#1  
قديم 02-23-2014, 08:21 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,154
ورقة نَافِع بن الأزرق مسعر فتنة الخوارج الأول


نَافِع بن الأزرق مسعر فتنة الخوارج الأول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ

(يحيي البوليني)
ــــــــــــــــــــــــ

23 / 4 / 1435 هــ
23 / 2 / 2014 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخوارج 3457.jpg



استنبط العلماء الربانيون من قول الله سبحانه "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" السجدة:24، كما قال ابن القيم رحمه الله أن: "وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذِهِ الإِمَامَةَ إِنَّمَا تُنَالُ بِالصَّبَرِ وَالْيَقِينِ, فَبِالصَّبَرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الإمَامَةُ فِي الدِّينِ" لأن مرد كل شر يطرأ على النفس الإنسانية ناتج من أمرين لا ثالث لهما وهما الشهوات والشبهات, والصبر يعالج باب الشهوات كما يعالج اليقين باب الشبهات فقال رحمه الله "فَلا يَنْجُو مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلا مَنْ دَفَعَ شَهَوَاتِهِ بِالصَّبَرِ، وَشُبُهَاتِهِ بِالْيَقِينِ " [1].

وبالنظر إلى كل فتنة عامة مرت بالإسلام والمسلمين نجد لها فكرة عقلية تدخل في باب الشبهات ينضوي هؤلاء المفتونون تحتها ويحركهم ويقودهم دوما كبير لهم يقوم فيهم مقام الرأس من الجسد تبدأ الفتنة به يشعل نيرانها ويسعرها ويقود أتباعه لتغذيتها, ومن هذه الأفكار ما تنتهي بموت هذا الدعي الكذاب ومنها من تستمر بعده بحسب ما يتوافر لديهم مسعرون جدد يسيرون على سير الأول أو يزيدون في الفتن ليضمنوا بقاء الفكرة الباطلة.

وتجمع صفات هؤلاء المسعرين بأنهم يحملون البابين معا من أبواب الشر, فهم مريضون بالشبهة العقلية أو الإيمانية ويدعون لها بكل اجتهاد وإخلاص في غير ذي نفع ولا فائدة, ويعتقون أنهم –وحدهم- على صواب, وأن ما سواهم على باطل, وهم مريضون أيضا بالشهوات التي تتحكم فيهم كحب الزعامة والقيادة وحب اجتلاب الأتباع وتكوين الممالك والدويلات وحب الرئاسة التي تقصم كل ظهر.

وظهور الفتن في أواخر الأزمان وكثرة الابتعاد الزمني عن زمن الأنبياء لا يمكن اعتباره غريبا, بل هو أمر قد يكون اعتياديا في الكثير من الدعوات لتباعد الأزمان وانحراف الناس التدريجي إن لم يجد من يقومه على الجادة, لكن الغريب حقا هو أن تظهر الفتنة في الجيل الذي لقي الصحابة رضوان الله عليهم وسألهم وحاورهم وسمع منهم وناقشهم وجادلهم, فبينوا له وجه الحق الذي انزله الله على نبيه, لكنه ادعى انه هو وحده من يحمل الحق واتهم هؤلاء الصحب الكرام بالانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وما كان هذا إلا لفساد في نفسه بسيطرة الشبهة العقلية والشهوة النفسية عليه.

ومن أوائل الفتن الناتجة عن الشبهات العقلية التي ظهرت في تاريخ الإسلام فتنة الخوارج الحرورية التي ورد ذكر اسمها على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قالت لسائلة سألتها وجادلت فقالت لها "أحرورية أنت؟"[2], وهم الذين خرجوا من حروراء على الإمام علي بن أبي طالب فسموا بالخوارج وسموا بالحرورية نسبة لمكان خروجهم وتجمعهم.

ومن اخطر وأهم بل وأول فرق الحرورية وجماعاتهم الأزارقة وهم أتباع الدعي نافع بن الأزرق, وهو الذي جمعهم وأقنعهم بفكره ونسبهم كجماعة فكرية خارجة إلى اسم أبيه, وبالفعل لم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددا ولا أَشد شوكة مِنهم.

ولم تختلف طريقة ظهور نافع بن الأزرق على الساحة الفكرية والسياسية الإسلامية عن طريقة من سبقه أو لحقه في الخروج, إذ تتشابه كثيرا سير هؤلاء الخارجين وسماتهم الفكرية أو الشخصية مما يحسن دراسة هذه السير والوقوف على دروسها لكشف كثير ممن يحاولون الخروج على كل ذي سلطان لتجنب الوقوع في الفتن, وعلى الرغم من ذلك قد تساعد بعض الظروف عددا منهم لعلو الشأن ولكثرة أعداد المناصرين بسبب أخطاء السلاطين القائمة ورجال الحكم في معالجة الفتن وكيفية منعها قبل قيامها أو إنهائها بعد ظهورها, ومن هنا تجدر العناية بدراسة هذه السير من باب الاستئناس بقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في الصحيحين: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني .."[3].

ويستحسن تقسيم السيرة السياسية لابن الأزرق وفرقته الضالة إلى مراحل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المرحلة الأولى: البداية المتخبطة.
------------------

لم يذكر التاريخ كثيرا عن التاريخ الشخصي لنشأة نافع بن الأزرق, لكنه ابتدأ ذكره في كتب التاريخ والسير السياسية كصاحب رأي يجمع عليه نفرا من أنصاره ومؤيديه وذلك إبان الخروج على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

فكان نافع يرى أن عثمان بن عفان ظل صالحا خلال السنوات الست الأولى فقط من حكمه ثم زعم أنه خالف بعد ذلك حكم القرآن وبدّل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبح –في نظره– كافرا, ثم والى الإمام عليا رضي الله عنه واعتبر أن سيرته حسنة مرضية وكان عنده مثالا للخليفة الصالح حتى جاءت نهاية معركة صفين التي قبل فيها الإمام بالتحكيم فاعتبره نافع كافرا في نظره وعندها جمع أصحابه في بلدة يقال لها حروراء -وهي قرية من ضواحي الكوفة– ونادى فيهم بالخروج على الإمام علي بن أبي طالب، ولذلك عرفوا هم ومن تبع رأيهم بعد ذلك بالخوارج أو الحرورية الذين انقسموا بعد ذلك لخلافات بينهم حتى إلى بلغوا قرابة ستة عشرة فرقة, ولذلك سمي من تبع نافع بالأزارقة.

المرحلة الثانية: محاولة إيجاد البيئة المناسبة للنمو.
----------------------------

ثم بدأت مرحلة جديدة في حياة الأزارقة وهي مرحلة انضمامهم إلى جيش عبد الله بن الزبير في حربه مع الأمويين, وذلك ليتمكن من النفاذ لأكبر قدر ممكن من المسلمين وليساهم في مولد دولة جديدة مناهضة للحكم الأموي ليكون له فيها موضع قدم ومركز سلطة ونفوذ فكري.

لكنه سرعان ما ترك ابن الزبير وخرج عليه بل وكفره أيضا بسبب مولاة ابن الزبير لعثمان وذلك لأنه لم يجد في البقاء مجالا خصبا لنمو أفكاره ولوجود شخصية ثابتة راسخة على راس القوم وهو ابن الزبير, فلم يجد نافع بدا من تركه والخروج عليه, وذلك يدلل على التلاعُب الفكري الشديد الذي تلاعَب فيه ابن الأزرق بفكر من وراءه الذين انساقوا خلفه بلا عقل ولا وعي.

فقال ابن كثير رحمه الله: "وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الأزرق، وعبد الله بن أباض وجماعة من رؤوسهم. فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم، لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان، -وكانوا ينتقصون عثمان- فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفا به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان، والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له.

فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم"[4].

المرحلة الثالثة: مرحلة بناء دويلة والتمركز فيها.
--------------------------

ثم جاءت المرحلة الثالثة التي جمع فيها ابن الأزرق عددا من الرجال الذين اجتمعوا في اخطر اجتماع بشري وهو الاجتماع الفكري العقائدي, فأيد أتباعه فكره وانساقوا خلفه واقتنعوا تمام الاقتناع بآرائه وانصاعوا له تمام الانصياع في انقياد أعمى, لا يعترضون ما يقول لهم فيسير بهم حيث يشاء.

ثم خدمته الظروف التي كنت تمر بالأمة حينذاك, فاستغل فيها انشغال الأمة وتفرقها بالخلاف السياسي والحرب الدائرة بين ابن الزبير الخليفة الشرعي حينذاك للمسلمين وبين الأمويين الذين أصبحوا بعد مقتل ابن الزبير خلفاء شرعيين انعقدت لهم الإمامة, فكان هذا الخلاف السياسي فرصة عظيمة له لتأسيس دويلة على فكرة تكفر الفريقين وتعلن مخالفتهما معا وتستعد للحرب عليهما أيضا معا, ولذلك جمعهم ابن الأزرق في هذه الدويلة التي توسعت فيما بعد فحاربت فرقته عبد الله بن الزبير والأمويين لمدة تسعة عشرة سنة كاملة حتى تم إنهاء فتنتهم.

فبعد انصراف الخوارج عن ابن الزبير سنة 64هـ خرجوا من مكة إلى جهتين, فرقة إلى اليمامة وعلى رأسها أبو طالوت والثانية إلى البصرة وعلى رأسها نافع بن الأزرق وهم النسبة الكبرى منهم, وأمروا عليهم نافع بن الأزرق وأقاموا بالبصرة مدة يسيرة إلى أن خشوا على أنفسهم من أهلها فخرج بهم إلى الأهواز وتبعه أتباعه إلى هناك وأسس فيها نقطة تمركزه وانطلاقه فاستولى عليها وعلى كورها وما وراءها من بلدان فارس وكرمان.

فبدأ ابن الأزرق بتأسيس فيها الكيان الخاص به وبفرقته والذي اعتبره النواة الحاضنة لكل من هم على رأيه من الخوارج وكفر جميع المسلمين سوى فرقته الذين اعتبرهم هم المؤمنين وحدهم بل اعتبر القعدة الذين لم يهاجروا إلى دولته التي يتمركز فيها كفارا حتى لو كانوا من المؤمنين بما يقول لأنهم كما يزعم في دار كفر يجوز للأزارقة فيها قتل كل مخالفيهم حتى النساء والأطفال وزعموا أَن أطفال مخالفيهم مشركون مخلدون فِي النار.

واستحلوا أمانات المسلمين فقالوا بأن مخالفيهم مشركون فلا يلْزمهم أداء الأمانة إليهم, واستهانوا كثيرا بأحكام الشرع وبدلوه فأقاموا الحد على قاذف المؤمنات ولم يقيموه على قاذف الرجل المؤمن كما قطعوا يد السارق في القليل والكثير فلم يعتبروا في السرقة بنصاب وأنكروا تمام حد الرجم لعدم وروده في القرآن الكريم.

كما قالوا بامتحان كل من يأتي إليهم لينضم لهم, فكان إِذا ادّعى أحد أَنه منهم دفعوا إليه أسيرا من مخالفيهم وأمروه بقتله, فإن قَتل الأسير صدقوه وضموه إليهم وان لم يقتله قالوا هذا منافق ومشرك وقتلوه وغير ذلك من العقائد والأفكار الضالة التي سيبسط لها ما يناسبها لاحقا.

وهكذا أصبح لابن الأزرق ولجماعته بقعة ارض تنطلق منها الفتنة, وأصبح لزاما على ابن الزبير رضي الله عنه وعلى الأمويين كل من جهته أن يوجهوا إليهم الجيوش ليحاربوهم وليردوهم عن هذا الغي والتلاعب بالدين وهدم أركانه قبل أن يستفحل خطرهم أكثر من ذلك.

المرحلة الرابعة: مرحلة المواجهات العسكرية.
---------------------------

تميزت خطوات ابن الأزرق بالسرعة الشديدة فبعدما تمت له السيادة على الأهواز وما حولها تمت مبايعته كأمير للمؤمنين من أتباعه ولقب بذلك فانضم إليه خوارج عمان واليمن فصاروا أكثر من عشْرين ألفا ووصل ملكه إلى أَرض فَارس وكرمان وأرسل إليه خراجها مما حتم على ابن الزبير أن يرسل لعامله على البصرة عبد الله بن الْحَرْث الخزاعى بضرورة مقاتلة هؤلاء الأزارقة, فأرسل إليه عبد الله بن الْحَرْث جيشا بقيادة مُسلم بن عبس بن كريز بن حبيب بن عبد شمس فالتقيا بدولاب الأهواز فَقتل مُسلم ابْن عبس وَأكْثر أَصْحَابه, فأرسل إليه جيشا ثانيا بقيادة عُثْمَان ابْن عبيد الله بن معمر التميمى في ألفى فارس فهزمته الأزارقة أيضا, فَخرج إليهم الجيش الثالث وقوامه ثلاثة آلاف من جند الْبصرة بقيادة حَارِثَة بن بدر الفدانى فهزمتهم الأزارقة للمرة الثالثة, وحينها لم يجد ابن الزبير بدا من مراسلة المهلب ابن أبي صفرة وهو يوْمئذ بخراسان, فأمره بحرب الأزارقة وولاه ذلك.

النهاية المستحقة
=======

رجع المهلب إلى البصْرة واختار من جندها عشرة آلاف, وانضم إليه قومه من الأزد فصار جيشه عشرين ألفا, وَخرج وَقَاتل الأزارقة, فهزمهم عَن دولاب الأهواز إِلَى الأهواز وَمَات نَافِع ابْن الْأَزْرَق فِي تِلْكَ الْهَزِيمَة, وبايعت الأزارقة بعده عبيد الله بن مَأْمُون التميمى.

وهكذا قتل مسعر الفتنة الأول لكن لم تنته تلك الدعوة الخبيثة فظلت الأزارقة تقاتل عبد الله بن الزبير والأمويين من بعده لتسعة عشر عاما عاملة متصلة, ولا يزال فكر بعض الخوارج موجودا للان مما يدل على أن ما بذره ابن الأزرق من بذور شيطانية لا تزال تنبت وتفرخ حتى الآن.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه مدارج السالكين: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين".
[2] عن معاذة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. فقالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" والحديث في الصحيحين.

[3] صحيح البخاري, كتاب الفتن, باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة, صحيح مسلم, كتاب الإمارة, باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.
[4] البداية والنهاية (8/ 243)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-16-2015, 09:02 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,154
ورقة نَافِع بن الأزرق مسعر فتنة الخوارج الأول

نَافِع بن الأزرق مسعر فتنة الخوارج الأول
ــــــــــــــــــــ

(يحيي بركات)
ـــــــــ

27 / 4 / 1436 هــ
16 / 2 / 2015 م
ـــــــــــ




كانت الفتنة الفكرية للخوارج الفتنة الأولى للمسلمين الذين لم يعهدوا قبلا التأويلات الباطنية ولا الشبهات العقلية، فكان يكفي أحدهم في أي مسألة أن يسمع كلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوقف عن قوله وينتهي إلى قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

فيقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بأذاننا .."، وخاصم ابن عمر ولده بلالا فلم يكلمه حتى مات لأنه حاول أن يقول رأيه بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" قال بلال بعد أن رأى الفتنة وتغير الأحوال "والله لنمنعهن" فأقبل إليه عبد الله فسبه سبا شديدا ما سبه مثله قط وقال له: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا إماء الله) وتقول: والله لنمنعهن! فهجره.

وجاءت فتنة الخوارج كحالة لم يألفها المسلمون ولم يعرفوها فأنكروها إنكار شديدا.

وهنا نتدرج مع مسعرها نافع بن الأزرق لنشهد بداية تكوينه الفكري والنفسي والقيادي، الذي استغله في باطله فحق له أن يكون رأسا للفتنة مسعرا لها، ليقدم من تبعه يوم القيامة فيسيروا خلفه في الآخرة كما ساروا خلفه في الدنيا.

الجانب الأول: الجانب العلمي:
-----------------

المؤهل الأول لجمع الناس على الحق أو على الباطل هو العلم سواء كان حقيقة أو ادعاء، فعادة الناس أن تسير خلف من يظنونهم في قرارة أنفسهم علماء، فمعظم الناس وخاصة البسطاء يسلمون قيادهم لمن يثقون في علمهم.

فعلى الرغم من أن ترجمان القران عبد الله بن عباس كان أعلم من حوله في آيات الكتاب فيقول الحسن البصري عنه: "ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وماذا عنى بها" إلا أن نافع بن الأزرق قد اتخذ منهجا تأويليا غير مسبوق في آيات القران الكريم، فالتقى بابن عباس في أكثر من مناسبة وعرض عليه أسئلته وتأويلاته الباطلة وحاجه ابن عباس واثبت خطأ منهجه مرارا.

ففي إحدى مساجلاته لابن عباس ما سأله فيه عن معنى الورود "فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوُرُودُ الدُّخُولُ فَقَالَ نَافِعٌ لَا، فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] أَوَرَدُوهَا أَمْ لَا وَقَالَ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هُودٍ: 98] أَوَرَدُوهَا أَمْ لَا أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا، وَمَا أَرَى اللَّهَ تَعَالَى مُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكَ، فَضَحِكَ نَافِعٌ " (1) أي استهزاء (2).

وفي مسالة أخرى يقول ابن كثير رحمه الله "حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا، وفي القوم رجل من الخوارج، يقال له (نافع بن الأزرق)، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس، فقال له: قف يا ابن عباس، غلبت اليوم، قال: ولم؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ ترابا، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ، فيصيده الصبي. فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: رددت على ابن عباس، لما أجبته: فقال له: ويحك، إنه إذا نزل القدر عمى البصر، وذهب الحذر، فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدا " (3).

ويقول السيوطي رحمه الله "وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ مَا قَاسَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ نافع بن الأزرق، وَمَا أَسْمَعَهُ مِنَ الْأَذَى وَمَا تَعَنَّتَهُ بِهِ مِنَ الْأَسْئِلَةِ، وَأَسْئِلَةُ نافع بن الأزرق لِابْنِ عَبَّاسٍ مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ لَنَا بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ، مُدَوَّنَةٌ فِي ثَلَاثِ كَرَارِيسَ، وَقَدْ سُقْتُ غَالِبَهَا فِي الْإِتْقَانِ، وَقَوْلُ نافع لِرَفِيقِهِ لَمَّا أَرَادَ تَعَنُّتَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُمْ بِنَا إِلَى هَذَا الَّذِي نَصَبَ نَفْسَهُ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَتَّى نَسْأَلَهُ. وَرَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ رَدٍّ " (4).

وبمثل هذه المسائل التي كان نافع يثير اللغط بها حول آي القرآن الكريم وسؤاله ومناظرته لأهل العلم اغتر به وبما يظن السذج البسطاء قليلو العلم والفهم والإدراك انه يحمل علما، فاتبعوه وصدقوا قوله وصار مقدما فيهم ينتهون عند قوله فلا مراجعة ولا تدقيق فصار يتلاعب بأتباعه يدخلهم ويخرجهم حيث يشاء برأيه وبهواه.

ففي أكثر من موقف يبدل فيه مواقفه دون أدنى اعتراض من القوم مثلما حدث مع ابن الزبير رضي الله عنهما حينما اجتمع نافع بالخوارج الذين يرون رأيه وطلب إليهم أن ينضموا إلى ابن الزبير لمقاتلة جيوش أهل الشام قائلا لهم من خطبة له: "وقد جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولوا العداء والغشم وهذا من ثار بمكة فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل" فأطاعوه وخرجوا إلى مكة، فَقَاتَلُوا مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ حَتَّى مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَانْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ.

ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي صَنَعْتُمْ أَمْسِ لَغَيْرُ رَأْيٍ، تُقَاتِلُونَ مَعَ رَجُلٍ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ لَيْسَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكُمْ، وَقَدْ كَانَ أَمْسِ يُقَاتِلُكُمْ هُوَ وَأَبُوهُ وَيُنَادِي: يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ! فَأْتُوهُ وَاسْأَلُوهُ عَنْ عُثْمَانَ فَإِنْ بَرِئَ مِنْهُ كَانَ وَلِيَّكُمْ، وَإِنْ أَبَى كَانَ عَدُوَّكُمْ"(5)، فأثنى عليه خيرا فأمر أتباعه بالخروج عن ابن الزبير ومعاداته بل وتكفيره وحارب عماله وقتل منهم وسبى.

ولهذا يجب على كل عالم أن يستند إلى الكتاب والسنة الصحيحة ويترك هواه جانبا حتى لا يضل بنفسه أو أن يسهم في إضلال غيره فيكون رأسا للفتنة.

الجانب الثاني: جانب الفصاحة والبلاغة:
-------------------------

لا يجمع الناس على الحق ولا على الباطل إلا إعلام قوي ومؤثر يدفع الناس دفعا لاتخاذ مواقف والإيمان بأفكار سواء كانت صحيحة حقيقية أو باطلة مزعومة، ولقد كانت الفصاحة ولازالت هي المعول الأول إعلاميا، فحسن صياغة الكلمة والتعبير وقوة المتحدث وانطلاقه بلا تلعثم وقوة معاني كلماته تدفع غيره للإيمان به واتباع ما يقول، فإذا أضيفت البلاغة إلى الجانب الأول وهو العلم وسخر ذلك في الباطل استشرى خطر هذا الشخص وعظم في عين أتباعه وصار أمره أكثر ضررا عن ذي قبل.

ولقد اجتمعت في نافع بن الأزرق هذه الصفة أيضا مع التي قبلها، فكان خطيبا مفوها جزل العبارة سلس التعبير وجيده، فيقول المبرد في الكامل عن كلامه بأنه كان "كلاما عذبا أخاذا عليه فصاحة العرب وقوة حجتهم" وساق جانبا من كتاب له إلى أهل البصرة له، فتعجب من كونه مشهورا بسفك الدماء وإذا به في كتاب له يذم الدنيا!! ، قائلا: "فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا فإنها غرارة مكارة لذتها نافذة ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغترارا وأظهرت حبره وأضمرت عبره، فليس آكل منها أكلة تسره ولا شارب شربة تؤنقه إلا دنا بها درجة إلى أجله وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله دارا لمن تزود منها إلى النعيم المقيم والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم دارا ولا حليم بها قرارا، فاتقوا الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"(6).

فعلى كل صاحب منبر إعلامي وعلى كل صاحب كلمة مسموعة ومؤثرة أن يعلم أنه على ثغر من ثغور الدين وانه يمكن له بمنبره أن يكون داعية إلى هدى أو إلى ضلال وأنه لن تغنيه كثرة الأتباع أمام الله شيئا إن كان داعية إلى باطل.

الجانب الثالث: هوى الزعامة:
------------------

قد تجتمع قوة العلم مع حسن البيان في شخصية لا تطمح للزعامة والصدارة ومنازعة الأمر أهله وخاصة إن كان في القوم من يقوم بالمهمة خير منه، والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ الإسلامي وأكثر من أن تحصر بعدد، فعلى سبيل المثال اجتمعت تلك المواهب في شخصية سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله ولكن ما نازع سلطانا في سلطانه فاختار أن يكون ردءا للصالح إسماعيل يناصحه فلما ضج إسماعيل به ذهب إلى مصر واختار نفس الموقف مع ولاتها ، والأمثلة غيره كثير.

ولكن نافع بن الأزرق كان يحمل نفسها بها من الأهواء والمطامع الكثير فآثر أن يختار عداوة من رضي الله عنهم وانزل في كتابه آيات تتلى في فضلهم، فعاداهم وكفرهم واستحل دماءهم وأموالهم وأعراضهم لا لشيء إلا ليحثث لنفسه الزعامة الفارغة التافهة.

وكان من سماته بهذه النفسية التي كان يحملها أنه كان يكفر كل من خرج عليه ومن لم يوافقه أو يطعه حتى لو كان يشترك معه في عدد من الأفكار الباطلة، فاعتبر أن الأرض التي يقيم فيها مع جماعته الضالة هي الوحيدة التي تستحق أن يطلق عليها ارض الإيمان وما سواها ارض كفر يجوز فيها قتل الأطفال والنساء وهم في نظرهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان بل كفر أيضا القعدة من أتباعه وهم الذين آمنوا بما يقول ولكنهم قعدوا عن اللحاق به فجعلهم في جانب الكافرين لا المؤمنين، وما هذا إلا بتأثير النفسية شديدة الغلو وشديدة حب السيطرة على الأتباع والانحراف والانجراف بهم في أي طريق دون أدنى اعتراض منهم.

ولهذا لا تكتمل هذه الثلاثة جوانب من قوة علم في باطل وحسن بيان وهوى الزعامة والسيطرة في إنسان إلا وصار داعيا لفتنة مسعرا لها يجب الانتباه له والاعتناء بخطره وبضرره فلا ندفن رؤوسنا في الرمال ثم ننتظر حتى تعظم فتنته وتقوى شوكته وحينها لا تصلح الحلول التي كان يمكن أن تصلح في البدايات وستكون المعالجة اشد ألما وأكثر خسارة.

ــــــــــــــــــــــــــ



(1) أخرجه عبد الرزاق وابن جرير 16/ 108 109 وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وفيه رجل مبهم، ويشهد له الذي بعده.

(2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول المؤلف : حافظ بن أحمد بن علي الحكمي.

(3) تفسير ابن كثير (6/ 195).

(4) الحاوي للفتاوي للسيوطي (3/449).

(5) الكامل في التاريخ ابن الأثير مجلد : 3 صفحه : 254.

(6) ((الكامل)) للمبرد (2/ 179).

-----------------------------------------
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أصغر, المشرق, الأول, الخوارج, فتنة, نَافِع


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع نَافِع بن الأزرق مسعر فتنة الخوارج الأول
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
إسلام الجوارح جاسم داود شذرات إسلامية 0 08-11-2013 03:08 PM
الصوم وحفظ الجوارح Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 06-30-2012 06:33 PM
إنما نحن فتنة فلا تكفر جاسم داود شذرات إسلامية 0 05-24-2012 08:55 PM
صورة المرأة في شعر الخوارج في العصر الأموي Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-29-2012 07:48 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:46 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59