#1  
قديم 01-06-2021, 09:36 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي أياما معدودات .. رمضان وعودة الروح


الكتاب: أياما معدودات
المؤلف: مجدي الهلالي
عدد الأجزاء: 1
[الكتاب مرقم آليا]
أيامًا معدودات ..

* حتى لا نخسر رمضان
* ماذا نريد من رمضان؟
* رمضان وعودة الروح

مجدي الهلالي
(/)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
أيامًا معدودات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد طلب مني إخواني في قسم النشر بمؤسسة اقرأ الجديدة كتابًا جديدًا عن شهر رمضان، ولقد مَنَّ الله عز وجل عليّ بالكتابة حول هذا الموضوع في أكثر من كتيب سابق، ولقد تضمنت تلك الكتيبات العديد من الأفكار والمعاني التي تركز على كيفية الاستفادة من هذا الشهر في إحياء القلب، والتزود الحقيقي بالإيمان، لذلك فقد وجدت أنه من المناسب أن أجمع هذه الكتيبات في كتاب واحد لعله يعطي للقارئ صورة شبه مُجملة حول طريقة الانتفاع بشهر رمضان في دوام الاستقامة طيلة العام ..
أسأل الله أن ينفعني وإياك - أخي القارئ - بكل خير تضمنته هذه الصفحات، وألا يحرمني الأجر إن أصبت أو أخطأت {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].
(1/1)
________________________________________
حتى لا نخسر رمضان
(1/2)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين .. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فعندما يذهب شخص إلى الطبيب شاكيًا من علة ما، فالمتوقع أن يستمع الطبيب إلى شكواه ثم يقوم بالكشف السريري عليه، ثم يكتب له الدواء الذي يراه مناسبًا لحالته.
ولن يفوت الطبيب تذكير مريضه بطريقة أخذ الدواء؛ فهذا قبل الأكل وهذا بعده، وذاك قبل النوم .. ثم ينصحه بالانتظام في تناوله، وفي النهاية يطلب منه مراجعته بعد عدة أيام.
ومن المتوقع أن أول سؤال سيسأله الطبيب لمريضه عند المقابلة الثانية سيكون عن مدى تحسن حالته الصحية، فإن وجد تحسنًا ملحوظًا فسيطلب منه الاستمرار على أخذ الأدوية ـ كلها أو بعضها ـ مدة زمنية أخرى حتى يتم له الشفاء ـ بإذن الله ـ وإن لم يلحظ هذا التحسن فسيتوجه إلى مريضه بالسؤال عن مدى جديته في تناول الدواء بالطريقة الصحيحة، فإن وجد منه التزامًا في هذا الأمر فسيتجه تفكيره نحو تغيير جرعات الدواء، أو استبداله بآخر، وكيف لا وهو يعلم بأن هدف مجيء المريض إليه هو بحثه عن الشفاء بإذن الله، ويعلم كذلك أن الأدوية ما هي إلا وسائل لتحقيق هذا الهدف.
إن العلاقة بين الأدوية والعافية تمثل العلاقة بين الوسائل والأهداف، فالوسائل ليست مطلوبة لذاتها بل لتتحقق الأهداف من خلالها.
و من العجيب أن هذا التصور لتلك العلاقة نمارسه بصورة تلقائية، وفي أمور كثيرة فيما يخص أمور دنيانا أما أمور ديننا فالأمر يختلف، بمعنى أن الأهداف في كثير من الأحوال تُنسى، وذلك حين تتحول الوسائل إلى أهداف وغايات.
حياة القلب بالإيمان هي الهدف:
لقد خلقنا الله عز وجل، وأسكننا الأرض لنقوم بمهمة عظيمة، ألا وهي ممارسة العبودية له سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
هذه العبودية لها حقيقة ينبغي أن يعيش المرء في أجوائها، وأن تظهر آثارها على سلوكه وتعاملاته ..
فالعبودية لله عز وجل معناها الانكسار والاستسلام التام له سبحانه، وطاعة أوامره، ودوام خشيته، والشعور بالاحتياج المطلق والافتقار التام إليه، ومن ثمَّ دوام سؤاله، والتمسكن بين يديه، والتوكل عليه، وإخلاص التوجه له، مع حبه وإيثار محابه ومراضيه على كل شيء ... لينعكس ذلك على السلوك فيصبح همُّ المرء فعل كل ما يرضي مولاه ويست*** به رحمته وفضله وجزاءه الذي وعد به عباده المتقين فيزداد سعيه لكل ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.
فالعبودية الحقيقية تعني غلبة الإيمان بالله على قلب المرء ومشاعره، فيصير حبه سبحانه أحب الأشياء لديه، وخشيته أخوف الأشياء عنده.
(1/3)
________________________________________
يطمئن إليه، ويثق فيه وفي قدرته غير المتناهية، وفي قربه، وعلمه وإحاطته بكل شيء، ومن ثم يتوكل عليه ويتقيه، ويحبه، ويشتاق إليه، و ... .
فالتوكل على الله عز وجل، ومحبته، وخشيته دليل على قوة الإيمان به والعبودية له:
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
{فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].
وكلما تمكن الإيمان من القلب تحسن السلوك تبعًا لذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (1).
فالإيمان هو الدافع للاستقامة وللسلوك الصحيح {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
العبادات وسائل:
فإن كانت حياة القلب بالإيمان هي الهدف الذي به تتحقق العبودية لله عز وجل فكيف يصل المسلم لهذا الهدف؟!
أرشدنا الله عز وجل إلى الوسائل التي من شأنها أن تبلِّغنا هذا الهدف .. هذه الوسائل هي العبادات بقسميها القلبية والبدنية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
فالعبادات أدوية ناجحة تحقق للقلب عبوديته التامة لله عز وجل ..
فالصلاة من شأنها أن تُشعر المسلم بخضوعه وانكساره لربه، وهي وسيلة عظيمة للاتصال به سبحانه، ومناجاته، واستشعار القرب منه، والأنس به، والشوق إليه فتكون نتيجتها زيادة خضوع المشاعر لله {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
وبهذا يزداد الإيمان من خلال تلك الصلاة، وتظهر آثاره في دوافع المرء وسلوكه، فتزداد مسارعته لفعل الخير، ويقوى وازعه الداخلي ومقاومته لفعل المعاصي أو الاقتراب منها فيحقق قوله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
والصدقة عبادة عظيمة تقوم بمعالجة القلب من داء حب الدنيا والتعلق بها .. أي أنها تطهر القلب وتزيده قوة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
والصيام يساعد المرء على السيطرة على نفسه وإلزامها تقوى الله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
والذكر بصفة عامة يهدف إلى تذكُّر الله .. تذكُّر عظمته وجلاله وجماله وإكرامه فيزداد به المرء اطمئنانًا وثقة وإيمانًا {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وهكذا في بقية العبادات القلبية والبدنية، والتي تشكل منظومة متكاملة، يتحقق من خلال القيام الصحيح بها الهدف العظيم من وجودنا على الأرض ...
فما من عبادة أرشدنا الله إليها إلا وتُعد بمثابة وسيلة و"مَركبة" تنقلنا إلى الأمام في اتجاه القرب منه سبحانه حتى نصل إلى الهدف العظيم في الدنيا (أن تعبد الله كأنك تراه) وفي الآخرة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر: 61].
تهيئة الأجواء لتحقيق الهدف:
__________
(1) متفق عليه: البخاري (1/ 28، رقم 52)، ومسلم (3/ 1219، رقم 1599).
(1/4)
________________________________________
والمتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تحثنا وتساعدنا على تهيئة الأجواء المناسبة للتفاعل القلبي مع العبادات ومن ثم زيادة الإيمان من خلالها، فعلى سبيل المثال: الصلاة .. نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من الشواغل وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن يمنعنا من التركيز فيها، فإذا حضر الطعام مع دخول وقت الصلاة يفضل البدء بالطعام حتى يدخل المرء إلى الصلاة وذهنه غير مشغول به.
وكذلك عند مدافعة الأخبثين .. قال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (1).
ولا ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصلاة، بل عليه أن يمشي في سكينة وهدوء، فالإسراع من شأنه أن يجعله يذهب إلى الصلاة وهو مضطرب فيصعب عليه جمع قلبه ..
والحث على التبكير في الذهاب للمسجد قبل إقامة الصلاة له دور مهم في صرف شواغل الدنيا عن الذهن ..
وكذلك فإن الحث على تذكر الموت قبل الصلاة من شأنه أن يستجيش المشاعر نحو الرجاء والطمع في عفو الله والخوف والرهبة من عقوبته ..
كل ذلك وغيره يهيئ المسلم للاستفادة من الصلاة وما فيها من قراءةٍ للقرآن، وذكر، ودعاء في تحقيق هدفها بزيادة الإيمان وتحسين السلوك ..
غياب الرؤية:
عندما تغيب هذه الرؤية ويصبح الهدف هو أداة العبادة، بأي شكلٍ كانت، فإن ثمرة العبادة لا تكاد تظهر للوجود، ومن ثمَّ يظل العبد في مكانه؛ فلا يتقدّم في مضمار سباق السائرين إلى الله، ولا يجد حلاوة الإيمان، ولا يشعر بتحسن ملحوظ في سلوكه، لتكون النتيجة: إنسانًا ذو شخصيتين متناقضتين؛ فقد تجده كثير الصلاة والصيام والحج والاعتمار، ومع ذلك تجده لا يؤدي الأمانة، ولا يتحرى الصدق، ويسيء معاملة الآخرين، ويحسدهم على كل خير يبلغهم .. يصاب بالهلع والفزع إذا ما تعرَّضت أمواله وممتلكاته أو دنياه لمكروه ...
هذه المظاهر السلبية وغيرها تدل على أن صاحبها لم يَسْتَفِد من عباداته، ولم يتحسن إيمانه من خلالها، وبالتالي لم ينتج منها الأثر الصحيح الذي من شأنه أن يصلح السلوك والمعاملات ..
وتأكيدًا لهذا التشخيص، لك أخي القارئ أن تتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر، ورُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» (2) ..
وكذلك قوله «واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (3).
وقوله «ليجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار»، قالوا: يا رسول الله مصلين؟ قال: «نعم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون هنة من الليل فإذا عُرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه» (4).
فالمقصد من العبادة ليس فقط أداؤها من الناحية الشكلية، بل المهم والأهم هو أداؤها بطريقة تحقق هدفها؛ فإراقة دماء الهَدْي في الحج على سبيل المثال ليست مقصودة لذاتها، بل المقصود هو زيادة الإيمان والتقوى من خلال أداء هذه الشعيرة {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
إحسان العمل أولًا:
من هنا نقول بأنه ينبغي علينا أن نهتم بتحسين العمل ليتحقق من خلاله مقصود العبادة، ويزداد الإيمان في القلب ..
وفي هذا المعنى يقول الحافظ بن رجب:
كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان.
__________
(1) رواه مسلم (1/ 393، رقم 560).
(2) أخرجه أحمد (2/ 373، رقم 8843)، والحاكم (1/ 596، رقم 1571)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1083).
(3) أخرجه الترمذي (5/ 517، رقم 3479)، والحاكم (1/ 670، رقم 1817) السلسلة الصحيحة (594).
(4) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 178).
(1/5)
________________________________________
وقال بعضهم: إن الرجلين ليقومان في الصف، وبين صلاتهما كما بين السماء والأرض.
ولهذا قال ابن عباس وغيره: صلاة ركعتين في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ.
إن القلب هو محل نظر الله عز وجل، ومن ثمَّ فإن الأعمال تتفاضل عنده سبحانه بتفاضل ما في القلوب من إيمان ومحبة وإخلاص وخشية له، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة موافقة هذه الأعمال للشرع ..
و لئن كان السير إلى الله والقرب منه إنما يكون بالقلوب، فإن وسائل ذلك هي العبادات والأعمال الصالحة التي دلنا عليها القرآن والسنة، ولكي تتم الاستفادة من هذه الوسائل في تحقيق الهدف لابد من تحسينها والاهتمام بتفاعل القلب معها، أما إذا تم التعامل معها على أنها غايات فسيصبح همّ المرء إتيانها والإكثار منها بأي شكل كان دون النظر لحضور القلب وانتفاعه بها، فيؤدي هذا إلى غياب الأثر الإيجابي للعبادات والأعمال الصالحة في حياة الفرد.

سل الواقع
ولعل الواقع الحالي للمسلمين خير دليل على أن هناك حلقةً مفقودةً بين العبادات وأثرها؛ فعلى الرغم من كثرة عدد المصلين في المساجد، وعلى الرغم من كثرة المتطوعين بالصيام والصدقات، والمتنفلين بالحج والعمرات، إلا أننا لا نرى الأثر المتوقع لهذه العبادات ... فما أسهل أن تجد مصليًا يكذب من أجل تحقيق مصلحة أو دفع مضرة! وما أكثر أن تجد قارئًا للقرآن متقنًا لتلاوته يسيء معاملة أهله ويذيقهم الويلات تلو الويلات! ... وما أكثر وما أكثر.

إن وجود هذا الانفصال بين العبادات وأثرها مردُّه - بالأساس - لتعاملٍ غير صحيح مع العبادات بحيث يفرغها من مضمونها الحقيقي، ويقصرها فقط على الناحية الشكلية، ولعل من أسباب هذا التعامل:
- تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال، وعدم ربطها بمقاصدها في تحقيق العبودية وزيادة الإيمان ..
- كذلك فإن من أسباب هذا التعامل: سهولة القيام بالطاعات من الناحية الشكلية فقط .. فالاجتهاد في تحقيق التجاوب القلبي مع البدني يحتاج إلى جهد - قد لا يريد الكثيرون بذله- وبالتالي يستسهلون ذلك التعامل الخاطئ.
- ومنها أيضًا: الشعور بالرضا عن النفس عند إنجاز (كَمّ) معتبر من العبادات، فالملاحظ أنه كلما نجح المرء في الانتهاء من أداء عمل شعر بالرضا عن نفسه، وهذا الشعور يدفعه دفعًا إلى الاستمرار في هذا الطريق.
و لعل أبلغ مثال يؤكد هذا الأمر هو تلاوة القرآن في رمضان، فالتسابق في إنجاز أكبر عدد من الختمات دون فهم ولا تدبر من أسبابه الشعور بالزهو والرضا عن النفس كلما ختم المسلم ختمة فيدفعه ذلك للبدء في ختمة أخرى وسرعة الانتهاء منها، وهكذا ...

تحصيل الثواب
ولئن كانت أسباب اهتمامنا بالقيام بظاهر العبادة دون جوهرها كثيرةً ومتعددةً، إلا أن أهم تلك الأسباب هي الرغبة في تحصيل الثواب المترتب عليها؛ فعلى سبيل المثال قراءة القرآن، هذه العبادة العظيمة التي من شأنها أن تحييَ القلب وتنيره وتشفيَه من أسقامه، قد تحوَّلت على ألسن الكثير من المسلمين إلى ألفاظ تُقرأ بلا فهم ولا تدبر ولا تأثر، بل أصبحت الغاية من التلاوة هي قطع المسافة بين فاتحة المصحف وخاتمته في أقل وقت ممكنٍ؛ أملًا في تحصيل الثواب، وذلك عملًا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (1).
__________
(1) الترمذي (5/ 175، رقم 2910)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6469).
(1/6)
________________________________________
و مما يثير العجب أن هناك العديد من الآيات والأحاديث التي تتحدث عن تدبر القرآن لتحصيل العلم والهداية والشفاء، وتذم من يقرؤه بلا فهم أو تدبر كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: من الآية 29]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73].
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه لقراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام: «لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث» (1).
ورأى صلى الله عليه وسلم يومًا بعض الصحابة يقرءون القرآن فقال لهم: «الحمد لله .. كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود .. اقرءوا القرآن، اقرءوا قبل أن يأتي أقوام يقرءونه، يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه» (2).

ومن أقواله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يَدْرِ ما يقول فلينصرف، فليضطجع» (3).
وعندما نزلت آيات سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] قال صلى الله عليه وسلم: «ويل لمَن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر بها» (4).
وتأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيَهم» (5).
وأقوال الصحابة في ضرورة تدبر القرآن كثيرة، منها قول عبد الله بن مسعود: «لا تهُذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم من السورة آخرها».
وقول علي بن أبي طالب: «لا خير في قراءة ليس فيها تدبر»، وقول الحسن بن علي: «اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه».
وقال رجل لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: «لأن اقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحبُّ إليَّ من أن أقرأ كما تقول» (6).
و هذه السيدة عائشة رضي الله عنها تسمع رجلًا يقرأ القرآن قراءة سريعة، فقالت: ما قرأ هذا وما سكت (7).
إذن فالنصوص التي تؤكد ضرورة تدبر القرآن وتفهمه وترتيله كثيرة، فلماذا لا يتم التركيز إلا على الأحاديث التي تسرد الثواب المترتب على القراءة فقط دون غيرها؟!
لا شك أن من أهداف تلاوة القرآن تحصيل الأجر، ولكن من خلال القراءة المتدبرة التي تزيد الإيمان وتُذكِّر القارئ بما ينبغي عليه فعله أو تركه فيصير القرآن حجة له لا عليه.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 165 و 189)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1157).
(2) أخرجه أبو داود (1/ 220، رقم 831)، وابن حبان (3/ 36، رقم 760)، والطبراني (6/ 207، رقم 6024)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 539، رقم 2645).
(3) أخرجه مسلم (1/ 543، رقم 787).
(4) حديث صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/ 386، برقم 620)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (68).
(5) أخرجه أحمد (3/ 197، رقم 13059)، وأبو داود (4/ 243، رقم 4766)، وابن ماجه (1/ 62، رقم 175)، وصححه الألباني في صحيح ظلال الجنة (940).
(6) فضائل القرآن لأبي عبيد الهروي.
(7) الزهد لابن المبارك (1197).
(1/7)
________________________________________
يقول ابن القيم: «لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها؛ فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وتذوق حلاوة القرآن» (1).

أين الثمرة؟
لقد جرَّبنا القراءة السريعة، وكان هَمُّ الواحد منا الانتهاء من ختم القرآن، بل كان بعضنا يتنافس في عدد مرات الختم، خاصةً في رمضان، فأي استفادة حقيقية استفدناها من ذلك؟! ماذا غيَّر فينا القرآن؟! أيُّ تحسُّن حدث في أخلاقنا ومعاملاتنا نتيجة كثرة القراءة باللسان والحناجر فقط؟

إحسان ثم إكثار:
ليس معنى هذا الكلام هو الزهد في الأجر والثواب المترتب على أداء العبادات، بل المقصد هو إحسان العبادة أولًا، مع الاجتهاد في حضور العقل وتفاعل القلب معها، ثم لنكثر منها بعد ذلك ما شئنا، فنجمع بين الأمرين وننال الخيرين.
بل إن الثواب المترتب على الأعمال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحضور القلب أثناء القيام بها ...
يقول ابن القيم: «وكل قول رتَّب الشارع ما رتَّب عليه من الثواب، إنما هو القول التام، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطَّت عنه خطاياه، أو غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»، وليس هذا مترتبًا على قول اللسان فقط .. نعم، من قالها بلسانه غافلًا عن معناها معرضًا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيًا مع ذلك ثوابها، حُطَّت من خطاياه بحسب ما في قلبه؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتهما ما بين السماء والأرض (2).

الفهم الصحيح أولًا
إن الفهم الصحيح لمقاصد العبادات، وأنها وسائل لا غنى عنها لإحياء القلب بالإيمان، هو الخطوة الأولى على طريق الاستفادة الحقيقية من تلك العبادات، وسيكون من نتاج ذلك الفهم- بإذن الله- البحث عن كيفية إحسان العبادة.
ففي الصلاة: سيكون الهمُّ هو حضور القلب فيها، وهذا يستدعي التبكير إلى المسجد، والتفكر في الآيات المقروءة، والاطمئنان في الركوع والسجود، وكثرة المناجاة والدعاء والتذلل لله عز وجل و ... .
وفي الذكر: سُيقرنه الذاكر بالتفكر فيه، فيستغفر مستحضرًا ذنوبه وتقصيره في جنب الله، نادمًا على ما أسلف، مستحضرًا جلال مَن عصاه، وسيقرن التسبيح متفكرًا في مظاهر عظمة الله وقدرته وإبداعه، كما يقول الحسن البصري: «إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا القلوب فنطقت بالحكمة» (3).

حتى لا يضيع علينا رمضان
إذا أسقطنا هذا المفهوم على رمضان فإن تعاملنا معه سيختلف عن ذي قبل وسنجتهد في الانتفاع الحقيقي به.
إن هذا الشهر يمثل فرصة ذهبية لإحياء القلب وعمارته بالإيمان وانطلاقه في رحلة السير إلى الله، لما قد اجتمع فيه من عبادات متنوعة مثل الصيام، والصلاة، والقيام، وتلاوة القرآن، والصدقة، والاعتكاف، والذكر، والاعتمار، و ....
هذه العبادات إذا ما أحسنَّا التعامل معها فإن أثرها سيكون عظيمًا في إحياء القلب وتنويره وتأهيله للانطلاق في أعظم رحلة: "رحلة السير إلى الله".
أما إن تم التعامل معها بصورة شكلية محضة فسيبقى الحال على ما هو عليه .. ستبقى الأخلاق هي الأخلاق، والنفوس هي النفوس، والاهتمامات هي الاهتمامات ... والواقع هو الواقع، وستستمر الشكوى بعد رمضان من الفتور وضعف الهمة والتثاقل نحو الأرض ..
__________
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم.
(2) مدارج السالكين لابن القيم.
(3) إحياء علوم الدين
(1/8)
________________________________________
الغنيمة الباردة:
و لعل من أهم الأمور التي تُعين المسلم بإذن الله على الاستفادة من رمضان هو إدراكه أن هذا الشهر يُعد بمثابة (الغنيمة الباردة) التي يمكنه من خلالها إيقاظ الإيمان وتجديده في قلبه والتزود بالتقوى، وأن هذه الغنيمة لا يمكن إدراكها من خلال القيام بأشكال العبادات دون تحرك القلب معها، وهذا يستدعي منه تفرغًا - إلى حد ما - من الشواغل التي تشوش على عقله، وتصرفه عن الحضور والتجاوب القلبي مع الأداء البدني للعبادات.
ويحتاج الأمر كذلك إلى عدم إجهاد البدن قدر المستطاع، فكلما أُجهد البدن ثقلت العبادة وغاب أثرها على القلب.
والجدير بالذكر أن البعض يتصور أن قيامه بنوافل العبادات - كصلاة القيام - وهو في حالة من الإجهاد البدني والشعور الشديد بالتعب أفضل من عدم قيامه بها، لأنه لو تركها وأخلد للراحة بصورة مؤقتة فستفوته تلك النافلة مع الجماعة، وهذا - بلا شك - نتيجة لغياب الفهم الصحيح لحقيقة العبودية، ولقد مر علينا قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف، فليضطجع» وليس معنى هذا هو سرعة الاستسلام للشعور بالتعب والإجهاد، ولكن لابد من إعطاء البدن حقه من الراحة حتى نستطيع - بعون الله - القيام بالعبادة وعقولنا وقلوبنا حاضرة معها قدر المستطاع.
ولك - أخي القارئ - أن تتأمل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
ففي مرحلة التدرج في تحريم شرب الخمر، كان التوجيه بعدم شربها قبل الصلاة حتى لا تُذهب العقل فلا يدري المصلي ما يقول، أي أن التركيز في الصلاة وفهم ما يقوله المرء أو يسمعه أمر ضروري يتحقق من خلاله مقصودها.
فماذا تقول عمن يدخل إلى الصلاة وهو شارد الذهن ويغلبه النعاس فيبدأ الصلاة وراء الإمام برفع يديه بالتكبير ثم يفاجأ بالتسليم؟! هل بهذا الشكل يزداد الإيمان والتقوى؟!
يقول صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يُتلى عليهم كتاب الله فلا يدرون ما يُتلى منه مما ترك، هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل، فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل الله من عبد عملًا حتى يشهد بقلبه مع بدنه» (1).

في رمضان العمل مع أنفسنا أهم واجباتنا:
فإن قلت: ولكن ماذا أفعل وفي رمضان تزداد الأعمال الخدمية والاجتماعية مما يؤثر بالسلب على إتقان العبادة؟
إن الحركة وسط الناس مطلوبة لتوجيههم ودعوتهم إلى الله، ومساعدتهم، وإسداء الخير لهم، ولكي يستفيد المسلم من هذه الحركة لابد وأن تنطلق من إيمان حي، ونفس مزكاة، فإن لم يحدث هذا كانت النتيجة سلبية كما قال صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» (2).
و يقول الرافعي: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة لمن حولك وتترك الفوضى في قلبك ..
وشهر رمضان فرصة عظيمة لشحن القلب بالإيمان، وترويض النفس وتزكيتها، فإن ضاعت من المسلم هذه الفرصة فأي حال سيكون عليه قلبه وإيمانه؟
فمن لم يحيي قلبه في رمضان فمتى يحييه؟ ومن لم يتزود بالإيمان في رمضان فمتى يتزود؟
__________
(1) حديث ضعيف: أورده ابن الأثير في جامع الأصول (5/ 648)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (11/ 52 برقم 5050).
(2) أخرجه الطبراني، وقال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره.
(1/9)
________________________________________
وليس معنى هذا هو الاعتكاف التام عن الناس طيلة الشهر، ولكن المقصد هو تخفيف الجرعة، وهذا يستدعي منا إنهاء ما يمكن إنهاؤه من واجبات اجتماعية وخدمية قبل قدوم رمضان أو بعد رحيله، والإقلال قدر المستطاع من الزيارات العائلية، والإفطارات المجمعة، وكيف لا وشهر رمضان (أيامًا معدودات) سرعان ما تنقضي.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل عام العشر الأواخر من رمضان، وفي العام الذي تُوفي فيه اعتكف عشرين يومًا .. أي ثلثي الشهر، فماذا نقول بعد ذلك وأي حجة سنسوقها كي نبرر لأنفسنا عدم التركيز في العبادة وتحصيل الزاد من خلال منظومة العبادات في شهر رمضان؟!
ولئن كانت الظروف المحيطة ببعض الأفراد تستدعي منهم كثرة الحركة وبذل الجهد مع الآخرين في هذا الشهر؛ فإن التخطيط الجيد لتنفيذ الأعمال الدعوية والاجتماعية، والمساعدات الخيرية، والحرص الشديد على الوقت وتنظيمه يساعد بإذن الله على تحقيق ذلك دون الإخلال ببرنامج الاستفادة الحقيقية من رمضان، وبهذا نجمع الخيرين.

البنا يؤكد:
إليك أسوق - أخي القارئ - كلمة للإمام المجدد حسن البنا - رحمه الله - والتي كانت جزءًا من درسه الأسبوعي المعروف بـ (حديث الثلاثاء) يؤكد فيها على هذا المعنى فيقول:
أيها الأخوة الفضلاء: أحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
في هذه الليلة التي تجاوز ختام شعبان نختم هذه السلسلة من الأحاديث حول نظرات في القرآن - كتاب الله تبارك وتعالى - وإن شاء الله في العشر الأول من شوال نعود إليها، ونستفتح بذلك موسمًا جديدًا من مواسم المحاضرات، وسيكون موضوعها إن شاء الله (نظرات في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي).
هذا أيها الإخوان ورمضان شهر شعور وروحانية وتوجُّه إلى الله، وأنا أحفظ فيما حفظت أن السلف الصالح كانوا إذا أقبل رمضان ودَّع بعضهم بعضًا حتى يلتقوا في صلاة العيد، وكان شعورهم: هذا شهر العبادة وشهر الصيام والقيام، فنريد أن نخلو فيه لربنا، والحقيقة أيها الإخوان، إني حاولت أن أوجد فرصة نقضي فيها حديث الثلاثاء في رمضان فلم أجد الوقت الملائم، فإذا كنا قد قضينا معظم العام في نظرات في القرآن فأنا أحب أن نقضي رمضان في تطبيق هذه النظرات ..
أيها الإخوة الفضلاء:
لقد تحدثنا طويلًا عن عاطفة الحب والتآخي التي ألف الله بها بين قلوبنا، والتي كان من أبرز آثارها هذا الاجتماع على الله، وإذا كنا سنُحرم هذا اللقاء أربعة أسابيع أو أكثر فليس معنى هذا أن تخمد العاطفة أو تخبو، أو ننسى أبدًا ما كانت تفيض به قلوبنا ومشاعرنا في هذا المجلس الطيب من أسمى معاني العزة والتآخي في الله، بل أنا أعتقد أنها ستظل متمثلة ومشتعلة في نفوسنا حتى نحظى بلقاء كريم بعد هذه الإجازة إن شاء الله، فإذا جاء أحدكم يصلي العشاء ليلة الأربعاء لي رجاء أن يدعو لإخوانه بالخير، فلا تنسوا هذا، ثم أحب أن تتذكروا أننا إذا كانت عاطفتنا ستتعطّش إلى هذا اللقاء خلال هذه الأسابيع، فأحب أن تعلموا بأنها ستروى من معين أفضل وأكمل وأعلى، وهو الاتصال بالله تبارك وتعالى، وهو خير ما يتمناه مؤمن لنفسه في الدنيا والآخرة ... ) (1).
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بهذا الشهر الكريم وأن نكون ممن غفر لهم وأعتقهم من النار، والحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
__________
(1) مقالات الإسلاميين في رمضان لمحمد موسى الشريف نقلًا عن حديث الثلاثاء لحسن البنا (خواطر حول شهر الصيام)
(1/10)
________________________________________
ماذا نريد من رمضان؟
(1/11)
________________________________________
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن من رحمة الله وفضله علينا أن جعل لنا في هذه الحياة الدنيا محطات نتزود فيها بالإيمان والتقوى، ونمحو ما علق بقلوبنا من أثار الذنوب والغفلات ... نلتقط فيها أنفاسنا، ونعيد ترتيب أوراقنا، فنخرج منها بروح جديدة، وهمة عالية وقوة نفسية تعيننا على مواجهة الحياة وما فيها من جواذب وصوارف، وتيسر لنا أداء المهمة التي من أجلها خلقنا الله عز وجل. فإذا ما بحث الواحد منا عن تلك المحطات وجدها كثيرة ... .

فمنها اليومية كالصلوات الخمس، ومنها الأسبوعية كيوم الجمعة، ومنها السنوية كشهر رمضان، ومنها ما قد يكون مرة واحدة في العمر كالحج والعمرة.

والسعيد من رتب أوراقه وهيأ نفسه للاستفادة من تلك الفرص قبل قدومها عليه، فلا يدعها تمر حتى يتزود منها بكل ما يحتاجه في رحلته إلى الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
ومن أهم المحطات التي تمر على المسلمين مرة واحدة كل عام: شهر رمضان، فها هي الأيام تمضى ويهل علينا الشهر الكريم بخيره وبركته ... ولقد جعله الله عز وجل موسمًا لاستباق الخيرات، النافلة فيه كالفريضة والفريضة كسبعين فريضة في غيره .... شعاره يا باغي الخير أقبل .... الشياطين فيه مصفدة، وأبواب النيران مغلقة، والأجواء مهيأة لنيل المغفرة والرحمة والعتق من النار. تزينت فيه الجنة ونادت خطابها أن هلموا إلى وأسرعوا الخطى فالسوق مفتوح والبضاعة حاضرة، والمالك جواد كريم.
فهيا بنا نحسن الاستعداد لاستقباله حتى لا نفاجأ بقدومه.
ومما يعنينا على ذلك معرفة ماذا نريد من هذا الضيف الكريم؟ وما الوسائل التي سنستخدمها؟
وهذه الصفحات التي بين أيدينا هي محاولة للإجابة عن هذا السؤال
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

هل من مشمر للجنة
يقول صلى الله عليه وسلم «ألا هل من مشمر للجنة، فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في حلية عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: «قولوا إن شاء الله» فقالوا إن شاء الله (1).
إن دخول الجنة يحتاج بعد التعلق برحمة الله إلي كثير من المجهود نبذله في طاعة الله، ولم لا؟ وما هي إلا أيام معدودات نمكثها في هذه الحياة الدنيا ثم يعقبها سنوات طوال - لا نهاية لها - في القبر والدار الآخرة.
إن أغلى أماني أهل القبور أن يعودوا إلى الدنيا ولو للحظة: يسبحون الله فيها تسبيحة أو يسجدون له سجدة واحدة.
فهل لنا فيهم من عبرة؟!
أما آن لنا أن نفيق من غفلاتنا ونستعد لمواجهة المصير الذي ينتظرنا؟!
إننا ما زلنا في الدنيا والفرصة سانحة أمامنا للتزود لما بعد الموت، وها هو شهر رمضان يدعونا لذلك.
هيا بنا نشمر عن سواعدنا ونهجر فراشنا ونوقظ أهلنا ونرفع راية الجهاد ضد أنفسنا وشهواتها ورغباتها.
هيا بنا نجيب داعي الله: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}.

أحوال الناس مع رمضان:
نعم .. رمضان فرصة عظيمة لا تأتي إلا مرة واحدة في العام، ولكن هل يتعامل معها المسلمون بنفس المستوى؟

فمن الناس من يعتبر مجيء هذا الشهر عبئًا ثقيلًا عليه يتمنى زواله فلا يرى فيه إلا الحرمان .. هؤلاء دخل عليهم رمضان ثم خرج دون أن يترك فيهم أثر أو يحدث لهم ذكرًا.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1448، رقم 4332)، وابن حبان (16/ 389، رقم 7381)، والطبراني (1/ 162، رقم 388).
(1/12)
________________________________________
ومنهم من أستشعر قيمته فشمر سواعد الجد واجتهد غاية الاجتهاد في الإتيان بأكبر قدر من الطاعات فأكثر من ختم القرآن وأداء الصلوات والقربات دون الاهتمام بحضور القلب فيها ...
تعامل مع كل وسيلة علي أنها هدف في حد ذاته، ولم ينظر إلى الهدف الأسمى الذي يرنو الصيام إلي تحقيقه.
هؤلاء قد يشعرون بأثر طيب في قلوبهم .. هذا الأثر سرعان ما يزول بعد انتهاء رمضان بأيام قلائل.
وهناك صنف من الناس اعتبر رمضان فرصة نادرة لإحياء القلب وإيقاظه من رقدته وإشعال فتيل التقوى وجذوة الإيمان فيه. نظر إلى مستهدف الصيام فوجده في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فتقوى الله عز وجل هي مقصود العبادات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وعلى قدرها في القلب يكون قرب العبد أو بعده من الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] وعلم هذا الصنف أن شهر رمضان ما جاء إلا ليقرب الناس من ربهم ويزيد من صلاتهم به، ويقطع عن قلوبهم صلتها بالدنيا فهو يزود القلوب بخير زاد {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197] فشمر عن سواعد الجد وجمع بين عمل القلب وعمل الجارحة ..
ومما لا شك فيه أن الصنف الأخير هو الفائز الأكبر من رمضان فلقد أصلح من خلاله قلبه وانطلق به في طريق السائرين إلي الله ....

علامات صلاح القلب:
فإن قال قائل: وما علامة صلاح القلب التي ينشدها رمضان؟
عندما يستيقظ الإيمان، وتشتعل جذوته في القلب فإن أمارات الصلاح تظهر بوضوح على الجوارح مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (1) فترى صاحب هذا القلب مسارعًا في الخيرات معظمًا لشعائر الله مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32) تتحقق فيه المبادأة والذاتية: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (التوبة:44) سريع الاستجابة للتوجيه والنصح: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِر} (البقرة:232) وتراه كذلك زاهدًا في الدنيا راغبًا فيما عند الله .. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل النور القلب أنشرح وأنفتح» قالوا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله» (2).
فإن كانت هذه بعض علامات تحقق الهدف فكيف السبيل للوصول إليه؟
إن الوسائل معروفه لدينا، بل مارسنا أغلبها من قبل، ولكن الجديد هو كيف نتعامل معها، ونستفيد منها لنصل إلي الغاية المنشودة من رمضان.
ويمكن تقسيم هذه الوسائل إلى قسمين رئيسيين: قسم يصلح من خلاله العبد ما بينه وبين الله، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الجانب الشعوري الوجداني.
أما القسم الأخر فيختص بعلاقة الفرد بمجتمعه ويسمى الجانب السلوكي الاجتماعي.
__________
(1) متفق عليه: البخاري (1/ 28، رقم 52)، ومسلم (3/ 1219، رقم 1599).
(2) أخرجه الحاكم (4/ 346، رقم 7863)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 352، رقم 10552)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة.
(1/13)
________________________________________
ولا يمكن الاستغناء بأحد القسمين عن الأخر، فكلاهما له دور في إنجاح مهمة المسلم على الأرض، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء:125) فإسلام الوجه لله - وهو أمر شعوري ووجداني - لابد أن يصاحبه إحسان إلى الخلق، ومن الخطأ الذي يقع فيه البعض التركيز على جانب دون الأخر ... فالذي يعطى جل جهده فيما يصلح بينه وما بين الله تاركا كل ما يعود بالنفع على الناس: إيمانه ناقص، فالإيمان قول وعمل .. بل إن من أهم نتائج الأعمال الصالحة أنها تزيد إيمان صاحبها وتثبت قواعده في قلبه، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10) جاء في بعض الأثر: إن العبد إذا قال لا إله إلا الله بنية صادقه نظرت الملائكة إلي عمله، فإن كان موافقًا لقوله، صعدا جميعًا، وإن كان العمل مخالفًا وقف قوله حتى يتوب من عمله (1).
وفى المقابل فإن الانشغال بالعمل والحركة وسط الناس لقضاء حوائجهم، وحل مشكلاتهم، وإسداء النفع لهم دون أن يصاحب ذلك وجود قلب حي متصل بالله أمر خطير من شأنه أن يحدث أثر سلبيًا في نفس صاحبه، ولقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر فقال: «مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة، تضيء للناس وتحرق نفسها» (2).
ويقول الرافعي: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك (3).
فلا بد من وجود الأمرين معا ليشكل كل منهما طرفا تنعقد به العروة الوثقى كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].

القسم الأول
مع الله
يتيح شهر رمضان للمسلم العديد من الوسائل التي من شأنها أن تحي قلبه، وتحسن صلته بربه.
- وأولى هذه الوسائل: الصيام
وهو وسيله عظيمة لامتلاك النفس والسيطرة عليها فالنفس هي العائق الأكبر في سير العباد إلى الله، فمن شأنها دومًا طلب الحظوظ والفرار من الحقوق، ومن أفضل طرق ترويضها الصيام، فبه تضعف مادة شهوتها.
فإذا أردنا أن نستفيد من هذه الوسيلة فعلينا ألا نقضى أغلب النهار في النوم، وعلينا كذلك أن نتوسط في تناول الطعام والشراب عند الإفطار، ولا نتوسع في الأصناف فيكفى صنف أو اثنان، قال الحليمي: وكل طعام حلال فلا ينبغي لأحد أن يأكل منه ما يثقل بدنه، فيحوجه إلى النوم، ويمنعه من العبادة وليأكل بقدر ما يسكن جوعه، وليكن غرضه من الأكل أن يشتغل بالعبادة ويقوى عليها (4).
ومع الصيام عن الطعام والشراب علينا كذلك الإقلال من الكلام والضحك قدر المستطاع ولنرفع شعار «أمسك عليك لسانك» وليكن كلامنا بعيدا عن اللغو وسائر آفات اللسان.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 211.
(2) أخرجه الطبراني، وقال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره.
(3) وحي القلم 2/ 43.
(4) شعب الإيمان للبيهقي 5/ 22.
(1/14)
________________________________________
- ثانيا: التعلق بالمساجد:
المسجد له دور كبير في تنوير القلوب ... ففي ختام قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يقول تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35) وفى الآية التي تلتها حدد سبحانه أعظم مكان لتلقى نوره بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} (النور: 36) ففي المسجد تربط القلوب على طاعة الله وتحبس النفس عن معصيته .. يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكارة وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط» (1).
إن قلب المؤمن كثير التقلب من حالة إلى حالة نتيجة التنازع المستمر بين داعي الإيمان وداعي الهوى، وهو بحاجه إلى ربطه وتثبيته على حالة الإيمان .. وهنا يأتي دور المسجد، قال أبو هريرة في قوله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (آل عمران: 200) لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة (2).
فلنبكر بالذهاب إلى المسجد ولا نترك أماكننا بعد الصلاة إلا لضرورة كي ننعم بصلاة الملائكة علينا .. قال صلى الله عليه وسلم: «الملائكة تصلى على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث: اللهم اغفر له اللهم ارحمه» (3).
وعلى الأخت المسلمة أن تخصص مكانًا في بيتها تتخذه مسجدًا فتبكر في الذهاب إليه وانتظار الصلاة وترديد الأذان وطول المكث فيه كلما سنحت ظروفها.
- ثالثاً: القرآن الكريم
رمضان شهر القرآن وقد كان من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مدارسة القرآن فيه ... فهو وسيلة عظيمة لشفاء القلوب وهدايتها وتنويرها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57) وعلى قدر صلة المسلم بالقرآن تكون صلته بالله .. قال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا!! فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً» (4).
هذه الوسيلة العظيمة لن تحقق مقصودها ولن تكون هدي وشفاءً ونوراً إلا إذا تعاملنا معها بالشكل الذي يريده الله عز وجل ..
لقد نزل القرآن لنتدبره ونستخرج منه ما ينفعنا لا لنقرأه بألسنتنا فقط، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} (ص: 29).
قال بعض السلف: لا يجالس أحد القرآن ويقوم سالما إما أن يربح أو يخسر قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الإسراء: 82).
لقد قرأنا القرآن بألسنتنا قبل ذلك مرات ومرات، وكان هم الواحد منا الانتهاء من ختمه، بل وكان بعضنا يتنافس في عدد المرات التي يختمه فيها وبخاصة في رمضان، فأي استفادة حقيقية استفدناها من ذلك؟! ماذا غير فينا القرآن؟!
__________
(1) رواه مسلم (1/ 219، رقم 251).
(2) شعب الإيمان 3/ 70.
(3) أخرجه أحمد (2/ 312، رقم 8106)، وأبو داود (1/ 127، رقم 469)، والنسائي (2/ 55، رقم 733)، وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر.
(4) أخرجه البزار (8/ 346، رقم 3421)، والطبراني في الكبير (2/ 126، رقم 1539)، وفى الصغير (2/ 209، رقم 1044)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (34).
(1/15)
________________________________________
إن القراءة باللسان فقط - دون حضور القلب - كالنخالة كبيرة الحجم قليلة الفائدة، وهذا ما كان يؤكده الصالحون على مر العصور، قال على رضي الله عنه: لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، وقال الحسن، كيف يرق قلبك وإنما همك أخر السورة؟ ويؤكد هذا المعنى ابن القيم فيقول رحمه الله: لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العالمين، ومقامات العارفين .. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواه، فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم.
فليكن رمضان هو البداية الحقيقية للتعامل الصحيح مع القرآن.
كيف ننتفع بالقرآن؟
القرآن هو أهم وسيله لترقيق القلوب .. قال وهيب بن الورد: نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئا أرق للقلوب ولا أشد استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره.
وتلاوة القرآن حق تلاوته - كما يقول أبو حامد الغزالي - هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزعاج والائتمار ... فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ (1).
وهذه بعض الوسائل العملية التي من شأنها أن تيسر لنا - بعون الله - الانتفاع بالقرآن:
1 - قبل بدء القراءة: دعاء الله والإلحاح عليه بأن يفتح قلوبنا لأنوار كتابه، وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر، فهذا الدعاء له دور كبير في تهيئه القلب لاستقبال القرآن {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (غافر: 13،14).
2 - الإكثار من تلاوة القرآن، وإطالة فترة المكث معه ويفضل أن يكون اللقاء بالقرآن في مكان هادئ - قدر المستطاع - وبعيداً عن الضوضاء ليساعد المرء على التركيز وعدم شرود الذهن، ولا ننسى الوضوء والسواك قبل القراءة.
3 - القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل: فالترتيل له وظيفة كبيرة في الطرق على المشاعر ومن ثم استثارتها وتجاوبها مع الفهم الذي سيولده التدبر، لينشأ بذلك الإيمان حينما يتعانق الفهم مع التأثر.
4 - القراءة الهادئة الحزينة: علينا ونحن نرتل القرآن أن نعطي الحروف والغُنَّات والمدود حقها حتى يتيسر لنا معايشة الآيات وترنمها وتدبرها والتأثر بها، وعلينا كذلك أن نقرأ القرآن بصوت حزين لاستجلاب التأثر.
5 - الفهم الإجمالي للآيات: من خلال إعمال العقل في تفهم الخطاب، وهذا يستلزم منا التركيز التام مع القراءة، وليس معنى إعمال العقل في تفهم الخطاب أن نقف عند كل كلمة ونتكلف في معرفة معناها وما ورائها، بل يكفى المعنى الإجمالي الذي تدل عليه الآية أو الآيات حتى يتسنى لنا الاسترسال في القراءة، ومن ثم التصاعد التدريجي لحركة المشاعر فنصل إلى التأثر والانفعال في أسرع وقت.
6 - الاجتهاد في التعامل مع القرآن: كأنه أنزل عليك، وكأنك المخاطب به، والاجتهاد كذلك في التفاعل مع هذا الخطاب من خلال الرد على الأسئلة التي تتضمنها الآيات، والتأمين عند مواضع الدعاء، ...... وهكذا.
7 - تكرار وترديد الآية أو الآيات التي حدث معها تجاوب وتأثر قلبي حتى يتسنى للقلب الاستزادة من النور الذي يدخل، والإيمان الذي ينشأ في هذه اللحظات.
8 - لا بأس من وجود تفسير مختصر بجوارنا: لجلاء شبهة أو معرفة معنى شق علينا فهمه، وإن كان من الأفضل الرجوع إليه بعد انتهاء القراءة حتى لا نخرج من جو القرآن والانفعالات الوجدانية التي نعيش في رحابها، إلا إذا ألحت علينا كلمة نريد معرفة معناها في التو واللحظة.
__________
(1) إحياء علوم الدين 2/ 58.
(1/16)
________________________________________
- رابعًا: قيام الليل
قيام الليل من الوسائل المهمة في إحياء القلب .. يقول صلى الله عليه وسلم:
«عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد» (1).
إن التعرض لنفحات الليل واقتسام الغنيمة مع المجتهدين لمن أعظم وسائل غرس الإيمان في القلب ...
لقد افترض الله قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن تشرع الحدود، بل قبل أن تفرض الصلوات الخمس، لأن الإنسان إذا خلا بربه واتصل قلبه به في جنح الليل طهر القلب ونزلت عليه الفيوضات.
إن هذه الوسيلة العظيمة التي تجمع بين تدبر القرآن وما فيه من كنوز وبين الركوع والسجود، وما فيها من معاني الذل والخضوع والانكسار للمولى سبحانه وتعالى لمن أهم وسائل التقرب إلى الله عز وجل. فلا ينبغي أن تفوتنا ليلة دون قيام مهما كانت الظروف، والأفضل بجانب أدائنا لصلاة التراويح أن نستيقظ قبل طلوع الفجر بوقت كاف للتهجد والاستغفار، لعلنا نتذوق طعم الحياة الحقيقية باستنشاق نسيم الأسحار ونحن نناجى الرحمن.
قال بعض الصالحين: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة.
وقال إقبال: كن مع من شئت في العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل حتى تكون لك أنَّة في ***** .. إنه - رحمة الله - يريد أن يقول:
كن داعياً ناجحاً .. كن خطيباً مفوهاً .. كن محاضراً فذاً، كن كما تريد ولكنك لن تفيد نفسك إلا إذا كانت لك وقفة مع الله في ***** تخلع فيها ثياب الشهرة والعزة، وتنزع فيها الألقاب الزائفة وتعيش حال العبد الخائف من غضب مولاه الطامع في رحمته.
فجهز مطالبك، وحدد أهدافك وكن خفيف النوم تنتظر دقات الساعة للخلوة ب****** ....

من فقه قيام الليل:
عندما يمن الله علينا بالاستيقاظ قبل الفجر بوقت كاف، علينا ألا نطيل القيام والقراءة فقط بل نطيل الركوع والسجود أيضا.
فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .. ففي السجود يتم إخراج معاني الذل والانكسار وإظهار الفقر والمسكنة لمن بيده ملكوت السماوات والأرض.
فمناجاة الله في السجود لمن أعظم صور الفرار إليه سبحانه واسترضائه، وطلب العفو والصفح منه وإظهار الذل والخضوع له .. وفيه يقدم العبد طلباته ويرفع حاجاته.

اسجد واقترب:
إذا أردنا أن تحقق السجدة هدفها، فنقترب من خلالها إلي الله شيئاً فشيئاً كما قال سبحانه وتعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق: 19) علينا أن نجعلها سجدة حارة تنسكب فيها الدموع لتكون مداد رسائلنا إلى مولانا.
قال عبد الله بن المبارك:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود ... أنين منه تنفرج الضلوع

ماذا نفعل لو حرمنا القيام؟!
قد نأخذ بجميع الأسباب المعينة على الاستيقاظ للتهجد ثم نفاجأ بأذان الفجر، فماذا نفعل؟!
إنها رسالة من الله عز وجل تحمل لنا معاني كثيرة: منها أن هذا الحرمان قد يكون بسبب ذنب أذنبناه أو تقصير في حق من الحقوق .. ومنها أن الرغبة في القيام لم تكن أكيدة .. ومنها أنها قد تكون ابتلاء من الله لينظر ماذا سنفعل ..
فإذا حدث ذلك فعلينا بالفرار إلى الله في الصلاة والدعاء نسترضيه ونستغفره ونتملقه عساه يعفو عنا .. وعلينا أيضا بصدقة السر فإنها تطفئ غضب الرب.
__________
(1) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (5/ 552، رقم 3549)، والبيهقي (2/ 502، رقم 4425)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 4079، بدون لفظة (ومطردة للداء عن الجسد).
(1/17)
________________________________________
ومن توصيات الرسول صلى الله عليه وسلم أن من فاتته صلاته بالليل فليصلها ما بين صلاة الفجر والظهر كما روى الإمام مسلم في صحيحه.
وفى بعض الأحوال قد نستيقظ قبل الفجر وعندما نبدأ في الصلاة نفاجأ بهروب قلوبنا منا في أودية الدنيا وكلما حاولنا جمعها مع الله فرت منا .. فماذا نفعل؟!
يقول ابن الجو زى: إذا جلست في ظلام الليل بين يدي سيدك، فاستعمل أخلاق الأطفال، فإن الطفل إذا طلب من أبيه شيئاً فلم يعطه بكى عليه.
فعلينا في هذه الحالة بالإلحاح والإلحاح على الله عز وجل والاستغفار مرات ومرات حتى يفتح لنا الباب ألم يقل سبحانه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (الأنعام: 43) فعدم القيام أو حرمان حلاوة المناجاة وإقبال القلب على الله عقوبة منه سبحانه تستوجب تضرعاً وإلحاحاً واستغفاراً لعله يرانا على هذا الحال فيعفو عنا.
- خامسًا: الاستفادة من الأوقات الفاضلة
يقول ابن رجب: جعل الله سبحانه وتعالى لبعض الشهور فضلاً على بعض، كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيراً من ألف شهر .. وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى وظيفة من وظائف طاعاته يُتقرب بها إليه، ولله فيها لطيفه من نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من أغتنم مواسم الشهور والساعات وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات يسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من لفحات .. يقول صلى الله عليه وسلم «إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا» (1).
هذه النفحات بلا شك ستصيب من يتعرض لها أما الغافل عنها فأحسن الله عزاءه.
فعلى مستوى اليوم هناك ثلاثة أوقات يسميها العلماء بأوقات السير إلى الله بالطاعات وهي آخر الليل وأول النهار وآخره قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (2)، وقد وردت من النصوص الكثيرة في أذكار الصباح والمساء وفى فضل من ذكر الله حين يصبح وحين يمسى، وكان السلف لأخر النهار أشد تعظيما من أوله (3).
يقول الإمام حسن البنا: أيها الأخ العزيز أمامك كل يوم لحظة بالغداة ولحظة بالعشي ولحظة ب***** تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملأ الأعلى، فتظفر بخيري الدنيا والآخرة .. وأمامك مواسم الطاعات وأيام العبادات وليالي القربات التي وجهك إليها كتابك الكريم ورسولك العظيم صلى الله عليه وسلم، فاحرص أن تكون فيها من الذاكرين لا من الغافلين، ومن العاملين لا من الخاملين .. واغتنم الوقت فالوقت كالسيف، ودع التسويف فلا أضر منه.
- أما بالنسبة للأسبوع فليوم الجمعة شرف عظيم وفيه ساعة يجاب فيها الدعاء فلنحرص على التعرض لها، يقول النووي: ويستحب الإكثار من الدعاء في جميع يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس رجاء مصادفة ساعة الإجابة (4).
فعلينا بالاجتهاد في هذا اليوم المبارك ولنضع له برنامجًا خاصًّا، ولنبكر فيه الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة على أحسن هيئة.
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 233، رقم 519)، وأخرجه أيضًا: في الأوسط (3/ 180، رقم 2856)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم 1917.
(2) أخرجه البخاري (1/ 23، رقم 39)
(3) لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي.
(4) الأذكار للنووي ص 129.
(1/18)
________________________________________
وإن كان شهر رمضان له أفضلية خاصة عن بقية الشهور فإن ليلة القدر لها شرف عظيم، يقول صلى الله عليه وسلم «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه» (1) والتماس ليلة القدر إنما يكون في العشر الأواخر من رمضان، لذلك يستحب الاجتهاد فيها فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
ومن هذه المواسم أيضا: موسم العمرة فهي في رمضان تعدل حجه، فلنحرص علي القيام بها ..
وليعمل كل منا على أن ينظم أموره بالطريقة التي تعينه على الاستفادة من هذه الأوقات الفاضلة، فإن فاته وقت منها لم يترك الاجتهاد في البقية الأخرى.
- سادساً: الاعتكاف
الاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله، وهو مستحب في كل وقت في رمضان وغيره وأفضله في العشر الأواخر من رمضان ليتعرض العبد فيها لليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر. ولقد ذهب الإمام أحمد أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه. وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية التي لا يترك معها الجمع والجماعات، فعلينا أن نغتنم أي وقت - مهما قصر - في نهار رمضان أو ليله ننوى فيه الاعتكاف ونختلي فيه بالله عز وجل ..
ولنحرص على الاعتكاف في العشر الأواخر فإن لم نستطع فليكن ذلك في لياليها وبخاصة الوتر منها، ولنحظر من الخلطة والكلام وكل ما يقطع علينا خلوتنا بالله عز وجل.
يقول ابن رجب: «فحقيقة الاعتكاف قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق».
وللأخت المسلمة أن تعتكف في مسجد بيتها استناداً على رأى الأحناف في جواز ذلك ولتقتطع من يومها وقتاً تلازم فيه مسجدها وتقبل فيه على الله عز وجل.
- سابعا: الدعاء
الدعاء هو العبادة، ولا يرد القدر سواه، ففيه يتمثل فقر العبد وذله وانكساره إلى من بيده ملكوت كل شيء .. وهناك أوقات مخصوصة يفضل فيها الدعاء منها: بين الأذان والإقامة، ودبر الصلوات، وفي الثلث الأخير من الليل، ويوم الجمعة منذ أن يصعد الإمام المنبر حتى تنتهي الصلاة وكذلك في الساعة الأخيرة من هذا اليوم، وفي ليله القدر .. وعند نزول المطر .. وللصائم دعوة مستجابة، وكذلك المسافر .. وفي كل ليلة من رمضان عتقاء من النار وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فعلينا اغتنام تلك الأوقات نتذلل فيها لله ونتبرأ من حولنا وقوتنا .. نستعطفه ونتملقه ونسترضيه ونسأله من خيري الدنيا والآخرة، ولنحذر من الدعاء باللسان دون حضور القلب. قال صلى الله عليه وسلم «واعلموا أن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاه» (2).
ولنكثر من الدعاء لإخواننا المسلمين المضطهدين في كل مكان ولنخص المرابطين في فلسطين بحظ وافر من الدعاء .. ولندع كذلك علي الطغاة الظالمين الذين يحادون الله ورسوله في كل مكان عساه - سبحانه - أن يفرج الكرب ويكشف الغمة وينزل نصره الذي وعد، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47).
- ثامنا: الصدقة
إن المتأمل لكتاب الله عز وجل يجد الكثير من الآيات التي تحث المسلم على الإنفاق في سبيل الله، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان يقول تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103) فالمستفيد الأول من الصدقة هو صاحبها لأنها تخلصه من الشح وتطهره من الذنوب.
__________
(1) البخاري (2/ 672، رقم 1802)
(2) أخرجه الترمذي (5/ 517، رقم 3479)، والحاكم (1/ 670، رقم 1817) السلسلة الصحيحة (594).
(1/19)
________________________________________
فبداية انطلاق النفس نحو السماء وتخلصها من جواذب الأرض هو تطهرها من الشح المجبولة عليه وذلك بدوام الإنفاق في سبيل الله حتى يصير سجية من سجاياها فتزهد في المال ويخرج حبه من القلب.
وللصدقة فضل عظيم في الدنيا والآخرة فهي تداوى المرضى وتدفع البلاء وتيسر الأمور وت*** الرزق وتقي مصارع السوء وتطفئ غضب الرب وتزيل أثر الذنوب، وهى ظل لصاحبها يوم القيامة وتحجبه عن النار وتدفع عنه العذاب ..
وللصدقة علاقة وثيقة بالسير إلي الله، يقول تعالى: {فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} (الروم: 38) ولا عذر لأحد في تركها، فالله عز وجل لم يحدد لنا قدر معيناً نتصدق به، فالباب مفتوح أمام الجميع كلٌ حسب استطاعته.
ولكي تؤتى الصدقة ثمارها المرجوة لابد من تتابعها بصورة يومية كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 274) فلنخرج الصدقة كل يوم ولو ما يعادل شق تمرة، ولنخصص صندوقاً في البيت لذلك ليسهل علينا المداومة عليها ثم نعطيها كل فترة لمن يستحقها.
- تاسعاً: الفكر والذكر
ذكر الله عز وجل هو قوت القلوب ومادة حياتها، قال صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» (1).
ويقول ابن تيميه: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.
ودور الجنة تبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء. فإذا أخذ في الذكر أخذوا في البناء (2).
ولكي يستفيد المسلم من الذكر ويواطئ لسانه قلبه فيحدث فيه الأثر المطلوب لابد من ربطه بعبادة التفكر، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190،191).
يقول الحسن البصري: إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر علي الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا القلوب فنطقت بالحكمة.
فالبداية تكون بالتفكر في مجال من المجالات ثم يتبع ذلك بالذكر المناسب له فعلى سبيل المثال .. إذا تفكر المرء في ذنوبه وتقصيره في جنب الله، عليه أن يتبعه بالاستغفار.
وإذا ما تفكر في بديع صنع الله وآياته في النفس والكون اتبع ذلك بالتسبيح والحمد، وعندما يتفكر العبد في حاجاته الماسة إلي الله وفقره الذاتي إليه ردد بعده ذكر: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا في بقية الأذكار.
فعلينا أن نضع لأنفسنا أوراداً من الذكر نلتزم بها ونعمل على مواطأة القلب اللسان فيها، ولنعلم أن الثواب التام على قدر العمل التام، فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض.
وفي أذكار الصباح والمساء وكذلك أذكار الأحوال معاني عظيمة علينا أن نتدبرها ونحن نردد تلك الأذكار في أوقاتها.
__________
(1) متفق عليه.
(2) الوابل الصيب لابن القيم.
(1/20)
________________________________________
- عاشرًا: محاسبة النفس
بعد مرور عدة أيام من رمضان تصبح النفس سهلة القيادة .. عند ذلك علينا أن نبدأ في محاسبتها علي ما مضى من أعمال. وهناك مجالات كثيرة لمحاسبة النفس تتناول حياة المسلم من جميع جوانبها، على الواحد منا أن يقف أمام كل بند من بنودها ليعرف أين تقع أقدامه بالنسبة إليه. وحبذا لو سجلنا الذنوب وأوجه التقصير ليكون ذلك دافعاً لحسن التوبة وتصحيح المسار.

مجالات المحاسبة:
أ- عبادات الجوارح: مثل الصلوات الخمس في أول وقتها في المسجد، السنن الرواتب، أذكار الصلاة، صيام رمضان وصيام التطوع، مداومة الإنفاق في سبيل الله، أذكار الصباح والمساء، تحرى السنة في الأقوال والأفعال.
ب- معاصي الجوارح: مثل الغيبة والنميمة، السخرية، الاستهزاء بالآخرين، الجدل والمراء، إفشاء السر، الغمز واللمز، الكذب اللغو والثرثرة، عدم غض البصر، الخوض في الباطل، سرعة الغضب، إخلاف الوعد.
ج- عبادات القلب: الخشوع في الصلاة، الخوف من الله واستشعار مراقبته، الرضا بقضاء الله وقدره، التوكل علي الله، الصبر عند المصيبة، الشكر عند ورود النعم ... .
د- معاصي القلوب: الإعجاب بالعمل والتسميع به، الضيق بالنقد، الحسد، الغرور، المباهاة، المن بالعطايا، إتباع الهوى، احتقار الآخرين، وسوء الظن بهم.
و- الحقوق: حقوق الوالدين، والزوجة، والأولاد، الرحم، الجيران، وكذلك حقوق الدعوة والأخوة و ... .
ى- السلوكيات وفضائل الأعمال: السعي لقضاء حوائج الناس، لين الجانب، التواضع، عيادة المريض، إتباع الجنائز، الإحسان إلي الآخرين، أداء الأمانات إلي أهلها، دوام التبسم والبشر، إتقان العمل.
وعلينا بعد كل جلسة من هذه الجلسات الإكثار من الاستغفار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك إلا غفر له» (1).

خلاصة القسم الأول
هناك عشر وسائل تساهم في تحقيق الثمرة المرجوة من رمضان علينا أن نضع من خلالها برنامجاً لأنفسنا نسير عليه طيلة هذا الشهر المبارك، ولنجعل في يومنا ثوابت لا نحيد عنها.
فنخصص وقتاً ثابتاً للاعتكاف في المسجد وليكن من الفجر حتى طلوع الشمس فإن لم نستطيع فمن بعد العصر إلي المغرب، نقرأ في هذا الوقت ورد القرآن بالطريقة التي أشرنا إليها.
ولنخصص صندوقاً في البيت نضع فيه الصدقة اليومية، وليكن لنا وقت للتهجد قبل الفجر ولو بنصف ساعة بخلاف صلاة التراويح.
وعلينا كذلك تخصيص أوراداً من الذكر المطلق كسبحان الله وبحمده مائة مرة، واستغفار ( ... ) مرة وصلاة على الرسول ( ... ) مرة، وحوقلة ( ... )، ويقترح تقسيم هذه الأذكار على مدار اليوم والليلة.
وعلينا أن نستفيد من أوقات استجابة الدعاء فنلح فيها علي الله عز وجل وندعوه دعاء المضطر المشرف على الغرق لنا ولأهلنا ولإخواننا وللمسلمين أجمعين، ولنتحين الفرصة المناسبة التي نخلو بأنفسنا فنحاسبها على ما مضى ...
__________
(1) أخرجه الترمذي، قال: حديث حسن، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي برقم 3006 مشكاة المصابيح 1/ 295.
(1/21)
________________________________________
القسم الثاني
مع الناس
إن السعي بالخير وسط الناس له مردود إيماني كبير في قلب العبد المسلم، فهو يزيد الإيمان ويثبته ويصل بصاحبه إلي أن يكون محبوبا عند الله عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلي الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلي الله عز وجل سرور تدخله علي مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضى عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كتم غيظاً - لو شاء أن يمضيه أمضاه - ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (1).
وإليك أخي المسلم بعضاً من أعمال الخير علينا أن نحرص علي القيام بها في رمضان شريطة ألا يكون ذلك على حساب العمل مع أنفسنا، فالتركيز الأكبر في شهر رمضان وغيره ينبغي أن يكون في اتجاه الأعمال الفردية التي تملأ القلب بالإيمان والذي من شأنه أن يدفعنا طيلة العام لبذل الجهد في كافة أوجه الخير والدعوة والبر والصلة.

1 - الإحسان إلى الزوجة والأولاد:
إن الإحسان الحقيقي للزوجة والأولاد إنما يكون بأخذ أيديهم إلي طريق الله والتنافس معهم في السباق نحو الجنان، ولقد طالبنا الله بذلك، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم: 6) فعلينا أن نستفيد من موسم رمضان في الارتقاء الإيماني والسلوكي بهم، فنجلس معهم قبيل حلول الشهر المبارك ونضع لكل منهم برنامجاً يسير عليه يراعي جانبي العروة الوثقى، وهما كما مر علينا سابقاً إخلاص العبادة لله والإحسان إلي الخلق.
وعلينا كذلك أن ننظم لهم أوقاتهم ليتمكنوا من القيام بما عليهم من واجبات.
ولتكن لنا معهم جلسة يومية - وإن قصرت - ونختار لها الوقت المناسب للجميع، وفيها نقرأ معا ما تيسر من القرآن مع الاستماع إلي خواطرهم القرآنية.
ومع القرآن علينا أن نتدارس كتابا نافعا في الحديث أو السيرة، ثم نتابع حصيلة اليوم من الأعمال الصالحة فنشجع المحسن ونشحذ همة المقصر، ونختم اللقاء بالدعاء لأنفسنا وللمسلمين.

2 - الجود والكرم:
وهذا باب عظيم من أبواب الخير علينا أن نلجه في رمضان «ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة في رمضان، فيدارسه القرآن فرسول الله صلي الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة» (2) فلنُري الله من أنفسنا خيراً في هذا الشهر المبارك فهو سبحانه وتعالى يحب أهل السخاء والكرم، قال رسول الله عليه وسلم «إن الله كريم يحب الكرماء جواد يحب الجودة، يحب معالي الأمور ويكره سفسافها» (3).
ومن سمات أهل الكرم والسخاء أنهم يبذلون من كل ما يملكون بلا حساب سواء كان ذلك مالاً أو علماً أو وقتاً أو جهداً.
ولقد أوصى رسول الله صلي الله عليه وسلم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بذلك فقال لها: «لا تحصي فيحصي عليك» (4).
__________
(1) أخرجه ابن أبى الدنيا في كتاب قضاء الحوائج (ص 47، رقم 36)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 174.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 6 ـ 7 و475 و2/ 310 و393 و3/ 396) ومسلم (7/ 73).
(3) أخرجه الطبراني (6/ 181، رقم 5928)، والحاكم (1/ 111، رقم 151)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 255) والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 240، رقم 8011)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1800.
(4) أخرجه أبو داود (2/ 134، رقم 1700)، وصححه الألباني.
(1/22)
________________________________________
والمعنى كما يقول ابن حجر في الفتح: النهي عن منع الصدقة خشية النفاد، فإن ذلك أعظم الأسباب لقطع مادة البركة، لأن الله يثيب علي العطاء بغير حساب، ومن لا يحاسب عند الجزاء لا يحسب عليه عند العطاء، ومن علم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب فحقه أن يعطى ولا يحسب.
فلنجعل رمضان وسيلة للتعود على الكرم والجود والسخاء، فلا نبخل علي الله بأموالنا ولا أوقاتنا ولا جهدنا، ولنضح بها بغير حساب.
جاء في شعب الإيمان للبيهقي أن يزيد بن مروان جاءه مال فجعل يصره صرراً ويبعث به إلي إخوانه ويقول: إني لأستحي من الله عز وجل أن أسأل الجنة لأخ من إخواني ثم أبخل عليه بالدينار والدرهم.

3 - صلة الرحم:
قبل أن نتحدث عن واجبنا في رمضان وغيره تجاه أرحامنا أدعو القارئ إلي التأمل في هذا الحديث النبوي الشريف لنعلم كم نحن مقصرون في حق أنفسنا، زاهدون في خيري الدنيا والآخرة.
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم، والخيانة والكذب، وإن أعجل الطاعة ثواب لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنموا أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا» (1).
ولا يتعلل البعض بوجود قطيعة وعداوة قديمة بينه وبين أهله وأرحامه، فلقد أتي رجل النبي صلي الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله إن لي قربة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إلي ويجهلون علي وأحلم عنهم قال: «لئن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت علي ذلك» (2).

4 - إطعام الطعام:
وهذا باب عظيم من أبواب الخير غفل عنه الكثير من الناس. قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الجنة غرفا يري ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطعم الطعام وأطاب الكلام، وصلى بالليل والناس نيام» (3).
ولقد كان صهيب - رضي الله عنه - يطعم الطعام الكثير، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب، إنك تطعم الطعام الكثير وذلك صرف في المال، فقال صهيب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «خياركم من أطعم الطعام ورد السلام» (4)، فذلك الذي يحملني علي أن أطعم الطعام.
وكان علي رضي الله عنه يقول: لأن أجمع ناساً من أصحابي علي صاع من طعام أحب إلي من أن أخرج إلي السوق فأشتري نسمة فأعتقها (5).
ومن أهم صور ذلك إطعام المساكين ففيه خير عظيم، قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أشتكي له من قسوة قلبه: «إن أحببت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس يتيم» (6).
فلنجهز وجبات الإفطار للفقراء والمساكين ونجلس معهم - إن تيسر ذلك - نشاركهم طعامهم ونشعرهم بإخوتنا لهم ..
ومع تذكرنا لهؤلاء علينا ألا ننسي إخواننا المكروبين في كثير من بلدان العالم والتي يعاني أهلها من الظلم والاضطهاد والجوع والحرمان، ولنتذكر بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا» (7).
__________
(1) أخرجه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 5705.
(2) أخرجه مسلم (4/ 1982، رقم 2558)، وتسفهم المل: كأنما تطعمهم الرماد الحار.
(3) أخرجه أحمد (5/ 343، رقم 22956)، وابن حبان (2/ 262، رقم 509) وصححه الألباني.
(4) أخرجه ابن سعد (3/ 227).
(5) البخاري في الأدب المفرد.
(6) أخرجه مسند أحمد (2/ 387، رقم 9006)، والبيهقي (4/ 60، رقم 6886).
(7) أخرجه أحمد (4/ 114، رقم 17074)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 418 رقم 3952)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6415.
(1/23)
________________________________________
5 - الإصلاح بين الناس:
إذا ما نظرنا للأسباب التي من أجلها يتشاحن الناس لوجدناها صغيرة وتافهة نفخ فيها الشيطان حتى أوقع القطيعة بين الأب وابنه، والجار وجاره، والصديق وصديقه ..
في هذا الجو المسمم تكثر الظنون وتقطع الأرحام، وتتوارث العداوات، لذلك كان السعي للإصلاح بين الناس فضل عظيم، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114).
ولقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم القائم بهذا العمل الجليل بدرجة أعلى من درجة الصائم القائم المتصدق لما في ذلك من إشاعة جو التراحم والتواد بين أفراد المجتمع. قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلي، قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» (1).
ولنبدأ بأنفسنا فنعفو عمن ظلمنا، ونحسن لمن يسيء إلينا، ولنكن قدوة لغيرنا في الحلم والأناة وسعة الصدر.

6 - قضاء حوائج الناس:
من صور الإحسان العظيمة: السعي في قضاء حوائج الناس. ولأن المحسن رجل قد سعى إلى خدمة الآخرين حباً في الله وشفقة علي خلقه كان جزاؤه من جنس عمله. قال صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلي الله عز وجل سرور تدخله علي مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضى عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كتم غيظاً - لو شاء أن يمضيه أمضاه - ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشي مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل» (2).
أما الساعي علي الأرملة والمسكين فله أجر خاص. قال صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار» (3).
إن هذه الأحاديث لا تحتاج إلى تعليق سوى الاجتهاد في تلمس حوائج الناس والمبادرة إلى قضائها، ولقد كان حكيم بن حزام يحزن على اليوم الذي لا يجد فيه محتاجاً ليقضي له حاجته فيقول: «ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها».

7 - أنقذ غيرك:
لقد نجح إبليس في إغواء الكثير من الناس فصرفهم عن عبادة ربهم وشغلهم بزينة الحياة الدنيا، وسار بهم في طريق يؤدي بهم إلى النار، فهل نتركهم وشأنهم أم نحاول إنقاذهم؟!!
يقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) فلا سبيل لإيقاظ هؤلاء المساكين إلا بدعوتهم إلي الله. ولقد رغب -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين للقيام بهذه المهمة فجعل مقامها: مقام الأنبياء والرسل، أما أجرها فلا حدود له.
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الجن: 22، 23].
فهل لنا يا أخي أن ننال شرف هذه المهمة ونعمل علي إنقاذ أنفسنا ومن حولنا من النار؟
هل لنا أن نستفيد من أجواء رمضان حيث النفوس طيعة والشياطين مصفدة؟
يقول صلي الله عليه وسلم: «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس» (4).
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 444، رقم 27548)، وأبو داود (4/ 280، رقم 4919)، والترمذي (4/ 663، رقم 2509)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2595.
(2) سبق تخريجه.
(3) متفق عليه: البخاري (5/ 2047، رقم 5038)، ومسلم (4/ 2286، رقم 2982).
(4) متفق عليه: البخاري (3/ 1096، رقم 2847)، ومسلم (4/ 1872، رقم 2406).
(1/24)
________________________________________
فهيا بنا نجتهد لنكون سبباً في هداية وإنقاذ غيرنا.
هيا بنا نوقظ غافلاً، ونهدي حائراً، ونرشد ضالاً.
هيا بنا نبدأ بالأقربين فنعمل على تبصيرهم بحقيقة الدنيا ونجذبهم معنا إلى المسجد.
هيا نردد دعاء الرسول صلي الله عليه وسلم: «اللهم اجعلنا هداة مهتدين».

خلاصة القسم الثاني
إن مدار السعادة وقطب رحاها يدور علي أمرين: إخلاص العبادة لله، والإحسان إلي الخلق. وصور الإحسان كثيرة علينا أن نحرص علي القيام بها وأن نستفيد من الأجواء التي يشيعها رمضان في التعود علي هذا السلوك.
ومن ذلك: الإحسان إلى الزوجة والأولاد بالمتابعة المستمرة لهم، ووضع البرامج التي تنهض بهم، والذي يساعد على النجاح في تلك المهمة: الحرص على الجلوس اليومي معهم في وقت يناسبهم.
ومن صور الإحسان أيضًا: صلة الرحم، وإطعام الطعام، ومداومة البذل والعطاء، والسعي في قضاء حوائج الناس، وإصلاح ذات بينهم، ودعوتهم إلى الله.

نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صيامنا وقيامنا وأن يبلغنا مرادنا
والحمد لله رب العالمين
(1/25)
________________________________________
رمضان وعودة الروح
(1/26)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الرحيم الودود، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فلقد خلق الله عز وجل الإنسان واختصه لنفسه، ونفخ فيه من روحه، وأعد له الجنة لتكون له داراً، وأسكنه الأرض ليؤدي فيها امتحان العبودية له، فإذا ما نجح فيه عاد إلى داره ليستمتع فيها بالنعيم الذي لا يمكن لعقل أن يتخيله.
ومع أن كل ما في الحياة من أحداث يدل على أن هناك نهاية للوجود في الأرض، وأنها ليست دار مقام، وأن الآخرة خير وأبقي، إلا أن الإنسان يغفل كثيراً عن هذه الحقائق وينشغل بتحصيل شهواته، والاستمتاع بها دون النظر إلى ما ينبغي أن يفعله لكي يفوز بالجنة.
و لأن الله عز وجل يريد لعباده الخير والنجاح في امتحان الدنيا، فإنه سبحانه وتعالى يصبر ويحلم عليهم، ويفرح بتوبتهم، على الرغم من المخالفات الجسيمة التي يرتكبونها، والأوامر التي لم يفعلوها، والأمانات التي ائتمنهم عليها فضيعوها، ولما لا وقد وصف نفسه بأنه الرؤوف الرحيم {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
يريد أن يتوب على الجميع {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عليكمْ} [النساء: 27] ..
ينتظر استغفار عباده ليغفر لهم، ويفرح بندمهم على ما ارتكبوه من مخالفات ليعفو عنهم ويتوب عليهم ..
يريد منهم أن يفعلوا أي خير ليرفع به درجاتهم {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23]. تأمل معي ما فعلته بني إسرائيل من طغيان، واقترفته من كبائر الذنوب، ومع ذلك كان سبحانه وتعالى حريصاً على توبتهم وعودتهم إليه .. يقول لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] .. قولوا هذه الكلمة فقط لكي أعفو عنكم!! ولكنهم أبوا ذلك ورفضوا المنحة والفرصة العظيمة للعفو والصفح.

الهدايا الإلهية:
ومن الصور العجيبة لتودد الله عز وجل لعباده وحبه لهم وحرصه على مصلحتهم وعلى دخولهم الجنة، تلك المنح والهدايا التي يرسلها لهم كل فترة لتكون لهم بمثابة الأمل والحافز لتعويض ما فات والتشمير للحاق بركب المؤمنين السائرين إليه، وإلى جناته.
ومن هذه المنح والهدايا: يوم عرفة، فمن صامه غُفر له ذنوب عامين، ومن استطاع أن يكون في أرض عرفة في هذا اليوم غُفرت كل ذنوبه وأصبح كما ولدته أمه بلا ذنوب وخطايا.
ومن هذه المنح الإلهية: يوم عاشوراء فمن صامه غُفرت له ذنوب عام كامل ..
(1/27)
________________________________________
أما أجّل المنح والهدايا الإلهية للعباد فتتمثل في شهر رمضان، حيث يتجلى فيه حب الله العجيب لعباده وحرصه على عودتهم إليه، واصطلاحهم معه، على الرغم مما أحدثوه من تفريط في جنبه، وتضييع لأوامره سبحانه، فكل فريضة يؤديها العبد في هذا الشهر كسبعين فريضة فيما سواه .. من صام نهاره وقام ليله غفرت ذنوبه ..
في كل ليلة من لياليه عتقاء يعتقهم الله من النار.
ومع كل ما تقدم فإن الكرم والجود الإلهي لا يتوقف عند هذا فقط، بل يتجلى بصورة عجيبة في ليلة القدر، وهى ليلة - كما نعلم - من ليإلى العشر الأواخر من رمضان .. في هذه الليلة يمنح الله عز وجل من يحييها بالعبادة عطية لا يمكن تصديقها، ألا وهي ثواب يكافئ ثواب من عبد الله ألف شهر بل يزيد {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر3:2].
فماذا تقول بعد ذلك لإلهنا الرحيم الودود الجواد الكريم؟
وماذا ينبغي أن نفعله تجاه هذه المنحة والعطية والفرصة العظيمة للعفو ونيل الرضا والعتق من النار؟!
هل نتركها تمر دون أن نغتنمها ونعود من خلالها إلى الله؟!
أي شخص هذا الذي يظلم نفسه ويحرمها من هذه الفرصة العظيمة!!
من هنا يتضح لنا معنى حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له .. » (1).
فمن لم يعمل في رمضان فمتى سيعمل، ومن لم يغفر له في رمضان في ظل أجواء العفو والمغفرة والمنح الإلهية فمتى إذن سيغفر له؟!

رمضان والروح الجديد:
أخي ****** .. كأني بك أسمع شكواك من نفسك وأنك كلما هممت بفعل الخير أقعدتك تلك النفس، وكلما أردت ترك المعاصي لم يطاوعك هواك.
نعم، تلك هي شكوانا جميعاً، وإن اختلفت صورها، ونحتاج بلا شك إلى روح جديد تبث فينا وتعيننا على جهاد أنفسنا ومقاومة أهوائنا، وتدفعنا لفعل الخيرات.
هذه الروح من الصعب توافرها في سائر أيام العام بسبب الانشغال بالدنيا ومغرياتها، وكذلك بسبب العمل الدؤوب للشياطين في إضلال الناس وإغفالهم عن المهمة التي خُلقوا من أجلها، أما في رمضان فالوضع يختلف: الشياطين مصفدة، والأجواء مشبعة بالقرآن والذكر والفرصة سانحة لعودة الروح، وزيادة الإيمان وقهر الهوى .. فليس لدينا إذن ما نقوله بعد ذلك.
ما علينا إلا أن نحسن استقبال هذا الشهر بالشكل الذي يليق بقدره .. وعلينا دائماً أن نتذكر بأنه .. {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.

حاجة الأمة إلى رمضان ..
إن كان رمضان فرصة عظيمة لعودة الفرد إلى ربه، وتجديد عهده معه، واستقامته على أمره، فرمضان كذلك فرصة هائلة لتغيير الأمة وإخراجها من المأزق العصيب، والنفق المظلم الذي تسير فيه منذ عدة عقود.
الأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى مشروع تلتف حوله، وتعيد من خلاله بناء عزها ومجدها السليب. وهنا تظهر القيمة العظيمة لشهر رمضان لو أحسنت الأمة التعامل معه.
فإن قلت وما علاقة رمضان بنهضة الأمة: كانت الإجابة - بعون الله وفضله - في الأسطر القادمة.
أرأيت ما نزل بساحتنا؟!
أخي: ماذا كان يجول في خاطرك وأنت تري صور الغارات الصهيونية على رفح وغزة وما خلفته من دمار ودماء وشهداء.
لعلك قد رأيت على شاشة التلفاز: الجرافات وهي تهدم بيوت إخوانك المسلمين في فلسطين.
هل رأيت - مثلما رأينا - تلك المرأة العجوز وهي تجلس خارج بيتها تبكي وتولول وتنظر بأسى إلى حطام بيتها؟!
هل رأيت جنود الأعداء وهم يقومون بإذلال الناس وتفتيشهم والتضييق عليهم؟!
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/ 550، رقم 3545)، والحاكم (1/ 734، رقم 2016)، وأحمد (2/ 254، رقم 7444)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3510.
(1/28)
________________________________________
أظنك كنت في ضيق شديد وأنت تري هذا كله، وترى كذلك آلات الذبح وهي تعد أمامنا للقضاء على المسلمين، ومحو هويتهم والإفساح للمشروع الصهيوني ليهيمن على مقدراتنا.
وكأني أشعر بك وأنت ترى نفسك مكبل اليدين لا تستطيع أن تفعل شيئا لإخوانك المسلمين المضطهدين في العديد من بلدان العالم.

لماذا نحن؟!
لعلك يا أخي تساءلت كما تسائلنا: لماذا يحدث لنا هذا كله؟
لماذا تتكاثر الجراح وتزداد في جسد أمتنا عاماً بعد عام؟
أين أثر الدعاء الذي ندعوه ليل نهار؟! لماذا يتركنا الله هكذا تستباح حرماتنا وينتهك شرفنا؟
أليس هو القائل - سبحانه - {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] فلماذا سمح لهؤلاء الكفار بأن يذيقوننا سوء العذاب؟!
لماذا لم يكف بأسهم عنا وهو القادر المقتدر .. ألم يقل سبحانه {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
لماذا يتركنا فريسة لإخوان القردة والخنازير يفعلون بنا ما يريدون .. يذبحون أبنائنا ويستحيون نسائنا ويهدمون بيوتنا.
أسئلة كثيرة يتساءلها المسلمون هنا وهناك ويريدون لها إجابة .. فبماذا أجاب القرآن، وهو كما قال عنه عز وجل: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].

القرآن يجيب:
أفاض القرآن في الإجابة عن تلك الأسئلة التي تموج في أذهاننا، وبيّن لنا بما لا يدعو مجالاً للشك أن هناك سنن وقوانين تحكم هذه الحياة، من استوفى شروطها طبقت عليه، فمن يرد السعادة فطريقها قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] ومن يترك طريقها يطبق عليه قانون المعيشة الضنك {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
فإذا ما بحثنا عن القوانين والسنن التي ت*** لنا العقوبات فسنجدها كثيرة، وتدور أسباب استدعائها حول تقصير العباد في حق ربهم، وارتكابهم ما يغضبه، كقوله تعالى {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل: 94] وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51] وقوله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
فما يحدث لنا من ذل وهزائم، ما هي إلا عقوبات إلهية نعاقب بها كنتيجة طبيعية لما أحدثناه من تضيع لأوامر الله، وفعل ما يغضبه، ولا ينبغي لمن وقع في المخالفة أن يستغرب العقوبة، فإن كنت في شك من هذا فانظر إلى مظاهر الفسق والفجور والعصيان التي تمتلئ بها شوارعنا، وانظر إلى ما تبثه الفضائيات ليل نهار من فحش ورزيلة.
نتعامل بالربا، والرشوة، والغش، والظلم.
نتقاعس عن نصرة المستضعفين من المسلمين في كل مكان ..
فهل تظن بعد ذلك كله أن ينصرنا الله عز وجل ..
هل تظن أن يحمينا الله من بطش أعدائنا ونحن قد تركنا دينه، وخنا أمانته؟!

أصابنا الوهن:
لقد كنا في الماضي أقوى أمة على ظهر الأرض .. كان الكل يعمل لنا ألف حساب، ثم تراجعنا شيئاً فشيئاً إلى الوراء، أصبحنا في ذيل الأمم .. أتدري لماذا؟
(1/29)
________________________________________
يجيب عن التساؤل رسول الله صلي الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ثوبان عنه صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن تتداعي عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: أو قلة نحن يومئذ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن» فقال قائل: وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (1).
ألا توافقني - أخي - أن الحديث ينطبق علينا، وأن الله عز وجل قد تركنا لأعدائنا بسبب ما أحدثناه؟
ألا ترى أننا جميعا نتحمل مسئولية ما حدث ويحدث لنا؟
ألم يتمثل فينا قوله صلي الله عليه وسلم «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (2).
إذن فلقد سلط الله علينا أعداءنا وجعلهم بمثابة الأداة التي نؤدب بها كنتيجة طبيعية لانحرافنا عن منهجه، وتعلقنا بالدنيا وتنافسنا عليها.

البداية:
فإن كان هذا هو التشخيص الحقيقي للوضع الحالي الذي تعيشه أمتنا، فإن نقطة البداية التي ينبغي أن نبدأ بها تنطلق من تغيير كل الأوضاع التي تغضب الله عز وجل كما فعل قوم يونس عليه السلام: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
ولنعلم جميعا أنه مهما حدث للأمة من ذل وهوان أكثر مما يحدث الآن، ومهما اشتد الظلام فلن يغير الله ما حاق بنا إلا إذا بدأنا نحن بتغيير ما بأنفسنا .. ألم يقل سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] لا بديل - إذن - عن نصرته - سبحانه - على أهوائنا وشهواتنا إن أردنا نصرته لنا {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
لا مناص أمامنا من طرد الدنيا من قلوبنا، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا من زوجاتنا وأبنائنا وآبائنا وأمهاتنا وأموالنا وعقاراتنا وإلا فستستمر العقوبة.
{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
لا بديل إذن عن هجر المعاصي، والمسارعة في الخيرات والتنافس في أعمال الآخرة.
لا بديل عن الفرار إلى الله والعمل على استرضائه.
لا بديل على أن نكون من أوتاد المساجد، وفي الصفوف الأولي في الصلاة.
لا بديل على أن نكون مستيقظين في ثلث الليل الأخير صافين أقدامنا في محاريب الصلاة نبكي ونتذلل لله عز وجل .. نسترضيه، ونستعطفه ونطلب منه المغفرة والفرج والنصر.

الجسد الواحد:
واعلم يا أخي بأن كونك لا تفعل ما يغضب الله، فإن ذلك لا يعفيك من المسئولية، فأمتنا كالجسد الواحد إذا مرض منه عضو أصبح كله مريضاً، فلا يكفي صلاحك الفردي، بل لابد وأن يصاحب ذلك صلاح الأمة.
معني ذلك أن عليك إيقاظ النائمين، وإعادة الشاردين إلى الله.
__________
(1) أخرجه أبو داود والبيهقي في «شعب الإيمان» وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 4297.
(2) أخرجه أبو داود (3/ 274، رقم 3462)، والبيهقي (5/ 316، رقم 10484)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 423.
(1/30)
________________________________________
عليك، وعليّ وعلى الجميع أن يوقفوا حياتهم للدعوة إلى الله، وأن يرفعوا شعار «وا إسلاماه».
علينا أن نقلل من اهتمامنا بالدنيا وبالمستقبل وبالأولاد، وأن نستشعر دوماً الخطر المحدق بنا، والذي يستدعي سرعة التحرك لمنع وصوله إلينا، بل ودحره عن أماكن نفوذه وتخليص إخواننا منه.
علينا أن نقيم دولة الإسلام في قلوبنا وبيوتنا، ليقيمها الله لنا في أرضنا كنتيجة طبيعية للجهد الذي سنبذله في هذا المضمار - كما وعدنا سبحانه بذلك.

لا أستطيع:
فإن قلت: إنني مقتنع تمام الاقتناع بهذا كله لكنني لا أستطيع القيام به ..
أريد أن أصلي الفجر في المسجد ولا أقدر على ذلك.
أريد ترك مشاهدة الأفلام والمسلسلات ولا أستطيع ذلك.
أتمني ترك الغيبة والنميمة والحسد، وعدم حب الخير للأخرين ولا أستطيع.
أتمني أن تسمو اهتماماتي وتزداد رغبتي في الآخرة ولا أقدر على ذلك.
أريد أن أكف عن الحديث عن نفسي والمباهاة والافتخار بما عندي فلا تطاوعني نفسي.
أريد أن أنفق وأتصدق على الفقراء والمساكين بالليل والنهار ولا أستطيع.
أريد أن أبكر في الذهاب إلى المسجد، وإلى صلاة الجمعة ولا أستطيع.
أريد أشياء كثيرة ولا أستطيع فعلها، فأنا لا أجد همة وقوة دافعة.
كلما عزمت على ترك المعاصي وهجرها، أجد مقاومة عنيفة من نفسي، وتكون النتيجة الدائمة هي الهزيمة أمامها.
لا أجد روحاً تجعلني أسعى إلى الآخرة، وأسارع إليها وأتجافى عن الدنيا ولا أتشبث بها ..
فما الحل؟!
نعم يا أخي، كلنا يشكو من ضعف الهمة وغياب الروح .. كلنا يشكو من أن أقواله أحسن من أفعاله وعلانيته خير من سريرته.
الكثير منا لا يرضى عن أمور كثيرة تحدث في بيته لكنه لا يجد القوة الدافعة لتغييرها.
كلنا يتساءل معك، فما العمل إذن؟ وبخاصة أن أوضاعنا تسوء يوما بعد يوم، وأعداؤنا متربصون بنا، فبالأمس البعيد كانت فلسطين، وبالأمس القريب كانت العراق، واليوم السودان، ولا ندري من سيكون عليه الدور في الغد.

روح جديد:
معني ذلك أن المطلوب هو روح جديد تسري في النفوس، تولد فيها الطاقة وتدفعها لتغيير ما بها، وفعل كل ما يرضي الله.
لابد من روح جديد توقظنا من سباتنا، وتنتشلنا من جواذب الأرض والطين، وترفع رؤوسنا إلى السماء .. فأين هي تلك الروح؟ وكيف يمكن تحصيلها؟ أين هو هذا الدواء الذي سيعيد لنا عافيتنا ويصحح اعوجاجنا، ويغير كل ما يغضب الله فينا؟!
ولأن الله عز وجل هو الذي خلقنا، ويعلم كل شيء عنا، ويعلم أمراضنا، والسبيل الصحيح لعلاجها، فلا بد وأن يكون هناك دواء يعالج تلك الأمراض، ولم لا وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن الله عز وجل ما أنزل من داء إلا أنزل معه الدواء الذي يقضي عليه، إلا الهرم أو الشيخوخة.
معني ذلك أن هناك دواء شافياً يقضي على أمراضنا ويعيدنا إلى حظيرة العبودية لله عز وجل .. فما هو هذا الدواء؟!

إنه القرآن:
يخبرنا الله عز وجل في كتابه بأنه أنزل دواء لكل ما قد يعاني منه المسلم من أمراض ..
أنزل دواء يقوّم به المعوج من السلوك والتصورات والاهتمامات .. يشفي القلوب ويزكي النفوس ويدفع للاستقامة.
أتدرون ما هو؟! إنه القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
نعم، القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
إنه الوصفة الإلهية لعلاج أمراض الأمة {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].
ولم لا، وقد وصفه العليم الخبير بأنه روح {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
(1/31)
________________________________________
فإن كنت في شك من قدرة القرآن على التغيير فتأمل معي قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

دواء مجرب:
ومما يزيدنا يقيناً في قدرة القرآن على تغييرنا وإعادة صياغتنا وتشكيلنا لنكون من خلاله قوما صالحين، أن هناك قوماً استخدموه، وأحسنوا التعامل معه، فغيرهم وجعل منهم جيلاً فريداً تفخر به البشرية حتى الآن .. ذلكم هو جيل الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا قبل إسلامهم أمة غريبة تغرق في الجاهلية، لا يقيم لها الآخرون وزناً، وإن شئت فقل إنهم كانوا في مؤخرة الأمم، وكانوا أسوأ حالاً مما نحن عليه، ومع ذلك فقد استطاع القرآن أن يغيرهم ويقومهم، ويشفيهم، ويخرج منهم أمة جديدة، هاماتها إلى السماء، فكان الوفاء السريع من الله لهم فنصرهم على أعدائهم وأورثهم الأرض وملكهم ممالكها، فانتقلوا من مؤخرة الأمم إلى مقدمتها وذلك في سنوات معدودات .. فماذا تقول بعد ذلك عن القرآن {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ... [العنكبوت: 51].

القرآن هو الحل:
يقيناً - أخي ****** - أن القرآن الذي بين أيدينا قادر على تغييرنا تغييراً جذرياً وإعادة صياغتنا من جديد لنكون كما يحب الله عز وجل في القول والفعل، والسر والعلن، ولم لا وهو الدواء الرباني الذي أنزله الله عز وجل ليكون كتاب هداية، وشفاء، وتقويم، وتغيير لكل من يحسن التعامل معه {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15،16].
يقيناً - أخي ****** - أن القرآن الذي بين أيدينا هو الذي سيعيد لنا الأقصى وفلسطين والعراق و .... ، سيعيد لنا العزة والمجد، وسينقلنا من ذيل الأمم إلى مقدمتها مرة أخرى لو أحسنا التعامل معه وأعدنا تشغيل مصنعه، وتفعيل معجزته. ولنعلم جميعا بأن الجيل الموعود بالنصر والتمكين لا يمكن أن يتخرج إلا من مدرسة القرآن كما حدث مع الجيل الأول.
وغني عن البيان أن الحديث عن القرآن يشمل السُّنة بالتبعية، فالسنة تشرح القرآن وتُبين ما أُجمل فيه.
القرآن ينتظر:
أخي ....
إن أدوات التغيير القرآني جاهزة لتغييري وتغييرك، وتغيير أي شخص يحسن التعامل معها، وكيف لا، والقرآن يتعامل مع جميع مكونات الإنسان من عقل وقلب ونفس، فيبنى اليقين الصحيح في العقل ويزيد الإيمان في القلب، ويطرد منه الهوى وحب الدنيا ..
القرآن يفجر الطاقات داخل نفس من يقبل عليه بكيانه، ثم يلح عليه في تفريغ هذه الطاقات في مجالات الخير المختلفة؛ مع نفسه ومع أهله ومع المجتمع .. فتجد أهل القرآن، المنتفعين به هم أكثر الناس إنتاجا في عمل الخير.
والقرآن يعرّف صاحبه بربه معرفه يقينية فتتحسن تبعاً لذلك معاملته له سبحانه، فالمعاملة على قدر المعرفة، لذلك ترى أهل القرآن الحقيقيين هم أكثر الناس حبا لله، وتشوقاً إليه، وإخلاصاً له، وتوكلاً عليه، واستعانة به، وخوفاً منه ..
والقرآن يربط صاحبه بالآخرة، ويرغبه فيها، ويحببه في الجنة، ويدفعه للتشمير نحوها.
سيجعلنا القرآن دوماً نحذر من أنفسنا فنكف بذلك عن تزكيتها أو نسبة الفضل لها، بل يجعلنا ننسب أي خير يصيبنا لله عز وجل، وأي شر نقع فيه لأنفسنا.
(1/32)
________________________________________
والقرآن سيحطم داخلنا جدار الخوف .. الخوف على الرزق، والمستقبل، والأولاد، وسيصغر الدنيا في أعيننا، لأنه يضعها دائماً في حجمها الطبيعي. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]
والقرآن .. سيعمل في اتجاهات كثيرة داخل النفس البشرية ويقوم بتغيير ومحو كل ما لا يحبه الله فيها.

دواء يصلح للجميع:
ومع هذا كله فالتغيير القرآني لا يحتاج إلى أدوات يصعب توافرها، بل من عجائبه أنه ميسر للجميع، في كل زمان ومكان .. لو قرأه رجل أو امرأة .. عالم أو جاهل .. صغير أو كبير .. لو قرأه أي نوع من البشر، وأحسن التعامل معه وتأثر به فسيحدث له التغيير المطلوب.
فإن قلت وكيف يكون هذا، أليس الأكثر علماً هو الأكثر انتفاعاً بالقرآن؟!
لو تعاملنا مع القرآن على أنه كتاب ثقافة ومعرفة لكان الأكثر علماً بالفعل هو الأكثر انتفاعاً به، ولكن كما تبين لنا أن القرآن بالأساس كتاب تغيير وتقويم، ولكي يحدث ذلك لابد من التأثر بآياته وتحرك القلب معها، وهذا لا يشترط له فهم عميق أو علم غزير، فقد يفهم شخص ما آية بفهم محدود لكنه يتأثر بها تأثراً عظيماً، وقد يفهم آخر نفس الآية بفهم عميق ولكن دون تأثر .. فالأول بلا شك هو الذي سينتفع بالقرآن ويزداد به إيمانا، أما الثاني فسيزداد به فقط معرفة تظل حبيسة في عقله دون أن يكون لها أثر في سلوكه لأنه لم يتجاوب معها بقلبه.
إن التأثر القلبي متاح أمام الجميع، وهو مفتاح التغيير القرآني، وبدونه لن يحدث التغيير المطلوب .. هذا التأثر لا يستلزم ثقافة معينة أو فهماً عميقاً، بل يستلزم انفعال القلب مع ما تدل عليه الآيات حتى وإن كان مقدار فهم صاحبها لها محدوداً .. تأمل معي ما حدث للأعرابي الذي كان في مجلس رسول الله صلي الله عليه وسلم فاستمع منه إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة؟ قال: «نعم». فقال الأعرابي: واسوأتاه، ثم قام وهو يقولها، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان» (1).

لماذا لا يغيرنا القرآن؟
فإن قلت، ولكنى أقرأ القرآن وأختمه مرات ومرات، بل وأحفظ بعضه أو كله، والمذياع عندي ينطلق بالقرآن ليل نهار، ومع ذلك فإني لا أشعر بما ذكرته عن جوانب التغيير القرآني، فما زلت لا أجد همة ولا روحاً تدفعني للرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، والمسارعة إلى فعل الخيرات، والانطلاق بالدعوة إلى الله.
نعم، هذه شكوى تكاد تكون عامة، وسببها أننا نتعامل مع القرآن كمصدر للأجر والثواب واستجلاب البركة فقط، ولا نتعامل معه على حقيقته التي أنزله الله من أجل تحقيقها وهي أنه كتاب تغيير وتقويم وهداية وشفاء.
إننا وللأسف الشديد - قد أدرنا ظهرنا للقيمة الحقيقية للقرآن، وحصرنا الانتفاع به في لفظه فقط.
من هنا يتبين لنا أننا إذا ما أردنا الانتفاع الحقيقي بالقرآن، وبقدرته الفذة على التغيير فلا بد من تعامل آخر معه ..
لابد من تعامل جديد ينطلق من احتياجاتنا الماسة إلى تغيير الوضع المأسوي الذي نعيشه، وتعيشه أمتنا منذ عشرات السنين.
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور.
(1/33)
________________________________________
كيف ننتفع بالقرآن؟
إذن فنقطة البداية للتغيير تنطلق من استشعار حاجتنا إلى القرآن، وهذا - إن تحقق - سيدفعنا للانشغال به، ودوام الإقبال عليه، وعدم تركه ولو يوماً واحداً، وكيف لا وكل يوم يتعرض المرء لفتن وشهوات يحتاج أمامها إلى زيادة في الإيمان تُقَوِّي قلبه وتعينه على مقاومة ما يتعرض له.
ومع الانشغال اليومي، والمداومة على اللقاء المتكرر بالقرآن، لا بد أن تكون قراءته بفهم، وأن نعي ما نقوله، مع الصوت المسموع والترتيل، والقراءة الهادئة التي تبحث عن مواضع التأثر ولا تبحث عن كم القراءة.
و لنعلم جميعا أن التأثر والتجاوب مع القراءة هو الذي يزيد الإيمان ويفجر الطاقات ويطرد حب الدنيا من القلب، لذلك علينا أن يكون هدفنا من القراءة: متى سأتأثر؟ ولا يكون هدفنا متى سأختم السورة؟ فآية واحدة نفهمها - ولو فهمًا إجماليًّا - ونتأثر بها فتزيد الإيمان في قلوبنا خير من ختمة كاملة بلا فهم ولا تأثر.
و لأن التأثر لا يمكنه أن يحدث دون فهم للمقصود من الآيات، فلابد أن نفهم ما نقرأ ولكن دون تعسف، وأن نترك ما يستشكل علينا ونأخذ المعنى الإجمالي من الآيات، ولا بأس من العودة إلى التفسير لفهم ما صعب علينا فهمه ولكن في وقت أخر غير وقت قراءة القرآن حتى لا تنقطع صلة مشاعرنا بالآيات، ومن ثم يتأخر حدوث التأثر والتفاعل الذي ننشده.

ترديد الآية التي تؤثر في القلب:
وعندما يحدث التأثر بأية من الآيات فعلينا الاستفادة القصوى بذلك .. لماذا؟ لأن التأثر معناه دخول نور هذه الآية إلى القلب، واختراقه لغلافه، وهزه للمشاعر، مما يزيد الإيمان ويقلل الهوى في القلب، ويفجر الطاقات .. فعلينا استثمار تلك اللحظات، والعمل على دخول أكبر قدر من النور إلى القلب، وذلك من خلال ترديد الآية التي تؤثر فيه .. هذا الترديد لا يوجد له حد أقصى من العدد، فطالما وجد التجاوب استمر الترديد، فإذا انقطع التجاوب انتقلنا إلى ما بعدها من آيات .. ولقد كان هذا هو هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام .. كان أحدهم يردد الآية في قيامه لليل حتى يصبح.
معنى ذلك أننا قد لا نقرأ الكم الذي حددناه لأنفسنا .. نعم، قد يحدث ذلك، ولكن مع حلاوة الإيمان والتغيير الذي سنستشعره من خلال لقائنا بالقرآن سندرك القيمة الحقيقية لهذا الكتاب، بل وسنندفع متلهفين إلى طول الجلوس معه، ومن ثم ختمه في مده قصيرة، ولكن دون وجود سيف على رقابنا يدفعنا لسرعة القراءة حتى نتمكن من إنهاء الورد ..
وحبذا لو جعلنا وردنا زمناً لا كماً، ولنبدأ بساعة - على الأقل - كل يوم، نجلسها في مكان هادئ بعيداً عن الضوضاء .. نقرأ ونرتل ونفهم ونتأثر ونبكي، وندعو الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة.
ساعة واحدة!!
يقيناً، لو داومنا على لقاء القرآن ساعة واحدة - على الأقل- كل يوم، وجعلنا شعارنا فيها: «أن أفهم ما أقرأ وأتأثر به» .. يقينا سنشعر بتغيير تقر به أعيننا، وتنشرح له صدورنا مع كل لقاء مع القرآن.
سنشعر شيئا فشيئا بروح جديد تدب فينا، وطاقة تتولد داخلنا تدفعنا لهجر المعاصي، وفعل الطاعات، وصله الأرحام، والإنفاق في سبيل الله، والدعوة إليه، و ...
بهذه الساعة سيعظم قدر ربنا عندنا ويصبح أحب وأعز علينا من كل شيء، وستصغر أنفسنا ودنيانا في أعيننا، وسنزهد في الناس.
بهذه الساعة سنعرف معنى الإيمان، وسندرك حقيقته وحلاوته وسنأنس بالله، وسيزداد شوقنا إلى لقائه.
بهذه الساعة سنشعر بالسكينة والطمأنينة والحياة السعيدة.
بهذه الساعة سيزداد إنتاجنا في محيط الدعوة، وستتولد داخلنا الذاتية والإيجابية التي نبحث عنها منذ زمن طويل.
فهل سنداوم - أخي - على هذه الساعة ..
(1/34)
________________________________________
ما الذي ينقصني وإياك للمداومة عليها، وبالطريقة التي تم بيانها؟
فلنبدأ من الآن ولنسأل الله عز وجل التيسير والإعانة.

إياك ثم إياك:
إياك يا أخي أن تداوم على هذه الساعة ثم تجعلها في وقت أنت فيه مجهد فلا يمكنك أن تفهم ما تقرأ ..
إياك أن تكون هذه الساعة وأنت بين ضجيج الأصوات ..
إياك أن يكون همك فيها الانتهاء من أكبر قدر من الآيات.
إياك أن يكون همك التعمق في المعنى دون التأثر به، بل اقرأ ببساطة وسلاسة، واجعل الآيات تنساب داخلك، ويتصاعد تأثيرها عليك شيئاً فشيئاً وانتظر بعد ذلك اللحظات السعيدة .. لحظات التأثر وتحرك القلب .. عض عليها بالنواجذ، ولم لا وهي لحظات التغيير.
وإن استطعت أن تجعل الساعة ساعتين أو ثلاث فأنت السابق حقاً .. وإن استطعت أن تخصص وقتاً أخر للقائك مع القرآن في صلاة الليل فلا تسل عن المعاني التي ستتولد لديك، ولا الإيمان الذي سيزداد في قلبك ولا جمال العبودية التي ستعيش في ظلالها.

رمضان والروح المفقودة:
فإن قلت ولكنني لا أجد همة تدفعني لأن أبدأ وأداوم على قراءة القرآن ساعة كل يوم.
المطلوب إذا هو نقطة انطلاق، وقوة دافعة تنطلق بها رحلتنا المباركة في العودة إلى الله من خلال القرآن.
من هنا تبرز قيمة شهر رمضان ودوره العظيم في استثارة الهمم، وإخراج الناس من حالة الفتور التي تنتابهم وتقعدهم عن العمل.
فمهما كانت همتنا ضعيفة إلا أنها في رمضان تقوى وتشتد.
فلتكن إذا بدايتنا الجديدة مع القرآن في رمضان، ولنستفد بهذا الشهر في عودة الروح لنا من خلال القرآن.
ولكن إياك أن تتعامل مع القرآن كما كنت تتعامل سابقاً .. إياك أن يكون همك في رمضان عدد الختمات التي ستختمها فيه، فلقد ختمناه قبل ذلك عشرات المرات .. فماذا تغير فينا؟

الميلاد الجديد:
أخي ..
ليكن رمضان هذا العام هو ميلادنا الجديد، وليكن إقبالنا هذا العام على القرآن غير إقبال السنوات الماضية.
أخي ..
تخيل لو أننا استثمرنا همتنا في رمضان وتفرغنا للعبادة فيه، وجعلنا جُل أوقاتنا لقراءة القرآن بالطريقة التي تم بيانها ..
تخيل لو جلسنا في رمضان مع القرآن ساعتين وثلاث وأربع ..
هل تدرك حجم التغيير الذي يمكن أن يحدث لنا نتيجة ذلك؟
ستكون بلا شك ولادة جديدة لقلوبنا، وصلة قوية بالله عز وجل، وحلاوة للإيمان لم نذقها في حياتنا من قبل.
فلنبدأ من الآن، ولننتهز الفرصة المتاحة أمامنا قبل أن يحال بيننا وبين هذا الكنز العظيم.
لننتهز الفرصة قبل أن نندم يوم لا ينفع الندم.
(1/35)
________________________________________
سريان الروح في الأمة:
وبعد أن نتذوق حلاوة الإيمان في القرآن، ونشعر بالتغيير الذي سيحدث لنا - بمشيئة الله - .. علينا أن ندل كل من حولنا على الكنز الذي وصلنا - بفضل الله - إليه .. فندعو آباءنا وأمهاتنا، وزوجاتنا وأبناءنا، وأقاربنا وجيراننا، وزملاءنا وأصدقاءنا.
ندعوهم للسعادة والحياة الطيبة والتغيير من خلال القرآن ..
فإن فعلنا ذلك فستسري روح القرآن في الأمة شيئاً فشيئاً، لتسترد عافيتها، وترتفع هامات أبنائها إلى السماء مرة أخرى، وتتجه إلى الله وتفعل كل ما يرضيه ليأتي تبعاً لذلك الفرج والنصر منه سبحانه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
وأخيرًا، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على العودة الحقيقية إلى القرآن، والتمسك به، والاستشفاء بشفائه، وأن يوفقنا إلى دعوة الناس إليه.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
(1/36)
________________________________________


http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مجالا, معدودات, الرؤى, رمضان, وعودة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أياما معدودات .. رمضان وعودة الروح
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الثقافة البصرية بوصفها مجالا معرفيا بينيا Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 09-02-2019 08:44 AM
"بن دغر" يأمر بوقف إطلاق النار فورًا في عدن وعودة القوات إلى ثكناتها عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 4 02-02-2018 07:41 AM
تركيا ستنشئ مجالا أمنيا داخل سوريا بعمق 30 كيلو مترا Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 1 01-22-2018 12:15 AM
آن أوان دفع الثمن لحماس وعودة ابننا عبدالناصر محمود أخبار الكيان الصهيوني 0 05-13-2016 08:00 AM
حكومة السعودية ترى بتوسعات الحرم المكي مجالا لتنويع مصادر دخلها عبدالناصر محمود أخبار اقتصادية 0 10-24-2013 08:15 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:19 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59