#1  
قديم 11-01-2014, 09:17 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة الصبر.. نظرة عقدية إيمانية


الصبر.. نظرة عقدية إيمانية
ــــــــــــــ

(رمضان الغنام)
ــــــــ

8 / 1 / 1436 هــ
1 / 11 / 2014 م
ــــــــــ

الصبر.. 3961.jpg


*ـ يتلازم الصبر والإيمان، ويسيران جنباً إلى جنب، ولذا قرنها المولى عز وجل في أكثر من آية من آي الذكر الحكيم، وحث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على بلوغ درجاتهما، ففي القرآن الكريم لا تجد صابراً إلا مؤمناً، ولا جزعاً إلا حائداً عن الطريق المستقيم، ودرب المخلصين، شارداً في تيهٍ من الجزع والعجلة والسخط من قدر الله وقضائه..

يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره في معرض حديثه عن الصبر: "أما الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار، وهذا يدل على عظم أمره، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق؛ إذ لابد للداعي إلى الحق منه.. "(1).

ويضيف رضا: "وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة، أو تأييد فضيلة، أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم; لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل من الناس بالمقاومة والمحادة; التي يعوز فيها الصبر، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره، ومصارعة الشدائد، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر"(2).

والصبر معنى إيماني دقيق لا يبلغ درجاته العليا إلا الصادقون من الأولياء والصالحين، وهو كبح للنفس عن الجزع، فهو كما يقول ابن القيم رحمه الله: "حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره"(3)، وذلك كما يقول الجرجاني: بـ"ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله"(4).

والصبر كما يقول ابن القيم "نوعان: نوع على المقدور؛ كالمصائب، ونوع على المشروع، وهذا النوع أيضا نوعان: صبر على الأوامر، وصبر عن النواهي، فذاك صبر على الإرادة والفعل، وهذا صبر عن الإرادة والفعل، فأما النوع الأول من الصبر فمشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر، لا يثاب عليه لمجرده، إن لم يقترن به إيمان واختيار.. فالصبر بدون الإيمان والتقوى بمنزلة قوة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى، وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور.."(5).

والصابرون أهل الله وخاصته، وأكثر الناس كسباً للثواب من غيرهم، بل إن ثواب الصبر لا حد له، حيث يوفى الصابر أجره، وفوق أجره أضعافاً مضاعفه، إلى ما يشاء ربنا، يقول الله تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(6)، بل ذهب عدد من المفسرين إلى تفسير هذه الآية مذهباً آخراً، فقالوا: إن المراد أن الصابرين يوفون أُجورهم، ولا يحاسبون على أعمالهم، مكافئة لهم على صبرهم، ورضاهم بأقدار الله- والتفسير الأول هو ما عليه جمهور المفسرين-.

والصبر عن المعصية من مستلزمات النصر لدين الله والتمكين في الأرض لعبادة، يقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(7)، " فهذه السورة استثنت من الخسران أهل الإيمان، والعمل الصالح، المتواصين بالحق والصبر، وهي شروط تمكينية بالدرجة الأولى، كما أن الخسران المشار إليه في السورة خسران عام، في الدنيا والآخرة، إذ ليس في السورة ما يستدعي تخصيص هذا الخسران بالآخرة، كما ذهب بعض المفسرين لها، بل هو خسران عام في الدنيا والآخرة، كما أن الفلاح فلاح عام لأهل الإيمان، فهو تمكين في الدنيا، وفلاح وفوز في الآخرة"(8).

و"التواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب والحق الذي يستحب، والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب، والصبر الذي يستحب، فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسرهأولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به، وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، فمطلق الخسار شيء، والخسار المطلق شيء، وهو سبحانه إنما قال (إن الإنسان لفي خسر)، ومن ربح في سلعة وخسر في غيرها قد يطلق عليه أنه في خسر وأنه ذو خسر"(9).

وبغياب الصبر لا يُنال مقام الإمامة في الدين، فالله تعالى اشترط لأئمة الدين بلوغهم مبلغاً من الصبر واليقين، يقول تعالى: (وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(10)، يقول ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذه الآية، ومنزلةِ الإمامة:"أخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم، إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإن الداعي إلى الله تعالى لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه، وبصيرته به، وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله، باحتمال مشاق الدعوة، وكف النفس عما يوهن عزمه، ويضعف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى"(11).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قبل ذلك: "ولهذا كان الصبر واليقين اللذان هما أصل التوكل يوجبان الإمامة في الدين"(12)، وقال في موضع آخر: "الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين"(13).

وهنا لطيفة وهي أنه لا صبر بغير يقين ولا يقين بغير صبر، فمن صبر رزقه الله اليقين، ومن فقد الصبر مُنِع عنه اليقين، يقول ابن القيم في معرض تفسيره لقوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون)(14)، قال رحمه الله: "فأمره بأن يصبر، ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم، فإنهم لعدم صبرهم خفوا واستخفوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين الحق لصبروا وما خفوا ولا استخفوا، فمن قل يقينه قل صبره، ومن قل صبره خف واستخف، فالمؤمن الصابر رزين لأنه ذو لب وعقل، ومن لا يقين له ولا صبر عنده خفيف طائش، يلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف والله المستعان"(15).

والصبر فيه توكل على الله عز وجل، وفيه رضا بما قسمه سبحانه لعبادة واختاره لهم، وتسليم بقضائه المكتوب ما كان وما لم يكن بعد، فلا تجد صابراً بحق إلا متوكلا على خالقه، فالصبر منحة ونعمة من الله، ولا ينبغي منحها إلا للمتوكلين على خالقهم الراضين به، فهو منزلة عظيمة من منازل رضا الرب على العبد، فالله يبتلي عبادة المخلصين، ثم ينعم عليهم بعزائم الصبر والمصابرة.

والصبر قرين التقوى والإيمان، يقول المولى عز وجل: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(16)، وقال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله عجب، لا يقضي الله لمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له،وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)(17). وهو أمر إلهي أوجبه الله على أهل الإيمان في أكثر من أية من كتابه قال تعالى: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(18)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(19)، والآيات في ذلك كثيرة.

والصبر ضمانة لبقاء العبد في معية الله عز وجل، يقول الله تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(20)، فالصبر من موجبات معية الله عز وجل، فالله في عون الصابرين يمنحهم القوة والمنعة والثبات والنصرة، وهو ناصرهم مهما طال بهم الأمد، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

وبغير الصبر يُنغص العيش، وتعظم البلوى والمصاب، ويعجز الإنسان عن حمل أمانة الدين، ويضيق ذرعا بالحياة، لذا ورد الحث على الصبر في آيات عديدة في كتاب ربنا وتواترت الأحاديث على ذلك في سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم.

يقول سيد قطب رحمه الله: "يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً ذلك أن اللّه سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع والذي يقتضيه القيام على دعوة اللّه في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج .."(21).

فبسلاح الصبر يواجه الإنسان أمواج الفتن ونوازع النفس ووساوس الشيطان يقول السعدي رحمه الله: "فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر، أن يدرك مطلوبه، خصوصاً الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار، إلى تحمل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها، لم يدرك شيئا، وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها، فإنها من الفتن الكبار، وكذلك البلاء الشاق، خصوصا إن استمر، فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية، ويوجد مقتضاها، وهو التسخط، إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله، والتوكل عليه، واللجأ إليه، والافتقار على الدوام"(22).

فالصبر تقوى وصلاح وإحسان وبر، وجزاؤه معية وحفظ وفوز وتمكين، والصابرون هم أخيار الناس، وأصفيائهم، وهم أعرف الناس بربهم، وأقربهم منه، فهم أصحاب المعتقد الصحيح، والفطر السوية، والقلوب المخلصة، وهم ورثة الأنبياء والأولياء والأصفياء، وحفظة الدين والأخلاق والعلم، وعلى يد الصابرين يؤسس التمكين لدين الله، فالصبر من المعاني الإيمانية الجليلة التي لا غنى عنها لطالب الآخرة، الماضي في الطريق إلى الله.

ـــــــــ

الهوامش:

(1) تفسير المنار- لمحمد رشيد رضا: (2/28).

(2) المرجع السابق: (2/29).

(3) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ص:18.

(4) التعريفات للجرجاني، ص:131.

(5) التبيان في أقسام القرآن- لابن القيم: (86).

(6) سورة الزمر:10.

(7) سورة العصر.

(8) التمكين نظرة عقدية- رمضان الغنام – مركز التأصيل.

(9) التبيان في أقسام القرآن- لابن القيم: (ص:85-86).

(10) سورة الأنبياء:73.

(11) أعلام الموقعين- لابن القيم الجوزية: (4/135).

(12) مجموع الفتاوى: (28/442).

(13) مجموع الفتاوى: (10/39).

(14) سورة الروم:60.

(15) التبيان في أقسام القرآن- لابن القيم: (ص:88).

(16) سورة آل عمران:120.

(17) أخرجه مسلم: (8/277/7692).

(18) سورة البقرة:153.

(19) سورة آل عمران:200.

(20) سورة الأنفال: 46.

(21) في ظلال القرآن- سيد قطب: (1/258-259).

(22) تفسير السعدي " تيسير الكريم الرحمن": (ص/94).

-------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الصبر.., عقيدة, إيمانية, وغرب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الصبر.. نظرة عقدية إيمانية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نفحات إيمانية... صباح الورد نثار الحرف 325 01-04-2015 01:21 PM
( الصبر على أقدار الله ) صباح الورد شذرات إسلامية 0 09-18-2014 08:35 AM
دعوة إلى الستر زهير شيخ تراب الشاعر زهير شيخ تراب 1 08-06-2014 09:24 AM
الصبر الجميل... صباح الورد الملتقى العام 0 08-19-2013 09:55 AM
منقول .. أضاعت الصبر بدر أخبار ومختارات أدبية 2 06-06-2012 01:52 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 12:51 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59