من أنواع القسم الثالث هو محلُّ النِّزاع، وبقية الأقسامِ هي محلُّ اتفاقٍ بين العلماء، كما ذكر ذلك ابنُ القيِّم رحمه الله. (1/43) ________________________________________ المطلب الثالث موقفُ العلماء من الحِيَل أولًا: موقفُ الحنفية من الحِيَل: اشتهر عن الحنفية أنَّهم يقولُون بجوازِ الحِيَل التي هي مَحَلُّ النِّزاع، يقول السرخسي: "إن الحِيَل في الأحكامِ المخرجةِ عن الآثام جائزةٌ عند جمهور العلماء -رحمهم الله-" (1). ويقولُ الخَصَّافُ نقلًا عن محمد بن الحسن: "وإنَّما الحِيَل شيءٌّ يتخلَّص به الرجلُ من المآثم والحرام، يخرجُ به إلى الحلال، فما كان من هذا أو نحوه فلا بأس" (2). والحقيقةُ أنَّ ما قاله الحنفيةُ من جَواز هذه الحِيَل، إنَّما يقصدون الحِيَل الجائزةَ والخارجةَ عن محلِّ النِّزاع، وإلا كيف يتصوَّر أن أئمةَ الحنفية يقولُونَ بجوازِ ذلك، ولعلَّ نسبة القول بتجويز هذه الحِيَل إلى الحنفية جاء بناءً على الأسباب التالية (3): 1 - أنَّ بعضَ النَّاسِ قد ادَّعى أن لأبي حنيفة كتابًا في الحِيَل كان يفتي فيه للناس بالتَّحلل من الأحكام الشرعية، والقيود الفقهية، ولكن هذا الكتابَ لم يُعْثَرْ عليه حتى يدرس ويعرف ما فيه من تلك الحِيَل، أهي خروجٌ على الدِّين، أم هي توسعةٌ من ضيق بعضِ القيود المذهبية، وتخريج الأحكام في الدَّائرة الشَّرعية، بحيث يكونُ الدينُ يُسْرًا لا عُسْرَ فيه. يقول ابن القيم: "والمقصودُ أن __________ (1) المبسوط للسرخسي (30/ 209). (2) كتاب الخصاف في الحِيَل (4). (3) انظر: إلى هذه الأسباب بالتفصيل في كتاب (أبو حنيفة. حياته وعصره. آراؤه وفقهه) لمحمد أبي زهرة. (364، 379). (1/44) ________________________________________ هذه الحِيَل لا تجوزُ أن تنسب إلى إمام، فإن ذلك قَدْحٌ في إمامته، وذلك يتضمَّنُ القَدْحَ في الأمة، حيث ائتمتْ بمن لا يصلح للإمامة، وهذا غيرُ جائز، ولو فُرِضَ أنه حُكي عن واحدٍ من الأئمة بعضُ هذه الحِيَل المجمع على تحريمها، فإمَّا أن تكونَ الحكايةُ باطلة، أو يكون الحاكي لم يضبطْ لفظه. . . فعلمت أن هؤلاء المحتالين، الذين يفتون بالحِيَل، التي هي كُفْر أو حرام ليسوا مقتدين بمذهبِ أحدٍ من الأئمةِ وأنَّ الأئمةَ أعلمُ بالله ورسوله ودينه، وأتقى له من أن يفتوا بهذه الحِيَل" (1). 2 - كتاب (المخارج في الحِيَل)، هو كتابٌ منسوبٌ إلى محمد بن الحسن، ولكنْ جرى الاختلاف هل هو من تصنيفه أم لا، وقد ذكر هذا الاختلاف السَّرخسي حيثُ قال: "اختلف الناسُ في كتاب الحِيَل أنه من تصنيف محمد أم لا" (2)، والذي يترجَّح هو القَولُ بنسبة الكتاب لمحمد بن الحسن، وقد ذكر الكتاب الكثير من الحِيَل التي كانت منتشرةً بين أصحابِ أبي حنيفة. والحقيقة، أن الحِيَلَ المذكورةَ في كتب الحنفية هي من النَّوع المباح لا من النوع المحظور، فهي من الحِيَل المباحةِ التي يحتالُ بها على التَّوصُّل إلى الحق، أو دفع الظالم بطريقةٍ مباحة. فحيلُ الأئمة ما كانت لهدم مَقْصد الشَّارع، بل كانتْ سبيلًا لتحقيق الأغراضِ الشَّرعية ورَفْع الحرج، بل كانوا -رحمهم الله- يجتهدون في أن لا يكونَ في حِيَلِهم ما يهدمُ مقصدًا شرعيًا (3). ثانيًا: موقف المالكية من الحِيَل: ذَهَبَ المالكيةُ إلى مَنْع الحِيَل وإبطالها، جاء في الموافقات عن الحِيَل: __________ (1) إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 178). (2) المبسوط للسرخسي (30/ 209). (3) كتاب (أبو حنيفة. حياته وعصره. آراؤه وفقهه) لمحمد أبي زهرة (379). (1/45) ________________________________________ "فإن حقيقتها المشهورةَ تقديمُ عمل ظاهر الجوازِ لإبطال حُكْمٍ شرعيٍّ، وتحويله في الظاهر إلى حُكْم آخر، فمآلُ العمل فيها خَرْمٌ لقواعد الشريعة في الواقع. كالواهبِ ماله عند رأسِ الحول فرارًا من الزكاة" (1). وَسَنَدُهُم هو القَولُ بقاعدة: [سدّ الذَّرائع] التي تُعتبر من قواعد المذهب المالكي، جاء في الموافقات: "الذرائعُ حَكَّمَها مالك في أكثر أبواب الفقه؛ لأن حقيقتها التَّوسُّل بما هو مصلحة إلى مفسدة" (2)، فالقَولُ بجوازِ هذه الحِيَل يناقضُ هذه القاعدة. ثالثًا: موقف الشافعية من الحِيَل: ذَهَبَ الشَّافعيةُ إلى جواز الحِيَل بناءً على موقفهم من العقود عامة، حيث إنَّ الشافعي رحمه الله يرى أن العبرةَ في العقود بالظاهر، ولا تأثير لنية المتعاقدين على العقد، ولذلك أجاز بيع العِيْنَة -كما سيأتي - التي تُعَدُّ حيلةً من الحِيَل الرَّبوية، يقول -رحمه الله-: "لا يفسدُ عقد أبدًا إلا بالعقد نفسه، لا يفسدُ بشيء تقدّمه ولا تأخّره، ولا بتوهُّم ولا بأغلب، وكذلك كلّ شيء لا نفسده إلا بعقده، ولا نفسد البيوعَ بأن نقولَ: هذه ذريعةٌ، وهذه نيةٌ سوء" (3). ولا يعني هذا أنَّ الشَّافعيَّ يجيزُ إضمارَ نية المحرم؛ لأنه يفرقُ بين صحة العقد وبين نية العاقد، فإذا نوى شخصٌ ما هو محرم أثم، ولا يستلزمُ بطلانَ العقد عنده، يقول رحمه الله: "أصلُ ما أذهب إليه أن كلَّ عقدٍ كان صحيحًا في __________ (1) الموافقات للشاطبي (4/ 201). (2) المرجع السابق (4/ 198). (3) الأم (7/ 297). (1/46) ________________________________________ الظاهر، لم أبطله بتهمةٍ ولا بعادةٍ بين المتبايعين، وأجزته بصحَّة الظَّاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النيةُ لو أظهرت كانت تفسدُ البيع" (1). ويقول ابنُ حَجَر: "فالشَّافعيةُ يجوزون العقودَ على ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إنَّ مَنْ عملَ الحِيَل بالمكر والخديعة يأثمُ في الباطن" (2). ممَّا سبق يتبينُ أن الحِيَل لا تفسدُ العقد عندهم، ويأثم إذا نوى بالحيلة المكر، والخِداع. رابعًا: موقف الحنابلة من الحِيَل: ذهب الحنابلةُ إلى منع الحِيَل كالمالكية، جاء في (المغني): "فصل: والحِيَل كلّها محرّمة غير جائزة في شيء من الدين" (3). وقَولُهم بالمنع جاء بناءً على القول بقاعدة: [سد الذرائع]؛ لأنَّ جوازَ هذه الحِيَل يناقضُ القول بالقاعدة، يقولُ ابنُ القيم: "وتجويزُ الحِيَل يناقضُ سَدَّ الذَّرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشَّارعَ يسدُّ الطريق إلى المفاسد بكلِّ ممكن، والمحتالُ يفتحُ إليها بحيلة" (4). ممَّا سبق أستطيع، أن أقولَ: للعلماء في مسألة الحِيَل رأيان: الرَّأي الأولُ: جوازُ الحِيَل، وبه قال الشافعية، وهو منسوبٌ إلى الحنفية. الرَّأي الثاني: منعُ الحِيَل، وبه قال المالكية والحنابلة بناءً على القول بقاعدة: [سدّ الذرائع]. __________ (1) المرجع السابق (3/ 74). (2) فتح الباري (12/ 337). (3) المغني لابن قدامة (4/ 56). (4) إعلام الموقعين (3/ 159). (1/47) ________________________________________ المطلب الرابع الأدلة والترجيح الْمَسْأَلَةُ الأولى: الأدلَّة: • أدلَّة القائلين بجواز الحِيَل: الدليل الأول: قَولُه تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (1). وجه الاستدلال من الآية: أنَّ الاَيةَ فيها دلالةٌ على جواز الحِيَلِ، إذ هي تعليمٌ لأيوب عن كيفية الخروج عن يمينه التي حَلَفها، "وذلك أنَ أيوب -عليه السلام- كان قد غَضِبَ على زوجته، ووجد عليها في أَمْرِ فعلته. . . فلامَها على ذلك، وحلف إنّ شفاه الله تعالى ليضربنّها مئة جلدةٍ. . . فلما شفاه الله -عز وجل- وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخذمة التامة، والرَّحمة، والشَّفقة، والإحسان أن تقابل بالضرب، فأفتاه الله أن ياخذَ ضِغْثًا وهو الشِّمْراخُ، فيه مئة قضيب، فيضربها به ضربةً واحدةً وقد برَّت يمينه، وخرج من حِنْثه، ووفّى بنذره، وهذا من الفَرَج والمَخْرَج لمن اتقى الله تعالى، وأناب إليه" (2). وقد نوقش هذا الاستدلال بالآية: أنه لم يكنْ في شَرْعهم كفَّارة، فإنه لو كان في شَرْعِهم كفَّارة لَعَدَلَ إلى التكفير، ولم يحتجْ إلى ضَرْبِها، فكانتِ اليمينُ موجبةً للضرب عندهم كالحدود، وقد ثبت أن المحدودَ إذا كان معذورًا خفّف عنه بأن يجمعَ له مئة شمراخ، فيضرب بها ضربةً واحدةً، وامرأة أيوب كانت معذورةً لأنَّها قصدتِ الإحسانَ في الأمر، الذي لامها أيوبُ عليه السلام، فلم تكنْ تستحق العقوبةَ، فأفتى اللهُ نبيَّه أيوبَ __________ (1) سورة (ص) آية (44). (2) تفسير ابن كثير (4/ 41). (1/48) ________________________________________ عليه السلام أن يعامِلَها معاملةَ المعذور، هذا مع رِفْقها به، وإحْسانها إليه، فجمع الله له بين البرِّ في يمينه والرِّفق بامرأته المحسنة المعذورة، التي لا تستحقُّ العقوبة (1). الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخُدْري وأبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمرٍ جَنِيْبٍ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكلُّ تمرِ خيبر هكذا" قال: لا واللهِ يا رسولَ الله، إنا لنأخذُ الصَّاعَ من هذا بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعلْ، بعِ الجمعَ بالدَّراهم، ثم ابْتَعْ بالدَّراهم جَنِيبًا" (2) [متفق عليه]. وجهُ الاستدلال من الحديث: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبيعَ التَّمرَ بالدَّراهم، ثم يشتري بالدَّراهم تَمْرًا، وذلك للتخلُّص من حُرْمةِ الربا، ولا معنى للحيلةِ إلا ذلك. وقد نُوقش الاستدلال بالحديث: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يبيعَ سِلْعته الأولى، ثم يشتري بثمنها سِلْعةً أخرى، ومعلومٌ أن هذا يقتضي البيعَ الصَّحيحَ، وإذا وُجد البيعان على الوجه الصَّحيح، جاز ذلك (3)، وليس في الحديث دلالةٌ على جواز الحِيَلِ، التي هي محلُّ النِّزاع؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ الرَّجلَ أن يتخلَّصَ من الرِّبا ببيع النَّوع الرَّديء بالدراهم، ثم يشتري الجيِّد بالدَّراهم من غير تواطؤٍ، ولا مخادعةٍ، ولا احتيالٍ، ورسولُ الله __________ (1) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 131). (2) انظر: صحيح البخاري: كتاب البيوع. باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه. (2/ 767) رقم (2089) وصحيح مسلم: كتاب المساقاة. باب: بيع الطعام مثلًا بمثل (3/ 1215) رقم (1593). (3) انظر: إغاثة اللهفان (2/ 133). (1/49) ________________________________________ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أمره بهذا عرفنا أنَّ المقصودَ هو استعمالُ الطَّريق الشَّرعي النزيه، والبعيد عن الاحتيالِ. الدليل الثالث: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَرَدَ عنه استعمالُ المعاريض، وهي حيلةٌ في الأقوال، ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لقي طليعةً للمشركين وهو في نَفَرٍ من أصحابه، فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء" (1). وجه الاستدلال: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله (من ماء) قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (2) وهذه حيلةٌ للتخلُّصِ منهم. وقد نُوقش هذا الاستدلال: أنَّ هذا النَّوعَ من المعاريض جائزٌ، إذ يتخلَّص به الإنسانُ من الظُّلم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ليتخلَّص من ظُلْمِهم وشرِّهم، ثم إنَّ المعرِّض لو صرَّح بقصده لم يكنْ مرتكبًا لمحرم، بخلافِ المحتالِ، فإن قصده الظلم، وانتهاك المحرم، والتعريض لا يدلُّ على جَوازِ الحِيَلِ، إذ هو أسلوبٌ من أساليبِ الكلام في اللغةِ العربيةِ يُستعملُ لأسبابٍ عديدةٍ ذكرها أهلُ اللغة، وليس موضوعًا للحيلِ فقط. • أدلةُ القائلين بمنع الحِيَل: الدليلُ الأولُ: قَولُه تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (3). وقَولُه تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (4). __________ (1) انظر: إعلام الموقعين (3/ 191). (2) سورة الطارق آية (6). (3) سورة البقرة آية (9). (4) سورة النساء آية (142). (1/50) ________________________________________ وجهُ الاستدلال من الآيتين: أنَ الله سُبْحانه ذَمَّ أهلَ الخِداع والمكر، وأخبر أنَّ المنافقين يخادعُونَ الله وهو خادعهم، وأخبر عنهم بمخالفةِ ظواهرهم لبواطنهم، وأقوالهم لأفعالهم، وهذا شأنُ أربابِ الحِيَلِ المحرمة، فإنَّ المخادعةَ هي الاحتيالُ والمراوغةُ بإظهار أمرٍ جائزٍ، ليتوصَّلَ المحتالُ به إلى أمر محرم يبطنه (1). الدليلُ الثاني: قَولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الأعمالُ بالنيات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى" (2). وجهُ الاستدلال من الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنَّ الأعمالَ تابعةٌ للمقاصدِ والنِّيات، فإنْ نوى بالحيلة الربا مثلًا فهو مرابٍ، ومَنْ نوى الخِداعَ كان مُخادعًا. الدليل الثالث: احتج القائلون بِمَنْعِ الحِيَل بالإجماع، فقد أجمعَ أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريم هذه الحيلِ وإبطالها، وإجْماعهم حُجَّة قاطِعة، بل هي مِنْ أقوى الحُجَج، وآكدها (3). __________ (1) إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 160). (2) انظر: صحيح البخاري، باب بدء الوحي (1/ 3) رقم (1) وسنن أبي داود، كتاب الطلاق. باب فيما عني به الطلاق والنيات. (2/ 162). رقم (2201). وسنن ابن ماجه، كتاب الزهد. باب النية (2/ 1413) رقم (4227). وسنن البيهقي الكبرى، كتاب الطهارة. باب النية في الطهارة الحكمية (1/ 41) رقم (181). (3) انظر: إعلام الموقعين (3/ 173) وقد أطال ابن القيم رحمه الله في الاستدلال لهذا الإجماع بآثار من الصحابة رضوان الله عليهم، ومن ذلك قول عمر: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وأقره سائر الصحابة على ذلك، وأفتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر أن المرأة لا تحل بنكاح التحليل. (1/51) ________________________________________ المسألة الثانية: الترجيح: بعد النَّظَرِ والتَأَمُّلِ في أدلَّة القولين والمناقشاتِ الواردة، فإنه يبدو -والله أعلمُ- رجحان القولِ بمنع الحِيَلِ للأسباب التالية: 1) أن أدلةَ القائلين بمنعِ الحِيَل أقوى في الدّلالة خُصُوصًا دليل الإجماع، فإنه حُجَّة قاطعة. 2) أن أوجهَ الاستدلال من أدلَّة القائلين بجواز الحِيَل ضعيفةٌ، حيث تمَّ نقاشها بما يضعف الاستدلال بها. 3) أن الحِيَل المحرَّمة تقتضي رَفْعَ التَّحْريم مع قيام موجبِه ومقتضيه، وإسقاط الوجوب مع قيام سببه، فيلزم منها فعل المحرم، وترك الواجب، مع ما تتضمَّنه من المكر والخِداع والتلبيس، إضافة إلى أن صاحبها لا يتوبُ منها حيث لا يعدُّها ذنبًا. 4) أنَّ الحِيَل لو كانت جائزة، لشرعها الله سبحانه، وندبَ إليها لما فيها من التَّوسعة، والفَرَج للمكروب، والإغاثة للملهوف، ولو كان مقصودُ الشَارع إباحة تلك المحرَّمات، التي رتب عليها أنواع الذم والعقوبات لم يُحَرِّمها ابتداء، ولا رتب عليها العقوبة أصلًا، ولكان ترك أبوابها مفتحة أَسْهَل من المبالغةِ في سَدَّها وعَلْقها، ثم يفتحُ لها أنواع الحِيَل حتى ينصب المحتالُ عليها من كلِّ ناحية، فهذا ممَّا تُصانُ عنه الشَّرائعُ فَضْلًا عن أكملها شريعة، وأفضلها دينًا (1). __________ (1) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 94). (1/52) ________________________________________ المبحث الثاني علاقة التَّوَرُّق بالعِينَة المطلب الأول حكم العِيْنَة المَسْأَلَةُ الأولى: تعريف العِينَة لغةً، واصطلاحًا، وبعض صورها: العِيْنَة لغةً: مشتقةٌ من العين، وهو النَّقدُ الحاضرُ يحصلُ له من فوره (1). وقد جاءت كلمةُ العِيْنَة في كتب أهلِ اللغة على عِدَّة مَعَانٍ، منها: 1 - الرِّبا، يقول ابنُ منظور: "والعِيْنَة الرِّبا" (2). 2 - السَّلف، فقد جاء في مختار الصِّحاح: العِيْنَة بالكسر: السّلف. واعتان الرجل، إذا اشترى الشيء بنسيئةٍ (3). 3 - شِراء ما باع مؤجَلًا بأقلَّ من ثَمن البيع، يقول الأزهريُّ: "عيّن التاجرُ يعيّن تعيينًا وعينة، وذلك إذا باع من رجل سلعة بثمنٍ معلومٍ إلى أجلٍ مُسَمَّى، ثم يشتريها منه بأقلّ من الثَّمن الذي باعها به" (4). فالعِيْنَة تُطْلَقُ على الرِّبا والسَّلف، وأن يشتريَ الشَّيء بأكثر من ثمنه إلى أجل، ثم يبيعه منه، أو من غيره بأقل مِمَّا اشتراه. ومن الألفاظ التي جاءتْ مُرادفةً للعينة كلمة (الزَّرنقة) فقد جاء في كُتُب __________ (1) تهذيب اللغة للأزهري (3/ 207). (2) لسان العرب لابن منظور (13/ 306). (3) مختار الصحاح للرازي (1/ 195). (4) تهذيب اللغة للأزهري (3/ 307). (1/53) ________________________________________ اللغة أن الزَّرنقة هي العِيْنَة، ولهذا فقد فسَّر البعض قول عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (لا أدعُ الحَجَّ ولو تزرنقت) أي: ولو أخذت الزَّاد بالعِيْنَة، والبعضُ يقولُ: أي ولو استقيت على الزّرنوق بالأجرة، وهي آلةٌ يستقى بها من الآبار (1). تعريفُ بيع العِيْنَة اصطلاحًا: قبل الخوضِ في تعريفِ العِيْنَة عند الفُقَهاء يُستحسنُ ذِكْرُ مثالٍ على العِيْنَة، ليسهلَ فَهْم التَّعاريف عند الفقهاء، وتكونُ الصُّورةُ أوضحَ، يقول ابنُ رُشْد مُمَثَّلًا لبيع العِيْنَة: "أن يقولَ قائلٌ لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شَهْر، وأردّ إليك عشرين دينارًا، فيقول: هذا لا يجوزُ، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر، ثم أشتريه منك بعشرة نقدًا" (2). فالعِيْنَة ترجعُ فيها السِّلعة إلى البائع الأول بخلاف التَّوَرُّقِ، فليس فيه رجوعُ السِّلعة إلى البائع الأول. 1 - تعريف بيع العِيْنَة عند الحنفية: يقول السَّرخسي: "أن يبيعه ما يساوي عشرة بخمسة عشر، ليبيعَهُ المستقرض بعشرة" (3). وهذا التعريفُ في الحقيقة غير مانع لدخولِ معنى التَّوَرقُّ فيه، فإن المُتَوَرِّقَ يشتري ما يساوي عشرة بخمسة عشر بالآجل، ثم يبيعه بعشرة ليحصلَ بذلك على النقد، فالتعريفُ يفتقرُ إلى قيدٍ للتمييز بين العِيْنَة والتَّوَرُّق، ولو أضيف إلى التَّعريف ما يدلُّ على أنَّ العَمَلِيَّة جرتْ بين البائع والمشتري فقط، دون تدخُّل طرفٍ ثالث لكان أولى وأسلم، إذ لا فارقَ جوهري بين التَّورُّق والعِيْنَة سوى دُخُول الطَّرف الثالث في المعاملة، غير أنه يمكنُ معرفة السبب الذي جَعَلَ __________ (1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لأبي السعادات الجزري (2/ 301). (2) بداية المجتهد لابن رشد القرطبي (2/ 106). (3) المبسوط (14/ 36). (1/54) ________________________________________ السَّرخسيَّ يقول بهذا التعريف، فالحنفيةُ يوردون التَّوَرُّق ضمن صور العِيْنَة كما ذكرت سابقًا في تعريف التَّوَرُّق، وهم لم يصرِّحوا بذكر التَّوَرُّق استقلالًا، وإنَّما يذكرونه كصورةٍ جائزةٍ من صُور العِيْنَة، ولذلك صار تعريفُ بعضِ الحنفيةِ للعينة شاملًا للتَّورُّق الجائز، بناءً على أن التَّوَرُّقَ صورةٌ من صور العِيْنَة. وعرَّفها بعضُهم بأنها شراءُ ما باع بأقلّ ممَّا باع قبل نقد الثمن (1)، وهذا التعريفُ فيه تمييزٌ للعينة عن التَّوَرُّق؛ لأنه يعطي ما يفيد أن المعاملةَ قد حصلتْ بين طرفين فقط، وأن البائعَ الأولَ عاد ليكونَ مشتريًا للسِّلعة التي باعها. 2 - تعريفُ بيع العِيْنَة عند المالكية: المالكيةُ يذكرونَ العِيْنَة تحت بيوع الآجال، وُيعرِّفونها بأنها "بيعُ المشتري ما اشتراه لبائعه، أو ل****ه لأجل" (2). ويُلاحظ في التعريف أنه ذَكَر ال****َ، وهو لا يُعَدُّ طرفًا ثالثًا؛ لأنَّ ال****َ في مقام الموكّل، ويأخذ أحكامه، والتعريفُ فيه نَصٌّ على إمكانيةِ دخول الوكالةِ في عمليات التَّمويل، سواء كان ذلك تورُّقًا أو عينة، وقد يكونُ دخولُه حيلةً لاستحلال ما حرَّم الله، فمن يرى عمليات التَّوَرُّق التي تجريها المصارفُ اليوم، يجد أنَّها قائمةٌ على الت****، وسيأتي بيانُه في الفصل الثاني. وعرَّفها بعضُهم: "بأن يبيعَ الرجلُ الرجلَ السلعةَ بثمن معلوم إلى أجلٍ، ثم يشتريها منه بأقلّ من ذلك الثمن" (3)، وعرَّفها بعضُهم بقوله: "بيع من طلبت منه سِلعة للشِّراء، وليست عنده لطالبها بعد شرائها لنفسه من آخر" (4). __________ (1) انظر: البحر الرائق لابن نجيم (6/ 256). (2) الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير (3/ 116). (3) مواهب الجليل لأبي عبد الله محمد المغربي (4/ 404). (4) الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير (3/ 129). (1/55) ________________________________________ والحقيقةُ أنَّ التعريفَ الأخيرَ لا ينطبقُ على العِيْنَة بصورتها المعروفة، ولا على التَّوَرُّق كذلك، وإنما يُعَدُّ تعريفًا للصيغة التمويلية المعاصرة، التي طرحتها البنوكُ مؤخرًا، والتي تُسَمَّى بيع المرابحة للآمر بالشراء، وقد أجازها العلماءُ بشروط خاصة (1). 3 - تعريفُ بيع العِيْنَة عند الشافعية: قال النَّووي: "هو أن يبيعَ غيره شيئًا بثمنٍ مؤجَّل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبضِ الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدًا" (2). وحين التَّأمُّل في هذا التَّعريف نلحظُ أنَّ الشَّافعية قد أضافوا في التعريف قيد التَّسليم بقوله: (ويسلمه إليه) بمعنى أن البائعَ إذا باع السِّلعة، فلا بُدَّ أن تكونَ في قبض المشتري قبل أن يشتريها البائعُ بثمن أقل، وهذا القيدُ لم يردْ عند المذاهب الأخرى في تعريفهم للعينة، بينما نجدُ أن فقهاءَ الشَّافعية قد نصُّوا على قبضِ المشتري للسِّلعة قبل بيعها للبائع أو غيره بثمن أقلّ، يقولُ الشَّافعي -رحمه الله-: "فإذا اشترى الرجلُ من الرجل السِّلْعَةَ فقبضه، وكان الثمنُ إلى أَجَل، فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه، ومن غيره بنقد أقل أو أكثر، ممَّا اشتراه به، أو بدينٍ كذلك، أو عرض" (3) وكذلك نصَّ البغويُّ -رحمه الله- على القبض عند تطرُّقه للعينة، فقال: "بابُ الرجل يبيعُ الشيء إلى أجل، ثم يشتريه بأقل: إذا باع شيئًا إلى أجل وسلم، ثم اشتراه __________ (1) انظر: تجربة البنوك التجارية السعودية في بيع المرابحة للآمر بالشراء. عبد الرحمن الحامد (82). (2) روضة الطالبين (3/ 417). (3) الأم (3/ 78). (1/56) ________________________________________ قبل حلول الأجل، يجوزُ، سواء اشتراه بمثل ما باع، أو أقل أو بأكثر، كما يجوز بعد حلول الأجل" (1). ويقولُ الأنصاري: "وهي -أي: العِيْنَة- أن يبيعَ عينًا بثمنٍ كثير مؤجَّل، ويسلمها له، ثم يشريها منه بنقد يسير" (2). ممَّا سبق يتَّضحُ أن بعضَ الشافعية يضيفون قيدَ القبض في تعريفهم للعينة، سواء عبروا بالقبضِ كالشَّافعي، أو بالتسليم كالنَّووي، والبغوي، والأنصاري، وهذا بناءً على قولهم بجواز العِيْنَة، إذ يرون أن بيعَ العِيْنَة عقد سالم من المفسدات، والمُلك قد تمَّ بالقبض، فصار البيعُ من البائع ومن غيره سواء، وإذ لم يوجدِ القبض، فإن ذلك يوحي بفساد نيةِ المتبايعين، التي يترتَّب عليها بطلان البيع؛ لأنّ عدمَ القبضِ يعطي دلالةً على أن نيةَ المتبايعين هي القَرْض بزيادة، واتخذت صورة البيع حيلةً لاستحلال الرِّبا، فالشَّافعيةُ ينصُّون على القبض، لكي يثبتوا أن البيعةَ الثانيةَ ليست من البيعة الأولى بسبيل، وإذا كان كذلك فهو جائزٌ عندهم. 4 - تعريفُ بيع العِيْنَة عند الحنابلة: يقول ابنُ قدامةَ: "مَنْ باع سلعةً بثمنن مؤجَّلٍ، ثم اشتراها بأقل منه نقدًا لم يجز" (3)، وهذا التعريفُ فيه تمييز للعينة عن التورق؛ لأنه أفاد أن المعاملةَ انحصرتْ بين طرفين. من خلال التَّعريفاتِ السَّابقةِ نستنتجُ أن بيعَ العِيْنَة يقومُ على ثلاثةِ عناصر: 1 - أن يشتريَ المُحتاجُ للنقد السلعة نسيئة. __________ (1) التهذيب (3/ 489). (2) أسنى المطالب (2/ 41). (3) المغني لابن قدامة (4/ 127). (1/57) ________________________________________ 2 - أن يبيعها نقدًا بأقلّ من الثَّمن المؤجَّل. 3 - أن يبيعها على بائعها، فتكونُ المعاملةُ في العقد الأول والثاني بين طرفين فقط. بعضُ صُور العِيْنَة ذَكَر الفقهاءُ صورًا كثيرة للعينة في كتبهم، واختلفوا في حُكْمِها، ولن أذكرَ من الصُّور إلا ما يخدمُ موضوعَ بحثي، ومن تلك الصُّور التي ذكرها الفقهاء: 1 - رُوي عن أحمد أنه قال: "العِيْنَة أن يكونَ عند الرجل المتاعُ، فلا يبيعُه إلا بنسيئةٍ" (1). وقال ابنُ عقيل: "إنما كره النَّسِيئة لمضارعتها الرِّبا، فإن الغالبَ أن البائعَ بنسيئةٍ يقصدُ الزِّيادةَ بالأجل" (2). 2 - أن يبيعَ السِّلْعةَ على المشتري بثمنٍ مؤجَّل، ثم يقومَ المشتري ببيع السِّلعة على بائعها الأول بثمن أقل نقدًا، وهذه الصُّورةُ تُسَمَّى (العِيْنَة الثنائية) لأنها تمَّتْ بين اثنين، وهذه الصُّورةُ هي التي اشتهرتِ العِيْنَة بها. 3 - أن يبيعَ السِّلْعَةَ على المشتري بثمنٍ مؤجَّل، ثم يقومَ المشتري ببيعها على طرفٍ آخر غير البائع الأول، ليبيعَها هذا الطرف على البائع الأول، ويأخذ منه الثَّمن فيسلمه للمشتري الأول، وهذه الصُّورةُ تُسَمَّى (العِيْنَة الثلاثية) لأنها حصلتْ بين ثلاثة أطرافٍ، وقد جيء بالطَّرف الثالثِ حيلة على العِيْنَة، التي هي حيلة لاستحلال الرِّبا، فقد جاء في البيان والتحصيل: "وسُئِل مالك عن رجلٍ ممَّن يعين يبيعُ السلعة من الرجل بثمنٍ إلى أَجَلٍ، فإذا قبضها منه ابتاعها منه رجلٌ حاضرٌ كان قاعدًا معهما، فباعها منه، ثم إنَّ الذي باعها الأول اشتراها منه __________ (1) المرجع السابق (4/ 127). (2) المرجع السابق (4/ 128). (1/58) ________________________________________ بعد، وذلك في موضعٍ واحدٍ، قال: لا خيرَ في هذا، ورآه كأنه مُحَلل فيما بينهما (1). وجاء في حاشية ابنِ عابدين مُمَثَّلًا للعينة: "أن يدخلا بينهما ثالثًا، فيبيع المقرضُ ثوبه من المستقرض باثني عشر درهمًا، ويسلمه إليه، ثم يبيع المستقرض من الثَّالث بعشرة، ويسلمه إليه، ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض، بعشرة، ويسلمه إليه، ويأخذ منه العشرة، وبدفعها للمستقرض، فيحصل للمستقرض عشرة، ولصاحب الثَّوب عليه اثنا عشر درهمًا" (2). المَسْأَلَة الثانية: تحرير محل النزاع: 1 - اتفق الفقهاءُ على تحريم بيعِ العِيْنَة إذا كان هناك شرطٌ مذكورٌ في نفسِ العقدِ الأولِ على الدُّخول في العقد الثاني، يقول ابنُ حزم: "ومَنْ باع سلعة بثمن مسمَّى حالة، أو إلى أجلٍ مسمى قريبًا أو بعيدًا، فله أن يبتاعَ تلك السِّلعة من الذي باعها منه بثمن مثل الذي باعها منه، وبأكثر منه، وبأقلّ حالًا، وإلى أجلٍ مسمى، أقرب مِنَ الذي باعها منه إليه، أو أبعد ومثله، كل ذلك حلالٌ لا كراهيةَ في شيء منه ما لم يكنْ ذلك عن شرطٍ مذكورٍ في نفس العقد، فإنْ كان عن شرطٍ فهو حرام مفسوخٌ أبدًا" (3). ويقولُ شيخُ الإسلام لما تطرَّق لبعض الحِيَل على الرِّبا ذاكرًا بيع العِيْنَة، منها: "وهذه المعاملاتُ منها ما هو حرامٌ بإجماعِ المسلمين، مثل التي يجري فيها شرط لذلك" (4). __________ (1) البيان والتحصيل لابن رشد القرطبي (7/ 89). (2) حاشية ابن عابدين (5/ 373)، وانظر: شرح فتح القدير، لابن الهمام (7/ 212)، والبناية شرح الهداية، لأبي محمد العيني (7/ 590). (3) المحلى (9/ 47). (4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (28/ 74). (1/59) ________________________________________ ويقولُ السُّبكي بعد ذكر الخِلاف في بيع العِيْنَة: "فإن فرض الشَّرط مقارنًا للعقد بَطلَ بلا خلافٍ، وليس محلّ الكلام، وإنما محل الكلام فيما إذا لم يكنْ مشروطًا في العقد، وذلك من الواضحات" (1). 2 - اتفق الفقهاءُ على أنه إذا اشترى ما باع بمثل ما باع، فهو جائزٌ لانعدام الشُّبهة (2). 3 - اتفق الفقهاءُ على أنَّه إذا اشترى ما باع بأكثر ممَّا باع، فهو جائزٌ لانعدامِ الشُّبهة (3). 4 - إذا تغيرت صفةُ المبيع عن حالها في البيعة الأولى تغيرًا مؤثرًا كنقص، أو عيب، جاز شراؤها ممَّن اشتراها بأقلّ من ثمن البيع ما لم يكن ذلك التغير حادثًا بفعلهما حيلة على الرِّبا "لأنَّ ذلك -أي: بيع العِيْنَة- ذريعة إلى الرِّبا، وكذا العقد الأول، حيث كان وسيلةً إلى الثاني فيحرم، ويبطل للتوصُّل به إلى محرَّم، إلا إن تغيَّرت صفته، أي: المبيع مثل أن كان عبدًا فهزل، أو نسي صنعة، أو عمي، ونحوه، فيجوزُ بيعُه بدون الثمن الأول، ويصح" (4). ويقولُ ابنُ قدامة عن نقص المبيع: "فإن نقصتْ مثل أن هزل العبد، أو نسي صناعة، أو تخرق الثَّوب، أو بلي جاز له شراؤها بما شاء؛ لأنَّ نَقْصَ الثمن لنقصِ المبيع، لا للتوسل إلى الرِّبا" (5). __________ (1) تكملة المجموع (11/ 154). (2) انظر: بدائع الصنائع للكاساني (5/ 199) وانظر: شرح فتح القدير لابن الهمام. (6/ 433). (3) انظر: البناية شرح الهداية لأبي محمد العيني (7/ 590). (4) شرح منتهى الإرادات للبهوتي (2/ 25). (5) المغني (4/ 127). (1/60) ________________________________________ 5 - إذا اشترى ما باع بأقلّ ممَّا باع بعد نقدِ الثَّمن، فهذا جائزٌ بالإجماع لانعدام شبهة الرِّبا (1). 6 - إذا اشترى ما باع بأقل ممَّا باع قبل نقد الثمن، ولم يوجدْ شرط في العقد، ولم تتغيَّر صفةُ المبيع تغيرًا مؤثرًا، فهذا هو محلُّ النِّزاع بين العلماء. المسألة الثالثة: موقفُ العلماء من بيع العِينَة: أولًا: موقف الحنفية من بيع العِيْنَة: يقول ابنُ الهمام: "ومَنْ باع جارية بألف درهم حالّة، أو نسيئة، فقبضها، ثم باعها من البائع قبل نقد الثمن بمثل ثمنه، أو أكثر جاز، وإن باعها من البائع بأقل لا يجوزُ عندنا" (2). ويقول السَّرخسي: "وذكر عن الشَّعبي أنه كان يكرهُ أن يقولَ الرَّجُلُ للرَّجل: أقرضني؟ فيقول: لا حتى أبيعك، وإنما أراد بهذا إثباتَ كراهية العِيْنَة. . . وهذا في معنى قَرْض: جَرَّ منفعة، والإقراضُ مندوبٌ إليه في الشَّرع، والغررُ حرامٌ، إلا أن البخلاء من النَّاس تطرَّقوا بهذا إلى الامتناع، مما يدنو إليه، والإقدام على ما نهوا عنه من الغرر" (3). وقال محمدُ بن الحسن -رحمه الله-: "هذا البيعُ في قلبي كأمثال الجبال ذميمٌ، اخترعه أكلة الربا وقد ذمَّهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -" (4). وقد حمل قوله هذا على بيع العِيْنَة. من خلال النُّصوص السَّابقةِ يتَّضحُ أن العِيْنَة محرَّمةٌ عند الحنفية، غير أنه __________ (1) انظر: شرح فتح القدير لابن الهمام (6/ 433). (2) شرح فتح القدير (6/ 432). (3) المبسوط (14/ 36). (4) شرح فتح القدير لابن الهمام (7/ 213). (1/61) ________________________________________ يُروى عن أبي يوسف أنه خالفَ جمهور الحنفية فقال: "لا يكرهُ هذا البيع؛ لأنه فعله كثيرٌ من الصَّحابة، وحمدوا على ذلك، ولم يعدوه من الرِّبا" (1) ورُوي عنه أيضًا أنه قال: "العِيْنَة جائزةٌ مأجورٌ مَنْ عمل بها" (2). وقد ذَكَرَ ابنُ عابدين هذا الاختلافَ بين علماء الحنفية، وأن أبا السُّعود حَمَل قول أبي يوسف على عدم عود السلعة إلى بائعها، وقول محمد على عودها (3). وبهذا يتَّضحُ أنَّ أبا يوسف لم يقصدْ بقوله بيع العِيْنَة المعروف بصُورته المشهورة بدليل أنه قال: "مأجور مَنْ عَمِلَ بها" ولم يقلْ أحدٌ بقوله هذا حتى عند الشَّافعية لما أجازوا بيع العِيْنَة قد كرهه بعضهم كما سيأتي، ولم يذكروا أنه يُؤجَر مَنْ عمل بها، وقول أبي يوسف يحتملُ احتمالين: الأول: أنه أراد بقوله هذا (بيع التَّوَرُّق) فالسِّلْعةُ إذا لم ترجعْ إلى بائعها الأول، وإنَّما باعها المشتري على غير بائعها، فهذا هو التَّوَرُّق. الثاني: يحتملُ أنه أراد بقوله هذا: (البيع بالأجل مُطْلَقًا) سواء كان المراد من البيع بالأجل التَّوَرُّق أو لا، وهذا ما أميلُ إليه؛ لأن البيعَ بالأجل يُؤجَر من عمل به إذا نوى التيسير على المشتري. ممَّا سبق يتبيَّنُ أنَّ العِيْنَة بصورتها المعروفة، والتي فيها عَوْدُ السِّلْعة إلى بائعها الأول، أنها لا تجوزُ عند أئمة الحنفية، وينبغي التنبهُ إلى أن حُكْم تحريم العِيْنَة عند الحنفية لا ينطبقُ على التَّوَرُّق الفردي المعروف، حيث إن الحنفية يذكرون التَّوَرُّقَ كصورة من صُور العِيْنَة كما ذكرت سابقًا، ولا يعني هذا أن __________ (1) حاشية ابن عابدين (5/ 325)، وانظر: شرح فتح القدير لابن الهمام (7/ 213). (2) حاشية ابن عابدين (5/ 273). (3) حاشية ابن عابدين (5/ 326). (1/62) ________________________________________ حُكْمَ التحريم يشملُ جميعَ صُور العِيْنَة التي ذَكَرها الحنفية، وإنما ينطبقُ حُكْم التحريم على الصُّورة، التي فيها عودُ السِّلْعة إلى بائعها الأول، سواء عادتْ إليه مباشرةً كالعِيْنَة الثُّنائية، أو عادت إليه بواسطة مُحلّل، التي هي العِيْنَة الثُّلاثية. ثانيًا: موقف المالكية من بيع العِيْنَة: كما ذكرت سابقًا أنَّ المالكية يذكرون بيعَ العِيْنَة تحت بيوعِ الآجال التي ظاهرها الجواز، ولكنها تُؤدِّي إلى المحظور (1)، وهم من أشدِّ المذاهب في مَنْع العِيْنَة، فهم يوجبونَ فَسْخَ مثل هذا البيع ما دامت السِّلْعةُ قائمةً، يقول ابنُ رشد: "فإذا باع الرجلُ سلعةً بثمن إلى أجلٍ، ثمّ ابتاعها منه بأقلّ من ذلك الثّمن نقدًا، فسخت البيعتان جميعًا عند ابنِ الماجشون، وهو الصَّحيحُ في النظر" (2)، ويقول أيضًا: "أصلُ ما بُنِي عليه هذا الكتاب -يعني: كتابَ بيوع الآجال- الحكم بالذَّرائع، ومذهب مالك -رحمه الله- القضاء بها، والمنع منها، وهي الأشياءُ التي ظاهرها الإباحةُ، ويتوصَّل بها إلى فِعْل المحظور، ومن ذلك البيوعُ التي ظاهرها الصحَّة، وُيتوصَّل بها إلى استباحة الرّبا، وذلك مثل أن يبيعَ الرجلُ سلعةً من رجل بمئة إلى أجلٍ، ثم يبتاعُها بخمسين نقدًا، فيكونان قد توصَّلا بما أظهراه من البيع الصَّحيح إلى سلف خمسين دينارًا في مئة إلى أجل، وذلك حرام، ولا يجوز" (3). ويقول القرافيُّ: "إنا نمنعُ أن يكونَ العقدُ الثاني من البائع الأول" (4) وذكر الدسوقي أن شُروطَ بيوع الآجال المتطرق إليها التُّهمة خمسة، وذكر منها "أن __________ (1) انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير (3/ 116) وانظر: المقدمات الممهدات. لابن رشد القرطبي (2/ 524). (2) المقدمات الممهدات لابن رشد القرطبي (2/ 535). (3) المرجع السابق (2/ 524). (4) الفروق (3/ 1056). (1/63) ________________________________________ يكونَ البائعُ ثانيًا هو المشتري أولًا، أو من تنزل منزلته، والبائعُ أولًا هو المشتري ثانيًا، أو من تنزل منزلته" (1). وحينما نتأمَّلُ نصوصَ المالكية في بيع العِيْنَة نرى أنَّهم قد بنوا حُكْمَ التحريم على قاعدة من قواعد المذهب المالكي، وهي [سدُّ الذَّريعة]، يقول الدّردير عن بيوع الآجال: "وهو بيعٌ ظاهره الجوازُ لكنه يُؤدِّي إلى مَمْنوع، فيمنع ولو لم يقصدْ فيه التَّوصُّل إلى الممنوع، سدًّا للذَّريعة، التي هي من قواعدِ المذهب. . . كبيعة سلعة بعشرةٍ لأجل، ثم يشتريها بخمسة نقدًا، فقد آل الأمرُ إلى رُجُوع السلعة، وقد دفع قليلًا عاد إليه كثيرًا" (2). ويقول الشَّاطبي: "الذَّرائعُ التي حكَّمها مالك في أكثر أبواب الفقه؛ لأنَّ حقيقتها التَّوسُّل بما هو مصلحةٌ إلى مفسدة، فإنَّ عاقدَ البيع أولًا على سلعة بعشرةٍ إلى أجل ظاهرِ الجوازِ، من جهة ما يتسببُ عن البيع من المصالح على الجملة، فإذا جعل مآل ذلك البيعِ مؤدِّيًا إلى بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، بأن يشتري البائعُ سلعته من مشتريها بخمسةٍ نقدًا، فقد صار مآلُ هذا العمل إلى أن باع صاحبُ السلعة من مشتريها منه خمسة نقدًا بعشرةٍ إلى أجل، والسِّلْعَةُ لغوٌ لا معنى لها في هذا العمل؛ لأنَّ المصالحَ التي لأجلها شُرعَ البيعُ لم يوجدْ منها شيء" (3). ثالثًا: موقفُ الشَّافعية من بيع العِيْنَة: صرَّح الإمامُ الشَّافعي -رحمه الله- بجواز العِيْنَة مخالفًا بذلك الجُمْهور، وقد أيَّد الجوازَ بقوة في كتابه (الأم) فقال: "فإذا اشترى الرجلُ من الرَّجلِ السِّلْعة __________ (1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/ 77). (2) الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير (3/ 116). (3) الموافقات (4/ 198). (1/64) ________________________________________ فقبضها، وكان الثمنُ إلى أجل فلا بأسَ أن يبتاعها من الذي اشتراها منه، ومن غيره بنقد أقل أو أكثر، ممَّا اشتراها به، أو بدين كذلك، أو عرض من العروض ساوى العرض ما شاء أن يساوي، وليست البيعةُ الثانيةُ من البيعة الأولى بسبيلٍ" (1) ويفهمُ من هذا أنه إذا كان هناك ارتباطٌ بين البيعة الأولى والثانية، فلا تصحُّ العِيْنَة عنده. وقد أطال --رحمه الله-- في التَّدليل على جَوازِ العِيْنَة، ولم يذكرْ فيه أيّ كراهة، ويقول النَّوويُّ: "ليس من المناهي بيعُ العِيْنَة، وهو أن يبيعَ غيره شيئًا بثمن مؤجَّل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قَبْضِ الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدًا، وكذا يجوزُ أن يبيعَ بثمن نقد، ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثَّمن الأول أم لا، وسواء صارتِ العِيْنَة عادة له غالبة في البلد أم لا، وهذا هو الصَّحيحُ المعروفُ في كتب الأصحاب، وأفتى أبو إسحاق الإسفراييني. . . بأنه إذا صار عادةً له صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فيبطلان جميعًا" (2) ويقولُ البغويُّ: "إذا باع شيئًا إلى أَجَل وسلم، ثم اشتراه قبل حُلُول الأجل يجوزُ سواء اشتراه بمثل ما باع، أو بأقل، أو بأكثر" (3). والجديرُ بالذِّكْر أن الشَّافعيَّ يرى العبرةَ في العقودِ بالظَّاهر، ولا تأثير لنية المتعاقدين على العَقْدِ، ولذلك أجاز بيع العِيْنَة، ويقول -رحمه الله-: "لا يفسدُ عقدٌ أبدًا إلا بالعقد نفسه، لا يفسدُ بشيء تقدّمه ولا تأخره، ولا بتوهّم ولا بأغلب، وكذلك كلّ شيء لا نفسده إلا بعقده، ولا نفسد البيوع بأن نقولَ: هذه ذريعةٌ، وهذه نيةُ سوءٍ" (4) __________ (1) الأم (3/ 78). (2) روضة الطالبين (3/ 416). (3) التهذيب (3/ 489). (4) الأم (7/ 297). (1/65) ________________________________________ ولا يعني هذا أنَّ الشَّافعيَّ يجيزُ إضمارَ نية المحرمِ؛ لأنه يفرقُ بين صحة العقدِ وبين نيةِ العاقد، فإذا نوى شخصٌ ما هو محرم، فإنه يأثمُ ولا يستلزمُ بطلانَ العقد عنده، ولذلك يقولُ: "أصلُ ما أذهب إليه أنَّ كلَّ عقد كان صحيحًا في الظَّاهر، لم أبطله بتهمةٍ ولا بعادةٍ بين المتبايعين، وأجزته بصحَّة الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النيةُ لو أظهرتْ كانت تفسدُ البيع" (1). ويقول ابنُ حَجَر: "فالشَّافعيةُ يُجَوِّزون العقودَ على ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إن مَنْ عمل الحِيَلَ بالمكر والخديعة يأثمُ في الباطن. . . فمن نوى بعقد البيع الرِّبا وَقَعَ في الرِّبا، ولا يخلِّصه من الإثم صورةُ البيع" (2). وبهذا نعرفُ أنَّ الشَّافعيةَ يرون جوازَ بيع العِيْنَة من غير كراهةٍ، غير أنَّ بعضَ المتأخِّرين من الشَّافعية يرون الكراهةَ مع صِحَّة العقد، يقولُ الأنصاريُّ: "ويُكْرَهُ بيعُ العِيْنَة. . . لما فيها من الاستظهار على ذي الحاجة، وهي أن يبيعَهُ عينًا بثمنٍ كثيرٍ مؤجَّل، ويسلمها له، ثم يشتريها منه بنقدٍ يسيرٍ، ليبقى الكثيرُ في ذِمَّتِه" (3). ويقول الرَّمْلِيّ: "البيعُ قد يُكْره كبيع العِيْنَة، وكل بيعٍ اختلف في حلِّه كالحِيَل المخرجةِ من الرِّبا" (4). ممَّا سبق أستطيعُ القولَ بأنَّ الشَّافعيةَ يُروى عنهم رأيان في بيع العِيْنَة: الأول: الجوازُ كما صرَّح به المتقدمون منهم كالشَّافعي، والنَّووي، والبغوي، ويُشترطُ للجواز أمران: __________ (1) المرجع السابق (3/ 74). (2) فتح الباري (12/ 337). (3) أسنى المطالب (2/ 41). (4) نهاية المُحتاج شرح المنهاج (3/ 477). (1/66) ________________________________________ أ- ألا يكونَ هناك ارتباطٌ بين العقدين. ب- ألا يكونَ العقدُ الثَّاني مشروطًا في العقد الأول، فإذا كان مَشْروطًا بالنَّصِّ عليه، أو بدلالة العرف والعادة، فإنهما يبطلان جميعًا، كما أفتى به أبو إسحاق الإسفراييني. الثاني: الكراهةُ كما قال به المتأخِّرون كالأنصاري، والرَّملي. رابعًا: موقفُ الحنابلة من بيع العِيْنَة: بيعُ العِيْنَة لا يجوزُ عند الحنابلة، يقول ابنُ قدامة: "وجملةُ ذلك أنَّ مَنْ باع سِلْعةً بثمن مؤخل، ثم اشتراها بأقلّ منه نقدًا لم يجزْ في قول أكثر أهل العلم، رُوي ذلك عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، والشَّعبي، والنَّخعي. . . ومالك، وأصحاب الرأي" (1). ويقولُ المرداويُّ: "فائدةٌ: لو احتاجَ إلى نَقْدٍ فاشترى ما يساوي مئة بمئة وخمسين، فلا بأس، نصَّ عليه، وهو المذهبُ، وعليه الأصحابُ، وهي مسألةُ التَّوَرُّق. . . فإنْ باعه لمن اشترى منه لم يجزْ، وهي العِيْنَة نصَّ عليه" (2). وقد سُئِلَ ابنُ تيمية عن الرَّجُلِ يبيعُ سلعةً بثمنٍ مؤجَّل، ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقلّ من ذلك الثَّمن حالًا هل يجوزُ أم لا؟ فأجاب: "أما إذا باع السِّلْعةَ إلى أجلٍ، واشْتَراها المشتري بأقلّ من ذلك حالًا، فهذه تُسَمَّى (مسألة العِيْنَة) وهي غيرُ جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وغيرهم، وهو المأثورُ عن الصَّحابة كعائشة، وابن عباس، وأنس بن مالك" (3) خامسًا: موقفُ الظَّاهرية من بيع العِيْنَة: بيع العِيْنَة جائزٌ عند الظَّاهرية إذا لم يكنْ عن شرطٍ في العقد، يقول ابنُ __________ (1) المغني (4/ 127). (2) الإنصاف (4/ 337). (3) مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 446). (1/67) ________________________________________ حَزْم: "ومَنْ باع سلعةً بثمن مُسمًّى حالة أو إلى أجل مُسَمّى، قريبًا أم بعيدًا، فله أن يبتاعَ تلك السِّلْعةَ من الذي باعها منه بثمنٍ مثل الذي باعها منه، وبأكثر منه، وبأقلّ حالًا، وإلى أجل مسمًّى، أقرب من الذي باعها منه إليه، أو أبعد، ومثله، كلُّ ذلك حلال لا كراهية في شيء منه ما لم يكن ذلك عن شرط مذكور في نفس العقد، فإن كان عن شرط، فهو حرام مفسوخ أبدًا" (1). المسألة الرابعة: الأدلة، والترجيح: بعد ذِكْر مواقف العلماءِ من بَيْع العِيْنَة والتأمُّل فيها، نستطيعُ القولَ بأن العلماءَ في بيع العِيْنَة على ثلاثة أقوال: القول الأول: المنعُ: وهو رأيُ بعضِ الصَّحابة كعائشةَ، وابنِ عباس، وبعض التابعين كابن سيرين، وهو مذهبُ جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، واختيار شيخِ الإسلام ابن تيمية. القول الثاني: الجوازُ: وهو مذهبُ الشافعي، وجُمْهور أصحابه، وبه قال ابنُ حَزْم، ورُوي الجوازُ عن أبي يوسف صاحبِ أبي حنيفة، ولكنه يحملُ على عدم عود السِّلْعة إلى بائعها الأول، كما أسلفت. القول الثالث: يُكْرَهُ كراهةً تنزيهيةً، وبه قال المتأخرون من الشَّافعية كالأنصاري، والرَّملي. الفرع الأول: الأدلة أدلة القائلين بتحريم بيع العِيْنَة: الدليل الأول: عن ابنِ عُمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذا ضَنَّ النَّاسُ بالدّينارِ والدّرهمِ، وتَبايَعوا بالعِيْنَة، واتَّبعوا أذْنابَ البقر، وتَرَكوا __________ (1) المحلى (9/ 47). (1/68) ________________________________________ الجهادَ في سبيل الله أنزلَ اللهُ بهم بلاءً، فلم يرفعْه عنهم حتى يُراجعوا دينهم" [رواه أحمد]. وروى نحوه أبو داود من رواية نافع عن ابن عمر (1). وَجْهُ الاستدلالِ من الحديث: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ الوقوعَ في هذه الأفعال بمثابةِ الخروجِ من الدِّين، فلا يخفى على مَنْ تأمل عباراتِ الحديث ذلك الزَّجر البالغ، والتقريع الشديد (2)، الذي يدل على حُرمة فعلها، فإن قوله: "حتى يراجِعوا دينهم" كأنه - صلى الله عليه وسلم - قد حَكَمَ عليهم بالخُروجِ من الدِّين، وأنه لا سبيلَ للرُّجوعِ إلى الدِّين إلا بترْكِ تلك الأشياء. وقد نُوقِشَ الاستدلالُ بهذا الحديثِ من جهتين: 1) نُوقش من جهة السَّند: أنَّ هذا الحديثَ جاء من رواية أبي عبد الرحمن الخُراساني، وهو ضعيف، يقول الزَّيْلَعِيُّ ذاكرًا قولَ ابن القطَّان: "فالحديثُ من أجله لا يصحُّ" (3)، وقال فيه ابنُ أبي حاتم: "شيخٌ ليس بالمشهور، ولا يستقلُّ به" (4)، وقال المناويُّ: "فيه أبو عبد الرحمن الخراساني، واسمه إسحاق، عدّ في الميزان من مناكيره" (5). ويقولُ الصَّنْعانيُّ شارحًا قولَ ابنِ حَجَر (في إسناده مقالٌ): "لأنَّ في إسناده __________ (1) انظر: مسند الإمام أحمد (2/ 28) رقم (4825) وانظر: سنن أبي داود: كتاب الإجارة. باب: في النهي عن العينة (3/ 274) رقم (3462) وسنن البيهقي الكبرى: كتاب البيوع. باب: ما ورد في كراهية التبايع بالعينة (5/ 316) رقم (10484). (2) انظر: سبل السلام للصنعاني (3/ 81). (3) نصب الراية للزيلعي (4/ 16). (4) الجرح والتعديل (2/ 213). (5) فيض القدير (1/ 314). (1/69) ________________________________________ أبا عبد الرحمن الخُراساني، اسمه إسحاق، عن عطاء الخُراساني، قال الذهبي في الميزان: هذا من مناكيره" (1). الجوابُ عن هذه المناقشة: عندما نرجعُ إلى كتب الحديث نجدُ أنَّ أبا عبد الرحمن الخُراساني هذا، إنما وَرَدَ في سند الحديث الذي رواه أبو داود، وأما الحديثُ الذي رواه أحمد فليس في سَنَده أبو عبد الرحمن الخُراساني، وإنما جاء سَنَدُ أحمد على النحو التالي: "حدثنا الأسودُ بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا ضَنَّ الناسُ. . ." الحديث. والحديثُ الذي رواه أحمد قد صحَّحه العلماءُ، يقولُ الزَّيْلَعيُّ ذاكرًا قولَ ابن القطَّان في الحديث الذي رواه أحمد: "وهذا حديثٌ صحيحٌ، ورجالُه ثقات" (2). ويقول ابنُ حَجَر فيما رواه أحمد: "رجالُه ثقاتٌ، وصححه ابنُ القطان" (3). ويقول أبو البركات ابن تيمية: "روي الحديثُ من طرق عدة، منها: 1 - ما رواه أحمد عن أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: سمعتُ. . . الحديث. 2 - ورواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ إلى حيوة بن شريح المصري، عن إسحاق أبي عبد الله الخراساني، أن عطاء الخُراساني حدَّثه أن نافعًا حدَّثه عن ابن عمر، قال: سمعتُ. . . الحديث. يقول -رحمه الله-: "فهذان إسنادان حَسَنان يشدُّ أحدُهما الآخر، فأما رجالُ الأول __________ (1) سبل السلام (3/ 80). (2) نصب الراية (4/ 16). (3) بلوغ المرام لابن حجر (152). (1/70) ________________________________________ فأئمةٌ مشاهير. . . فالإسناذ الثاني يبينُ أن للحديث أصلًا محفوظًا عن ابن عمر، فإنَّ عطاء الخراساني ثقةٌ مشهورٌ، وحيوة كذلك" (1) 2) وقد نُوقش من جهة المتن (2) بأمرين: الأمر الأول: أنَّ الحديثَ ليس فيه دلالةٌ صريحةٌ على التحريم؛ لأن العِيْنَة جاءتْ في الحديث مقرونةً باتباع أذناب البقر، والاشتغال بالزَّرع، وهذا غيرُ مُحَرَّم. والجوابُ عن المناقشة: أنَّ التَّحريمَ محمولٌ على مَنْ ألهتْه أمورُ الدنيا عن فِعْل الواجب، ولا ينطبقُ التحريمُ على مَنِ اشْتغلَ بالزَّرْعِ مطلقًا، يقول الشَّوكاني: "وقد حُمِل هذا على الاشتغالِ بالزَّرع في زمنٍ يتعيَّن فيه الجهاد" (3). الأمر الثاني: جاء في بعض روايات الحديث: "سَلَّطَ اللهُ عليكُم ذُلًّا"، والوعيدُ بالذُّلِّ ليس فيه دلالةٌ على التحريم. والجوابُ عن المناقشة: يقولُ الشَّوكاني: "لا نُسلِّم أنَّ التَّوعُّدَ بالذل لا يدلُّ على التَّحريمِ؛ لأن طَلَبَ أسبابِ العِزَّةِ الدينيةِ، وتَجَنُّب أسبابِ الذِّلة المنافية للدِّين واجبان على كُلِّ مؤمن، وقد توعَّد على ذلك بإنزالِ البلاء، وهو لا يكونُ إلا لذنبٍ شديدٍ، وجعل الفاعل لذلك بمنزلةِ الخارجِ من الدِّين، المرتدِّ على عَقِبه" (4). الدليلُ الثاني: عن أبي إسحاق السّبيعي عن امرأته: أنها دخلتْ على عائشة __________ (1) المنتقى من أخبار المصطفى (2/ 348). (2) انظر: المناقشة والجواب في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار (5/ 318 - 320). (3) المرجع السابق (5/ 319). (4) المرجع السابق (5/ 320). (1/71) ________________________________________ - رضي الله عنها - فدخلتْ معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري، وامرأة أخرى، فقالت أمُّ ولد زيد بن أرقم: يا أمَّ المؤمنين، إني بِعْتُ غُلامًا من زيد بن أرقم بثمانمئة درهم نسيئةً، وإنِّي ابتعتُه منه بستمئة نقدًا. فقالت لها عائشةُ: بئسَ ما اشتريتِ، وبئس ما شريت، إنَّ جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطلَ إلا أن يتوبَ" (1). وجهُ الاستدلال من الحديث: أنَّ الحديثَ فيه زَجْرٌ شديدٌ، ووعيدٌ بإبطال الأعمالِ الصَّالحة لمن كان يعاملُ الناسَ بالعِيْنَة، وهذا يدل على التحريم، ولو لم يكن عند عائشة عِلْمٌ بذلك لما قالته برأيها، فالحديثُ له حُكْمُ الرَّفع؛ لأنه لا مجالَ للرَّأي فيه. نُوقش الاستدلالُ بهذا الحديث من جهتين: 1 - نُوقش من جهة الثُّبوت: فثبوتُه فيه نَظَرٌ؛ لأنَّ امرأة أبي إسحاق السّبيعي هي العاليةُ بنت أيفع، وهي مجهولةٌ، يقولُ ابنُ حَزْم: "فأما خبر أبي إسحاق ففاسدٌ لوجوه: -وذكر منها- أنَّ امرأةَ أبي إسحاق مجهولةُ الحال، لم يَرْوِ عنها أحدٌ غير زوجها وولدها يونس، على أن يونس قد ضعَّفه شُعْبة بأقبح التَّضعيف" (2). الجوابُ عن المناقشة: يقولُ ابنُ القيم في الرَّدِّ على المناقشة: "وأيضًا فهذه امرأةُ أبي إسحاق السّبيعي -وهو أحدُ أئمة الإسلامِ الكبار-وهو أعلمُ بامرأته، وبعدالتها، فلم يكنْ يروي عنها سُنة يحرمُ بها على الأمة، وهي عنده غير ثقة، ولا يتكلَّم فيها بكلمة، بل يُحابيها في دِيْن الله، هذا لا يظنُّ بمن هو دون أبي إسحاق، وأيضًا __________ (1) سنن الدارقطني كتاب البيوع (3/ 52) رقم (219) وانظر: سنن البيهقي الكبرى، كتاب البيوع، باب: المرابحة (5/ 330) رقم (10580) ومصنف عبد الرزاق، كتاب بيوع باب: الرجل يبيع السلعة ثم يريد اشتراءها بنقد (8/ 185). (2) المحلى (9/ 49). (1/72) ________________________________________ فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلتْ على عائشة، وسمعتْ منها، وروتْ عنها، ولا يعرفُ أحدٌ قدحًا فيها بكلمة، وأيضًا فإنَّ الكذبَ والفِسْقَ لم يكنْ ظاهرًا في التابعين، بحيث تردّ به روايتهم. . . وأيضًا فلم يعرفْ أحدٌ قطُّ من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث، ولا قَدَحَ فيها من أجله، ويستحيلُ في العادة أن ترويَ حديثًا باطلًا، ويشتهرَ في الأمة، ولا ينكر عليها مُنْكِر" (1). 2 - قد نُوقش من جهة المتن: أن الإنكارَ في الحديث جاء بسبب أنَّ البيعَ كان إلى العطاء، كما جاء في بعضِ رواياتِ الحديث، وهو أجلٌ غيرُ معلوم. والجوابُ عن المناقشة: أنَّ عائشةَ - رضي الله عنها - كانت تجيزُ البيعَ إلى العطاء، فقد روى ابنُ أبي شيبة: "أنَّ أمهات المؤمنين كُنَّ يشترين إلى العطاء" (2). الدليلُ الثالث: أنَّ بيعَ العِيْنَة وسيلةٌ، وحيلةٌ تؤدي إلى الرِّبا (3)، وما كان وسيلةً إلى الحرام فهو حرامٌ، وكونها وسيلة في غايةِ الظُّهور، فإنَّ حقيقةَ المعاملة مبادلةُ دراهم بدراهم أكثر منها، والسِّلْعَةُ لغوٌ لا عبرةَ بها، بدليل أنها تعودُ على البائع. • أدلةُ القائلين بجواز بيع العِيْنَة: الدليلُ الأول: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (4)، ويقول سبحانه: {قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (5). __________ (1) إعلام الموقعين (3/ 167). (2) مصنف ابن أبي شيبة من رخص في الشراء إلى العطاء (4/ 290) رقم (20257). (3) انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 323). (4) سورة البقرة آية (275). (5) سورة الأنعام (119). (1/73) ________________________________________ وجهُ الاستدلال من الآيتين: أنَّ العِيْنَة في الحقيقة بيعان، فهما حلالان بنصِّ القرآن، ولو نَظَرنا إلى الكِتاب والسُّنَّة فلن نجدَ تفصيلًا يُحرّم العِيْنَة، فيدلُّ ذلك على الجواز (1). نُوقش الاستدلالُ بالآيتين: أن السُّنة جاءتْ بتحريم العِيْنَة، كما في حديث ابن عمر، وخبر عائشة، وقد صحَّحهما العلماءُ كما سبق ذِكْرُه، ثم إنَّ العِيْنَة تُخالِفُ قواعدَ الشَّرع من جهة كونها حيلة تمنعُ من تحقيق منفعة التَّبادلِ الحقيقي، بل إنَّ نتيجتها دينًا في الذمَّة أكثر من النقد المقبوضِ، وهذه حقيقةُ الرِّبا (2). الدليلُ الثّاني: عن أبي سعيد الخُدْري، وأبي هريرةَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رَجُلًا على خيبر، فجاءه بتمرٍ جَنِيْبٍ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكُلُّ تمرِ خيبرَ هَكَذا"؟ قال: لا والله يا رسولَ الله، إنَّا لنأخذُ الصَّاع من هذا بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعلْ، بع الجَمْعَ بِالدّراهمِ، ثم ابتعْ بِالدّراهمِ جَنِيبًا" (3) [متفق عليه]. وجه الاستدلال من الحديث: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ ببيع الجمع، ويشتروا بثمنه جَنِيبًا من غير تفريقٍ بين أن يشتريَ من المشتري، أو من غيره، فدلَّ هذا على أنه لا فَرْقَ بين الأمرين، إذ لو كان هناك فرقٌ لبيَّنه - صلى الله عليه وسلم - (4). __________ (1) انظر: المحلى لابن حزم (9/ 47). (2) انظر: التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتَّوَرُّق. سامي السويلم (12). (3) انظر: صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2/ 767) رقم (2089) وصحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل (3/ 1215) رقم (1593). (4) شرح النووي على صحيح مسلم (11/ 21) وانظر: فتح الباري، لابن حجر (4/ 401). (1/74) ________________________________________ وقد نُوقش الاستدلالُ بهذا الحديث: أنَّ عُمومَ الحديثِ قد خُصَّ بأن السُّنة، وقواعد الشريعة قد دلَّت على مَنْعِ الإنسان من شراء ما باع بأقلّ ممَّا باع ممن اشترى منه، قبل نقد الثَّمن (1). الدليلُ الثالث: أنه لما جاز بيعُ السِّلعة التي اشتراها ممَّن اشتراها منه بعد قبض الثمن، فليكنِ الأمرُ كذلك قبلَ القبضِ، حيثُ لا فَرْقَ بينهما. ونُوقش الدليل: أنَّ النصَّ وَرَدَ بتحريم العِيْنَة، فلا عبرةَ بقياس يقابله، ثم إنَّه قياسٌ مع الفارق؛ لأنَّ المنعَ من الشِّراء قبل القبض كان بسببِ وجودِ شبهة إرادة الرِّبا، وأما بعد القبض فتنعدمُ هذه الشُّبهة. وأما القائلون بكراهةِ العِيْنَة، فلعلَّهم يرون أدلةَ المنع لم تنهضْ للدَّلالةِ على التَّحريم. الفرعُ الثّاني: موقفُ الشَّافعي مِن الأحاديثِ الدّالةِ على تحريمِ العِيْنَة: تطرَّقتُ فيما سبق عن موقف الشَّافعية من بيع العِيْنَة، وأن الشَّافعي -رحمه الله- قد صرَّح بجواز العِيْنَة في كتابه (الأم) مخالفًا بذلك جُمْهُور العلماء، ولم تكنْ مخالفته عن جهل، أو هوى، وإنَّما أجاز بيع العِيْنَة جَرْيًا على ظاهر العقود، وسلامتها من المَكْر والخِداع، ومن المعروفِ أن الجمهورَ استدلُّوا بحديثِ ابنِ عمرَ، وخبر عائشة - رضي الله عنهما - على تحريمِ العِيْنَة (2). ويُلاحَظُ من كلام الشَّافعي في (الأم) أنه لم يتطرَّق لحديث ابن عمر لا من __________ (1) انظر: فتح الباري لابن حجر (4/ 401). (2) راجع ص (60) و (63). (1/75) ________________________________________ قريبٍ ولا من بعيد، ولعلَّ الحديثَ لم يبلغه، إذ لو بلغه لحسم النِّزاع، وقال بالتحريم كالجُمْهورِ جَرْيًا على قاعدته الذهبية: [إذا صحَّ الحديثُ فهو مَذهبي]، وقد جاء في (فيض القدير): "أوصانا الشَّافعي باتِّباعِ الدليلِ إذا صَحَّ بخلافِ مذهبه" (1)، فحديثُ ابن عمر لو بلغ الشَّافعي لما خالف الجمهور، ولقال مثل قولهم بتحريم العِيْنَة. وأما خَبَرُ عائشةَ - رضي الله عنها - فقد وقف الشَّافعيُّ في الرَّدِّ على هذا الخبر طويلًا، وفي رَدِّه ذِكر ثلاثة أمور: 1 - عدم ثبوت الخبر عنده، فقال -رحمه الله-: "قد تكون عائشةُ لو كان هذا ثابتًا عنها. . ." (2)، وقال أيضًا: "وجملة هذا أنّا لا نثبتُ مثله على عائشة" (3)، وقد سبق بيانُ ثبوتِ الخبر، وصحته (4). 2 - أنَّ إنكارَ عائشة - رضي الله عنها - بسبب أن البيعَ كان إلى العطاء، وهو أجلٌ غيرُ معلوم، يقول -رحمه الله-: "قد تكون عائشةُ لو كان هذا ثابتًا عنها عابتْ عليها بيعًا إلى العطاء؛ لأنه أجلٌ غير معلوم، وهذا ممَّا لا نجيزُه لا أنها عابتْ عليها ما اشترتْ منه بنقد، وقد باعته إلى أجلٍ" (5)، وقد بينت سابقًا أن عائشةَ تجيزُ البيعَ إلى العطاء (6). 3 - عند وُقُوع الخِلافِ بين الصَّحابة يكونُ الأخذُ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس هو زيدُ بنُ أرقم يقول -رحمه الله-: "ولو اختلف بعضُ أصحابِ __________ (1) فيض القدير، للمناوي (1/ 314). (2) الأم (3/ 78). (3) المرجع السابق (3/ 78). (4) راجع ص (64). (5) الأم (3/ 78). (6) راجع ص (65). (1/76) ________________________________________ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في شيء، فقال بعضُهم فيه شيئًا، وقال بعضُهم بخلافه كان أصل ما نذهبُ إليه أنّا نأخذُ بقولِ الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم. . . فإنْ قالَ قائلٌ: فمن أين القياس مع قول زيد؟ قلت: أرأيت البيعة الأولى، أليس قد ثبتَ بها عليه الثمن تامًا؟! فإنْ قال: بلى، قيل: أفرأيت البيعة الثانية أهي الأولى؟ فإنْ قال: لا، قيل: أفحرامٌ عليه أن يبيعَ ماله بنقد، وإن كان اشتراه إلى أجل؟ فإنْ قال: لا إذا باعه من غيره، قيل: فمن حرمه منه؟ فإنْ قال: كأنها رجعتْ إليه السِّلْعة، أو اشترى شيئًا دينًا بأقلّ منه نقدًا، قيل: إذا قلت كان لما ليس هو بكائن لم ينبغ لأحد أن يقبلَه منك، أرأيت لو كانت الْمَسْأَلَةُ بحالها، فكان باعها بمئة دينار دينًا، واشتراها بمئة أو بمئتين نقدًا، فإن قال: جائز، قيل: فلا بُدَّ أن تكونَ أخطأت كان، ثم أو ها هنا؛ لأنه لا يجوزُ له أن يشتريَ منه مئة دينار دينًا بمئتي دينار نقدًا، فإن قلت: إنما اشتريت منه السلعة، قيل: فهكذا كان ينبغي أن تقولَ أولا، ولا تقول كان لما ليس هو بكائن، أرأيت البيعة الآخرة بالنقد لو انتقضت، أليس تردُّ السِّلْعَة، ويكونُ الدَّين ثابتًا كما هو، فتعلم أن هذه بيعة غير تلك البيعة، فإن قلتَ: إنَّما اتهمته، قلنا: هو أقلُّ تهمة على ماله منك، فلا تركنْ عليه إن كان خطأ، ثم تحرم عليه ما أحلَّ الله له؛ لأن الله -عز وجل- أحلَّ البيع وحرَّم الرِّبا، وهذا بيعٌ وليس بربا" (1). وهذا القياسُ الذي ذكره الشَّافعي لا يصحُّ الأخذ به؛ لأن النَّصَّ قد وَرَدَ بتحريم العِيْنَة كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، فلا عبرةَ بالقياس مع وُجُودِ النَّصِّ، والشَّافعيُّ -رحمه الله- لجأ إلى بيانِ كون القياس مع زيد لعدم ثبوتِ النَّصِّ عنده، ولو ثبت خبرُ عائشةَ عنده، أو بلغه حديث ابن عمر لجزم بتحريمِ العِيْنَة. والجديرُ بالذِّكْر أن بعضَ العوامِّ حينما يعلمُ برأي الشَّافعي -رحمه الله- في بيع __________ (1) الأم (3/ 78). (1/77) ________________________________________ العِيْنَة قد يتَّهمه بالسَّماحة المفرطة، التي تُؤدي بصاحبها إلى تحليلِ ما حرَّم الله بِحُجَّة التَّخفيف، والتيسير على النَّاس، وقد جرى هذا معي حينما أخبرتُ شَخْصًا عن موقف العلماءِ من بيع العِيْنَة، ولا يصحُّ أن ينسبَ للشّافعيّ -رحمه الله- ولا لغيره من الأئمة شيء من هذا، يقول ابنُ القيِّم: "والمتأخِّرون أحدثوا حِيَلًا لم يصحَّ القولُ بها عن أحد من الأئمة، ونَسَبوها إلى الأئمة وهم مُخْطئون في نِسْبتِها إليهم، ولهم مع الأئمة موقفٌ بين يدي الله -عز وجل-، ومن عرف سيرةَ الشافعي وفَضْله، ومكانه من الإسلام، عَلِم أنه لم يكنْ معروفًا بفعل الحِيَل، ولا بالدَّلالة عليها، ولا كان يُشير على مسلم بها. . . وهكذا في مسألة العِيْنَة، إنما جَوَّزَ الشَّافعيُّ أن يبيعَ السِّلْعَةَ ممن اشتراها منه جَرْيًا على ظاهر عقود المسلمين، وسلامتها من المكر والخِداع، ولو قيل للشَّافعي: إنَّ المتعاقدين قد تواطآ على ألفٍ بألف ومئتين، وتراوضا على ذلك، وجعلا السِّلعة محلّلًا للربا، لم يجز ذلك، ولأنكره غاية الإنكار" (1). وممَّا سبقَ يتبينُ أنَ الشَّافعيَّ -رحمه الله- لا يقول بجواز الحِيَل المذمومة المناقضة لنصوصِ الشَّريعة وقواعدها، ولا يأمرُ الناس بالكذب والخداع، وإنما قال بجواز العِيْنَة للأسباب التالية: 1 - أن حديثَ ابن عمر - رضي الله عنه - لم يبلغه، ولو بلغه لَحَسَمَ النِّزاع، وحَكَم بتحريم العِيْنَة كالجُمْهُور، جَرْيًا على قاعدته الذهبية: [إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي]. 2 - أنه لا يرى ثبوتَ خَبَرِ عائشةَ - رضي الله عنها -، ولو ثبت عنده فلا يرى فيه دلالة تحريمِ العِيْنَة، كما سبقَ بيانه. 3 - أن الإمامَ الشَّافعيَّ بيَّن موقفه من العقودِ عامة، فالعبرةُ في العقودِ عنده __________ (1) إعلام الموقعين (3/ 281). (1/78) ________________________________________ بالظَّاهر، ولا تؤثر في العقود نية المتعاقدين، ولا يعني هذا أنه يجيزُ إضمارَ نية المحرم، فهو يفرقُ بين صحَّة العقد ونية العاقد، فإن نوى ما هو محرم، فإنه يأثمُ، ولا يستلزمُ هذا بطلانَ العقد عنده، يقول -رحمه الله-: "أصلُ ما أذهب إليه أنّ كلَّ عقدٍ كان صحيحًا في الظّاهر، لم أبطله بتهمةٍ، ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحَّةِ الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النيةُ لو أظهرت كانت تفسدُ البيع" (1). الفرع الثالث: الترجيح بعد النَّظَرِ والتأملِ في أدلَّة الأقوال والمناقشات، فإنه يبدو -والله أعلم- رجحان القول بتحريم العِيْنَة للأسباب التالية: 1) دلالة حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وصحته، وصراحته بتحريم العِيْنَة. 2) ثبوت خبر عائشة - رضي الله عنها -، ودلالته على التحريم. 3) ضَعْف استدلال القائلين بجواز العِيْنَة، حيث نوقشتْ كما سبق بما يضعفها، أضفْ إلى ذلك مناقشة كلام الشَّافعي -رحمه الله- عن موقفه من خبر عائشة. 4) أن تحريمَ العِيْنَة يوافقُ العملَ بقاعدة: [سدّ الذَّرائع]، فالعِيْنَة ذريعةٌ ظاهرةٌ تؤدي إلى الرِّبا، فإنه لا يختلفُ عاقلان في أن من باع سلعة بثمنٍ مؤجَّل، ثم اشتراها ممَّن باعها عليه قبل نقد الثَّمن بأقل منه، آيل فِعْله إلى الرِّبا، وجيء بالسِّلْعة كحيلة لاستحلال الرِّبا. 5) أنَّ العِيْنَة حيلةٌ من الحِيَل المذمومة، التي ابتكرها أكَّالة الرِّبا، وهي تنافي قواعدَ الشَّريعةِ الإسلاميةِ، جاء في الموافقاتِ عن الحِيَل: "فإن حقيقتها __________ (1) الأم (3/ 74). (1/79) ________________________________________ المشهورةَ تقديمُ عملٍ ظاهرِ الجوازِ، لإبطالِ حُكْمِ شرعيِّ، وتحويله في الظَّاهر إلى حُكْم آخر، فمآلُ العملِ فيها خَرْمٌ لقواعد الشريعة في الواقع" (1). 6) أن الحُكْمَ الشَّرعيَّ إنما جاء ليحققَ مصالحَ الناس في شتى مجالات حياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، والسِّياسية، والمصلحةُ الاقتصاديةُ تقتضي منع العِيْنَة، فإنَّ تقويمَ هذه المعاملة من الناحية الاقتصادية يعكسُ لنا صورةً من أضرارها الاقتصادية على المجتمع، فالعِيْنَة لا تفيدُ الحياةَ الاقتصاديةَ بقدر ما تضرُّها، حتى لو كانتْ طريقًا للحصولِ على السُّيولة، فإنَّ الرِّبا يحققُ السُّيولةَ للمقترض، ولم يعنِ هذا جوازه، فالمنافعُ الاقتصاديةُ التي يحققها البيعُ والشِّراءُ معدومةً في بيع العِيْنَة والربا، وبيان هذا يتَّضح في الآتى: "أن البيعَ مبادلةٌ لشيئين مختلفين، واختلاف البدلين هو الذي يسمحُ أن تكونَ المبادلةُ نافعة للبائع والمشتري" (2) فكل طرفٍ في المبادلة يبذلُ ليأخذَ ما يحتاجُ إليه، وعَمَلِيَّةُ التَّبادلِ التي تتمُّ بواسطة البائع والمشتري، هي بدورها تقومُ بتنشيطِ الحركةِ الاقتصادية؛ فالبائعُ يأخذُ الثمن ليستفيدَ منه في قضاءِ حاجاته، والمشتري يأخذُ السِّلْعةَ ليستفيدَ منها إما بالاستهلاك، أو بالاستثمار، وهكذا لتبقى الحياةُ الاقتصاديةُ نشيطةً دون فتورٍ، أو كسادٍ. وأما العِيْنَة فهي في حقيقة الأمرِ مبادلةٌ بين متماثلين، كالقرضِ باشتراطِ الفائدةِ، فهي في الحقيقةِ تحصيلُ نقدٍ مقابل زِيادة في الذِّمَّة، واتخذ البيع سِتارًا لذلك، فعَمَلِيَّةُ التبادلِ في العِيْنَة معدومةُ النفع بِحُكْمِ أنَّ العَمَلِيَّةَ كانتْ بين بدلين متماثلين، وعَمَلِيَّةُ التبادل لا تجدي، ولا تنفع الحركة الاقتصادية إلا إذا كان __________ (1) الموافقات، للشاطبي (4/ 201). (2) التكافؤ الاقتصادي بين الربا والتَّوَرُّق، سامي السويلم (11). (1/80) ________________________________________ البدلان مُخْتَلفَين، كما يجري في البيع والشِّراء، ولذلك فإنَّ المجتمعَ إذا فَشَتْ فيه بيوعُ العِيْنَة، فإنه حتمًا سينعدمُ النشاطُ الاقتصاديُّ المنتج، وتعمُّ المديونية، ويزدادُ الغنيُّ غنى، والفقير فقرًا، تمامًا كالأضرارِ الناجمةِ عن الرِّبا. ومَنْ تأمَّلَ حديثَ تَمْرِ خَيبرَ، والذي قال فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بعِ الجمعَ بالدراهم، ثم ابتعْ بالدراهم جَنِيبًا" فإنه شاهد على أنَّ عَمَلِيَّةَ التبادلِ، لا تكونُ مجديةً إلا عند اختلافِ البدلين، فالرجلُ لما أخبر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يأخُذون الصَّاعَ بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة أنكرَ عليه رسول الله، ونهاه عن هذا الفعلِ؛ لأنَّ عَمَلِيَّةَ التبادلِ كانت قائمةً على متماثلين في الجنس، فأمره رسولُ الله باتخاذ أسلوبٍ صحيحٍ يحققُ المنفعةَ الاقتصاديةَ بأن يبيعَ الجمْعَ بالدَّراهم، ثم يشتري بالدَّراهم جَنِيبًا، ونلاحظُ أنَّ في هذا التوجيه النبوي تنشيطًا للحركةِ الاقتصادية، التي لا يكونُ من ورائها إلا كل نفعٍ وخيرٍ، والتي تُعَدُّ مقصدًا من مقاصدِ الشريعة. ولذلك فإننا ندركُ الآن الحكمةَ والفائدةَ الاقتصادية من تحريمِ بيعِ جنسٍ بجنس مثله، فعلى سبيلِ المثالِ بيع تمرٍ بتمرٍ لا يحققُ المنافعَ المرجوَّةَ من عَمَلِيَّة التبادلِ لتماثل البدلين، وإنما تتحققُ منفعةُ التبادلِ عند اختلاف البدلين، لذلك أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببيع التَّمر الرديء، ثم يشتري بثمنه تمرًا جيِّدًا، فإن قيل: وما هي منفعةُ التبادلِ التي تتحققُ عند اختلاف البدلين؟ قلت: منفعةُ التبادلِ تكمنُ في تنشيطِ الحركةِ الاقتصاديةِ، التي يستفيدُ منها كلُّ أفرادِ المجتمع، فصاحبُ التَّمر الرَّديء يبيعُه على شخص، وهذا الشخصُ يقومُ بالانتفاع به إما بالاستهلاكِ أو بالبيع، وإذا باعه فيبيعُه على آخر، وهذا الآخرُ قد يبيعه على آخر. . . وهكذا، وكذلك إذا باع صاحبُ التَّمرِ الرَّديء تمره، فإنه يقومُ بشراءِ تمرٍ جيد، لينتفعَ به، إما بالاستهلاك، أو بالبيع، وإذا باعه فيبيعه على شَخْصٍ آخر، وهذا الشَّخْصُ قد (1/81) ________________________________________ يبيعُه على آخر، وهكذا حتى لا يكون المالُ دولة بين الأغنياء، بل يكونُ في أيدي النَّاسِ جميعهم، ليستفيدَ كلُّ فرد من أفرادِ المجتمع من هذه الأموال، ومنفعةُ التبادلِ هذه تنعدمُ حين تنتشرُ العِيْنَة، إذ العِيْنَة في حقيقتها عَمَلِيَّةُ مبادلةٍ بين متماثلين كالرِّبا تمامًا، فتنشغل الذِّممُ بالدُّيونِ، ويكون المالُ دولةً بين الأغنياء. (1/82) ________________________________________ المطلب الثاني دخولُ التَّوَرُّق في العِيْنَة المسألة الأولى: شمولُ العِينَة لمعنى التَّوَرُّق: الحقيقةُ أن التَّوَرُّقَ يدخلُ تحت معنى العِيْنَة، وإن كان ثمةَ اختلافٍ بينهما في الحُكْم إلا أن العِيْنَة شاملة لمعنى التَّوَرُّق، وبيان هذا يتَّضحُ بأمرين: الأمر الأول: دلالةُ اللغة، فالمعنى اللغويُّ للعينة يدلُّ على أن المقصودَ من العِيْنَة هو حصولُ العين، وهو النقدُ الحاضرُ، وهذا المعنى موجودٌ في التَّوَرُّق، جاء في معجم (مقاييس اللغة): "ومن الباب العين، وهو المالُ العتيدُ الحاضرُ، يقال: هو عينٌ غيرُ دين، أي: هو مالٌ حاضرٌ تراه العيون" (1) ويقولُ ابنُ القيّم: "العِيْنَة فعلة من العين: النقد" ثم نقل عن الجوزجانيِّ أنه قال: "أظنُّ أن العِيْنَة إنما اشْتُقَّتْ من حاجةِ الرَّجُلِ إلى العين من الذهب والوَرِقِ، فيشتري السِّلْعَة، ويبيعها بالعين التي احتاج إليها، وليست به إلى السِّلْعة حاجة" (2) وجاء في (نيل الأوطار): "سُمِّيَتْ هذه المبايعةُ عينة لحصولِ النقدِ لصاحبِ العِيْنَة؛ لأنَّ العينَ هو المالُ الحاضر، والمشتري إنَّما يشتريها ليبيعها بعينٍ حاضرةٍ تصلُ إليه من فوره، ليصلَ إلى مقصوده" (3). والمعنى اللغويُّ يدلُّ على أنَّ القصدَ من العِيْنَة هو حصولُ العين، الذي هو النقدُ الحاضر، وهذا المعنى موجودٌ في التَّوَرُّق، فدلالةُ العِيْنَة اللغويةِ تشملُ التَّوَرُّقَ، إذ المقصودُ من التَّوَرُّق هو السَّعي للحصولِ على العين، الذي هو النقدُ الحاضر. __________ (1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (4/ 203). (2) تهذيب السنن (5/ 108). (3) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، للشوكاني (5/ 319). (1/83) ________________________________________ الأمر الثاني: دلالةُ نصوصِ الفقهاء، فبعضُهم يفسِّر العِيْنَة بما يشملُ صورةَ التَّوَرُّق كما عند الحنفية، فبعضُهم فسَّر العِيْنَة بتفسيرٍ هو عينُ التَّوَرُّق الجائز عند الجُمْهورِ، فقالوا: "أن يأتي الرجلُ المُحتاجُ إلى آخر، ويستقرضُه عشرة دراهم، ولا يرغبُ المقرضُ في الإقراض. . . فيقول: لا أقرضك، ولكن أبيعك هذا الثوبَ إن شئت باثني عشر درهمًا، وقيمته في السُّوق بعشرةٍ ليبيعه في السُّوق بعشرةٍ، فيرضى به المستقرضُ، فيبيعه كذلك، فيحصل لربِّ الثوبِ درهمان، وللمشتري قرض عشرة" (1). وقول أبي يوسف -رحمه الله-: "العِيْنَة جائزةٌ مأجورٌ مَنْ عَمِلَ بها" (2). وسبق أن بينتُ أن قولَ أبي يوسف يحملُ على عدمِ عودِ السِّلْعةِ إلى بائعها الأول. ولما أراد بعضُ الحنفية تعريفَ العِيْنَة، عرَّفه بتعريفٍ غير مانع من دخول معنى التَّوَرُّق فيه، فها هو السَّرخسي يقول عندما أراد تعريفَ العِيْنَة: "أن يبيعه ما يساوي عشرة بخمسةَ عشرَ ليبيعه المستقرض بعشرة" (3)، وهذا التعريفُ في الحقيقة شاملٌ لمعنى التَّوَرُّق، والسبب الذي جَعَلَ السَّرخسي يقول بهذا: أنَّ الحنفيةَ يدرجُون التَّوَرُّقَ ضمن صُور العِيْنَة، ويجعلُونها صورةً مستثناةً من حُكْم التحريم، فهم لم يذكروا التَّوَرُّقَ كمسألةٍ مستقلةٍ، وإنما يذكرونه تحت صُور العِيْنَة، وهذا يدلُّ على دُخُولِ التَّوَرُّق في العِيْنَة؛ لاسيما وأن بينهما أوجهَ شبهٍ قوية، كما سيأتي. وكذلك الأمرُ بالنِّسبة إلى المالكية، فالعِيْنَة عندهم تشملُ التَّوَرُّق؛ لأنهم لما __________ (1) حاشية ابن عابدين (5/ 273). (2) المرجع السابق (5/ 273). (3) المبسوط للسرخسي (14/ 36). (1/84) ________________________________________ كرهوا العِيْنَة اشترطوا لكراهتها أن تباعَ السِّلْعةُ إلى البائعِ الأولِ (1)، فيخرج من ذلك التَّوَرُّق، يقول ابنُ رُشْد: "وسُئِلَ مالك عن رجلٍ يبيعُ السِّلْعةَ من الرجل بثمنٍ إلى أجلٍ، فإذا قبضها منه، ابتاعها منه رجلٌ حاضرٌ كان قاعدًا معهما، فباعها منه، ثم إن الذي باعها الأول اشتراها منه بعد، وذلك في موضعٍ واحدٍ قال: لا خيرَ في هذا، ورآه كأنه محللٌ فيما بينهما" (2) فالإمامُ مالك إنما منع هذه الصُّورةَ لوجودِ الرجل الثالث، الذي يُعَدُّ مُحللًا للعينة، ولولا وجودُه لجاز ذلك عنده إذا بيعتِ السِّلْعةُ لغير بائعها الأول، ولذلك فإن الباحثَ عن حُكْم التَّوَرُّقِ عند المالكية، فسيجده كصورةٍ من صُورِ العِيْنَة التي ذكروها تحت بُيوعِ الآجالِ. وإذا نَظَرْنا إلى الشَّافعيةِ فالتَّوَرُّق كذلك يدخلُ في العِيْنَة عندهم، حيثُ إنَّهم يرون جَوازَ العِيْنَة، فيكون التَّوَرّق أولى بالجوازِ من العِيْنَة، ولذا فإنَّ الباحثَ عن حُكْم التَّوَرُّق عند الشَّافعية لن يجده صريحًا في كتبهم، وإنما يُخرَّج من كلامِهم في العِيْنَة. وأما الحنابلةُ فهم الذين ذَكَروا التَّوَرُّقَ كمسألة مستقلة، ويخصُّونه باسم التَّوَرُّق، حيث لم يردْ بهذه التَّسْميةِ في كتب الفقهاء إلا عند بعضِ فقهاءِ الحنابلة (3) غير أنهم لا يذكرونَ التَّوَرُّق إلا حين تذكر العِيْنَة لوجود التشابه بينهما، يقول ابنُ القيم: "إن أعاد السِّلْعة إلى بائعها، فهي العِيْنَة وإن باعها لغيره فهي تورق" (4). وبهذا يتبينُ أن جمهورَ الفقهاء يدرجُون التَّوَرُّق ضمن صُور العِيْنَة كالحنفية، والمالكية، أو أنه يُخرَّج من كلامهم عن العِيْنَة كالشَّافعية، أو أنه يذكرُ حيث تذكرُ العِيْنَة كما عند الحنابلةِ. __________ (1) انظر: حاشية الدسوقي (3/ 77). (2) البيان والتحصيل، لابن رشد القرطبي (7/ 89). (3) راجع ص (12). (4) إعلام الموقعين (3/ 170). (1/85) ________________________________________ المسألة الثانية: أوجه التشابه بين التَّوَرُّق والعِينَة: عَرَفْنا في الْمَسْأَلَة السَّابقة أن جُمْهورَ الفقهاء يدرجُونَ التَّوَرُّق ضمن صُوَرِ العِيْنَة، ولعل السبب الذي جَعَلَهم يذكرون التَّوَرُّق ضمن صُورِ العِيْنَة أنهم نَظَروا إلى أن التَّوَرُّق يشاركُ العِيْنَة في بعضِ الأمورِ، التي يمكنُ أن أطلقَ عليها أوجهَ الشَّبه بين التَّوَرُّق والعِيْنَة، وهي كالتالي: 1 - أن كلًا من التَّوَرُّقِ والعِيْنَة جعلَ حيلة لتجنبِ الوقوع في الرِّبا. 2 - أن البائعَ في بيع التَّوَرُّق والعِيْنَة يبيعُ السلعة بثمن مؤجَّل أكثر من الثمن الحال في السُّوق. 3 - أنَّ المقصودَ من عقدِ بيعِ التَّوَرُّق والعِيْنَة هو الحصولُ على النقد، لقضاء حاجاته. 4 - أن الشَّخْصَ لا يلجأ إلى بيع التَّوَرُّقِ والعِيْنَة إلا عند حاجته، واضطراره، ولذلك مَنَعَ البعضُ من التَّوَرُّق لأنه يقعُ من مضطر، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر (1). __________ (1) انظر: سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب في بيع المضطر (3/ 255) سنن البيهقي الكبرى. كتاب: البيوع، باب ما جاء في بيع المضطر وبيع المكره (6/ 17)، مصنف ابن أبي شيبة. كتاب البيوع والأقضية، باب في الشراء من المضطر (4/ 327) والحديث فيه راو مجهول، كما في سنده (عن شيخ من بني تميم) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (3/ 137): "وإن كان في راويه جهالة فله شاهد من وجه آخر، رواه سعيد، ثم ذكر هذا الوجه، وقال: وهذا الإسناد وإن لم تجب به حُجَّة، فهو يعضد الأول، مع أنه خبر صدق، بل هو من دلائل النبوة، فإن عامة العينة تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضنّ عليه الموسر بالقَرْض. . . ولهذا كره العلماء أن يكونَ أكثر بيع الرجل أو عامته نسيئة، لئلا يدخل في اسم العينة، وبيع المضطر". (1/86) ________________________________________ المسألة الثالثة: الفرقُ بين التَّوَرُّق والعِيْنَة: يمكنُ التفريقُ بين التَّوَرُّق والعِيْنَة في أربع نقاط: 1 - من المعلوم أنهما يختلفان عن بَعْضِهما في الحُكْم، فجمهورُ العلماء يرون جوازَ التَّوَرُّق كما سيأتي، في حين أن العِيْنَة محرَّمةٌ عندهم. 2 - هناك فَرْقٌ بينهما في طبيعةِ المعاملة: فإنَّ العِيْنَة تقعُ بين طرفين، فالبائعُ يبيعُ السِّلْعة بثمن مؤجَّل، ثم يقومُ المشتري ببيعها على البائع نفسه بثمنٍ أقلّ نقدًا، وأما التَّوَرُّق فالمشتري الثاني ليس البائع نفسه، وإنما يبيعُ المشتري الأول السِّلْعة إلى طرفٍ ثالثٍ لا علاقة له بالبائع الأول، فالتَّوَرُّقُ عقدان منفصلان فيهما ثلاثةُ أطراف. 3 - للمزيد من الإيضاح نركِّزُ في هذه النقطة على دَوْرِ البائع الأول في التَّوَرُّق والعِيْنَة، فالبائعُ الأولُ لا يعلمُ بمراد الْمُتَوَرِّقِ في عَمَلِيَّة التَّوَرُّق، في حين أنه يعلمُ ذلك في بيع العِيْنَة، ولا يتجاوزُ دورَ البائع الأول في التَّوَرُّق من أنه يبيعُ سلعته إلى أَجَلٍ بثمنٍ أكثر من ثمنِ السُّوق، وهذه الزيادةُ هي مقابلُ الأجل، وهذا أمرٌ مشروع، ثم لا علاقةَ له بما يفعلُ المشتري بالسِّلْعة بعد الشراء، وأما في العِيْنَة فإنَّ البائعَ الأولَ بعد بيعِ السِّلْعة بثمنٍ مؤجَّل يقومُ بشرائها بثمنٍ أقلّ نقدًا، وبهذا يكونُ البائعُ الأولُ طرفًا في العقد الأول والثاني. 4 - إذا تأمَّلْنا حقيقةَ الرِّبا، فإننا نلحظُ أن الرِّبا لا يتحققُ إلا إذا كان دافع الأقل، وآخذ الأكثر شَخْصًا واحدًا، فالمرابي يدفعُ مئة، ثم يأخذُها مئة وعشرين وهذا متحققٌ في العِيْنَة، فإن البائعَ الأولَ يدفعُ نقدًا أقل، ثم يأخذُ هو بعينه الثمن المؤجَّل الأكثر، فكان دافعُ الأقل وآخذُ الأكثر شخصًا واحدًا، وأما التَّوَرُّق فقد اختلف الدافعُ والآخذُ اختلافًا يدفعُ شبهة الرِّبا، فالبائعُ الأول في التَّوَرُّق إنما يأخذُ الثمنَ المؤجَّل فقط، ولا يدفعُ شيئًا، وإنما الذي عليه الدفعُ (1/87) ________________________________________ هو الطرفُ الثالثُ، الذي يشتري السِّلْعَة من المشتري الأول، فاختلف الدّافعُ والآخذُ، فتندفع بذلك شبهة الرِّبا. (1/88) ________________________________________ المبحث الثالث صُوَرُ التَّوَرُّق الفردي - الصُّورة الأولى: أن يرغبَ الشخصُ في الحصول على نقودٍ لحاجته إليها، ولا يريد أن يستقرض من أحد، أو يمكنه أن يستقرضَ، ولكنه لا يجد من يقرضه، فيتوجَّه إلى السُّوق، ويشتري سلعةً بثمن مؤجَّل، ثم يبيعها في السُّوق على غير البائع نقدًا، من غير أن يعلمَ أحدٌ بنيته، وحاجته للنقود، وهذه الصُّورة هي التي ذكرها البهوتيُّ، ونصَّ على جوازها بقوله: "ومن احتاج إلى نقد، فاشترى ما يساوي مئة بأكثر، ليتوسَّع بثمنه فلا بأس" (1) - الصُّورة الثانية: أن يطلب المُحتاجُ قرضًا من تاجر، فيقول له التاجر: ليس عندي ما تحتاجه من النقود، ولكن أبيعُك هذه السلعة بثمن مؤجَّل، لتبيعها أنت في السُّوق. فيكون التاجر قد باعها عليه بسعر النَّقْدِ من غير زيادة نظير الأجل (2)، ويؤجر التاجر على فعله هذا؛ لأنه بمثابة القَرْض، إذ يمكنه أن يستفيدَ منه بأن يأخذ زيادة نظير الأجل. - الصُّورة الثالثة: أن يرغب الإنسانُ في الحصول على نقود، فيطلب القَرْض من تاجر، فيقول __________ (1) كشاف القناع (3/ 186) وانظر: الفروع لابن مفلح (4/ 126). (2) انظر: بحث حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. الصديق محمد الأمين الضرير (18). (1/89) ________________________________________ التاجر: ليس عندي نقود، ولكن أبيعك السِّلعة بأكثر من ثمنها في السُّوق نظير الأَجَل، لتبيعها أنت في السُّوق، فيأخذ المُحتاجُ السِّلعةَ فيبيعها نقدًا لغير بائعها بأقلّ من ثمنها آجلًا، وقد جاء بيانُ هذه الصُّورة في حاشية ابن عابدين، فقال: "أن يأتيَ الرجلُ المحتاج إلى آخر، ويستقرضه عشرة دراهم، ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعًا في فضل لا يناله بالقَرْض، فيقول: لا أقرضك، ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهمًا، وقيمته في السوق عشرة لتبيعه في السُّوق بعشرة، فيرضى به المستقرضُ فيبيعه كذلك، فيحصل لرب الثوب درهمان، وللمشتري قرض عشرة" (1). ولا يخفى الفرق بين هذه الصُّورة والصُّورة الأولى؛ لأن عملية التَّورُّق في الصُّورة الأولى لا يعلمُ التاجر ولا أحد غيره بحاجة المُتَوَرِّق للنقود، وأما في هذه الصُّورة فالتاجر يعلمُ بحاجة المُتَوَرق للنقود، ولذلك نصَّ بعض الفقهاء بكراهة هذه الصورة دون الصُّورة الأولى؛ لأن التاجر في الصُّورة الثالثة يعلمُ بحاجة الشخص ولا يقرضه، وهذا مكروه. يقول الميرغيناني: "وهو مكروه لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض" (2). وكذلك لا يخفى الفرقُ بين هذه الصُّورة والصُّورة الثانية؛ لأن التاجر في الصُّورة الثانية باع السلعة على المُتَوَرّق آجلًا بسعر النَّقْد من غير زيادة نظير الأجل، بينما نجد التاجرَ في الصُّورة الثالثة باع السِّلعة بزيادة نظير الأَجَل. - الصُّورة الرابعة: أن يذهب محتاجٌ إلى تاجر ليشتري سلعة تساوي مثلًا خمسة وتسعين ريالًا، فيقول المُحتاجُ: بِعْني السِّلعة بمئة، خمسين حاضرة وخمسين مؤجلة، فيأخذ __________ (1) حاشية ابن عابدين (5/ 273). (2) الهداية للميرغيناني (3/ 94). (1/90) ________________________________________ السِّلعة ويبيعها نقدًا بخمسة وتسعين، خمسون منها يسدد بها الخمسين الحاضرة التي عليه للتاجر، والباقي وهو خمسة وأربعون ينتفع بها المُحتاجُ مقابل الخمسين المؤجَّلة، وهذه الصُّورة قد ذكرها الفقهاء بقولهم: "أن يشتري من أحدهم سلعة بعشرة نقدًا، وبعشرة إلى أجل. فيُمنع مُتَّهم خاصة، ويقدَّر كأنه اشتراها ليبيع منها بعشرة يدفعها نقدًا، ويبقى له باقي السِّلعة يبيعه لينتفع بثمنه معجلًا، ثم يدفع عنه عشرة مؤجَّلة، والغالب أن السِّلعة لا تساوي العشرين، فيؤول إلى ذهب في أكثر منها" (1) - الصُّورة الخامسة: أن يشتري الشخصُ المُحتاجُ سلعة تساوي سبعة وعشرين حاضرة بثمن مؤجل ثلاثين ريالًا، ثم يبيع المُحتاجُ السِّلعة في السُّوق، ولكنه لم يستطعْ بيعها بما تساوي به حاضرًا بسبعة وعشرين، وإنما باعها بأقل، فمثلًا باعها بخمسة وعشرين، فيرجع الشخصُ المُحتاجُ إلى البائع طالبًا منه أن يخفضَ من مقدار الثمن المؤجَّل، فيخفض له البائع الثمن المؤجَّل من ثلاثين ريالًا إلى ستة وعشرين ريالًا. وقد جاء ذِكْرُ هذه الصُّورة عند بعض العلماء، يقول ابن رشد: "أن يأتي الرجل إلى الرجل من أهل العِيْنَة، فيقول له: أسلفني ذهبًا في أكثر منها إلى أجل، فيقول له: أسلفك درهمًا في اثنين إلى أجل، فيقول: لا أعطيك في الدرهم إلا درهمًا وربعًا، فيتراوضان، ويتفقان على أن يربح منه في الدرهم نصف درهم، ثم يقول له: هذا لا يحلّ، ولكن عندي سلعةٌ قيمتها مئة درهم أبيعها منك بمئة وخمسين إلى شهر، فتبيعها أنت بمئة فيتمّ لك مرادك، فيرضى بذلك، ويأخذ السِّلعة منه، ويبيعها بثمانين، ثم يرجع إليه فيقول له: إني قد __________ (1) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس (2/ 689). (1/91) ________________________________________ وضعتُ في السِّلعة وضيعة كثيرة، فحطّ عني من المئة وخمسين ما يجب للعشرين التي وضعتها في السِّلعة، فيضع عنه ثلاثين تتميمًا للمراوضة التي عقدا بيعهما عليها، فيؤول أمرهما إلى أن أسلم إليه ثمانين في مئة وعشرين، فهذا وَجْه كراهية مالك -رحمه الله- للوضيعة في هذه المسألة" (1). __________ (1) المقدمات الممهدات لابن رشد (2/ 526). (1/92) ________________________________________ المبحث الرابع حكم التَّورُّق الفردي المطلب الأول تحرير محل النزاع 1 - إنْ أعاد المشتري السِّلعة إلى بائعها الأول، فهذه هي العِيْنَة المحرَّمة عند الجمهور (1). 2 - إذا دخل بين البائع والمشتري طرفٌ ثالث، ليقوم هو بدوره بشراء السِّلعة من المشتري، ثم يبيعها على البائع بقصد التحليل، فهذا لا يجوز عند الجمهور (2). 3 - أن يشتري السِّلعة لينتفع بها بالاستهلاك، كالأكل، والشرب، واللبس، فهذا جائز بالإجماع (3). 4 - أن يشتريَ السِّلعة لينتفعَ بها بالاستثمار، كأن يقصد تجارة، فهذا جائز بالإجماع (4). 5 - محل النزاع بين العلماء: هو أن يشتريَ السِّلعة، ثم يبيعها لحاجته إلى الدَّراهم، ولولا حاجته تلك لما اشترى السلعة أصلًا، فهو لا يريد السِّلعة لينتفعَ بها بالاستهلاك، أو الاستثمار، وإنما اشترى السِّلعة لحاجته، واضطراره للنقود، فيقوم المُحتاجُ ببيع السِّلعة بخسارة، ليحصل على ما يريد من النقود. __________ (1) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 170). (2) انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (7/ 89) وحاشية ابن عابدين (5/ 373). (3) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 30). (4) انظر: المرجع السابق. (1/93) ________________________________________ المطلب الثاني موقفُ الفقهاء المتقدمين من بيع التَّورُّق أولًا: موقف الحنفية من بيع التَّورُّق: من يتأمَّلْ كتب الحنفية، فإنه لن يجدَ ذكرًا للتورق بهذا الاسم، وإنما أوردوا صورته كصورة من صور العِيْنَة، فهم سموا التَّورُّق عينة، وحيث إن الحنفية يحرِّمون العِيْنَة، ويذكرون التَّورُّق كصورة من صور العِيْنَة، فقد يتبادر إلى أذهان البعض، ويتصوَّر أن حُكْم تحريم العِيْنَة يشمل بيع التَّورُّق، وتجد هذا التصورَ في بعض البحوث، حيث نسب الكراهة إلى الحنفية، وليس الأمر كذلك، فإن الإمام محمد بن الحسن لما قال: "هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال" (1) كان مراده بيع العِيْنَة، كما سبق بيانه. وحينما ننظرُ إلى السّرخسي نجد أنه عدَّ التَّورُّق من العِيْنَة، ونصَّ على الكراهة حيث قال -رحمه الله-: "وذكر عن الشعبي أنه كان يكره أن يقولَ الرجل للرجل: أقرضني، فيقول: لا، حتى أبيعك، وإنما أراد بهذا إثبات كراهية العِيْنَة، وهو أن يبيعه ما يساوي عشرة بخمسة عشر، ليبيعه المستقرض بعشرة" (2). وتعريفه للعينة يدخل فيه التَّورُّق، والسبب الذي جعله يقول بهذا التعريف أن الحنفية يُدْخِلون التَّورُّق ضمن صور العِيْنَة. وقد نصَّ بعضُ الحنفية على كراهة صورة من صور التَّورُّق، والتي يطلب المُتَوَرِّق فيها القَرْض من التاجر فيرفض، والتاجر يعلمُ بحاجة المُتَوَرِّق، فيقدم التاجر للمتورق سلعة، ويقول: أبيعك هذه السِّلعة بمئة مؤجَّلة لتبيعها أنت في __________ (1) حاشية ابن عابدين (5/ 273). (2) المبسوط (14/ 36). (1/94) ________________________________________ السُّوق بسبعين، فقد قال الميرغيناني: "وهو مكروهٌ لما فيه من الإعراض عن مبرَّة الإقراض" (1). مما سبق يتبينُ أن الحنفية يذكرون التَّورُّق ضمن صُوَر العِيْنَة، وينصُّون على الكراهة، ومرادهم كراهة العِيْنَة المشهورة فقط دون التَّورُّق، ولذلك جاء ابنُ الهمام -رحمه الله- ففرَّق بين العِيْنَة والتَّورُّق في الحكم بعد أن ذَكَرَ كلام أبي يوسف، الذي يفيد ظاهره جواز العِيْنَة، وبيَّن كذلك أنه لا كراهةَ إذا رفض التاجرُ الإقراض. يقول -رحمه الله-: "ولا شكَّ أن البيع الفاسد بحكم الغصب المحرم، فأين هو من بيع العِيْنَة الصحيح المختلَف في كراهته، ثم الذي يقعُ في قلبي أن ما يخرجه الدافعُ إن فعلت صورة يعود فيها إليه هو أو بعضه، كعود الثوب أو الحرير في الصُّورة الأولى، وكعود العشرة في صورة إقراضِ الخمسة عشر، فمكروه، وإلا فلا كراهةَ إلا خلاف الأولى على بعض الاحتمالات، كأن يحتاج المديونُ فيأبى المسؤولُ أن يقرض، بل يبيعُ ما يساوي عشرة بخمسة عشر إلى أجل فيشتريه المديون، ويبيعه في السُّوق بعشرة حالَّة، ولا بأس في هذا، فإن الأجلَ قابله قسط من الثمن، والقَرْض غير واجب عليه دائمًا، بل هو مندوب" (2). وبهذا نعرف أن التَّورُّق جائز عند الحنفية، وما نقل من الكراهة يُحْمَلُ على بيع العِيْنَة، أو لما في التَّورُّق من الإعراض عن مبرَّة الإقراض، ولا يلزم الكراهة كما بيَّنه ابن الهمام -رحمه الله-. ثانيًا: موقف المالكلية من بيع التَّورُّق: الذي يظهر من نصوص فقهاء المالكية أنهم يرون كراهةَ التَّورُّق، جاء في __________ (1) الهداية (3/ 94). (2) شرح فتح القدير (7/ 213). (1/95) ________________________________________ (شرح مختصر خليل): "وكره أن يقول الرجلُ لمن سأله سلف ثمانين بمئة: لا يحلّ لي أن أعطيك ثمانين في مئة، ولكن هذه سلعة قيمتها ثمانون، خذ مني بمئة ما أي سلعة إذا قوَّمت كانت بثمانين (1). وقد ذكر المالكيةُ بعضَ صور التَّورُّق، وكرهوها بقيود، من ذلك ما جاء في (شرح مختصر خليل): "إذا اشترى طعامًا، أو غيره، على أن ينقد بعض ثمنه، ويؤخر بعضه لأجل، فإن كان اشتراه ليبيعه كله لحاجته بثمنه، فلا خير فيه، وهو قول مالك" (2). ويلاحظ أن الكراهة في النَّصِّ السابق قد قيدت بفعل المشتري إذا كان يريدُ بيعَ السِّلعة لا لينتفع بها، إضافةً إلى تعجيل بعض الثمن، وتأخير بعضه، فإن هذه قيود تؤثر في الحكم عند المالكية. ومن الصور التي نصَّ فقهاءُ المالكية على كراهتها ما جاء عند ابن رشد في مقدّماته: "وذلك أن يبيع الرجلُ من أهل العِيْنَة طعامًا، أو غيره، بثمن إلى أجل، ثم يستروضه المبتاعُ من الثمن فيضع عنه. فإن مالكًا وغيره من أهل العلم كرهوا ذلك؛ لأنه إنما يبيعُه على المراوضة، فإنما يضع عنه، ويردّه إلى ما كان راوضه عليه، فصار البيع الذي عقداه تحليلًا للربا الذي قصداه، وتفسير هذا أن يأتي الرجلُ إلى الرجل من أهل العِيْنَة. . ." (3) (4). وبهذا يتَّضح أن المالكية يمنعون بعضَ صور التَّورُّق؛ لأن فيها قرائنَ تدلُّ على تواطؤ البائع والمشتري على بيع السِّلعة، لتحصيل النَّقْد الحاضر مقابل __________ (1) شرح الخرشي على مختصر خليل (5/ 106). (2) المرجع السابق. (3) المقدمات الممهدات (2/ 526). (4) راجع: هذه الصورة في صور التَّورُّق الفردي: الصورة الخامسة ص (83). (1/96) ________________________________________ زيادة في الذمَّة، فتلك القرائن كتعجيل بعض الثمن، وتأخير بعضه، وكالمراوضة توحي بأن الهدف والغاية من عملية التَّورُّق هي تحصيلُ نقد حاضر مقابل زيادة في ذِمَّة المُتَوَرِّق، واتخذ البيع ستارًا لذلك. ومن يطَّلع على كتاب (بيوع الآجال) في كتب المالكية يجد أن هذا الباب قد بُنِي على قاعدة من قواعد المذهب المالكي، وهي [سدّ الذرائع]. يقول ابنُ رشد: "أصل ما بُني عليه هذا الكتاب، الحكم بالذرائع، ومذهب مالك -رحمه الله- القضاء بها، والمنع منها" (1). ولعل المالكية كرهوا التَّورُّق من هذا الباب، بمعنى أنهم كرهوه سدًّا للذريعة. ولعلَّه يقال: إن بيعَ التَّورُّق مكروه أيضًا عند المالكية، بناءً على قاعدة [المدخلات والمخرجات] التي نصَّ عليها فقهاء المالكية. جاء في الفروق: "والأصل أن ينظرَ ما خرج من اليد، وما خرج إليها، فإن جاز التَّعامُل به صحّ وإلا فلا، ولا تعتبر أقوالهما، بل بأفعالهما فقط" (2). ومعنى هذه القاعدة: أن تقويم التَّعامُل بين طرفي الصَّفقة يتم من خلال النظر في مدخلاتها ومخرجاتها ككل، دون النظر إلى تفاصيل ما يدور بين طرفيها، فحقيقتها عدم اعتبار ما كان لغوًا من تصرفات العاقدين، بل الاعتبار مرتبط بالمحصّلة النهائية، فإذا كانت المحصلة النهائية نقدًا حاضرًا بزيادة في الذمَّة، فهي ربا، ولا عبرة بما توسَّط ذلك من عقود (3). ومما سبق يتَّضح أن التَّورُّق ممنوعٌ عند المالكية للأسباب التالية: 1 - نصوص فقهاء المالكية تدلُّ على الكراهة. __________ (1) المقدمات الممهدات لابن رشد (2/ 524). (2) الفروق للقرافي (3/ 1057). (3) انظر إلى شرح القاعدة في: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (66). (1/97) ________________________________________ 2 - قاعدة [سدّ الذرائع] التي تُعتبر أساسًا لكتاب بيوع الآجال. 3 - قاعدة [المدخلات والمخرجات] (1). ثالثًا: موقف الشافعية من بيع التَّورُّق: لم يذكر الشافعية عن بيع التَّورُّق شيئًا، فلم يذكروه استقلالًا كالحنابلة، ولا كصورة من صور العِيْنَة كالحنفية والمالكية، ولكن بالنظر إلى موقفهم من العُقُود عامة، وإلى موقفهم من بيع العِيْنَة خاصَّة، نستطيع أن نعرفَ موقفهم من بيع التَّورُّق. فأما موقفهم من العُقُود عامة فإن الشافعي -رحمه الله- يرى أن العبرةَ في العُقُود بالظاهر، ولا تأثيرَ لنية المتعاقدين على العقد، يقول -رحمه الله-: "لا يفسد عقدٌ أبدًا إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء تقدّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهّم، ولا بأغلب، وكذلك كل شيء لا نفسده إلا بعقده، ولا نفسد البيوع بأن نقول: هذه ذريعة، وهذه نية سوء" (2)، فإذا طبقنا موقفهم هذا على بيع التَّورُّق، فإنه يظهر لنا جوازُ بيع التَّورُّق، من غير كراهة. وبالنظر إلى موقفهم من بيع العِيْنَة، حيث إنهم أجازوا للبائع الأول أن يشتريَ السلعة بنقدٍ أقل، فإن بيع التَّورُّق يكونُ أولى بالجواز من بيع العِيْنَة، __________ (1) الغريب أن بعض الباحثين والأساتذة ينسبون القول بجواز التَّوَرُّق إلى المالكية دون ذكر للكراهة قط، فقد اطلعت على بعض البحوث ووجدت البعض لا يذكر رأي المالكية في التَّورُّق بتاتًا، والبعض يذكر الجواز فقط، حتى في بعض الرسائل الجامعية وجدت هذا الخطأ أكثر من مرة، فأوصي المسؤولين عن تلك الرسائل أن يقوموا بتصحيحها، والبحوث التي أخطأ أصحابها في نقلهم رأي المالكية في بيع التَّورُّق هي كالتالي: 1 - أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية. لمحمد العثماني ص (9). 2 - حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. لمحمد الضرير ص (17). 3 - حكم التَّورُّق في الفقه الإسلامي. لعلي القره داغي ص (1). (2) الأم (7/ 297 - 298). (1/98) ________________________________________ وبهذا نعرفُ السبب الذي جعل الشافعية لا يذكرون بيع التَّورُّق في كتبهم، فهم لما أجازوا بيع العِيْنَة مخالفين بذلك جمهور العلماء، فالتَّورُّق يكون أولى بالجواز. رابعًا: موقف الحنابلة من بيع التَّورُّق: لم يرد ذِكْرُ التَّورُّق بهذا الاسم إلا عند فقهاء الحنابلة، وهم الذين صرحوا به كمسألة مستقلة، وقد ورد عند الحنابلة أكثر من رأي في بيع التَّورُّق، فبعضهم يرى الجواز، والبعض يرى التَّحريم، حتى إنَّ الإمامَ أحمد -رحمه الله- قد رُوي عنه ثلاثُ روايات في بيع التَّورُّق، فقد روي عنه الجواز، والكراهة، والتَّحريم (1) يقول المرداوي: "لو احتاج إلى نقد، فاشترى ما يساوي مئة بمئة __________ (1) العجيب أن المصادر لا تذكر أبدًا أوجه الجمع بين هذه الروايات، كما قال لي الدكتور سامي السويلم حينما قابلته لأستفسر عن بعض الأمور، وأوصاني بأن أقرأ بحثه: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. لأعرف أوجه الجمع بين هذه الروايات، وحينما اطلعت على البحث، وجدت أوجه الجمع بين هذه الروايات، وهي كالتالي: روي عن أحمد: كراهة التَّورُّق، ومعلوم أن الكراهة عند المتقدمين تفيد التحريم غالبًا، تورعًا منهم عن إطلاق القول بالتحريم، يقول ابن القيم: "وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة. . . فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة، وعلى الأئمة" إعلام الموقعين (1/ 39). وبهذا يزول الاختلاف بين روايتي الكراهة والتحريم، إذ المراد بالكراهة عند الإمام أحمد هو التحريم، فيبقى وجه الجمع بين روايتي التحريم والجواز، وبيان هذا كالتالي: نصَّ الإمام أحمد في رواية على تحريم التَّورُّق، ومعلوم من أصول مذهب أحمد أنه يمنع الحِيَل كلها كما قال ابن قدامة: "قد ثبت من مذهب أحمد أن الحِيَل كلها باطلة" المغني (4/ 74). (1/99) ________________________________________ وخمسين فلا بأس، نصَّ عليه، وهو المذهبُ، وعليه الأصحاب، وهي مسألة التَّورُّق، وعنه: يكره، وعنه: يحرم (1). وقد أوضح المرداويُّ أن مذهبَ الحنابلة، والذي عليه معظم الأصحاب هو القول بالجواز، ولذلك قال البهوتيُّ: "ولو احتاج إنسان إلى نقد، فاشترى ما يساوي مئة بمئة وخمسين مثلًا، فلا بأسَ بذلك، وهي مسألة التَّورُّق" (2). ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم قد ذهبا إلى مَنْع التَّورُّق، يقول ابنُ القيم -رحمه الله-: "إن عامة العِيْنَة إنما تقعُ من رجلٍ مضطرٍ إلى نفقة يضنُّ بها عليه الموسر بالقَرْض، حتى يربح عليه في المئة ما أحب، وهذا المضطر إن أعاد السِّلعة إلى بائعها فهي العِيْنَة، وإن باعها لغيره فهو التَّورُّق، وإن رجعتْ إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الرِّبا، والأقسامُ الثلاثةُ يعتمدها المرابون، وأخفها التَّورُّق، وقد كرهه عمرُ بن عبد العزيز، وقال: هو آخية الرِّبا، وعن أحمد، وفيه روايتان. . . وكان شيخنا -رحمه الله- يمنعُ من مسألة التَّورُّق، وروجع فيها مرارًا وأنا حاضر، فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حُرِّم الربا موجودٌ فيها بعينه، مع __________ = والتَّورُّق حيلة بلا ريب، وإنما وقع الخلاف: هل هو حيلة جائزة أم ممنوعة، فتكون رواية التحريم مبنية على قوله بمنع الحِيَل التي يعد التَّورُّق من صورها، بينما يمكن حمل رواية الجواز على حالة الضرورة، حينما يضطر الشخص إلى نقود، ولا يجد من يقرضه فيضطر إلى اللجوء لعملية التَّورُّق، وبذلك يزول الاختلاف بين تلك الروايات، والجمع مقدَّم على الترجيح، وأما ترجيح رواية الجواز فهو إهمال لرواية التحريم من جهة، ولأصل مذهب أحمد بن حنبل من جهة أخرى. انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم للدكتور: سامي السويلم ص (30 - 31). (1) الإنصاف (4/ 337). (2) كشاف القناع (3/ 186). (1/100) ________________________________________ زيادة الكلفة بشراء السِّلعة، وبيعها، والخسارة فيها، والشَّريعة لا تحرم الضَّرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه (1). * * * المطلب الثالث موقف العلماء المتأخرين والمعاصرين من بيع التَّورُّق خاض العلماءُ المتأخِّرون والمعاصرون في حكم بيع التَّورُّق، وصدرت فتاوى في هذا الشأن من لجانٍ وأفراد، فقد أفتتِ اللجنةُ الدائمةُ للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية بأنه إذا كان المشتري لا يريد إلا الدَّراهم، فيشتري السِّلعة بمئة مؤجَّلة، ويبيعها في السُّوق بسبعين حالَّة، فهذا كما قال ابن عباس: "دراهم بدراهم، وبينهما حريرة" (2). وكرهه بعضُ أهل العلم، منهم عمر بن عبد العزيز، فينبغي تجنب تعاطيه احتياطًا، وبراءة للذِمَّة، وخروجًا من الخلاف. وممَّن أفتى في هذه المسألة من أئمة الدعوة الشّيخُ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- فقال: "وأما البيعُ إلى أجل ابتداء، فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسِّلعة، أو التجارة فيها، جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدَّراهم، فيشتريها بمئة مؤجَّلة، ويبيعها في السُّوق بسبعين حالَّة، فهذا مذمومٌ منهيٌّ عنه في أظهر قولي العلماء، وهذا يسمى: التَّورُّق" (3). وقد ورد على اللجنة سؤالٌ عن التَّورُّق: بأن شخصًا يريد الزواج، وليس عنده ما يكفي، فذهب إلى آخر، فقال له الآخر: أبيعك سيارةً بسبعة عشر ألف __________ (1) إعلام الموقعين (3/ 170). (2) مصنف ابن أبي شيبة. كتاب البيوع: من كره العِيْنَة (4/ 282) رقم (20157). (3) مجلة البحوث الإسلامية. العدد السابع ص (50). (1/101) ________________________________________ ريال دينًا إلى سنة، وقيمتها نقدًا عشرة آلاف، فأجابت اللجنة بأنه "إذا كان الواقع كما ذكر من شراء شخص من آخر سيارة لأجل بثمن أكثر مما تُباع به نقدًا عاجلًا ليبيعها المشتري إلى من شاء سوى من باعها عليه ومَنْ في حكمه، فليس ربا، بل هو عقد بيع صحيح جائز" (1). وقد قرر المجمعُ الفقهيُّ الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي الآتي: ". . . إن بيع التَّورُّق هذا جائز شرعًا، وبه قال جمهور العلماء. . ." (2). وقد سُئِلَ الشّيخُ محمد بن إبراهيم عن شخص احتاج إلى نقود، وذهب إلى تاجر ليستدين منه، وباع عليه أكياس سكر وغيرها نسيئةً بثمن يزيد على ثمنها نقدًا، فيأخذ المُحتاجُ السكر، ويبيعه بالنقص عما اشتراه به من التاجر، ليقضي حاجته، فهل هذا التَّعامُلُ حرام أم حلال؟. فأجاب -رحمه الله-: "هذه المسألة تُسَمَّى مسألة التَّورُّق، والمشهور من المذهب جوازها". وجاء في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: "إذا لم يكن للمشتري حاجةٌ إلى السِّلعة، بل حاجته في الذهب والورق فيشتري السِّلعة ليبيعها بالعين الذي احتاج إليها، فإن أعاد السِّلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعًا تامًا، ولم تُعَدُّ إلى الأول بحالٍ، فقد اختلف السلف في كراهته، ويسمونه التَّورُّق. . . وإياس بن معاوية يرخص فيه. . . والمشهورُ الجواز، وهو الصواب" (3). ويقول الشيخُ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "أما إذا كان المشتري اشترى السِّلعة __________ (1) مجلة البحوث الإسلامية العدد السابع (132). (2) انظر: قرارات المجمع الفقه الإسلامي: القرار الخامس في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة ابتداء من يوم السبت 11/ 7/ 1419 هـ ص (320). (3) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (7/ 61). (1/102) ________________________________________ إلى أجلٍ، ليبيعها بنقد بسبب حاجته إلى النَّقْد في قضاء الدَّيْن، أو لتعمير مسكن، أو للتزوج، ونحو ذلك، فهذه المعاملةُ إذا كانت من المشتري بهذا القصد ففي جوازها خلاف بين العلماء. . . والأرجحُ فيها الجواز، وهو الذي نفتي به" (1). ومن العلماء المعاصرين الذين منعوا التَّورُّق: الدكتور حسين حامد حسان في تعليقه على بحوث التَّورُّق، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ صالح الحصين، وكذلك منعه الدكتور سامي السويلم (2). * * * المطلب الرابع الأدلة، والترجيح بعد ذِكْر مواقف العلماء من بيع التَّورُّق، والتأمل فيها، نستطيعُ القولَ بأن العلماء في بيع التَّورُّق على ثلاثة أقوال: القول الأول: الجواز (3)، وهو رأيُ إياس بن معاوية، والحنفية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وهو المذهبُ عند الحنابلة، وعليها الأصحاب، وهو رأيُ أكثر المعاصرين، كالشيخ محمد بن إبراهيم، وابن باز. __________ (1) مجموع فتاوى ابن باز (19/ 99). (2) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. د: سامي السويلم (27). (3) ذكر الدكتور عبد الله السعيدي: أن جمهور الفقهاء على كراهة بيع التَّورُّق لا جوازه، كما شاع لدى كثير من المعاصرين، حيث كرهه الحنفية، والمالكية، والحنابلة في رواية. انظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر ص (23). والحقيقة أن نسبة الكراهة إلى الحنفية فيه نظر؛ لأن متأخري الحنفية كابن الهمام وابن عابدين حملا الكراهة التي نصَّ عليها علماء الحنفية المتقدمون على بيع العِيْنَة، كما سبق بيانه. (1/103) ________________________________________ القول الثاني: الكراهة، وهو قولٌ عند الحنفية، وهو رأيُ المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، والحقيقة أن الحنفية يقصدون بالكراهة بيع العِيْنَة لا بيع التَّورُّق، كما سبق بيانه. القول الثالث: المنع، وهو قَولُ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وهو رأيُ بعض المعاصرين كالدكتور سامي السويلم، وحسين حامد حسان، وصالح الحصين. المسألة الأولى: الأدلة: أدلة القائلين بجواز التَّورُّق: • الدليل الأول: قَولُه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1). وجه الاستدلال: أن الآية دلت على إباحة البيوع، حيث إن لفظ (البيع) على بأل التي تفيد العموم، فالآية تدلُّ على إباحة كلِّ بيع، إلا ما دلَّ الدليل على تحريمه، ولا دليلَ على حرمة التَّورُّق، فيبقى على الإباحة التي دلت عليها الآية. ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية بالتالي: 1 - أن هذه الآية قد يستدلُّ بها أصحابُ الحِيَل المحرمة، فكلُّ حيلة من الحِيَل الربوية يمكن أن يستدلَّ أصحابها على جوازها بهذه الآية؛ لأن الحيلةَ بيعٌ في الظاهر، وهي في الحقيقة تؤولُ إلى الرِّبا، فإنْ صحَّ الاستدلال بالآية على إحدى هذه الحِيَل، لزم صحة الاستدلال على الجميع، وإن بطل الاستدلالُ بطل في الجميع، ولا يوجد من الفقهاء من يجيزُ جميع الحِيَل بلا استثناء، وهذا يعني أن الاستدلال بالآية على جواز التَّورُّق غير مسلم. 2 - أن التَّورُّق عبارةٌ عن عقدين، وكون كل عقد مشروع على انفراده، لا يلزم __________ (1) سورة البقرة آية (275). (1/104) ________________________________________ منه أن مجموع العقدين مشروع؛ لأن الاجتماع قد يؤثر في الحُكْم الشرعي (1)، جاء في الموافقات: "الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرًا في أحكام لا تكون في حالة الانفراد. . . ونهى الله عن الجَمْع بين الأختين في النكاح، مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها. . . وذلك يقتضي أن للاجتماع تأثيرًا ليس للانفراد" (2)، ولذلك لا بُدَّ من وجود دليلٍ خاصّ يقضي بالجواز. الدليل الثاني: عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلًا على خيبر، فجاءه بتمر جنيبٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكل تمر خيبر هكذا"؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصَّاع من هذا بالصَّاعين، والصَّاعين بالثلاثة. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعل، بعِ الجمع بالدَّراهم، ثم ابتع بالدَّراهم جنيبًا" (3) [متفق عليه]. وجه الاستدلال من الحديث: أن في هذا التوجيه النبوي مخرجًا للابتعاد عن حقيقة الرِّبا وصورته، إلى طريقة ليس فيها قصد الرِّبا، ولا صورته، فالحديثُ نصّ في جواز عقد صفقتين متتاليتين لأجل تجنُّب الوقوع في الرِّبا، وإذا جاز هذا فيكون بيع التَّورُّق جائزًا من هذا الباب، إذ هو عبارة عن عقدين، كلّ عقد منهما صحيح مشتملٌ على تحقيق شروط البيع، وأركانه. ويمكن أن يناقش الاستدلال بالحديث: أن الذي أمر الرجلَ بأن يبيعَ الجمع بالدَّراهم، ليشتريَ بها جنيبًا هو نفسه - صلى الله عليه وسلم -، الذي ذمَّ الحِيَل، وحذَّرنا منها، حيث قال: "قاتل الله اليهودَ، حُرمت __________ (1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. د: سامي السويلم (47). (2) الموافقات للشاطبي (3/ 192). (3) انظر: صحيح البخاري: كتاب البيوع. باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2/ 767) رقم (2089) وصحيح مسلم: كتاب المساقاة. باب: بيع الطعام مثلًا بمثل (3/ 1215) رقم (1593). (1/105) ________________________________________ عليهم الشحوم فجملوها، فباعوها" (1) فيحرم بيعُ التَّورُّق؛ لأنه حيلة من الحِيَل، مآلها إلى الرِّبا. ويمكن الجواب عن المناقشة: القَولُ بأن التَّورُّق حيلةٌ من الحِيَل المذمومة غير مسلم به؛ لأن الحيلةَ هي تقديمُ عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، كما سبق من كلام الشاطبي، فالحيلةُ لا تكون إلا بوجود القصد إلى التَّوصُّل إلى المحرَّم، فالتَّورُّق لا يكون حيلة إلا إذا نوى التَّوصُّل إلى ممنوع؛ لأن أصل الحِيَل راجعٌ إلى القصد والنية، كما بيَّن ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: "وأصلُ هذا الباب -يعني الحِيَل- "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (2) فإن كان قد نوى ما أحلّه الله فلا بأس، وإن نوى ما حرَّم الله، وتوصَّل إليه بحيلة، فإن له ما نوى" (3). والمُتَوَرِّق لم يقصدْ بفعله ارتكابَ المحرم، وإنما أراد اجتناب المحرم، والخلوص من الرِّبا. - الدليل الثالث: أن الحاجة تدعو إلى بيع التَّورُّق؛ لأن المحتاج لا يجدُ من يقرضه، فيلجأ إلى بيع التَّورُّق (4). ويمكن أن يناقش هذا الدليل: أن الحاجة لم تكنْ مبررةً للمحتاج لدخوله في الرِّبا، ومجرد الحاجة لا تكفي لاستباحة المحرمات، التي يعدّ بيع التَّورُّق نوعًا منها، إذ هو بابٌ من أبواب الرِّبا. ويمكن الجواب عن المناقشة: __________ (1) صحيح البخاري: كتاب البيوع. باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه (2/ 774). (2) صحيح البخاري. باب: بدء الوحي (1/ 3) رقم (1). (3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 447). (4) انظر: كشاف القناع للبهوتي (3/ 186). (1/106) ________________________________________ صحيحٌ أن الحاجة لم تكنْ مبررةً للمحتاج لدخوله في الرِّبا، ولم تكن حُجَّة له ليسرق؛ لأن الدخول في الرِّبا والسرقة قد جاء النصُّ الصريحُ على تحريمهما، وأما بيع التَّورُّق فلا دليل صريح يحرمه، فجاز للمحتاج أن يلجأ إليه ليقضي حاجاته، وكون بيع التَّورُّق من أبواب الرّبا فغير مسلم، إذ التَّورُّق عبارةٌ عن عقدين، كل عقد منهما يشتمل على أركان البيع وشروطه، وتقويمُ بيع التَّورُّق من الناحية الاقتصادية يعطي لنا الفوارق الشَّاسعة بينه وبين الرِّبا، وأما الرِّبا فهو زيادةٌ بدون مقابل، تستلزمُ نمو الديون بلا ضوابط. - الدليل الرابع: أن التَّورُّق يحقّقُ مصالحَ كثيرة للناس، فهناك الكثيرُ ليس لديهم نقودٌ كافية لأداء ديونهم، ولا لزواجهم، ولا لمصالحهم الأخرى، فيستطيع المُتَوَرِّق من خلال عقد البيع لأجل التَّورُّق الحصول على حاجاته (1). • أدلة القائلين بمنع التَّورُّق: الدليل الأول: قَولُ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "سيأتي على الناس زمانٌ عضوضٌ يعضُّ الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (2) ويبايع المضطرون. وقد نهى النبيُّ عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن تدرك (3). وجه الاستدلال من الدليل: أن بيع التَّورُّق يقعُ من رجل مضطرّ إلى النقود، ولا يجد من يقرضه، __________ (1) انظر: حكم التَّورُّق في الفقه الإسلامي. علي محيى الدين (4). (2) سورة البقرة آية (237). (3) سنن أبي داود. كتاب البيوع. باب: في بيع المضطر (3/ 255) رقم (3382) وانظر: سنن البيهقي الكبرى. كتاب: البيوع. باب: ما جاء في بيع المضطر وبيع المكره (6/ 17) رقم (10859) مصنف ابن أبي شيبة. كتاب البيوع والأقضية. باب في الشراء من المضطر (4/ 327). (1/107) ________________________________________ فيضطر إلى بيع التَّورُّق لقضاء حاجاته، والحديثُ نهى عن بيع المضطر. والنهيُ يقتضي التَّحريم، فيكون بيع التَّورُّق ممنوعًا. وقد نوقش الاستدلال من جهتين: 1 - من جهة السند: فإسنادُ هذا الحديث ضعيفٌ؛ لأنه كما جاء في سنده (عن شيخ من بني تميم)، يقولُ البيهقي: "وقد رُوي من أوجه عن علي، وابن عمر، وكلها غير قوية" (1). يقول الخطابي: "في إسناده رجلٌ مجهولٌ لا ندري من هو" (2). وجاء في المحلَّى: "لو استند هذان الخبران -يعني: رواية أبي داود، ورواية البيهقي- لقلنا بهما مسرعين، ولكنهما مرسلان، ولا يجوز القَولُ في الدَّيْن بالمرسل" (3). ولكن قد ورد ما يعضده، يقول ابنُ تيمية: "وهذا وإن كان في راويه جهالة، فله شاهدٌ من وجه آخر -ثم قال بعد ذكر هذا الوجه-: وهذا الإسنادُ وإن لم تجب به حُجَّة فهو يعضدُ الأول" (4). غير أن أهل العلم على كراهة بيع المضطر؛ لأن الاضطرار قد يؤثِّر في الرضا، الذي يُعَدُّ شرطًا من شروط صحة العقد، يقول الخطابي: "إلا أن عامةَ أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه" (5). ويقول ابنُ تيمية: "وإن كان في راويه جهالة مع أنه خبر صدق، بل هو من __________ (1) انظر: سنن البيهقي الكبرى. كتاب: البيوع. باب: ما جاء في بيع المضطر وبيع المكره (6/ 17) رقم (10859). (2) معالم السنن للخطابي (3/ 87). (3) المحلى لابن حزم (9/ 22). (4) الفتاوى الكبرى (3/ 137). (5) معالم السنن (3/ 87). (1/108) ________________________________________ دلائل النبوة، فإن عامة العِيْنَة إنما تقعُ من رجل مضطر إلى نفقة يضنُّ عليه الموسر بالقرض. . . ولهذا كره العلماء أن يكون أكثر بيع الرجل أو عامته نسيئة، لئلا يدخل في اسم العِيْنَة وبيع المضطر" (1). 2 - من جهة الدلالة: 1 - أن الاضطرار الذي يكونُ في التَّورُّق لا يؤثر فيه إلى حدِّ المنع، يقول الخطابي: "بيعُ المضطر يكون من وجهين: أحدهما: أن يضطرَّ إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد. والوجه الآخر: أن يضطر إلى البيع لدين يركبه، أو مؤنة ترهقه، فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضَّرورة. . . فإن عُقد البيع مع الضَّرورة على هذا الوجه، جاز في الحكم، ولم يفسخ" (2). وبيع التَّورُّق من الوجه الثاني الجائز لا الأول. 2 - لا نسلِّم أن الذي يلجأ إلى التَّورُّق هو مضطر، فإن البعضَ قد يتورَّق لأمر حاجي أو كمالي، ولا يصحُّ أن نقول: كلُّ متَّورُّق مضطر. الدليل الثاني: قَولُ ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إذا استقمت بنقد، فبعت بنقدٍ فلا بأس، وإذا استقمت بنقدٍ فبعت بنسيئة، فلا خير فيه، تلك ورق بورق" (3). وَجْهُ الاستدلال من الأثر: معنى هذا أن السِّلعة إذا قُومَتْ بنقد، ثم اشتراها المشتري إلى أجل، فإن مقصوده اشتراء دراهم مُعَجَّلة بدراهم مؤجَّلة، وهكذا __________ (1) الفتاوى الكبرى (3/ 137). (2) معالم السنن (3/ 87). (3) مصنف عبد الرزاق. كتاب البيوع. باب: الرجل يقول بع هذا بكذا فما زاد فلك (8/ 236) رقم (15028). (1/109) ________________________________________ في التَّورُّق يقوِّم السِّلعة في الحال، ثم يشتريها إلى أجلٍ بأكثر من ذلك، فإن الرجل يأتي فيقول: أريد ألف درهم، فيخرج له سلعة تساوي ألف درهم، فإذا قوَّمها بألف قال: اشتريها بألف ومئتين (1). ويمكن أن يناقش الاستدلال بهذا الأثر: أن السلف -رحمهم الله- كانوا يكرهون مشابهةَ صورةِ التعاقد المحرَّم، ولذلك يقولُ ابنُ تيمية: "حُفظ عن ابن عمر، وابن عباس، وغير واحد من السلف أنهم كرهوا (ده دوازده) (2)؛ لأن لفظه: أبيعك العشرة باثني عشر، فكرهوا هذا الكلام لمشابهته الرِّبا" (3). وبناء على هذا فإن قول ابن عباس محمول على كراهة أن تكونَ صورة التعاقد المباح مشابهة لصورة التعاقد المحرم، وكُره ذلك؛ لأن المشابهة في الصُّورة قد تؤولُ إلى مشابهة حقيقية. الدليل الثالث: أن التَّورُّق يشابهُ الرِّبا؛ لأن بعضَ المعاني التي لأجلها حرم الله الرِّبا موجودةٌ في التَّورُّق، وهذا هو الذي جعل عمرَ بن عبد العزيز يقول: "التَّورُّق آخية الرِّبا" أي: أصل الرِّبا، فإن الله سبحانه حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها، لما في ذلك من ضرر، وأكل للمال بالباطل، وهذا موجودٌ في التَّورُّق (4). ويمكن أن يُناقَشَ هذا الدليل بالآتي: أن التَّورُّق لا يشابهُ الرّبا، بدليل أننا إذا وضعنا الرِّبا والتُّورُّق على ميزان المقارنة، وجدنا الفوارقَ الشاسعة بين الرِّبا والتَّورُّق، وبيانُ هذا يتَّضح في ثلاثة أمور: __________ (1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 442) وانظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 138). (2) هذه جملة فارسية تعني: بيع ما يساوي عشرة باثني عشر. (3) الفتاوى الكبرى (3/ 138). (4) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/ 434). (1/110) ________________________________________ الأمر الأول: من الناحية الإجرائية (الشكلية) فإن التَّورُّق لا يشابه الرِّبا؛ لأنَّ التَّورُّق يكونُ بين أطراف ثلاثة، فالمُحتاجُ يشتري السِّلعة من البائع بثمن مؤجَّل، ثم يقوم المشتري ببيعها بنقد على طرف ثالث لا علاقة له بالبائع الأول، والبائع الأول لا يتجاوز دوره من أنه يبيعُ سلعته إلى أجل بثمن أكثر من ثمن السُّوق، وهذه الزيادةُ هي مقابل الأجل، وهذا أمرٌ مشروع، وأما الرِّبا فهو مختص بقرض بين الطرفين بزيادة في ذِمَّة المدين بدون مقابل، وتستلزم نموّ الديون، وتراكمها بلا ضوابط. الأمر الثاني: من الناحية الحقيقية (المقصود، والمآل)، فإن التَّورُّق لا يشابه الرِّبا في المقصد والمآل؛ لأن التَّورُّق وإن كان المقصودُ منه تحصيلَ السُّيُولة، إلا أن هذا لا يجعله يدخلُ في معنى الرِّبا؛ لأن أكثر المعاملات المالية يُقصد منها تحصيلُ النقود، فالتاجر -مثلًا- يشتري السِّلعة ليبيعها على الناس بربح، والمُحتاجُ سعى ليحصل على السُّيُولة لينتفعَ بها من خلال عملية التَّورُّق، فيرى أنه رابحٌ من هذه الجهة. يقول الشيخُ عبد العزيز بن باز: "وأما تعليل من منعها أو كرهها لكون المقصود منها هو النَّقْد، فليس ذلك موجبًا لتحريمها، ولا لكراهتها؛ لأن مقصودَ التجار غالبًا في المعاملات هو تحصيلُ نقودٍ أكثر بنقود أقل" (1). وكون التَّورُّق يشابه الرِّبا من جهة أن المحتاجَ المُتَوَرِّق يتحمَّل كثيرًا في ذِمَّته ليحصلَ على نقد أقل منه، فإن هذا لا يقضي بحرمة التَّورُّق؛ لأنه مركَّبٌ من معاوضتين، وقد استقلت كلُّ معاوضة عن الأخرى. الأمر الثالث: من الناحية الاقتصادية، فإن عملية التَّورُّق حينما نقومُ بتقويمها من الناحية الاقتصادية نرى أن فيها تنشيطًا للحركة الاقتصادية تمامًا، __________ (1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد السابع (53). (1/111) ________________________________________ كما في البيع والشراء، إذ التَّورُّق في الحقيقة عبارةٌ عن بيع وشراء، وأما الرِّبا فلا يكونُ من ورائه إلا تفشي الدُّيون، التي لا يكون من ورائها إلا القضاء على النشاط الاقتصادي المنتج. ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بالآتي: لا خلافَ أن صورةَ التَّورُّق تختلفُ عن صورة الرِّبا، والنزاع ليس في هذا، وإنما في حقيقة الرِّبا هل هي موجودةٌ في التَّورُّق أم لا؟. فمن كان ينظرُ إلى الصُّورة فقط دون النظر إلى الحقيقة فإنه يحكمُ بالجواز، ومن كان ينظرُ إلى المعنى الذي لأجله حرم الله الرِّبا، ووجده في التَّورُّق، فإنه يحكمُ بالتَّحريم، وحقيقة ربا النَّسِيئة هي الزيادةُ في الذِّمَّة دون مقابل، وهذه بعينها موجودةٌ في التَّورُّق، والعبرةُ بالمقاصد والمعاني لا بمجرَّد الألفاظ، والمباني. والذي يثيرُ العجبَ أن من يجيزُ التَّورُّق ينظرُ لمجرد الصُّورة، في حين أن صاحبَ المعاملة لا ينظرُ للصورة، بل للحقيقة، وهي الحصولُ على نقد حاضر بمؤجَّل أكثر منه، وهذا هو الذي جعل الكثيرَ يظنُّ أن الشَّريعة لا تتعامل بالحقائق، بل بالرسوم والمظاهر، وبناء الحكم على الصُّورة دون الحقيقة يجعلُ الناس أقلّ إيمانًا بالشَّريعة، وتعظيمًا لها، ومن ثم أقلّ التزامًا بأحكامها (1). الدليل الرابع: أن التَّورُّق فيه إعراضٌ عن مبرَّة الأقراض التي حثَّ عليها الإسلام. ويمكن أن يناقش هذا الدليل: أن القَرْض غيرُ واجبٍ على المسلم، بل هو من المندوبات، والإعراضُ عن المندوب لا يكونُ محرمًا. __________ (1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. د: سامي السويلم ص (34 - 35). (1/112) ________________________________________ وأما القائلون بالكراهة: فلعلَّ أدلة المانعين لم تنهضْ للدلالة على التَّحريم والمنع، فحكموا بالكراهة. المسألة الثانية: الترجيح: بعد النظر والتأمل في أدلَّة الأقوال والمناقشات، فإنه يبدو لي -والله أعلم- القَولُ بكراهة التَّورُّق كراهة تنزيهية للأسباب التالية: 1 - أن التَّورُّق فيه حَمْلُ المحتاجِ على شراء السِّلعة بأكثر من سعر يومها. 2 - أن بعض المعاني التي لأجلها حرم الرِّبا موجودةٌ في التَّورُّق، حيث إن المُتَوَرِّق يتحملُ كثيرًا في ذمته ليحصلَ على نقد أقل منه، وهو بهذا يشابه الرِّبا، وقد سبق أن السلف كانوا يكرهون مشابهة صورة التعاقد المحرم، حيث كرهوا (ده دوازده) أي: أبيعك العشرة باثني عشر؛ لأنه يشابه الرِّبا، والسبب الذي جعلهم يكرهون هذه المشابهةَ هو أنها قد تؤولُ إلى مشابهةٍ حقيقية. 3 - أن المُتَوَرِّق ينشأ عليه دين جَرَّاء عملية التَّورُّق، ومن مقاصد التَّشْريع في المعاملات المالية كراهة المدْيُونية، وشغل الذمة، حيث إن الدَّيْنَ تقييدٌ لحرية الإنسان في تصرفاته، ولذلك قيل: (رقّ الحرّ الدَّيْن) وعملية التَّورُّق تنشئ الدَّيْن على المحتاج، فيكره التَّورُّق من هذا الباب. وقد يجوزُ بلا كراهة، ولكنه جواز يخضعُ لضوابط لا بُدَّ من وجودها حين التَّورُّق، وحين عدم وجود تلك الضَّوابط، فإنا نحكم بالكراهة، وقد تزدادُ الكراهة إلى حدِّ التَّحريم، وأما بيان تلك الضَّوابط فهي كالتالي: 1 - أن يكون المُتَوَرِّق محتاجًا للنقود، وبناء على هذا يكونُ التَّورُّقُ جائزًا كحالة استثنائية، فالمُحتاجُ لا يلجأ إلى التَّورُّق إلا حين عدم وجود من يقرضه، أو أنه يوجد ولكن يقرضه بالفائدة، ولذلك استدلَّ القائلون بالجواز بالحاجة الماسَّة إلى التَّورُّق؛ لأن الحاجةَ المعتبرةَ شرعًا تزيلُ الكراهةَ للشيء، فتجعله (1/113) ________________________________________ مباحًا حينئذٍ في حقّ المحتاج، وقد جاءت الشَّريعةُ الإسلاميةُ برفع الحرج. يقول تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1). فيكون جوازُ التَّورُّق للحاجة إليه حالةً استثنائية، وعندما تنعدمُ الحاجةُ يكون مكروهًا. 2 - ومن الضَّوابط لجواز التَّورُّق: انعدام الاستغلال، فإذا وجد الاستغلال من البائع، كأن يزيد عليه الثمن أكثر ممَّا اعتاد عليه الناس، فبيع التَّورُّق يكون مكروهًا، وتزدادُ الكراهةُ، وتصلُ إلى التَّحريم حينما يشتد الاستغلال. 3 - أن المحتاج إذا أمكنه الحصولُ على السُّيُولة من الطرق التَّمويلية المشروعة كالقرض، أو السلم، أو الاستصناع، فيكره له الدخولُ في التَّورُّق لوجود البديل الأسلم والأنفع للحركة الاقتصادية، وإذا لم يجدْ ذلك فحينئذ يجوزُ له التَّورُّق. ومما ينبغي التنبيه عليه: أن حُكْم التَّورُّق قد يختلف في حقّ المتعاقدين، فقد يحرمُ على هذا، ويجوز لذاك، والعكس صحيح، فقد يحرم في حقّ بائع السِّلعة؛ لأنه مثلًا استغلَّ حاجة المُتَوَرِّق، فرفع ثمن السِّلعة أكثر ممَّا هو معتاد، بينما يكونُ جائزًا في حقّ المُتَوَرِّق لحاجته الشديدة إلى النقود، ولو فرضنا عدم الحاجة كان مُحَرّمًا في حقّ البائع، والمُتَوَرِّق. وكذلك العكس فقد يجوزُ التَّورُّق لبائع السِّلعة دون المُتَوَرِّق، فالبائع مثلًا يبيع بالآجل، كما هي عادته، دون أن يعلمَ بمراد المُتَوَرِّق، وليس للمتَّورُّق حاجةٌ في التَّورُّق، فهنا يجوزُ للبائع بيع سلعته بالآجل؛ لأن البيعَ بالآجل جائزٌ في حَدِّ ذاته، بينما لا يجوزُ التَّورُّق للمتَّورُّق لعدم حاجته. __________ (1) سورة الحج. آية (78). (1/114) ________________________________________ المبحث الخامس شروط التَّورُّق الفردي ذكرتُ سابقًا عند التَرجيح في مسألة حُكْم التَّورُّق الفردي أن الأصلَ في التَّورُّق هو الكراهة، ولكنه قد يجوزُ في بعض الأحيان عند توفر بعض الشُّروط، التي نصَّ عليها العلماء، وفي هذا المبحث سأقومُ بتفصيل تلك الشروط، وما يرد على بعضها من مناقشاتٍ، وهي على النحو التالي: 1 - أن لا يبيعَ المشتري السِّلعة على بائعها الأول، لا مباشرة، ولا بواسطة (1). وهذا الشَّرْطُ هو الذي يميز بيعَ التَّورُّق عن بيع العِيْنَة، إذ لا فارقَ جوهريّ بين العِيْنَة والتَّورُّق إلا بهذا الشَّرْط؛ لأنَّ المشتري إذا باع السِّلعة على بائعها الأول، فقد وقع في العِيْنَة المحرمة، ولذلك جاء ذكر هذا الشَّرْط في تعريفِ التَّورُّق، فقد عرَّف مجمعُ الفقه الإسلامي التَّورُّق بأنه "شراء سلعة في حَوْزة البائع وملْكه بثمن مؤجَّل، ثم يبيع المشتري بنقد لغير البائع للحصول على النَّقْد". __________ (1) هذا الشرط يفهم من كلام الفقهاء، الذين تحدثوا عن التَّورُّق، انظر: فتاوى ابن تيمية (29/ 300 - 303) والفروع لابن مفلح (4/ 126) وكشاف القناع للبهوتي (3/ 186) وقد نصت على هذا الشرط الموسوعة الفقهية (14/ 147) وقرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عشرة. انظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي. ص (320). (1/115) ________________________________________ وقد نصَّ على هذا الشَّرْط قرارُ مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة يوم السبت الحادي عشر من رجب عام (1419 هـ) حيث جاء فيه: "ثالثًا: جواز هذا البيع مشروط بأن لا يبيع المشتري السِّلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة، ولا بالواسطة، فإن فعل فقد وقع في بيع العِيْنَة المحرم شرعًا، لاشتماله على حيلة الرِّبا، فصار عقدًا محرمًا" (1). 1 - أن تكون السِّلعة في حَوْزة البائع، وملكه (2). 2 - أن لا يبيع المستدين السِّلعة إلا بعد قبضها، وحيازتها (3)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السِّلع قبل أن يَحوزَهاْ التجارُ إلى رِحالهم (4). وقد نُوقش هذان الشَّرْطان بأنهما ليسا خاصَّين بالتَّورُّق، بل هما عامَّان في جميع البيوع، فلا يجوزُ بيع السلع قبل قبضها، ولكن قد يقال: إن واقعَ الكثير ممن يتعامل بهذه المعاملة يبيعُ سلعته قبل القبض، ولذلك نصَّ الشّيخُ ابن عثيمين -رحمه الله- على الشَّرْط الثالث في فتواه، تنبيهًا لمن يتعاملُ بالتَّورُّق على هذا الشَّرْط، الذي هو عامّ في كل البيوع (5). __________ (1) انظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الخامسة عشرة القرار الخامس. ص (320). (2) المرجع السابق. (3) رسائل فقهية لابن عثيمين. ص (107). (4) انظر: سنن أبي داود. كتاب البيوع. باب: في بيع الطعام قبل أن يستوفى (3/ 212) رقم (3499) وسنن البيهقي الكبرى. كتاب البيوع. باب: قبض ما ابتاعه جزافًا بالنقل والتحويل إذا كان مثله ينقل. (5/ 314) رقم (10463) والمستدرك على الصحيحين. كتاب البيوع (2/ 46) رقم (2271). والحديث صححه ابن حبان. (5) رسائل فقهية لابن عثيمين. ص (107). (1/116) ________________________________________ 3 - أن يكون المُتَوَرِّق محتاجًا إلى النقود، فإن لم يكن محتاجًا فلا يجوز. 4 - أن لا يكون هناك استغلالٌ من البائع، فإن وجد الاستغلال فيكره، ويزداد كراهةً، ويصل إلى التَّحريم كلما اشتدَّ الاستغلال. 5 - أن لا يتمكَّن من الحصول على المال بطرق أخرى مباحة كالقرض، والسلم، فإن تمكّن من الحصول على المال بغير التَّورُّق، فلا يجوز له الدخول في التَّورُّق لوجود الطرق الأخرى الجائزة إجماعًا (1). 6 - أن لا يشملَ العقدُ على ما يشبه صورة الرِّبا، مثل أن يقول: بعتك إياها العشرة أحد عشر، أو نحو ذلك، فإن اشتمل على ذلك فهو مكروه، أو محرم (2). وهذه الشروطُ إذا تحقّقت في بيع التَّورُّق يكون جائزًا لا كراهةَ فيه، وإذا اقترنتْ بهذه المعاملة ما يخلُّ بهذه الشروط، فلا يستبعد أن يتغير الحكم، إما إلى الكراهة كأن يلجأ إلى التَّورُّق مع وجود من يقرضه، أو أن يتغير الحكم إلى التَّحريم كاستغلال المحتاج. __________ (1) المرجع السابق. (2) انظر: المرجع السابق. (1/117) ________________________________________ الفصل الثانى تصوير التَّورُّق المصرفى المبحث الأول صورة التَّورُّق المصرفي، والأطراف المشتركة فيه المطلب الأول صورة التَّورُّق المصرفي المسألة الأولى: الصورة العامة لعملية التَّورُّق كما تجريها المصارف: من يتأمَّل التَّعامُلات المالية المعاصرة، فإنه يجد التَّورُّق قد انتشر انتشارًا هائلًا لدى جميع المصارف، وانتشاره جاء نتيجةً للتطوير المستمرّ لعمليات التَّورُّق، فقد عملتِ المصارفُ على تطوير وسائل وأدوات تخفضُ من التكاليف التي تفرضها إجراءات التَّورُّق، لكي ترفعَ من مستوى الرِّبْحية، والكفاءة لتحقيق مصلحة المُتَوَرِّق والبائع، "وتمثل هذا التطور في سَعْي البائع في بيع السِّلعة نيابةً عن المشتري بثمن نقدي حاضر، بحيث لا يتكبَّدُ المشتري مصاريف القبض، والحيازة، والنقل، والتَّسْويق، وهذا بجانب تحقيقه لمصلحة المُتَوَرِّق، فهو أيضًا يحقّق مصلحةَ البائع؛ لأنه بذلك يكسب شريحة أكبر من الرَّاغبين في التَّمويل، ويستطيعُ من ثم تحقيق أرباح أفضل" (1). __________ (1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (59). (1/118) ________________________________________ وقد كانت عملياتُ التَّورُّق تتمُّ بصورة عشوائية، فاتجهت المصارفُ لتنظيم هذه العمليات وفق آلياتٍ مرتبة، لتحقيق هدفين: الأول: السُّرعة في إنجاز العمل. الثاني: تخفيض نسبة الخسارة، التي يتكبَّدها العميلُ عند إعادة بيع السِّلعة، التي اشتراها من البنك (1). وعمليات التَّورُّق التي تجريها المصارفُ قد تختلف عن بعضها، تبعًا لاختلاف الإجراءات، التي يحددها المصرف، غير أنه يمكن أن نحدِّد الصُّورة العامة المتفق عليها من جميع المصارف، وهي كالتالي: يتقدم العميلُ (المتَّورِّق) بطلب لشراء سلعة من البنك بالتقسيط، وعند قبول الطلب يطلب الموظفُ المختص من العميل أن يوقعَ على عقد البيع، وبتوقيعه يكون العميلُ قد امتلك تلك السِّلعة، ثم يُفاد العميلُ بأن له حرية التصرف فيما اشتراه، فإن شاء أخذ السِّلعة مكَّنه البنكُ من ذلك، وإن شاء ت**** جهة لبيع السِّلعة، فله ذلك، وله أيضًا الخيار في أن يوكِّل البنك في إعادة بيع السِّلعة نيابةً عنه على إحدى الشركات، والمعمولُ به في البنوك أن العميل يقومُ بت**** البنك في بيع السِّلعة نيابةً عنه، لكي لا يتكبدَ العميلُ مصاريف القبض، والحيازة، والنقل، والتَّسْويق، فيقوم البنك ببيع السِّلعة نقدًا نيابة عن العميل (المتَّورُّق) على إحدى الشركات، ومن ثم يوضع ثمن السِّلعة في حساب العميل خلال يومين (2). ولتوضيح الصُّورة أكثر أسوقُ هذا المثال: يأتي زيد إلى البنك، ويبدي رغبته في الدخول في برنامج التَّورُّق المطروح من قبل البنك، فيشتري زيد سلعة __________ (1) انظر: تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم (8). (2) انظر: تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي. موسى آدم عيسى. (12 - 14)، وانظر: التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق. أحمد محيي الدين أحمد (2 - 4). (1/119) ________________________________________ بثمن موجَّل من البنك، الذي قد اشترى هذه السِّلعة من إحدى الشركات، ويدفع زيد الثمن المؤجَّل على شكل أقساط في فترة محددة، وبتوقيع زيد على عقد البيع تكون السِّلعة في ملكه، ثم يقوم زيد بت**** البنك في بيع هذه السِّلعة على إحدى الشركات بثمن أقل نقدًا مما اشتراه، فيقومُ البنكُ بموجب الوكالة ببيع السلعة، ويُوضَع ثمن السِّلعة النَّقْديّ في حساب زيد خلال يومين. وحين التأمُّل في صورة التَّورُّق المصرفي، نلاحظ أن التَّورُّق المصرفي يقومُ على عدَّة عقود مرتبطة ببعيضها، وكذلك يقومُ على اتفاقات سابقة بين البنك ومجموعة من الشركات، وبيان تلك العُقُود وتلك الاتفاقات يتَّضح في الآتي: 1 - يكونُ هناك اتفاقٌ سابقٌ بين البنك وكلتا الشركتين البائعة على البنك والمشترية منه، وهذا الاتفاق يعقدُ قبل مجيء العميل (المُتَوَرِّق) للبنك، ونستطيعُ القولَ أن تلك الاتفاقات (1) على نوعين: أ - اتفاق سابق بين البنك والشركة البائعة، وبموجب هذا الاتفاق يكون البنكُ عميلًا للشركة، ليشتريَ البنك السِّلع التي هي محلّ عملية التَّورُّق، ليقومَ البنكُ بدوره ببيعها على المُتَوَرِّق، "وبالقطع فإن البنك لم يكن ليشتريَ لولا أنه يقصد البيع لعملائه المُتَوَرِّقين، ولكن العاقدين لا يظهران ذلك كالشأن في الحِيَل" (2). ب - اتفاق سابق بين البنك والشركة المشترية، وبموجب هذا الاتفاقِ تكون الشركةُ عميلةً للبنك، لتشتري السِّلع التي يبيعها البنك وكالة عن المُتَوَرِّق. وهذه الاتفاقيات تمثل الإطار العام، الذي ينظم العلاقةَ بين البنك وكلتا __________ (1) انظر: شرح إجراءات الاتفاقات في: تطبيقات التَّورُّق.: موسى آدم (12 - 15). (2) انظر: تعليق على بحوث التَّورُّق. . حسين حامد حسان (6). (1/120) ________________________________________ الشركتين، وتجري عمليةُ البيع عن طريق تبادل الإيجاب والقبول عبر الفاكسات، حيث يتمُّ تحديد الكميات المعروضة للبيع (1). 2 - عقد بيع بين البنك والشركة التي تبيعه السِّلعة، التي هي محل عملية التَّورُّق. 3 - عقد بيع بين البنك والمُتَوَرِّق، ليشتري المُتَوَرُّق السِّلعة بثمن مؤجَّل، "ومن المقطوع به أن المتَّورِّق لم يكن ليشتري السِّلعة، لولا أن البنك سيبيع هذه السِّلعة لحسابه لتوفير النَّقْد المطلوب، ولكنهما لا يظهران ذلك كالشأن في المحتالين" (2). 4 - عقد وكالة بين البنك والمُتَوَرِّق، فيقوم المُتَوَرِّق بت**** البنك في بيع السِّلعة نيابةَّ عَنه على إحدى الشركات، لكي يتخلص المُتَوَرِّق من مصاريف القبض، والحيازة، والنقل، والتَّسْويق. 5 - عقد بيع بين البنك والشركة المشترية، فيقومُ البنكُ بصفته ****ًا عن المُتَوَرِّق ببيع السِّلعة بثمن نقدي، ليوضع هذا الثمن في حساب المتَّورِّق، وبالقطع فإن هذا الثمن النَّقْديّ سيكون أقلّ من ثمن السِّلعة المؤجَّل، الذي سيدفعه المُتَوَرِّق للبنك على شكل أقساط (3). المسألة الثانية: ميزة التَّورُّق المصرفي: بعد عَرْض الصُّورة العامة للتَّورُّق المصرفي، يمكن القول بأن التَّورُّق المصرفي يتميز بـ: __________ (1) انظر: تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي: موسى آدم عيسى (15). (2) تعليق على بحوث التَّورُّق: حسين حامد حسان (6). (3) انظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (26) وانظر: تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي: موسى آدم عيسى (12 - 15) وانظر: تعليق على بحوث التَّورُّق: حسين حامد حسان (6 - 8). (1/121) ________________________________________ 1 - التنظيم، ولهذا أطلق البعضُ (1) على عمليات التَّورُّق المصرفية مصطلحًا آخر، وهو (التَّورُّق المنظم)، ويتجلى هذا التنظيم "من خلال ما يرتبه البنك من اتفاقات سابقة على عقد البيع مع كل من الشركة البائعة، التي تبيع عليه والشركة المشترية التي تشتري منه، وهو اتفاقٌ ينظّم التَّعامُل المستقبلي مع تلك الشركات من خلال الاتفاق على إجراءات وأحكام معينة، ومن أجل هذا سُمِّي بـ (التَّورُّق المنظم") (2). 2 - أن البنك يشتري السِّلعة قبل طلب العميلِ، بناءً على الاتفاقات التي عقدها البنك مع الشركة البائعة. 3 - أن البائع (البنك) يتوكَّل عن المشتري (العميل المُتَوَرِّق) في بيع السِّلعة التي اشتراها منه نيابةً عنه"، وهو ما عليه العمل، وقد يكون الت****ُ بعد توقيع طلب الشراء مباشرة، وقبل تمام عقد البيع، وقد يكون بعده، وهذا مختلفٌ باختلاف البنوك، وغالبها يكون الت****ُ فيه قبل تمام عقد البيع" (3). المسألة الثالثة: ماهية السِّلع المستخدمة في عمليات التَّورُّق المصرفية: استخدمت البنوكُ بعض السِّلع في عمليات التَّورُّق، وتلك السِّلع لا بُدَّ أن تخضعَ لبعض المواصفات حتى تكون محلًا صالحًا، لإجراء عمليات التَّورُّق عليها، وأبرز المواصفات التي لا بُدَّ منها هي كالتالي: 1 - أن تتمتعَ بالسُّيُولة بمعنى وجودِ سُوق نشطةٍ لها. __________ (1) بعض الباحثين أطلق (التَّورُّق المنظم) على عمليات التَّورُّق المصرفية باعتبار التنظيم الحاصل فيها، ومنهم: د: سامي السويلم. ود: عبد الله السعيدي. (2) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي. (12). (3) المرجع السابق. (1/122) ________________________________________ 2 - أن تَتَّسِمَ بالاستقرار النسبي للسعر في المدى القصير. 3 - السرعة والسُّهولة في الإجراءات (1). ولذلك فإن السِّلعَ التي استخدمتها البنوكُ في عمليات التَّورُّق هي كالتالي: 1 - السِّلع الدولية: ويُراد بها الموادّ الأولية الأساسية، مثل: النحاس، والحديد، والألمنيوم (2)، وغالب عمليات التَّورُّق المصرفية هي في السِّلع الدولية؛ لأنَّها تتمتعُ بالسُّيُولة، والسهولة في الإجراءات. 2 - السيارات: فهي تتمتع بالمتعاملين الكثر، فلم يكنْ عسيرًا على من اشترى سيارةً أن يبيعها في وقت قصير بثمن نقدي حاضر (3). 3 - الأسهم: فهي تتمتعُ بالسُّيُولة والسرعة في الإجراءات، فيشتري العميلُ أسهمًا من البنك بثمن مؤجَّل، ثم يبيعها في السُّوق ليحصلَ على ثمنها النَّقْديّ (4) 4 - السِّلع المحلية: فبعضُ البنوك تعملُ على تطوير عمليات التَّورُّق في السلع المحلية، ومن هذه السِّلع التي تستخدمها البنوك في عمليات التَّورُّق: الإسمنت، وزيوت الطعام، والمشروبات الغازية، ومنتجات البلاستيك الخام (5). __________ (1) انظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القريّ (14). (2) انظر: تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي موسى آدم عيسى (12). (3) انظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القريّ (14). (4) انظر: التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق. أحمد محيي الدين أحمد (3)، وانظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القريّ (15). (5) التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القريّ (16). (1/123) ________________________________________ المطلب الثاني الأطراف المشتركة في التَّورُّق المصرفي المسألة الأولى: الأطراف المشتركة التي تقتضيها عمليات التَّورُّق المصرفية: من المعلوم أن عمليةَ التَّورُّق الفردي تتمُّ من خلال ثلاثة أطراف، هم على النحو التالي: 1 - البائع: الذي يبيعُ السِّلعة على المتَّورِّق بثمن مؤجَّل. 2 - المُتَوَرِّق: (المشتري الأول): الذي يشتري السِّلعة من البائع بثمن مؤجَّل. 3 - المشتري الثاني: الذي يشتري السِّلعة من المُتَوَرِّق بثمن نقديّ حاضر، أقل من الثمن المؤجَّل، ويمكن أن يطلق عليه (المشتري النهائي). فعمليةُ التَّورُّق الفردي التي عرّفها الفقهاءُ "تبدأ وتنتهي بصورة شبه عفوية، وبدون ترتيبات مسبقة، أو إجراءات مقننة، كما أنها تتمُّ في خِضَمِّ عمليات البيع والشراء، التي تقع في الأسواق حتى لا تكاد تعرف بضاعة المتَّورِّق من باقي ما يقع من مبادلات في الأسواق" (1). وأما التَّورُّق المصرفي، فهو يتطلَّب وجود ثلاثة أطراف كحدٍّ أدنى، وفي بعض الأحوال قد يزيد عددُ الأطراف إلى أربعة والأطراف المشتركة في التَّورُّق المصرفي، هم على النحو التالي: 1 - المورد: وهو البائعُ الأول للسلعة، أي: الجهة المالكة للسلعة التي هي محلُّ عملية التَّورُّق، والغالب أن يكون هذا الموردُ إحدى الشركات التي يكون بينها وبين البنك عقد اتفاقية، يكون البنك بموجبها عميلًا للشركة، لتبيع عليه السِّلع التي هي محلّ عملية التَّورُّق. __________ (1) المرجع السابق (10). (1/124) ________________________________________ 2 - المشتري الممول: وهو الجهة التي تشتري السِّلعة نقدًا بقصد بيعها بالأجل إلى العميلِ المُتَوَرِّق، والغالب أن يكونَ هذا الطرفُ هو البنك، فالبنك يقومُ بشراء السِّلعة التي هي محلُّ عملية التَّورُّق من إحدى الشركات بموجب اتفاقية سابقة بين البنك والشركة، ثم يقوم ببيع السِّلعة على المُتَوَرِّق بالأجل. 3 - العميل المُتَوَرِّق: وهو الجهةُ التي تشتري السِّلعة بالأجل من المشتري المموِّل (البنك) بقصدِ بيعها إلى المشتري النهائي، ليحصلَ بذلك على الثمن النَّقْديّ، والغالب أن العميلَ المُتَوَرِّق يقوم بت**** المشتري المموِّل (البنك) في بيع السِّلعة إلى المشتري النهائي. 4 - المشتري النهائي للسلعة: وهو الجهة التي تشتري السِّلعة من العميل المُتَوَرِّق نقدًا، والغالب أن المشتري النهائي لا يشتري السِّلعة من العميلِ المُتَوَرِّق مباشرة، وإنما يشتريها من المشتري الممول (البنك) بصفته ****ًا عن العميلِ المُتَوَرِّق، وقد يكون المشتري النهائي للسلعة هو نفسه المورد الأصلي، الذي اشتريت منه السِّلعة، وفي هذه الحالة يكون التَّورُّقُ المصرفي قد تمَّ عبر ثلاثة أطراف، وبعض الأحيان يكون المشتري النهائي للسلعة جهة غير المورد الأصلي، وفي هذه الحالة يكونُ التَّورُّق المصرفي قد تمَّ عبر أربعة أطراف (1). إذًا فالتَّورُّق المصرفي يمكن أن يطلقَ عليه (التَّورُّق المؤسسي)، "إذ إن له إجراءات مقننة، وموظفين متخصصين، وصيغًا نمطية، ومنظومات تعاقدية، وله إجراءاته ووثائقه التي تتكرر في عملياته، بشكل يجعل التَّورُّق ذاته نشاطًا شبه مستقلّ عن الأنشطة التجارية المعتادة" (2). __________ (1) انظر: تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى (504). (2) التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القريّ (11). (1/125) ________________________________________ المبحث الثاني الفروق بين التَّورُّق المصرفي والتَّورُّق الفردي بعد عرض الصُّورة العامة للتَّورُّق المصرفي، ومَعْرفة الأطراف المشتركة فيه، يمكن أن نعرف الأوجه التي يتفق التَّورُّق المصرفي فيها مع التَّورُّق الفردي، وكذلك أوجه الاختلافِ بينهما، فأما أوجهُ الاتفاق بين التَّورُّق الفردي والمصرفي هي على النحو التالي: 1 - غاية التَّورُّق المصرفي هي تحصيلُ النَّقْد للعميل (المتَّورِّق)، وهو بهذه الغاية يتفقُ مع التَّورُّق الفردي المعلوم عند الفقهاء. 2 - أن التَّورُّق المصرفي يقومُ على عدَّة عقود -كما سبق بيانه- غير أن أبرزَ عقدين فيهما هما على النحو التالي: أ- تعاقد البنك (البائع) مع العميل (المشتري)، فيشتري العميلُ سلعة بثمن مؤجَّل، يدفعه على شكل أقساط في فترة محددة، وظاهرُ هذا العقد أنه بيعٌ صحيح قد استوفى أركانه، وشرائطه. ب- تعاقد البنك بالنيابة عن العميل (المشتري) مع طرف ثالث يطلق عليه (المشتري النهائي)، ليشتري السِّلعة بثمنِ نقديّ حاضر يوضع في حساب العميل (المشتري) (1). والتَّورُّق المصرفي حين يقومُ على هذين العقدين، فإنه يتفق مع التَّورُّق __________ (1) انظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (15). (1/126) ________________________________________ الفردي في الشكل نوعًا ما، إذ التَّورُّق الفردي عبارة عن عقدين منفصلين هما على النحو التالي: أ- تعاقد البائع مع المُتَوَرِّق، فيشتري المُتَوَرِّق سلعة بثمن مؤجَّل. ب- تعاقد المُتَوَرِّق مع طرف آخر غير البائع، ليبيعَ المُتَوَرِّق سلعته بثمن نقدي حاضر أقلّ من الثمن المؤجَّل. وبهذا نعرفُ أن التَّورُّق المصرفي يوافقُ التَّورُّق الفردي في الغاية، وفي الشكل نوعًا ما. وأما أوجهُ الاختلاف بين التَّورُّق المصرفي والتَّورُّق الفردي فهي على النحو التالي: 1 - أن التَّورُّق الفردي يبدأ وينتهي بصورة شبه عفوية، وبدون ترتيبات مسبقة، أو إجراءات مُقَنَّنة، في حين أن التَّورُّق المصرفي مؤسَّسي، حيث إن له إجراءات مقننة، ووثائق بشكل يجعل التَّورُّق ذاته نشاطًا شبه مستقل عن الأنشطة التجارية المعتادة (1). 2 - في عملية التَّورُّق المصرفي يكونُ هناك تفاهمٌ مسبق بين الطرفين، على أن الشراء بأجل ابتداء إنَّما هدفه الوصول إلى النَّقْد، وأما في التَّورُّق الفردي فإن البائع قد لا يعلمُ بهدف المشتري (2). 3 - أن البائع في عملية التَّورُّق المصرفي، وهو البنك، يقوم ببيع السِّلعة نيابة عن المشتري (المُتَوَرِّق)، في حين أن البائع في التَّورُّق الفردي لا علاقةَ له ببيع السِّلعة مطلقًا، ولا علاقة له بالمشتري النهائي. 4 - أن المُتَوَرِّق في عملية التَّورُّق المصرفي يستلم النَّقْد من البائع نفسه، __________ (1) انظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القريّ (10 - 11). (2) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. د: سامي السويلم (16). (1/127) ________________________________________ الذي صار مدينًا له بالثمن الآجل، في حين أن الثمنَ في التَّورُّق الفردي يقبضُه المُتَوَرِّق من المشتري النهائي مباشرة، دون أي تدخُّلٍ من البائع. 5 - أن التَّورُّق المصرفي يكون فيه اتفاق سابق بين البنك والمشتري النهائي، الذي سيشتري السِّلعة، وهذا الاتفاق يحصل من خلال التزام المشتري النهائي بالشراء، في حين أن التَّورُّق الفردي يكونُ خاليًا من تلك الاتفاقات (1). 6 - في عملية التَّورُّق الفردي تدورُ السِّلعة دورتها العادية من مالك أصلي إلى المُتَوَرِّق إلى مالك جديد، ثم منه إلى أطراف أخرى، ولكن في عملية التَّورُّق المصرفي، خاصة إذا كانت الشركة التي تبيع للبنك، ثم تعيد الشراء شركة واحدة نجد السِّلعة تدورُ من يد مالكها اليمنى إلى يده اليسرى، ثم إلى يده اليمنى، وهكذا. 7 - في عملية التَّورُّق الفردي يوجدُ فصلٌ كاملٌ في التصرفات التعاقدية، ولكن في عملية التَّورُّق المصرفي، وفي جلسةٍ واحدة، وبمجرد توقيع الأوراق تتداخلُ كل التصرفات التعاقدية (2). __________ (1) انظر: التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (18). (2) انظر: التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق. أحمد محيي الدين (5). (1/128) ________________________________________ المبحث الثالث الفروق بين التَّورُّق المصرفي والرِّبا من خلال الاطلاع على بعض البحوث التي تحدثتْ عن عمليات التَّورُّق المصرفية، وبعد النظر في الصُّورة العامة للتَّورُّق المصرفي، يمكن صياغةُ بعض التَّورُّق بين الرِّبا والتَّورُّق المصرفي، وهي على النحو التالي: 1 - أن العُقُود التي يقومُ عليها التَّورُّق المصرفي تنص على أن هناك مبادلة يكون لها أثر في حركة السُّوق، فالبنكُ يشتري السِّلعة من شركة، ثم يقومُ ببيعها على العميل المُتَوَرِّق، ثم يقومُ العميلُ بت**** البنك في بيع السِّلعة على شركة أخرى، وبغضِّ النظر عن هذه المبادلة هل هي حقيقية أم صورية، إلا أن العُقُودَ التي يقومُ عليها التَّورُّق المصرفي تنصّ عليها، وأما الرِّبا فإنه دراهم بدراهم، دون وجود أي منفعة يُنتفعُ بها في حركة السُّوق، "فالمقترضُ إذا اقترض مئة، والتزم في ذمته بمئة وعشرة كانت العشرة دينًا لا يقابله ما ينتفع به" (1). ولذلك فإن الشَّريعة الإسلامية حرمت كلَّ عقد لا يفيد في سير الحركة الاقتصادية كالعِيْنَة الثنائية، والثلاثية، وسائر الحِيَل. وبعض الباحثين ذهب إلى أنه لا فَرْقَ بين الرِّبا والتَّورُّق المصرفي في التأثير على حركة السُّوق، إذ يرى أن الحاصلَ من عملية التَّورُّق المصرفي "أن المصرف يقول للعميل: أوفر لك مئة نقدًا مقابل أن تكون مدينًا لي بمئة وعشرين مؤجَّلة، وهذا هو الرِّبا. فالمصرف الربوي وظيفته توفير السُّيُولة للمدين مقابل __________ (1) التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (6). (1/129) ________________________________________ دين بزيادة في ذمته، فمن الناحية الوظيفية لا فرقَ بين المصرف الربوي وبين المصرف، الذي يقدم التَّورُّق المنظم" (1). والذي جعل بعضَ الباحثين لا يرى فرقًا بين الرِّبا والتَّورق المصرفي هو اعتبار الصورية في عقود التَّورُّق المصرفية، فهو يرى أن العُقُودَ التي يقوم عليها التَّورُّق المصرفي لا تأثيرَ لها في حركة السُّوق، إذ هي مجردُ أوراق يتمُّ توقيعها فقط، فهي عقود صورية لا تأثير لها في الحركة الاقتصادية، فإن "كلّ مَنْ راقب خطوات هذه المعاملة -أي: التَّورُّق المصرفي- يرى أن العميل يدخل إلى المصرف يريد نقودًا، فيوقع مجموعة من الأوراق، ثم يخرج وفي حسابه لدى المصرف مئة وفي ذمته له مئة وعشرون، وهذه هي صورة التَّمويل الربوي في المصارف التقليدية" (2). 2 - أن الرِّبا غالبًا ما يكون بين طرفين، وأما التَّورُّق المصرفي فليس فقط عقدًا بين طرفين، بل هو معاملة يجريها المُتَوَرِّق مع أكثر من طرف، والأطراف التي يتعاملُ معهم المُتَوَرِّق هم من الشخصيات الاعتبارية كالبنوك، والشركات، فالرِّبا اسمٌ لعقدٍ يتمُّ بين طرفين، وأما التَّورُّق المصرفي فهو يقومُ على عدة عقود، كل عقد منها مستقل عن الآخر (3). 3 - أن تكون الخسارةُ حتميةً على المقترض في الرِّبا، إذ يضمن ما لا يقابله انتفاع، فالمدين إذا قبض مئة وضمن مئة وعشرين يكون قد ضمن عشرين دون أن يحصل على ما ينتفع به مقابلها، فهذا ضمانٌ لا يقابله خراج (4). __________ (1) المرجع السابق (19). (2) المرجع السابق. (3) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (33). (4) انظر: التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (7). (1/130) ________________________________________ وأما في التَّورُّق المصرفي فإنَّ المُتَوَرِّق قد يربحُ في سلعته التي اشتراها بالثمن المؤجَّل، فلا يلزمُ أن يخسرَ المُتَوَرِّق في بيعته الثانية. ولكنَّ بعضَ الباحثين ذهب إلى أن احتمالَ الربح في البيعة الثانية نادر والنادر لا حكم له، وبذلك يقرر أن الخسارة تكون حتمية في الرِّبا، والتَّورُّق المصرفي (1). 4 - أن الخسارة التي يتكبدها المقترضُ في الرِّبا يصعبُ تعويضها، وأما المُتَوَرِّق فإنه يستطيعُ تعويضها، فإنه حين يحتاجُ إلى النَّقْد، ويتورق لأجل الدخول في تجارة، أو مساهمة، فسيعوض الخسارة الناتجة عن عملية التَّورُّق بالأرباح الناتجة عن تلك التجارة، وتلك المساهمة. والحقيقة أن هذا قد يوجد في الرِّبا، فيمكن للمقترض في الرِّبا أن يُعوَّض عن خسارته بأن يدخل في تجارة، أو مساهمة بالنقود التي اقترضها من المرابي، وبهذا لا فرق بين الرِّبا والتَّورُّق المصرفي في مسألة تعويضِ الخسارة. 5 - أن المرابي الذي سيقرض بفائدة يعلمُ أن معاملته محرَّمة، بخلاف بائع السِّلعة (البنك) الذي يرى أن عملية التَّورُّق جائزة في إجراءاتها بغضِّ النظر عما تؤولُ إليه المعاملة، فهو يرى أن عملية التَّورُّق عبارة عن عقود صحيحة، مستكملة الشروط والأركان. 6 - حينما نقرأ كلامَ شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي نقله عنه تلميذُه ابن القيم عن التَّورُّق، حيث قال: "المعنى الذي لأجله حرم الرِّبا موجود فيها -أي: في صورة التَّورُّق الفردي- بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السِّلعة، وبيعها، والخسارة فيها، والشَّريعة لا تحرمُ الضَّرر الأدنى، وتبيح ما هو أعلى منه" (2) __________ (1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (39). (2) إعلام الموقعين (3/ 170). (1/131) ________________________________________ نستطيع استنتاج فرق بين التَّورُّق المصرفي والرِّبا بناءً على رأيه، فالتَّورُّق المصرفي فيه تكلفةٌ من جهة "اشتراط تحميل العميل رسومًا إدارية، تتراوح من (700 - 2000) ريال، تختلف باختلاف البنك والمعاملة" (1) ومع ذلك فإنَّ مآله إلى الرِّبا، فالتَّورُّق المصرفي فيه تكلفة، ومشقة، ويعطي نتيجة الرِّبا، فيكون أشدّ من الرِّبا الصريح؛ لأن الرِّبا ليس كالتَّورُّق في الكلفة، إذ هو أيسرُ الطرق للحصول على الثمن الحاضر مقابل ثمنٍ في الذمة أكثر منه "وإذا كان هناك معاملتان تستويان في النتيجة، والهدف، والغاية، إحداهما أكثر كلفة ومشقة من الثانية، فإن جوازَ الأكثر مشقة يستلزمُ بالضَّرورة جواز الأقل مشقة، وتحريم الأقل مشقة يستلزمُ بالضرورة تحريم الأكثر مشقة، والقولُ بخلاف ذلك متناقضٌ ومنافٍ لمنهج التشريع" (2). فالتَّورُّق المصرفي في غايته وهدفه يوافق الرِّبا، ويفارقه في أن التَّورُّق المصرفي فيه كلفة، ومشقة، وتحمل رسوم إدارية مفروضة من قبل البنك. 7 - أن الرِّبا قد أجمعتِ الأمةُ على تحريمه، في حين أن التَّورُّق المصرفي قد وقع خلاف بين المعاصرين في حكمه. __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (38). (2) التَّورُّق والمُتَوَرِّق المنظم. سامي السويلم (33). (1/132) ________________________________________ المبحث الرابع الآليات العملية للتَّورُّق المصرفي، ومدى انضباطها الهدف من عمليات التَّورُّق المصرفي هو الحصول على سيولة تغطي الحاجة إليها، سواء أكانت الحاجةُ من فرد أم من مؤسسة، فيحصل العميلُ على نقد عاجل مقابل زيادة في ذمته (1)، وبالنظر إلى الآليات العملية فإنه "لا توجد مرجعيةٌ لآلية معلن عنها توضح وبجلاء خطوات، ومراحل العملية، وعلاقات الأطراف المشاركة فيها، وأكثر الخطوات غموضًا هي العلاقة التي تربط البنك بالشركة، التي سوف تبيع السِّلعة إلى البنك، وتشتريها منه بت**** من العميل" (2). وحين الاطلاع على بعض الآليات العملية للتَّورُّق المصرفي، يمكن أن نعطي الملامحَ العامة لتلك الآليات، والخطوات الإجرائية لعملية التَّورُّق، وهي على النحو التالي: 1 - الترتيبات المتفق عليها: أ- يتم توقيعُ اتفاق مع إحدى الشركات تُسَمَّى: اتفاقية إعادة الشراء، تشتري بموجبه الشركة كل ما يعرضُ عليها من معدن (البلاديوم) مثلًا بثمن أقل من الثمن، الذي قام العميلُ بدفعه بنسبة محددة (مثلًا 1%). ب- يوقع العميلُ ت****ًا للبنك ببيع المعدن المباع نيابة عنه لهذه الشركة. __________ (1) انظر: حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإسلامية في الوقت الحاضر. عبد الله المنيع (20). (2) انظر: التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق. أحمد محيي الدين (2). (1/133) ________________________________________ ج- يقوم البنكُ بتأمين الكميات من معدن البلاديوم المتوقع بيعها خلال أسبوع. 2 - الآلية العملية لمنح التَّمويل: أ- حينما يرغبُ عميلٌ في الحصول على تمويل يقوم بتعبئة الاستمارة المخصصة، التي توضح المبلغ المطلوب، وفترة السَّدَاد، ودفعات السَّدَاد، والضمانات المتوفرة. ب- يتم الاتفاقُ مع العميل على فترة التَّمويل، وتكلفة التَّمويل، فلو كان المطلوب هو مئة ألف ريال لمدة سنة، سوف تكون تكلفة التَّمويل هي (11%) مثلًا، وهي موزعة كالتالي: (10 %) للبنك مقابل التأجيل، و (1%) للشركة الموقعة مع البنك اتفاقية إعادة الشراء. ج- وحيث إن البنك لا يستطيعُ إعطاء العميل مبلغَ التَّمويل المطلوب نقدًا، يقوم ببيع مئة كيلو غرام من معدن البلاديوم مثلًا، وهو معدن ليس للمشتري أية حاجة إليه، وربما لا يعرفُ لونه، أو شكله، أو استخداماته، ويكون البيع آجلًا، وبسعر (1110) ريال للكيلو، وبتكلفة كلية (111.000) ريال، وتدفع بعد سنة من تاريخه. د- يطمئن البنكُ العميلَ أنه سوف يحصلُ على المبلغ المطلوب خلال يومين من تاريخ الاتفاق، ويطلب منه توقيع ت**** له ببيع المعدن نيابة عنه لإحدى الشركات، وأن الشركة سوف تتقاضى نسبة (1%) من المبلغ مثلًا , فإن كان سعرُ السُّوق للمعدن (1100) ريال للكيلو، فإنها سوف تدفع (1000) ريال للكيلو، وذلك ضمن اتفاق البنك معها مقابل شرائها للمعدن نقدًا. هـ- يتم تنفيذُ عملية انتقال ملكية المعدن من ملكية البنك إلى ملكية إحدى (1/134) ________________________________________ الشركات في لحظة واحدة من خلال جهاز الحاسب الآلي، ويكون مبلغ التَّمويل المطلوب مئة ألف ريال في حساب العميل خلال يومين من تاريخ التوقيع (1). وقد ذهب بعضُ الباحثين إلى أن آليات التَّورُّق لا يحتاجُ الأمرُ فيها إلى الانضباط؛ لأن التَّورُّق صورةٌ واحدةٌ يكون أطرافُها أفرادًا أو مؤسسات، ولكن الصحيح أن الآليات العملية للتَّورُّق تحتاجُ إلى انضباط؛ لأن أغلبَ الآليات العملية لا توضحُ بجلاء الطبيعة الحقيقية لإجراءات عملية التَّورُّق، وكما سبق فإن هناك غموضًا يكتنفُ بعض العلاقات التي تكون بين الأطراف، وخاصة العلاقة بين البنك وكلتا الشركتين البائعة والمشترية. __________ (1) انظر: حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. الصديق محمد الأمين (6 - 9). (1/135) ________________________________________ المبحث الخامس التَّورُّق المصرفي وعلاقته بصيغ التَّمويل الأخرى من المعروف أن النشاطَ الاقتصاديَّ، الذي تقوم عليه الحياةُ، يتمثلُ في عمليات البيع والشراء الفعلي، والتَّمويل يُعَدُّ وسيلةً لإتمام هذه المعاملات، وإنجازها، ولذلك فإنه لا يوجدُ التَّمويل في الفقه الإسلامي كعقد مستقلّ بهدف الربح، بل إنه قد وجد ليكون تابعًا لعقود البيع والشراء، وبذلك يصير التَّمويلُ خادمًا لعمليات البيع والشراء (1). ومن المعلوم أن المضاربةَ، والسَّلم، والاستصناع، وبيع المرابحة للآمر بالشراء، هي من صيغ التَّمويل المتعارف عليها، والتَّورُّق المصرفي هو صيغةُ تمويل جديدة قد طرحتها البنوك، ونلاحظ أن هذه الصيغةَ قد صارت بديلًا عن كثير من صيغ التَّمويل المعروفة؛ لأن التكاليفَ الأجرائية للتَّورُّق منخفضة بالنسبة إلى صيغ التَّمويل الأخرى، إضافة إلى الكفاءة، وارتفاع مستوى الربحية الموجود في التَّورُّق المصرفي. "والبنوك الإسلامية قد توسعتْ في التَّمويل بالمرابحة حتى بلغت نسبتها في بعض البنوك (95 %) بالنسبة لصيغ الاستثمار الأخرى، مما حدا بالحريصين على مسيرة البنوك الإسلامية بدقّ ناقوس الخطر، والسعي الجادّ لتقليل هذه النسبة، __________ (1) انظر: التَّورُّق المنظم قراءة نقدية. سامي السويلم (2). وانظر: التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق. أحمد محيي الدين أحمد (32) وانظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القريّ (16 - 17). (1/136) ________________________________________ واستبدالها بصيغ التَّمويل الأخرى، ولكن بالرغم من ذلك استمرت المرابحةُ إلى أن طرح التَّورُّق باعتباره صيغة تمويل جديدة" (1). وإذا تأملنا إلى صيغ التَّمويل، فإننا نجدُ تشابهًا كبيرًا بين التَّورُّق المصرفي وبيع المرابحة للآمر بالشراء، وبحكم هذه المشابهة سيكونُ الحديثُ مقصورًا على هاتين الصيغتين، إذ الصِّيغ الأخرى لا إشكال في التفريق بينها وبين التَّورُّق المصرفي. ولكي يظهرَ التشابهُ جليًا بين التَّورُّق المصرفي وبيع المرابحة للآمر بالشراء، يستوجب ذكر وصف عملية المرابحة في البنوك، وهي على النحو التالي: 1 - يُحَدِّدُ العميلُ السِّلعة، ومواصفاتها، وسعرها، ويطلب من البنك شراء السِّلعة، وبعد الموافقة المبدئية من البنك يقترن الطلب بمواعدة ملزمة، أو غير ملزمة، أو وعد من العميل بشراء السِّلعة بعد تملك المصرف لها، وهذا الوعدُ قد يكونُ ملزمًا في بعض البنوك، وقد يكونُ غير ملزم في البعض الآخر. 2 - بعد الموافقة على عملية التَّمويل يقومُ البنك بشراء السِّلعة لنفسه، ثم يخطر العميل بإكمال إجراءات التَّمويل. 3 - تتمّ عمليةُ البيع برأس مال السِّلعة، إضافة إلى التكاليف، ومضافًا إليها كذلك ربح البنك بنسبة مئوية من تكلفة السِّلعة، تزيد هذه النسبة، أو تنخفض مع زيادة أو انخفاض أجل السَّدَاد، والمتفق عليه بشكل قطعي ومحدد في عقد البيع (2). إذًا فالصُّورةُ الشائعةُ لبيع المرابحة للآمر بالشراء تبدأ من شخص يريد __________ (1) تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى (3). (2) انظر: تجربة البنوك التجارية السعودية في بيع المرابحة للآمر بالشراء. عبد الرحمن الحامد (61). (1/137) ________________________________________ الحصول على سلعة، ولكنه لا يملك ثمنها، فيتوجَّه إلى البنك، ويخبرهم عن رغبته في شراء تلك السِّلعة، ويعقد مع البنك مواعدة على شرائها منه نسيئة بربح يتحدد كنسبة مئوية من تكاليف الحصول عليها (1). وعند المقارنة بين الصُّورة العامة للتَّورُّق المصرفي، التي سبق بيانها، وبين صورة بيع المرابحة، نجدُ تشابهًا بينهما، غير أنه يمكن أن نفرقَ بينهما بالفروق التالية: 1 - أن العميلَ المُتَوَرِّق لا يريدُ السلعة أصلًا، لا للاستهلاك، ولا للاستثمار، وإنما مراده النقود بدليل أنه قد لا يعرفُ لون السِّلعة، أو شكلها، أو استخداماتها، ولذلك فإن البنك هو الذي يحددُ السِّلعة ومواصفاتها، في حين أن مراد العميل في بيع المرابحة هو الحصول على السِّلعة لينتفع بها، بدليل أنه يحدد السِّلعة، ويحدد مواصفاتها، وسعرها. 2 - أن السِّلع المستخدمةَ في عملية التَّورُّق المصرفي تكادُ تكون محصورةً، في حين أن السِّلع في بيع المرابحة ليستْ محصورة، بل تشملُ جميعَ العقارات، والمنقولات. 3 - أن السِّلعة في عملية التَّورُّق المصرفي تكونُ مملوكةً للبنك قبل مجيء العميل، وطلبه الشراء، في حين أن السِّلعة في بيع المرابحة لا يشتريها البنك إلا بعد طلب، ووعد بالشراء من العميل. 4 - أن التَّورُّق المصرفي يتمُّ من خلال استخدام السِّلع الدولية كالمعادن، في حين أن بيعَ المرابحة يتم في السُّوق الداخلية، فلا تهجرُ فيها الأموال، ويستفيدُ منها أهل البلد. 5 - يفرق البعضُ بقلة التكاليف على العميل في عملية التَّورُّق المصرفي، __________ (1) المرجع السابق (59). (1/138) ________________________________________ ولكن الحقيقة "أن ما يحصلُ عليه البنك من ربح في التَّورُّق المصرفي، فإنه مقارب لما يحصلُ عليه في المرابحة -حسب إفادة البنوك- وهي بنسبة (6%) تقريبًا" (1). 6 - يفرق البعضُ بسرعة إنجاز المعاملة في التَّورُّق المصرفي، ولكن الحقيقة أن الأمر "يختلف باختلاف البنوك، والأفراد، والشركات، ويتراوح من يوم إلى ثلاثة أيام في مسألة التَّورُّق، والمرابحة تستغرق وقتًا في حدود ثلاثة أيام، فهو فرق يسير" (2) (3). __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (41). (2) المرجع السابق. (3) انظر: الفروق الأربعة الأخيرة في: المرجع السابق (39 - 41). وانظر: البنوك الإسلامية، غايتها، واقعها والصعوبات التي تواجهها. أحمد علي عبد الله (20). (1/139) ________________________________________ الفصل الثالث تطبيقات على التَّورُّق واستخدامه في العمل المصرفي المبحث الأول التَّورُّق المصرفي في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية المطلب الأول تصوير المعاملة وبيان إجراءاتها انتشرت البنوكُ الإسلاميةُ في دول الخليج العربي، وأدى انتشارُها إلى ظهور إشكاليةٍ تتمثل في فائض السُّيُولة الكبير لدى تلك البنوك، وبما أن الفرصَ التَّمويليةَ المربحة في الداخل معدومة، فقد أدى هذا بالبنوك الإسلامية إلى ابتكار صيغٍ وآلياتٍ جديدة تربطُها بسوق السِّلع الدولية، وقد وجدت بعضُ المؤسَّسات المالية الدولية فرصةً حقيقية للتمويل من خلال تلك البنوك الإسلامية، وحيث إن رغبةَ المؤسَّسات المالية الدولية بالطبع هي الحصولُ على السُّيُولة، وحيث إن تلك البنوك لا تستطيعُ أن تقدمَ لها تلك السُّيُولة بصورة مباشرة، فقد طورتِ البنوكُ الإسلامية آليات مرابحات السِّلع الدولية، التي تنتهي بالتَّورُّق (1). __________ (1) انظر: تطبيقات التُّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى (8) وانظر: العِيْنَة والتَّورُّق، والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (41). (1/140) ________________________________________ ولو نظرنا إلى عمليات التَّورُّق التي تجريها المصارف، فإننا نجدُ أن أغلبَ تلك العمليات تتمُّ باستخدام السِّلع الدولية في البورصات العالمية. ويقصد بالسِّلع الدولية: "المواد الأولية الأساسية مثل: النحاسْ، والحديد، والألمنيوم، ونحو ذلك التي يكون لها بورصات عالمية، يجري فيها تداول كميات السِّلع المخزونة في مستودعات تصدر شهادة مخزون. . . وأكثر عمليات التَّورُّق المصرفية اليوم هي في السِّلع الدولية، لما تتميز به من سيولة، وسهولة في الإجراءات" (1). ومرابحات السِّلع الدولية تتمُّ وفق إجراءات متقاربة في المصارف الإسلامية، وذلك بأن يوقع المصرف الإسلامي، والمؤسَّسة الراغبة في التَّمويل اتفاقية استثمار، يتم فيها تحديد الجوانب التالية: 1 - الرغبة المتبادلة للطرفين في الدخول في عمليات المتاجرة في السِّلع. 2 - تحديد نوعية السِّلع التي يتمُّ التَّعامُل فيها، فتستثنى السِّلع المحرمةُ كالخمر، والخنزير، والمخدرات، ويستثنى كذلك الذهب، والفضة، والعملات النَّقْديّة، لعدم جوازِ بيعها بالآجل. 3 - تحديد المقصود بالمصطلحات المستخدمة في الاتفاقية، مثل مصطلح المرابحة، والإيجاب، والقبول، وتاريخ الدفع، وثمن الشراء، وثمن البيع. 4 - تعيين المؤسَّسة الرَّاغبة في التَّمويل ****ًا عن المصرف الإسلامي المستثمر، ويتولى جميع الأعمال المتعلقة بالتفاوض، وشراء السِّلعة من مالكها، ودفع الثمن نيابة عن المصرف على أن يتم بيع السِّلعة، إما على ال**** نفسه، أو إلى طرف ثالث، ويقع على ال**** الالتزام بتسديد الثمن للمصرف إذا __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمد العلي القري (15). (1/141) ________________________________________ كان ال**** مشتريًا للبضاعة، أو تحصيله من المشتري إذا تم بيع السِّلعة على طرف ثالث. 5 - تحديد الآلية التي تتمُّ من خلال عملية الشراء والبيع، وهي على النحو التالي: أ- يتم التفاهمُ الأوليُّ عبر الهاتف، ثم يرسل ال**** فاكسًا (فاكس الإيجاب) يعرضُ فيه على المصرف سلعة يشتريها المصرف، ويبيعها عليه، ويتضمَّن ذلك العرضُ معلومات أساسية عن السِّلعة المطلوب شراؤها، وكذلك يتضمَّن العرض رغبة ال**** في شراء السِّلعة لنفسه، أو لجهة أخرى. ب- في حال موافقة المصرف على العَرْض المُرْسَل عبر الفاكس، والمتضمن قبوله شراء البضاعة من الجهة المحددة (البائع) بالثمن المحدد، وقبوله تسديد الثمن في التاريخ المحدد، وقبوله بيع تلك السِّلعة إلى ال**** مرابحة، ويسمى هذا الفاكس بالقبول. ج- بعد أن يتسلَّم ال**** فاكس القبول من المصرف، يرسلُ ال****ُ فاكسًا ثالثًا يسمى (فاكس التأكيد) يؤكد فيه ما جاء في فاكس الإيجاب، وفاكس القبول، كما يؤكد فيه شراءه نيابةً عن المصرف، وبيعها لنفسه بتكلفتها، زائدًا هامش ربح محدد يسدد في أجل محدد. د- بعد أن تتمَّ عمليةُ البيع والشراء مرابحة لل****، يقوم ال**** بإعادة بيع السِّلعة تَّورُّقًا للحصول على ثمنها نقدًا (1). __________ (1) انظر: تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى (9). (1/142) ________________________________________ المطلب الثاني التكييف الفقهي لهذه المعاملة بعد النظر في الآلية التي تقومُ عليها عمليةُ التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية، يمكن القَولُ بأن هذه المعاملة تقوم على أربعة عقود، وهي على النحو التالي: 1 - عقد وكالة: فيقوم المصرفُ بت**** المؤسَّسة المالية، لتقومَ المؤسَّسة بعملية البيع والشراء نيابة عن المصرف. 2 - عقد بيع: فتقوم المؤسَّسةُ باعتبارها ****ًا عن المصرف، بشراء سلعة من مالكها بثمن نقديّ حاضر. 3 - عقد بيع ثانٍ: فتقوم المؤسَّسةُ باعتبارها ****ًا عن المصرف ببيع السِّلعة مرابحة، إما على نفسها، أو تبيعها على طرف آخر. 4 - عقد بيع ثالث: في حالة بيع المؤسَّسة السِّلعة على نفسها، وتصبح السِّلعة ملكًا لها، تقومُ ببيع السِّلعة تورقًا للحصولِ على الثمن. وبعد بيان تلك العُقُود التي تقومُ عليها مرابحات السِّلع الدولية، يمكن القَولُ بأن تلك العملية: "عبارة عن شراء المصرف الإسلامي لسلع موصوفة نقدًا بواسطة **** معين، وإعادة بيعها بالأجل إلى ال**** نفسه، أو إلى طرف ثالث، ثم يقوم ال****ُ، أوالطرف المشتري لتلك السِّلع بإعادة بيعها نقدًا للحصول على السُّيُولة" (1). وبعض الباحثين ذَكَرَ هذه المعاملة، وحكم بأنها مجرَّد بيع يصحُّ إذا توافرت فيه الشروط والأركان، يقول الشّيخُ عبد الله المنيع: "هذا النوعُ من التَّورُّق __________ (1) المرجع السابق (10). وانظر: العِيْنَة والتَّورُّق والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (43). (1/143) ________________________________________ لا يظهر فيه مانع من اعتباره، وجوازه، سواء أكان على مستوى فردي، أم على مستوى محلي أو دولي، وسواء أكان ذلك بين الأفراد أم كان بين المؤسَّسات المالية إذا كان البيع، مما توافرت فيه أسباب اعتباره من أركان البيع، وشروطه، وانتفاء أسباب بطلانه، أو فساده" (1). وذكر الدكتور موسى آدم أن المصارف الإسلامية حتى تؤكّد أن تلك العمليات، التي تجريها في مرابحات السِّلع الدولية حقيقية، وليست صورية، فإنها توقع مع الوكلاء خمسة شروط مهمة، وهي على النحو التالي: 1 - إقرار ال**** بأن عمليات البيع والشراء حقيقية، وليست عمليات صورية. 2 - أن يقوم المصرف بنفسه بتسديد الثمن للبائع، للتأكد من أن هناك عملية بيع حقيقية. 3 - أن يقبض ال**** مستندات شراء السِّلع، قبل إجراء عملية إعادة بيع السِّلعة. 4 - أن يحفظ ال**** جميع المستندات المؤكدة لعملية البيع والشراء، لتقديمها إلى المصرف، لإجراء عمليات التدقيق الشرعي. 5 - أن لا يتعامل ال**** بالفائدة الربوية (2). ويقول الدكتور بعد ذكر هذه الشروط: "وفي ضوء هذه المعطيات يمكن القَولُ بأن مرابحات السِّلع الدولية في حال استيفائها الشروط المذكورة، وتمامها عبر وكلاء موثوق بهم، فمانها تكون صحيحة شرعًا لاستكمالها __________ (1) حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإسلامية في الوقت الحاضر. عبد الله المنيع (21). (2) انطر تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى (11). (1/144) ________________________________________ للجوانب الشكلية للعقود، ولعدم تعارضها مع الأصول الشرعية" (1). ويقول الدكتور علي السَّالوس في هذه المعاملة: "لا تدخل ضمن التَّورُّق، فالمصارف الإسلامية تشتري نقدًا، وتبيعُ بالأجل مع زيادة البيع الآجل عن بيع الحال، والمشتري من المصرف مؤسَّسة مالية تجارية، تريدُ من الشراء ربح التاجر، لا خسارة المُتَوَرِّق، أو تريد السِّلعة إن كانت من مستهلكيها، وهذا بعيد عن التَّورُّق. . . ومن خبرتي مدة خمس عشرة سنة في أعمال المصارف الإسلامية، ومراجعتي لعمليات السِّلع والمعادن في أماكن تنفيذها في أوروبة خلال تلك السنوات، اكتشفت أن كثيرًا من هذه العمليات تستوفي الشكل الظاهري فقط للضوابط الشرعية، وتكون في حقيقتها قروضًا ربوية، وليست تَّورُّقًا، ولا بيعًا، ولا شراءً" (2). والذي يبدو لي -والله أعلم- أن التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية، هو من قبيل (ربح ما لم يضمنْ) فالأطراف المشتركة في هذه المعاملة يقعون في هذا المحظور، وبيان ذلك يتَّضح في الآتي: 1 - أن هذه المعاملة تتمُّ في بورصات السِّلع العالمية، وهذه البورصات تجري فيها بيوعٌ كثيرة، ليست حقيقية، بمعنى أن السِّلع لا تسلم إلى المشتري، وإنما تعقد بيوع كثيرة متتالية على الحاسب الآلي، وتبدأ هذه المعاملة وتنتهي بتبادل الأوراق، ولا تراعى فيها الشروط الشرعية من تعيُّن المبيع وإفرازه عن غير المبيع، ومن كون المبيع في ملك البائع وحوزته، ثم إن هذه الأوراقَ التي يحملها صاحِبُها إنما تمثل حقّ الحامل في تسلُّم كمية من السِّلعة، والكمية المكتوبة في الأوراق غير متميزة عن الكمية الباقية، فلا تأتي الكميةُ المشتراةُ في __________ (1) المرجع السابق. (2) العِيْنَة والتوق والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (48). (1/145) ________________________________________ ضمان المشتري (المصرف)، ويبيعها المشتري بالمرابحة قبل أن تتميز، وتضمن من قِبل المشتري الذي هو المصرف، فيقع في هذه المعاملة محظور (ربح ما لم يضمنْ) (1)، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلّ سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن" (2). فالمعاملاتُ التي تجري في بورصات السِّلع العالمية هي بيوعٌ صورية ليست حقيقية، ولذلك نجد أن المصارفَ قد اشترطتِ الشروط الخمسة المذكورة سابقًا، لتكون تلك المعاملات عمليات حقيقية، وليست عمليات صورية، والحقيقةُ أن تلك الشروط لا يتمُّ تفعيلها في الواقع العملي، وحتى لو تمَّ تفعيلها في الميدان، فإننا لن نسلم من وقوعنا في ربح ما لم يضمن. 2 - وعلى فرض أن السِّلعةَ قد عُينت، وحُدِّدت، والقَولُ بـ (القبض الحكمي) الذي يحكم بانتقال الضمان بمجرد العقد إذا تعينت السِّلعة، فإننا نقعُ في إشكالية أخرى، وهي: أن القبضَ الحكميَّ كما يكون طريقًا للتيسير، فإنه يكون طريقًا للاحتيال والتلاعب، فعمليةُ التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية "تتمُّ برأس مال كبير، وسرعة فائقة، فاحتمال التلاعب فيها وارد، وبخاصة أن التَّعامُلَ في أصله مع جهات أجنبية تجهل الدِّيْن، وأحكامه، بل لا تدينُ به، وقد يكون الطرف الآخر ممن لا يأنفُ الرِّبا أيضًا، وهذا لا يناسبه الاعتبار بالقبض الحكمي" (3). __________ (1) انظر: أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية. محمد تقي العثماني (24). (2) سنن أبي داود كتاب الإجارة باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده (3/ 283) رقم (3504) وسنن الترمذي. كتاب البيوع باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (3/ 534) رقم (1234) وسنن النسائي كتاب البيوع باب: سلف وبيع (7/ 295) رقم (4629) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهو حديث صحيح". انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 177). (3) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (35). (1/146) ________________________________________ وإذا نظرنا إلى هذه المعاملة من جهة مآلها، فإنه يبدو -والله أعلم- أنها من قبيل (القَرْض الرَّبوي) فإن المصارفَ تهتم كثيرًا بالشكل الظاهري لعملياتها التَّمويلية، وتحاول بقدر الإمكانِ أن تجعلَ الإجراءات لتلك العمليات خاضعة للضوابط الشرعية، ومع اهتمامهم بالشكل الظَّاهري، غير أنهم يغفلُون عن المآل والمقصد من تلك العمليات، وعملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية هي في حقيقتها قرض ربوي، فالمُتَوَرِّق -سواء كان هو ****َ المصرف (المؤسَّسة المالية) أو طرفًا آخرَ غير ال****- يحصل على سيولة نقدية مقابل زيادة في ذمته، واتخذت صورة البيع والشراء، والوكالة ستارًا لذلك. ومما يؤيدُ هذا أننا لو وضعنا هذه المعاملة، وقاعدة [المدخلات والمخرجات] (1) في ميزان المقارنة، لوجدنا أن محصلة التَّعامُل بين الأطراف المشتركة في هذه المعاملة هي نقد حاضر بزيادة في الذمة، وهذه هي حقيقة الرِّبا. ولو قيل: لو وضعنا التَّورُّق الفردي المعروف عند الفقهاء، وقاعدة [المدخلات والمخرجات] في ميزان المقارنة، لوجدنا أن المحصلة النهائية للتَّورُّق الفردي هي نفسها المحصلة النهائية لعملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية، مع المؤسَّسات المالية!!. والجواب عن هذا الاعتراض يتَّضح في أمرين: 1 - لو تأملنا إجراءات عملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع __________ (1) معنى هذه القاعدة: أن تقويم التعامل بين طرفي الصفقة يتم من خلال النظر في مدخلاتها ومخرجاتها ككل، دون النظر إلى تفاصيل ما يدور بين طرفيها، فينظر للمحصلة النهائية، ولا عبرة بما توسط ذلك من عقود. انظر: الفروق للقرافي (3/ 1057)، وانظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (66). (1/147) ________________________________________ المؤسَّسات المالية، فإنها ليست على بساطة التَّورُّق المعروف عند الفقهاء، وإذا كان التَّورُّق الفردي فيه خلاف بين الفقهاء وهو على صورته البسيطة، فما بالك بإجراءات هذه المعاملة البالغة التعقيد والصعوبة، والتي تقوم على أربعة عقود اتخذت ستارًا للتحايل على الرِّبا، إضافة إلى علم كل الأطراف المشتركة في هذه المعاملة، بما تؤول إليه هذه المعاملة، في حين أن كل طرف من الأطراف المشتركة في التَّورُّق الفردي لا يعلمُ بمراد الآخر في الغالب. 2 - أن تقويم عملية التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية من الناحية الاقتصادية، يعكس لنا الفرق الشاسع بين هذه المعاملة وعملية التَّورُّق الفردي، فعمليات التَّورُّق في مرابحاتِ السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية لا تفيدُ في تنشيط الحركة الاقتصادية؛ لأن السِّلع التي هي محلّ المعاملة تكاد تكون جامدة في مخازنها، فلا تنتقلُ من مكانها مع أنه يجري على تلك السِّلع العشرات من العُقُود، ومن اطلع على بيانات بعض العُقُود يجد أن رقمَ السِّلعة التي هي محلّ العملية يتكرر دائمًا، وهذا يدل على أن السِّلعة جامدةٌ في مكانها، فلا تفيدُ هذه المعاملة في تنشيط الحركة الاقتصادية، بينما نجد التَّورُّق الفردي يفيدُ في تنشيط الحركة الاقتصادية نوعًا ما، فالمُتَوَرِّق يشتري السِّلعة بثمن مؤجَّل، ثم يقوم ببيعها على طرف آخر بنقد، فتنتقلُ السِّلعة، ولا تبقى جامدة، وانتقال السِّلع من مكان إلى آخر يدلّ على وجود الحركة في السُّوق، وهذا بدوره يفيد في تنشيط الحركة الاقتصادية. ومما سبق يمكن القَولُ بأن التكييف الفقهي لهذه المعاملة يكون من جهتين: 1 - من جهة الإجراءات الشكلية للمعاملة: فإنها تكون من قبيل (ربح ما لم يضمن) لأن المصرفَ يبيع السِّلعة مرابحة قبل أن تكون في ضمانه، والنبي عليه (1/148) ________________________________________ الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن (1) وعلى فرض كون السِّلعة في ضَمانه بتعيين السِّلعة، فإن طبيعةَ المعاملات في البورصات قائمة على التلاعب، والاحتيال، الذي يؤدي إلى التهاون في مسألة القبض. 2 - من جهة المقصد والمآل لهذه المعاملة: فإنها تكونُ من قبيل (القَرْض الربوي) لأن المُتَوَرِّق يحصلُ على سيولة نقدية مقابل زيادة في الذمة، دون أي فائدةٍ تعودُ على الحركة الاقتصادية، والمعاملة بالنظر إلى مآلها يترتب عليها نفس الآثار المترتبة على الرِّبا. __________ (1) سنن أبي داود. كتاب. الإجارة. باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده (3/ 283) رقم (3504) وسنن الترمذي. كتاب. البيوع. باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (3/ 534) رقم (1234) وسنن النسائي. كتاب البيوع. باب: سلف وبيع (7/ 295) رقم (4629). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهو حديث صحيح". انظر: الفتاوى الكبرى (6/ 177). (1/149) ________________________________________ المبحث الثاني التَّورُّق لتمكين العملاء من سداد مديونياتهم لدى المصارف التقليدية، والانتقال إلى التَّعامُل مع المصارف الإسلامية المطلب الأول تصوير المعاملة وبيان إجراءاتها لما ظهرت صيغة التَّورُّق باعتبارها أداة تمويلية مشروعة، اتجه العديد من العملاء إلى التَّعامُل بالتَّورُّق للحصول على السُّيُولة النَّقْدية، التي تمكنهم من سداد مديونياتهم الناشئة عن قروض ربوية، والمديونيات الناشئة عن القروض الربوية كانت تزعجُ العملاء لإيمانهم بحرمتها، ولذلك لجؤوا إلى الدخول في التَّورُّق، ليتخلصوا من ثقلِ تلك المديونيات، ولينتقلوا إلى التَّعامُل مع المصارف الإسلامية. وإجراءاتُ هذه المعاملة وآلياتها العملية، هي نفسها الإجراءات والآليات العملية لعمليات التَّورُّق المصرفي السابق ذكرها، وهي على النحو التالي باختصار: 1 - يتقدم العميلُ المُتَوَرِّق بطلب شراء سِّلعة من البنك بثمن مؤجَّل. 2 - يقوم البنكُ ببيع السِّلعة بثمن مؤجَّل إلى العميل. 3 - ثم يقومُ العميلُ بت**** البنك في بيع السِّلعة بثمن نقديّ حاضر. 4 - يقوم البنكُ ببيع السِّلعة على إحدى الشَّركات نيابة عن العميل بثمن نقدي حاضر أقل من الثمن المؤجَّل. (1/150) ________________________________________ 5 - ثمَّ يقوم البنكُ بوضع ثمن السِّلعة في حساب العميل خلال يومين. 6 - وبعد ذلك يقوم العميلُ بتسديد الدَّيْن الذي عليه. وتسديد المديونات الربوية عن طريق التَّورُّق له صورتان (1): الصُّورة الأولى: إذا كان الدَّيْن لبنك آخر: ومثال هذه الصُّورة: يقوم زيد -المدين للبنك الهولندي بمئة ألف- بطلب التَّمويل من صراف الرَّاجحي عن طريق التَّورُّق، وبعد حصول زيد على السُّيُولة النَّقْديّة يقوم بتسديد ذلك الدَّيْن للبنك الهولندي. الصُّورة الثانية: إذا كان الدَّيْن لنفس البنك الذي يقدم التَّورُّق للعميل: ومثال هذه الصُّورة: أن يكون زيد مدينًا للبنك الأهلي بخمسين ألف ريال، فيقوم زيد بطلب التَّمويل عن طريق التَّورُّق من نفس البنك، فيشتري زيدٌ سلعةً من البنك بسبعين ألف ريال مؤجَّلة، ثم يقومُ بت**** البنك في بيعها بخمسين ألف ريال حالة، فيحصل زيد على خمسين ألف ريال ليقوم بتسديد ذلك الدَّيْن. الفرق بين الصورتين: يلاحظ في الصُّورة الثانية أن البنكَ الذي قدَّم التَّمويل لزيد هو نفسه البنك الدائن، فالبنكُ في الصُّورة الثانية هو الدائن والمموّل في نفس الوقت، بينما نجدُ في الصُّورة الأولى أن البنك الدائن ليس هو نفسه المموّل الذي يقدِّم التَّمويل، وهذا التفريقُ يفيد في بيان التكييفِ الفقهي للصورتين. __________ (1) تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل. المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى (17). (1/151) ________________________________________ المطلب الثاني التكييف الفقهي لهذه المعاملة تسديد المديونيات الربوية عن طريق التَّورُّق المصرفي له صورتان، كما سبق بيانهما: 1 - إذا كان الدَّيْن لبنكٍ آخر. 2 - إذا كان الدَّيْن لنفس البنك الذي يقدمُ التَّورُّق للعميل. التكييف الفقهي للصورة الأولى: بعضُ الباحثين ذهب إلى مشروعية الصُّورة الأولى، فالدكتور موسى آدم يقول: "في حال كون تلك المديونيات هي لمصارف أخرى، وليس للمصرف، الذي يقدم للعميل التَّمويل عن طريق التَّورُّق، هذه الحالة تبدو مقبولة، وتتفق مع الهدف الأساس، وهوالتحرر من ربقة الرِّبا، والدخول في المعاملات الإِسلامية، فهي لا تعارضُ أصلًا من الأصول الشرعية، فالعميل بعد أن يتَّورُّق يصبحُ حرًا في استخدامه المبلغ الذي حصل عليه بالطريقة التي يراها مناسبة له" (1). والذي يبدو لي أنه يجبُ التفريق بين أمرين في الصورة الأولى: الأمر الأول: مبدأ تسديد المديُونيَّة. الأمر الثاني: تسديد المديُونيَّة عن طريق التَّورُّق المصرفي فالأمرُ الأولُ لا يشكُّ أحد في مشروعيته، إذا كانت طريقة السَّداد مشروعة، فلو اشترى مدينٌ قد أتعبه ذلّ الدَّيْن سِّلعة من آخر بثمن مؤجَّل لغرض __________ (1) المرجع السابق (17). (1/152) ________________________________________ بيعها، والانتفاع بثمنها في تسديد الدَّيْن الذي عليه، فهو أمر جائز إذا ثبتت حاجة المدين لتلك النقود. وأما الأمر الثاني، وهو تسديدُ المديُونيَّة عن طريق التَّورُق المصرفي، فإن بعضَ الباحثين الذي أجاز هذا الأمر قد خلط بين الأمرين، فحكم بالجواز؛ لأنَّ هذه العملية -أعني: تسديد الدَّيْن عن طريق التَّورُّق المصرفي- سوف تحرِّره من الدَّيْن، وتخلِّصه من المصارفِ التقليدية، والحقيقة أن الغايةَ إذا كانت مشروعة، فإنها لا تبرر الوسيلة، بمعنى أن التخلصَ من ذل الدَّيْن هو غاية مشروعة، ولكن لا يعني هذا جواز الوسيلة، التي ستقودنا إلى هذه الغاية، فإنَّ عمليات التَّورُّق المصرفي يكتنفها العديدُ من الإشكاليات في إجراءاتها، وفي غاياتها، كما سيأتي بيانه. فمن يرى جواز عملية سداد الدَّيْن عن طريق التَّورُّق المصرفي، فإنَّه حكم باعتبار مشروعية المآل والغاية لهذه العملية، وغضّ الطرف عن إجراءات العملية نفسها، وإذا تأمَلْنا كلامَ القائلين بالجواز -السابق ذكره في بداية المطلب- فإنَّه علل الجواز بأنه يحقّقُ الهدفَ الأساسَ من هذه العملية، وهو التحرر من ربقة الرِّبا، والديون، والدُّخول في المعاملات الإِسلامية. ولذلك رأيتُ أنه لابدَّ من التفريق بين الأمرين، فتسديدُ المدْيُونيَّة أمر مشروع إذا كان بالطريق المشروع، وأما تسديدُ المديُونيَّة عن طريق التَّورُّق المصرفي، فهذا فيه نظر لما تحمله عمليةُ التَّورُّق المصرفي من الإشكاليات. التكييف الفقهي للصورة الثانية: تسديدُ المديونيات الربوية عن طريق التَّورُّق المصرفي، إذا كان الدَّيْن لنفس البنك الذي يقدمُ التَّورُّق للعميل هو من قبيل [قلب الدَّيْن على المدين] الذي أجمع العلماءُ على تحريمه (1)، وبيان هذا يتَّضح على النحو التالي: أن يكون __________ (1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 419). (1/153) ________________________________________ زيدٌ مدينًا للبنك الأهلي مثلًا بخمسين ألفًا، فيقوم زيد بطلبِ التَّمويل عن طريق التَّورُّق من نفس البنك، فيشتري زيد سِّلعة من البنك بسبعين ألفًا مؤجَّلة، ثمَّ يقومُ بت**** البنك في بيعها بخمسين ألفًا حالة، فيحصل زيدٌ على خمسين ألفًا في حسابه، وبعد ذلك تقومُ الجهةُ المسؤولة في البنك عن الديون بسحب الخمسين ألفًا، لتسديد الدَّيْن الذي على زيد، فنلاحظ هنا أنَّه قد نشأ دين جديد عن طريق التَّورُّق على زيد أكثر من الدَّيْن السابق، وهذا هو حقيقة [قلب الدَّيْن على المدين] ومعناه: زيادة الدَّيْن في ذمَة المدين بأي طريقة كانت، فالدَّيْنُ الذي كان على زيد، وهو خمسون ألفًا، قد زاد وصار سبعين ألفًا. يقول شيخُ الإِسلام ابن تيمية عن قلب الدَّيْن: "وأما إذا حلَّ الدَّيْن، وكان الغريم معسرًا لم يجزْ بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب، لا بمعاملة ولا غيرها" (1). وقلب الدَّيْن على المدين قد أجمع العلماءُ على تحريمه؛ لأنه يعدّ نوعًا من أنواع الرِّبا، وهو كما يسمِّيه العلماءُ بربا الجاهلية الواضح في صورته، وذلك بأن يقولَ الدائنُ للمدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن وفَّاه وإلا زاد الدائن في الأجل، وزاد المدينُ في المال، غير أن أكلة الرِّبا يبتكرون حيلًا لقلب الدَّيْنِ على المدين، فيعمدون إلى معاملات ظاهرها الصحة، وهي في الحقيقة من قلب الدَّيْن على المدين، وتسديد المديونيات في هذه الصُّورة من قبيل التحايل لقلب الدَّيْنِ على المدين. والغريبُ أن بعضَ الباحثين أقرَّ بأن هذه المعاملة من قبيل قلب الدَّيْن على المديون، غير أنَّه يرى جوازها بالنظر إلى أنَّ المعاملة تخلصه من البنوك الربوية، والبعض يرى جوازها؛ لأنَّ منع قلب الدَيْن على المدين خاص بالمعسر، وإليك بعض كلامهم: __________ (1) المرجع السابق. (1/154) ________________________________________ 1 - يقول الشّيخُ عبد الله المنيع: "الذي يظهرُ لي أن هذا التَّورُّق من صور قلب الدَّيْن. . . وأنه لا يجوزُ إذا كان المدين معسرًا، ولكن نظرًا إلى أن القصدَ من ذلك هوالتحول من التَّعامُل مع البنوك الربوية إلى البنوك الإِسلامية، وأن في الأخذ بالتَّورُّق طريقًا للتخلُّص من هذه البنوك الربوية ومديونياتها، فقد لا يظهر لي مانعٌ من الأخذ بالتَّورُّق للتخلص من هذه الديون الربوية، والتمكُّن من الانتقال عنها إلى المؤسَّسات الإِسلامية، وقد يكون من تبرير ذلك الأخذ بقاعدة: ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما" (1). 2 - ويقول الدكتور موسى آدم: "في حال كون تلك المديونيات هي للمصرف، الذي يقدِّم التَّمويل للعميل، ففي هذه الحالة فإن المصرف سيقومُ بقلب الدَّيْن الذي على العميل من قرضٍ ربوي إلى دين آخر ينشأ عن طريق التَّورُّق، وهذه الصُّورة هي التي يسمِّيها الفقهاء بـ[قلب الدَّيْن على المدين] وهي غير جائزة. . . بيد أن عِلَّةَ النهي المشار إليها أعلاه قد لا تتحقّق في الحالات، التي تكون فيها رغبة العميل هي التخلص من دَيْن ربوي. . . وهذا ما أفتتْ به الهيئةُ الشرعية بإدارة الخدمات المصرفية الإِسلامية بالبنك الأهلي التجاري" (2). 3 - ويقول الدكتور محمَّد العلي القريّ: "إلا أن صفةَ قلب الدَّيْن الممنوعة، إنما هي متعلِّقةٌ بالمعسر الذي أمرنا بإنظاره إلى الميسرة، أما الموسر القادر على الوفاء فالدُّخول معه في معاملات جديدة يترتب عليها دين ليس من قلب الدَّيْن الممنوع" (3). __________ (1) حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإِسلامية في الوقت الحاضر. عبد الله المنيع (21). (2) تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي. موسى آدم عيسى (18). (3) التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمَّد العلي القريّ (19). (1/155) ________________________________________ وحيث إنَّ هذه المعاملة محلّ نظر واجتهاد، فإنَّه يمكن الجوابُ عن كلام القائلين بجواز الدُّخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدَّائن لسداد الدَّيْن، بالأمور التالية: 1 - الحقيقةُ أنَّه مهما كانت المبررات، فإنها لا تقوى على تحليل ما أجمعت الأمة على تحريمه، فالحاجة الماسة إلى النقود لا تبيحُ الدخولَ في الرِّبا، والفاقة الشديدة لا تبيحُ لصاحبها السَّرقة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى من يريد سداد دَيْنه، والتخلص من البنوك الربوية، فإنَّه لا يحلُّ له الدخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن، وكما ذكرت سابقًا أن الغاية وإن كانت مشروعة، فإنها لا تبرر الوسيلة، فالتخلصُ من رقِّ الدَّيْن والبنوك الربوية غاية مشروعة، إلا أن الوسيلةَ التي هي عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدَّائن لا تصحُّ لسببين: أ- أن هذه الوسيلةَ من قبيل [قلب الدَّيْن على المدين] الذي يُعَدُّ نوعًا من أنواع الرِّبا المجمع على تحريمه. ب- أن عمليةَ التَّورُّق التي تجريها المصارف تشوبها الإشكالياتُ في الإجراءات، والغايات، كما سيأتي بيانه. 2 - وأما القاعدة الفقهية [ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويتِ أعلاهما] فلا تكون مبررًا لجواز هذه المعاملة؛ لأنَّ شرط العمل بالقاعدة، وهو تعيُّن وقوع إحدى المفسدتين معدوم، إذ يستطيع المدينُ أن يحصلَ على تمويل بطريقة أخرى، ويتخلَّص من كلتا المفسدتين، أو نقول بعبارةٍ أخرى: إن المدين أمام مفسدتين: المفسدة الأولى: الاستمرار في التَّعامُل مع البنوك التقليدية بالقروض الربوية. (1/156) ________________________________________ المفسدة الثانية: الدخول في التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن، وهذا يعني الدخولَ في معاملة [قلب الدَّيْن على المدين]، فالشّيخُ عبد الله المنيع رأى جوازَ الدخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن لسداد المديُونيَّة، التي تُعَدُّ من قلب الدَّيْن على المدين احتجاجًا بهذه القاعدة الفقهية؛ لأنه يرى أن مفسدةَ الدخولِ في التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن أخف من مفسدة الاستمرار في التَّعامُل مع البنوك الربوية، وهذا أمرٌ صحيحٌ، أعني: أن مفسدةَ الدخولِ في التَّورُّق المصرفي أخفّ من مفسدة الاستمرار في التَّعامُل مع البنوك التقليدية بالقروض الربوية، ولكنَّ الاحتجاجَ بالقاعدة، وجَعْلها مبررًا للجواز لا يستقيم هنا؛ لأنه لا يعملُ بالقاعدة إلا إذا تعينت إحدى المفسدتين، بحيث لا يستطيعُ الشخص التخلص من المفسدنين إلا بارتكاب إحداهما، فلا مفرَّ ولا مناصَ إلا بارتكاب إحداهما، يقول الزركشيُّ عن قاعدة تعارض المفسدتين: "من القواعد الكلية أن تدرا أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، إذا تعين وقوعُ إحداهما" (1). وبالنظر إلى حال المدين أمام تلك المفسدتين، فإنَّه يستطيعُ التخلص من كلتا المفسدتين، حيث يمكنه أن يطلبَ التَّمويلَ لسداد دينه بطريقة أخرى من طرق التَّمويل المشروعة كالاقتراض، أو بالتَّورُّق الفردي، أو بصيغة المرابحة للآمر بالشراء، ولا يصحُّ أن نزعمَ أن المدين لا يستطيع التخلص من تلك المفسدتين، ولذلك لا يصحُّ الاحتجاج بالقاعدة، وجعلها مبررًا للجواز. 3 - وأما ما ذكره الدكتور محمَّد القريّ فإنَّه يلاحظ أنَّه فَهِمَ من تقييد العلماء المنع بالمعسر، أن ذلك يجوزُ في حقّ الموسر، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الموسرَ يجبُ عليه الوفاء، فليست هناك حاجة تدعو إلى قلب الدَّيْن، يقول شيخُ __________ (1) المنثور للزركشي (1/ 348). (1/157) ________________________________________ الإِسلام: "وإن كان موسرًا كان عليه الوفاء، فلا حاجةَ إلى القلب لا مع يساره، ولا مع إعساره" (1). وهذا يدلُّ على أن تقييدَ العلماء المنع بالمعسر لا مفهومَ له، بمعنى أن العلماء قيدوا منع قلب الدَّيْن بالمدين المعسر؛ لأنَّ غالبَ القلب في العادة لا يكون إلا على معسر، والموسر يجب عليه الوفاء، فلا حاجةَ إلى قلبه، ويمكن أن نقول: إن تقييد المنع بالإعسار لا مفهوم له؛ لأنَّ صفة الإعسار خرجتْ مخرج الغالب، فلا يعتبر مفهومها، يقول القرافيُّ: "إنما قال العلماءُ أن مفهومَ الصفة إذا خرجت مخرج الغالب لا يكون حُجَّة ولا دالًا على انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، بسبب أن الصفة الغالبة على الحقيقة تكون لازمة لها في الذهن بسبب الغلبة، فإذا استحضرها المتكلمُ ليحكم عليها حضرت معها تلك الصفة، فنطق بها المتكلم لحضورها في الذهن مع المحكوم عليه، لا أنه استحضرها ليفيد بها انتفاء الحكم عن المسكوت عنه" (2). وبذلك نعرف أن الدكتور محمَّد القريّ أجاز للمدين الموسر الدخول في عملية التَّورُّق المصرفي مع البنك الدائن، والتي تُعَدُّ من قبيل قلب الدَّيْن، بناءً على مفهوم المخالفة، الذي فهمه من نصوص العلماء، حينما قيدوا منع قلب الدَّيْن بالإعسار، وهذا المفهومُ كما ذكرت لا عبرة له؛ لأن صفة الإعسار خرجتْ مخرج الغالب، فلا مفهومَ لها. __________ (1) مجموع فتاوى ابن تيمية (19/ 419). (2) شرح تنقيح الفصول للقرافي (272). (1/158) ________________________________________ المبحث الثالث استخدام التَّورُّق المصرفي في التَّمويل الشخصي المطلب الأول التَّورُّق عن طريق البطاقات الائتمانية البطاقاتُ الائتمانيةُ هي مستند خاص يصدره المصرف، ويتمكن حاملُها من الحصول على سِّلع، أو خدمات، أو نقود ممن يقبلُ التَّعامُل بهذه البطاقة، ليستوفيها من الجهة التي أصدرتها، على أن يسددَ حامل البطاقة لمصدرها فيما بعد قيمة السِّلع، أوالخدمات، أو النقود التي حصل عليها. ويرجع تاريخُ بطاقات الائتمان إلى أواخر القرن التاسع عشر عندما أصدرت شركة المنسوجات والألبسة البريطانية قسائم وزعتها على عملائها، تمكنهم من شراء حاجياتهم من عدد من المحلات التجارية، مقابل تسليم هذه القسائم دون حاجة إلى دفع ثمن هذه الحاجيات لهذه المحلات، وكانت الشركةُ تدفعُ قيمةَ هذه الحاجيات لأصحاب المحلات، ثمَّ تقبض من عملائها مشتري الحاجات ما دفعته عنهم (1). وبطاقة الائتمان تفيد حاملها بعدة أمور، منها: 1 - أنها تعطي الأمانَ من أخطار سرقة المال، أو غصبه، فالشخص لا حاجة له في حمل النقود ما دام أنه يحملُ البطاقة الائتمانية. __________ (1) انظر: المعاملات المالية المعاصرة في ضوء الفقه والشريعة. محمَّد رواس قلعه جي (110). (1/159) ________________________________________ 2 - سهولة دفع ثمن الحاجيات للمحلات التجارية، التي تتعاملُ مع هذه البطاقة. 3 - حصول حاملها على خصومات في الفنادق، والمطاعم، وغيرها. 4 - حصول حاملها على خدمات كثيرة كخدمة الهاتف الدولي، حيث يمكنه استعمال الهاتف متى شاء، وتسجل أجور المكالمات على مصدر البطاقة، ليقوم المصدر باستيفاء هذه الأجور فيما بعد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصدر البطاقة، فإنَّه يستفيدُ من إصدارها، وتتمثل الفائدة التي يحصل عليها مصدر البطاقة في الأمور التالية: 1 - الرسوم التي يحصلُ عليها المصدر من إصدار البطاقة، كرسوم الإصدار، ورسوم العضوية. 2 - الفوائدُ التي يحصل عليها المصدر، إذا تأخر حاملُ البطاقة عن سداد ما دفعه مصدر البطاقة عنه من أثمان المشتريات، وغيرها. 3 - زيادةُ السُّيُولة عند البنك بسبب الإيداعات، التي تنهال عليه للحصول على البطاقة، حيث إن أكثرَ البنوك لا تصدرُ البطاقة إلا لمن له حسابٌ فيها. 4 - العمولةُ التي يحصِّلها من التجار، الذين يقبلون التَّعامُلَ مع البطاقة (1). وقد توسعتْ بعضُ البنوك في عملية التَّورُّق، حيث جعلت بطاقة الائتمان قادرة على توفير الائتمان للعميل بطريقة التَّورُّق، فقد أفتت الهيئة الشرعية لكل من البنك الأهلي التجاري، والبنك السعودي الأمريكي بجواز ذلك، غير أن الحكم بالجواز فيه نظر، ويتضح ذلك في المسائل التالية: __________ (1) انظر إلى تلك الفوائد والدراسة الفقهية لبطاقات الائتمان في المرجع السابق (110 - 128). (1/160) ________________________________________ المسألة الأولى: تصوير عملية التَّورُّق في بطاقة تيسير الأهلي: مما ينبغي التنبيه عليه قبل بيان عملية التَّورُّق في بطاقات التيسير، ذكر بعض التعريفات، التي تفيدنا في فَهْم بعض المصطلحات التي جاء ذكرها في إجراءات العملية، فقد جاء في شروط وأحكام بطاقات تيسير الأهلي التالي (1): 1 - البطاقة: هي بطاقةُ التيسير الأهلي الفيزا، أو الماستركارد، التي يصدرها البنك الأهلي التجاري باسم العميل (حامل البطاقة) بناءً على طلبه ليستخدمها كإحدى وسائل الدفع، وبحيث لا يتجاوز شروط وأحكام هذه الاتفاقية، وتعتبر البطاقة ملكًا للبنك، ويلتزم العميل بإعادة البطاقة إلى البنك عند الاقتضاء. 2 - حامل البطاقة: هو الشخصُ الذي تصدرُ البطاقة باسمه، ويلتزم بالمحافظة عليها، وعدم السماح لغيره باستخدامها. 3 - تنشئ هذه الاتفاقية بين البنك وحامل البطاقة علاقة ضمان: يضمن بموجبها البنك ما يثبت في ذمة العميلِ من التزامات مالية، ناتجة عن استخدام البطاقة. 4 - كشف الحساب: هو بيانٌ شهريٌ يصدره البنك لحامل البطاقة، مثبتًا فيه كافة القيود المتعلقة بتعاملاته بالبطاقة خلال دورة إعداد المستندات الشهرية، ويعتبر كشف الحساب صحيحًا، وملزمًا لحامل البطاقة ما لم يستلم البنك اعتراضًا خطيًا خلال ثلاثين يومًا من تاريخ إصدار كشف الحساب. وبعض الباحثين (2) يُسَمِّي كشفَ الحساب بالفاتورة. __________ (1) انظر إلى هذه الأحكام والشروط بالتفصيل في المنشورات التعريفية التي تحمل عنوان (بطاقة تيسير الأهلي)، التي يصدرها البنك الأهلي التجاري في جميع فروعه. (2) انظر: التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمَّد العلي القريّ (19). (1/161) ________________________________________ 5 - ميعاد الاستحقاق: تستحقُّ كافة الالتزامات المترتبة على حامل البطاقة نتيجة إصدار البطاقة، أو استعمالها في تاريخ إصدار البنك، لكشف الحساب، وبحيث يقوم حامل البطاقة بسداد قيمة الرصيد (كاملًا، أو يلتزم بسداد الحد الأدنى الواجب دفعه (5 %) من كامل المبلغ المستحق، أو مبلغ (250) ريالًا أيهما أكثر، إلى البنك خلال (20) يومًا من تاريخ إصدار كشف الحساب، وفي حالة عدم تسديد المبلغ كاملًا، أوالحد الأدنى على الأقل يقوم البنك ببيع سِّلعة معينة يملكها البنك، ويبيعها على العميل، ويقسط الثمن على (24) قسطًا. وأما تصوير عملية التَّورُّق، وبيان إجراءاتها باستخدام بطاقة التيسير فهي على النحو التالي (1): 1 - بعد صدور كشف الحساب، الذي يبيِّن ما دفعه البنك عن العميل من مستحقّات، يكون العميل ملزمًا بدفع تلك المستحقّات إلى البنك. 2 - في حالة عدم التسديد يلجأ البنك إلى خطوات (تيسير الأهلي)، وهي على النحو التالي: أ- يقوم البنكُ ببيع سِّلعة مملوكة له على العميل بثمن مؤجَّل يدفعُ على شكل أقساط، والسِّلع في البنك الأهلي تكونُ من المعادن الأساسية (الزنك- النيكل- الصفيح- النحاس- البرونز) والتي يجري عليها التبادلُ يوميًا في أسواق التجارة العالمية. ب- يقوم العميلُ بت**** البنك في بيع السِّلعة، ويوقع العميلُ على نموذج وكالة. __________ (1) انظر: إلى تلك الإجراءات والمستندات والشروط والمميزات لعملية التَّورُّق في المنشورات التعريفية، التي تحمل عنوان (تيسير الأهلي) والتي تصدرها جميع فروع البنك الأهلي التجاري. (1/162) ________________________________________ ج - يقوم البنك بإتمام عملية البيع -باعتباره ****ًا- لصالح العميل. د- ثمَّ يودع المبلغ في حساب العميل. هـ - ثمَّ تقومُ جهةُ إصدار البطاقة في البنك بسحب المبلغ لتسديد المبالغ الموجودة في كشف الحساب. فحاصل العملية باختصار: أن العميل لمَّا كان مدينًا للبنك بسبب استخدامه بطاقة الائتمان، ولم يستطع سدادَ ذلك الدَّيْن، فإن البنك في هذه الحالة يلجأ إلى برنامج التَّورُّق المعروف باسم (تيسير الأهلي) ليحصل العميل بسبب برنامج التَّورُّق على سيولة نقدية، ليقوم بتسديد الدَّيْن الناشئ عن استخدام بطاقة الائتمان، وبالمثال يتَّضح المقال: استخدم زيد بطاقة الائتمان، وبعد مضيّ شهر صدر كشف الحساب للبطاقة (الفاتورة)، فيكون زيد ملزمًا بدفع المبلغ الموجود في كشف الحساب، ولنفرض أنه خمسة آلاف، ولكن زيدًا لا يستطيعُ تسديدَ ذلك المبلغ، فيقوم البنك ببيع معدن النحاس على زيد بـ (7) آلاف مؤجَّلة، ثمَّ يقوم زيد بت**** البنك في بيع السِّلعة نقدًا، فيبيعها البنك نيابةً بخمسة آلاف نقدًا وتوضع في حساب زيد، ثمَّ تقومُ جهةُ إصدار البطاقة بسحب الخمسة آلاف، لتسديد الالتزامات على زيد الموجودة في كشف الحساب. المسألة الثانية: تصوير عملية التَّورُّق في بطاقة الخير للبنك الأمريكي: ممَّا ينبغي التنبيه عليه -قبل بيان عملية التَّورُّق باستخدام بطاقة الخير الائتمانية- ذِكْر بعض ما جاء في (اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية المعتمدة من هيئة الرقابة الشرعية) (1)، وهي على النحو التالي: __________ (1) انظر: نص الاتفاقية في المنشورات التعريفية التي تحمل عنوان (بطاقة الخير الائتمانية) والتي تصدرها جميع فروع البنك السعودي الأمريكي. (1/163) ________________________________________ 1 - جاء في تغطية حساب البطاقة ما يلي: أ) في حالة عدم دَفْع كامل المديُونيَّة المطلوبة من عضو البطاقة، فسوف يقوم سامبا بوقف البطاقة، وفي حال استمرار عدم الدَّفْع يقومُ سامبا بإلغاء البطاقة، ولن يتمَّ إصدار بطاقة بديلة إلا بعد سداد كامل المبلغ، مع أن سامبا يتيح لعضو البطاقة فرصة لسداد المدْيُونيَّة عن طريق دخوله مع سامبا في عملية تَّورُّق، تجنبًا لإلغاء البطاقة. ب) سيُبقي سامبا المبالغ المتحصلة من تنفيذ عملية التَّورُّق لديه، لتغطية المبالغ المستحقّة على بطاقة الخير المال الائتمانية، وما زاد على ذلك يودع في حساب عضو البطاقة. 2 - وجاء في نهاية الاتفاقية: (في حال رغبة العميل في تغطية مديونية البطاقة عن طريق التَّورُّق، تكون مدة البيع بالتقسيط (15) شهرًا بمعدل ربح (16.30 %) على كامل المدة، وإذا كان المبلغ المتبقي على العميل أقل من (500) ريال، فلن يلبي البنك طلبه لتنفيذ عملية تَّورُّق) (1). وجاء في ختام الاتفاقية: (نموذج وكالة: أو كل السادةُ مكتب ع ع. ق للاستشارات الشرعية والنظامية في شراء سِّلع من إدارة الائتمان الشخصي لدى البنك السعودي الأمريكي (سامبا) بالتقسيط، بغرض تنفيذ عمليات التَّورُّق في حال وجودِ رصيدِ مدين على بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق، أو بعده من كل شهر، وذلك حسب سجلات البنك، كما أنني أوكل إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا ببيع السِّلعة التي اشتريتها، وذلك لطرف آخر حسب السعر السائد وقت البيع، مع حقّ ت**** إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا لطرف __________ (1) المرجع السابق. (1/164) ________________________________________ آخر لإتمام عملية الوكالة، واستخدام المبالغ المتحصلة لتسوية الرصيد المدين على بطاقة الخير الائتمانية) (1). والحقيقة أن عَمَلَ بطاقة الخير الائتمانية لا يختلفُ عن بطاقة التيسير، فالعميلُ إذا استخدم بطاقة الخير، يكون مدينًا للبنك، فإذا لم يستطع سداد ذلك الدَّيْن، فإن البنك في هذه الحالة يلجأ إلى عملية التَّورُّق، فيبيعُ البنك سِّلعة مملوكة له على العميل بثمن مؤجَّل يدفع على شكل أقساط (15) شهرًا، ثمَّ يوكلُ العميلُ البنك في بيع السِّلعة نقدًا، فيقومُ البنك ببيع السِّلعة باعتباره ****ًا إلى طرف ثالث بثمن نقديِّ حاضر، فيوضع الثمن في حساب العميل، ثمَّ تقومُ جهة إصدار البطاقة بسحبه لتسديد الدَّيْن القائم على بطاقة الخير، لينشأ دَيْنٌ آخر على حامل البطاقة بسبب عملية التَّورُّق. وعندما نتأمل شروطَ وأحكامَ البطاقتين، فإنَّه لا يوجد فرقٌ جوهريٌّ في حقيقة البطاقتين، سوى بعض الإجراءات التي لا تؤثر في الحقيقة المشتركة بين البطاقتين، ويتَّضِحُ هذا في المسألة التالية. المسألة الثالثة: أوجه الشَّبه والاختلاف بين بطاقتي التيسير والخير: وجه الشَّبه بين البطاقتين: عندما نقرأ ونقارنُ بين شروط وأحكام البطاقتين، فإننا نتوصَّلُ إلى نتيجة مشتركة بين البطاقتين، إذ "كلُّ من البطاقتين تتيحُ لحاملها سداد الدَّيْن -الذي استحقّ بسبب استعمالها- عن طريق إجراء عملية تورق، وذلك ببيع سِّلعة مملوكة للبنك على حامل البطاقة، ومن ثمَّ يتولَّى البنكان بيع هذه السِّلعة لمصلحة العممِل على طرف ثالث، وتؤخذ القيمة، ويسدَّد بها الدَّيْن الأول، وينشأ بعد ذلك دَيْن جديد على حامل البطاقة يسدّده خلال مده معينة" (2). __________ (1) المرجع السابق. (2) المخالفات الشرعية في بطاقتي الخير والتيسير الائتمانية. خالد الدعيجي (6). (1/165) ________________________________________ فبطاقةُ الخير الائتمانية هي نفسها بطاقة تيسير الأهلي من حيث العملُ والمآل، فالعميلُ عند استخدامه إحدى البطاقتين يكون مَدِينًا للبنك، فإذا لم يستطعْ سدادَ الدَّيْن، فالبنكُ في هذه الحالة يلجأ إلى عملية التَّورُّق ليتيح للعميل إمكانية السَّداد بالسُّيُولة النَّقْديّة، التي سيحصلُ عليها جرَّاء عملية التَّورُّق، ومن ثمَّ ينشأ عليه دَيْن جديدٌ بسبب عملية التَّورُّق. أوجه الاختلاف بين البطاقتين: يتَّضح الاختلافُ بين البطاقتين في النواحي الشكلية، والإجرائية، التي لا تؤثر في النتيجة المشتركة بينهما، حيث إن هذا الاختلافَ لا يؤثر في الحكم على البطاقتين، بحيث يكونُ لكل بطاقة حكم يغايرُ حكم الأخرى بسبب هذا الاختلاف، إذ الاختلافُ فقط في الشكليات، ولا أثر له في الحقيقة والنتيجة المشتركة بين البطاقتين، وأوجه الاختلاف هي على النحو التالي (1): 1 - تختلفان في إجراء عملية التَّورُّق: ففي بطاقة التَّيسير عن طريق البيع الفضولي (2)، حيث يتولَّى البنكُ عملية الشراء لحامل البطاقة والبيع لطرف ثالث، __________ (1) انظر: المرجع السابق (7)، وانظر: المنشورات التعريفية بشأن البطاقتين في كلا البنكين. (2) المنشورات التعريفية التي تصدرها جميع فروع البنك الأهلي تنصُّ على أن عملية إجراء التَّورُّق في بطاقة التيسير تتمّ عن طريق البيع الفضولي، ولكن عندما قابلت أحد أعضاء البنك، لأستفسر عن بعض الأمور، ذكر لي باختصار أن العميل عندما لا يستطيعُ سداد الدين الناشئ عن استخدامه للبطاقة، فإنَّه يمكن الدخول في برنامج (تيسير الأهلي)، والذي جاء تعريفه في المنشورات التعريفية للبنك بأنه: تمويل إسلامي مبني على التَّورُّق، وهذا البرنامج هو أحد برامج التَّورُّق المصرفي، وهذا يعني أن البنك الأهلي التجاري يقدم لعملائه التَّورُّق. على شكلين: الأول: يُقدَم التَّورُق على أنَّه عملية متابعة (لبطاقة التيسير)، ويُلجأ إليه عندما لا يستطيع حامل البطاقة التسديد، فيدخل حامل البطاقة في عملية التَّورُّق، ليسدِّدَ الدين بتلك السيولة النقدية، التي سيحصل عليها جراء عملية التَّورُّق. = (1/166) ________________________________________ ويعتبر التصرف نافذًا خلال عشرين يومًا إذا لم يعترضْ حاملُ البطاقة، وأما بطاقةُ الخير فعن طريق الت**** لطرفٍ ثالث بشراء السِّلع، ومن ثمَّ توكل إدارة الائتمان الشخصي ببيعها لطرفٍ آخر. 2 - تختلفان في مُعَدَّل الربح: ففي بطاقةِ الخير يكون: (16.30%) وهو أكثر بكثير من معدلات الربح العالمية في بيع الأجل والمرابحة، وأما بطاقةُ التيسير فلم يذكر ما يتعلَّق بمعدلات الربح. __________ = الثاني: يُقدَّم التَّورُّق على شكل برنامج مستقل لا علاقة له بالبطاقة، ويسمى بـ (تيسير الأهلي) فيمكن لأي شخص يريد سيوله نقدية الذهاب إلى البنك، ويدخل في هذا البرنامج. فعضو البنك أوضح لي أن حامل البطاقة عند عدم استطاعته التسديد، فالبنكُ يدخلُ معه في عملية تَّورُّق هي نفسها برنامج التَّورُّق المعروف بـ (تيسير الأهلي)، فهذا البرنامج إذًا يستفاد منه حين لا يستطيعُ حامل البطاقة التسديد، ويجعلُ كعملية تابعة لبطاقة التيسير، وكذلك يستفاد منه في ناحية أخرى، حيث يُجعل برنامجًا مستقلًا يمكن لأي فرد لا علاقة له بالبطاقة الائتمانية أن يدخل هذا البرنامج، ليحصل على السيولة النقدية التي يريدها. وبالرجوع إلى الآلية العملية لبرنامج التَّورُّق (تيسير الأهلي) وجدت أنَّه لم يذكر عن البيع الفضولي شيئًا، وأن هذا البرنامج قائم على الت****، كما سبق بيانه في مسألة: تصوير عملية التَّورُّق في بطاقة التيسير، فالبنكُ في عملية التَّورُّق في بطاقة التيسير يتصرف كفضولي، فيقوم بشراء السِّلعة لحامل البطاقة، وبيعها لطرف ثالث دون علم حامل البطاقة، في حين أن البنك في برنامج (تيسير الأهلي) يقوم ببيع السِّلعة لطرف ثالث بموجب عقد وكالة، ولعل الجمع بين الأمرين: أن البنك في الأصل لا يتصرف عن العميل إلا بموجب عقد وكالة منه، فإذا لم يتصل حامل البطاقة (العميل) بالبنك، فإن البنك يضطر كفضولي إلى إجراء عملية التَّورُّق ليضمن حقوقه، والذي يؤيد هذا أنه جاء في المنشورة التعريفية لبطافة التيسير ما يلي: (استخدام حد التيسير الائتماني، وهو أمر حامل البطاقة البنك بشراء سِّلعة / سِّلع، وإعادة بيعها لتسديد جزء أو كل دين البطاقة الائتمانية) فكيف ينصون على أن حامل البطاقة يأمر البنك بشراء السِّلعة، مع أنهم ذكروا أن البنك يتصرف كفضولي في شراء السِّلعة لحامل البطاقة، وبيعها لطرف ثالث، فهذا يعني أن حاملَ البطاقة إذا مضى وقت، ولم يتصل، فإن البنك سيضطر فضوليًا إلى إجراء عملية التَّورُّق. (1/167) ________________________________________ 3 - تختلفان في مدة الأجل في سداد عملية التَّورُّق: ففي بطاقةِ التيسير (24) شهرًا، وأما في بطاقة الخير (15) شهرًا. المسألة الرابعة: التكييف الفقهي للتَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير: عرفنا من خلال تصوير عمل البطاقتين، أنهما تتيحان لحاملهما سداد الدَّيْن، الذي وجب بسبب استخدامهما عن طريق إجراء عملية التَّورُّق، والحقيقة أن عمليةَ التَّورُّق باستخدام إحدى البطاقتين، لا تقومُ بتسديد الدَّيْن فحسب، وإنما تنشئ دينًا جديدًا على حامل البطاقةِ يسدِّده خلال فترةٍ محددةٍ، وبهذا نعرفُ أن التَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير هو من قبيل [قلب الدَّيْن على المدين] الذي أجمع العلماءُ على تحريمه، وبيان هذا يتَّضحُ على النحو التالي: شخص استخدم إحدى البطاقتين، واستفاد منها إما بالسَّحب من مكائن الصَّرف، أو بالشراء من المحلات التجارية، ثمَّ صدر كَشْف الحساب الذي يبيِّن ما على حامل البطاقة من مستحقّات، ولنفرضْ أن المبلغَ المسجَّل في كشف الحساب هو ستة آلاف، فاعتذر حاملُ البطاقة عن السَّداد، فإنَّ البنكَ في هذه الحالة يدخلُ مع حامل البطاقة في عملية التَّورُّق، فيبيع البنكُ سلعةً مملوكة له على حامل البطاقة بثمانية آلاف مؤجلة تدفعُ في أقساط، ثمَّ يوكلُ حامل البطاقة البنك في بيع السِّلعة لطرف ثالث بثمن نقدي حاضر، فيقوم البنكُ ببيع السِّلعة نيابة عن حامل البطاقة بستة آلاف حالة توضعُ في حساب حامل البطاقة، ثمَّ بعد ذلك تقومُ جهة إصدار البطاقة بسحب الستة آلاف لتسديد الدَّيْن الناشئ عن استخدام البطاقة، فيلاحظ هنا أنَّه قد نشأ دَيْنٌ جديد أكثر من الدَّيْن السابق على حامل البطاقة بسبب الدُّخول في عملية التَّورُّق، وهذا في الحقيقة هو [قَلْبُ الدَّيْن على المدين] أي: زيادة الدَّيْن في ذمة المدين بأي طريقة كانت، فالدَّيْن الذي كان على حامل البطاقةِ هو ستة آلاف قد زاد، وصار ثمانية آلاف. وقلب الدَّيْن على المدين قد أجمع العلماءُ على تحريمه؛ لأنه يُعَدُّ نوعًا من (1/168) ________________________________________ أنواع الرِّبا، وهو كما يسميه العلماءُ بربا الجاهلية، فقد كان معروفًا عند الجاهلية بصورته البسيطة الواضحة، وذلك بأن يقولَ الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن وفَّاه وإلا زاد الدائن في الأجل، وزاد المدينُ في المال، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) يقول قتادة: "إنَّ ربا أهل الجاهلية يبيعُ الرجلُ البيعَ إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده، وأخر عنه" (2). وجاء في التفسير: "إنما كان الرِّبا في الجاهلية في التضعيف، وفي السن يكونُ للرجل فَضْل دين، فيأتيه إذا حلَّ الأَجَلُ، فيقول له: تقضيني، أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السّن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثمَّ حقّة، ثمَّ جذعة، ثمَّ رباعيًا، ثمَّ هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه؛ فإن لم يكنْ عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضًا، فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مئتين فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة، يضعفها له كل سنة، أو يقضيه" (3). والأضعافُ المضاعفةُ التي وردت في الآية هي وصفٌ لواقع، وليست شرطًا يتعلق به الحكم، والآيات التي وردتْ في سورة البقرة قاطعة في حرمة أصل الرِّبا بلا تحديد ولا تقييد {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (4). أيًا كان، فالأضعافُ المضاعفةُ وصفٌ ملازمٌ للنظام الربوي المقيت أيًا كان سعر الفائدة، والنظام الربوي يعني إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة، __________ (1) سورة آل عمران آية (130). (2) تفسير الطبري (3/ 101). (3) المرجع السابق (4/ 90). (4) سورة البقرة آية (278). (1/169) ________________________________________ ومعنى هذا: أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردةً، ولا بسيطة، فهي عمليات مكررةٌ من ناحية، ومركبةٌ من ناحية أخرى، فهي تنشئ مع الزمن، والتكرار، والتركيب أضعافًا مضاعفة بلا جدال (1). غير أن أكلة الرِّبا يبتكرون حيلًا لقلب الدَّيْن على المدين، فيعمدون إلى معاملاتٍ ظاهرها الصِّحَّة، ويحاولون جاهدين أن تكونَ إجراءاتها خاضعةً للضوابط الشرعية، إلا أنها في حقيقة الأمر تكونُ من قلب الدَّيْن على المدين المعروف بربا الجاهلية. وحين النظرِ إلى التَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير، نجد أنها من قبيل التحايل لقلب الدَّيْن على المدين (حامل البطاقة)، فإذا صدر كَشْفُ الحساب: فحاملُ البطاقة يكون مخيرًا بين الوفاء بالدَّيْن، أو بالدخول في عملية التَّورُّق حين عجزه عن السَّداد، وهذه العملية -أي: التَّورُّق- هي في الحقيقة حيلة لقلب الدَّيْن على حامل البطاقة، بمعنى أن السِّلعة اتخذت ستارًا وحيلةً لقلب الدَّيْن، بدليل أن حامل البطاقة لا يريد السِّلعة، بل إنه قد لا يعرفها أصلًا، والعبرة في العُقُود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، والعلماءُ -رحمهم الله- يرون أن التحايل لاستحلال ما حرَّم الله أشدّ إثمًا من ارتكاب المحرم مباشرة؛ لأنَّ الحيلةَ المحرَّمة -كما ذكرت سابقًا فُي مبدأ الحِيَل- تقتضي رفع التَّحريم مع قيام موجبه، ومقتضيه، ويلزمُ منها فعل المحرم مع ما تتضمَّنه من المكر، والخداع، والتلبيس، إضافةً إلى أن الحيلة قد توجب الكلفة بشراء السِّلعة، وبيعها بخسارة، يقول ابن القيم نقلًا عن شيخ الإسلام: "المعنى الذي لأجله حرّم الرِّبا موجود فيها -يعني: صورة التَّورُّق الفردي- بعينه مع زيادةِ الكلفة بشراء السِّلعة، وبيعها، والخسارة فيها، فالشَّريعةُ لا تحرِّمُ الضَّررَ الأدنى، وتبيح ما هو أعلى منه" (2). __________ (1) انظر: تفسير آيات الرِّبا. سيد قطب (49). (2) إعلام الموقعين (3/ 170). (1/170) ________________________________________ وبهذا نعرفُ أن جميعَ صور الحِيَل لاستحلال الرِّبا "تتضمَّن تكلفة، ومشقة، وخسارة أكبر من ربا النَّسِيئة الصريح، ومن الثابت شرعًا أن المشقة في ذاتها غير مقصودة للشارع، بل جاء الشرعُ بضدها، وهو اليسر، ورفع الحرج، فإذا كان هناك معاملتان تستويان في النتيجة، والهدف، والغاية إحداهما أكثر كلفة ومشقة من الثانية، فإنَّ جوازَ الأكثر مشقة يستلزمُ بالضَّرورة جواز الأقل مشقة، وتحريم الأقل مشقة يستلزمُ بالضَّرورة تحريم الأكثر مشقة، والقَولُ بخلاف ذلك متناقضٌ ومنافٍ لمنهج التشريع" (1). مما سبق يمكن القَولُ بأن التكييف الفقهي للتَّورُّق في بطاقتي التيسير والخير، هو على النحو التالي: 1 - أنه يعدُّ من الرِّبا؛ لأن حقيقةَ التَّورُّق في البطاقتين هي قَلْبُ الدَّيْن على حامل البطاقة. 2 - أنه من قبيل التحايل على الرِّبا، وقد سبق في مبدأ الحِيَل أن الحيلةَ باطلة، ومحرمة (2). * * * المطلب الثاني التَّورُّق باستخدام الأسهم المسألة الأولى: تصوير التَّورُّق بالأسهم: تتمتع الأسهمُ بالسُّوق النشطة لها، وتتميزُ بالاستقرار النسبي في الأسعار، ولذلك فإن البنوك تستخدمُ ا 1 لأسهمَ في عمليات التَّمويل، والحقيقة أن عملية __________ (1) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (33). (2) ومن المخالفات الشرعية في عمل البطاقتين: أنهما من قبيل بيعتين في بيعة المنهي عنه، انظر: المخالفات الشرعية في بطاقتي التيسير والخير. خالد الدعيجاني (16). (1/171) ________________________________________ التَّورُّق بالأسهم لا تختلفُ عن عمليات التَّورُّق بالسِّلع الأخرى، غير أن الأسهم استُخدمت في بعض صِيَغ التَّمويل التي تشابهُ عملية التَّورُّق، ولذلك أفردت دراسة التَّورُّق باستخدام الأسهم في مطلبٍ خاصّ، كي نعرف تلك الصيغ التي تشابه التَّورُّق، وتكييفها الفقهي. الفرع الأول: تصوير عملية التَّورُّق باستخدام الأسهم: 1 - يتقدم العميلُ بطلب التَّمويل، فيشتري أسهمًا من البنك بثمن مؤجَّل، ولنفرضْ أن الثمن المؤجَّل (30.000) يسدده العميلُ على شكل أقساط. 2 - يقوم العميلُ ببيع الأسهم بنفسه، أو بت**** البنك في بيعها نقدًا. 3 - في حالة الت**** يقومُ البنك ببيع الأسهم نيابة عن العميل لطرف ثالث بمبلغ نقدي حاضر (25.000) فتوضع في حساب العميل (المُتَورِّق). نلاحظُ أن عملية التَّورُّق باستخدام الأسهم هي نفسها عملية التَّورُّق، باستخدام السِّلع الأخرى إلا أن بعضَ المصارف قد منعتِ التَّورُّق باستخدام الأسهم، "فلقد تقدّمت إدارةُ شركة الرَّاجحي المصرفية إلى هيئتها الشرعية بالسَّماح لها باستخدام التَّورُّق في بيع الأسهم، وقد فطنتِ الهيئةُ إلى أنَّه إذا سمحتْ بذلك، فإن الشركة سوف تستغني عن كل العُقُود، والأدوات الإِسلامية، وتكون عملية التَّورُّق هي العملية السائدة، والفرق بين التَّورُّق والتَّمويل بفائدة فرقٍ ضئيل يتمثلُ بالفرق بين سعر البيع والشراء" (1). وسنعرف سبب منع الشركة عملية التَّورُّق، باستخدام الأسهم في التكييف الفقهي لهذه المسألة. الفرع الثاني: تصوير التَّمويل باستخدام الأسهم: (التَّمويل باستخدام الأسهم): هي عمليةٌ طرحتها البنوك قبل فترة لتقسيط __________ (1) التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق. أحمد محيى الدين أحمد (3). (1/172) ________________________________________ الأسهم، وقد وضعت بعضُ البنوك مسميات لهذه العملية، فمثلًا شركة الرَّاجحي المصرفية تطلقُ على هذه العملية برنامج (وطني)، وقد جاء في المنشورة التعريفية للبرنامج ما يلي: "يعتبر سوقُ الأسهم نوعًا من أنواع الاستثمارات الشائعة في جميع أنحاء العالم، سواء كان الهدفُ منها الربح المباشر، أو بغرض توزيع تلك الاستثمارات، وكذلك السُّوق السعودي للأسهم فهو من السوق النشطة ضمن حركة الاقتصاد الوطني، وكما نعلمُ أن فرصة الدخول في هذا السُّوق ليست متاحةً لكل مواطن من ذوي الدخل المحدود. ومن هنا كانت فكرة ولادة برنامج وطني لتقسيط الأسهم، الذي يعطي العميلَ الفرصةَ لامتلاك أسهم الشركات، التي يرغبها بالكمية المطلوبة، ومن ثمَّ يقومُ بسدادها بأقساط مريحة، وذلك وفقًا لشروط وأحكام مجازة من الهيئة الشرعية، مما يعودُ عليه بالمنفعة، ويُمكِّنه من الاستثمار، وتكوين محفظة استثمارية له، ولأسرته" (1). وتتضح صورةُ برنامج (وطني) بعد بيانِ إجراءاته، وهي على النحو التالي (2): 1 - يبدي العميلُ رغبته في الحصول على سيوله نقدية تقارب مثلًا (40.000). 2 - يتقدم العميلُ بطلب لشراء بعض الأسهم المحلية. __________ (1) انظر: المنشورات التعريفية لبرنامج (وطني) لتقسيط الأسهم السعودية، والتي تصدرها جميع فروع شركة الراجحي المصرفية. (2) لم تنصَّ المنشورة التعريفية لبرنامج (وطني) على إجراءات هذا البرنامج، وإنما نصت فقط على الشروط للدخول في البرنامج، فاضطررت إلى أخذ بيان هذه الأجراءات من أحد الموظفين العاملين بشركة الراجحي المصرفية للاستثمار. (1/173) ________________________________________ 3 - تقوم شركةُ الرَّاجحي المصرفية بشراء الأسهم بمبلغ (40.000). 4 - ثمَّ تقوم الشركةُ ببيع الأسهم مرابحة على العميل بمبلغ (45.000)، ويسدد العميل هذا المبلغ على شكل أقساط في فترة محددة. 5 - بعد توقيع العميل على عَقْد البيع، يكون العميلُ مخيرًا، فيمكنه بيع الأسهم بنفسه أو يقوم بت**** الشركة في بيعها، وفي حالة الت****: تقوم الشركة ببيع الأسهم على طرف ثالث بـ (40.000) نقدًا لتوضع في حساب العميل خلال ثلاثة أيام. والحقيقةُ أن هذا البرنامجَ يشابه عملية التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم، وأوجه الشبه بينهما هي على النحو التالي: 1 - تتفق رغبةُ العميل في كلتا العمليتين، فهو لم يأتِ إلى المصرف إلا رغبة في الحصول على السُّيُولة النَّقْديّة. 2 - تتفق العمليتان في المحصلة النِّهائية، وهي: الحصول على نقد حاضر مقابل زيادة في ذمة العميل. 3 - دخول مبدأ التَّ**** في كلتا العمليتين. 4 - دخول مبدأ المرابحة في كلتا العمليتين. 5 - أن العميلَ يقوم بتسديد ما عليه على شكلِ أقساط. غير أن هناك فروقًا بين برنامج (وطني) وبين عملية التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم، قد تؤثر في التكييف الفقهي للعمليتين، وهي على النحو التالي: 1 - أن شركة الرَّاجحي لا تقوم بشراء الأسهم إلا بعد طَلَب العميل في برنامج (وطني)، في حين أن البنك في عملية التَّورُّق المصرفي يكونُ مالكًا للأسهم قبل مجي العميل، وطلبه. (1/174) ________________________________________ 2 - أن الأسهمَ في برنامج (وطني) هي أسهمٌ محلية في الغالب، في حين أن الأسهمَ في عمليات التَّورُّق المصرفي تكونُ أسهمًا دولية. 3 - أن شركة الراجحي تطلبُ من العميل فتح محفظة استثمارية عن طريق مؤسّسة النَّقْد، لتوضع فيها الأسهمُ حين يشتريها العميل، في حين أني لم أجدْ من ينصّ على ضرورة فتح محفظة استثمارية عند إجراء عملية التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم. المسألة الثانية: التكييف الفقهي للتورق بالأسهم الفرع الأول: التكييف الفقهي للتورق باستخدام الأسهم: إذ تأمَّلْنا إجراءات عملية التَّورُّق باستخدام الأسهم، نُلاحظ بعض الأمور التي تدلُّ على أنَّ هذه العملية من قبيل الحيلة المذمومة شرعًا، فهذه العمليةُ في حقيقتها تحايل لاستحلال الرِّبا، ولذلك نجدُ أن الهيئة الشرعية لشركة الرَّاجحي المصرفية قد أفتتْ بعدم الجواز؛ لأنَّ التَّورُّق باستخدام الأسهم حيلة مكشوفة لاستحلال الرِّبا، والذي يدلُّ على أن التَّورُّق باستخدام الأسهم هو من قبيل التَّحايل على الرِّبا ما يلي: 1 - أن عمليةَ التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم تبدأ وتنتهي في جلسةٍ واحدة، وبمجرد توقيع بعض الأوراق تتداخلُ كل التصرفات التعاقدية، وهذا الفعلُ يذكِّرنا ببيع العِيْنَة، إذ هو بيعٌ يبدأ وينتهي في جلسة واحدة، وبمجرَّد تبادل بالألفاظ بين الطرفين يكونُ المشتري الأول قد أخذ نقدًا مقابل زيادة في ذمته، واتخذ البيع حيلة وستارًا لاستحلال الرِّبا، فالمحصلةُ النهائيةُ لعملية التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم، ولبيع عينة واحدة، إذ هي تحصيلُ نقد مقابل زيادة في الذمة، ولو قيل: طبيعة العلاقة في بيع العِيْنَة هي علاقةٌ ثنائيةٌ بمعنى أنها تتمُّ (1/175) ________________________________________ من خلال طرفين فقط، بينما نجدُ عملية التَّورُّق باستخدام الأسهم لا تتمُّ إلا بثلاثة أطراف، أو أكثر!!. قلت: يمكن الجوابُ عن هذا بالتالي: أن العلاقة في بيع العِيْنَة قد تكون ثلاثية، والتي تُسَمَّى بـ (العِيْنَة الثلاثية) وهي التي تتمُّ من خلال ثلاثة أطراف، وجيء بالطرف الثالث حيلة لاستحلال العِيْنَة التي هي حيلة لاستحلال الرِّبا، يقول ابن رشد: "وسُئِلَ مالك عن رجل مما يعين يبيع السِّلعة من الرجل بثمنٍ إلى أجل، فإذا قبضها منه ابتاعها منه رجل حاضر كان قاعدًا معهما، فباعها منه، ثم إن الذي باعها الأول اشتراها منه بعد، وذلك في موضع واحدٍ قال: لا خير في هذا، ورآه كأنه محلّل فيما بينهما" (1) فوجودُ الطرف الثالث في بيع العِيْنَة لا يعني جوازها، وكذلك عمليةُ التَّورُّق باستخدام الأسهم، فالطرف الثالث إنما جيء به حيلةً لاستحلال الرِّبا بدليل أن الطرف الثالث يكون غالبًا إحدى الشركات، وهي نفسها التي تقومُ ببيع الأسهم على البنك، ثمَّ تعيدُ الشراء بأن تشتري ما يعرضه البنكُ بموجب ت**** العميل في بيعها، وبذلك نجدُ الأسهمَ تدورُ من يد مالكها إلى البنك، ليبيعها على العميل الذي يقومُ بت**** البنك في بيعها، ثمَّ يقومُ البنك ببيعها على مالكها الأول، فتدورُ الأسهم من يد مالكها اليمنى إلى اليسرى، ثمَّ إلى يده اليمنى وهكذا، وهذا هو حقيقة التحايل المذموم. 2 - جاء في تعريف بيع العِيْنَة عند المالكية، كما سبق ذكره (بيع المشتري ما اشتراه لبائعه، أو ل****ه لأجل) وقد ذكرت أن الوكالة قد تدخلُ في عمليات التَّمويل كحيلة لاستحلال ما حرم الله، وهذا التعريفُ من فقه المالكية الدقيق لبيع العِيْنَة، فعملياتُ التَّمويل في العصر الحديث لا تكاد تخلو من الوكالة، وعمليةُ التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم، أو باستخدام سِّلع أخرى قائمة على __________ (1) البيان والتحصيل (7/ 89). (1/176) ________________________________________ الت****، فالعميلُ لم يذهب إلى البنك إلا رغبة منه في الحصول على نقود، وبذلك نعرفُ أن العميلَ لا يريدُ أن يتحمل تكاليفَ قبض السِّلعة، ونقلها، وحيازتها، ولا يريدُ أن يقحم نفسه بسوق الأسهم لجهله بها، بل يريد التخلصَ من السِّلعة والأسهم، وحيث إنه لا يجوزُ بيع السِّلعة أو الأسهم على البنك؛ لأنَّ هذا عينة محرمة، فلا سبيلَ للتخلص منها إلا بطريق ت**** البنك في بيعها، "وليس صعبًا أن نستنتجَ مقدمًا ماذا سيكون مآل هذا الاتجاه، إنه مزيدٌ من تخفيض دور السِّلع في التَّمويل، ومزيد من الإغراق في الديون، والتوسُّع في تداولها، وهي نفس الملامح والخصائص التي يتَّسمُ بها النظام الربوي، ويرافق ذلك بطبيعة الحال ترسيخ مفهوم النَّقْد الحاضر بالنَّقْد المؤجَّل" (1). فالت**** في حقيقته جزء من الحيلة المبتكرة لتحليل الرِّبا، فعمليةُ التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم تقومُ على عقود، هي في حقيقتها حيل لاستحلال الرِّبا، ويؤيد هذا الفقرة التالية. 3 - من المعلوم أن اقتصادَ البلد لا يكونُ منتجًا إلا بوجود الحركة الحقيقية في السُّوق بتداول السِّلع، وهذا الأمرُ يكون معدومًا في عملية التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم، إذ هي في الحقيقة تحصيلُ نقد مقابل زيادة في الذمة، واتخذت صورة البيع والشراء بالأسهم حيلة لذلك، وإذا ثبت أن عملية التَّورُّق باستخدام الأسهم هي من قبيل التَّحايل على الرِّبا، فإن العلماء -رحمهم الله- قد ذهبوا إلى أن ارتكاب الحيلة أشدّ إثمًا من ارتكاب المحرم مباشرة، وسيأتي توضيحُ هذا الأمر في المبحث القادم. الفرع الثاني: التكييف الفقهي للتمويل باستخدام الأسهم (برنامج وطني): إذا تأمَّلْنا إجراءات برنامج (وطني) لتقسيط الأسهم الذي طرحته شركة __________ (1) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (59). (1/177) ________________________________________ الراجحي المصرفية، فإن هذا البرنامج يعد من قبيل (بيع المرابحة للآمر بالشراء)، فإن العميلَ يأمر شركة الراجحي بشراء بعض الأسهم المحلية، ليقوم البنك بعد شرائها ببيعها مرابحةً على الآمر، والذي جعلني أقول بأن هذا البرنامج هو من قبيل بيع المرابحة للآمر بالشراء، وليس تَّورُّقًا، الأمور التالية: 1 - أن شركةَ الرَّاجحي المصرفية لا تشتري الأسهم إلا بعد أمر العميلِ بالشراء، في حين أن البنوك الأخرى في عمليات التَّورُّق بالأسهم، يكون البنك مالكًا للأسهم قبل مجيء العميل، وهذا أمرٌ مهمٌّ في التفريق بين التَّورُّق المصرفي، وبيع المرابحة للآمر بالشراء، فقد سبق أن ذكرت هذا الأمر في الفصل الثاني عند بيان الفروق بين التَّورُّق المصرفي، وبيع المرابحة. 2 - أن الأسهم في برنامج (وطني) في الغالب أنها تكونُ أسهمًا محلية، مثل (أسهم شركة سابك، أو شركة الاتصالات، أو الكهرباء) في حين أن الأسهم في عمليات التَّورُّق المصرفي غالبًا تكون أسهمًا دولية يتم شراؤها، وبيعها في البورصات، وقد تخفى حقيقة تلك الأسهم، فيحتمل أن تكون لأعمال محرَّمة شرعًا كتجارة المخدرات، أو الخمور، وغيرها. 3 - أنه لا يمكنُ أن تتمَّ عمليةُ التَّورُّق المصرفي باستخدام الأسهم بدون دخول مبدأ الوكالة فيها، فالوكالة أمر لا بُدَّ منه في عملية التَّورُّق المصرفي، فالعميلُ في غالب الأمر يكون شخصًا يجهلُ التَّعامُل في السُّوق الدولية، والتَّعامُل بالأسهم فيها، فيقوم بت**** البنك في بيعها، وهذا هو المعروفُ من غالب العملاء، وكما قيل: المعروفُ عرفًا كالمشروط شرطًا، فالوكالةُ كأنها مشروطةٌ في العقد بدليل العرف، حتى ولو كان البنك يزعمُ بأن العميلَ له الخيار في ت**** البنك، أو عدمه، ولو تتبعنا عقود عمليات التَّورُّق المصرفي فلن نجدَ عملية خالية من الت****، فالت****ُ بدليل العرف صار شرطًا في عمليات التَّورُّق (1/178) ________________________________________ المصرفي، في حين أن شركةَ الرَّاجحي في برنامجها (وطني) تقدَّم الت**** كخدمة للعميل، بدليل أن هناك الكثيرَ من العملاء أمروا بشراء بعض الأسهم، وقاموا بمراقبة بعض أسعار الأسهم فباعوها بأنفسهم، ولم يقوموا بت**** الشركة في بيعها. غير أنَّه يمكنُ أن يثار هنا إشكال، فيمكن أن يقال: جاء في إجراءات برنامج (وطني) مبدأ الت****، فيمكن للعميل أن يقومَ بت**** شركة الراجحي في بيع الأسهم، والصُّورة المعروفة لبيع المرابحة للآمر بالشراء لم يردْ فيها مبدأ الت****، لا من قريب، ولا من بعيد!!. ويمكن الإجابةُ عن هذا الإشكال بما سبق، فشركة الراجحي المصرفية تقدِّم الت****َ كخدمة للعميل، بدليل أن هناك الكثير من العملاء لم يقوموا بت**** البنك، بل قاموا بمراقبة أسعار الأسهم فباعوها بأنفسهم، وبرنامج (وطني) لا يفتقر إلى الت**** لإتمامه بعكس عمليات التَّورُّق المصرفي، فهي تفتقر إلى الت****، ولا يمكنُ أن نتصور عمليةَ تَّورُّق مصرفية مجردة عن الت****، فهذا من النادر، والنادرُ لا حُكْمَ له. وإذا ثبت أن برنامج (وطني) هو من قبيل بيع المرابحة للآمر بالشراء، فإن العلماء قد أجازوا بيعَ المرابحة للآمر بالشراء، إذا توفرت الشروط التالية (1): 1 - أن لا يكونَ العوضان من الأصناف الربوية التي يشترطُ فيها التقابض كبيع الريال مقابل الدِّيْنار، وذلك لأنَّ ثمن بيع المرابحة مؤجَّل بعضه، أو كله. 2 - يُشترط قبضُ المصرف للسِّلعة، فالهيئة الشرعية لشركة الراجحي تشترط __________ (1) انظر: تجربة البنوك التجارية السعودية في بيع المرابحة للآمر بالشراء. عبد الرحمن الحامد (82 - 86). (1/179) ________________________________________ القبض الحقيقي، وحيازة السِّلعة إلى المخازن إذا كانت سِّلعة داخلية، وبعض المصارف تكتفي بالقبض الحكمي. 3 - أن يمتلكَ المصرفُ السِّلعة قبل بيعها على الآمر. 4 - أن لا يأخذَ المصرف عربونًا من الآمر في مرحلة المواعدة؛ لأنَّ العربون لا يؤخذ إلا في عقد البيع، والمواعدةُ ليست عَقْدَ بيع. 5 - أن لا يوكل المصرفُ الآمر بالشراء في شراء البضاعة وقبضها لسلامة بيع المرابحة، وإبعاده عن صورية البيع. 6 - أن يتمَّ تحديد إجمالي ثمن البيع، وأجل السَّداد، ومواعيد السَّداد. 7 - أن تكون المواعدةُ غيرَ ملزمة. (1/180) ________________________________________ المبحث الرابع حكم برامج التَّورُّق المصرفي في البنوك المعاصرة المطلب الأول موقف الفقهاء من التَّورُّق المصرفي التَّورُّق المصرفيُّ صيغةٌ من صيغ التَّمويل التي طرحتها البنوك مؤخرًا، وقد تلقتها وسائلُ الإعلام المرئي منها، والمسموع بترويج الإعلانات المختلفة لهذه المعاملة، والتَّورُّق المصرفي يختلف كثيرًا كما سبق عن التَّورُّق، الذي يمارسه الأفراد، والذي تكلَّم حوله الفقهاء -رحمهم الله- وحيث إن التَّورُّق المصرفي معاملة حديثة، فليس في كتب الفقهاء ما ينصُّ على حُكْم هذه المعاملة صراحة، غير أن الفقهاء -رحمهم الله- تركوا لنا من الضَّوابط، والقواعد، والأسس، التي تكون كفيلةً لمعرفة رأيهم في التَّورُّق المصرفي. وهذا دليلٌ على عظمة الفقه الإسلامي، فالمجتهدُ قادر على إعطاء كل نازلة حكمها الشرعي بناءً على الأسس، والقواعد الشرعية التي أثبتها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والتي شرحها العلماء -رحمهم الله-. أولًا: موقف الحنفية من التَّورُّق المصرفي: يتَّضح موقفُ الحنفية من التَّورُّق المصرفي بأمرين: 1 - عرفنا فيما سبق أن الحنفية لا يرون الحِيَل المذمومة، وما نقل عنهم من جواز الحِيَل إنما ينصرفُ إلى الحِيَل المباحة التي يحتال بها للتوصل إلى الحقّ، أو دفع الظالم بطريقة مباحة، ولا يجوزُ لشخص أن ينسب الحِيَلَ المحرَّمة إلى (1/181) ________________________________________ إمام من الأئمة، فهم -رحمهم الله- أعلم بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودينه، وأتقى له من أن يفتوا بالحِيَل المحرمة. وإذا عرفنا موقفَ الحنفية من الحِيَل، نستطيع أن نقول: إن التَّورُّق المصرفي يكون ممنوعًا عند الحنفية، بناءٌ على قولهم بمنع الحِيَل المحرمة، وأما كون التَّورُّق المصرفي حيلة محرمة فهو أمر ظاهر؛ "لأن المقصود بها هو تحليل حرام، وهو الحصولُ على النَّقْد الحال في مقابل دفع أكثر منه في الأجل، واتخذت سلسلة من البيوع، والاتفاقيات، شاركت فيها مجموعةٌ من المؤسَّسات بخطة محكمة، وهذه العُقُود لا هدف، ولا غاية للمُتَوَرِّقين فيها، بل إن الرابطة تجمع عقودًا في عقد واحد وإن لم يصرح بذلك، لكنه معلومٌ بالقطع من القرائن، والأحوال، وطبيعة المعاملة" (1). 2 - عرفنا فيما سبق أن الحنفية يحرمون العِيْنَةَ بصورتها، التي فيها عود السِّلعة إلى بائعها الأول، سواء أكان عودها مباشرة، أم بواسطة طرف ثالث محلل، وإذا كانت العِيْنَة بصورتها المعروفة محرمة عند الحنفية، فالتَّورُّق المصرفي يكونُ ممنوعًا؛ لأنه يمكنُ أن يقال: إن حقيقة التَّورُّق المصرفي عينة محرمة، وبيان هذا يتَّضح في الآتي: أن العميلَ (المُتَوَرِّق) لم يذهبْ إلى البنك إلا رغبة منه في الحصول على نقود، وبذلك نعرفُ أن العميل لا يريدُ أن يتحمل تكاليف قبض السِّلعة، ونقلها، وحيازتها، بل يريد التخلصَ من السِّلعة، وحيث إنه لا يجوزُ بيع السِّلعة على البنك لأنه عينة محرمة، فلا سبيلَ للتخلص من السِّلعة إلا بطريق ت**** البنك في بيعها، "فلولا وكالةُ المصرف بالبيع نقدًا لما قبل العميل بالشِّراء منه بأجل ابتداء، فالمصرفُ يعلن للملأ أنَّه يقدم تمويلًا نقديًا على أسس إسلامية، وهذا __________ (1) تعليق على بحوث التَّورُّق، حسين حامد حسان (12). (1/182) ________________________________________ يعني أن المصرفَ يلتزمُ بالوكالة بالبيع النَّقْديّ لإتمام التَّمويل بالنَّقْد، ولو انفصلت الوكالةُ عن البيع الآجل لانهار البرنامج، ولم يوجد التَّمويل أصلًا. . . فالمصرفُ هو مصدر السُّيُولة في العملية، وبدون السُّيُولة لا فائدة من العملية من أساسها، وهذا هو نفسُ الدور الذي يقومُ به المشتري -الثاني- في بيع العِيْنَة؛ لأنه بشرائه نقدًا يكون قد وفر السُّيُولة للعميل، فمن حيث الواقع لا فَرقَ بين كون المصرف ****ًا، وكونه مشتريًا؛ لأنَّ التَّمويلَ متحقّق على كل تقدير، والعبرة في العُقُود، والتصرفات للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني" (1). مما سبق يتَّضحُ أن التَّورُّق المصرفي يكون ممنوعًا عند الحنفية، بناءً على رأيهم في الحِيَل، وبيع العِيْنَة. ثانيًا: موقف المالكية من التَّورُّق المصرفي: يتَّضحُ موقفُ المالكية من التَّورُّق المصرفي بالأمور التالية: 1 - عرفنا فيما سبق -في مبحث حكم التَّورُّق الفردي- أن المالكية يمنعون بعضَ صور التَّورُّق الفردي؛ لأنَّ تلك الصور فيها من القرائن ما يدلُّ على فساد نية البائع والمُتَوَرِّق، حيث إنَّ تلك القرائن توحي بأنَّ الهدف، والغاية من عملية التَّورُّق الفردي هو تأمين نقد حاضر مقابل زيادة في الذمة، واتخذت عملية البيع والشراء ستارًا لتحقيق ذلك الهدف، فالمتبايعان لم يدخلا في القَرْض باشتراط الفائدة لِعِلْمِهِما بحرمته، وإنما دخلا في عملية تورق صاحَبَها بعض الأمور والقرائن، التي تدلُّ على أن المقصدَ من عملية التَّورُّق هو إقراض المحتاج (المُتَوَرِّق) عشرة ليردَّها خمسة عشر. ومن تلك القرائن التي تُوحي بفساد نِيَّة المتبايعين في عملية التَّورُّق الفردي: __________ (1) التَّورُّق المنظم قراءة نقدية -سامي السويلم (9). (1/183) ________________________________________ أ- إذا كان المُتَوَرِّق يتعاملُ مع أهل العِيْنَة، فهذه قرينة تدلُّ على أن المقصود من عملية التَّورُّق هو تحصيل نقود مقابل زيادة في الذمة. ب- أن يطلبَ المُتَوَرِّق من البائع أن يضعَ عنه من الثمن المؤجَّل، فهذه قرينة تدل على أن قصد المتبايعين هو النقود، فالمُتَوَرِّق لما أخذ السِّلعة من البائع لبيعها بنقدٍ حاضرٍ على طرف آخر، وجد المُتَوَرِّق أن سعر السِّلعة نقدًا أقل بكثير من سعرها المؤجَّل، الذي سيأخذه البائع، فرأى المُتَوَرِّق أن يرجعَ إلى البائع، ويطلب منه أن يضعَ من الثمن المؤجَّل لتقليص الخسارة عليه، فهذا الفعلُ عده المالكية قرينة تدلُّ على أن القصد من العملية هو تحليل الرِّبا، يقول ابنُ رشد: "وذلك أن يبيعَ الرجلُ من أهل العِيْنَة طعامًا، أو غيره بثمن إلى أجل، ثمَّ يستروضه المبتاع من الثمن فيضع عنه، فإن مالكًا وغيره من أهل العلم كرهوا ذلك؛ لأنه إنما يبيعه على المراوضة فإنما يضعُ عنه، ويرده إلى ما كان راوضه عليه، فصار البيع الذي عقداه تحليلًا للرِّبا الذي قصداه" (1). ج - أن يشتريَ المُتَوَرِّق السِّلعة على أن ينقدَ بعض الثمن، ويؤخر البعض، وقد نصَّ فقهاء المالكية على كراهة هذه الصُورة، حيث قالوا: "إذا اشترى طعامًا، أو غيره على أن ينقد بعض ثمنه، ويؤخر بعضه لأجل، فإن كان اشتراه ليبيعه كله لحاجته بثمنه فلا خير فيه، وهو قَولُ مالك" (2). وقد سبقت الإشارة إلى هذه الصور، التي كرهها المالكية في صور التَّورُّق الفردي، وكذلك في موقف المالكية من بيع التَّورُّق (3). وإذا عرفنا أن المالكية يمنعون بعضَ صور التَّورُّق الفردي لوجود القرائن، __________ (1) المقدمات الممهدات (2/ 524). (2) الخرشي على مختصر خليل (5/ 106). (3) راجع صور التَّورُّق الفردي ص (81). وموقف المالكية من بيع التَّورُّق ص (88). (1/184) ________________________________________ التي تدل على فسادِ العملية، فإنَّ التَّورُّق المصرفي يكون ممنوعًا عند المالكية، بناءً على رأيهم في التَّورُّق الفردي، ويتَّضح هذا بأمرين: الأمر الأول: "التفريق بين أهل العِيْنَة وغيرهم، وأن أهلَ العِيْنَة يعاملون بما لا يعامل به سائر الناس، وهذا التفريقُ يثبت تفريق فقهاء المالكية بين العمل المنظم وبين العمل التلقائي، وهذا واضحٌ في أن المعاملة إذا تحوَلت من تصرُف فردي عفوي إلى عملٍ منظمٍ أخذت بعدًا آخر لم يكن معتبرًا من قبل. الأمر الثاني: الأخذ في الاعتبار أي علاقة إضافية بين المُتَوَرِّق والبائع، مثل رجوع المشتري للبائع ليضعَ عنه، أو أنه يدفع له بعضَ الثمن نقدًا، وبعضه نسيئة، من أجل تيسير المعاملة على المشتري في الحالتين، ومثل هذه العوامل لا توجدُ في التَّورُّق الفردي، الذي لا يتضمَّن أي صلة إضافية للبائع بالمُتَوَرِّق مطلقًا، فوجودُ علاقة إضافية بين البائع وبين المُتَوَرِّق تؤثر في الحكم قطعًا عند المالكية، فإذا اجتمع هذان الأمران (كون البائع من أهل العِينَة، ووجود علاقة إضافية بينه وبين المُتَوَرِّق) كان الحكم هو التَّحريم. . . ويرجع ذلك -والله أعلم- إلى أن أصلَ التَّورُّق مكروه عند المالكية، لاشتباهه بالرِّبا، فإذا وجدت قرائنُ إضافية تدلُّ على تواطؤ الأطراف المعنية من أجل تأمين النَّقْد الحاضر بالمؤجَّل، فهم يمنعون منها جَزْمًا، وبناءً على ذلك يمكنُ القَولُ بأن مذهبَ المالكية بناء على نصوص الإمام مالك، وأكابر أصحابه، وفقهاء المذهب يقتضي تحريم التَّورُّق المنظم. . . وذلك لأنَّ هذا العملَ يتضمَّن علاقة إضافية بين البائع والمُتَوَرِّق لا توجدُ في التَّورُّق الفردي، ولأنها تتمُّ مع جهات متخصصة ومتفرغة للتَّمْويل، ويتمُّ التفاهمُ بين الأطراف مسبقًا لقصد التمويل، وهذه تدلُّ صراحةً على تواطؤ الأطراف بغرض مبادلة دراهم حاضرة بمؤجَّلة، وهي العوامل التي لأجلها منعوا التَّعامُل مع أهل العِيْنَة (1). __________ (1) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (62 - 63). (1/185) ________________________________________ 2 - عرفنا فيما سبق -في مبحث العِيْنَة- أن المالكية يحرمون بيع العِيْنَة بناءً على قاعدة من قواعد المذهب المالكي، وهي [سدّ الذرائع] يقول الدردير عن بيوع الآجال: "وهو بيعٌ ظاهره الجواز لكنه يؤدِّي إلى ممنوع فيمنع، ولو لم يقصد فيه التَّوصُّل إلى الممنوع سدًّا للذريعة التي هي من قواعد المذهب. . . كبيع سِّلعة بعشرة لأجل، ثمَّ يشتريها بخمسة نقدًا، فقد آل الأمر إلى رجوع السِّلعة، وقد دفع قليلًا عاد إليه كثيرًا" (1). وإذا كان المالكيةُ يحرِّمون بيع العِيْنَة لأنها حيلةٌ محرمة، وذريعة إلى الرِّبا، فالتَّورُّق المصرفي يكون محرَّمًا عند المالكية، إذ التَّورُّق المصرفي حيلة لتحصيل نقد حاضر مقابل زيادة في ذِمَّة العميل (المُتَوَرِّق)، واتخذت سلسلة من البيوع والاتفاقيات ستارًا لتحليل ذلك، فالقَولُ بتحريم العِيْنَة، وتحريم الحِيَل، والقول بقاعدة [سدّ الذرائع] كل هذا يدلّ على أن التَّورُّق المصرفي محرم عند المالكية، ولا يخفى أن التَّورُّق المصرفي يعدّ عينة محرمة، فالبنكُ يؤمِّن النَّقْد للعميل (المُتَوَرِّق) بموجب الت****، فالبنكُ هو مصدر السُّيُولة في عملية التَّورُّق المصرفي، وهذا هو نفسُ الدّور الذي يقومُ به المشتري الثاني في بيع العِيْنَة، وسيأتي بَسْطُ هذا في الأمور الدالة على حُرمة التَّورُّق المصرفي. 3 - عرفنا فيما سبق -من موقف المالكية من بيع التَّورُّق- أن المالكية يرون كراهة التَّورُّق الفردي، بناءً على قاعدة [المدخلات والمخرجات] ومعنى هذه القاعدة: أن تقويمَ التَّعامُل بين طرفي الصفقة يتمُّ من خلال النظر في مدخلاتها ومخرجاتها ككلّ، دون النظر إلى تفاصيل ما يدورُ بين طرفيها، فحقيقتها عدم اعتبار ما كان لغوًا من تصرُّفات العاقدين، بل الاعتبار مرتبط بالمحصلة النهائية، __________ (1) الشرح الصغير على أقرب المسالك لأحمد الدردير (3/ 116). (1/186) ________________________________________ فإذا كانت المحصلةُ النهائيةُ نقدًا حاضرًا بزيادة في الذمة فهي ربا، ولا عبرةَ بما توسط ذلك من عقود (1). وإذا طبَّقنا هذه القاعدة على عملية التَّورُّق المصرفي، فإن السِّلعة تنتقلُ من ملك البنك إلى العميل (المُتَوَرِّق)، ليقومَ العميلُ بت**** البنك في بيعها على طرف آخر، فنجد أن السِّلعة قد خرجت من ملك البنك لتدخل في ملك العميل (المُتَوَرِّق)، ثمَّ تخرج من ملكه إلى ملك طرف آخر، وبذلك نعرف أن السِّلعة ليست إلا مجرد لغو بدليل أن العميل (المُتَوَرق) لا يعرفُ ماهية السِّلعة، فهي لغوٌ لا عبرةَ بها، وبذلك تكون محصِّلةُ التَّعامُل بين البنك والعميل (المُتَوَرِّق) نقدًا حاضرًا بيد العميل، مقابل ثمن أكثر منه في ذمته، فالاعتبارُ ليس بما كان لغوًا من تصرُّفات العاقدين، بل الاعتبار بالمحصِّلة النهائية للمعاملة. وبذلك نعرفُ أن التَّورُّق المصرفي محرَّم عند المالكية، بناءً على الأمور التالية: 1 - قَولُهم بمنع التَّورُّق الفردي إذا كانت هناك قرائن تدلُّ على أن القصد من العملية إقراض عشرة مثلًا باثني عشر، وقد وجدت هذه القرائن بشكل أوضح، وأكثر صراحةً في التَّورُّق المصرفي. 2 - قَولُهم بتحريم العِيْنَة، وتحريم الحِيَل. 3 - قَولُهم بقاعدة [سدّ الذرائع]. 4 - قَولُهم بقاعدة [المدخلات، والمخرجات]. ثالثًا: موقف الشافعية من التَّورُّق المصرفي: عرفنا فيما سبق -من موقف الشافعية من الحِيَل، ومن بيع العِيْنَة- أن الشافعية يرون جوازَ الحِيَل، وجواز بيعِ العِيْنَة، بناء على موقفهم من العُقُود __________ (1) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (66). (1/187) ________________________________________ عامة، حيث إنهم يرون أن العبرةَ في العُقُود بالظاهر، ولا تأثيرَ لنية المتعاقدين على العقد، ولا يعني هذا جواز إضمار نيَّة المحرم؛ لأنَّ الشافعية يفرِّقون بين صحة العقد وبين نية العاقد، فإذا نوى شخصٌ ما هو محرم أثم، ولا يستلزمُ بطلان العقد عندهم، وقَولُهم بجواز الحِيَل، وبيع العِيْنَة يستلزمُ القَول بجواز التَّورُّق المصرفي، ولكن الأمر ليس كذلك، فالشافعيةُ مع أنهم يقولون بجواز الحِيَل والعِيْنَة، إلا أن التَّورُّق المصرفي لا يدخلُ في العِيْنَة التي أجازها علماء الشافعية، بل يكون التَّورُّق المصرفي بصورته المعروفة اليوم محرّمًا عند الشافعية، ودليل أنَّه محرّم عندهم ما يلي: أن الشافعية حينما أجازوا بيعَ العِيْنَة، فقد أجازوه بشرطين، هما: 1 - أن لا يكونَ هناك ارتباطٌ بين البيعتين، بحيث لا تظهرُ نية الحصول على النَّقْد، وقد فُهِمَ هذا الشَّرْط من كلام الشافعي -رحمه الله- حينما تحدَّث عن العِيْنَة، فقال: "وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل" (1)، فإذا كان هناك ارتباطٌ بين البيعتين بحيث تظهرُ نية الحصول على النَّقْد، فلا تصحُّ العِيْنَة عنده؛ لأنها ستكون حينئذٍ تحايل لاستحلال الرِّبا، ولذلك فإن أكثر علماء الشافعية ينصُّون على قيد القبض في تعريفهم لبيع العِيْنَة -كما سبق في تعريف بيع العِيْنَة عند الشافعية-؛ لأنه إذا وجد القبض دلَّ على أنَّه ليس هناك ارتباطٌ بين البيعتين، وإذا لم يوجد القبض، فإن ذلك يوحي بفسادِ نيَّة المتبايعين التي يترتب عليها بطلانُ البيع؛ لأنَّ عدم القبض يعطي دلالةً على أن نية المتبايعين هي الحصولُ على النَّقْد، واتخذت صورة البيع حيلة لاستحلال الرِّبا، فالشافعية ينصُّون على القبض في تعريفهم لبيع العِيْنَة، لكي يثبتوا أن البيعة الثانية ليستْ من البيعة الأولى بسبيل. 2 - أن لا يكونَ العقدُ الثاني مشروطًا في العقد الأول، إما بالنَّصِّ عليه، أو __________ (1) الأم (3/ 78). (1/188) ________________________________________ بدلالة العرف والعادة، فإذا كان العقدُ الثاني في بيع العِيْنَة مشروطًا في العقد الأول، فإنَّ العقدين باطلان جميعًا، سواء كان وجودُ الشَّرطْ بالنص عليه أثناء العقد الأول، أو كان وجوده بدلالة العادة، والعرف. وإذا عرفنا أن الشافعية لا يقولون ببيع العِيْنَة إلا بتوفر الشَّرْطين السابقين "فإن التَّورُّق المصرفي لا يدخلُ في بيع العِيْنَة، الذي أجازه الشافعي؛ لأنَّ الشافعي يشترطُ ألا يكون هناك ارتباطٌ بين البيعتين: البيعة التي بالأجل والبيعة التي بالنَّقْد، وألا تظهر نية الحصول على النَّقْد، وكلا الشَّرْطين غيرُ متحقّق في التَّورُّق المصرفي، فالارتباطُ بين البيعتين منصوصٌ عليه في العقد، فالمصرفُ هو الذي يبيعُ السِّلعة نسيئة بأكثر من ثمنها نقدًا، ويشترط (1) على المستَّورُّق أن يُوكله في بيعها نقدًا بأقل مما باعها له به نسيئة ويسلمه الثمن، ويلتزمُ المصرف بهذا، ولولا التزام المصرف ببيع السِّلعة نقدًا، وتسليمه الثمن ما قبل المستورق شراء السِّلعة من المصرف بأكثر من ثمنها نقدًا" (2). وأما نيةُ الحصول على النَّقْد فظاهرةٌ كل الظهور، بل هي مصرَّح بها، فمن يرى وسائل الإعلام اليوم يجد الإعلانات عن برامج التَّورُّق المصرفي تُصَرح بالسُّيُولة النَّقْديّة، فالبنكُ الأهليُّ التجاريُّ يقول: تيسير الأهلي أول تمويل نقدي إسلامي، والبنكُ العربيُّ الوطنيُّ يقول: ويستفيد من التَّورُّق المبارك الذين يرغبون في الحصولِ على سيولة نقدية، والبنك السُّعودي الأمريكي يقول: __________ (1) الحقيقة أن الآليات العملية للتَّورُّق المصرفي تنص على أن المصرف لا يشترط على العملِ المتورق أن يوكله في بيعها، وإنما للعميل الخيار، فله أن يوكل المصرف، وله أن لا يوكله، ولكن الباحث ذكر الاشتراط بناء على العرف، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، فالمعروف أن العميل يقوم بت**** المصرف في بيع السِّلعة، فصار الت**** بهذا العرف كالمشروط؛ لأنه لولا الت**** لما دخل العميل في عملية التَّورُّق المصرفي. (2) حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. الصديق محمَّد الأمين الضرير (21). (1/189) ________________________________________ احصلْ على السُّيُولة بكل يُسْرٍ وسهولة (1)، وإذا كانت نيةُ الحصول على النقود ظاهرة في بيع العِيْنَة، فإن الشافعية يحرمونها؛ لأنَّ ظهورَ نية الحصول على النقود يدلُّ على أن بيع العِيْنَة، إنما عُقد ليتحايل به البائع والمشتري على الرِّبا، ونية الحصول على النقود في التَّورُّق المصرفي أمر مصرَّح به، فيكون مُحَرَّمًا عند الشافعية. وإذا عرفنا أيضًا أن الشافعية يُحرِّمون العِيْنَة إذا كان العقد الثاني مشروطًا في العقد الأول، فإن التَّورُّق المصرفي يكون مُحرَّما كذلك عند الشافعية، فإن دلالةَ العُرف تدل على أن العميل (المُتَوَرِّق) لم يكنْ ليذهب إلى البنك لولا قيامُ البنك ببيعها عنه بالنيابة على طرف آخر، والمعروفُ عرفًا كالمشروط شرطًا، فالعرفُ عند المصارف أنها تقومُ ببيع السِّلعة عن المُتَوَرِّق بالنيابة، وهذا العرفُ هو بمثابة الاشتراط، فكأن العقد الثاني في عملية التَّورُّق المصرفي مشروطٌ في العقد الأول بدلالة العُرف، وإذا كان الأمر كذلك فالتَّورُق المصرفي يكون محرَّمًا؛ لأنَّ العَقْدَ الثاني مشروط بدلالة العرف في العقد الأول. وبهذا نعرفُ أن التَّورُّق المصرفي محرَّم عند الشافعية للأسباب التالية: 1 - لأن فيه ارتباطًا بين العُقُود التي يقومُ عليها التَّورُّق المصرفي. 2 - ولأن نية الحصول على النقود ظاهرة أشد الظهور، بل مصرَّح بها. 3 - ولأن العقدَ الثاني في عملية التَّورُّق المصرفي مشروطٌ بدلالة العرف في العقد الأول. ولا يصحُّ أن نحكمَ بجواز التَّورُّق المصرفي بناءً على تجويز الشافعية لبيع العِيْنَة، فهم إنما أجازوه بضوابط تدلُّ على عدم وجود التلاعب والتحايل، وإذا فقدت تلك الضَّوابط كما في التَّورُّق المصرفي، فإنَّه حينئذٍ نحكم بالتَّحريم. __________ (1) انظر: المرجع السابق. (1/190) ________________________________________ رابعًا: موقف الحنابلة من التَّورُّق المصرفي: يتَّضح موقفُ الحنابلة من التَّورُّق المصرفي بالأمور التالية: 1 - عرفنا فيما سبق -في حكم التَّورُّق الفردي- أن الإمامَ أحمد رُوي عنه ثلاثُ روايات في حكم التَّورُّق الفردي: الجواز، والكراهة، والتَّحريم، وقد سبق ذِكْرُ بعضِ أوجه الجمع بين هذه الروايات، ونريد هنا أن نذكرها باختصار، ونضيف وجهًا آخر، وهذه الأوجهُ هي على النحو التالي: أن الكراهة عند المتقدمين تفيدُ التَّحريم غالبًا تورُّعًا منهم عن إطلاق القول بالتَّحريم، فلا إشكالَ في رواية الكراهة، إذ يُرادُ بها التَّحريم، فيبقى وَجْهُ الجمع بين التَّحريم والجواز، وهو على النحو التالي: أ- من المعلوم أن مَنْعَ الحِيَل من أصول الإمام أحمد، يقول ابنُ قدامة: "قد ثبت من مذهب أحمد أن الحِيَلَ كلها باطلة" (1)، والتَّورُّق حيلةٌ بلا ريب، وإنما وقع الخلافُ هل هو حيلة جائزة أم ممنوعة، وبهذا تكون روايةُ التَّحريم مبنيةٌ على قوله بمنع الحِيَل التي يُعَدُّ التَّورُّق من صورها، بينما يمكن حمل رواية الجواز على حالة الضَّرورة حينما يضطرُّ الشخص إلى نقود، ولا يجد من يقرضه. ب- ويمكن الجمعُ بين الروايتين بوجه آخر، وهو: أن روايةَ التَّحريم تحمل على ما كان من أهل العِيْنَة (2)، بمعنى أن المُتَوَرِّق إذا ذهب إلى أهل العِيْنَة لكي يتَّورُّق منهم، فإن هذا محرَّم عند الإمام أحمد؛ لأنَّ أهل العِيْنَة عُرف عنهم أنهم لا يبيعون إلا بنسيئة، فكون المُتَوَرِّق يذهب إلى أهل العِيْنَة، ويتَّورُّق منهم، فإن هذا قرينة تدلُّ على تواطؤ البائع والمشتري على النَّقْد بالنَّقْد، وبهذا يكونُ الإمامُ أحمد موافقًا للمالكية، حيث عدّوا التَّورُّق مع أهلِ العِيْنَة ممنوعًا، __________ (1) المغني لابن قدامة (4/ 74). (2) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (65). (1/191) ________________________________________ لأنَّ التَّورُّق مع أهلِ العِيْنَة قرينة تدلُّ على أن المقصودَ من التَّورُّق هو تحصيل نقد مقابل زيادة في الذمة. وروايةُ الجواز تحملُ على التَعامُل مع غير أهل العِيْنَة؛ لأنَّ عملية التَّورُّق الفردي إذا كانت مع غير أهل العِيْنَة، فليس هناك قرينة تدل على تواطؤ البائع والمشتري. وإذا عرفنا ما تقدَّم من أوجه الجمع بين الرِّوايات، فإن التَّورُّق المصرفي يكونُ محرَّمًا عند الحنابلة، بناءً على رواية التحريم، فرواية تحريم التَّورُّق الفردي نستفيدُ منها في تحريم التَّورُّق المصرفي، وبيان هذا: أن رواية التَّحريم إذا حملتْ على ما كان من أهل العِيْنَة، حيث إنهم لا يبيعون إلا بنسيئة، فيكونون مرجعًا للمحتاجين، فالتَّورُّق المصرفي يكون محرَّمًا؛ لأنَّ المصرفَ لا يبيع إلا بنسيئة، فيكون مرجعًا للمحتاجين، وكون أهل العِيْنَة أو المصرف لا يبيع إلا بنسيئة، فإن هذا قرينة تدلُّ على تواطؤ البائع والمشتري على النَّقْد بالنَّقْد في عملية التَّورُّق، سواء أكانت فردية أم مصرفية. 2 - عرفنا فيما سبق -في صور العِيْنَة- أنَّه رُوي عن الإمام أحمد أنَّه قال: "العِيْنَة: أن يكونَ عند الرجل المتاعُ، فلا يبيعه إلا نسيئة" (1)، والسبب الذي جعل الإمامَ أحمدَ يحكم على فعل الشخص الذي لا يبيع إلا نسيئة أنَّه عينة هو: "أن مَنْ لا يبيع إلا نسيئة، يكونُ في الغالب مرجعًا للمحتاجين للنقد، فيشترون منه نسيئة، لكي يبيعوا نقدًا بأقل، فتكون المعاملةُ نقدًا بنقد. . . وسبب المنع من التفرغ للبيع بنسيئة هو مَنْعُ التَّورُّق من أن يتحوَّل لعملٍ منظم، لكونه حينئذ قرينة جلية على تواطؤ البائع والمشتري على النَّقْد بالنَّقْد" (2). ولذلك قال ابنُ عقيل: "إنما كره النَّسِيئة لمضارعتها الرِّبا، فإن الغالب أن __________ (1) المغني لابن قدامة (4/ 127). (2) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (64). (1/192) ________________________________________ البائعَ بنسيئة يقصدُ الزيادة بالأجل" (1)، يقول ابنُ تيمية: "ولهذا كره العلماءُ أن يكونَ أكثر بيع الرجل أو عامته نسيئة، لئلا يدخلَ في اسم العِيْنَة، وبيع المضطر" (2). وبذلك نقول: إن التَّورُّق المصرفي يكون محرَّمًا بناءً على كلام الإمام أحمد وابن عقيل؛ لأنَّ المصرفَ لا يبيعُ إلا نسيئة، وبذلك يكون مرجعًا للمحتاجين للنقد، فيشتري المُتَوَرِّق من المصرف نسيئة، ليقومَ العميلُ بت**** المصرف في بيعها، فتكون المعاملةُ نقدًا بنقد، أو نقول بعبارة أخرى: إن سَبَبَ المنع من التفرغ للبيع بنسيئة هو منع التَّورُّق من أن يتحوَّل لعملٍ منظم، وعملياتُ التَّورُّق في المصارف اليوم مرتبة، ومنظمة، وفق إجراءات وشروط، ومن تلك الإجراءات: أن المصرف لا يبيعُ السِّلع على عملائه إلا نسيئة، فلما كانت عملياتُ التَّورُّق المصرفي مرتبة، ومنظمة، علمنا أن ذلك الترتيب والتنظيم إنما هو قرينة جلية على تواطؤ العميل المُتَوَرِّق والمصرف على النَّقْد بالنَّقْد. 3 - عرفنا فيما سبق -في موقف الحنابلة من الحِيَل- أن الحنابلة يمنعون الحِيَل كالمالكية، يقول ابنُ قدامة: "والحِيَلُ كلها محرَّمة، غير جائزة في شيء من الدَّيْن" (3)، وبناءً على قولهم بمنع الحِيَل يكون التَّورُّق المصرفي محرمًا عند الحنابلة، إذ التَّورُّق المصرفي حيلة لاستحلالِ الرِّبا. 4 - عرفنا فيما سبق -في موقف الحنابلة من بيع العِيْنَة- أن الحنابلةَ يُحَرِّمون بيع العِيْنَة، وبناءً على قولهم بتحريم العِيْنَة يكون التَّورُّق المصرفي مُحرَّمًا؛ لأنَّ التَّورُّق المصرفي هو عينةٌ في حقيقته. 5 - عرفنا فيما سبق رأي ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم في التَّورُّق الفردي، فهما يقولان بحرمته؛ لأنَّ المعنى الذي لأجله حُرِّم الربا موجودٌ في التَّورُّق، فإذا كان التَّورُق الفردي بصورته البسيطة العفوية البريئة محرمة عندهما، فالتَّورُّق __________ (1) المغني لابن قدامة (4/ 128). (2) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 137). (3) المغني (4/ 56). (1/193) ________________________________________ المصرفي أولى بالتَّحريم عندهما من التَّورُّق الفردي، إذ عملية التَّورُّق المصرفي كثيرة الأطراف، والعُقُود، والاتفاقيات، ولا قَبْضَ للسِّلعة فيها، فتكون أشدَّ تحريمًا عندهما من التَّورُّق الفردي. خامسًا: موقف الظاهرية من التَّورُّق المصرفي: عرفنا فيما سبق -في موقف الظاهرية من بيع العِيْنَة- أن الظاهرية يرون جوازَ بيع العِيْنَة إذا لم يكنْ عن شرط في العقد"، ولكن التَّورُّق المصرفي لا يدخلُ في بيع العِيْنَة الذي أجازه ابن حزم؛ لأنَّ ابنَ حرّم يجيزُ بيع العِيْنَة الذي لا شَرطَ فيه"، وفي التَّورُّق المصرفي أكثر من شرط: فيه شرط شراء المستَّورُّق السِّلعة من المصرف بأكثر من ثمنها، الذي يشتريها المصرف به، وفيه شرط بيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها المستَّورُّق به، وفيه شرط ت**** المستَّورُّق المصرف في بيعها (1)، وشرطٌ واحدٌ من هذه الشروط يكفي لجعل التَّورُّق المصرفي حرامًا مفسوخًا عند ابن حزم" (2). * * * المطلب الثاني موقف العلماء المعاصرين والمختصين الاقتصاديين من التَّورُّق المصرفي لا تخفى أهميةُ موضوع التَّورُّق المصرفي في عَصرِنا الحاضر، فمعظمُ __________ (1) الحقيقة أن الآليات العملية للتَّورُّق المصرفي تنصُّ على أن الت**** ليس شرطًا في العملية، فالعميل يخير بين أن يوكل المصرف أو لا يوكله، ولعل الباحث ذكر الاشتراط بناءً على العرف، فالمعروف أن العميل يقوم بت**** المصرف في بيع السِّلعة، والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، فصار الت**** بدلالة العرف كأنه مشروط في العقد؛ لأنه لولا الت**** لما دخل العميل في عملية التَّورُّق المصرفي. (2) حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. الصديق محمَّد الأمين الضرير (22). (1/194) ________________________________________ عمليات التَّمويل، التي تجريها المصارف مع عملائهم اليوم هي من قبيل التَّورُّق، إضافة إلى كثرة السؤال عن حُكْم هذه المعاملة، وما نراه كل يوم في وسائل الإعلام من الإعلانات التي تشجع الناس للدخول في عملية التَّورُّق المصرفي، ولذلك رأيت من المناسب أن أعرضَ بعضَ آراء العلماء المعاصرين، والأساتذة، والمختصين الاقتصاديين، لتكون الصُّورةُ أوضح. وحيث إن الموضوعَ محلُّ اجتهاد، فإن العلماء المعاصرين اجتهدوا، فذهب أكثرهم إلى حُرْمة التَّورُّق المصرفي، وذهب البعضُ إلى جوازه، والبعض -وهم قليل- توقف في المسألة، وأوصى بعدم الاستعجال، والنظر في المسألة بشكل أدق، وأما آراؤهم فهي على النحو التالي: أولًا: آراء المانعين من التَّورُّق المصرفي: 1 - يقول الدكتور سامي السويلم -أحد أعضاء الهيئة الشرعية سابقًا لشركة الراجحي المصرفية- في التَّورُّق المصرفي: "فحاصلُ العملية إذًا أن المصرفَ يقولُ للعميل: أوفر لك مئة نقدًا مقابل أن تكونَ مدينًا لي بمئة وعشرين مؤجلة، وهذا هو الرِّبا، فالمصرفُ الربوي وظيفته توفير السُّيُولة للمدين مقابل دين بزيادة في ذمته، فمن الناحية الوظيفية لا فَرْقَ بين المصرف الربوي وبين المصرف الذي يقدِّم التَّورُّق المنظم" (1). ويقول أيضًا: "لا يمكن اعتبار ما يجري اليوم في صورة التَّورُّق المنظم من باب التَّورُّق الفردي، الذي وردت رواية الإمام أحمد بجوازه" (2). 2 - يقول الدكتور عبد الله السعيدي -الأستاذ في كلية التربية قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الملك سعود- في التَّورُق المصرفي: "أوصي بمنع التَّورُّق __________ (1) التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (19). (2) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (65). (1/195) ________________________________________ المصرفي المنظَم، لما فيه من مخالفة وتجاوز، ولما فيه من متاجرة بالدَّيْن والاستهلاك، وتسويق وترويج لهما، وإغراء بهما من خلال الدعاية، ولما فيه من تهجير المال لتستفيد منه السُّوق الدولية، وتحرم منه السُّوق الداخلية" (1). 3 - يقول الدكتور علي السّالوس -الأستاذ بكلية الشَّريعة بقطر- في التَّورُّق المصرفي: "التَّورُّق المصرفي الذي يجعلُ وظيفة البنك الذي يطبقه هي وظيفة البنك الربوي، وليس الإِسلامي، بيَّنت أنَّه ربا صريح محرَّم. . . فإذا كان التَّورُّق المصرفي هو البديلَ للقروض الربوية، فبئس البديل، وبئس المبدل منه، ولا حاجةَ إذًا لبنوك تُسَمَّى إسلامية" (2). 4 - يقول الدكتور حسين حامد حسان -رئيس هيئة الفتوى والرقابة الشرعية ببنك دبي الإِسلامي- في التَّورُّق المصرفي: "إن التَّورُّق المصرفي حيلةٌ محرَّمةٌ؛ لأنَّ المقصودَ بها هو تحليلُ حرام، وهوالحصولُ على النَّقْد الحالّ في مقابل دفع أكثر منه مقبل الأجل، واتخذت سلسلةٌ من البيوع والاتفاقيات، شاركت فيها مجموعةٌ من المؤسَّسات بخطة محكمة، وهذه العُقُودُ لا هدفَ ولا غاية للمُتَوَرِّقين فيها، بل إنها الرابطةُ تجمعُ عقودًا في عقدٍ واحدٍ، وإنْ لم يُصرِّحْ بذلك، لكنه معلومٌ بالقطع من القرائن، والأحوال، وطبيعة المعاملة" (3). 5 - يقول الدكتور أحمد علي عبد الله -الأمين العام للهيئة العليا للرقابة الشرعية للجهاز المصرفي، والمؤسَّسات المالية بالسودان- عن التَّورُّق المصرفي: "التَّورُّق المصرفي بجميع أنواعه يأخذُ صورةَ البيع الصحيح، ولكن جوهره يفضي إلى شُبْهة ربوية ظاهرة، تتمثلُ في شراء المُتَوَرِّق بالكثير في مقابل __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (45). (2) العِيْنَة والتَّورُّق والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (64). (3) تعليق على بحوث التَّورُّق. حسين حامد حسان (12). (1/196) ________________________________________ الأجل، ويبيعُ بالنَّقْد القليل، فإذا استبعدنا السِّلعة صارت المعاملة من قبيل القَرض بشرط الزيادة" (1). 6 - يقول الشّيخُ محمَّد المختار السلامي -مفتي الجمهورية التونسية سابقًا- في التَّورُّق المصرفي: "فالذي تمَّ هو تعقيدات أدخلتْ على معاملة ربوية بُذلت مجهودات لإخفائها، والله لا تخفى عليه خافية" (2). 7 - يقول الدكتور عبد الرحمن يسري -أستاذ المحاسبة بجامعة الإسكندرية- في التَّورُّق المصرفي: "ويجب أن يكون واضحًا إثبات ربوية التَّورُّق المصرفي. . . والقيام بعمليات التَّورُّق المصرفي يذهب بأهداف البنوك الإسلامية، ويخرجها عن أهدافها الحقيقية" (3). 8 - يقول الشّيخُ يوسف القرضاوي: "أخالفُ أشدَّ المخالفة الإخوة الذين يبيحون عمليات التَّورُّق" (4). 9 - يقول الدكتور محمَّد عبد الحليم -أستاذ المحاسبة ومدير مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر- في التَّورُّق المصرفي: "إن التَّورُّق المصرفي هو بدايةُ النهاية للبنوك والشركات التي تتعامل به ... وعمليةُ التَّورُّقٍ المصرفي هي في حقيقتها عمليةُ بيعٍ صورية، وليست حقيقية. . . فهو في جوهره قرض ربوي يأخذُ من الناحية الشرعية حكم الرِّبا" (5). 10 - يقول الدكتور شوقي دنيا -أستاذ الاقتصاد، وعميد كلية التجارة بجامعة __________ (1) البنوك الإسلامية: غايتها، واقعها، والصعوبات التي تواجهها. أحمد علي عبد الله (29). (2) التَّورُّق: محمَّد المختار السلامي (18). (3) مجلة الاقتصاد الإسلامي العدد (274) محرم 1425 هـ. 2004 م. ص (54 - 56). (4) المرجع السابق. (5) المرجع السابق ص (61). (1/197) ________________________________________ الأزهر- في التَّورُّق المصرفي: "التَّورُّق المصرفي له مخاطره الاقتصادية المتعددة. . . هذه المخاطرُ الاقتصادية كفيلة بأن تجعله غير مقبول اقتصاديًا، ومن الناحية الشرعية مرفوضٌ لأنه يؤولُ في النهاية إلى الرِّبا الفاحش" (1). 11 - يقول الدكتور وهبة الزحيلي -رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق- في التَّورُّق: "أصلُ التَّورُّق في المذاهب جائز، لكنه أصبح جسرًا للتمويل، أو للاقتراض والربح، ولذلك وجب منعه، وتحريمه" (2). 12 - يقول الدكتور يوسف إبراهيم -المستشار العلمي لمركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر- عن التَّورُّق المصرفي: "إن التَّورُّق يصرفُ البنوك التي تتعامل به عن مهمتها الحقيقية، وهي مهمةٌ استثمارية تنموية، فالبنكُ -هنا- يتحول إلى مجرد مقرض للعملاء عن طريق التَّورُّق، ولا يشارك في عمليات استثمارية وإنتاجية حقيقية" (3). ثانيًا: آراء المجيزين للتَّورُّق المصرفي: 1 - يقول الشّيخُ عبد الله المنيع: "الواقع أنَّه ليس هناك اختلافٌ بين التَّورُّق في القديم والحديث، بل إن التَّورُّق هو التَّورُّق قديمًا وحديثًا، وليسا قسمين، ولا نوعين، وإنما التَّورُّق لدى المصارف الإِسلامية هو التَّورُّق المعروف لدى فقهاء المسلمين ممن ذكروه في كتبهم، وذكروا جوازه، بشرط ألا تعود السِّلعة إلى بائعها الأول عن طريق شرائه إياها، فتصير بذلك العِيْنَة المحرمة" (4). والغريب أن الشيخَ عبد الله المنيع أجاز جميعَ أنواع التَّورُّق المصرفي، فقد __________ (1) المرجع السابق ص (61). (2) المرجع السابق ص (63). (3) المرجع السابق ص (63). (4) حكم التَّورُّق كما تجربه المصارف. عبد الله المنيع. (24). (1/198) ________________________________________ أجاز التَّورُّق في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية، بل إنه أجاز التَّورُّق الذي يمكِّنُ العملاء من سدادِ مديونياتهم لدى المصارف التقليدية، والانتقال إلى التَّعامُل مع المصارف الإِسلامية. وقد سبق مناقشة هذا في المبحث الثاني من الفصل الثالث. 2 - يقول الدكتور محمَّد العلي القريّ -عضو هيئة الفتوى والرقابة الشرعية بالبنك الأهلي التجاري- في التَّورُّق المصرفي: "ولذلك يمكنُ القَولُ أن للتعامل بالتَّورُّق مآلات اقتصادية نافعة على مستوى الاقتصاد" (1) ومن يطَّلع على بحث الدكتور يجد أنه من القائلين بالجواز بشدة، حيث يحاول مناقشة كلِّ ما يقدحُ في عملية التَّورُّق المصرفي. 3 - يرى الدكتور محمَّد تقي العثماني -رئيس مجلس المعايير الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية بالبحرين، وعضو المجمع الفقهي -أن الأصل في التَّورُّق المصرفي هو الجواز إذا كان بالضَّوابط الشرعية المنصوص عليها في العقد، غير أنه لا ينصحُ بالتوسُّع في مثل هذه العمليات نظرًا إلى المفاسد المحتملة (2). 4 - يقول الدكتور موسى آدم عيسى -إدارة الخدمات المصرفية الإسلامية بالبنك الأهلي التجاري- في التَّورُّق المصرفي: "صيغة التَّورُّق التي تمَّ تطويرها، واستخدامها من قبل المصارف، والتي تتضمَّن ت**** العميل للمصرف في إعادة بيع السِّلعة المشتراة، وقيد ثمنها في حساب العميل، هذه الصيغةُ تستوفي في نظري الضَّوابط الشرعية. . . ولا ينبغي التوسُّع في التَّورّق في مجال التَّمويل __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمَّد العلي القريّ. (27). (2) انظر: أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية. محمَّد تقي العثماني. (29). (1/199) ________________________________________ التجاري حفاظًا على الآثار الإيجابية الناشئة من استخدام صيغ التَّمويل الإسلامي الأخرى كالمضاربة، والمشاركة" (1). ويمكن أن نستنتجَ الأسبابَ التي جعلت القائلين بالجواز، يقولون بجواز التَّورُّق المصرفي، وهي على النحو التالي: 1 - إما لأنهم لم يتصوَّروا المعاملة تصورًا كاملًا، فالمجتهدُ لابد أن يدرسَ إجراءات المعاملة، والهدف منها، وتأثيرها على الحركة الاقتصادية، ولا بُدَّ أن يعرفَ الأسس الاقتصادية الإِسلامية، فيحتمل أنَّهم حكموا بالجواز، لعدم تصورهم الكامل للعملية. 2 - وإما لأنهم نظروا إلى صورة العملية مجرَّدة عن غاياتها، وحقيقتها، فمن قصر نظره على الصُّورة فقط، فإنَّه يحكم بالجواز. 3 - وإما لأنهم يرون أن في هذه العملية تحقيقًا لبعض الاحتياجات، وبعض الأمور الاقتصادية. * * * المطلب الثالث الأدلة والإشكالات والمناقشات بعد عرض موقف الفقهاء وموقف العلماء المعاصرين، والأساتذة، والمختصين الاقتصاديين من التَّورُّق المصرفي، فإنَّه لا يشكُّ أحدٌ في حرمة التورُّق المصرفي، وما ذكر من الكلام عن موقف الفقهاء منه كفيل بتحريم التَّورُّق المصرفي، غير أني سأقومُ بعرض بعض الأمور التي تدلُّ على حرمة هذا __________ (1) تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي. موسى آدم عيسى. (23). (1/200) ________________________________________ النوع من المعاملات، إضافةً إلى ذِكْرِ بعض الشبه التي تمسك بها من يجيز التَّورُّق المصرفي، ومناقشتها. المسألة الأولى: الأمور الدالة على تحريم التَّورُّق المصرفي: الأمر الأول: أن التَّورُّق المصرفي يدخلُ في بيع العِيْنَة، الذي حرَّمه جمهور الفقهاء؛ لأنَّ العميل (المُتَوَرِّق) لم يذهب إلى البنك إلا رغبة منه في الحصول على نقود، وبذلك نعرفُ أن العميلَ لا يريدُ أن يتحمل تكاليف قبض السِّلعة، ونقلها، وحيازتها، بل يريد التخلص من السِّلعة، وحيث إنه لا يجوزُ بيع السِّلعة على البنك؛ لأنه عينة محرَّمة، فلا سبيل للتخلص من السِّلعة إلا بطريق ت**** البنك في بيعها، "فلولا وكالة المصرف بالبيع نقدًا لما قبل العميل بالشراء منه بأجل ابتداء، فالمصرف يعلن للملأ أنَّه يقدِّم تمويلًا نقديًا على أسس إسلامية، وهذا يعني أن المصرف يلتزمُ بالوكالة بالبيع النَّقْديّ لإتمام التَّمويل بالنَّقْد، ولو انفصلت الوكالة عن البيع الآجل لانهار البرنامج، ولم يوجد التَّمويل أصلًا. . . فالمصرفُ هو مصدرُ السُّيُولة في العملية، وبدون السُّيُولة لا فائدة من العملية من أساسها، وهذا هو نفس الدَّوْرِ الذي يقوم به المشتري الثاني في بيع العِيْنَة؛ لأنه بشرائه نقدًا يكون قد وفر السُّيُولة للعميل، فمن حيث الواقع لا فَرقَ بين كون المصرف ****اً وكونه مشتريًا؛ لأنَّ التَّمويل متحقّق على كُلِّ تقدير، والعبرة في العُقُود، والتصرفات للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني" (1) وبهذا نعرفُ أن البنك هو الذي يبيع السِّلعة للمتورق بالأجل، وهو الذي يتولى بيعها نقدًا، فلا فَرْقَ بين هذا وما لو اشتراها البنك لنفسه، فالبنك إذًا يتولى كل شيء ليحقّق السُّيُولة للعميل (المُتَوَرِّق)، وهذا الدور هو نفس دور __________ (1) التَّورُّق المنظم -قراءة نقدية. سامي السويلم (9). (1/201) ________________________________________ البائع الأول في العِيْنَة، وبذلك يمكن أن نقول: إن التكييفَ الفقهيَّ للتورق المصرفي هو: أنَّه عينة محرمة. الأمر الثاني: أن التَّورُّق المصرفي حيلة محرَّمة لاستحلال الرِّبا، بدليل أنها عملية تبدأ وتنتهي في جلسة واحدة، وبمجرد توقيع بعض الأوراق، يكون العميلُ قد اشترى، ووكَّل، وباع، وحصل له ما يريد من النقود مقابل زيادة في ذمته، وهذه هي حقيقة الرِّبا المحرم، فالسلسلة التي نراها من العُقُود والاتفاقيات أثناء عملية التَّورُّق المصرفي، ليست إلا حيلة لتجويز هذه العملية، بدليل أن العميل يشتري السِّلعة، ولا يعرف ماهيتها "وهذه العُقُود لا هدف ولا غاية للمتورقين فيها، بل إنها الرابطة تجمع عقوداً في عقد واحد، وإن لم يصرح بذلك، لكنه معلومٌ بالقطع من القرائن، والأحوال، وطبيعة المعاملة" (1). وبذلك يمكن أن نقول: إن التكييفَ الفقهيَّ لهذه العملية هو أنها حيلة لاستحلال الرِّبا. وإذا ثبت أن التَّورُّق المصرفي حيلة من الحِيَل، فإن العلماء -رحمهم الله- يرون أن ارتكاب الحِيَلة أشدّ إثمًا من ارتكاب المحرم مباشرة، يقول ابنُ القيم: "ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح، لما توسَّلوا به إلى ارتكاب محارمه. . . فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيَّلُوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك. . . فإن من أراد أن يبيع مئة بمئة وعشرين إلى أجل، فأعطى سلعة بالثمن المؤجَّل، ثمَّ اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما في السِّلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة (2) فلا __________ (1) تعليق على بحوث التَّورُّق. حسين حامد حسان (12). (2) انظر: مصنف ابن أبي شيبة. كتاب البيوع: من كره العِيْنَة (4/ 282) رقم (20157). (1/202) ________________________________________ فرق بين ذلك وبين مئة بمئة وعشرين درهمًا بلا حيلة البتة، لا في شرع، ولا في عقل، ولا عُرف، بل المفسدة التي لأجلها حرّم الرِّبا بعينها قائمة مع الاحتيال، أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال، لم تذهب، ولم تنقص، فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرِّمَ ما فيه مفسدة، ويلعن فاعله، ويؤذنه بحرب منه ورسوله، ويوعده أشد الوعيد، ثمَّ يبيحُ التحيل على حصول ذلك بعينه، سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله، هذا لا يأتي به شرعٌ، فإن الرِّبا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الرِّبا بسلم طويل صعب التراقي، يترابى المترابيان على رأسه" (1). الأمر الثالث: نستطيع أن نعرفَ حرمةَ التَّورُّق المصرفي من خلال تطبيق قاعدة [المدخلات، والمخرجات]، فإن هذه القاعدة تعني: أن الاعتبار مرتبط بالمحصلة النهائية للعملية، ولا عبرة بما دخل في العملية ولا بما خرج، بمعنى أنه لا عبرة بما توسط العملية من عقود، بل العبرة بالمحصِّلة النهائية، والمحصِّلة النهائية لعملية التَّورُّق المصرفي هي: نقد حاضر يحصل عليه العميل (المُتَوَرِّق) مقابل زيادة في ذمته، وهذه هي حقيقة الرِّبا. الأمر الرابع: أن التَّورُّق المصرفي يقومُ على عدة عقود، وهذه العُقُودُ تكون صحيحة إذا استوفت شروطها، والواقع يدلُّ على أن هناك ارتباط بين تلك العُقُود، "فالبنك يشتري السِّلعة بناء على اتفاقية سابقة مع شركة معينة وهو لم يكن ليشتري السِّلعة إذا لم يتوقعْ أن هناك متورقين مستعدين لشرائها، والمستورق لا يشتري بالقطع، إلا لأنه يعلمُ أنَّه يبيعُ ما اشتراه بثمن مؤجَّل بنقد حال أقل منه. . . فهذه العمليةُ يجب الحكم عليها في مجموعها، أي: باعتبارها عملية واحدة، وإن تعددت أطرافها وعقودها دون الحكم على كل عملية، أو __________ (1) إعلام الموقعين (3/ 111 - 113). (1/203) ________________________________________ عقد منها على انفراد، ثمَّ ينظر إلى قَصد أطراف المعاملة، وهو أنهم يتعاونون على الوصول إلى هدف واحد تتحد فيه إرادتهم، هو توفير مبالغ نقدية للمتعاملين حتى يدفعوا أكثر منها بعد أجل. . . ولا شكَّ في أن غايةَ هذه العملية محرَّمة، ونتيجتها ممنوعة شرعًا، ألا وهي حصولُ المُتَوَرِّقين على نقودٍ حالّة في مقابل الالتزام بنقود أكثر منها بعد أجل، وللمجموع في الشَّريعة حكم يختلف عن حكم كل فرد من أفراده، فكل من بيعتي العِيْنَة مباح لاستيفاء الأركان والشروط، ويحرم اجتماعهما؛ لأنَّ هذا الاجتماعَ قرينةٌ قوية على قصد الحصول على نقد في الحال، ودفع أكثر منه في المستقبل، والسِّلعة محلل لذلك" (1). الأمر الخامس: أن التَّورُّق الفردي بصورته البسيطة العفوية قد اختلف العلماء في حكمه اختلافًا قويًا، وعدّه المانعون بأنّه ذريعة إلى الرِّبا، بل بعضهم كابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما -رحمهم الله- منعوه لزعمهم أن المعنى الذي لأجله حرم الرِّبا موجود فيه، فما بالك بالتَّورُّق المصرفي البالغ التعقيد، الكثير الأطراف؟! بل إن بعض الفقهاء حرَّموا التَّورُّق الفردي لوجود قرائن تدلُّ على أن العملية اتخذت صورةَ التنظيم، فما بالك بالتَّورُّق المصرفي الذي بلغ غاية التنظيم والترتيب، والعلماء لما منعوا التَّورُّق الفردي لوجودِ صورةِ التنظيم، إنما منعوه لأنَّ التنظيمَ يدلُّ على أن القصد من العملية تحصيل نقد مقابل زيادة في الذمة. الأمر السادس: أن الحكم الشرعي إنما جاء ليحقّق مصالحَ الناس في شتى مجالات حياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والمصلحة الاقتصادية تقتضي منع التَّورُّق المصرفي، فإن تقويمَ هذه المعاملة من الناحية الاقتصادية يعكسُ لنا صورةً من أضرارها الاقتصادية على المجتمع، فعمليةُ التَّورُّق __________ (1) تعليق على بحوث التَّورُّق. حسين حامد حسان (7). (1/204) ________________________________________ المصرفي لا تفيد الحياة الاقتصادية بقدر ما تضرُّها، حتى لو كانت طريقًا للحصول على السُّيُولة، فإن الرِّبا يحقّق السُّيُولة للمقترض، ولم يعنِ هذا جوازه، فالمنافع الاقتصادية التي يحقّقها البيع والشراء الحقيقي معدومة في التَّورُّق المصرفي، وبيان هذا يتَّضحُ في الآتي: "أن البيع مبادلةٌ لشيئين مختلفين، واختلاف البدلين هو الذي يسمح أن تكون المبادلة نافعة للبائع والمشتري" (1). فكل طرف في المبادلة يبذل ليأخذ ما يحتاج إليه، وعملية التبادل التي تتمُّ بواسطة البائع والمشتري هي بدورها تقوم بتنشيط حركة السُّوق، والتي تفيد الحياة الاقتصادية، فالبائع يأخذ الثمنَ ليستفيد منه في قضاء حاجاته، والمشتري يأخذ السلعة ليستفيد منها إما بالاستهلاك، أو بالاستثمار، وهكذا لتبقى الحياة الاقتصادية نشيطة دون فتور، أو كساد. وأما عمليةُ التَّورُّق المصرفي فهي في حقيقية الأمر مبادلةٌ بين متماثلين كالقرض باشتراط الفائدة، فهي في الحقيقة تحصيل نقد مقابل زيادة في الذمة، واتخذ البيع ستارًا لذلك، فعملية التبادل في التَّورُّق المصرفي معدومة النفع بحكم أن العملية كانت بين بدلين متماثلين، وعملية التبادل لا تجدي، ولا تنفع الحركة الاقتصادية إلا إذا كان البدلان مختلفين، كما يجري في البيع والشراء الحقيقي، ولذلك فإن المجتمع إذا فشتْ فيه عمليات التَّورُّق المصرفي، فإنَّه حتمًا سينعدم النشاط الاقتصادي المنتج، وتعم المدْيُونيَّة، ويزداد الغنيّ غنى، والفقير فقرًا تمامًا كالأضرار الناجمة عن الرِّبا. الأمر السابع: أن التَّورُّق المصرفي لا يحقّق فلسفةَ التَّمويل في الإسلام، وبيان هذا كالآتي: أن التَّمويل يخدمُ البيع والشراء، الذي يحقّق مصلحة كلِّ من البائع والمشتري، بمعنى أن النشاط الاقتصادي الذي تقوم عليه الحياة هو __________ (1) التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (11). (1/205) ________________________________________ معاملات البيع والشراء الفعلي، والتَّمويل وسيلة لإتمام عمليات البيع والشراء، وإنجازها (1)، وبالمثال يتَّضح المقال: عقد السلم يحتاج للتمويل حتى يتم؛ لأنَّ البائع لا يملك المسلَّم فيه لإتمام العملية، وليست عنده سيولة نقدية، فيحتاج البائع تمويلًا ليستطيعَ من خلاله أن يعملَ حتى يحقّق رغبة المشتري، فالتَّمويلُ في عقد السلم يكون تابعا وخادمًا لعملية البيع والشراء، ولتتضح الصُّورةُ أكثر نضرب مثالًا آخر: في عقد الاستصناع يكون صاحبُ العمل مفتقرًا للتمويل -أي: للسيولة النَّقْديّة -لشراء المواد الأولية، والتي من خلالها يستطيع أن يقوم بالعملية الإنتاجية المطلوبة منه، ولولا التَّمويلُ لما تمَّت عملية الاستصناع، فالتَّمويلُ في عقد الاستصناع جاء خادمًا، وتابعًا لعقد الاستصناع. وبذلك نعرف أن الحاجة للتمويل تنشأ إذا كان أحدُ الطرفين لا يملك العوض اللازم، لإتمام العملية، كالبائع في عقد السلم، فإنَّه لا يملك المسلّم فيه حين التعاقد، وكذلك صاحب العمل في عقد الاستصناع لا يملك ما طلب منه حين التعاقد، ولذلك كان لا بُدَّ من تمويل البائع في عقد السلم، وصاحب العمل في عقد الاستصناع حتى تتمّ كلتا العمليتين. إذًا نعرف الآن أن فلسفةَ التَّمويل في الإسلام هي: أن التَّمويل لا بُدَّ أن يكون تابعًا وخادمًا للمبادلات الاقتصادية (2) حتى تتمَّ تلك المبادلات كعقد السلم، وعقد الاستصناع، يكون التَّمويل فيهما خادمًا للعمليتين حتى تتمّان، __________ (1) انظر: التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (8). والتَّورُّق المنظم -قراءة نقدية- سامي السويلم (2). (2) انظر: التَّورُّق المنظم -قراءة- نقدية- سامي السويلم (2). (1/206) ________________________________________ وليس العكس، بأن تكون عملية البيع والشراء خادمة للتمويل، وإذا كان التَّمويلُ خادمًا وتابعًا للمبادلات الاقتصادية، فسيكون نافعًا للنشاط الاقتصادي. وبناء على ما سبق، فإن الأمر إذا انعكس وصارتِ المبادلاتُ الاقتصادية كالبيع والشراء متابعة للتمويل، وخادمة له، فقد انعكست فلسفة التَّمويل في الإسلام، ليكونَ التَّمويلُ بهذا الانعكاس وسيلةً لتدمير النشاط الاقتصادي. وحينما نتأمل عملية التَّورُّق المصرفي نجد أن عملية البيع والشراء في العملية جاءت لتكون خادمة للتمويل، بمعنى أن العميلَ محتاجٌ لسيولة نقدية،-أي: لتمويل- فيذهب إلى البنك، ليدخل مع البنك في عملية شراء وبيع وت****، ليحصل على التَّمويل، فالعميلُ حين ذهابه إلى البنك لا يريد السِّلعة، ولا يقصد الشراء ولا البيع، بل مراده الحصول على التَّمويل، ولكي يحصل على التَّمويل لا بُدَّ أن يدخل في عملية تورق مع البنك، وبهذا نعرف: أن البيع والشراء في عملية التَّورُّق المصرفي صار خادمًا وتابعًا للتمويل، بمعنى أن البيعَ والشراء صار وسيلةً لتحقيق التَّمويل، وإذا كان البيعُ والشراء خادمًا للتمويل، فإن التَّمويلَ حينئذ يكون أداة لتدمير النشاط الاقتصادي. فالشرع المطهَّر جعل التَّمويل خادمًا وتابعًا للمبادلات الاقتصادية، وبالتَّورُّق المصرفي يكون التَّمويلُ مخدومًا بدل أن يكون خادمًا، ومتبوعًا بدل أن يكون تابعًا. المسألة الثانية: الإشكالات المتعلقة بإجراءات عملية التَّورُّق المصرفي: بعضُ الباحثين حَكَمَ بجواز التَّورُّق المصرفي لسلامة العُقُود التي يقوم عليها، ولاستيفائها الشروط والأركان، فالبعضُ قصر نظره على الصُّورة فقط، ولم ينظر إلى الحقيقة، فحكم بالجواز، والحقيقةُ أن إجراءات عملية التَّورُّق (1/207) ________________________________________ المصرفي يكتنفها بعض الغموض والإشكالات، التي تكون كفيلة لمنع هذه العملية، ولو فرضنا أن حقيقة العملية، وغايتها مشروعة، فإن الإشكالات الموجودة في إجراءاتها تقتضي منع العملية، وهذه الإشكالات هي على النحو التالي: 1 - إشكال يتعلق بالسِّلعة وقبضها: من المعلوم أن أغلبَ عمليات التَّورُّق المصرفي تتمُّ عبر البورصات العالمية، والحقيقة أن السِّلعَ التي تجري عليها عملياتُ التَّورُّق لا وجودَ لها في الواقع العملي؛ لأنَّ الذي يُتداول في البورصات العالمية هو ما يُعرَف بإيصالات المخازن، فالبضائعُ التي يُراد بيعها عن طريق البورصات تُرسَل أولًا إلى أحد المخازن -مثل مخزن روتردام الأكثر شهرة- وبعد التفريغ، واتخاذ الإجراءات اللازمة تبدأ عملية الوزن لوحدات متساوية، وكل وحدة تزن (25) طنًا، وبعد الوزن تكتب البيانات الكاملة المتصلة بهذه الوحدة، فيكتب الجنس، والصفات. . . إلخ. وهذه الورقةُ المكتوبة هي إيصالُ المخازن، وهي التي تتداول في البورصات، ولا يوجد مصرف من المصارف الإسلامية تسلَّم سلعة من السِّلع، أو تسلم الإيصالات الأصلية. ولذلك فإن المصارف الإسلامية يعرضُ عليها ثمن شرائها الحال، وبيعها الآجل في وقت واحد، فالبنك الأهلي -مثلًا- لا يشتري ويتسلم إيصالات المخازن، التي تثبت الملكية، ثم يبيع، ويسلم هذه الإيصالات للمشترين المُتَوَرِّقين، وإنما تمَّ الاتفاق بينه وبين من يقوم بدور البائع، ومن يقوم بدور المشتري من الشركات العالمية، فالذي يثبتُ الملكية هو ورقة من الشركة، التي تقومُ بدور البائع، وليس إيصالات مخازن، والمعروف عند بعض البنوك، والشركات العالمية، أن عدمَ وجود إيصالات مخازن أصلية يعني عدم وجود (1/208) ________________________________________ سلع، وبهذا نعرف أن الأمرَ لا يعدو أن يكون قيودًا لا يقابلها شيء في الواقع العملي، وقَولُ ابن عباس: (دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة) (1) لا ينطبق على التَّورُّق المصرفي، فحتى هذه الحريرة غير موجودة، وإنما دراهم بدراهم، ليس بينهما شيء إلا ورقة مكتوبة (2). وعلى فرض وجود سلعة، فإن هناك إشكالًا آخر يتمثل في القبض، فالبورصات العالمية تجري فيها بيوع كثيرة في لحظات بسرعة فائقة، ونتيجة السرعة فإنه "لا تُراعى فيها الشروط الشرعية من تعيُّن المبيع، وإفرازه عن غير المبيع، ومن كون المبيع. في ملك البائع وحَوْزته، وإنما تقع البيوع المتعددة بتبادل الأوراق، وهي في كثير من الأحيان لا تمثل بضاعة معينة، وإنما تمثل حقّ الحامل في تسلم كمية من المخازن التي تودع فيها آلاف الأطنان من نفس السِّلعة، والكمية التي تمثله هذه الأوراق غير متميزة عن الكمية الباقية، فلا تأتي الكميةُ المشتراةُ في ضمان المشتري، ويبيعها المشتري إلى آخر قبل أن تتميزُ وتضمن من قبل المشتري، فيقع فيها محظور ربح ما لم يضمن" (3) فالبنكُ إذا اشترى السِّلعة من الشركة البائعة بقصد بيعها على المُتَوَرِّقين بربح، فإنَّه يقعُ في محظور ربح ما لم يضمن، وذلك لأنَّ البنك يشتري السِّلعة، ولا يقبضها، فيبيعها على المُتَوَرِّق بربح، وقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلّ سلف، وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن" (4)، وعلى فرض أن السِّلعة قد __________ (1) مصنف ابن أبي شيبة. كتاب البيوع: من كره العِيْنَة (4/ 282) رقم (20157). (2) انظر: العِيْنَة والتَّورُّق والتَّورُّق المصرفي. علي السالوس (58 - 60). (3) أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية. محمَّد تقي العثماني (24). (4) سنن أبي داود. كتاب الإجارة، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده (3/ 283) رقم (3504). وسنن الترمذي كتاب البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (3/ 534) رقم (1234) وسنن النسائي. كتاب البيوع باب: سلف وبيع. (7/ 295) رقم (4629). (1/209) ________________________________________ عُينت، وحُدِّدت، والقول بـ (القبض الحكمي) الذي يحكم بانتقال الضَّمان بمجرد العقد إذا تعينت السِّلعة، فإننا نقعُ في إشكالية أخرى، وهي: أن القبضَ الحكمي كما يكونُ طريقًا للتيسير، فإنَّه يكونُ طريقًا للاحتيال والتلاعب، فعمليةُ التَّورُّق المصرفي "تتمّ برأس مال كبير، وسرعة فائقة، فاحتمالُ التلاعب فيها وارد، وبخاصة أن التَّعامُل في أصله مع جهات أجنبية تجهل الدِّيْن وأحكامه، بل لا تدين به، وقد يكون الطرفُ الآخر ممن لا يأنف الرِّبا أيضًا، وهذا لا يناسبه الاعتبار بالقبض الحكمي" (1). والذي يؤيد أن القبض الحكمي صار طريقًا للتلاعب والاحتيال في البنوك: أن السِّلعة لا تبرحُ مكانها، مع أنَّه يجري على تلك السِّلعة العشرات من العُقُود، ومن اطلع على بيانات بعض العُقُود يجد أن رقم السِّلعة، التي هي محلّ العملية، يتكرر دائمًا في عمليات كثيرة، مما يدلُّ على أن السِّلعة جامدة في مكانها. والغريب الذي يثيرُ الإعجابَ أن الإجراءات العملية للتورق المصرفي تؤكد بشدة وجود القبض في العملية، حتى تكون صورة عقد التَّورُّق المصرفي صحيحة، فهم يؤكدون أن العميل (المُتَوَرِّق) سيقبض السِّلعة حكميًا، والبنك بتأكيده وجود القبض في العملية إنما يريدُ أن يثبت أن عملية التَّورُّق المصرفي مستوفية الشروط والأركان، وعلى فرض وجود القبض في العملية، فإنَّه لا يشترطُ -هنا- في حقّ المُتَوَرِّق؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن، والمُتَوَرِّق لا يربح أصلًا، بل إنه يخسرُ بدليل أنه يبيع السِّلعة بثمن أقل من الثمن المؤجَّل، وبما أن المُتَوَرِّق لا يربحُ، فلا يشترط القبض في حقّ المُتَوَرِّق، وأما في حقّ البنك فالقبضُ مشروطٌ؛ لأنَّ البنك يربحُ في السلعة دون قبض، فيقع في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولا ربح ما لم يضمن). __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (35). (1/210) ________________________________________ 2 - إشكال يتعلق بالوكالة: باستقراء أحكام الوكالة عند العلماء، نجدُ أن ال****َ مطالب بالعمل لتحقيق مصلحة موكله، فإذا عمل بما يضرُّه فعلى ال**** الضمان، يقول ابن قُدامة: "وإن باع بأقل من ثمن المثل. . . أو باع بدون ما قدره له، فحكمه حكم من لم يؤذن له في البيع والشراء. . . وعن أحمد: أن البيع جائز، ويضمن ال**** النقص" (1). ويقول البهوتيُّ: "وإن باع هو أي **** ومضارب بدون ثمن المثل. . . أو باع بأنقص مما قدّره له الموكل، أو ربّ المال، صحَّ البيع. . . وضمنا" (2). ومن يطلع على أحكام الوكالة يجد الكثير من الأحكام التي تفيد أن مقصود عقد الوكالة هو العمل لمصلحة الموكل، ولذلك منع الفقهاء الوكالة إذا كانت التهمةُ تلحق ال**** كأن يبيعَ ال**** لنفسه، أو لولده (3). والمُتَوَرِّق في عملية التَّورُّق المصرفي بعد شرائه السِّلعة، يقومُ بت**** البنك في بيعها بأقل من الثمن الذي اشتراها به، وفي هذا خسارة على المُتَوَرِّق، فالبنك هنا يعمل لتحقيق مصلحة نفسه، ولا يعملُ لتحقيق مصلحة موكله؛ لأنه يبيع السِّلعة ابتداءً على العميل بربح، ثم يكون ****ًا عن المُتَوَرِّق ليبيع السِّلعة بخسارة، وهذا أمرٌ معروفٌ لا بُدَّ منه في عمليات التَّورُّق المصرفي، فصار بهذا العرف كأنه مشروط، بمعنى أن البنك كأنه يشترطُ على العميل بأن يبيعه السِّلعة بربح، ثمَّ يكون ****ًا ليبيع السِّلعة بخسارة، وهذا إشكال قويٌّ في عقد الوكالة، الذي يكون في عمليات التَّورُّق المصرفي. __________ (1) المغني (5/ 78). (2) كشاف القناع (3/ 473). (3) انظر: المرجع السابق (3/ 473). (1/211) ________________________________________ 3 - إشكال يتعلق بخيار العميل في ت**** المصرف وعدمه: تنصُّ الإجراءاتُ العملية لعمليات التَّورُّق المصرفي على أن العميل (المُتَوَرِّق) له الخيار في ت**** البنك لبيع السِّلعة وعدمه، فعلى سبيل المثال: جاء في المنشورة التعريفية لبرنامج (تيسير الأهلي) قولهم: "للعميل الحقّ في أن يتسلَّم سلعته في مكان تسليمها إذا رغب في ذلك، أو أن يوكل البنك في بيعها نيابة عنه" (1). والحقيقة أن وجودَ هذا الخيار كعدمه؛ لأنَّ العميلَ لم يأتِ إلى البنك إلا رغبة منه في الحصول على السُّيُولة النَّقْديّة، وهو يعلمُ أنَّه لا سبيل لتحصيلها إلا بالت****، فلولا الوكالة لما أتى العميل للبنك، فتكون الوكالة كأنها أمرٌ مشروطٌ في العملية؛ لأنَّ المعروفَ عرفًا كالمشروط شرطًا، والمعروف أن عمليات التَّورُّق المصرفي لا تقومُ إلا على الت****، بدليل أنَّه لا توجد عملية تورق في البنوك خالية من الت****، وبهذا نعرف أن هذا الخيارَ لا وجودَ له في الواقع العملي. "وإنما العبرةُ هل يملك المصرف الخيار في قبول الت**** وعدمه؟ والجواب: أن المصرفَ لا يملكُ هذا الخيار؛ لأنه التزم مسبقًا مع المشتري النهائي، وإذا كان كذلك كانت المعاملة عينةً ثنائية؛ لأنَّ المصرف ضامنٌ للثمن النَّقْديّ، ولا فَرْقَ في هذه الحالة بين أن يشتريها هو أو غيره؛ لأنَّ العبرةَ بالضَّمان، وهو حاصلٌ على كل تقدير" (2). 4 - إشكال يتعلق بالاتفاقات السابقة على عقد البيع: عرفنا فيما سبق -في تصوير التَّورُّق المصرفي- أن البنك يعقدُ اتفاقات مع __________ (1) انظر المنشورة التعريفية التي تحمل عنوان (تيسير الأهلي) والتي تصدرها جميع فروع البنك الأهلي التجاري. (2) التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (21). (1/212) ________________________________________ شركة بائعة تبيع على البنك السِّلع، التي هي محلّ عملية التَّورُّق، وكذلك تعقد مع شركة باعتبارها مشتريًا نهائيًا في عملية التَّورُّق المصرفي، وهذه الشركةُ المشترية تلتزم بموجب الاتفاقية بالشراء النهائي للسلع التي يبيعها البنك وكالة عن العميل "وهذا الالتزام ضمان للسعر المباع به أن لا يتجاوز حدودًا معينة حماية من تقلب الأسعار، علمًا أن السعر المتفق عليه يتضمَّن عمولةً للمشتري النهائي مقابل الضمان، ويقابل هذا الضمان التزام المصرف بالبيع عليه، بمعنى أنَّه لا يحقّ للمصرف أن يبيعَ السِّلع في السُّوق حتى لو ارتفع سِعْرُها عن السعر المتفق عليه مع المشتري النهائي، وبذلك يكون هذا الضمانُ من الطرفين: المصرف بأن يبيع على المشتري النهائي، والمشتري النهائي بالشراء بالثمن المحدد" (1). والإشكال هنا من وجهين: أ- أن هذا الالتزامَ يصدرُ قبل ت**** العميل، بل قبل مجيء العميل للبنك، فيكون الالتزامُ في غير محلّه؛ لأنَّ البنكَ لا يملكُ التصرف في مال غيره قبل الإذن، ثمَّ إن هذا الالتزام قد يخالفُ مصلحة العميل إذا ارتفع سعر السُّوق عن السعر الملتزم به، فالبنك يبيعُ بالسعر المتفق عليه. ب- أن عملية التَّورُّق المصرفي بهذا الالتزام يكون حاصلها التزام البنك بتوفير النَّقْد مقابل دين له في ذِمَّةِ العميل، فالبنكُ يلتزمُ ببيع السِّلعة بالثمن المحدد لتوفير النَّقْد للعميل، وهذا هو دورُ البائع في العِيْنَة، فإنَّه يلتزم بتوفير النَّقْد للعميل (2). 5 - التعسف الموجود في عملية التَّورُّق المصرفي: لا تخلو عملية التَّورُّق المصرفي من بعض التعسفات، التي تؤكِّد الحكم __________ (1) التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (75). (2) انظر: المرجع السابق (76) والتكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق. سامي السويلم (20) (1/213) ________________________________________ بتحريم هذه العملية، فقد أوضح بعضُ الباحثين أن هناك إشكالًا متعلقًا بما في العقد بين البنك والعميل من تعسف، ومن ذلك: أ- اشتراط البنك على العميل إسقاط خيار الردّ بالعيب، كما جاء في بعض المنشورات التعريفية: "ليس للبنك علاقةٌ بعد توقيع هذا العقد بالسِّلعة" (1). والحقيقة أن العميل لا يشاهد السِّلعة أصلًا، فكيف سيكون له الخيار؟! بمعنى: أن خيار الرد بالعيب إنما يستفيدُ منه الشخص الذي يرى السِّلعة، ويكتشف العيب، والعميل في عملية التَّورُّق المصرفي لا يرى السِّلعة أصلًا، بل قد لا يعرف ماهيتها، فكيف سيكون له خيار الرد بالعيب وهو لم يرَ السِّلعة أصلًا؟! فلا أسلم للباحث ثبوت خيار الرد بالعيب للعميل، ولكن قد يقال: كون البنك يخلي مسؤوليته بالكامل بعد توقيع العقد فيه نوع من التعسف، لإسقاط حقّ العميل في خيار المجلس. ب- ومن التعسف الذي يوجد في العملية "اشتراط تحميل العميل رسومًا إدارية، تتراوح من (700 - 2000) ريال تختلف باختلاف البنك والمعاملة، زعموا أنها مقابل ما يتكبده البنك من أعباء إدارية في سبيل البيع على العميل" (2). المسألة الثالثة: الشبه التي تمسَّك بها من أجاز التَّورُّق المصرفي ومناقشتها: الشُّبهة الأولى: أن التَّورُّقَ المصرفي بديلٌ شرعي عن عقد القَرْض الربوي، وبذلك يكون أهونَ من الوقوع في الرِّبا، فالدخولُ في عملية التَّورُّق المصرفي __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (37). (2) المرجع السابق (38). (1/214) ________________________________________ يؤدي إلى خَفْض القروض الربوية "حيث انحسرت نسبة نشاطها بمقارنها بنسبة استخدام التَّورُّق إلى (30 %) واستحوذ التَّورُّق على (70%) وبزيادة مستمرة" (1). وبمكن الجواب عن هذه الشُّبهة بالآتي: إذا كنا سنتحدث بمنطق هذه الشُّبهة، فإن العِيْنَة ستكون أهونَ من الوقوع في الرِّبا، ونكاح المتعة أهون من الوقوع في الزنى، وارتكاب الحِيَل أهونُ من الوقوع في المحرم مباشرة، وكون التَّورُّق المصرفي يؤدي إلى خفض القروض الربوية لا يعني جوازه؛ لأنَّ التَّورُّق المصرفي يأخذ حكم الرِّبا بل يكون أشد، إذ فيه تكلفةٌ ليست في الرِّبا، فإن الرِّبا يُعَدُّ من أسهل وأيسر الطرق لتحصيل النَّقْد، والمعنى الذي لأجله حرم الرِّبا موجودٌ في التَّورُّق المصرفي مع زيادة الكلفة، والمشقة، والتلاعب، والتحايل في التَّورُّق، وخفض القروض الربوية مطلب شرعي يجب على كل المسؤولين العمل، لتحقيق ذلك في ظل القواعد والضَّوابط الشرعية، أما أن نسعى لخفضها بحيلٍ محرَّمة كالتَّورُّق المصرفي فغير مشروع، ثمَّ إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا كان بالضَّوابط الشرعية، فإنه يؤدي إلى خفض القروض الربوية، فلماذا نلجأ إلى عملية كاد العلماء يجمعون على تحريمها، ونترك ما هو مشروع؟! الشُّبهة الثانية: أن الرِّبا لا يتحقّقُ إلا باجتماع شخصين دافع للربا، وآخذ له، فإذا اعتبرنا أن المُتَوَرِّق هو دافع الرِّبا، فمن هو الآخذُ في التَّورُّق المصرفي؟ ويمكن الجواب عن هذه الشُّبهة بالآتي: أن آخذ الرِّبا في عملية التَّورُّق المصرفي هو آليةُ المصرف التي تروّج للتورق المصرفي، وتجعل منه صيغة تمويلية (2). __________ (1) حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإسلامية في الوقت الحاضر. عبد الله المنيع (22). (2) انظر: البنوك الإسلامية: غايتها واقعها والصعوبات التي تواجهها. أحمد علي عبد الله (29). (1/215) ________________________________________ الشُّبهة الثالثة: أن التَّورُّق المصرفي يجوزُ بناءً على رأي الشافعي في العِيْنَة والحِيَل، فالشافعي يرى جواز العِيْنَة والحِيَل، فيكون التَّورُّق المصرفي جائزًا. ويمكن الجواب عن هذه الشُّبهة بالآتي: أن الشافعيَّ أجاز العِيْنَة بضوابط لا توجد في التَّورُّق المصرفي، فالتَّورُّق المصرفي لا يدخلُ في العِيْنَة التي أجازها الشافعي، وقد سبق بَسْطُ هذا الأمر في موقف الشافعية من التَّورُّق المصرفي. الشُّبهة الرابعة: أن التَّورُّق المصرفي صيغة استثمارية يستفيدُ منها الأشخاص، والمؤسَّسات المالية. ويمكن الجواب عن هذه الشُّبهة بالآتي: القول بأن التَّورُّق المصرفي صيغة استثمارية يخالف الواقع؛ "لأنَّ القصدَ منه هو الحصول على سيولة، والعمليةُ في ذاتها ليست استثمارًا، والقَولُ بأن المُتَوَرِّق سوف يستخدم النقود في مشروع استثماري بعيد عن الواقع، ولا يستقيم مع المنهج العلمي، فسلسلة العُقُود والاتفاقيات بين المؤسَسات التي تقومُ بهذه العمليات ليست عقودَ استثمار بصيغة شرعية، ولكنها موجهة جميعًا لغرض واحد، هو توفير النقود للمتورق (1). الشُّبهة الخامسة: أن التَّورُّق المصرفي لا يدخل في العِيْنَة المحرمة؛ لأنَّ العلاقة في بيع العِيْنَة هي علاقة ثنائية، بمعنى: أن العِيْنَة تكونُ بين طرفين فقط، وأما الأطرافُ المشتركة في عملية التَّورُّق المصرفي قد تصل إلى أربعة أطراف كما سبق ذكره، فلا تدخل هذه العمليةُ في بيع العِيْنَة المحرم. ويمكن الجوابُ عن هذه الشُّبهة بالآتي: لا نسلّم بأن العِيْنَة تكون بين طرفين فقط، فقد ذكرت في صور العِيْنَة أنها قد تكونُ بين ثلاثة أطراف، وهي التي تُسَمَّى بـ (العِيْنَة الثلاثية) لأنها حصلت بين ثلاثة أطراف، وجيء بالثالث __________ (1) تعليق على بحوث التَّورُّق. حسين حامد حسان (10). (1/216) ________________________________________ حيلة على العِيْنَة التي هي حيلة على الرِّبا، يقول ابن عابدين: "أن يُدخلا بينهما ثالثًا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهمًا، ويسلمه إليه، ثمَّ يبيع المستقرض من الثالث بعشرة، ويسلمه إليه، ثمَّ يبيعه الثالث من صاحبه، وهو المقرض بعشرة، ويسلمه إليه، ويأخذ منه العشرة، ويدفعها للمستقرض، فيحصل للمستقرض عشرة، ولصاحب الثوب عليه اثنا عشرة درهمًا" (1). وكون التَّورُّق المصرفي يحصلُ بين أكثر من طرفين، فإن تلك الأطراف الزائدة على اثنين إنما جيء بهم كحيلةٍ حتى تكون صورة العملية صحيحة شرعًا، بدليل أن السِّلعة في العملية لا تبرحُ مكانها، بل تكون في المخازن، وتجري عليها العشرات من العمليات، تمامًا كالسِّلعة في بيع العِيْنَة لا تبرح، مكانها ويجري عليها العديد من العُقُود. وبذلك نعرفُ أن وجودَ الطرف الثالث في بيع العِيْنَة لا يُخْرِجُ المعاملة عن كونها عينة محرمة، فكذلك الأمرُ بالنسبة إلى التَّورُّق المصرفي، فتعدد الأطراف إلى أكثر من اثنين لا يُخْرِجُ العمليةَ عن كونها عينة محرمة، ولذلك يمكنُ أن نقول: إن التَّورُّق المصرفي عينة ثلاثية محرمة. الشُّبهة السادسة: أن عملية التَّورُّق المصرفي مستوفية الشروط والأركان، وقد وجد فيها القبض، "فإن التطبيقات المصرفية للتورق تأخذ بالرأي القائل بالقبض الحكمي، أي: انتقال الضمان بمجرد العقد إذا تعينت السِّلعة محل البيع" (2). ويمكن الجواب عن هذه الشُّبهة بالآتي: لا نسلّم بأن عملية التَّورُّق المصرفي مستوفية الشروط والأركان، بدليل وجود الإشكالات السابق ذكرها في __________ (1) حاشية ابن عابدين (5/ 373). (2) التَّورُّق كما تجريه المصارف. محمَّد العلي القريّ (21). (1/217) ________________________________________ إجراءات العملية، أما القبض الحكمي فكما أنه يكونُ طريقًا للتيسير، فإنه يكونُ طريقًا للاحتيال والتلاعب، وهذا واقع، "وما نحن فيه معاملة تحكمها السُّوق الدولية، وتتمُّ برأس مال كبير، وسرعة فائقة، فاحتمالُ التلاعب فيها وارد، وبخاصّة أن التَّعامُلَ في أصله مع جهات أجنبية تجهلُ الدّيْن وأحكامه، بل لا تدينُ به، وقد يكون الطرفُ الآخرُ ممن لا يأنفُ الرِّبا أيضًا، وهذا لا يناسبه الاعتبارُ بالقبض الحكمي" (1). * * * المطلب الرابع قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بشأن موضوع التَّورُّق المصرفي بعد عرض موقف العلماء قديمًا وحديثًا من التَّورُّق المصرفي، وذِكْر الأمور الدالة على تحريم هذه العملية، والإشكالات الموجودة فيها، فإنَّه تتضِحُ حرمةُ التَّورُّق المصرفي، لاستحالة أن الشَّريعة الإسلامية تبيحُ مثل هذه المعاملة القائمة على التلاعب والاحتيال، وإذا كان التَّورُّق الفردي بصورته البسيطة العفوية يجوزُ بضوابط كما ذكرت في الترجيح، فما بالك بهذه العملية الواضحة المقصود الظاهرة الهدف، إضافة إلى أن إجراءاتها غير موافقة للشريعة الإسلامية، وهذا مما يزيدُ الطِّين بِلَّة، والسقم عِلَّة، وبعضُ الباحثين حَكَم بالجواز بناءً على ما هو مكتوب في الآليات العملية للمعاملة، ولكن لما رأى الواقعَ العمليَّ في البنوك عاد ليقول بتحريم هذه المعاملة، وقد رأيت من المناسب أن أنقلَ قرارَ المجمع الفقهي الإسلامي بشأن هذه المعاملة، وهي كالتالي: __________ (1) التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (35). (1/218) ________________________________________ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإن مجلسَ المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/ 1419 هـ الذي يوافقه 13 - 17/ 12/ 2003 م، قد نظر موضوع: "التَّورُّق كما تجريه بعضُ المصارف في الوقت الحاضر" وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارتْ حوله، تبيَّن للمجلس أن التَّورُّق الذي تجريه بعضُ المصارف في الوقت الحاضر هو: قيام المصرف بعملٍ نمطيّ يتمُّ فيه ترتيب بيع سلعة "ليست من الذهب أو الفضة" من أسواق السِّلع العالمية أو غيرها، على المستورق بثمن آجل، على أن يلتزمَ المصرف -إما بشرط في العقد، أو بحكم العرف والعادة- بأن ينوبَ عنه في بيعها على مشترٍ آخر بثمن حاضر، وتسليم ثمنها للمستورق، وبعد النظر والدراسة، قرر مجلس المجمع ما يلي: أولًا: عدم جواز التَّورُّق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية: 1 - أن التزامَ البائع في عقد التَّورُّق بالوكالة في بيع السِّلعة لمشترٍ آخر، أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعِيْنَة الممنوعة شرعًا، سواء أكان الالتزامُ مشروطًا صراحة، أم بحكم العرف والعادة المتبعة. 2 - أن هذه المعاملة تؤدي في كثيرٍ من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة. 3 - أن واقعَ هذه المعاملة يقومُ على منح تمويل نقدي بزيادة لما سُمِّي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء، التي تجري منه، والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من إجرائها أن تعود عليه (1/219) ________________________________________ بزيادة على ما قدَّم من تمويل، وهذه المعاملةُ غير التَّورُّق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، وقد سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية، وشروط محددة بيَّنها قراره، وذلك لما بينهما من فروق عديدة فصّلتِ القولَ فيها البحوثُ المقدمة. فالتَّورُّق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل تدخل في ملك المشتري، ويقبضها قبضا حقيقيًا، وتقع في ضمانه، ثمَّ يقومُ ببيعها هو بثمن حالّ لحاجته إليه، قد يتمكَّنُ من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرقُ بين الثمنين الآجل والحالّ لا يدخلُ في ملك المصرف، الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافرُ في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف. ثانيًا: يوصي مجلسُ المجمع جميعَ المصارف بتجنب المعاملات المحرمة، امتثالًا لأمر الله تعالى، كما أن المجلسَ إذ يقدّر جهود المصارف الإسلامية في إنقاذ الأمة من بلوى الرِّبا، فإنَّه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة، دون اللجوء إلى معاملات صورية، تؤول إلى كونها تمويلًا محضًا بزيادة ترجع للممول. (1/220) ________________________________________ المبحث الخامس التَّورُّق المصرفي ومستقبل البنوك الإسلامية المطلب الأول مفهوم البنك الإسلامي وخصائصه البنوكُ الإسلاميةُ المعاصرةُ هي في حقيقتها: "عبارة عن بيوت تمويل خاصة، تقومُ بجذب الأموال، وتوظيفها بُغية تحقيق الأرباح، وإحداث تنمية اقتصادية واجتماعية متميزة في ضوء الضَّوابط الإسلامية" (1). والبنوكُ الإسلاميةُ تمارسُ جميعَ الأنشطة المالية، والتجارية، والمصرفية، والصناعية، والعقارية، والزراعية، وأساس قيامها ومبرر وجودها أنها تجمعُ مدَّخرات المسلمين، وتوجهها للاستثمار بصيغ استثمار خاضعة للضوابط الشرعية، وهي بذلك تساهمُ في خطة التنمية الشاملة، وليس تقديم التَّمويل، ومنح الائتمان، الذي يتمثَّل في توفير سيولة نقدية للمتعاملين معها مع عمل الترتيبات، التي تمكنهم من ردّ هذه السُّيُولة مع زيادة بعد أجل معين، فالبنوكُ الربويةُ تعملُ هذا بطريقة أسهل وأسرع عن طريق الإقراض بفائدة (2). وخصائص البنوك الإسلامية تتمثل في الآتي: 1 - يقوم البنكُ الإسلاميُّ بالأعمال التجارية، والصناعية، والزراعية. __________ (1) دور المؤسسات المصرفية الإسلامية في التنمية الاقتصادية. نزيه حماد (1). (2) انظر: تعليق على بحوث التَّورُّق. حسين حامد حسان (29). (1/221) ________________________________________ 2 - يقدم التَّمويل لأي مشروع تجاري، أو صناعي، أو زراعي، أو عقاري، أو عمراني. 3 - تستثمر مواردها من حقوق المساهمين والودائع استثمارًا مباشرًا، وليست وسيطًا ماليًا يوفر السُّيُولة للمتعاملين، وهي تقومُ بالاستثمار في إنتاج السِّلع والخدمات، يستوي في ذلك العُقُود التجارية بجانب صيغ الاستثمار الأصلية كالمشاركات، والمضاربات، فعقودُ البيع بثمن مؤجَّل، وبيع المرابحة، والاستصناع، والسلم، يشتري العميلُ من البنك بثمن مؤجَّل، أو مرابحة بضاعة تنتقل ملكيتها إليه لاستعمالها، أو الاتجار فيها. 4 - فتح حسابات الودائع النَّقْديّة الجارية، وفتح الاعتمادات، وقبول الودائع، واستثمارها. 5 - يوظف البنك جزءًا من أمواله للوفاء بالمسؤولية الاجتماعية تجاه المستحقين من عملائه بأسلوب القَرْض الحسن، الذي لا يردّ فيه المقترض سوى مقدار القَرْض فقط (1). ولكنَّ بعضَ البنوك الإسلامية عادتْ إلى بيت الطاعة الربوي، لتعلن عبر وسائل الإعلام عمليات التَّورُّق المصرفي، وأنها يمكن أن توفر النَّقْد والسُّيُولة بآلية هي نفس آلية البنوك الربوية، وكل البعد الفقهي والتأصيل الشرعي اختزل في أوراق توقع في دقائق معدودة (2). __________ (1) انظر: دور المؤسسات المصرفية الإسلامية في التنمية الاقتصادية. نزيه حماد (1 - 3) وتعليق على بحوث التَّورُّق. حسين حامد حسان (9 - 10). (2) انظر: التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق. أحمد محيي الدين أحمد (8). (1/222) ________________________________________ المطلب الثاني أثر عمليات التَّورُّق المصرفي على مستقبل البنوك الإسلامية إن البنوكَ اليوم تراهنُ على أن عملية التَّورُّق المصرفي بديل أكثر عملية من المرابحة، وإذا كانت المرابحةُ تمثل حوالي (90 %) من مجمل عمليات البنوك الإسلامية، فهذا يعني أنه عندما يتمُّ الإحلالُ التدريجي سوف تشكل عمليات التَّورُّق (90 %) من مجمل عمليات المصارف الإسلامية، وبالطبع سوف يُؤثر هذا سلبًا على الإطار الفكري للصيرفة الإسلامية، وعلى التميز التنموي للمعاملات الإسلامية في صيغها الشرعية الموروثة، وسوف يؤثرُ على التفرقة ما بين هو إسلامي، وغير إسلامي، وعلى نمو واتجاهات المصارف الإسلامية (1). ويمكن إجمال أثر عمليات التَّورُّق المصرفي على مستقبل البنوك الإسلامية في النقاط التالية: 1 - استغناء البنوك الإسلامية مستقبلًا عن صيغ العُقُود الأخرى، فالتَّورُّق المصرفي سيقومُ بإزاحة أنواع التَّمويل الأخرى التي كانت تقدمها المؤسَّسات الإسلامية، وتستمرُّ هذه الإزاحةُ، وهذا الإحلال حتى تسيطر العِيْنَة ومشتقاتها على التَّمويل الإسلامي، وبما أن التطورَ سُنَّة الحياة، فإن الأدوات المستقبلية ستكون أقربَ إلى الرِّبا حتى من التَّورُّق المصرفي، وستظهر آليات ومنتجات أكثر التصاقًا بالنظام الربوي منها بالنظام الإسلامي (2). 2 - انحصار دور البنك الإسلامي في تقديم السُّيولة النَّقْدية، وتحقيق المكاسب من خلال ذلك، وبهذا يكون البنكُ بالتَورُّق المصرفي عاملًا لجعل __________ (1) انظر: المرجع السابق (8). (2) انظر: التَّورُّق والتَّورُّق المنظم. سامي السويلم (81). (1/223) ________________________________________ المبادلات الاقتصادية خادمة للتمويل، وفي هذا ضَرَرٌ اقتصادي يعرقلُ سير الحياة الاقتصادية. 3 - ابتعاد البنك الإسلامي عن مهمة التوسط الاستثماري (1). 4 - انصراف المتعاملين مع البنوك الإسلامية عن الاستثمار الحقيقي (2). 5 - فقدان البنوك الإسلامية إلى أساس وجودها، ويصرف البنوك التي تتعامل بالتَّورُّق المصرفي عن مهمتها الحقيقية، وهي مهمةٌ استثمارية تنموية، فالبنك هنا يتحوَّلُ إلى مجرَّد مقرضٍ للعملاء عن طريق التَّورُّق، ولا يشارك في عمليات استثمارية وإنتاجية حقيقية (3). 6 - على فرض القول بجواز عملية التَّورُّق المصرفي، فإنها لا تصلح أن تكون هي النشاط الأساسي لمؤسسات تجارية كبيرة، ولا تصلح أن تمثلَ نظامَ الاقتصاد، الذي تهدفُ إليه الشَّريعة، فالتوسعُ في هذه العملية يعرقلُ المسير الطبيعي للاقتصاد الإسلامي؛ لأنَّ التوسعَ في هذه العملية سيؤدي إلى تضييق النطاق على النشاطات الاقتصادية، التي تحثُّ عليها الشَّريعة، والتي تمهد السبيل إلى إنشاء مجتمع اقتصادي مطلوب (4). * * * المطلب الثالث البديل للتمويل النَّقديّ اتجهت بعضُ البنوك اليوم لإيجاد بدائل تمويلية تستغني بها عن القروض __________ (1) انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي. العدد: 274 محرم 1425 هـ مارس 2004. ص (62). (2) المرجع السابق. (3) المرجع السابق (63). (4) انظر: أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية. محمَّد تقي العثماني (19). (1/224) ________________________________________ الربوية، فابتكرت برامجَ التَّورُّق المصرفي، ليكون بديلًا عن القَرض الربوي، ولكن بالنظر إلى حقيقة عملية التَّورُّق المصرفي فإنَّه شبيهٌ بالقرض الربوي، بل إنه في واقع الأمر مثيلٌ له، إذ الأضرارُ الاقتصادية الناجمة عن شيوع الرّبا متحقّقة، وموجودة حين شيوع عمليات التَّورُّق المصرفي. ولذلك فإن البديلَ الحقيقيَّ للتمويل النَّقْديّ هو المضاربة، وعقد السلم، وعقد الاستصناع، والمرابحة للآمر بالشراء، فالمضاربةُ يكون فيها البنك رب المال، وطالب التَّمويل مضاربًا، وفي عقد السلم يحلُّ العقدُ محلّ التَّمويل في مسألة تمويل المزارع، ويحلّ عقد الاستصناع محلَّ التَّمويل في مسألة تمويل المصانع (1). والواقع أن البنوك "لو طبقت فريضة الزكاة، ونصَّت نظمها على وجوب دفع زكاة المساهمين والمودعين بنسبة (2.5 %) من رأس المال المستثمر بالإضافة إلى أرباحه لاستطاعت هذه البنوك أن تغطي الحاجات الشخصية للفرد بطريق القَرْض، أو الصدقة" (2). وقد ذكر بعضُ الباحثين مثالًا يتَّضح فيه كيف أن التَّورُّق المصرفي يؤدي إلى ما يؤدي إليه الرِّبا، وأن المضاربة وغيرها من وسائل التَّمويل المشروعة هي خيرُ طريق لتحصيل السُّيُولة النَّقْديّة، وبالمثال يتَّضحُ المقال: ثلاثة تجار أخذ التاجر الأول قرضًا مقداره مئة بربح عشرة من بنك ربوي، واشترى التاجر الثاني سلعة ثمنها مئة بمئة وعشرة نسيئة من بنك إسلامي، ووكل البنك في بيعها بمئة نقدًا، ففعل وسلمه المئة، وأخذ التاجر الثالث مئة من بنك إسلامي يضارب بها، والربح بينهما مناصفة. __________ (1) التَّورُّق كما تجره المصارف في الوقت الحاضر. عبد الله السعيدي (46). (2) تعليق على بحوث التَّورُّق. حسين حامد حسان (4). (1/225) ________________________________________ فإذا أراد كلُّ واحدٍ من هؤلاء التجار الثلاثة أن يربحَ خمسة من تجارته بالمئة التي أخذها كل واحد منهم من بنك، فإن التاجر الأول المرابي لا بد له من أن يبيعَ ما يشتريه بالمئة بمئة وخمسة عشر لكي يربح خمسة، وكذلك أخوه التاجر الثاني المستورق، وأما التاجر الثالث المضارب فيمكنه أن يبيع بمئة وعشرة فقط، فيربح عشرة، يعطي منها المصرف خمسة، ويأخذ هو خمسة، ويستفيد الجمهورُ بالخمسة التي يأخذها المرابون وأشباههم، فعمليةُ التَّورُّق المصرفي هي استحلالٌ للربا باسم البيع (1). __________ (1) انظر: حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر. الصديق محمَّد الأمين (23). (1/226) ________________________________________ الخاتمة في ختام هذا البحث الذي أسأل الله تعالى أن ينفعني به أحبُّ أن أذكر أهمَّ النتائج والتوصيات التي توصَّلتُ إليها خلال هذا البحث، وهي كالتالي: أولًا: أهم نتائج البحث: 1 - أن مصطلح التَّورُّق لم يأتِ ذكره عند العلماء بهذا الاسم إلا عند بعض فقهاء الحنابلة كالبهوتي، والمرداوي، وابن مفلح، فقد نصُّوا عليه. 2 - أن التَّورُّق في التطبيق المصرفي ليس هو التَّورُّق الفردي المعروف عند الفقهاء، والذي دار حوله خلاف، وإنما هو معاملةٌ جديدةٌ طرحتها البنوكُ مؤخرًا. 3 - التعريف الأرجح للتورق المصرفي هو: قيام المصرف بترتيب عملية التَّورُّق للمشتري (العميل) بحيث يبيع سلعة على المُتَوَرِّق بثمن آجل، ثمَّ ينوب المصرف عن المشتري ببيع السِّلعة نقدًا لطرف آخر، ويسلم الثمن النَّقْديّ للمتورق. 4 - أن الشرع المطهر لم يهدر قيمةَ السُّيُولة، ولم ينكر أهميتها في الوسط الاقتصادي، ولذلك شرع عقودًا تهدفُ إلى توفير السيُولة مع ما تحقّقه تلك العُقُود من فوائد اقتصادية كالسلم، والاستصناع، والمضاربة. 5 - أن العلماء -رحمهم الله- منعوا الحِيَل المحرمة، وما نقل عن بعض الحنفية أنهم يجيزونها، فإنَّه يحمل على الحِيَل المباحة، ولا يتصوّر أن الأئمة (1/227) ________________________________________ يحللون ما حرَّمه الله بالتحايل، فهم أعلم بالله ورسوله، وأتقى له من أن يفتوا بالحِيَل المحرمة. 6 - أن الشافعية أجازوا الحِيَل بناءً على موقفهم من العُقُود عامة، حيث لا تأثير لنية المتعاقدين على العقد، وإنما العبرة عندهم بظاهر العقد، ولا يعني هذا جواز إضمار نية المحرم، بل يأثم إذا نوى بالحِيلة المكر والخداع. 7 - أن ارتكاب الحيلة لتحليل المحرم أشد إثمًا من ارتكاب المحرم مباشرة. 8 - بيع العِيْنَة محرم عند الحنفية، وما نقل عن بعضهم القول بالجواز، فإنه يحمل على التَّورُّق. 9 - أن المالكية والحنابلة يحرمون الحِيَل وبيع العِيْنَة بناءً على قولهم بسدّ الذرائع. 10 - أن بيع العِيْنَة جائز عند الظاهرية، إذا لم يكن عن شرط في العقد. 11 - أن التَّورُّق يدخل تحت العِيْنَة بدلالة اللغة، وبدلالة بعض نصوص الفقهاء الذين يذكرون التَّورُّق كصورة من صور العِيْنَة، وتجد هذا عند الحنفية والمالكية. 12 - أن الشافعية لا يتطرقون لبيع التَّورُّق لأنهم يرون جواز العِيْنَة، فالتَّورُّق يكون أولى بالجواز من العِيْنَة عندهم. 13 - أن الحنفية يذكرون التَّورُّق ضمن صور العِيْنَة، ولذلك فقد يتبادر إلى أذهان البعض أن حكم تحريم العِيْنَة يشمل بيع التَّورُّق، وتجد هذا في بعض البحوث، وليس الأمر كذلك، فالتَّورُّق جائز عند الحنفية، وما نقل عن الكراهة فإنها تحمل على بيع العِيْنَة، أو لما في التَّورُّق من الإعراض عن مبرة الإقراض. 14 - أن المالكية يحرمون بعض صور التَّورُّق الفردي لوجود قرائن تدل (1/228) ________________________________________ على وجود علاقات إضافية بين المتبايعين، وتلك العلاقات الإضافية المرتبة تدل على أن القصد من عملية التَّورُّق، هو تحصيل نقد مقابل زيادة في الذِمَّة. 15 - الراجح في حكم التَّورُّق أنَّه يجوز بضوابط شرعية، وبدون تلك الضَّوابط يكون مكروهًا، وقد تزداد الكراهة حتى تصل إلى التَّحريم. 16 - أن عملية التَّورُّق المصرفي تقوم على عدة عقود، واتفاقات مرتبطة ببعضها، لتوفير السُّيُولة النَّقْديّة للعميل. 17 - أن الأطراف المشتركة في عملية التَّورُّق المصرفي قد تصل إلى أربعة. 18 - أن التَّورُّق المصرفي يتميزُ بالتنظيم والترتيب، وهذا هو الذي يتمسك به البعضُ في التَّحريم؛ لأنَّ تنظيم العملية يدلُّ على أن العملية ما جعلت إلا لتوفير نقود للعميل مقابل زيادة في ذِمَّته. 19 - أن التَّورُّق المصرفي في مرابحات السِّلع الدولية مع المؤسَّسات المالية، هو من قبيل ربح ما لم يضمن المحرم. 20 - أن التَّورُّق المصرفي لتمكين العملاء من سداد مديونياتهم، إذا كان الدَّيْن لنفس البنك، الذي يقدِّم التَّورُّق للمدين هو من قبيل قلب الدَّيْن على المدين المجمع على تحريمه، وكذلك بطاقتا التيسير والخير هو من قبيل قلب الدّيْن على المدين. 21 - أن أصول أئمة المذاهب الأربعة، وقواعدهم، ونصوصهم الفقهية تدلُّ على حرمة التَّورُّق المصرفي. 22 - لا يدخل التَّورُّق المصرفي في بيع العِيْنَة، الذي أجازه الشافعي؛ لأنه يرى جوازَ العِيْنَة إذا لم يكن هناك ارتباطٌ بين البيعتين، ولم تظهر نية الحصول على النَّقْد، وفي التَّورُّق المصرفي نجد الارتباطَ، ونية الحصول على النَّقْد. 23 - لا يدخل التَّورُّق المصرفي في بيع العِيْنَة، الذي أجازه ابن حزم؛ لأنه (1/229) ________________________________________ اشترط لصحة بيع العِيْنَة عدم وجود الشَّرْط، وفي التَّورُّق المصرفي يوجد أكثر من شرطٍ، سواء كان منصوصًا عليها، أو أنها مشروطةٌ بدلالةِ العُرْف والعادة. 24 - أن عملية التَّورُّق المصرفي حيلة محرَّمة لاستحلال الرِّبا، فهي في الحقيقة ربا بدليل أنها عمليةٌ تبدأ، وتنتهي في جلسةٍ واحدة، وبمجرد توقيع بعض الأوراق يكون العميلُ قد حصل على نقودٍ مقابل زيادة في ذِمَّته. 25 - أن الآثار والأضرار الاقتصادية المترتبة على التَّورُّق المصرفي هي نفسها تلك الآثار المترتبة على الرِّبا، فاستفحالُ المديُونيَّة، والمتاجرة بها موجودةٌ في العمليتين. 26 - أن فلسفة التَّمويل في الإسلام هي: أن يكونَ التَّمويلُ تابعًا وخادمًا للمبادلات الاقتصادية لبناء اقتصاد منتج، تنعكسُ في عملية التَّورُّق المصرفي، لتكون المبادلات الاقتصادية خادمة، وتابعة للتمويل، وإذا انعكست تلك الفلسفةُ، فإن التَّمويلَ حينئذٍ يكون أداة لتدمير الاقتصاد. 27 - إجراءات التَّورُّق المصرفي يكتنفها الكثير من الإشكالات، التي تكون كفيلة بتحريم هذه العملية. 28 - أن التَّورُّق المصرفي يقضي على صيغ التَّمويل الأخرى المشروعة، ويزيل الفوارق الفاصلة بين العمل المصرفي الإسلامي، وبين العمل المصرفي التقليدي. ثانيًا: أهم التوصيات: 1 - أوصي القائلين بجواز هذه المعاملة بالنظر مرة أخرى إلى مقاصد الشَّريعة، ومعرفة الأسس الاقتصادية الإسلامية، فالمجتهد لا بُدَّ أن يدرس إجراءات العملية، والهدف منها، وتأثيرها على الحركة الاقتصادية، ولا يكفي في الحكم على المعاملة النظر إلى الصُّورة فقط، فكم في الشَّريعة الإسلامية من (1/230) ________________________________________ معاملاتٍ حُرِّمت مع أن ظاهرها الجواز، ولكن بالنظر إلى الحقيقة والمآل فإنها تكونُ مُحرَّمة أشد التَّحريم، فالواجبُ على المجتهد أن ينظرَ إلى صورة العملية، ومآلها، ويوازن بينهما، فإن الكثير من الفتاوى التي خالفت الصواب، كانت بسبب التركيز على الصُّورة فقط، وإهمال النظر في المقصد، والمآل. 2 - أوصي الهيئات الشرعية للبنوك التي تُقدِّم التَّورُّق بأن يغيروا مصطلح (التَّورُّق) إلى مصطلح آخر، حتى لا يلتبس على الناس، فيظنّ بعضُهم أن التَّورُّق المصرفي هو من قبيل التَّورُّق الفردي الجائز عند الجمهور. وأسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لكل ما هو خير في الدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمَّد وعلى آله أجمعين. (1/231) ________________________________________ الفهارس العلمية * فهرس الآيات * فهرس الأحاديث والآثار * ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم * فهرس المراجع والمصادر * فهرس الموضوعات (1/233) ________________________________________ ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في البحث مرتبة حسب حروف المعجم 1 - (أبو إسحاق الإسفراييني): إبراهيم بن محمَّد بن مهران، أبو إسحاق الإسفراييني، الملقب بركن الدِّيْن، كان أحد مجتهدي الشافعية، ارتحل فسمع من: عبد الخالق بن أبي روبا، وأبي بكر محمَّد الشافعي، وغيرهم. أقام ببغداد مدة مدرسًا، ثمَّ انتقل إلى إسفرايين، وبنى له أهلها مدرسة كبيرة، فدرس بها إلى أن مات سنة (418 هـ)، وأخذ عنه جماعة من نيسابور مثل: أبي بكر البيهقي، ومحمد بن الحسن. سير أعلام النبلاء (7/ 353) رقم 220. 2 - (إبراهيم النخعي): وهو إبراهيم بن يزيد بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن سعد بن مالك بن النخع، من مذحج، ويكنى أبا عمران، وكان أعور، وتوفي سنة ست وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك بالكوفة، وهو ابن تسع وأربعين سنة لم يستكمل الخمسين. الطبقات الكبرى (6/ 270 - 284). 3 - (القرافيّ): أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الصنهاجي القرافيّ (626 - 684 هـ) من علماء المالكية، من برابرة المغرب، مصري المولد والمنشأ والوفاة، له مصنفات في الفقه، والأصول، منها: (أنوار البروق في أنواء الفروق) (الذخيرة). (1/237) ________________________________________ الأعلام للزركلي (1/ 94). 4 - (ابن تيمية): هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، تقي الدِّيْن، وشيخ الإسلام، الحنبلي. ولد في حران، وانتقل به أبوه إلى دمشق، فنبغ، واشتهر، وسُجن بمصر مرتين، وتوفي بقلعة دمشق، وهو في السجن سنة (728 هـ). البداية والنهاية (14/ 135). 5 - (ابن حجر): أحمد بن علي بن محمَّد بن علي بن محمود بن أحمد بن أحمد بن العسقلاني، المصري، الشافعي، الإمام، العلامة، الحافظ، أبو الفضل، شهاب الدِّيْن، ولد في مصر ثالث عشر شعبان المكرم سنة ثلاث وسبعين وسبعمئة. مات عنه والده وهو طفل في شهر رجب سنة سبع وسبعين، وكان لديه ذكاء، وسرعة حافظة. ذيل تذكرة الحفاظ (1/ 326). 6 - (الدردير): أحمد بن محمَّد بن أحمد العدوي، أبو البركات، الشهير بالدردير. ولد في بني عدي بمصر سنة (1127 هـ). وتوفي بالقاهرة سنة (1201 هـ). رجل فاضل من فقهاء المالكية، ومن أبرز مؤلفاته: (أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك) و (منهج القدير وتحفة الإخوان في علم البيان). الأعلام للزركلي (1/ 244). 6 - (الأسود بن عامر): أبو عبد الرحمن، ولقبه شاذان، أصله من الشام، سكن بغداد، يروي عن حماد ابن زيد وشريك، روى عنه بن أبي شيبة وأهل العراق، مات ببغداد سنة ثمان وثمانين. (1/238) ________________________________________ الثقات (8/ 130). 7 - (أنس بن مالك): ابن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي ابن النجار، الإمام، المفتي، المقرئ، المحدِّث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي البخاري المدني، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، آخر أصحابه موتًا. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمًا جمًّا، وعن أبي بكر وعمر وعثمان، وعنه خلق عظيم، منهم الحسن وابن سيرين والشعبي، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة، مات سنة ثلاث وتسعين، فيكون عمره على هذا مئة وثلاث سنين. سير أعلام النبلاء (3/ 395 - 406). 8 - (إياس بن معاوية). هو إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن رئاب بن عبيد بن سواءة بن سارية بن ذبيان بن ثعلبة بن سليم بن أوس بن مزينة، ويكنى أبا واثلة، وكان ثقة، وكان قاضيًا على البصرة، وله أحاديث، وكان عاقلًا من الرجال، فطنًا. الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 234). 9 - (الخصاف): بشر بن مهران مولى بن هاشم، من أهل البصرة، يروي عن محمَّد بن دينار الطاحي، روى عنه البصريون الغرائب. الثقات (8/ 140). 10 - (الحسن البصري): الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، ولد بالمدينة سنة (21 هـ)، وتوفي بالبصرة سنة (110 هـ)، تابعي، وإمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، شبّ (1/239) ________________________________________ في كنف علي بن أبي طالب، قال الغزالي عنه: كان الحسن البصري أشبه الناس كلامًا بكلام الأنبياء، وله كتاب في فضائل مكة. الأعلام للزركلي (2/ 226). 11 - (البغوي): الشّيخُ، الإمام، القدوة، الحافظ، شيخ الإسلام، أبو محمَّد الحسين بن مسعود بن محمَّد بن الفراء، البغوي، الشافعي، المفسر، صاحب التصانيف كشرح السنة، ومعالم التنزيل، تفقه على شيخ الشافعية القاضي حسين بن محمَّد المروروذي، وكان البغوي يلقب بمحيي السنة، وبركن الدِّيْن، وكان سيدًا، إمامًا، عالمًا، علامة، زاهدًا، وله القدم الراسخ في التفسير، والباع المديد في الفقه، -رحمه الله-، توفي بمرو الروذ -مدينة من مدائن خراسان- في شوال سنة ست عشرة وخمسمئة. سير أعلام النبلاء (19/ 439 - 442). 12 - (الخطابي): الإمام، العلامة، الحافظ، اللغوي، أبو سليمان حمد بن محمَّد بن إبراهيم بن خطاب، البستي، الخطابي، صاحب التصانيف. ولد سنة بضع عشرة وثلاثمئة، وسمع من أبي سعيد بن الأعرابي بمكة، ومن إسماعيل بن محمَّد الصفار، وطبقته ببغداد. أخذ الفقه على مذهب الشافعي عن أبي بكر القفال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة ونظرائهما. حدث عنه أبو عبد الله الحاكم، وهو من أقرانه في السنن والسند، وكان قد رحل في الحديث، وقراءة العلوم، وطوّف، ثمَّ ألف في فنون من العلم، وصنف. من تصانيفه (شرح السنن) وكتابه في (غريب الحديث). توفي الخطابي ببست في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلاثمئة. (1/240) ________________________________________ سير أعلام النبلاء (17/ 23 - 27). 13 - (زكريا الأنصاري): زكريا بن محمَّد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنيكي، المصري، الشافعي، أبو يحيى. قاضٍ مفسر، ومن حفاظ الحديث، ولد في سنيكة مصر، نشأ فقيرًا معدمًا، وعرض عليه أن يكون قاضي القضاة فلم يقبل إلا بعد إلحاح. توفي سنة (926 هـ). ومن أهم مؤلفاته: (فتح الرحمن في التفسير) و (شرح ألفية العراقي في الحديث) و (شرح شذور الذهب في النحو) و (أسنى المطالب في الفقه). الأعلام للزركلي (3/ 46). 14 - (زيد بن أرقم): زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، استصغر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق، وقيل: المريسيع، وغزا مع النبي سبع عشرة غزوة، ثبت ذلك في الصحيح، وله حديث كثير ورواية أيضًا. روى عنه أنس مكاتبة، وأبو الطفيل، وله قصة في نزول سورة المنافقين في الصحيح، وهو الذي سمع عبد الله بن أبي يقول: ليخرجن الأعز منها الأذل، فأخبر رسول الله، فسأل عبد الله، فأنكر، فأنزل الله تصديق زيد. ثبت ذلك في الصحيحين، فقال: إن الله قد صدقك يا زيد. الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 589). 15 - (أبو سعيد الخدري): سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الخزرج الأنصاري، أبو سعيد الخدري، اسْتُصغِرَ يوم أحد، وغزا بعد ذلك اثنتي عشرة غزوة. روى عن النبي، (1/241) ________________________________________ وعن أبيه وأخيه لأمة قتادة بن النعمان. قال الواقدي، وابن نمير، وابن بكير: مات سنة (74)، وقيل: مات سنة (64)، وهو ابن (74) سنة. تهذيب التهذيب (3/ 416). 16 - (عائشة بنت أبي بكر): عائشة بنت عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة بن كعب بن لؤي القرشي، التميمي، أم المؤمنين، وأفقه نساء المسلمين. كانت أدبية وعالمة، كُنيت بأم عبد الله، وكان أكابرُ الصحابة يراجعونها في أمور الدِّيْن. توفيت سنة ثمان وخمسين في ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان. الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 16). 17 - (عبد العزيز بن أبي سلمة): عبد العزيز بن أبي سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن المدني، نزيل بغداد. روى عن أبي أويس، وإبراهيم بن سعد، ومحمد بن عون، مولى أم حكيم، وعنه الصاغاني، وأبو زرعة، وإبراهيم بن الحارث، وأبو بكر أحمد بن علي المروزي. تهذيب التهذيب (6/ 303). 18 - (أبو هريرة): هو عبد الرحمن بن صخر الدّوسي، أسلم عام خيبر سنة سبع للهجرة، وكان أكثر الصحابة رواية للحديث. روى أكثر من (5000) حديث. توفي سنة (58 هـ). الأعلام للزركلي (4/ 80). 19 - (ابن باز): عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عالم بالفقه والحديث، وكان مفتيًا للديار السعودية بعد الشيخ محمد بن إبراهيم، توفي سنة (1420 هـ). (1/242) ________________________________________ 20 - (ابن أبي شيبة): عبد الله بن محمَّد بن أبي شيبة العبسي، مولاهم الكوفي، حافظ للحديث، توفي سنة (235 هـ)، له كتاب: المصنف في الحديث والآثار. الطبقات الكبرى (6/ 413). 21 - (ابن قدامة): الشّيخُ، الإمام، القدوة، العلامة، المجتهد، شيخ الإسلام، موفق الدِّيْن، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، الجماعيلي، ثم الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، صاحب (المغني)، مولده بجماعيل من عمل نابلس سنة إحدى وأربعين وخمسمئة في شعبان. قال ابن النجار: كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، وكان ثقة، حُجَّة، نبيلًا، غزير الفضل، نزيهًا، ورعًا، عابدًا. سير أعلام النبلاء (22/ 165 - 167). 22 - (عبد الله بن عباس): عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله، كان يقال له: الحبر، والبحر، لكثرة علمه. روى عن النبي، وعن أبيه وأمه أم الفضل، وأخيه الفضل، وخالته ميمونة، وأبي بكر وعثمان وعلي. قال أبو نعيم في آخرين: مات سنة ثمان وستين، وصلَّى عليه محمَّد ابن الحنفية، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة، وكان موته بالطائف، وقيل: مات سنة (69)، وقيل: سنة سبعين. تهذيب التهذيب (5/ 242 - 244). 23 - (ابن القطان): هو الإمام، الحافظ، الناقد، الجوال، أبو أحمد، عبد الله بن عدي بن (1/243) ________________________________________ عبد الله بن محمَّد بن مبارك بن القطان الجرجاني، صاحب كتاب (الكامل في الجرح والتعديل)، وهو خمسة أسفار كبار. مولده في سنة سبع وسبعين ومئتين، وأول سماعه كان في سنة تسعين، وارتحاله في سنة سبع وتسعين، فطال عمره، وعلا إسناده، وجرح، وعدل، وصحح، وعلل، وتقدم في هذه الصناعة على لَحْن فيه يظهر في تأليفه، حدث عنه شيخه أبو العباس ابن عقدة، وأبو سعد الماليني. سير أعلام النبلاء (16/ 154). 24 - (عبد الله بن عمر): عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي، العدوي، أبو عبد الرحمن. أسلم قديمًا وهو صغير، وهاجر مع أبيه، شهد الخندق، وبيعة الرضوان، والمشاهد بعدها، روى عن النبي، وعن أبيه، وعمه زيد، وأبي بكر، وعثمان، وعلي. وقال الزبير: هاجر وهو ابن عشر سنين، ومات سنة ثلاث وسبعين، وكذا أرَّخه غير واحد. ومناقبه وفضائله كثيرة جدًا، وأعطي ابن عمر القوة في الجهاد، والعبادة، والمعرفة بالآخرة، والإيثار لها. تهذيب التهذيب (5/ 287 - 288). 25 - (عبد الله بن محمَّد بن عبد الوهاب): عبد الله بن محمَّد بن عبد الوهاب آل شيخ، توفي سنة (1242 هـ)، فقيه حنبلي، ولد ونشأ في الدرعية، وتفقه على أبيه، وبرع في التفسير، والعقائد، وعلوم العربية، واشتهر بالشجاعة، اعتقله إبراهيم باشا، وأرسله إلى مصر، فتوفي بها. ومن أبرز مؤلفاته: (الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة) و (جواب أهل السنة النبوية). (1/244) ________________________________________ الأعلام للزركلي (4/ 131). 26 - (الزيلعي): عبد الله بن يوسف بن محمَّد بن أيوب بن موسى الحنفي، الفقيه، الإمام، الحافظ، جمال الدِّيْن، وتفقه، وبرع، وأدام النظر والاشتغال، وطلب الحديث، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في اليوم الحادي عشر من المحرم الحرام سنة اثنتين وستين وسبعمئة. ذيل تذكرة الحفاظ (1/ 128 - 130). 27 - (ابن الماجشون): العلامة، الفقيه، مفتي المدينة، أبو مروان، عبد الملك بن الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة بن الماجشون التيمي، مولاهم المدني، المالكي، تلميذ، الإمام مالك، حدث عن أبيه، وخاله يوسف بن يعقوب الماجشون، وآخرين، وقال ابن عبد البر: كان فقيهًا، فصيحًا، دارت عليه الفتيا في زمانه، وعلى أبيه قبله، وكان ضريرًا، قيل: إنه عمي في آخر عمره، توفي سنة ثلاث عشرة ومئتين. سير أعلام النبلاء (10/ 359 - 360). 28 - (عطاء بن أبي رباح): عطاء بن أبي رباح واسمه: أسلم القرشي، مولاهم، أبو محمَّد المكي. روى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومعاوية، وأسامة بن زيد، وقال ابن المديني هو مولى حبيبة بنت ميسرة بن أبي خيثم، وقال ابن سعد: كان من مولَّدي الجند، ونشأ بمكة، وهو مولى لبني فهر أو الجمح، وانتهت إليه فتوى أهل مكة وإلى مجاهد في زمانهما، وأكثر ذلك إلى عطاء، وكان ثقة، فقيهًا، عالمًا، كثير الحديث. ولد سنة (27 هـ). توفي سنة (114 هـ). (1/245) ________________________________________ تهذيب التهذيب (7/ 179 - 182). 29 - (الميرغيناني): العلامة، عالم ما وراء النهر، برهان الدِّيْن، أبو الحسن، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني، الحنفي، صاحب كتابي (الهداية) و (البداية في المذهب)، كان في هذا الحين لم تبلغنا أخباره، وكان من أوعية العلم -رحمه الله-، ولد سنة (511 هـ)، وتوفي سنة (593 هـ). سير أعلام النبلاء (21/ 232). 30 - (ابن حزم): أبو محمَّد، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل، ثم الأندلسي القرطبي اليزيدي، مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي - رضي الله عنه -، الوزير الظاهري، صاحب التصانيف، ولد أبو محمد بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، حدَّث عنه أبيه أبو رافع الفضل، وأبو عبد الله الحميدي، القاضي أبي بكر بن العربي، وطائفة، وآخر من روى عنه مروياته بالإجازة، أبو الحسن شريح بن محمَّد، وكان قد مهر أولًا في الأدب، والأخبار، والشعر، وفي المنطق، وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه، وفرط ظاهرية في الفروع لا الأصول، ولد بقرطبة آخر يوم من رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، قال صاعد: ونقلت من خط ابنه أبي رافع أن أباه توفي عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمئة، فكان عمره إحدى وسبعين سنة وأشهرًا، -رحمه الله-. سير أعلام النبلاء (18/ 184 - 211). 31 - (المرداوي): علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، الدمشقي، فقيه حنبلي، ولد في (1/246) ________________________________________ (مردا) قرب نابلس سنة (817 هـ)، وتوفي بدمشق سنة (885 هـ)، أهم مؤلفاته: (الإنصاف) (تحرير المنقول). الأعلام للزركلي (4/ 292). 32 - (السبكي): تقي الدَّيْن علي بن عبد الكافي السبكي، الشافعي، صاحب التصانيف، ولد سنة ثلاث وثمانين وستمئة، وسمع من ابن الصواف، والدمياطي، وبدمشق من أبي جعفر بن الموازيني، والطبقة، وكان جَمَّ الفضائل، حسن الديانة، صادق اللهجة، قوي الذكاء، من أوعية العلم. مات سنة ست وخمسين وسبعمئة. تذكرة الحفاظ (4/ 1500). 33 - (ابن عقيل): علي بن عقيل بن محمَّد بن عقيل البغدادي، الظفري، أبو الوفاء، ويعرف بابن عقيل، عالم العراق، وشيخ الحنابلة، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته، توفي سنة (513 هـ)، وكان له من التصانيف (الفنون) و (الفصول). الأعلام للزركلي (4/ 313). 34 - (عمر بن عبد العزيز): عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، الأموي، أبو حفص المدني، ثم الدمشقي أمير المؤمنين، أمه أم عاصم ابن عمر بن الخطاب، روى عنه أنس، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن جعفر، وغيرهم، ولد سنة (63) وكان ثقة مأمونًا، له فقه، وعلم، وورع، وروى حديثًا كثيرًا، وكان إمام عدل. وقال عمرو بن علي: سمعت عبد الله بن داود يقول: ولد مقتل الحسين سنة (61). وذكر سعيد بن عفير أنه كان أسمر، دقيق الوجه، نحيف الجسم، حسن اللحية، مات في رجب سنة إحدى ومئة. (1/247) ________________________________________ تهذيب التهذيب (7/ 418 - 419). 35 - (أبو إسحاق السبيعي): عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد، وقيل: عمرو بن عبد الله بن علي الهمداني، الكوفي، الحافظ، شيخ الكوفة، وعالمها، ومحدثها، وهو من ذرية سبيع بن صعب بن معاوية بن كثير بن مالك بن همدان، وكان -رحمه الله- من العلماء العاملين، ومن جلّة التابعين، قال: ولدت لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأيت علي أبي طالب يخطب، وروى عن معاوية، وعدي بن حاتم، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وخلق كثير من كبراء التابعين، تفرد بالأخذ عن عدة منهم، حدّث عنه محمَّد بن سيرين، وهو من شيوخه، والزهري، وقتادة. وهو ثقة حُجَّة بلا نزاع، وقد كبر وتغيّر حفظه، تغير السنن ولم يختلط، توفي أبو إسحاق في سنة سبع وعشرين ومئة. سير أعلام النبلاء (5/ 392). 36 - (أبو عبيدة): القاسم بن سلام الهروي الأزدي، الخزاعي بالولاء، الخراساني، البغدادي، من كبار العلماء بالحديث، والأدب، والفقه. ولد في هراة سنة (157 هـ) وتوفي بمكة سنة (224 هـ)، قال الجاحظ عنه: "لم يكتب الناسُ أصحّ مما كتبه، ولا أكثر فائدة". من مؤلفاته (الغريب المصنف) في غريب الحديث، و (الطهور) في الحديث، و (الأمثال). الأعلام للزركلي (5/ 176). 37 - (قتادة): هو قتادة بن دعامة بن قتادة، مفسر حافظ، قال عنه أحمد: "قتادة أحفظُ (1/248) ________________________________________ أهل البصرة"، توفي بواسط بالطاعون سنة (118 هـ)، وكان عالمًا بالحديث والعربية، وكان يرى القدر، وقد يدلِّس في الحديث. الأعلام للزركلي (5/ 189). 38 - (محمَّد بن إبراهيم): هو الشيخ محمَّد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل شيخ، ولد في الرياض عام (1311 هـ). أخذ بأسباب العلم والمعرفة من صغره، كُفَّ بصره في السادسة عشرة من عمره. تعلَّم الفرائض، والعقائد، والعربية، واشتغل بالتدريس، عمل مفتيًا للديار السعودية، وتولى رئاسة مجلس القضاء. توفي عام (1398 هـ). فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 9). 39 - (ابن القيم): محمَّد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، أبو عبد الله، شمس الدِّيْن، ولد في دمشق سنة (691 هـ) وتوفي فيها (751 هـ) أحد كبار العلماء، وتلميذ عند شيخ الإسلام ابن تيمية، وسُجن معه في قلعة دمشق. ومن أبرز مؤلفاته: (إعلام الموقعين)، و (الطرق الحكمية)، و (تحفة المودود)، و (الروح). الأعلام للزركلي (6/ 56). 40 - (الأزهري): محمَّد بن أحمد بن الأزهر الهروي، أبو منصور، ولد في هراة بخراسان سنة (282 هـ) وتوفي فيها سنة (370 هـ)، وهو أحد الأئمة في اللغة والأدب، وعني بالفقه، اشتهر به أولًا، ثم غلب عليه التبحر في العربية. ومن أبرز مؤلفاته: (تهذيب اللغة)، و (تفسير القرآن)، و (غريب الألفاظ التي استعملها الفقهاء). (1/249) ________________________________________ الأعلام للزركلي (5/ 311). 41 - (الرملي): محمَّد بن أحمد بن حمزة، شمس الدِّيْن، الرملي، فقيه الديار المصرية في عصره، ومرجعها في الفتوى، يقال له: الشافعي الصغير، ولد سنة (919 هـ) في القاهرة، وتوفي فيها سنة (1004 هـ)، ومن أبرز مؤلفاته: (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج)، و (عمدة الرابح)، و (غاية البيان). الأعلام للزركلي (6/ 7). 42 - (ابن رشد القرطبي): محمَّد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد، قاضي الجماعة بقرطبة، ولد في قرطبة سنة (450 هـ) وتوفي فيها سنة (520 هـ)، من علماء المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف، ومن أبرز مؤلفاته: (البيان والتحصيل)، و (مختصر شرح معاني الآثار للطحاوي). الأعلام للزركلي (5/ 316). 43 - (السرخسي): محمَّد بن أحمد بن سهل، أبو بكر، شمس الأئمة. توفي سنة (483 هـ)، وهو قاضٍ من كبار الأحناف، مجتهد، من أهل سرخس في خراسان. ومن أبرز مؤلفاته: (المبسوط)، و (النكت)، و (شرح مختصر الطحاوي). الأعلام للزركلي (5/ 315). 44 - (الذهبي): إمام المحدثين، مؤرخ الإسلام، شمس الدِّيْن أبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، ولد في دمشق سنة (673 هـ) وتوفي فيها سنة (48 هـ)، حافظ، مؤرِّخ، علامة، محقق، تركماني الأصل، رحل إلى القاهرة، (1/250) ________________________________________ وطاف كثيرًا من البلدان. ومن أبرز مؤلفاته: (ميزان الاعتدال)، و (تذكرة الحفاظ)، و (تاريخ الإسلام الكبير). الأعلام للزركلي (5/ 326). 45 - (الدسوقي): محمَّد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، المالكي، من أهل دسوق بمصر، توفي سنة (1230 هـ)، وكان من المدرِّسين في الأزهر، ومن أبرز مؤلفاته: (الحدود الفقهية)، و (حاشية على الشرح الكبير على مختصر خليل). الأعلام للزركلي (6/ 17). 46 - (الصنعاني): محمَّد بن إسماعيل بن صلاح بن محمَّد الحسين الكحلاني، ثم الصنعاني. ولد في (1099 هـ) وتوفي سنة (1182 هـ)، مجتهد، من بيت الإمامة في اليمن. أصيب بمحن كثيرة من الجهلاء والعوام، وله حوالي مئة مؤلف، أبرزها (توضيح الأفكار في المصطلح)، و (سبل السلام). الأعلام للزركلي (6/ 38). 47 - (محمد بن الحسن): محمَّد بن الحسن بن فرقد الشيباني، مولاهم الفقيه، أبو عبد الله، أحد الفقهاء، يروي عن مالك بن أنس، وغيره، وكان من بحور العلم والفقه، ولد بواسط ونشأ بالكوفة، وتفقه على أبي حنيفة -رحمه الله-، وسمع الحديث من الثوري، ومسعر، والأوزاعي، وجماعة. وعنه: الشافعي، وأبو سليمان الجوزجاني، وأبو عبيد بن سلام، وغيرهم. ولي القضاء أيام الرشيد. ولد سنة اثنتين وثلاثين ومئة. لسان الميزان (5/ 121). 48 - (محمد بن سيرين): الإمام، شيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، الأنسي، البصري، مولى (1/251) ________________________________________ أنس بن مالك، خادم رسول الله. تملكه أنس، ثم كاتبه على ألوف من المال، فوفاه، وعجل له مال الكتابة. قال أنس بن سيرين: ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافه عمر، وولدت بعده بسنة قابلة، سمع أبا هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وأنس بن مالك، وخلقًا سِواهم. روى عن قتادة، وأيوب، ويونس بن عبيد، وابن عون. كان ابن سيرين حَسَنَ العلم بالفرائض، والقضاء، والحساب. وكان ابن سيرين فقيهًا، عالمًا، ورعًا، أديبًا، كثير الحديث، صدوقًا شهد له أهل العلم والفضل بذلك، وهو حُجَّة! مات ابن سيرين لتسع مضين من شوال سنة عشر ومئة. سير أعلام النبلاء (4/ 606 - 621). 49 - (الزركشي): محمَّد بن عبد الله الزركشي، أبو عبد الله، بدر الدِّيْن. ولد بمصر سنة (745 هـ) وتوفي سنة (794 هـ)، عالم بفقه الشافعية والأصول، تركي الأصل، ومن أبرز مؤلفاته: (البحر المحيط)، و (المنثور)، و (ربيع الغزلان). الأعلام للزركلي (6/ 183). 50 - (ابن الهمام): محمَّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي، ثم الإسكندري، كمال الدِّيْن، المعروف بابن الهمام، توفي بالقاهرة سنة (861 هـ). إمام من علماء الحنفية، عارف بأصول الديانات، والتفسير، والفرائض، والفقه، والحساب، واللغة. وكان معظمًا عند الملوك، ومن أبرز مؤلفاته: (شرح فتح القدير). الأعلام للزركلي (6/ 255). 51 - (ابن منظور): هو محمَّد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، الإمام اللغوي، الحُجَّة، ولد (1/252) ________________________________________ بمصر، وقيل: في طرابلس، وتولى القضاء في طرابلس، توفي سنة (711 هـ). من أهم مؤلفاته: (لسان العرب)، و (نثار الأزهار). الأعلام للزركلي (7/ 108). 52 - (البهوتي): منصور بن يونس بن صلاح الدِّيْن بن إدريس البهوتي، الحنبلي، شيخ الحنابلة بمصر في عصره، نسبته إلى بهوت بمصر، توفي سنة (1051 هـ)، ومن أهم مؤلفاته: (الروض المربع شرح زاد المقنع)، (كشاف القناع على متن الإقناع). الأعلام للزركلي (7/ 307). 53 - (النووي): يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي، الحوراني، النووي، الشافعي، أبو زكريا، محيي الدَّيْن، ولد سنة (631 هـ) في نوى من قرى حوران بسورية، وتوفي سنة (676 هـ). وهو علامة بالفقه والحديث، ومن أبرز مؤلفاته: (منهاج الطالبين)، و (شرح المهذب)، و (روضة الطالبين)، و (رياض الصالحين). الأعلام للزركلي (8/ 149). 54 - (أبو يوسف): يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، الكوفي، البغدادي، ولد بالكوفة سنة (113 هـ) وتوفي ببغداد سنة (182 هـ). صاحب أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه، وكان من حفاظ الحديث، وقد وُلِّي القضاء ببغداد أيام المهدي، والهادي، والرشيد، ويقال له: قاضي قضاة الدنيا. ومن أبرز مؤلفاته: (الخراج)، و (أدب القاضي)، و (اختلاف الأمصار). الأعلام للزركلي (8/ 193). (1/253) ________________________________________ فهرس المراجع والمصادر مرتبة حسب حروف المعجم (أ) 1 - (أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه وفقهه) محمَّد أبو زهرة، القاهرة: دار الفكر العربي. 2 - (الإسلام ومعضلات الاقتصاد) أبو علي المودودي بيروت، مؤسّسة الرسالة 1401 هـ-1981 م. 3 - (أحكام التَّورُّق وتطبيقاته المصرفية) محمَّد تقي العثماني. بحث مقدم للدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 19 - 20/ 10/ 1424 هـ. رابطة العالم الإسلامي. 4 - (أسنى المطالب شرح روض الطالب) أبو يحيى زكريا الأنصاري. القاهرة: دار الكتاب الإسلامي. وبهامشه: حاشية الشيخ أبي العباس الرملي. 5 - (الإصابه في تمييز الصحابه) ابن حجر العسقلاني. الطبعة الأولى، بيروت، دار الجيل 1992،-1312 تحقيق: علي البجاوي. 6 - (الأعلام) خير الدِّيْن الزركلي. الطبعة الثانية عشرة، بيروت، دار العلم للملايين، 1997 م. 7 - (إعلام الموقعين) ابن القيم، محمَّد بن أبي بكر الدمشقي، بيروت، دار الجيل، 1973 م. تحقيق: طه عبد الرؤوف. 8 - (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان) ابن القيم، محمَّد بن أبي بكر الدمشقي. الطبعة الأولى. بيروت: المكتب الإِسلامي، 1407 هـ -1987 م. 9 - (الاقتصاد الإسلامي) حسن سري. الطبعة الأولى 1411 هـ-1991 م. (1/254) ________________________________________ 10 - (الأم) محمَّد بن إدريس الشافعي. الطبعة الثانية. بيروت، دار المعرفة، 1393 هـ. 11 - (الإنصاف) علي بن سليمان المرداوي، بيروت، دار إحياء التراث. تحقيق: محمد الفقي. (ب) 12 - (البحر الرائق) زين الدِّيْن بن نجيم الحنفي. الطبعة الثانية. بيروت، دار المعرفة. 13 - (بدائع الصنائع) علاء الدِّيْن الكاساني. الطبعة الثانية. بيروت، دار الكتاب العربي، 1982 م. 14 - (بداية المجتهد) محمَّد بن أحمد بن رشد. بيروت، دار الفكر. 15 - (بلوغ المرام) أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني. بيروت، دار الكتاب العربي. 16 - (البناية شرح الهداية) محمود العيني. الطبعة الثانية. بيروت، دار الفكر، 1411 هـ -1990 م. 17 - البنوك الإسلامية: غايتها، واقعها، والصعوبات التي تواجهها) أحمد علي عبد الله. بحث مقدم لندوة البركة الرابعة والعشرين 29، شعبان- 2 رمضان/ 1424 هـ. 18 - (البيان والتحصيل) محمَّد بن أحمد بن رشد. الطبعة الثانية. بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1408 هـ -1988 م. (ت) 19 - (التاج والإكليل) محمَّد بن يوسف العبدري. الطبعة الثانية. بيروت، دار الفكر، 1398 هـ. 20 - (تجربة البنوك التجارية السعودية في بيع المرابحة للآمر بالشراء) عبد الرحمن الحامد. الطبعة الأولى. الرياض، دار بلنسية، 1424 هـ. (1/255) ________________________________________ 21 - (تذكرة الحفاظ) محمَّد بن طاهر القيسراني. الطبعة الأولى. الرياض، دار الصميعي، 1415 هـ. تحقيق: حمدي السلفي. 22 - (تطبيقات التَّورُّق واستخداماته في العمل المصرفي الإسلامي) موسى آدم عيسى. بحث مقدم إلى مؤتمر دور المؤسَّسات المصرفية الإسلامية، جامعة الشارقة. 23 - (التطبيقات المصرفية لعقد التَّورُّق) أحمد محيي الدِّيْن أحمد. بحث مقدم إلى مؤتمر دور المؤسَّسات المصرفية الإسلامية. جامعة الشارقة. 24 - (تعليق على بحوث التَّورُّق). حسين حامد حسان. 25 - (تفسير ابن كثير) إسماعيل بن عمر بن كثير. بيروت، دار الفكر، 1401 هـ. 26 - (تفسير آيات الرِّبا) سيد قطب. بيروت، دار الشروق، 1408 هـ -1987 م. 27 - (تفسير الطبري) محمَّد بن جرير الطبري. بيروت، دار الفكر، 1405 هـ. 28 - (التكافؤ الاقتصادي بين الرِّبا والتَّورُّق) سامي السويلم. بحث مقدم لندوة البركة الرابعة والعشرين 29 شعبان - 2 رمضان/ 1424 هـ. 29 - (تكلمة المجموع شرح المهذب) علي بن عبد الكافي السبكي. الطبعة الأولى. بيروت، دار الكتب العلمية، 1423 هـ-2002 م. 30 - (التهذيب) الحسين بن مسعود بن الفراء البغوي. الطبعة الأولى. بيروت، دار الكتب العلمية، 1418 هـ-1988 م. تحقيق الشيخ عادل عبد الموجود. 31 - (تهذيب التهذيب) أحمد بن حجر العسقلاني. الطبعة الأولى. بيروت، دار الفكر، 1404 هـ -1984 م. 32 - (تهذيب السنن) ابن القيم، محمَّد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي. الطبعة الثانية. باكستان: المكتبة الأثرية، 1399 هـ. 33 - (تهذيب اللغة) محمَّد بن أحمد الأزهري. الدار المصرية للتأليف والترجمة. تحقيق: عبد الحليم النجار ومحمد النجار. (1/256) ________________________________________ 34 - (التَّورُّق) محمَّد المختار السلامي. بحث مقدم لندوة البركة الرابعة والعشرين 29 شعبان- 2 رمضان/ 1424 هـ. 35 - (التَّورُّق كما تجريه المصارف -دراسة فقهية اقتصادية) محمَّد العلي القريّ. بحث مقدم للدورة السابعة عشر للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 19 - 20/ 10/ 1424 هـ، رابطة العالم الإسلامي. 36 - (التَّورُّق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر) عبد الله السعيدي. بحث مقدم للدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 19 - 20/ 10/ 1424 هـ. رابطة العالم الإسلامي. 37 - (التَّورُّق المنظم- قراءة نقدية) سامي السويلم. بحث مقدم إلى مؤتمر دور المؤسَّسات المصرفية الإسلامية. جامعة الشارقة. 38 - (التَّورُّق والتَّورُّق المنظم). سامي السويلم. بحث مقدم للدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 19 - 20/ 10/ 1424 هـ. رابطة العالم الإسلامي. (ث) 39 - (الثقات) محمَّد بن حبَّان، أبو حاتم البستي. الطبعة الأولى. بيروت، دار الفكر، 1395 هـ -1975 م. تحقيق: السيد شرف الدِّيْن أحمد. (ج) 40 - (الجرح والتعديل) عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي. الطبعة الأولى. بيروت، دار الكتب العلمية، 1371 هـ -1952 م. (ح) 41 - حاشية ابن عابدين (حاشية رد المحتار على الدر المختار) محمَّد بن أمين بن عابدين. بيروت، دار الفكر، 1421 هـ. 42 - (حاشية الدسوقي) محمَّد عرفة الدسوقي. بيروت، دار الفكر. تحقيق: محمد عليش. (1/257) ________________________________________ 43 - (حكم التَّورُّق في الفقه الإسلامي) علي محيي الدِّيْن القره داغي. بحث مقدم إلى مؤتمر دور المؤسَّسات المصرفية الإسلامية. جامعة الشارقة. 44 - (حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإسلامية في الوقت الحاضر) عبد الله المنيع. بحث مقدم للدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 19 - 20/ 10/ 1424 هـ. رابطة العالم الإسلامي. 45 - (حكم التَّورُّق كما تجريه المصارف الإِسلامية في الوقت الحاضر) الصديق محمَّد الأمين الضرير. بحث مقدم للدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإِسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 19 - 20/ 10/ 1424 هـ. رابطة العالم الإِسلامي. (د) 46 - (دور الموسَّسات المصرفية الإِسلامية في التنمية الاقتصادية) نزيه حماد. (ذ) 47 - (ذيل تذكرة الحفاظ) محمَّد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي. القاهرة: مطبعة المدني. تحقيق: محمَّد غازي. (ر) 48 - (رسائل فقهية) محمَّد بن صالح بن عثيمين. الطبعة الثانية. الرياض: دار طيبة، 1406 هـ-1986 م. 49 - (روضة الطالبين). يحيى بن شرف النووي. الطبعة الثانية. بيروت: المكتب الإسلامي، 1405 هـ. (س) 50 - (سبل السلام شرح بلوغ المرام) محمَّد بن إسماعيل الصنعاني. الطبعة السادسة. بيروت، دار الكتاب العربي، 1412 هـ -1991 م. 51 - (سنن أبي داود) سليمان بن الأشعث السجستاني. بيروت، دار الفكر. (1/258) ________________________________________ 52 - (سنن ابن ماجه) محمَّد بن يزيد القزويني. بيروت، دار الفكر. تحقيق: محمَّد عبد الباقي. 53 - (سنن البيهقي) أحمد بن الحسين البيهقي. مكة المكرمة: مكتبة دار الباز، 1414 هـ-1994 م. تحقيق: محمَّد عطا. 54 - (سنن الترمذي) محمَّد بن عيسى الترمذي بيروت، دار إحياء التراث، تحقيق: أحمد شاكر. 55 - (سنن الدارقطني) علي بن عمر الدارقطني. بيروت، دار المعرفة، 1386 هـ -1966 م. تحقيق: عبد الله المدني. 56 - (سنن النسائي) أحمد بن شعيب النسائي. الطبعة الثانية. حلب: مكتب المطبوعات، 1406 هـ-1986 م. تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة. 57 - (سير أعلام النبلاء) محمَّد بن أحمد الذهبي. الطبعة التاسعة. بيروت: مؤسّسة الرسالة، 1413 هـ. تحقيق: شعيب الأرناؤوط. (ش) 58 - (شرح تنقيح الفصول) أحمد بن إدريس القرافيّ. بيروت، دار الفكر، 1393 هـ -1973 م. تحقيق: طه عبد الرؤوف. 59 - (الشرح الصغير علي أقرب المسالك) أحمد بن محمَّد الدردير. القاهرة: دار المعارف. بهامش أحمد الصاوي. 60 - (الشرح الكبير). أحمد بن محمَّد الدردير. بيروت، دار الفكر: تحقيق: محمد عليش. 61 - (شرح مختصر خليل) محمَّد الخرشي. بيروت، دار صادر. وبهامشه حاشية الشيخ علي العدوي. 62 - (شرح منتهى الإرادات) منصور البهوتي. الطبعة الثانية. بيروت: عالم الكتب، 1196 م. (1/259) ________________________________________ 63 - (شرح النووي علي صحيح مسلم) يحيى بن شرف النووي. الطبعة الثانية. بيروت، دار إحياء التراث، 1392 هـ. (ص). 64 - (صحيح البخاري) محمَّد بن إسماعيل البخاري. الطبعة الثانية. بيروت، دار ابن كثير، 1407 هـ-1987 م. تحقيق: مصطفى ديب. 65 - (صحيح مسلم) مسلم بن الحجاج النيسابوي. بيروت، دار إحياء التراث. تحقيق: محمَّد عبد الباقي. (ط) 66 - (الطبقات الكبرى) محمَّد بن سعد الزهري. بيروت، دار صادر. (ع) 67 - (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) لجلال الدِّيْن بن شاس. الطبعة الأولى. بيروت، دار الغرب الإِسلامي، 1423 هـ -2003 م. 68 - (العِيْنَة والتَّورُّق، والتَّورُّق المصرفي) علي السَّالوس. بحث مقدم للدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 19 - 20/ 10/ 1424 هـ. رابطة العالم الإِسلامي. (ف) 69 - (الفتاوى الكبرى) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. بيروت، دار المعرفة. 70 - (فتاوى ورسائل) محمَّد بن إبراهيم آل شيخ. الطبعة الثانية. جمع وترتيب: محمَّد بن عبد الرحمن بن قاسم. 71 - (فتح الباري شرح صحيح البخاري) أحمد بن حجر العسقلاني. بيروت، دار المعرفة. تحقيق: محب الدِّيْن الخطيب. 72 - (فتح القدير علي الهداية). كمال الدِّيْن محمَّد بن الهمام. بيروت، دار الفكر. (1/260) ________________________________________ 73 - (الفروع) محمَّد بن مفلح المقدسي. الطبعة الأولى. بيروت، دار الكتب العلمية، 1418 هـ. 74 - (الفروق) أحمد بن إدريس القرافيّ. الطبعة الأولى. القاهرة: دار السلام للطباعة، 1421 هـ -2001 م. تحقيق: محمَّد سراج. 75 - (فيض القدير) عبد الرؤوف المناوي. الطبعة الأولى. مصر: المكتبة التجارية 1356 هـ. (ق) 76 - قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة. الدورات: من الأولي إلى السادسة عشرة. القرارات: من الأول إلى الخامس والتسعين (1398 - 1422 هـ). (ك) 77 - (كتاب الخصاف في الحِيَل) أبو بكر الخصاف. القاهرة: المكتبة الأهلية، 1314 هـ. 78 - (كشاف القناع) منصور بن يونس البهوتي. بيروت، دار الفكر 1402، هـ. تحقيق: هلال المصيلحي. (ل) 79 - (لسان العرب) محمَّد بن مكرم بن منظور. الطبعة الأولى. بيروت، دار صادر. 80 - (لسان الميزان) أحمد بن علي بن حجر. الطبعة الثالثة. بيروت: مؤسّسة الأعظمي، 1406 هـ -1986 م. تحقيق: دائرة المعارف النظامية. الهند. (م) 81 - (مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي وبعض تطبيقاته) سعاد إبراهيم صالح. الطبعة الأولى. الرياض: دار عالم الكتب، 1417 هـ -1997 م. 82 - (المبسوط) محمَّد بن أبي سهل السرخسي. بيروت، دار المعرفة. (1/261) ________________________________________ 83 - (مجلة الاقتصاد الإسلامي) العدد، 274 محرم، 1425 هـ. 84 - (مجلة البحوث الإسلامية) العدد السابع 1403 هـ، الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. 85 - (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) عبد العزيز بن عبد الله بن باز. الطبعة الثانية. الرياض: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء. ترتيب محمَّد الشويعر. 86 - (مجموع فتاوى ابن تيمية) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. الطبعة الثانية. مكتبة ابن تيمية. تحقيق: عبد الرحمن بن قاسم النجدي. 87 - (المحلى) علي بن أحمد بن حزم. بيروت، دار الآفاق الجديدة. 88 - (المخالفات الشرعية في بطاقتي الخير والتيسير الائتمانية) خالد الدعيجي، 6/ 9/ 1424 هـ. 89 - (مختار الصحاح) محمَّد بن أبي بكر الرازي. بيروت: مكتبة لبنان، 1415 هـ، تحقيق: محمود خاطر. 90 - (مسند الإمام أحمد) أحمد بن حنبل الشيباني. مصر: مؤسّسة قرطبة. 91 - (المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق) عبد الرازق الهيتي. الطبعة الأولى. عمان: دار أسامة للنشر، 1998 م. 92 - (مصنف ابن أبي شيبة) عبد الله بن محمَّد بن أبي شيبة الكوفى. الطبعة الأولى. الرياض: مكتبة الرشد 1409 هـ. تحقيق: كمال يوسف. 93 - (مصنف عبد الرزاق) عبد الرزاق بن همام الصنعاني. الطبعة الثانية. بيروت: المكتب الإسلامي، 1403 هـ. تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. 94 - (معالم السنن) حمد بن محمد الخطابي. الطبعة الثانية. بيروت: المكتبة العلمية، 1401 هـ - 1981 م. 95 - (المعاملات المالية المعاصرة في ضوء الفقه والشَّريعة) محمَّد رواس قلعة جي. الطبعة الأولى. بيروت، دار النفائس، 1420 هـ-1999 م. (1/262) ________________________________________ 96 - (معجم مقاييس اللغة) أحمد بن فارس بن زكريا، بيروت، دار الجيل، تحقيق: عبد السلام هارون. 97 - (المعجم الوسيط) مجمع اللغة العربية، الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث. الطبعة الأولى. إسطنبول: المكتبة الإسلامية، 1392 هـ -1972 م. 98 - (المغني) عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي. الطبعة الأولى. بيروت، دار الفكر، 1405 هـ. 99 - (المقدمات الممهدات) محمَّد بن أحمد بن رشد. الطبعة الأولى. بيروت، دار صادر. 100 - (المنتقى من أخبار المصطفى) عبد السلام بن تيمية الحراني، الطبعة الثانية. بيروت، دار المعرفة، 1398 هـ 1978/ م. تحقيق: محمَّد حامد الفقي. 101 - (المنثور) محمَّد بن بهادر الزركشي. الطبعة الثانية. الكويت: وزارة الأوقاف، 1405 هـ تحقيق: تيسير فائق. 102 - (المنشورات التعريفية لبرامج التَّورُّق المصرفي في التابعة للبنوك) مثل: أ - المنشورة التعريفية لبرنامج (تورق اليسر) التابع للبنك السعودي الهولندي. ب- المنشورة التعريفية لبرنامج (تورق تيسير الأهلي) التابع للبنك الأهلي التجاري. ج - المنشورة التعريفية لبرنامج (التَّورُّق) التابع للبنك السعودي الفرنسي. د - المنشورة التعريفية لبطاقة (تيسير الأهلي) التابعة للبنك الأهلي التجاري. (1/263) ________________________________________ هـ- المنشورة التعريفية لبطاقة (الخير الائتمانية) التابعة للبنك السعودي الأمريكي. و- المنشورة التعريفية لبرنامج (وطني) لتقسيط الأسهم التابع لبنك الراجحي. 103 - (الموافقات) إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي. بيروت، دار المعرفة، تحقيق: عبد الله دراز. 104 - (مواهب الجليل) محمَّد بن عبد الرحمن المغربي. الطبعة الثانية. بيروت، دار الفكر، 1398 هـ. 105 - (الموسوعة الفقهية) الطبعة الثانية، الكويت: طباعة ذات السلاسل، 1408 هـ -1988 م. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. (ن) 106 - (نصب الراية) عبد الله بن يوسف الزيلعي. مصر: دار الحديث، 1357 هـ، تحقيق: محمَّد يوسف البنوري. 107 - (النهاية في غريب الأثر) أبو السعادات ابن محمَّد الجزري. بيروت: المكتبة العلمية، 1399. تحقيق: طاهر الزاوي- محمود الطناجي. 108 - (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج) شمس الدِّيْن محمَّد بن أحمد الرملي. بيروت، دار الكتب العلمية، 1414 هـ-1993 م. 109 - (نيل الأوطار) محمَّد بن علي الشوكاني. بيروت، دار الجيل، 1973 م. (هـ) 110 - (الهداية شرح بداية المبتدى) أبو الحسن علي بن أبي بكر الميرغيناني، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. (1/264) ________________________________________ http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة المصدر: ملتقى شذرات
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201) |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية (Tags) |
المَصْرَفِيُّ, التَّوَرُّقُ, الكتاب: |
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع الكتاب: التَّوَرُّقُ المَصْرَفِيُّ | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
الكتاب: آفات اللسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة | Eng.Jordan | كتب ومراجع إلكترونية | 0 | 12-10-2020 09:53 AM |
اشتر/ي ..لابناءك هذا الكتاب | صابرة | البيت السعيد | 0 | 05-02-2015 06:33 AM |
زمن الكتاب .. | انا !! | نثار الحرف | 0 | 02-27-2014 04:04 PM |
اعجاز الكتاب في وصف ثقل السحاب | ام زهرة | بحوث ودراسات منوعة | 0 | 12-17-2013 04:39 PM |
العلماء في الكتاب | ام زهرة | بحوث ودراسات منوعة | 0 | 11-27-2013 03:15 PM |