|
كتب ومراجع إلكترونية عرض وتحميل الكتب الإلكترونية ebooks |
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
حمل كتاب صيد الخاطر ...لابن قيم الجوزي
حمل الكتاب من المرفقات ---------------------------- من المحتوى تأليف أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بنالجوزي الحمد لله حمداً يبلغ رضاه وصلى الله على أشرف من اجتباهوعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه. لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها فتذهبكان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى. وقد قال عليه الصلاة والسلام: قيدوا العلم بالكتابة. وكم قد خطر لي شيء فأتشاغل عن إثباته فيذهب فأتأسف عليه. ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر سنح له من عجائب الغيب مالم يكن في حساب فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه فجعلت هذاالكتاب قيداً - لصيد الخاطر - والله ولي النفع إنه قريب مجيب. · فصل : تفاوت الناس في تقبل المواعظ قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة ، فإذاانفصل عن مجلس الذكر عادت القساوة و الغفلة ! فتدبرة السبب في ذلك فعرفته . ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك ، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفتهمن اليقظه عند سماع الموعظة و بعدها ، لسببين : أحدهما : أن المواعظ كالسياط، و السياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت و قوعها . و الثاني : أن حالةسماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة ، قد تخلى بجسمه و فكره عن أسباب الدنيا، و أنصت بحضور قلبه ، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها ، وكيف يصح أن يكونكما كان ؟ . و هذه حالة تعم الخلق إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاءالأثر : فمنهم من يعزم بلا تردد ، و يمضي من غير التفات ، فلو توقف بهم ركبالطبع لضجوا ، كما قال حنظلة عن نفسه : نافق حنظلة ! و منهم أقوام يميل بهم الطبعإلى الغفلة أحياناً ، و يدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً ، فهمكالسنبلة تميلها الرياح ! و أقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه ، كماء دحرجته علىصفوان . · فصل : جواذب النفس بين الدنيا و الآخرة جواذب الطبع الى الدنيا كثيرة ،ثم هي من داخل ، و ذكر الآخرة أمر خارج عن الطبع من خارج و ربما ظن من لا علم له أنجواذب الآخرة أقوى ، لما يسمع من الوعيد في القرآن ، و ليس كذلك ، لأن مثل الطبع فيميله إلى الدنيا ، كالماء الجاري فإنه يطلب الهبوط ، و إنما رفعه إلى فوق يحتاج إلىالتكلف . و لهذا أجاب معاون الشرع : بالترغيب و الترهيب يقوي جند العقل . فأما الطبع فجواذبه كثيرة ، و ليس العجب أن يغلب ! إنما العجب أن يغلب . · فصل : البصر في العواقب من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها ،نال خيرها ، و نجا من شرها . و من لم ير العواقب غلب عليه الحسن ، فعاد عليه بالألمما طلب منه السلامة ، و بالنصب ما رجا منه الراحه . و بيان هذا في المستقبل، يتبين بذكر الماضي ، و هو أنك لا تخلو ، أن تكون عصيت الله في عمرك ، أو أطعته . فأين لذة معصيتك ؟ و أين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كل بما فيه ! فليت الذنوب إذتخلت خلت ! و أزيدك في هذا بياناً مثل ساعة الموت ، و انظر إلى مرارةالحسرات على التفريط ، و لا أقول كيف تغلب حلاوة اللذات ، لأن حلاوة اللذات استحالتحنظلا ، فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم ، أتراك ماعلمت أن الأمر بعواقبه ؟ فراقبالعواقب تسلم ، و لا تمل مع هوى الحسن فتندم . · فصل : متاع الغرور من تفكر بعواقب الدنيا ، أخذ الحذر ، و من أيقن بطولالطريق تأهب للسفر . ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه ، و يتحقق ضرر حال ثميغشاه ! و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه. تغلبكنفسك على ما تظن ، و لا تغلبها على ما تستيقن . أعجب العجائب ، سرورك بغرورك ، وسهوك في لهوك ، عما قد خبىء لك . تغتر بصحتك و تنسى دنو السقم ، و تفرح بعافيتكغافلاً عن قرب الألم . لقد أراك مصرع غيرك مصرعك ، و أبدى مضجع سواك ـ قبل الممات ـمضجعك . و قد شغلك نيل لذاتك ، عن ذكر خراب ذاتك : كأنكلم تسمع بأخبار من مضى و لم تر في الباقين مايصنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح بعدك و البقر ! كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده ، حتى نزل ! و كم شاهدت والي قصر وليهعدوه لما عزل ! فيا من كل لحظة إلى هذا يسري ، و فعله فعل من لا يفهم لو لا يدري ... و كيف تنام العين و هي قريرة ؟ و لم تدر من أيالمحلين تنزل؟ · فصل : الحزر طريق السلامة من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة . و من ادعىالصبر ، و كل إلى نفسه . و رب نظرة لم تناظر ! و أحق الأشياء بالضبط و القهر : اللسان و العين . فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى ، مع مقاربة الفتنة ،فإن الهوى مكايد . و كم من شجاع في صف الحرب اغتيل ، فأتاه ما لم يحتسب ممنيأنف النظر إليه ! و اذكر حمزة مع و حشي . فتبصر و لاتشم كل برق رب برق فيه صواعق حين و اغضضالطرف تسترح من غرام تكتسي فيه ثوب ذل و شين فبلاء الفتى موافقه النفس و بدء الهوى طموح العين · فصل : لا تأخذك العزة بالاثم أعظم المعاقبةألا يحس المعاقب بالعقوبة . و أشد من ذلك نفع السرور بما هو عقوبة ، كالفرح بالمالالحرام ، و التمكن من الذنوب . و من هذه حاله ، لا يفوز بطاعة . و إني تدبرت أحوالأكثر العلماء و المتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها و معظمها من قبل طلبهمللرياسة . فالعلم منهم ، يغضب إن رد عليه خطؤه ، و الوعظ متصنع بوعظه ، والمتزهد منافق أو مراء . فأول عقوباتهم ، إعراضهم عن الحق شغلا بالخلق . و من خفيعقوباتهم ، سلب حلاوة المناجاة ، و لذة التعبد إلا رجال مؤمنون ، و نساء مؤمنات ،يحفظ الله بهم الأرض ، بواطنهم كظواهرهم ، بل أجلى ، و سرائرهم كعلانيتهم ، بل أحلى، و هممهم عند الثريا ، بل أعلى . إن عرفوا تنكروا ، و إن رئيت لهم كرامة ،أنكروا . فالناس في غفلاتهم ، و هم في قطع فلاتهم ، تحبهم بقاع الأرض ، و تفرح بهمأملاك السماء . نسأل الله عز و جل التوفيق لاتباعهم ، و أن يجعلنا من أتباعهم . · فصل : كمال العقل من علامة كمال العقل : علو الهمة ! و الراضي بالدوندنيء ! ! و لم أر في عيوب الناس عيباً كنقصالقادرين على التمام · فصل : يحبهم و يحبونه سبحان من سبقت محبته لأحبائه ، فمدحهم على ما وهبلهم ، و اشترى منهم ما أعطاهم ، و قدم المتأخر من أوصافهم ، لموضع إيثارهم ، فباهىبهم في صومهم ، و أحب خلوف أفواههم . يا لها من حالة مصونة لا يقدر عليها كل طالب ! و لا يبلغ كنه وصفها كل خاطب . · فصل : ضع الموت نصب عينيك الواجب على العاقلأخذ العدة لرحيله ، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه ، و لا يدري متى يستدعى ؟ و إني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ، و نسوا فقد الأقران ، و ألهاهم طولالأمل . و ربما قال العالم المحض لنفسه : أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل بهغداً ، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة ، و يؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ، و لا يتحاشىمن غيبة أو سماعها ، و من كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع . و ينسى أن الموتقد يبغت . فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه ، فإن بغته الموت رؤىمستعداً ، و إن نال الأمل ازداد خيراً . · فصل : من أعمالكم سلط عليكم خطرت لي فكرةفيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة ، و البلايا العظيمة ، التيتتناهى إلى نهاية الصعوبة فقلت : سبحان الله ! إن الله أكرم الأكرمين ، و الكرميوجب المسامحة . فما وجه هذه المعاقبة؟ فتكفرت ، فرأيت كثيراً منالناس في وجودهم كالعدم ، لا يتصفحون أدلة الوحدانية ، و لا ينظرون في أوامر اللهتعالى و نواهيه ، بل يجرون ـ على عاداتهم ـ كالبهائم . فإن وافق الشرعمرادهم و إلا فمعولهم على أغراضهم . و بعد حصول الدينار ، لا يبالون ، أمن حلال كانأم من حرام . و إن سهلت عليهم الصلاة فعلوها ، و إن لم تسهل تركوها . و فيهم منيبارز بالذنوب العظيمة ، مع نوع معرفة الناهي . و ربما قويت معرفة عالم منهم ، وتفاقمت ذنوبه ، فعلمت أن العقوبات ، و إن عظمت دون إجرامهم . فإذا وقعت عقوبة لتمحصذنباً صاح مستغيثهم : ترى هذا بأي ذنب ؟ و ينسى ما قد كان ، مما تتزلزل الأرض لبعضه . و قد يهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب ، و لا يدري أن ذلك لإهماله حقالله تعالى في شبابه . فمتى رأيت معاقباً ، فاعلم أنه لذنوب . · فصل : المقارنة بين علماء الدنيا و علماء الآخرة تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا ، فإن علماء الآخرةيتوادون و لا يتحاسبون ، كما قال عز و جل : و لا يجدون في صدورهمحاجة مما أوتوا. و قال الله تعالى : والذين جاؤوامن بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل فيقلوبنا غلاً للذين آمنوا. و قد كان أبو الدرداء : [ يدعو كل ليلة منإخوانه ] . و قالالإمام أحمد بن حنبللولدالشافعي: [ أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت ***** ] . و الأمر الفارق بين الفئتين : أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ،و يحبون كثرة الجمع و الثناء . و علماء الآخرة ، بمعزل من إيثار ذلك ، و قد كانوايتخوفونه ، و يرحمون من بلي به . و كان النخعي ، لا يستند إلى سارية . و قالعلقمة : أكره أن يوطأ عقبي . و يقال علقمة . و كان بعضهم ، إذا جلس إليه أكثر منأربعة ، قام عنهم . و كانوا يتدافعون الفتوى ، و يحبون الخمول ، مثل القوم كمثلراكب البحر ، و قد خب ، فعنده شغل إلى أن يوقن بالنجاة . و إنما كان بعضهميدعوا لبعض ، و يستفيد منه لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا ، فالأيام و الليالي مراحلهمإلى سفر الجنة . · فصل : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من أحب تصفيةالأحوال ، فليجتهد في تصفية الأعمال . قال الله عز وجل : و ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً. قالالنبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه عز وجل : لو أن عباديأطاعوني لسقيتهم المطر بالليل ، و أطلعت عليهم الشمس بالنهار ، و لم أسمعهم صوتالرعد. و قال صلى الله عليه و سلم : البر لا يبلى، و الإثم لا ينسى ، و الديان لا ينام ، و كما تدين تدان. و قالأبو سليمان الداراني: [ من صفى صفي له ، و من كدر كدرعليه ، و من أحسن في ليلة كوفىء في نهاره ، و من أحسن في نهاره كوفىء في ليله ] . وكان شيخ يدور في المجالس ، و يقول : من سره أن تدوم له العافية ، فليتق الله عز وجل . و كان الفضيل بن عياض ، يقول : [ إني لأعصي الله ، فأعرف ذلك في خلق دابتي ، وجاريتي ] . و اعلم ـ وفقك الله ـ أنه لا يحس بضربة مبنج ، و إنما يعرف الزيادة منالنقصان المحاسب لنفسه و متى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شكرت ، أو زلة قدفعلت ، و احذر من نفار النعم ، و مفاجأة النقم ، و لا تغتر بساط الحلم ، فربما عجلانقباضه . و قد قال الله عز وجل : إن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. و كانأبو عليالروذبارييقول : [ من الاغترار أن تسىء ، فيحسن إليك ، فتترك التوبة ،توهما أنك تسامح في العقوبات] . · فصل : غوامض تحير الضال تفكرت يوماً في التكليف ، فرأيته ينقسم إلى سهل، و صعب . فأما السهل فهو أعمال الجوارح ، إلا أن منه ما هو أصعب من بعض ، فالوضوءو الصلاة أسهل من الصوم ، و الصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة . و أما الصعبفيتفاوت ، فبعضها أصعب من بعض . فمن المستصعب ، النظر ، و الإستدلال ، الموصلان إلىمعرفة الخالق . فهذا صعب عند من غلبت عليه أمور الحس ، سهل عند أهل العقل . و منالمستصعب غلبة الهوى ، و قهر النفوس ، و كف أكف الطباع عن التصرف فيما يؤثره . و كل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه ، و رجاء عاقبته ، و إن شق عاجلاً . و إنما أصعب التكاليف و أعجبها : أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل ، ثمنراه يفقر المتشاغل بالعلم ، المقبل على العبادة ، حتى يعضه الفقر بناجذيه ، فيذلللجاهل في طلب القوت . و يغنى الفاسق مع الجهل ، حتى تفيض الدنيا عليه . ثمنراه ينشىء الأجسام ثم ينقض بناءالشباب في مبدأ أمره ، و عند استكمال بنائه ، فإذابه قد عاد هشيماً . ثم نراه يؤلم الأطفال ، حتى يرحمهم كل طبع . ثم يقال له : إياكأن تشك في أنه أرحم الراحمين . ثم يسمع بإرسال موسى إلى فرعون ، و يقال له : اعتقدأن الله تعالى أضل فرعون ، و اعلم أنه ما كان لآدم بد من أكل الشجرة و قد وبخ بقوله : و عصى آدم ربه. و في مثل هذه الأشياء تحير خلق، حتى خرجوا إلى الكفر و التكذيب . و لو فتشوا على سر هذه الأشياء ، لعلمواأن تسليم هذه الأمور ، تكليف العقل ليذعن ! و هذا أصل ، إذا فهم ، حصل منه السلامةو التسليم . نسأل الله عز وجل أن يكشف لنا الغوامض ، التي حيرت من ضل ، أنهقريب مجيب . · فصل : المحافظة على الوقت ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه ، و قدروقته ، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة . و يقدم الأفضل فالأفضل من القول و العمل . و لتكن نيته في الخير قائمة ، من غير فتور ربما لا يعجز عنه البدن من العمل ، كماجاء في الحديث : نية المؤمن خير من عمله. و قد كان جماعةمن السلف ، يبادرون اللحظات . فنقل عن عامر بن عبد قيس ، أن رجلاً قال له : كلمني ،فقال له : أمسك الشمس . و قال ابن ثابت البناني : ذهبت ألقن أبي ، فقال : [ يا بنيدعني ، فإني في وردي السادس ] . و دخلوا على بعض السلف عند موته ، و هو يصلي، فقيل له . فقال : [ الآن تطوى صحيفتي ] . فإذا علم الإنسان ـ و إن بالغ فيالجد ـ بأن الموت يقطعه عن العمل ، عمل في حياته ما يدوم له آجره بعد موته . فإنكان له شيء من الدنيا وقف وقفاً ، و غرس غرساً ، و أجرى نهراً ، و يسعى في تحصيلذرية تذكر الله بعده ، فيكون الأجر له . أو أن يصنف كتاباً من العلم ، فإن تصنفالعالم ولده المخلد . و أن يكون عاملاً بالخير ، عالماً فيه ، فينقل من فعله مايقتدي الغير به . فذلك الذي لم يمت . [ قد مات قوم و هم في الناسأحياء ] · فصل : شرف الغنى و مخاطرة الفقر رأيت منأعظم حيل الشيطان و مكره ، أن يحبط أرباب الأموال بالآمال ، و التشاغل باللذاتالقاطعة عن الآخرة و أعمالها . فإذا شغلهم بالمال ـ تحريضاً على جمعه ، وحثاً على تحصيله ـ و أمرهم بحراسته بخلاً به . فذلك من متين حيله ، و قويمكره . ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية ، أن خوف من جمعه المؤمنين ،فنقر طالب الآخرة منه ، و بادر التائب بأن يخرج ما في يده . و لا يزالالشيطان ، يحرضه على الزهد ، و يأمره بالترك ، و يخوفه من طرقات الكسب ، إظهاراًلنصحه و حفظ دينه . و في خفايا ذلك عجائب من مكره . و ربما تكلم الشطان علىلسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب ، فيقول له : اخرج من مالك و ادخل في زمرةالزهاد . و متى لك غداء أو عشاء ، فلست من أهل الزهد ، فلا تنال مراتب العزم . و ربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة الواردة على سبب و لمعنى . فإذا أخرج ما في يده ، و تعطل عن مكاسبه ، عاد يعلق طعمه بصلة الإخوان . أويحسن عنده صحبة السلطان ، لأنه لا يقوى على طريق الزهد و الترك إلا أياماً ، ثميعود فيقاضى مطلوباته ، فيقع في أقبح مما فر منه . و يبذل أول السلع فيالتحصيل دينه و عرضه ، و يصير متمبدلابه ، و يقف في مقام اليد السفلى . و لوأنه نظر في سير الرجال و نبلائهم ، و تأمل صحاح الأحاديث ، عن رؤسائهم ، لعلم أنالخليل عليه الصلاة و السلام كان كثير المال ، حتى ضاقت بلدته بمواشيه . وكذلك لوط عليه الصلاة و السلام ، [ و كثير من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ] ، والجم الغفير من الصحابة . و إنما صبروا عند العدم ، و لم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم، و لا من تناول المباح عند الوجود . و كان أبو بكر رضي الله عنه يخرجللتجارة و الرسول صلى الله عليه و سلم حي . و كان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذمن بيت المال ، و يسلم من ذل الحاجة إلى الأخوان . و قد كان ابن عمر لا يرد شيئاً ،و لا يسأله . و إني تأملت على أكثر أهل الدين و العلم هذه الحال ، فوجدتالعلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم ، فلما احتاجوا إلى قوم نفوسهم ذلوا ، و هم أحقبالعز . و قد كانوا قديماً يكفيهم من بيت المال فضلاً عن الإخوان ، فلما عدمفي هذا الأوان ، لم يقدر متدين على شيء إلا يبذل شيء من دينه . و ليته قدر فربماتلف الدين و لم يحصل له شيء . فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه ، و أن يجتهد فيالكسب ليربح مداراة ظالم ، أو مداهنة جاهل ، و لا يلتفت إلى ترهات المتصوفة ، الذينيدعون في الفقر ما يدعون . فما الفقر إلا مرض العجز ، و للصابر على الفقرثواب الصابر على المرض . اللهم إلا أن يكون جباناً عن التصرف ، مقتنعاً بالكفاف ،فليس ذلك من مراتب الأبطال ، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد . و أما الكاسبليكون المعطي لا المعطى ، و المتصدق لا المتصدق عليه ، فهي من مراتب الشجعانالفضلاء . و من تأمل هذا ، علم شرف الغنى و مخاطرة الفقر . · فصل : فضول الدنيا تأملت أحوال الفضلاء ، فوجدتهم ـ في الأغلب ـ قدبخسوا من حظوظ الدنيا ، و رأيت الدنيا غالباً ـ في أيدي أهل النقائص . فنظرتفي الفضلاء ، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص ، و ربما تقطعبعضهم أسفاً على ذلك . فخاطبت بعض المتأسفين فقلت له ، و يحك تدبر أمرك ، فإنك غالطمن وجوه : أحدها : أنه إن كانت لك همة في طلب الدنيا ، فاجتهد في طلبها تربحالتأسف على فوتها ، فإن قعودك ـ متأسفاً على ما ناله غيرك ، مع قصور اجتهادك ـ غايةالعجز . الثاني : أن الدنيا إنما تراد لتعبر لا لتعمر ، وهذا هو الذي يدلكعليه علمك ويبلغه فهمك . و ما يناله أهل النقص من فضولها يؤذي أبدانهم وأديانهم . فإذا عرفت ذلك ثم تأسفت على فقد ما فقده أصلح لك ، كان تأسفك عقوبةلتأسفك على ما تعلم المصلحة في بعده ، فاقنع بذلك عذاباً عاجلاً إن سلمت من العذابالآجل . و الثالث : أنك قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة ، من مطاعم الدنياو لذاتها بالإضافة إلى الحيوان البهيم ، لأنه ينال ذلك أكثر مقداراً ، مع أمن و أنتتناله مع خوف ، و قلة مقدار . فإذا ضوعف حظك من ذلك كان ذلك لاحقاً بالحيوانالبهيم ، من جهة أنه يشغله ذلك عن تحصيل الفضائل . و تخفيف المؤن يحث صاحبه على نيلالمراتب . فإذا آثرت الفضول مع قلة الفضول ـ عدت على ما علمت بالإزراء ، فشنت علمك، و دللت على اختلاط رأيك . . . · فصل : من يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه تأملت إقدام العلماء على شهواتالنفس المنهي عنها ، فرأيتها مرتبة تزاحم الكفر ، لولا تلوح معنى : هو أن الناس عندمواقعة المحظور ينقسمون . فمنهم : جاهل بالمحظور ، أنه محظور ، فهذا له نوععذر . و منهم : من يظن المحظور مكروهاً لا محرماً ، فهذا قريب من الأول . وربما دخل في هذا القسم آدم صلى الله عليه و سلم . و منهم : من يتأول فيغلط ،كما يقال : إن آدم عليه الصلاة و السلام . نهي عن شجرة بعينها ، فأكل من جنسها ، لامن عينها . و منهم : من يعلم التحريم ، غير أن غلبات الشهوة أنسته تذكر ذاك . فشغله ما رأى عما يعلم . و لهذا لا يذكر السارق القطع ، بل يغيب بكليته في نيلالحظ و لا يذكر راكب الفاحشة الفضيحة و لا الحد ، لأن ما يرى يذهله عما يعلم . و منهم : من يعلم الخطر و يذكر . . . غير أن الأخذ بالحزم أولى بالعاقل ،كيف قد و علم أن هذا الملك الحكيم قطع اليد في ربع دينار ، و هدم بناء الجسم المحكمبالرجم بالحجارة ، لالتذاذ ساعة . و خسف ، و مسخ ، و غرق . . . . · فصل : ميزان العدل لا يحابى من تأمل أفعال الباري سبحانه ، رآها علىقانون العدل ، و شاهد الجزاء مراصداً ، و لو بعد حين . فلا ينبغي أن يغترمسامح ، فالجزاء قد يتأخر . و من أقبح الذنوب التي قد أعد لها الجزاء العظيم ،الإصرار على الذنب ، ثم يصانع صاحبه باستغفار ، و صلاة ، و تعبد ، و عنده أنالمصانعة تنفع . و أعظم الخلق اغتراراً ، من أتى ما يكرهه الله تعالى ، وطلب منه ما يحبه هو ، كما في الحديثو العاجز من أتبع نفسه هواهاو تمنى على الله الأماني. و مما ينبغي للعاقل أن يترصد ، و قوعالجزاء ، فإن ابن سيرين قال : [ عيرت رجلاً فقلت : يا مفلس ، فأفلست بعد أربعين سنة ] . و قالابن الجلا: [ رآني شيخ لي و أنا أنظرإلى أمرد ، فقال : ما هذا ؟ لتجدن غبتها ، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة ] . و بالضدمن هذا ، كل من عمل خيراً أو صحح نية ، فلينتظر جزاءها الحسن ، و إن امتدت المدة . قال الله عز وجل : إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيعأجر المحسنين. و قال عليه الصلاة و السلام : من غض بصرهعن محاسن امرأة أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه. فليعلم العاقل أنميزان العدل لا يحابى . · فصل : و لا تنس نصيبك من الدنيا تأملت أحوال الصوفية و الزهاد ، فرأيتأكثرها منحرفاً عن الشريعة ، بين جهل بالشرع ، و ابتداع بالرأي . يستدلون بآيات لايفهمون معناها ، و بأحاديث لها أسباب ، و جمهورها لا يثبت . فمن ذلك ، أنهمسمعوا في القرآن العزيز : و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرورأنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينةثم سمعوا فيالحديث : للدنيا أهون على الله من شاة ميتة ، على أهلهافبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها . و ذلك أنه ما لم يعرفحقيقه الشيء فلا يجوز أن يمدح و لا أن يذم . فإذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذهالأرض البسيطة التي جعلت قراراً للخلق ، تخرج منها أقواتهم ، و يدفن فيها أمواتهم. و مثل هذا لا يذم لموضع المصلحة فيه و رأينا ما عليها من ماء ، و زرع ، وحيوان ، كله لمصالح الآدمي ، و فيه حفظ لسبب بقائه . و رأينا بقاء الآدمي سبباًلمعرفة ربه ، و طاعته إياه ، و خدمته ، و ما كان سبباً لبقاء العارف العابد ، يمدحو لا يذم ، فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل ، أو العاصي في الدنيا ، فإنهإذا اقتنى المال المباح ، و أدى زكاته ، لم يلم . فقد علم ما خلف الزبير ، وابن عوف و غيرهما ، و بلغت صدقة علي ـ رضي الله عنه ـ أربعين ألفاً . و خلفت ابنمسعود تسعين ألفاً ، و كان الليث ابن سعد يشتغل كل سنة عشرين ألفاً ، و كان سفيانيتجر بمال ، و كان ابن مهدي يشتغل كل سنة ألفى دينار . و إن أكثر من النكاحو السراري ، كان ممدوحاً لا مذموماً فقد كان للنبي صلى الله عليه و سلم زوجات ، وسراري . و جمهور الصحابة ، كانوا على الإكثار من ذلك . و كان لعلي بن أبي طالب ـرضي الله عنه ـ أربع حرائر ، و تسع عشرة أمة . و تزوج ولده الحسن ، نحواً منأربعمائة . فإن طلب التزوج للأولاد ، فهو الغاية في التعبد ، و إن أرادالتلذذ فمباح ، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى ، من إعفاف نفسه و المرأة ، إلى غيرذلك . و قد أنفق موسى ـ عليه السلام ـ من عمره الشريف عشر سنين في مهر بنت شعيب . فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء ، لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه و قدقالابن عباسرضي الله عنهما : [ خيار هذه الأمة أكثرهانساء ] . و كان يطأ جارية له ، و ينزل في أخرى . و قالت سرية الربيع بن خيثم : كان الربيع يعزل . و أما المطعم ، فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل، و حق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله . و قد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يأكل ما وجد اللحم أكله و يأكل لحم الدجاج ، و أحب الأشياء إليه الحلوى والعسل ، و ما نقل عنه أنه امتنع من مباح . و جيء علي رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه، و قال : [ ما هذا ] ؟ قالوا : يوم النوروز ، فقال : [ نوروزنا كل يوم ] . و إنما يكره الأكل فوق الشبع ، و اللبس على وجه الاختيال و البطر . وقد اقتنع أقوام بالدون من ذلك ، لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد ،و إلا فقد لبس النبي صلى الله عليه و سلم حلة اشتريت له بسبعة و عشرين بعيراً . وكان لتميم الداري حلة اشتريت بألف درهم ، يصلي فيها بالليل . فجاء أقوام ،فأظهروا التزهد ، و ابتكروا طريقة زينها لهم الهوى ، ثم تطلبوا لها الدليل . و إنمان ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل ، لا أن يتبع طريقاً و يتطلب دليلها . ثم انقسموا : فمنهم ، متصنع في الظاهر ، لبث الشري في الباطن ، يتناول فيخلواته الشهوات ، و ينعكف على اللذات . و يري الناس بزيه أنه متصوف متزهد ، و ماتزهد إلا القميص ، و إذا نظر إلى أحواله فعنده كبر فرعون . و منهم : سليمالباطن ، إلا أنه في الشرع جاهل . و منهم : من تصدر ، و صنف ، فاقتدى بهالجاهلون في هذه الطريقة ، و كانوا كعمي اتبعوا أعمى . و لو أنهم تلمحواالأمر الأول ، الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة رضي الله عنهم ،لما زلوا . و لقد كان جماعة من المحققين ،لا يبالون بمعظم في النفوس إذا حادعن الشريعة ، بل يوسعونه لوما . فنقل عنأحمدأنهقال لهالمروذي: ما تقول في النكاح ؟ فقال : [ سنةالنبي صلى الله عليه و سلم ] . فقال : فقد قال إبراهيم . قال : فصاح بي و قال : جئتنا ببنيات الطريق ؟ و قيل له : إفي سريا السقطي قال : لما خلق الله تعالى الحروف، و قف الألف و سجدت الباء ، فقال : نفروا الناس عنه . و اعلم أن المحقق لايهوله اسم معظم ، كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أتظن أنا نظن أنطلحة و الزبير ، كانا على الباطل ؟ فقال له : [ إن الحق لا يعرف بالرجال ، أعرفالحق تعرف أهله ] . و لعمري أنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام ، فإذا نقلعنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله ، لتعظيمهم في نفسه . كما ينقل عن أبي يزيد رضيالله عنه ، أنه قال : [ تراعنت علي نفسي فحلفت لا أشرب الماء سنة ] . و هذا إذا صحعنه ، كان خطأ قبيحاً . و زلة فاحشة ، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن ، و لايقوم مقامه شيء . فإذا لم يشرب فقد سعى في أذى بدنه . و قد كان يستعذب الماء لرسولالله صلى الله عليه و سلم . أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له ، و أنه لا يجوزالتصرف فيها إلا عن إذن مالكها . و كذلك ينقلون عن بعض الصوفية ، أنه قال : [ سرت إلى مكة على طريق التوكل حافياً ، فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض ولا أرفعها ، و كان علي مسح ، فكانت عيني إذا آلمتني أدلكها بالمسح فذهبت إحدى عيني ] . و أمثال هذا كثير ، و ربما حملها القصاص على الكرامات ، و عظموها عندالعوام ، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة منالشافعي، وأحمد. و لعمري ، إن هذا من أعظمالذنوب أقبح العيوب ، لأن الله تعالى قالو لا تقتلوا أنفسكم. و قال النبي عليه الصلاة و السلام : إن لنفسكعليك حقاً. و قد طلب أبو بكر رضي الله عنه ، في طريق الهجرة للنبي صلى اللهعليه و سلم ، ظلا ، حتى رأى صخرة ففرش له في ظلها . و قد نقل عن قدماء هذهالأمة بدايات هذا التفريط ، و كان سببه من وجهين : أحدهما : الجهل بالعلم ، والثاني : قرب العهد بالرهبانية . و قد كان الحسن يعيب فرقد السبخي ، و مالكبن دينار ، في زهدهما فرأى عنده طعام فيه لحم ، فقال: [ لا رغيفي مالك ، و لا صحنافرقد ] . و رأى على فرقد كساء ، فقال : [ يا فرقد إن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية ] . وكم قد زوق قاص مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد و لا ماء وهو لا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال ، و أن الله تعالى لا يجرب عليه . فربما سمعهجاهل من التائبين فخرج فمات في الطريق ، فصار للقائل نصيب من إثمه . و كم يروون عنذي النون : أنه لقي امرأة في السياحة فكلمها و كلمته ، و ينسون الأحاديث الصحاح : لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً و ليلة إلا بمحرم. و كم ينقلون : أن أقواماً مشوا على الماء ، و قد قالإبراهيمالحربي: [ لا يصح أن أحداً مشى على الماء قط ] . فإذا سمعوا هذا قالوا : أتنكرون كرامات الأولياء الصالحين ؟ فنقول : لسنا من المنكرين لها ، بل نتبعما صح ، و الصالحون همالذين يتبعون الشرع ، و لا يتعبدون بآرائهم . و فيالحديث : إن بني إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم. وكم يحثون على الفقر حتى حملوا خلقاً على إخراج أموالهم ، ثم آل بهم الأمر إما إلىالتسخط عند الحاجة ، و إما إلى التعرض بسؤال الناس . و كم تأذى مسلم بأمرهم الناسبالتقلل ، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : ثلث طعام ، و ثلثشراب ، و ثلث نفس. فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل . فحكىأبو طالب المكي في [ قوت القلوب ] : أن فيهم من كان يزن قوته بكربة رطبة ، ففي كلليلة يذهب من رطوبتها قليل ، و كنت أنا ممن اقتدى بقوله في الصبا ، فضاق المعي وأوجب ذلك ، مرض سنين . أفترى هذا شيئاً تقتضيه الحكمة ، أو ندب إليه الشرع ؟ و إنما مطية الأدمي قواه ، فإذا سعى في تقليلها ، ضعف عن العبادة . فإنا لودخلنا ديار الروم ، فوجدنا أثمان الخمور و أجرة الفجور ، كان لنا حلالاً بوصفالغنيمة . أفتريد حلالاً ، على معني أن الحبة من الذهب لم تنتقل مذ خرجت منالمعدن ، على وجه لا يجوز ؟ فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . أو ليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام ، فلما تصدق على بريرة بلحم فأهدته ، جازله آكل تلك العين لتغير الوصف . و قد قالأحمد بن حنبل[ أكره التقلل من الطعام ، فإن أقواماً ما فعلوه فعجزوا عن الفرائض ] . و هذا صحيح . فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل ثم الفرائض ، ثم يعجز عن مباشرةأهله و إعفافهم ، و عن بذل القوى في الكسب لهم ، و عن فعل خير قد كان يفعله . و لا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحث على الجوع ، فإن المراد بها إماالحث على الصوم و إما النهي عن مقاومة الشبع . فأما تنقيص المطعم على الدوام ،فمؤثر في القوى ، فلا يجوز . ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم ، والنبي صلى الله عليه و سلم كان يود أن يأكله كل يوم . و اسمع مني بلا محاباة : لا تحتجن علي بأسماء الرجال ، فتقول : قال بشر ، و قال إبراهيم بن أدهم ، فإن مناحتج بالرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ أقوى حجة . على أنلأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظن . و لقد ذاكرت بعض مشايخنا ما يروى عنجماعة من السادات ، أنهم دفنوا كتبهم فقلت له : ما وجه هذا ؟ فقال : أحسن ما نقولأن نسكت ، يشير إلى أن هذا جهل من فاعله . و تأولت أنا لهم ، فقلت : لعل ما دفنوامن كتبهم ، فيه شيء من الرأي ، فما رأوا أن يعمل الناس به . و لقد روينا فيالحديث ، عن أحمد بن أبي الحواري : أنه أخذ كتبه فرمى بها في البحر ، و قال : [ نعمالدليل كنت ! و لا حاجة لنا إلى الدليل بعد الوصول إلى المدلول ] . و هذا ـإذا أحسنا به الظن ـ قلنا : كان فيها من كلامهم ما لا يرتضيه . فأما إذا كانتعلوماً صحيحة ، كان هذا من أفحش الإضاعة ، و أنا و إن تأولت لهم هذا ، فهو تأويلصحيح في حق العلماء منهم ، لأنا قد روينا عنسفيان الثوري: أنه قد أوصى بدفن كتبه ، و كان ندم على أشياء كتبها ، عن قوم ، و قال : حملني شهوة الحديث ـ و هذا لأنه كان يكتب عن الضعفاء و المتروكين ، فكأنه لما عسرعليه التمييز أوصى بدفن الكل . و كذلك من كان له رأي من كلامه ثم رجع عنه ،جاز أن يدفن الكتب التي فيها ذلك ، فهذا وجه التأويل للعلماء . فأماالمتزهدون ، الذين رأوا صورة فعل العلماء ، و دفنوا كتباً صالحة لئلا تشغلهم عنالتعبد ، فإنه جهل منهم ، لأنهم شرعوا في إطفاء مصباح يضيء لهم ، مع الإقدام علىتضييع مال لا يحل تضييعه . و من جملة من عمل بواقعه في دفن كتب العلم ،يوسف بن أسباط، ثم لم يصبر عن التحديث فخلط ، فعد فيالضعفاء . أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك ، قال : أخبرنا محمد بن المظفرالشامي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي ، قال : حدثنا يوسف بن أحمد ، قال : حدثنا محمد ابن عمرو العقيلي قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : أخبرنا أحمد بن خالدالخلال . قال : سمعت شعيب بن حرب يقول : قلتليوسف بن أسباط: كيف صنعت بكتبك ؟ قال : [ جئت إلى الجزيرة ، فلما نضب الماء دفنتها عليها، فذهبت ] . قلت : ما حملك على ذلك ؟ قال : [ أردت أن يكون الهم هماً واحداً ] . قالالعقيلي: و حدثني آدم ، قال : سمعتالبخاريقال : قال صدقة : [ دفن يوسف بن أسباط كتبه ، وكان يغلب عليه الوهم فلا يجيء كما ينيغي ] . قال المؤلف : قلت : الظاهر أنهذه كتب علم ينفع ، و لكن قلة العلم أوجبت هذا التفريط ، الذي قصد به الخير ، و هوشر . فلو كانت كتبه من جنس كتبالثوري، فإن فيها ، عنضعفاء و لم يصح له التمييز ، قرب الحال . إنما تعليله يجمع الهم هو الدليل على أنهاليست كذلك ، فانظر إلى قلة العلم ، ماذا تؤثر مع أهل الخير . و لقد بلغنا فيالحديث عن بعض من نعظمه ، و نزوره ، أنه كان على شاطئ دجلة ، فبال ثم تيمم ، فقيلله : الماء قريب منك ، فقال : خفت ألا أبلغه ! ! و هذا و إن كان يدل على قصرالأمل ، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث تلاعبوا به ، من جهة أنالتيمم ، إنما يصح عند عدم الماء . فإذا كان الماء موجوداً كان تحريك اليدينبالتيمم عبثاً . و ليس من ضروري وجود الماء أن يكون إلى جانب المحدث ، بل لو كانعلى أزرع كثيرة ، كان موجوداً فلا فعل للتيمم و لا أثر حينئذ . و من تأمل هذهالأشياء ، علم أن فقيهاً واحداً ـ و إن قل أتباعه و خفت إذا مات أشياعه ـ أفضل منألوف تتمسح العوام بهم تبركاً ، و يشيع جنائزهم ما لا يحصى . و هل الناس إلا صاحبأثر نتبعه ، أو فقيه يفهم مراد الشرع و يفتي به ؟ نعوذ بالله من الجهل ، و تعظيمالأسلاف تقليداً لهم بغير دليل ! فإن من ورد المشرب الأول ، رأى سائر المشارب كدرة . و المحنة العظمى مدائح العوام ، فكم غرت ... ! ! كما قال علي رضي الله عنه : [ ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً ] . و لقد رأينا و سمعنا منالعوام ، أنهم يمدحون الشخص ، فيقولون : لا ينام الليل ، و لا يفطر النهار ، و لايعرف زوجة ، و لا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً ، قد نحل جسمه ، و دق عظمه حتى أنهيصلي قاعداً ، فهو خير من العلماء الذين يأكلون و يتمتعون . ذلك مبلغهم من العلم ،و لو [ فقهوا ] علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمة فتناولها عالم يفتي عن الله ، ويخبر بشريعته ، كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً و أفضل من عبادهذلك العابد باقي عمره . و قد قالابن عباسرضي الله عنه : [ فقيه واحد ، أشد على إبليس من ألف عابد ] . و من سمع هذا الكلام فلايظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه . و إنما أمدح العاملين بالعم ، و هم أعلم بمصالحأنفسهم . فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش ،كأحمد بن حنبل. و كان فيهم ، من يستعمل رقيق العيش ،كسفيان الثوري، مع ورعه ، ومالكمع تدينه ، والشافعيمع قوة فقهه . و لا ينبغي أن يطالب الإنسان بمايقوى عليه غيره ، فيضعف هو عنه . فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه . و قد قالترابعة : [ إن كان صلاح قلبك في الفالوذج ، فكله ] . و لا تكون أيها السامعممن يرى صور الزهد . فرب متنعم لا يريد التنعم و إنما يقصد المصلحة . و ليس كل بدنيقوى على الخشونة ، خصوصاً من قد لاقى الكد و أجهده الفكر ، و أمضه الفقر ، فإنه إنلم يرفق بنفسه ، ترك واجباً عليه من الرفق بها. فهذه جملة لو شرحتها بذكرالأخبار و المنقولات لطالت ، غير أني سطرتها على عجل حين جالت في خاطري ، و اللهولي النفع برحمته . · فصل : مصير النفس بعد الموت قد أشكل على الناس أمر النفس و ماهيتها ،مع إجماعهم على وجودها ، و لا يضر الجهل بذاتها مع إثباتها . ثم أشكل عليهم مصيرهابعد الموت ، و مذهب أهل الحق أن لها وجوداً بعد موتها ، و أنها تنعم و نعذب . قالأحمد بن حنبل: [ أرواح المؤمنين في الجنة ، و أرواحالكفار في النار ] . و قد جاء في أحاديث الشهداء : [ أنها في حواصل طير خضرتعلق من شجر الجنة ] . و قد أخذ بعض الجهلة بظواهر أحاديث النعيم ، فقال : إن الموتى يأكلون في القبور ، و ينكحون . و الصواب من ذلك أن النفس تخرج بعدالموت إلى نعيم أو عذاب ، و أنها تجد ذلك إلى يوم القيامة ، فإذا كانت القيامة ،أعيدت إلى الجسد ليتكامل لها التنعم بالوسائط . و قوله : [ في حواصل طير خضر ] ، دليل على أن النفوس لا تنال لذةإلا بوساطة . إلا أن تلك اللذة لذة مطعم أو مشرب، فأما لذات المعارف و العلوم فيجوز أن تنالها بذاتها ، مع عدم الوسائط . والمقصود من هذا المذكور أني رأيت بعض الانزعاج من الموت . و ملاحظة النفس بعينالعدم عنده فقلت لها : إن كنت مصدقة للشريعة فقد أخبرت بما تعرفين و لا وجه للإنكار، و إن كان هناك ريب في أخبار الشريعة ، صار الكلام في بيان صحة الشريعة . فقالت : لا ريب عندي . قلت : فاجتهدي في تصحيح الإيمان ، و تحقيقالتقوى ، و أبشري حينئذ بالراحة من ساعةالموت ، فإني لا أخاف عليك إلا من التقصيرفي العمل . واعلمي أن تفاوت النعيم بمقدار درجات الفضائل ، فارتفعي بأجنحة الجد إلىأعلى أبراجها ، و احذري من قانص هوى ،أو شرك غرة ، و الله الموفق . · فصل : العقل بين التكليف و الإذعان قلت يوماً في مجلسي : لو أن الجبالحملت ما حملت لعجزت . فلما عدت إلى منزلي ، قالت لي النفس : كيف قلت هذا ؟ و ربماأوهم الناس أن بك بلاء و أنت في عافية في نفسك و أهلك !!. و هل الذيحملت إلا التكليف الذي يحمله الخلق كلهم ؟ فما وجه هذه الشكوى ؟ فأجبتها : إني لما عجزت عما حملت ، قلت هذه الكلمة لا على سبيل الشكوى ، و لكن للاسترواح . و قد قال كثير من الصحابة و التابعين قبلي : ليتنا لم نخلق ، و ما ذاك إلالأثقال عجزوا عنها . ثم من ظن أن التكاليف سهلة ، فما عرفها . أتى يظن الظانأن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء ، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين ؟ هيهات ! هذا أسهل التكليف . و إن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال ، و من جملته : أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل ، ألزمت العقل الإذغان للمقدر ، فكانمن أصعب التكليف . و خصوصاً فيما لا يعلم العقل ، معناه كإيلام الأطفال ، و ذبحالحيوان ، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك و الأمر به ، أرحم الراحمين . فهذامما يتحير العقل فيه ، فيكون تكليفه التسليم ، و ترك الاعتراض ...!! فكم بينتكليف البدن و تكليف العقل ... ؟! و لو شرحت هذا لطال ، غير أني أعتذر عماقلته ، فأقول عن نفسي و ما يلزمني حال غيري . إني رجل حبيب إلي العلم من زمنالطفولة فتشاغلت به ثم لم يحبب إلى فن واحد منه ، بل فنونه كلها . ثم لا تقتصر همتيفي فن على بعضه ، بل تروم استقصاءه . و الزمان لا يسع ، و العمر أضيق ، و الشوقيقوى ، والعجز يظهر ، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات . ثم أن العلم دلنيعلى معرفة المعبود ، و حثني على خدمته ، ثم صاحت بي الأدلة عليه إليه ، فوقفت بينيديه ، فرأيته ، في نعمه ، و عرفته بصفاته ، و عاينت بصيرتي من الطافه مادعاني إلىالهيمان في محبته ، و حركني إلى التخلي لخدمته ، و صار يملكني أمر كالوجد كلماذكرته ، فعادت خلوتي في خدمتي له أحلى عندي من كل حلاوة . فكلما ملت إلى الانقطاععن الشواغل إلى الخلوة ، صاح بي العلم أين تمضي ؟ أتعرض عني و أنا سبب معرفتك به ؟ فأقول له : كنت دليلاً و بعد الوصول يستغني عن الدليل . قال : هيهات ! كلما زدت ، زادت معرفتك بمحبوبك ، و فهمت كيف القرب منه . و دليل هذا أنك تعلمغداً ، أنك اليوم في نقصان . أو ما تسمعه يقول لنبيه صلى الله عليه و سلمو قل رب زدني علماً. ثم ألست تبغي القرب منه ؟ فاشتغل ،بدلالة عباده عليه ، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة و السلام . أما علمت أنهمآثروا تعليم الخلق ، على خلوات التعبد ، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم ؟ أماقال الرسول صلى الله عليه و سلم ، لعلي رضي الله عنهلأن يهديالله بك رجلاً ، خير لك من حمر النعم ؟. فلما فهمت صدق هذه المقالة، تهوست على تلك الحالة ، و كلما تشاغلت بجمع الناس ، تفرق همي . و إذا وجدت مراديمن نفعهم ، ضعفت أنا ، فأبقى في حيز التحير متردداً ، لا أدري على أي القدمين أعتمد . فإذا وقفت متحيراً صاح العلم : قم لكسب العيال ، و ادأب في تحصيل ولد يذكر الله . فإذا شرعت في ذلك قلص ضرع الدنيا وقت الحلب ، و رأيت باب المعاش مسدوداً في وجهي ،لأن صناعة العلم شغلتني عن تعلم صناعة . فإذا التفت إلى أبناء الدنيا ،رأيتهم لا يبيعون شيئاً من سلعها إلا بدين المشتري . و ليت من نافقهم أو راءاهم نالمن دنياهم ، بل ربما ذهب دينه و لم يحصل مراده . فإن قال الضجر : اهرب . قال الشرع : كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت . و إن قال العزم : انفرد ، قال : فكيفبمن تعول ؟ فغاية الأمر أنني أشرع في التقلل من الدنيا ، و قد ربيت فينعيمها . و غذيت بلبانها ، و لطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة . فإذا غيرت لباسي وخشنت مطعمي ، لأن القوت لا يحتمل الانبساط ، نفر الطبع لفراق العادة ، فحل المرضفقطع عن واجبات ، و أوقع في آفات . و معلوم أن لبن اللقمة بعد التحصيل منالوجوه المستطابة ، و تخشينها لمن لم يألف سعى في تلف النفس . فأقول : كيفأصنع و ما الذي أفعل ؟ و أخلو بنفسي في خلواتي ، و أتزيد من البكاء على نقص حالاتي . و أقول : أصف حال العلماء ، و جسمي يضعف عن إعادة العلم ، و حال الزهاد ، و بدنيلا يقوى على الزهد ، و حال المحبين و مخالطة الخلق تشتت همي ، و تنقش صور المحبوباتمن الهوى في نفسي ، فتصدأ مرآة قلبي . و شجرة المحبة تحتاج إلى تربية فيتربة طيبة تسقى ماء الخلوة من دولاب الفكرة . و إن آثرت التكسب لم أطق . و إن تعرضتلأنباء الدنيا ـ مع أن طبعي الأنفة من الذل و تديني يمنعني ـ فلا يبقى للميل معهذين الجاذبين أثر . و مخالطة الخلق تؤذي النفس مع الأنفاس !!! و لا تحقيقالتوبة أقدر عليه ، و لا نيل مرتبة من علم أو عمل أو محبة يصح لي . فإذا رأيتني كماقال القائل : ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له إياكإياك أن تبتل بالماء تحيرت في أمري ، و بكيت على عمري ، و أنادي فيفلوات خلواتي بما سمعته من بعض العوام ، و كأنه وصف حالي : واحسرتي كم أداري فيك تعثيري مثل الأسير بلا حبل و لا سيري ما حيلتي في الهوى قد ضاع تدبيري لما شكلت جناحيفلت لي طيري · فصل : من رام صلاح القلب رام الممتنع تأملت أمر الدنيا و الآخرة ،فوجدت حوادث الدنيا حسية طبعية ، و حوادث الآخرة إيمانية يقينية . و الحسيات أقوىجذباً لمن لم يقو علمه و يقينه . و الحوادث إنما تبقى بكثرة أسبابها ،فمخالطة الناس ، و رؤية المستحسنات و التعرض بالملذوذات ، يقوي حوادث الحس . و العزلة ، و الفكر ، و النظر في العلم يقوي حوادث الآخرة . و يبينهذا بأن الإنسان إذا خرج في الأسواق ، و يبصر زينة الدنيا ثم دخل إلى المقابر ،ففكر ورق قلبه ، فإنه يحس بين الحالتين فرقاً بيناً . و سبب ذلك ، التعرضبأسباب الحوادث . فعليك بالعزلة و الذكر و النظر في العلم ، فإن العزلة حمية، و الفكر و العلم أدوية . و الدواء مع التخليط لا ينفع . و قد تمكنت منكأخلاط المخالطة للخلق ، و التخليط في الأفعال فليس لك دواء إلا ما وصفت لك . فأما إذا خالطت الخلق و تعرضت للشهوات ، ثم رمت صلاح القلب رمت الممتنع . · فصل : الممنوع مرغوب تأملت حرص النفس على ما منعت منه . فرأيت حرصهايزيد على قدر قوة المنع . و رأيت في الشرب الأول ، أن آدم عليه السلام لمانهي عن الشجرة ، حرص عليها مع كثرة الأشجار المغنية عنها . و في الأمثال : [ المرء حريص على ما منع ، و تواق إلى ما لم ينل ] . و يقال : [ لو أمر الناسبالجوع لصبروا ، و لو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه ] . و قالوا : مانهينا عنه إلا لشيء . و قد قيل : [ أحب شيء إلى الإنسان ما منعنا ] فلمابحثت عن سبب ذلك ، وجدت سببين : أحدهما : أن النفس لا تصبر على الحصر ، فإنهيكفي حصرها في صورة البدن . إذا حصرت في المعنى بمنع زاد طيشها . ولهذا لو قعد الإنسان في بيته شهراً ، لم يصعب عليه . و لو قيل له : لا تخرجمن بيتك يوماً ، طال عليه . و الثاني : أنها يشق عليها الدخول تحت حكم ، ولهذا تستلذ الحرام ، و لا تكاد تستطيب المباح . و لذلك يسهل عليها التعبدعلى ما ترى ، و تؤثره لا على ما يؤثر . · فصل : التعليم عبادة ما زالت نفسي تنازعني بما يوجبه مجلس الوعظ ، وتوبة التائبين ، و رؤية الزاهدين ... إلى الزهد و الانقطاع عن الخلق و الانفرادبالآخرة . فتأملت ذلك فوجدت عمومه من الشيطان ، فإن الشيطان يرى أنه لا يخلولي مجلس من خلق لا يحصون ، يبكون و يندبون على ذنوبهم . و يقوم في الغالب جماعةيتوبون و يقطعون شعور الصبا . و ربما اتفق خمسون و مائة . و لقد تاب عندي فيبعض الأيام أكثر من مائة . و عمومهم صبيان ، قد أنشأوا على اللعب و الانهماكفي المعاصي . فكأن الشيطان لبعد غوره في الشر . رآني أجتذب منه . فأراد أن يشغلنيعن ذلك بما يزخرفه ليخلو هو بمن أجتذبهم من يده . و لقد حسن إلى الإنقطاع عنالمجالس . و قال : لا يخلو من تصنع للخلق . فقلت : أما زخرفة الألفاظ وتزويقها ، و أخراج المعنى من مستحسن العبارة ، ففضيلة لا رذيلة . و أما أنأقصد الناس بما لا يجوز في الشرع ، فمعاذ الله . ثم رأيته يريني في التزهدقطع أسباب ـ ظاهرة الإباحة ـ من الاكتساب . فقلت له : فإن طاب لي في الزهد ،و تمكنت من العزلة ، فنفذ ما بيدي أو احتاج بعض عائلتي ، ألست أعود القهقرى ؟ فدعني أجمع ما يسد خلتي ، و يصونني عن مسألة الناس ، فإن مد عمري ، كان نعمالسبب ، و إلا كان للعائلة . و لا أكون كراكب أراق ماءه لرؤية سراب ، فلما ندم وقتالفوات ، لم ينتفع بالندم . و إنما الصواب توطئة المضجع قبل النوم ، و جمعالمال الساد للخلة قبل الكبر أخذاً بالحزم . و قد قال الرسول صلى الله عليهو سلم : لأن تترك ورثتك أغنياء ، خير لك من أن تتركهم عالةيتكففون الناس. و قال : نعم المال الصالح ، للرجلالصالح. و أما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن البشر لا عن الخير، و العزلة عن البشر واجبة على كل حال . و أما تعليم الطالبين ، و هداية المرتدين ،فإنه عبادة العالم . و إن من تفضيل بعض العلماء إيثاره للتنفل بالصلاة والصوم ، عن تصنيف كتاب ، أو تعليم علم ينفع ، لأن ذلك بذر يكثر ريعه ، و يمتد زماننفعه . و أنما تميل النفس إلى ما يزخرفه الشيطان من ذلك لمعنيين : أحدهما : حب البطالة ، لأن الانقطاع عندها أسهل . الثاني : لحبالمدحة فإنها إذا توسمت بالزهد كان ميل العوام إليها أكثر . فعليك بالنظر فيالشرب الأول ، فكن مع الشرب المقدم . و هم الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه ،رضي الله تعالى عنهم . فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين والمتصوفة ، من الانقطاع عن العلم ؟ و الانفراد عن الخلق ؟ و هل كانشغل الأنبياء إلا معانات الخلق ، و حثهم على الخير و نهيهم عن الشر ؟ إلا أنينقطع من ليس بعالم يقصد الكف عن الشر ، فذاك في مرتبة المحتمي يخاف شر التخليط . فأما الطبيب العالم بما يتناول ، فأنه ينتفع بما يناله . فصل : خيركم من عمل بما علم تأملت المراد من الخلق ، فإذا هو الذل ، واعتقاد التقصير و العجز . و مثلت العلماء و الزهاد العاملين صنفين فأقمت فيصف العلماءمالكاًوسفيانوأبا حنيفةوالشافعيوأحمد، و في صف العباد مالك بن دينار و رابعة و معروف الكرخي وبشر بن الحارث . فكلما جد العباد في العبادة ، و صاح بهم لسان الحال : عباداتكم لا يتعداكم نفعها و إنما يتعدى نفع العلماء ، و هم ورثة الأنبياء ، وخلفاء الله في الأرض ، و هم الذين عليهم المعول ، و لهم الفضل ، إذاً أطرقوا وانكسروا و علموا صدق تلك الحال ، و جاء مالك بن دينار إلى الحسن يتعلم منه و يقول : الحسن أستاذنا . و إذا رأى العلماء أن لهم بالعلم فضلاً ، صاح لسان الحالبالعلماء : و هل المراد من العلم إلا العمل ؟ ! و قالأحمد بن حنبل: [ و هل يراد بالعلم إلا ما وصل إليه معروف ؟ ] . و صح عنسفيان الثوريقال : [ وددت أن قطعت ولم أكتب الحديث ] . و قالت أم الدرداء لرجل : [ هل عملت بما علمت ] ؟ قال : لا . قالت : [ فلم تستكثر من حجة الله عليك ؟ ] . و قالأبو الدرداء: [ ويل لمن يعلم و لم يعمل مرة ، و ويل لمن علم ولم يعمل سبعين مرة ] . و قالالفضيل: [ يغفرللجاهل سبعون ذنباً ، أن يغفر للعالم ذنب واحد ] فما يبلغ من الكل قولهتعالى : هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون. و جاء سفيان إلى رابعة : فجلس بين يديها ينتفع بكلامها ، فدل العلماء العلمعلى أن المقصود منه العمل به ، و أنه آلة فانكسروا و اعترفوا بالتقصير . فحصل الكل على الاعتراف و الذل فاستخرجت المعرفة منهم حقيقة العبوديةباعترافهم ، فذلك هو المقصود من التكليف . · فصل : محبة الخالق ضرورة تأملت في قوله تعالى : يحبهم و يحبونه. فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقاًو قالت : محبته طاعته ، فتدبرت ذلك فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس . وبيان هذا أن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية ، و محبة العلم و العمل ترى الصورالمعنوية فتحبها . فإنا نرى خلقاً يحبون أبا بكر رضي الله عنه ، و خلقاًيحبون علياً بن أبي طالب رضي الله عنه ، و قوماً يتعصبونلأحمدبن حنبل، و قوماًللأشعريفيقتتلون و يبذلونالنفوس في ذلك . و ليسوا ممن رأى صور القوم ، و لا صور القوم توجب المحبة . لكن لما تصورت لهم المعاني فدلتهم على كمال القوم في العلوم ، وقع الحب لتلكالصور التي شوهدت بأعين البصائر . فكيف بمن صنع تلك الصور المعنوية و بذلها؟ . و كيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي ، و عرقى ملذوذات علمي ؟ فإنالتذاذي بالعلم و إدراك العلوم أولى من جميع اللذات الحسية ، فهو الذي علمني و خلقلي إدراكاً ، و هداني إلى ما أدركته . ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوقجديد ، أراه فيه بإتقان ذلك الصنع و حسن ذلك المصنوع . فكل محبوباتي منه ، وعنه ، و به ، الحسية و المعنوية ، و تسهيل سبل الإدراك به ، و المدركات منه ، و ألذمن كل لذة عرفاني له ، فلولا تعليمه ما عرفته . و كيف لا أحب من أنا به ، وبقائي منه ، و تدبيري بيده ، و رجوعي إليه ، و كل مستحسن محبوب هو صنعه و حسنه وزينه و عطف النفوس إليه . فذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور ، و العجيبالصنعة أكمل من المصنوع ، و معنى الإدراك أحلى عرفاناً من المدرك . و لوأننا رأينا نقشاً عجيباً لاستغرقنا تعظيم النقاش و تهويل شأنه ، و ظريف حكمته عن حبالمنقوش ، و هذا مما تترقى إليه الأفكار الصافية ، إذا خرق نظرنا الحسيات ، و نفذإلى ما وراءها ، فحينئذ تقع محبة الخالق ضرورة . و على قدر رؤية الصانع في المصنوعيقع الحب له . فإن قوي أوجب قلقاً و شوقاً . و إن مال بالعارف لى مقامالهيبة ، أوجب خوفاً . و إن انحرف به إلى تلمح الكرم أوجب رجاء قوياًقد علم كل أناس مشربهم. · فصل : إذعان العقل فحكمة الله تأملت حالا عجيبة ، و هي أن الله سبحانهتعالى قد بنى هذه الأجسام متقنه على قانون الحكمة . فدل بذلك المصنوع علىكمال قدرته ، و لطيف حكمته . ثم عاد فنقضها فتحيرت العقول بعد إذعانها لهبالحكمة ، في سر ذلك الفعل . فأعلمت أنها ستعاد للمعاد و أن هذه البنية لمتخلق إلا لتجوز في مجاز المعرفة ، و تتجر في موسم المعاملة ، فسكنت العقول لذلك . ثم رأت أشياء من هذا الجنس أظرف منه ، مثل احترام شاب ما بلغ بعض المقصودبنياته . و أعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه يتململان . و لا يظهر سر سلبه، و الله الغني عن أخذه ، و هما أشد الخلق فقراً إلى بقائه . و أظرف منهإبقاء هرم لا يدري معنى البقاء ، و ليس له فيه إلا مجرد أذى . و من هذاالجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم ، و توسعته على الكافر الأحمق . و فينظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها ، فيبقى مبهوتاً . فلم أزلأتلمح جملة التكاليف ، فإذا عجزت قوى العقل عن الاطلاع على حكمه ذلك ، و قد ثبت لهاحكمة الفاعل ، علمت قصورها عن درك جميع المطلوب ، فأذعنت مقرة بالعجز . و بذلك تؤديمفروض تكليفها . فلو قيل للعقل : قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بنى أفيجوز أنينقدح في حكمته أنه نقض ؟ لقال : لأني عرفت بالبرهان أنه حكيم ، و أنا أعجز عنإدراك علله فأسلم على رغمي مقرأ بعجزي . · فصل : تخيروا لنطفكم تأملت في فوائدالنكاح و معانيه و موضوعه ، فرأيتأن الأصل الأكب في وضعه وجود النسل ، لأن الحيوان لايزال يتحلل ، ثم يختلف منالمتحلل الغذاء ، ثم يتحلل من الأجزاء الأصلية ما لا يخلفه شيء ، فإذا لم يكن بد منفنائه ، و كان المراد امتداد أزمان الدنيا جعل النسل خلفاً عن الأصل . و لما كانتصورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف العورة و ملا قاة ما لا يستحسن لنفسه ،جعلت الشهور تحث عليه ليحصل المقصود . ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيءآخر ، و هو استفراغ هذا الماء الذي يؤذي دوام احتقانه . فإن المني ينفصل منالهضم الرابع ، فهو من أصفى جوهر الغذاء و أجوده ، ثم يجتمع ، فهو أحد الذخائرللنفس فإنها تدخر ـ لبقائها و قوتها ـ الدم ثم المني ، ثم تدخر التفل الذي هو منأعمدة البدن كأنه لخوف عدم غيره . فإذا زاد اجتماع المني أقلق على نحوالإقلاق البول للحاقن ، إلا أن إقلاقه من حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيثالصورة ، فتوجب كثرة اجتماعه ، و طول احتباسه ، أمراضاً صعبة ، لأنه يترقى من بخارهإلى الدماغ فيؤذي ، و ربما أحدث سمية . و متى كان المزاح سليماً فالطبع يطلببروز المني إذا اجتمع كما يطلب بروز البول ، وقد ينحرف بعض الأمزجة ، فيقل اجتماعهعنده فيندر طلبه لإخراجه ، و إنما نتكلم عن المزاج الصحيح ، فأقول : قد بينت أنهإذا وقع به احتباسه أوجب أمراضاً و جدد أفكاراً رديئة ، و *** العشق و الوسوسة إلىغير ذلك من الآفات . و قد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع و هو بعدمتقلقل ، فكأنه الأكل الذي لا يشبع . فبحثت عن ذلك فرأيته وقوع الخلل فيالمنكوح ، إما لدمامته ، و قبح منظره ، أو لآفة فيه ، أو لأنه غير مطلوب للنفس ،فحينئذ يخرج منه و يبقى بعضه . فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك ، فقسمقدار خروج المني في المحل المشتهى . و في المحل الذي هو دونه ، كالوطء بينالفخذين بالإضافة إلى الوطء في محل النكاح ، و كوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب . فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقضي فضول المني ، فيحصل للنفس كمال اللذة ،لموضع كمال بروز الفضول . ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضاً ، فإنه إذا كان منشابين قد حبسا أنفسهما عن النكاح مدة مديدة كان الولد أقوى منه من غيرهما ، أو منالمدمن على النكاح في الأغلب . و لهذا كره نكاح الأقارب ، لأنه مما يقبضالنفس عن انبساطها ، فيتخيل الإنسان أنه ينكح بعضه ، و مدح نكاح الغرائب لهذاالمعنى . و من هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذيةبمنكوح مستجد ، و إن كان مستقبح الصورة ما لا يحصل به في العادة . و مثالهذا أن الطاعم إذا سلأ خبزاً و لحماً حيث لم يبق فيه فضل لتناول لقمة ، قدمت إليهالحلوى فيتناول ، فلو قدم أعجب منها لتناول ، لأن ، الجدة لها معنى عجيب ، و ذلك أنالنفس لا تميل إلى ما ألفت ، و تطلب غير ما عرفت ، و يتخايل لها في الجديد نوع مراد . فإذا لم تجد مرادها صدفت إلى جديد آخر ، فكأنها قد علمت وجود غرض تام بلاكدر ، و هي تتخايله فيما تراه . و في هذا المعنى دليل مدفون على البعث ، لأنفي خلق همته متعلقة بلا متعلق نوع عبث . فافهم هذا . فإذا رأت النفس عيوب ما خالطتفي الدنيا عادت تطلب جديداً . و لذلك قال الحكماء : العشق ، العمى عن عيوب المحبوب، فمن تأمل عيوبه سلا . و لذلك يستحب للمرآة ألا تبعد عن زوجها بعداً تنسيهإياها ، و لا تقرب منه قرباً يملها معه ، و كذلك يستحب ذلك له ، لئلا يملها أو تظهرلديه مكنونات عيوبها . و ينبغي له ألا يطلع منه على عورة ، و يجتهد في ألايشم منها إلا طيب ريح ، إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات ،فإنهن يعلمن ذلك بفطرهن من غير احتياج إلى تعليم . فأما الجاهلات فإنهن لاينظرن في هذا فيتعجل التفات الأزواج عنهن . فمن أراد نجابة الولد و قضاء الوطرفليتخير المنكوح ، إن كان زوجة فلينظر إليها ، فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها ، ولينظر في كيفية وقوعها في نفسه ، فإن علامة تعلق حبها بالقلب ألا يصرف الطرف عنه ،فإذا انصرف الطرف قلق القلب بتقاضي النظرة ، فهذا الغاية . و دونه مراتب علىمقاديرها يكون بلوغ الأغراض و إن كان جارية تشترى فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر ومن قدر مناطقة المرآة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه ، ثم ليرى ذلك منها ، فإن الحسنفي الفم و العينيين . و قد نص أحمد : على جواز أن يبصر الرجل من المرآة التييريد نكاحها ما هو عورة ، يشير إلى ما يزيد على الوجه . و من أمكنه أن يؤخرالعقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه ، فإنه لا يخفى على العاقل توقان النفسلأجل المستجد و توقانها لأجل الحب فإذا رأى قلق الحب أقدم . فإنه قد أخبرنا محمد بنعبد الباقي قال : أخبرنا حمد بن أحمد قال : أخبرنا أبو نعيم قال : حدثنا سليمان بنأحمد قال : حدثنا عبد الجبار بن أبي عامر قال : حدثني أبي قال : حدثني خالد بن سلامقال : حدثنا عطاء الخرساني قال [ مكتوب في التوراة : كل تزويج على غير هوى حسرة وندامة إلى يوم القيامة ] . ثم ينبغي للمتخير أن يتفرس في الأخلاق فإنها منالخفي ، و إن الصورة إذا خلت من المعنى كانت كخضراء الدمن . و نجابة الولدمقصودة ، و فراغ النفس من الاهتمام بما حصلت من الرغبات أصل عظيم ، يوجب إقبالالقلب على المهمات . و من فرغ من المهمات العارضة أقبل على المهمات الأصلية . و لهذا جاء في الحديث : لا يقضي القاضي بين اثنين و هوغضبان. و إذا وضع العشاء و حضرت العشاء فابدءوابالعشاء. فمن قدر على امرآة صالحة في الصورة و المعنى فليغمض عنعوراتها ، و لتجتهد هي في مراضية من غير قرب يمل ، و لا بعد ينسى . و لتقدمعلى التصنع ، له يحصل الغرضان منها ، و قضاء الوطر . و مع الإحتراز الذيأوصيت به ، تدوم الصحبة ، و يحصل الغناء بها عن غيرها . فإن قدر علىالإستكثار فأضاف إليها سواها عالماً أنه بذلك يبلغ الغرض الذي يفرغ قلبه زيادةتفريغ كان أفضل لحاله . فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قداهتممنا بجمع همته ، أو خاف وجود مستحسنة تشغل قلبه عن ذكر الآخرة ، أو تطلب منه مايوجب خروجه عن الورع ، فحسبه واحدة . و يدخل فيما أوصيت به أنه يبعد فيالمستحسنات العفاف . فليبالغ الواجد لهن في حفظهن و سترهن . فأن وجد ما لايرضيه عجل الاستبدال ، فإنه سبب السلو ، و إن قدر على الاقتصار فإن الاقتصار علىالواحدة أولى ، فإن كانت على الغرض قنع ، و إن لم تكن استبدل ، و نكاح المرأةالمحبوبة يفرغ الماء المجتمع ، فيوجب نجابة الولد و تمامه ، و قضاء الوطر بكماله . و من خاف وجود الغيرة فعليه بالسراري ، فإنهن أقل غيرة ، و الاستظراف لهنأمكن من استظراف الزوجات . و قد كان جماعة يمكنهم الجمع ، و كان النساءيصبرن ، فكان لداود عليه الصلاة و السلام مائة امرأة ، و لسليمان عليه الصلاة والسلام ألف امرأة ، و قد علم حال نبينا صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و كان لأميرالمؤمنين علي رضي الله عنه أربع حرائر ، و سبع عشرة سرية ، و تزوج ابنه الحسن رضيالله عنه بنحو من أربعمائة ، إلى غير هذا مما يطول ذكره . فافهم ما أشرتإليه ، تفز به إن شاء الله تعالى . · فصل : لماذا تكثر الحسنات و السيئات ؟ كل شيء خلق الله تعالى في الدنيافهو أنموذج في الآخرة و كل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في االآخرة . فأما المخلوقمنها فقالابن عباسرضي الله عنهما : [ ليس في الجنة شيءيشبه ما في الدنيا إلا الأسماء ] . وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم إلى نعيم، و خوف بعذاب من عذاب . فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجلعلى ظلمه قبل الآجل ، و كذلك كل مذهب ذنباً ، وهو معنى قوله تعالى : من يعمل سوءاً يجز به. و ربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله فظن أن لا عقوبة ، و غفلة عما عوقبت به عقوبة . و قد قال الحكماء : المعصية ، و الحسنة بعد الحسنه ثواب الحسنه . و ربما كان العقاب العاجلمعنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل : [ يا رب كم أعصيك و لا تعاقبني ؟ ] فقيلله : [ كم أعاقبك وأنت لا تدري أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟ ] . فمن تأملهذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد ، حتى قال وهب بن الورد و قد سئل : أيجد لذةالطاعة من يعصي ؟ فقال : و لا من هم . فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتباربصيرته أو لسانه فحرم صفاء قلبه ، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره ، وحرم قيامالليل وحلاوة المناجاة ، إلى غير ذلك . و هذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس وعلى ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً ، كمافي حديث أبي أمامة : عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى : النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان ، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيتهإيماناً يجد حلاوته في قلبه. فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه علىمغفلها . فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس ، و من ذلك قولالنبي صلى الله عليه و سلم : الصبحة تمنع الرزق ، وإن العبد ليحرمالرزق بالذنب يصيبه. و قد روى المفسرون : أن كل شخص من الأسباط جاءباثني عشر ولداً ، و جاء يوسف بأحد عشر بالهمة ، و مثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأىالجزاء و فهم كما قال الفضيل : [ إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتيوجاريتي ] . و عن أبي العثمان النيسابوري : أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلىالجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة ، ثم قال : [ ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة ] . و من عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسفو شروه بثمن بخسامتدت أكفهم بين يديه بالطلب ، يقولون : و تصدق علينا. و لما صبر هو يوم الهمة ملك المرأةحلالاً ، و لما بغت عليه بدعواها : ما جزاء من أراد بأهلك سوءأنطقها الحق بقولهاأنا راودته. ولو أنشخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك ، وكذلك إذا فعل طاعة . و في الحديث : إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة، أي عاملوه لزيادةالأرباح العاجلة . و لقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع ، طلباًللراحة العاجلة ، انقلبت أحواله إلى التنغص العاجل ، و عكست عليه المقاصد . حكى بعض المشايخ : أنه اشترى في زمن شبابه جارية ، قال : [ فلما ملكتها تاقتنفسي إليها ، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقا يرخص لي ] . فكلهم قال : [ لايجوز النظر إليها بشهوة ، و لا لمسها ، و لا جماعها إلا بعد حيضها ] . قال : فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت و هي حائض ] ، فقلت : [ قرب الأمر ] . فسألتالفقهاء فقالوا : [ لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه ] . قال : فقلتلنفسي و هي شديدة التوقان لقوة الشهوة ، و تمكن القدرة و قرب المصاقبة : [ ماتقولين ؟ ] . فقالت : [ الإيمان بالصبر على الجمر ، شئت أم أبيت ] . فصبرت إلى أن حان ذلك ، فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيلي ما هو أعلىمنها وأرفع . · فصل : لا يخفى على الله شيء نظرت في الأدلة على الحق سبحانه و تعالىفوجدتها أكثر من الرمل ، و رأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عزو جل ، فيظهره الله سبحانه عليه وحده و لو بعد حين ، و ينطق الألسنة به و إن لميشاهده الناس . و ربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق ، فيكونجواباً لكل ما أخفى من الذنوب ، و ذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي علىالزلل ، و لا ينفع من قدره وقدرته حجاب ولا استتار ، و لا يصاغ لديه عمل . وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه ، و يتحدث الناس بها و بأكثر منها ، حتى إنهملا يعرفون له ذنباً و لا يذكرونه إلا بالمحاسن ، ليعلم أن هنالك رباً لا يضيع عملعامل . و إن قلوب الناس لتعرف حال الشخص و تحبه ، أو تأباه ، و تذمه ، أوتمدحه وفق ما يتحقق بينه و بين الله تعالى ، فإنه يكفيه كل هم ، و يدفع عنه كل شر . و ما أصلح عبد ما بينه و بين الخلق دون أن ينظر الحق ، إلا انعكس مقصوده وعدحامده ذاماً . · فصل : الشر و الخير تأملت الأرض و من عليها بعين فكري ، فرأيت خرابهاأكثر من عمرانها . ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره، و وجدت أهل الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار . ثم تأملتالمسلمين فرأيت المكاسب قد شغلت جمهورهم عن الرازق ، و أعرضت بهم عن العلم الدالعليه . فالسلطان مشغول بالأمر و النهي و اللذات العارضة له ، و مياه أغراضهجارية لا شكر لها . و لا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوىالنفس . و إنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها . كما قالعمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز : [ إذا رأيتني قدحدت عن الحق فخذ بثيابي و هزني ، و قل : مالكيا عمر ؟ ] . و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا ] . فأحوج الخلق إلى النصائح و المواعظ ، السلطان . و أما جنوده فجمهورهمفي سكر الهوى ، و زينة الدنيا ، و قد انضاف إلى ذلك الجهل ، و عدم العلم ، فلايؤلمهم ذنب ، و لا ينزعجون من لبس حرير ، أو شرب خمر ، حتى ربما قال بعضهم : [ إيشيعمل الجندي ، أيلبس القطن ؟ ] . ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها ، فالظلممعهم كالطبع . و أرباب البوادي قد غمرهم الجهل ، و كذلك أهل القرى . ما أكثرتقلبهم في الأنجاس و تهوينهم لأمر الصلوات ، و ربما صلت المرأة منهن قاعدة . ثم نظرت في التجار ، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص ، حتى لا يرون سوى وجوهالكسب كيف كانت ، و صار الربا في معاملتهم فاشياً ، فلا يبالي أحدهم من أي تحصل لهالدنيا ؟ و هم في باب الزكاة مفرطون ، و لا يستوحشون من تركها ، إلا من عصمالله . ثم نظرت في أرباب المعاش ، فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً ، والتطفيف و البخس ، و هم مع هذا مغمورون بالجهل . و رأيت عامة من له ولديشغله ببعض هذه الأشغال طلباً للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه و ما يتأدب به . ثم نظرت في أحوال النساء ، فرأيتهن قليلات الدين ، عظيمات الجهل ، ما عندهممن الآخرة خبر إلا من عصم الله . فقلت : واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجلو معرفته ؟ فنظرت فإذا العلماء ، و المتعلمون ، و العباد ، و المتزهدون . فتأملت العباد ، و المتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم ، و يأنس إلى تعظيمه ، وتقبيل يده و كثرة أتباعه ، حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لميفعل لئلا ينكسر جاهه . ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضاً ،و لا يشهدوا جنازة ، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم . و لا يتزاورون ، بل ربما ضنبعضهم على بعض بلقاء ، فقد صارت النواميس كلأوثان يعبدونها و لا يعلمون . وفيهم من يقدم على الفتوى و هو جاهل لئلا يخل بناموس التصدر ثم يعيبون العلماءلحرصهم على الدنيا و لا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه ، إلا تناولالمباحات . ثم تأملت العلماء المتعلمين ، فرأيت القليل من المتعلمين عليهأمارة النجابة ، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به . و جمهورهم يطلب منه مايصيره شبكة للكسب ، إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد ، أو قدر ما يتميزبه عن عن أبناء جنسه لم يكتفي . ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب بهالهوى و يستخدمه ، فهو يؤثر ما يصده العلم عنه ، و يقبل على ما ينهاه ، و لا يكاديجد ذوق معاملة الله سبحانه ، و إنما همته أن يحدث و حسب . إلا أن الله لايخلي الأرض من قائم له بالحجة ، جامع بين العلم و العمل . غارف بحقوق الله تعالى ،خائف منه . فذلك قطب الدنيا ، و متى مات أخلف الله عوضه . و ربما لم يمتحتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة . و مثل هذا لا تخلو الأرض منه ،فهو بمقام النبي في الأمة . و هذا الذي أصفه يكون قائماً بالأصول ، حافظاًللحدود ، و ربما قل علمه أو قلت معاملته . فأما الكاملون في جميع الأدواتفيندر وجودهم ، فيكون في الزمان البعيد منهم واحد . و لقد سبرت السلف كلهمفأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين ، و بين العمل حتى صارقدوة للعابدين ، فلم أر أكثر من ثلاثة : أولهمالحسن البصري، و ثانيهمسفيان الثوري، و ثالثهمأحمد بن حنبل. و قد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتاباً، و ما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب . و إن كان في السلف سادات إلا أنأكثرهم غلب عليه فن ، فنقص من الآخر ، فمنهم من غلب عليه العلم ، و منهم من غلبعليه العمل ، و كل هؤلاء كان هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم ، و النصيب الأوفىمن المعاملة و المعرفة . و لا يأس من و جود من يحذو حذوهم ، و إن كان الفضلبالسبق لهم . فقد أطلع الله عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام . فخزائن الله مملوءة ، و عطاؤه لا يقتصر على شخص . و قد حكي لي عن ابنعقيل أنه كان يقول عن نفسه : [ أنا عملت في قارب ثم كسر ] . و هذا غلط فمنأين له ؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك و كم من متأخرسبق متقدماً ، و قد قيل : إن الليالي و الأيامحاملة و ليس يعلم غير الله ما تلد · فصل : في قوة قهر الهوى لذة كبرى رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائداً فيالمقدار حتى إنها إذا مالت ، مالت بالقلب و العقل و الذهن ، فلا يكاد المرء ينتفعبشيء من النصح . فصحت بها يوماً و قد مالت بكليتها إلى شهوة : ويحك ! ففيلحظة أكلمك كلمات ثم افعلي ما بدا لك . قالت : قل اسمع . قلت : قدتقرر قلة ميالك إلى المباحات من الشهوات ، و أما جل ميلك فإلى المحرمات . وأنا أكشف لك عن الأمرين ، فربما رأيت الحلوين مرين . أما المباحات منالشهوات ، فمطلقة لك و لكن طريقها صعب ، لأن المال قد يعجز عنها ، و الكسب قد لايحصل معظمها ، و الوقت الشريف يذهب بذلك . ثم شغل القلب بها وقت التحصيل ، وفي حالة الحصول ، و بحذر الفوات . ثم ينغصها من النقص ما لا يخفى على مميز ،و أن كان مطعماً فالشبع يحدث آفات ، و إن كان شخصياً فالملل أو الفراق ، أو سوءالخلق . ثم ألذ النكاح أكثره إهاناً للبدن ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه . وأما المحرمات : فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات و تزيد عليها بأنها آفة العرضو مظنة عقاب الدنيا و فضيحتها ، و هناك و عيد الآخرة ، ثم الجزع كلما ذكرها التائب . و في قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة . ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوىكيف يكون ذليلاً ؟ لأنه قهر . بخلاف غلب الهوى فأنه يكون قوي القلب ، عزيزاً لأنهقهر . فالحذر الحذر من رؤية المشتهي بعين الحسن ، كما يرى اللص لذة أخذالمال من الحرز ، و لا يرى بعين فكره القطع . و ليفتح عين البصيرة لتأملالعواقب و استحلة اللذة نغصة ، و انقلابها عن ، كونها لذة ، إما لملل أو لغيره منالآفات ، أو لا نقطاعها بامتناع ****** . فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع، فما ردت كلب الجوع ، بل شهت الطعام . و ليتذكر الانسان لذة قهر الهوى ، معتأمل فوائد الصبر عنه . فمن وقف لذلك ، كانت سلامه قريبة منه . . · فصل : شغل الحياة خطر لي خاطر و المجلس قد طيب ، و القلوب قد حضرت ،والعيون جارية ، و الرؤوس مطرقة ، و النفوس قد ندمت على تفريطها ، و العزائم قدنهضت لإصلاح شؤونها ، و ألسنة اللوم تعمل في الباطن على تضييع الحزم و ترك الحذر ،فقلت لنفسي : ما بال هذه اليقظة لا تدوم فإني أرى النفس و اليقظة في المجلسمتصادقين متصافيين ، فإذا قمنا عن هذه التربة ، و قعت الغربة . فتأمت ذلكفرأيت أن النفس ما تزال متيقظة ، و القلب ما يزال عارفاً ، غير أن القواطع كثيرة ،و الفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه تعالى قد كل مما يستعمل فياجتلاب الدنيا ، و تحصيل حوائج النفوس ، و القلب منغمس في ذلك ، و البدن أسيرمستخدم . و بينا الفكر يجول في اجتلاب الطعام و الشراب و الكسوة ، و ينظر فيصدد ذلك ، و ما يدخر لعده و سنته ، إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية ـ و منهاالمني فاحتاج إلى النكاح ، فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا فتفكر في ذلكوعمل بمقتضاه . ثم جاء الولد فاهتم به وله ، و إذا الفكر عامل في أصولالدنيا و فروعها . فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائغاً و لا حاقناً . بليحضره جائعاً لهمه ، ناسياً ما كان من الدنيا على ذكره فيخلو الوعظ بالقلب فيذكرهبما ألف ، و بجذبه بما عرف ، فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه . فيحضرون النفس إلىباب المطالبة بالتفريط ، و يؤاخذون الحس بما مضى من العيوب ، فتجري عيون الندم ، وتنعقد عزائم الاستدراك . و لو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها ،لتشاغلت بخدمة باريها . و لو وقعت في سورة حبه ، لاستوحشت عن الكل شغلاًبقربه . و لهذا سكن الزهاد الخلوات ، و تشاغلوا بقطع المعوقات ، و على قدرمجاهدتهم في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم ، كما أن الحصاد على مقدار البذر . غير أن تلمحت في هذه الحالة ـ دقيقة ـ و هو أن النفس لو دامت لها اليقظةلوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها ، و هو العجب بحالها ، و الاحتقار لجنسها . و ربما ترقت بقوة علمها و عرفانها ، إلى دعوى قولها : لي ، و عندي ، و أستحق . فتركها في حومة ذنوبها تتخبط . فإذا وقفت على الشاطئ قامت بحق ذلةالعبودية ، و ذلك أولى لها . هذا حكم الغالب من الخلق ، و لذلك شغلوا عن هذاالمقام ، فمن بذر فصلح له فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح عبوديته ، وتسلم له عبادته . و إلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم. · فصل : نقد الصوفية تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين ، و ما يسميهجهلة المتزهدين توكلا من إخراج ما في اليد ليس بالمشروع . فإن النبي صلى الله عليهو سلم قال لكعب بن مالك : أمسك عليك بعض مالكأو كما قالله ، و قال لسعد : لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالةيتكففون الناس. فإن اعترض جاهل فقال : فقد جاء أبو بكر رضي الله عنهبكل ماله . فالجواب أن أبا بكر صاحب جأش و تجارة ، فإذا أخرج الكل أمكنه أنيستدين عليه ، فيتعيش . فمن كان على هذه الصفة لا أذم إخراجه لماله ، و إنماالذم متطرق إلى من يخرج ماله و ليس من أرباب المعائش . أو يكون من أولئك ،إلا أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كلا على الناس ، يستعطهم و يعتقد أنه على الفتوح ، وقلبه متعلق بالخلق ، و طعمه ناشب فيهم . و مت حرك بابه نهض قلبه . و قال : رزق قد جاء . و هذا أمر قبيح بمن يقدر به على المعاش ، و إن لم يقدر كانإخراج ما يملك أقبح ، لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس . و ربما ذل لبعضهم، أو تزين له بالزهد ، و أقل أحواله أن يزاحم الفقراء و المكافيف و الزمني فيالزكاة . فعليك بالشرب الأول ، فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلةالمتزهدين ؟ و قد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا و خلفوا الأموال . فرد إلى الشرب الأول ، الذي لم يطرق فإنه الصافي . و احذر من المشارعالمطروقة بالآراء الفاسدة الخارجة في المعنى على الشريعة مذعنة بلسان حالها أنالشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به . واعلم ـ وفقك الله تعالى ـ أن البدنكالمطية ، و لا بد من علف المطية ، و الاهتمام به . فإذا أهملت ذلك كان سببالوقوفك عن السير . وقد رئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعاما على عاتقه ، فقيلله : أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : [ إن النفس إذاأحرزت قوتها اطمأنت ] . و قالسفيان الثوري: [ إذا حصلت قوت شهر فتعبد] . و قد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوي فقالوا : هذا شك في الرازق والثقة به أولى . فإياك وإياهم . و ربما ورد مثل هذا عنبعض صدور الزهاد من السلف فلا يعول عليه ، ولا يهولنك خلافهم . فقد قالأبو بكر المروذي: سمعتأحمد بن حنبليرغب في النكاح . فقلت له : قال ابن أدهم ، فما تركني أتمم حتى صاح علي ، وقال : أذكر لك حال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ، وتأتيني ببنيات الطريق؟ و اعلم وفقك الله : أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد . و قال : لا آكلو لا أشرب ، و لا أقوم من الشمس في الحر ، و لا استدفئ من البرد ، كان عاصياًبالإجماع . و كذلك لو قال و له عائلة : لا أكتسب و رزقهم على الله تعالى ،فأصابهم أذى ، كان آثماً . كما قال عليه الصلاة والسلام : كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يوقت. و اعلم أن الاهتمامبالكسب يجمع الهم ، و يفرغ القلب ، ويقطع الطمع في الخلق ، فإن الطبع له حق يتقاضاه . وقد بين الشرع ذلك فقال : إن لنفسك عليك حقاً ، و إن لعينك عليك حقاً . و مثال الطبع من المريد السالك ، كمثل كلب لا يعرف الطارق ، فكل من رآه يمشي، نبح عليه ، فإن ألقى إليه كسرة سكت عنه . فالمراد من الاهتمام بذلك جمعالهم لا غير ، فافهم هذه الأصول ، فإن فهمها مهم . . · فصل : الإنسان والشهوة تأملت في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد و هلاك ، وفخوخ تلف . فمن قوي عقله على طبعه و حكم عليه سلم ، و من غلب طبعه فيا سرعةهلكته . و لقد رأيت بعض أبناء الدنيا كان يتوق إلى التسري . ثم يستعملالحرارات المهيجة للباه ، فما لبث أن انحلت حرارته الغريزية و تلف . و لم أرفي شهوات النفس أسرع هلاكاً من هذه الشهوة ، فإنه كلما مال الإنسان إلى شخص مستحسنأوجب ذلك حركة الباه زائداً عن العادة . و إذا رأى أحسن منه زادت الحركةوكثر خروج المني زائداً عن الأول ، فيفنى جوهر الحياة أسرع شيء . و بالضد منهذا أن تكون المرأة مستقبحة فلا يوجب نكاحها خروج الفضلة المؤذية كما ينبغي ، فيقعالتأذي بالاحتباس و قوة التوق إلى المنكوح . و كذلك المفرط في الأكل فإنهيجني على نفسه كثيراً من الجنايات ، و المقصر في مقدار القوت كذلك ، فعلمت أن أفضلالأمور أوسطها و الدنيا مفازة فينبغي أن يكون السابق فيها العقل ، فمن سلمزمام راحلته إلى طبعه و هواه ، فيا عجلة تلفه ـ هذا فيما يتعلق بالبدن و الدنيا ـفقس عليه أمر الآخرة فافهم . · فصل : حقيقة الذهد بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال : لا آكل . فقيل له : لم ؟ قال : لأن نفسي تشتهيه ، و أنا منذ سنين ما بلغت نفسي ماتشتهي . فقلت : لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين ، و سبب خفائها عدمالعلم . أما الوجه الأول : فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن على هذا ولا أصحابه ، و قد كان عليه الصلاة و السلام يأكل لحم الدجاج ، و يحب الحلوى و العسل . و دخل فرقد السبخي على الحسن و هو يأكل الفالوذج . فقال : [ يا فرقد ماتقول في هذا ] ؟ فقال [ لا آكله و لا أحب من أكله ] . فقال الحسن : [ لعاب النحل ،بلباب البر ، مع سمن البقر ، هل يعيبه مسلم ؟ ] . و جاء رجل إلى الحسن فقال : [ إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج ] فقال [ و لم ؟ ] قال يقول : [ لا أؤدي شكري ] ،فقال [ إن جارك جاهل و هل شكر الماء البارد ؟ ] . و كانسفيان الثورييحمل في سفره الفالوذج . و الحمل المشوي ، و يقول : [ إن الدابة إذا أحسن إليها عملت ] . و ما حدث في الزهاد بهدهم من هذاالفن فأمور مسروقة من الرهبانية . و أنا خائف من قوله تعالى : لاتحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا. و لا نحفظ عن أحمد منالسلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء أن يكون ذلك لعارض . و سبب ما يروىعن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه اشتهى شيئاً فآثر به فقيراً ، و أعتق جاريته رميثة، و قال : [ إنها أحب الخلق إلي ] ، فهذا و أمثاله حسن ، لأنه إيثار بما هو أجودعند النفس من غيره ، و أكثر لها من سواه . فإذا وقع في بعض الأوقات ، كسرتالفعل سورة هواها أن تطغى بنيل كل ما تريد . فأما من دام على مخالفتها علىالإطلاق ، فإنه يعمي قلبها ، و يبلد خواطرها ، و يشتت عزائمها ، فيؤذيها أكثر مماينفعها . و قد قالإبراهيم بن أدهم: إن القلبإذا أكره عمى . و تحت مقالته سر لطيف و هو أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي علىمعنى عجيب ، و هو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها ، فتعلم باختيارها لهصلاحه ، و صلاحها به . و قد قال حكماء الطب : ينبغي أن يفسح للنفس فيماتشتهي من المطاعم ، و إن كان فيه نوع ضرر ، لأنها إنما تختار ما يلائمها ، فإذاقمعها الزاهد في مثل هذا عاد على بدنه بالضرر . و لولا جواذب الباطن منالطبيعة ما بقي البدن فإن الشهوة للطعام تثور ، فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفتالشهوة . فاشهوة مريد و رائد ، و نعم الباعث هي على مصلحة البدن . غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى ، و متى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن منفساد العاقبة عاد ذلك على النفس بالفساد ، و وهن الجسم ، و اختلاف السقم الذيتتداعى به الجملة ، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش ، و الغذاء عند الجوع ، والجماع عند قوة الشهوة ، و النوم عند غلبته ، حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوىقتله الكمد . قهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد . علم أنه قد خالف طريق الرسولصلى الله عليه و سلم و أصحابه . من حيث النقل ، و خالف الموضوع من حيث الحكمة . و لا يلزم على هذا قول القائل : فمن أين يصفو المطعم ؟ لأنه إذا لم يصف كانالترك ورعاً ، و إنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع و كان ماشرحته جواباً للقائل : ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق . و الوجه الثاني : أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي ألا يتناول ، وللنفس في هذا مكر خفي ، و رياء دقيق ، فإن سلمت من الرياء للخلق ، كانت الآفة منجهة تعلقها بمثل هذا الفعل ، و إدلاها في الباطن به ، فهذه مخاطرة و غلط . وربما قال بعض الجهال : هذا صد عن الخير و عن الزهد . و ليس كذلك ، فإن الحديث قد صحعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل عمل ليس عليه أمرنافهو رد. و لا ينبغي أن يغتر بعبادة جريح ، و لا بتقوى ذي الحويصرة ،و لقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه و سلم ، و لا أصحابه ،من إظهار التخشع الزائد في الحد ، و التنوق في تخشين الملبس ، و أشياء صار العواميستحسونها . و صارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها : تقبيل اليد ، وتوفير التوقير و حراسة الناموس . و أكثرهم في خلوته ، على غير حالته فيجلوته . و قد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة ، و إذا خلا بالليل فكأنهقتل أهل القرية . فنسأل الله تعالى علماً نافعاً فهو الأصل ، فمتى حصل أوجبمعرفة المعبود عز وجل ، و حرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه و أحبه ، و سلك بصاحبه طريقالإخلاص . و أصل الأصول ـ العلم ، و أنفع العلوم النظر في سير الرسول صلىالله عليه و سلم و أصحابهأولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. · فصل : جهاد النفس تأملت جهاد النفس فرأيتهأعظم الجهاد ، و رأيت خلقاً من العلماء و الزهاد لا يفهمون معناه ، لأن فيهم منمنعها حظوظها على الإطلاق ، و ذلك غلط من وجهين : أحدهما : أنه رب مانع لهاشهوة أعطاها بالمنع أوفى منها . مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياهاذلك ، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح . و أخفى من ذلك أن يرىـ بمنعه إياها ما منع ـ أنه قد فصل سواه ممن لم يمنعها ذلك و هذه دفائن تحتاج إلىمنقاش فهم يخلصها . و الوجه الثاني ، أننا قد كلفنا حفظها ، و من أسبابحفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها ، فلا بد من إعطائها ما يقيمها ، و أكثر ذلكأو كله ما تشتهيه . و نحن كالوكلاء في حفظها . لأنها ليست لنا بل هي وديعةعندنا ، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر . ثم رب شد أوجب استرخاء ، و رب مضيقعلى نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها . و إنما الجهاد لها كجهاد المريضالعاقل ، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية ، و يذوب في المرارةقليلاً من الحلاوة ، و يتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب . و لا تحمله شهوتهعلى موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعاً ، و من لقمة ربما حرمت لقمات . فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها ، و لا يهمل مقودها ـ بل يرخى لها فيوقت و الطول بيده . فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها . فإذا رآها مالت ردها باللطف ، فإن ونت و أبت فبالعنف . و يحبسها فيمقام المداراة ، كالزوجة التي مبنى عقلها على الضعف و القلة ، فهي تدارى عند نشوزهابالوعظ ، فإن لم تصلح فبالهجر ، فإن لم تستقم فبالضرب . و ليس في سياطالتأديب أجود من سوط عزم . هذه مجاهده من حيث العمل ، فأما من حيث وعظها وتأنيبها ، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق ، و تتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفهاتعظيم خالقها لها فيقول : ألست التي قال فيك : خلقتك بيدي ، و اسجدت لكملائكتي ، و ارتضاك للخلافة أرضه ، و راسلك و اقترض منك و اشترى . فإن رآهاتتكبر ، قال لها : هل أنت إلا قطرة من ماء مهين ، تقتلك شرقة ، تؤلمك بقة ؟ و إن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد . و أن ونت في العمل ،حدثها بجزيل الأجر . و إن مالت إلى الهوى ، خوفها عظيم الوزر . ثم يحذرهاعاجل العقوبة الحسية ، كقوله تعالى : قل أرأيتم إن أخذ اللهسمعكم و أبصاركمو المعنوية كقوله تعالى : سأصرف عن آياتيالذين يتكبرون في الأرض بغير الحق. فهذا جهاد بالقول ، و ذاك جهادبالفعل . المصدر: ملتقى شذرات
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201) |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية (Tags) |
...لابن, الخاطر, الجوزي, كتاب |
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع حمل كتاب صيد الخاطر ...لابن قيم الجوزي | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
إشارات تربوية رائعة لابن الجوزي | صابرة | البيت السعيد | 0 | 11-11-2015 02:34 PM |
حمل كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي | Eng.Jordan | كتب ومراجع إلكترونية | 1 | 03-16-2012 03:02 PM |
حمل كتاب صيد الخاطر | Eng.Jordan | كتب ومراجع إلكترونية | 0 | 02-02-2012 10:54 PM |
نقد كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة | محمد خطاب | دراسات ومراجع و بحوث اسلامية | 0 | 01-24-2012 03:56 PM |
حمل كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين | Eng.Jordan | كتب ومراجع إلكترونية | 0 | 01-09-2012 11:37 PM |