#1
|
||||
|
||||
وقفات مع قضايا معاصرة شبهات ردود
الكتاب: وقفات مع قضايا معاصرة شبهات ردود المؤلف: محمد حازم صلاح أبو إسماعيل محمد عبد الرحيم الناشر: بداية للإنتاج الإعلامي الطبعة: الأولى، 2010 م - 1431 هـ عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] وقفات مع قضايا معاصرة شبهات وردود أ. حازم صلاح أبو إسماعيل (1/1) ________________________________________ الجزء الأول وقفات قضايا معاصرة شبهات وردود أ. حازم صلاح أبو إسماعيل (1/2) ________________________________________ اسم الكتاب: وقفات: قضايا معاصرة شبهات ردود اسم المؤلف: أ. حازم صلاح أبو إسماعيل مقاس الكتاب: 14.5× 20.5 إشراف ورؤية فنية: محمود خليل تحرير ومراجعة لغوية: مسعد خيري تصميم الغلاف: أسامة طه تجهيز فني: أحمد علي رقم الإيداع: 23785/ 2009 الطبعة الأولى 2010 م/ 1431 هـ جميع حقوق الطبع والتوزيع محفوظة في مصر والعالم لشركة بداية للإنتاج الإعلامي أحمد خليل - محمود خليل 7 ش عبد العزيز - العتبة - القاهرة - ج. م. ع تليفاكس: 0020223959408 - 4700072/ 011/002 www.bedaia.com Email:bedaiasound@hotmail.com (1/3) ________________________________________ بسم الله الرحمن الرحيم (1/4) ________________________________________ مقدمة إن أعداء الإسلام وهم مؤسسات ودول يعملون بقوة ضد الإسلام، يلتقطون الشبهات ليشوهوا صورة الإسلام، وليثيروا الريبة في نفوس أبنائه أنفسهم، ومع الأسف فقد استولوا على بعض الذين يتصورون أنهم مثقفون ليصبحوا خدمًا لهم، يعني أصبح من قومنا ومن شعوبنا من هم خدم لهذه الأفكار. وهذا الأمر له سبب واحد وهو أن معلومات هؤلاء الخدم عن الإسلام لا تأتي من الإسلام، وإنما تأتي من أعداء الإسلام عن الإسلام. وحول الشبهات التي تدور بذهن بعض المسلمين أو التي تكون مدخلاً لأعداء الإسلام كي يسمموا بها أفكار المسلمين ويثيروا الريبة في نفوسهم، ومنها مكانة المرأة وحقوقها ومدى عصمة الأنبياء ومشروعية الطلاق في (1/5) ________________________________________ الإِسلام وحكمته كذلك تعدد الزوجات والرق والعلاقة بين القدر والدعاء وكيفية فهم القرآن والهدف من الخلق وغيرها من الموضوعات الشائكة التي نسأل الله تعالى أن يعيننا على فهم الحق فيها واتباعه وتبيانه للناس. حازم صلاح أبو إسماعيل (1/6) ________________________________________ الهداية .. كيف تكون؟ (1/7) ________________________________________ الهداية .. كيف تكون؟ إن من أكثر الخواطر ترددًا على أذهان المسلمين وهم يسمعون آيات القرآن الكريم، والمسلمون -جزاهم الله خيرًا- يقاومون هذا الخاطر، ويحاولون ألا يظهروه، وأن يخفوه وأن يكبتوه في أنفسهم خوفًا من أن يكون هذا الخاطر فيه شيء من عدم الإجلال والاحترام لمقام الله رب العالمين .. إن هذا الخاطر يسأل عنه كثيرون، وهو أنهم وهم يقرؤون القرآن يمرون كثيرًا بقول الله عز وجل: {يُضِلُّ مَن يشآء ويَهدِى مَن يشَآءُ} [النحل:93]، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فتطرأ على الذهن شبهة، هذه الشبهة تقول: إذا كانت الهداية والإضلال مرتبطين بمشيئة الله عز وجل، فكيف يحاسبنا الله على أفعالنا؟! نحن نعلم أن الله عدل، ولكن نريد أن نفهم، كيف يحاسبنا وهو يهدي من يشاء، ويضل من يشاء؟ وكما ذكرت أن المسلمين يقاومون، ويحاولون أن يخفوا هذا الخاطر حتى لا يقعوا فيما يناقض إجلال الله - عز وجل - لكن في الحقيقة هذا ليس منهج الإِسلام، منهج الإِسلام هو تجلية الحق، وإظهاره، منهج (1/8) ________________________________________ الإِسلام ليس أن تمنع نفسك من طرح مثل هذا السؤال، بالعكس منهج الإِسلام أن تظهر ما عندك من سؤال؛ لأن الإِسلام ليس عنده ما يخفيه، الإِسلام دين قادر على أن يجيب على كل سؤال بتمكن واقتدار وكفاءة تامة. ولذلك سبحان الله! بعض المسلمين أيضًا بدأوا يخرجون المسألة من الأزمة، وليجعلوها متناسبة مع العقل الحديث، فقالوا المقصود من الآية أن الله يضل بها من يشاء أن يضل، ويهدي من يشاء أن يهتدي، فيجعل الضمير عائدًا على الشخص نفسه. وأنا أشكر هؤلاء لغيرتهم على الإِسلام، ولكن أنا أريد أن أجعل المسألة مستحكمة ثقة مني في دين الله، وفيما يطرحه من آيات الهدى البينة الرائعة، يقول الله تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، من يشأ الله، فالمشيئة راجعة إلى الله، ويقول: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] .. لقد ذكروا أن الله هو الذي يقول: أتريدون أن تهدوا من أضل الله، فيكون قد ذكر أن الله يضلهم .. فأنا أريد أن أقول لكم إن القرآن حتى حين يقول فمن يهديه من بعد الله، فمن يهدي من أضل الله، واضح وصريح في أن الله هو الذي يهدي وأَن الله هو الذي يضل .. (1/9) ________________________________________ الآن قد حكمت لكم الموضوع حتى نصعبه .. حتى تفرحوا معي بعد ذلك بفهم آيات الله .. إن هذا الدين لا يقوم به من يجهله أبدًا، ولا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه وفهمه .. من أشرق الإيمان في قلبه، وأشرق النور في عقله وذهنه وفي فهمه وإدراكه .. يقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت] إذن نور الله -عز وجل- في هذا القرآن. ولقد ظهرت هذه الإشكالية وهذا التساؤل الذي طُرح لدى البعض على أن المسألة مسألة مزاج، مزاج الله وحاشا لله أن يقول الإنسان على الله - عز وجل - ما لم يقله الله .. إذ يتصور البعض أن المسألة تتعلق بالحالة المزاجية، وطبعًا الله ليس كمثله شيء، لكن حاشا لله ذلك، هذا ليس شأن الله أبدًا .. بل شأن الله -عز وجل- أن كل شيء عنده بمقدار، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر]، {سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح]، {وَلَا تِجَدُ لِسُنَّتِنَا تًحوِيلًا} [الإسراء:77]، فهناك معيار محدد، مقياس محدد .. لكن من أين نأتي بهذا المعيار والمقياس في قوله تعالى: (يهدي من يشاء ويضل من يشاء)؟ (1/10) ________________________________________ لقد فهم البعض أن الإضلال والغواية مسألة بدون معيار، لكن في حقيقة الأمر عندما يقول الله -سبحانه وتعالى- إنه يضل من يشاء، فقد ذكر هذه الفئات المحددة التي شاء الله إضلالها، أو يشاء الله إضلالها، ذكرها تحديدًا .. كما أنه ذكر الفئات التي يشاء الله هداها، ذكرها مثل القانون .. القانون يقول: إلا الفئات كذا والفئات مذكورة في مواد أخرى، فكذلك كأن القرآن يقول: إن الله يهدي من يشاء ممن ذكرته لكم في آيات القرآن أن الله يشاء هداه، والله يضل من يشاء من الفئات التي يشاء الله إضلالها ممن ذكرها في القرآن .. والسؤال من الذي يشاء الله إضلاله، ومن الذي يريد الله هدايته قد ورد في نص القرآن .. يقول الله تبارك وتعالى مثلًا عن الذين يضلهم الله سبحانه وتعالى: {وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. إذن هؤلاء قوم اتخذوا قرارًا بالظلم أولًا، فدخلوا في فئة اسمها "الظالمون"، ولقد ذكر الله أنه يضل الظالمين، وهؤلاء اتخذوا قرارًا مسبقًا بالفسق، والله تعالى ذكر أن الفاسقين يضلهم الله، وذكر الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] .. هؤلاء (1/11) ________________________________________ أسرفوا على أنفسهم في المعصية والكذب، {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، فالآيات محددة والمسألة ليست مطلقة كأن يختار الله مثلًا فلانًا ليهديه، وفلانًا فلا يهديه، لا .. حاشا لله أن يكون الأمر بهذه الصورة، وإنما هو معيار منضبط، {وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]، مع أن هذه الآية لها أيضًا بعد آخر، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللهُ} [النحل: 104]، يعني هم اتخذوا قرارًا بالكفر فأصبحوا خارج دائرة الهداية، اتخذوا قرارًا بالظلم، فأخرجوا أنفسهم خارج دائرة الهداية، هذا قرارهم المسبق، هم اتخذوه، هم أسرفوا، هم كفروا، هم خانوا .. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء] الآية ذكرها الله عن المنافقين، إذ إنهم يتلاعبون بالدين .. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء] إذن هم فئة محددة، متلاعبة بالدين؛ لذلك فإن الله يضل من يشاء لأنهم استحقوا هذا الإضلال .. يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)} [النساء] في الآية الأولى "ولا ليهديهم سبيلًا"، وفي الثانية "ولا ليهديهم طريقًا" .. إن الذين كفروا (1/12) ________________________________________ وظلموا وهذه الفئة جمعت بين الكفر والظلم .. إذن الله لا يهدي الكافرين, الله لا يهدي الفاسقين, الله لايهدي الظالمين، ولا يهدي المنافقين, ولا يهدي المتلاعبين، ولا يهدي من هو مسرف كذاب، ولا من هو كاذب كفار .. إذن هي فئات ذكرها الله تبارك وتعالى، حتى عندما ذكر عن قوم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] .. وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] ثم قال عن هذه الفئة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]. لذا حينما تسمع قوله تعالى: "إن الله يضل من يشاء" إياك أن تعتقد أنها فئات مجهولة، أو مسألة متروكة للهوي .. وإنما هي سنن وقواعد وقوانين ومعايير أوحاها الله إلينا، وعرّفنا بها, ولكننا نمر علي آيات القرآن, ولا نقف عندها برغم وضوح الرؤية في آيات القرآن بشأنها .. أما الهداية .. سبحان الله! فقد ذكرها الله تعالي أيضًا تحديدًا حتى نعلم أن الآية تحيل إلى آيات أخرى؛ لأن العبرة بمجمل آيات القرآن، مثلًا يقول الله -سبحانه وتعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر] .. (1/13) ________________________________________ إذن يهدي الله أصحاب صفات أولي الألباب، وفي سورة الرعد صفات لأولي الألباب، والسؤال: من هم أولو الألباب؟ ويمكننا معرفة ذلك من تتبع صفات أولي الألباب في القرآن الكريم .. أيضًا يهدي الله المتقين، وكذلك مِن الذين يهديهم الله من اتخذوا قرارًا بالإيمان والعمل الصالح، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] يقول الله تعالى عنهم والذين اهتدوا، هم آمنوا واتخذوا قرارًا بالهدى، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد] {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] لما جاءهم الهدى اهتدوا .. إذن هؤلاء اتخذوا القرار، فالله لا يعبث، حاشاه ذلك، بل إن الله جعل لنا مشيئة، قال من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فلا يعطل هذه المشيئة .. ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] فهم اعتصموا بالله .. ويقول الله تعالي: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} [القصص: 50] اتبع هواه بغير هدى من الله، هو لا يسير على هدى من الله، وإنما هو يسير هكذا، يدخن السجائر ويصادق زميلات في العمل، والأمور لديه غير منضبطة تمامًا وأحيانًا يصلي وأحيانًا أخرى (1/14) ________________________________________ لا يصلي .. هو شخص يتبع هواه بغير هدى من الله .. يقول الله تعالي: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ} [النساء:66] فهذه خطوة يقوم بها المسلم، ويقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]، {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء]. إذن الهدى للذي يستمع للموعظة وينفذها، فيأتيه الهدى، ويتبعه، وهذا بخلاف الذي يأتيه الهدى ولا يتبعه .. فحينما يقول الله -عز وجل: "إن الله يهدي من يشاء" ليس معناها أن الله يهدي من لا يستحق، فهو الله تعالى رب العالمين، ليس كمثله شيء، فكل شيء عند الله تعالى بمقدار، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .. جاهدوا أي تحركوا إلى الله -عز وجل- فاستحقوا الهداية .. والسؤال: ما هي العملة .. عملة الهداية وعملة الغواية؟ العملة هي الخطوة السابقة، الله تعالى بعث إليك الهدى، فتقبله أو ترفضه، إن قبلته فقد حزت العملة التي بها تشتري الهدى، أنك قبلت وأقبلت، وإن رفضت الهدى، فإنك بذلك تكون قد فقدت العملة، وليس معك عملة لشراء الهدى. (1/15) ________________________________________ لذلك كما ذكرت من قبل، ذكر القرآن عن قوم أنه هداهم وهم كفار، وقال إن الله قد هداهم .. قال عن ثمود الذين عذبوا وماتوا كفارًا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلَت:17] ثم قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وعن فرعون {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات 19] أي أنه هو الذي رفض الهدى، وقال عن آزر والد إبراهم عليه الصلاه والسلام أو عمه، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)} [مريم] سأهديك .. الهدى معناها الدلالة علي الخير، بل إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يذكر أن الكفار اتخذوا قرارًا بألا يؤمنو في، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] .. ويقول تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام:116] هذا وصف عن الكفار .. وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23] ما هذا؟ أيذكر القرآن عن قوم أنهم قد جاءهم من ربهم الهدى وهم يتبعون الظن وما تهوي الأنفس وهم كفار؟ والجواب نعم .. وذلك لإبطال حجتهم يوم القيامة. ولذلك حينما تقرأ سورة الزمر تجد ردًا علي من يريد أن يتحجج وذلك حتي لا يأتي شخص يوم القيامة ويقول {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] حتي لا تزعم نفس هذا .. (1/16) ________________________________________ وهذا الكلام يقوله البعض، فيقول أحدهم: "لوكان الله هداني لكنت وكنت، لكن هذا أمر خاص بالله، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ويبدو أن الله لا يريد أن يهديني" وهذا كلام خاطئ، وللأسف بسبب مشاهدة الأفلام والمسلسلات والممثلين والممثلات، صارت هذه هي ثقافة المسلمين اليوم، يقول الله -عز وجل- في هذا الأمر: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)} [الزمر] ثم ثم يقول: {بَلَى} يعني بلي بل هديتك وأعطيتك الهدي، {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)} [الزمر:59]. ولذلك لا بد أن نعلم قوله صلي الله عليه وسلم مخبرًا عن ربه في الحديث القدسي: "من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" .. طبعًا هذا تمثيل لمعني اللفظ وليس لفعل الله، فلابد إذن من اتخاذ خطوة، وخطوة من الله -عز وجل- أنه أرسل رسوله بالهدي والدلالة علي الخير ودين الحق ليظهره علي الدين كله، فمن استجاب وآمن وأجاب واتبع فإن الله سيعطيه الهدي، ومن رفض وكفر وظلم وكان مسرفًا ومرتابًا وكذابًا وظلومًا وكفر ثم آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر وتلاعب ولم يؤمن بآيات الله و .. و .. فإن الله تعالى يضله. (1/17) ________________________________________ كيف يضله الله؟ هذه نقطة هامة جدًا، فالناس يتصورون أن الله له فعل إضلال، وإنما يقول الله تعالى: {وَيَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186] .. {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)} [يونس] .. إذن الإضلال أن يُتركوا فيما اختاروه، بل لا يكتب الله تعالى عليهم الضلال بمعنى أن يجبرهم عليه وإلا فأين ذلك من قول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فتقول له يا رب كيف أشاء أنا إن كنت تجبرني، فيقول لا، الضلال هنا هو مجرد أنك تُترك، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان:3]. إذن مسألة الإيمان والكفر ليست مسألة مطلقة بدون قواعد، وإنما هي مسألة تتم طبقًا لقواعد محددة سلفًا. (1/18) ________________________________________ الحرية في الإِسلام يقول الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} في [المجادلة:11] .. إن العلم هو هذا الذي نفعله حين نتدارس آيات الله عَزَّ وَجَلَّ .. ومن الأمور التي ترد على أذهان البعض مسألة الرق، كيف يسمح الإِسلام أن يكون بشر مالكًا لبشر آخر ونحن نقول إن الإِسلام دين الكرامة الإنسانية؟! وأنا أقرأ الآيات التي تذكر الإماء والعبيد والحرائر .. فهل يعقل أن الإِسلام الذي يتكلم عن الحرية البشرية والكرامة الإنسانية وتحرير البشر يسمح بأن يكون هناك بشر ملكًا لبشر؟! ويكون هذا عبد فلان وهذه أمة فلان، ويصبحون ميراثًا يورث .. كيف؟! لماذا لم يحرم الإِسلام الرق؟ وهل من حق الناس أن يقولوا إن المدنية الحديثة والحضارة الحالية أرشد من الإِسلام لأنها حرمت الرق وجعلته محرمًا أما الإِسلام فأباحه؟ من يقول هذا -جزاه الله خيرًا- يغار على الإِسلام ولكن لو علمنا روعة عطاء الإِسلام وتناوله لقضية الرق سنعرف أن هذا الموضوع من (1/19) ________________________________________ مفاخر الإِسلام في باب الحريه وفي باب الكرامة الإنسانية وفي باب تحرير البشر حتى العبيد. إن الرق في التاريخ البشري كانت له مصادر كثيرة جدًا .. وأنا لا أخص في المجتمع العربي في الجاهلية فقط وإنما كل المجتمعات ولنذهب إلى كليات الحقوق ونسأل عما يدرسونه في القانون الروماني أو القانون عند الآشوريين والبابليين والفراعنة وغيرهم. إن الرق في التاريخ البشري كانت له منابع كثيرة .. كانت هناك حروب وكان المنتصر يأخذ المهزوم ويسترقه .. أيضًا لو أن هناك إنسانًا له دين عند إنسان وعجز المدين عن أن يسدد الدين للدائن فيأخذ المدين نفسه بدلًا من المال .. وكان المجتمع يمكّن الإنسان من هذا ولا يمكن المدين من الفرار .. فمثلًا إذا خطف شخص من أهله وكان في حيازة شخص آخر فهو ملك له، وله أن يذهب به إلى سوق العبيد ليبيعه ويتم البيع والشراء حتى لو كان هذا الشخص أباه أو أمه، وكان إذا ضاع طفل يجيء أهله ليشتروه ويحرروه من الشخص الذي وجده لأنه قد أصبح عبدًا ومملوكًا ومسترقًا بمقتضى جريمة الاختطاف، والمجتمع يمكنه من ذلك .. وهذا ما حدث مع "زيد بن حارثة" عندما عرف أبوه وأهله مكانه فسافروا بلادًا وصحراوات كثيرة حتى أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له: ندفع لك ونشتري ابننا .. لكن النبي (1/20) ________________________________________ - صلى الله عليه وسلم - كان أكرم وقال لهم: "خدوه لو اختاركم" .. لكن زيدًا اختار النبي - صلى الله عليه وسلم -. إذن منابع الرق كانت كثيرة جدًا، وعندما جاء الإِسلام حرم كل مصادر الرق ومنابعه .. جفف كل منابع الرق، لأن كل النماذج التي ذكرتها هي حرام في الإِسلام .. حرم الإِسلام كل مدخل وكل سبب وأبقي سببًا واحدًا فقط هو من مفاخر الإِسلام .. وهو طريق واحد فقط ليكون الإنسان عبدًا، هذا الطريق هو أن يأتي إنسان يحاربني ليعتدي على عرضي كدولة إسلامية أو علي مالي أو على عقيدتي، ويحاربني بظلم فأنتصر عليه ويمكنني الله عَزَّ وَجَلَّ منه. هل تدرون الواقعة الخاصة بـ "مدرسة بحر البقر" في الدقهلية في مصر وهي أنه عندما جاءت طائرة من طائرات اليهود وضربت مدرسة ابتدائية وقتلت الأطفال وملأت الدماء كل مكان اتضح أن الطائرة تقودها "امرأة حامل" جندية في الجيش اليهودي حامل خرجت وضربت المدرسة وعادت .. جريمة نكراء .. مذبحة .. ونحن نعرف صابرا وشاتيلا ودير ياسين في فلسطين وغير ذلك فإذا ما أمكنني الله عَزَّ وَجَلَّ من الذي فعل هذه الجريمة فإن القانون الدولي ينص في هذه الحالة المعاصرة أن من فعل هذا هو مجرم حرب وتتم (1/21) ________________________________________ محاكمته وذلك ما فعلوه مع صدام حسين على جرائم حرب وحاكموا زعيم صرب البوسنة على جرائم حرب وهكذا .. ولكن القرآن الكريم يقول: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] .. مادام ضرب الرقاب انتهى والحرب انتهت فلا داعي للقتل إذ يكون القتل في المعركة فإذا استقرت المعركة وأصبحت أنت متمكنًا فلا داعي لأن تقتله فيموت كافرًا وإنما {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمَّد:4] الوثاق كناية عن الأسر فإذا ما أخذته يومئذٍ أمامي إما أن أقتله وإما أن أمنحه الحياة .. والإِسلام يريدني أن أتركه حيًا بدل أن أزهق روحه .. سأعطيه الحياة وهذه أول نعمة بأن أعطي الأسير حياته بدلًا من قتله، ثم النعمة الثانية أنني بدلًا من أن أجعله يسجن وأقيد حريته جعلته بين الناس .. بين أهلي وقومي وعشيرتي .. جعلته موجودًا في المجتمع حرًا، ثم النعمة الثالثة أنني بدلًا من أن أبقيه كافرًا مشركًا ويموت كافرًا ويدخل النار أدخلته في المسلمين لعل الله أن يهديه حينما ينظر في أحوال المسلمين .. وتعلمون قصة الأسير الذي أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جاء هذا الرجل وكان كافرًا ليحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - فربطه في عمود من أعمدة المسجد ليرى المسلمين حتى إذا ما رأى شأن الإِسلام والمسلمين أسلم. (1/22) ________________________________________ إذن الإِسلام أعطى الأسير الحياة بدل القتل، وأعطاه الحرية بدل الأسر والسجن، وأعطاه الإِسلام بدل الكفر، ثم أعطاه النعمة الرابعة وهي أن الإِسلام أغرى المسلمين بإعتاق العبيد .. وبهذا يكون قد سد الإِسلام كل المنافذ التي تؤدي إلى الرق وفتح كل المنافذ التي تؤدي إلى الخروج من الرق .. فمن جامع امرأته في نهار رمضان فتحرير رقبة .. ومن حلف بالله ثم أراد أن يتحلل من قَسَمه فكفارة الأيمان تحرير رقبة .. كفارات كثيرة في الإِسلام تحرير رقبة لدرجة أخرجت العبيد إخراجًا شبه كامل من الرق، فكان يجب أن يكون هناك بديل لتحرير الرقبة لأنه لن توجد رقاب لتُحرر لأنها قد حُررت بالفعل، يقول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} (لأنه ما عاد هناك أرقاء بسبب هذه الكفارات) {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] إنما قبل إطعام المسلم المسكين وكسوة المسلم الفقير ذكر الله عتق الرقبة حتى لو كان غير مسلم .. وبعد أن أعطاهم الإِسلام أربع نعم وهي نعمة الحياة بدل القتل .. ونعمة الحرية بدل الأسر .. ونعمة الإِسلام بدل الكفر دون إكراه .. ونعمة التحرير بعد ذلك .. أمر الإِسلام أن نكرم الرقيق المسترق في فترة الرق والعبودية وهي الفترة الطارئة .. وليست هذه فترة استمرار لأن الإِسلام لن يجعل هذا الإنسان مستمرًا في الرق وإنما هي فترة (1/23) ________________________________________ مؤقتة حتى تكتمل له نعمة الإِسلام والحياة .. ثم أمرنا الإِسلام في هذه الفترة ألا نظلمه بل نكرمه وننفق عليه ونطعمه. ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت عنده جارية صغيرة أرسلها لتشتري شيئًا فغابت طوال اليوم تلعب فلما رجعت إلى البيت كان الرسول - صلى الله عليه وسلم -غاضبًا، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "والله يا جارية لولا خوف القصاص من الله عز وجل لضربتك بهذا السواك". لم يرضَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضربها بالسواك لأنه يخاف من رب العالمين .. أيضًا أبو مسعود البدري وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يضرب عبدًا من عبيده فجاء من خلفه صلى الله عليه وسلم وقال: "إعلم أبا مسعود أن قدرة الله عليك أعظم من قدرتك على هذا" فالتفت أبو مسعود وهو غاضب وممسك بالولد يضربه وأراد أن يلتفت كأنه يريد أن يقول لمن يكلمه هل تدري ماذا فعل؟ فلما التفت فوجئ بأن المتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع وألجم وقال: يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال له: أما إنك لو لم تفعل لمستك النار .. ً (1/24) ________________________________________ إذن الله تبارك وتعالى يدعو إلى إكرام هؤلاء الأرقاء .. ثم إن الإسلام لا يمانع إن جاء قانون حرم الرق أو جاء المسلمون فحرموا الاسترقاق فلا بأس، يقول الله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمَّد:4] .. لذا فإن الإِسلام لا يجعل الإسترقاق فريضة .. وإنما جعله مصلحة ونعمة، لكن أصحاب الحضارة الحديثة كالأمريكيين والأوروبيين يسافرون إلى أفريقيا ويشحنون سفنًا وبواخر مليئه بالعبيد السود إذ يسلسلونهم ويجعلونهم ينامون على أرض المركب ويضعون عليهم أثقالًا حتى لا يهربوا ويشحنونهم بالمئات والآلاف حتى يعملوا في أمريكا عبيدًا عند السادة الأوربيين، وظلت أمريكا حتى الستينيات من هذا القرن والسبعنيات بل إلى عهد قريب جدًا مكتوب على المطاعم وبعض الولايات وهذا ما قرأته ووجدته بعيني ممنوع دخول الكلاب والسود .. لقد ساووا بين العبد الأسود والكلب، وحتى يومنا هذا ونحن في القرن الحادي والعشرين .. إذا اشترى شخص أسود قطعة أرض أو بيتًا -وإن كان حرًا- تنخفض أثمان الأرض؛ لأنه يعتبر شيئًا غير مرغوب فيه، لذا أحيانًا يتكاتف السكان ليشتروا البيت من هذا الأسود ليخرجوه لتظل المنطقة للبيض وحدهم .. (1/25) ________________________________________ وعندما ذهبت إلى سفارات بعض البلاد الأوربية والأمريكية لآخذ استمارة (للتأشيرة والفيزا) وجدت من ضمن البيانات لون البشرة .. وهذا الكلام في القرن الحادي والعشرين. إذن العبيد الذين عاشوا في فترة عبودية قليلة .. ثم اعتقوا بقدر الله عَزَّ وَجَلَّ هؤلاء أحبوا الإِسلام لدرجة أن الموالي هؤلاء أصبح منهم كبار الفقهاء في الشريعة الإِسلامية وكبار قواد الجيش والفاتحين .. وعلى سبيل المثال "عمار بن ياسر" إذ كان عبدًا عند بني مخزوم وهم عائلة خالد بن الوليد، فلما أسلم "خالد بن الوليد" وكان عمار قد أسلم قبله، وبعد مرور عشرين سنة على بدء الدعوة الإِسلامية اختلف خالد وعمار .. فخالد شعر أن عمارًا كان خادمه وخادم أبيه وعائلته فغلظ عليه بشدة فبكى عمار ولم يستطع أن يتكلم إلى خالد؛ لأنه كان السيد طوال العمر .. واشتكى لرسول الله. فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد: "يا خالد إن عمارًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ومن آذى عمارًا فقد آذى الله ورسوله". ويفزع خالد .. ويذهب السيد ليقبّل رأس عمار، ويقول له: سامحني يا أخي .. سامحني لأنني إن آذيتك آذيت الله ورسوله .. (1/26) ________________________________________ وفي واقعة أخرى يأتي أبو بكر الصديق السيد ومعه أبو سفيان قائد جيش المشركين والذي حارب الرسول صلى الله عليه وسلم طوال فترة الحرب بين قريش وبين الرسول صلى الله عليه وسلم .. وأبو بكر السيد أتى بأبي سفيان السيد وكان أبو بكر طامعًا في إسلامه لأنه لو أسلم قائد جيش ودخل في الإِسلام فهذا عزة للإسلام .. فسار به أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطريق كان هناك ثلاثة من العبيد جالسين فقال أحدهم: يا سبحان الله أمازال يعيش والله إن السيوف لم تشبع من الرقاب، ألا إن سيوف الله لم تشبع بعد من رقاب بعض عباد الله، كلمة غليظة يسمعها أبوسفيان، فاحمر وجه أبي بكر وغضب؛ لأن المصلحة التى ستكون بسبب إسلام أبي سفيان توشك أن تطيش بسبب كلمة مثل هذه .. وذهب أبو بكر للرسول وقال له: انظر يا رسول الله ما قاله فلان وفلان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر فلعلك آذيتهم" إياك أن تكون قلت لهم كلمة تؤذي مشاعرهم لأن رب العالمين عاتب رسول الله في عبد اسمه عبد الله بن أم مكتوم ففيه نزل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)} [عبس]، فقال: لا والله يا رسول الله ما آذيتهم فقال: "إنك لو آذيتهم لآذيت الله ورسوله". (1/27) ________________________________________ إن الإِسلام يدافع عن هؤلاء دفاعًا شديدًا والرسول يقول: "بلال منا آل البيت" .. بلال المسترق من بيت النبوة .. إذن الإِسلام أكرمهم وما جعل الرق إلا منحًا لعمر ومنحًا للمال ومنحًا لحياة ومنحًا لإسلام ثم إعتاقًا ثم بركة ثم إنفاقًا .. ثم كانت النتيجة التي أخضعت الرقاب وجعلت هؤلاء جميعًا قد أحبوا الإِسلام وتكاتفوا معه ولم يكونوا ضده. ألا فلترفع رؤوسنا نحن جند الإِسلام نحن أتباع العقيدة المشرفة الرائعة .. إنها رحمة الله للعالمين .. (1/28) ________________________________________ الهدف من الخلق (1/29) ________________________________________ الهدف من الخلق جاءني شاب يسأل، وكان قد وقع فريسة لبعض المذاهب الاقتصادية والاجتماعية كالماركسية والشيوعية وغيرهما، فجاء يسألني سؤالًا يظن أنه سؤال عميق، وأنه لا رد عليه، ولكن هذا السؤال حقيقة يتناول نظام الإِسلام كلية، سألني قائلًا: إن القرآن الكريم يقول إن الله هو الغني، وإنه لا يريد من عباده الرزق له، يقول الله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات] .. وإن كل من في السماوات والأرض إنما هو عطاء من الله رب العالمين. وآيات القرآن تمتلئ بما يعرّفك بأن الله هو الغني، وأن العباد هم الفقراء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر]، ثم يقول: ومع ذلك وبرغم هذا الوضوح والاستقرار في آيات القرآن إلا أن القرآن أيضًا كلف المسلمين بأن يطعموا الفقراء، ويعطوهم وينفقوا عليهم، فإذا كان الله غنيًا حميدًا - وهو كذلك - فلماذا لم يقل إنه حرم على الأغنياء أن ينفقوا على الفقراء؛ لأن الله ينفق عليهم، وهنا تنشأ هذه الإشكالية، إشكالية بين قول الله تعالى: {مَا (1/30) ________________________________________ ً أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات:57]، وبين {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء:5]، آية تقول: أريد منكم أرزاقًا تجرونها، وآية تقول: ارزقوهم فيها واكسوهم، وأطعموا البائس الفقير .. إن القرآن بهذه الصورة ونحن نوقن أنه كتاب لا يتضارب، ولكن ظاهر الآيات -ولأننا لا نفهمها- نشعر أن هناك تضاربًا. الحقيقة أن هذا السؤال يدل على عدم العلم الكافي بالهدف من خلق البشر. ما هو الهدف من خلق البشر؟ يقول الله تبارك وتعالى عن المهمة التي خلق البشر من أجلها: {إِنِّي جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، ويقول: ويقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات]، ولكن العبادة أنواع، الملائكة يعبدون بطريقة، والجن يعبدون بطريقة، والبشر يعبدون بطريقة، فطريقة البشر عبارة عن أصناف من العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، من أعظم هذه الأصناف ومن أميزها ومن أخصها بالإنسان ومن ألصقها به والتي من أجلها خُلق الإنسان أن يكون خليفة عن الله في الأرض، قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. (1/31) ________________________________________ إن البشر خلقوا ليكونوا خلفاء عن الله - عز وجل - في الأرض، أو خلفاء على ما رزقهم الله، فإذا علمت أن منطق إنفاق الأموال في الحقيقة ملازم للخلافة، ملازم للإستخلاف، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] إذا علمت ذلك أصبح هناك تلازم بين الإستخلاف وبين الإنفاق، الإنفاق صورة من صور عبادة الاستخلاف في الأرض، فلو أنك طلبت من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن ينزعها عن البشر فكأنما تقول له خلقتني خليفة، ولكن لا تكلفني بما هو مقتضى أنني خليفة في الأرض، والله تبارك وتعالى يقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] فالمال مال الله، ونحن مستخلفون فيه. ولذلك ننفق بالوحي والشرع الذي شرعه الله عز وجل، والحقيقة هذه المسألة ليست خاصة بإنفاق الأموال فقط، وإنما هي خاصة بكل شيء، حتى أنها خاصة بالقوة أيضًا، فالله تعالى جعل لكل نعمة أنعمها على الإنسان جعل لها ضريبة، أو جعل عليها ضريبة، فالإنسان القوي مثلًا مكلف بالجهاد في سبيل الله، والإنسان الذي لديه جاه وسلطان ووجاهة مكلف بأن يعد بجاهه على من لا جاه له، فيشفع شفاعة حسنة، أو يخدم إنسانًا، أو يقيم الحق .. ينفق من هذا الجاه، ومن كان له فضل مال فلينفق على من لا مال له، أو فليعد به على من لا مال له، (1/32) ________________________________________ حتى من كانت عنده ركوبة، وهى الآن السيارة، وبالأمس كانت حمارًا أو بغلًا أو جملًا، من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له. إذن العبادة التي خُلق لها البشر مختصة بهم، ولا يقوم بها ملك مقرب، ولا يقوم بها شيطان ولا جني، ولا يقوم بها إلا البشر وهي أنه خليفة لله على الأرض، وهذا الإنفاق صورة من صور الاستخلاف. ولذلك فإن من يقرأ آيات القرآن يجد أن الله تعالى جعل بعض الناس لبعضهم عبادة، يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] .. فتنة أي اختبار وابتلاء وامتحان، أتصبرون؟ فجعل للغني حظًا مع الفقير، وجعل للفقير حظًا مع الغني، وأصبح الإنسان بهذه الصورة مكلفًا لا أن يعيش مصليًا وصائمًا وقائمًا وذاكرًا لله وداعيًا، وما إلى ذلك من الدعاء لله وسؤاله، وإنما هو مكلف أن يعبد الله في البشر، وفي الحديث القدسي: "مرضت فلم تعدني، كيف تمرض وأنت رب العالمين يا رب .. قال: مرض عبدي فلم تعده .. " (رواه مسلم). فأصبحت عبادات البشر تمر عبر البشر الآخرين، وهذا هو معنى الاستخلاف. لقد كان الله تعالي قديرًا - سبحَانه وتعالى- أن يقول للبشر لا تنفقوا لكن هو خلقهم من أجل هذا الاستخلاف. (1/33) ________________________________________ ولذلك فإن الذين رفضوا أن يعبدوا الله، والذين رفضوا أن يطيعوا الله، والذين رفضوا أن يؤمنوا بالله رفضوا الإنفاق، يقول الله عنهم: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] حتى يتركوا الدين وينصرفوا عنه .. انظر إلى عظمة الإِسلام، الذين رفضوا الإِسلام قرروا أن يحاصروا الإنفاق وأن يحاصروا منهج الله في الإنفاق؛ لأن الله -سبحانه وتعالى - استخلفهم على هذه الأموال، فأرادوا أن يحجزوها. ولذلك فإن الله -سبحانه - لم يجعل البشر وهم ينفقون بهذه الصورة أحرارًا في أن ينفقوا، وإنما وضع مواصفات لهذا الإنفاق، إذ لا يستطيع الإنسان أن يقتر، ويقول: لا، أنا لن أنفق، كما لا يستطيع أن يسرف، يقول الله تعال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان] .. هذا القوام بين الإنفاق والتقتير هو في حقيقة الأمر طريق الله المستقيم وصراط الله المستقيم .. كما ذكر القرآن الكريم أنه قد يصير الغني فقيرًا، وقد يصير الفقير غنيًا بسبب الإنفاق أو عدم الإنفاق، ونجد في آيات سورة القلم نبأ أصحاب الجنة، وهم مجموعة من الأشقاء يملكون حقولًا، فأعجبهم الزرع وضايقهم التصاق الفقراء ووقوفهم على رؤوس الحقل يوم الحصاد، مع أن الله تعالى جعل من عظمة الزكاة أنها لا ترتبط بزمن (1/34) ________________________________________ بعد حول، وإنما ترتبط بزمن الحصاد، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. ولكن هؤلاء الأشقاء قرروا، وقالوا: إن الفقراء اليوم سينامون مبكرًا حتى يستيقظوا مبكرًا ليدركوا موسم الحصاد، لذا لا بد أن نستيقظ قبلهم ونحصد فإذا استيقظ الفقراء يجدون الدواب قد حملت المحصول، وانتهى الأمر .. يقول الله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم:19] طاف على الحقل {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} فاحترقت بالكامل، وانتهت {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم]، وفي الصباح تنادوا فوجدوا أنه لا شيء عندهم، لقد حولهم الله لفقراء لأنهم لم ينفقوا على الفقراء. كذلك في سورة الكهف نجد حوارًا بين رجل غني ورجل فقير، رجل غني غنى شديدًا، ورجل فقير فقرًا شديدًا، فالغني يُعير الفقير، يقول له: لولا اللقمة التي أطعمك إياها ما طعمت، وهذا ما يقوله بعض الأشخاص اليوم بصيغة (أنت .. لحم كتفيك من خيري). لكن الفقير كان يفهم حركة الأرزاق وفقه الله - سبحانه وتعالى - في الأرزاق، فقال له: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف: 40] فيرتفع الفقير إلى الغنى {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ (1/35) ________________________________________ السَّمَاءِ} يُرسَل على الحديقة شهاب من السماء فيحرقها، فيصبح الغني فقيرًا، إذن تبدل الميزان وتغير، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] .. ولذلك لم يكلف الله تعالى الغني بأن ينفق على الفقير من عند الغني، وإنما كلف الغني أن ينفق على الفقير من مال الله الذي آتاه كحركة مال تخدم وتكرس وتؤكد عبادة الاستخلاف؛ لأنني لو لم أكن موزعًا للأموال، وهذا آخذ للأموال، وهذا متلق .. لفسدت عبادة الاستخلاف وما أصبح الناس بعضهم مكلفًا ببعض .. يقول الله تعالي: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27]، لو أعطاهم كثيرًا {لَبَغَوْا في الْأَرْضِ} .. {وَلَكِنْ} {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} أنت تفعل ذلك مع ابنك، أحيانًا تريد أن تعطيه عينيك كما يقولون، ولكنك تقول: أنا لن أعطيه كثيرًا؛ لأنني لو أعطيته كثيرًا ربما اشترى مخدرات بدلًا من الحلوى أو ربما اشترى خمرًا بدل العصير، فأنت تعطيه بالقدر الذي ترى أنه يصلحه ولا يفسده، إلا من أفسد، فالآباء المفسدون كثيرون .. خلاصة الأمر أن الله تعالى يقول: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33] (1/36) ________________________________________ حتى لا يصبحوا جميعًا كافرين {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ َ (33)} لجعلنا لهم بيت ذهب وفضة وسلالم ومصاعد، وكنا أعطينا وأغدقنا، ولكن الناس لو أخذوا أموالًا بغير حساب لبغوا في الأرض؛ لأنه يوجد عباد لا يصلحهم إلا درجة محددة من درجات العطاء فالله يعطيها لهم، ويأخذ على قدر ما يصلحهم .. وأعلم أنه إذا مات العبد المنفق لن يموت الفقير الذي كان ينفق عليه الغني، وتدلنا آيات القرآن على أمر عجيب، أنه عندما يعجز الغني أو يموت تجد أن الله يرسل للفقير من يصلح شأنه، وذلك في سورة الكهف إذ كان هناك أب ظل طوال حياته يجمع الكنز وينمي الثروة، ثم جاءه الموت وكان له ولدان صغيران، والبلد الذي كان يسكنه كان بلدًا سيئًا جدًا، وأهلها سيئون ولئام، لدرجة أنهم لا يطعمون الضيف، {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] فلما وجد الأب أنه سيموت وأن أهل القرية لئام، ومعنى ذلك أن الثروة سوف تضيع، فجمعها ودفنها في الأرض وبنى فوقها بناء، وقال لنفسه: والله هذا البناء سيظل عشر سنين -لأنه بناه بطريقة معينة- وعندما يكبر ولداي ويريدان أن يتزوجا سيوسعان الدار ويهدمان الجدار ويجدان الكنز، لكن الله أراد أن يقول إن حركة (1/37) ________________________________________ الأموال ليست إلى الأب المنفق، وليست إلى اللئام المتربصين، فأرسل الله زلزالًا، فإذا بالجدار الذي مدته الزمنية 10 أو 20 سنة؛ لأنه مبني بطوب منفصل عن بعضه أو شيء من هذا القبيل، إذا بهذا الجدار يحدث به شرخ بأثر الزلزال، وهذا ما يقول عنه التعبير الحديث (آيل للسقوط)، وآيل للسقوط بمعنى أنه يريد أن ينقض، يقول الله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77]، لو انقض الجدار سينكشف الكنز وتضيع الأموال، وتفسد خطة الرجل، فإذا بالله يرسل نبيًا رسولًا من أولي العزم من الرسل، وهو كليم الله موسى- عليه الصلاة والسلام - أفضل خلق الله جميعًا بعد محمَّد، وإبراهيم- عليهم الصلاة والسلام - يرسله ومعه عبد لا مثيل له في البشر وهو (الخضر)، يقول الله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} [الكهف]، وهو الذي ورد نبؤه في سورة الكهف، يرسل هذا النبي الكليم الرسول، وهذا العبد المتفرد ليعبرا البحر، ويذهبا إلى هناك ليبنيا للولدين الصغيرين اللذين مازالا غافلين عن الأمر يبنيان لهما الجدار حفاظًا على الأموال. فالله -سبحانه وتعالى- حينما رزق الأبناء بالأموال عن طريق الأب، لم تكن أموال الأب، ولكنها أموال الأبناء آتاها الله للأب، فلما (1/38) ________________________________________ مات الأب وعجز، والأبناء عاجزون، وأوشك المال أن يضيع، لذا أرسل الله من يحفظه لهم، لتعلم أنه استخلاف لموسى واستخلاف للخضر، واستخلاف لأب الولدين، ولما عجز الجميع جعل الله تعالى عبدًا كهذا العبد الصالح وهو (الخضر) الذي أرسل إليه علمًا من الغيب ومن المستقبل حتى يحفظ لهما هذه الأموال .. انظر إلى الفرض العكسي، في سورة البقرة، رجل كان بالعكس، يقول الله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} [البقرة]، حديقة كبيرة وعظيمة تخرج من الخيرات أنواعًا مختلفة، والأب ظل يعمل إلى أن أدركه الكبر والعجز، ولكن أولاده مازالوا صغارًا، فهو عجز ولا يستطيع أن يعمل، وأولاده صغار لا يستطيعون أيضًا العمل، فأرسل الله تعالى علي هذه الحديقة ما جعلها تهلك بالكامل، فأصبح الأب عاجزًا والأولاد عاجزين وضاعت الحديقة. سبحان الله! فالمال ليس مال الأب ولا مال الأولاد، وإنما هو مال الله الذي يصرفه في البشر كيفما يشاء .. (1/39) ________________________________________ لقد جعل الله تعالى تفاوت الأرزاق لأجل عبادة الإستخلاف، وهذا التفاوت ليس في المال فقط، وإنما أيضًا في الصحة والعقل والأولاد وأحيانًا يكون التفاوت في المهارة والذكاء فيكون شخص عبقري وآخر أخرق لا يقدر على شيء وهو عبء على مولاه، وهو كَل على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير .. لا ينفع في أي شيء. إذن هناك صحة ومرض، قوة وضعف، مهارة وبلادة، ذكاء وغباء، عمر مديد وعمر قصير، مال وفير ومال قليل .. الحقيقة أننا نغار على ديننا غيرة بالغة، ومن الظلم أن ينزل الله كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا من أمامه ولا من ورائه، ولا من المستقبل ولا من الماضي، لا يأتيه الباطل تمامًا، ثم بسب قصور فهم المسلم لهذا القرآن نجد الأباطيل مستقرة بشأن هذا القرآن .. إن هذا ظلم لكتاب الله العزيز، لأنه قوي لا يأتيه الباطل أبدًا. لهذا علينا أن نفهم آيات القرآن ليظل القرآن عزيزًا مهيبًا في الناس .. (1/40) ________________________________________ فهم القرآن (1/41) ________________________________________ ً فهم القرآن أحمد الله -عز وجل- الذي جعلنا نفتح معًا أبواب الفهم لآيات القرآن، وأبواب الاتعاظ بما نزل فيه من موعظة للمتقين، وكم أتمنى - والله- أن ندرس كل القرآن الكريم بهذه الصورة التي نفهم بها ما وراء الآيات من مرامٍ، ومن مقاصد، ومن مفاهيم، ومن أعماق حتى يصير الإنسان عالمًا بالقرآن .. إن الله تعالى قصر الانتفاع بهذه الآيات على صاحب البصيرة والعلم والعقل، يقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت]، العالمون فقط هم من يعقلونها لذلك نحن حين نطرح آيات القرآن لنعلمها ولندرسها إنما نحاول أن نُرزق الفهم، وذلك حتى يتحقق فينا قوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .. بل إن الله تعالى في سورة النحل يقول عن آياته إنها هدى وبشرى للمسلمين .. إن المسلم يبشر بالقرآن وذلك بأن يفهم ويعقل، ونحن نحمد الله سبحانه كثيرًا على هذا الفضل .. (1/42) ________________________________________ أذكر أنني في ليلة لا أنساها إذ كانت ليلة شاتية ممطرة وكان البرد شديدًا، جاءتني في المسجد سيدة وكنت داخلًا لإلقاء محاضرة ولم أبدأ بعد، تلك السيدة ربما تكون في الخمسين من عمرها أو شيء من هذا القبيل، جاءت ويكسوها الوقار والجلال، جاءت تقول: أريد أن أقرأ القرآن وقلبي مرتاح .. أريد أن أتلو القرآن وأنا مطمئنة .. إنني عندما أقرأ القرآن أجد كلامًا أشعر أحيانًا أنني لا أفهمه فهمًا دقيقًا، إن الله تبارك وتعالى ملأ آيات القرآن بقوله {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [الأنعام: 34] {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق] {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [يونس:63] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [لفتح:23] {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} [التوبة:111] .. كلها مسائل مستقرة .. ثم قالت: ثم أفاجأ ببعض الآيات التي أشعر أنني لا أفهمها، وقرأت بعض التفاسير لكنني لا أستطيع أن أفهمها .. فالآية فيها شرح، لكنني لا أربط بين هذا وذاك، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101]، وهنا يراودني سؤال: أين قوله لا مبدل لكلمات الله؟ (1/43) ________________________________________ وأيضًا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]؟ وسؤالي هو: هل يوجد تبديل لكلمات الله؟! أعلم أن أساتذتنا الأجلاء الذين يعرفون حقائق الآيات الآن يضحكون، ويبتسمون من هذا السؤال .. لكنني عندما دخلت إلى المسجد وطرحت هذا السؤال على جمهور الحاضرين وفيهم الشباب والكبار، في الحقيقة لم يستطع أحد أن يعرف الجواب، فقلت سبحان الله! إذن ربما حدث عند بعض الناس لبس فعلًا، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [يونس:63] وهناك يقول: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] هنا يقول: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [الأنعام:34] وهناك يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}. إن الناس تصوروا أن كلمات الله كلها نوع واحد فقط، بينما كلمات الله ليست نوعًا واحدًا وإنما كلمات الله أصناف، فالقرآن كلام الله وهو النوع الأول، والنوع الثاني عبارة عن الأوامر التي يقولها الله للشيء كن فيكون، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: كن بشرًا .. ويقول فلانة ستلد ذكرًا، فلانة ستلد أنثى، وهذا يموت، وهناك كلام من نوع ثالث وهو (1/44) ________________________________________ علم الله الواسع، يقول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا في كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام]. إذن علم الله واسع، فالكلام في علم الله غير الكلام الذي في القرآن الكريم فقط، غير الكلام الذي يتعلق بالأوامر التكوينية بأن يقول له: كن فيكون، غير الكلام عن صفات الله -سبحانه وتعالى- وهكذا .. إذن كلام الله أصناف غير الكلام الذي هو وعد الله للبشر، بأن الله وعدكم كذا .. والدليل على أن كلام الله أو كلمات الله لها معان متعددة قول الله تعالى، وتذوقوا جمال الآية، يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان] .. والآية بمعنى أنه لو جعل الله الشجر أقلامًا، والبحر حبرًا لن تنفد كلمات الله .. وكلام الله المقصود في الآية غير كلام الله الذي جاء في القرآن، هذا كلام عن علم الله وصفات الله وما يدركه الله فوق إدراك البشر، إنه علم مستفيض لا يكفي لكتابته حبر بقدر مداد الأرض ولو جئنا بمثله مددًا، يقول الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ (1/45) ________________________________________ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف]، ولو ضاعفنا بحور الدنيا إلى الضعف، لكن كلام المصحف يكتب ولا يحتاج لهذا كله .. إذن هناك فارق بين الكلام الذي هو كلام التكوين (كن فيكون) والكلام الذي هو علم الله، والكلام الذي هو وعد الله، والكلام الذي يقصد به القرآن الكريم. إن كل صنف أو نوع من هذه الأصناف من كلام الله -عز وجل- له سنة مختلفة وله مقاييس وقواعد مختلفة، فمثلًا قوله {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [يونس:63] يأتي مع القواعد والأمور المستقرة، وعود الله للبشر .. على سبيل المثال حينما يقول الله تعالى عن المؤمنين أو عن الصالحين من أوليائه: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس]، لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة .. هذه قاعدة مستقرة. ويقول الله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق] الوعد مستقر، أنا أضرب لكم المثل أولًا بالأمور المستقرة لتعلموا الفارق بين السنن التي تظل مستقرة حتى تستقيم حياة البشر. (1/46) ________________________________________ الإنسان المسلم يعيش 50 أو 60 أو 70 سنة ويعتقد أنه سيدخل الجنة، والكافر سيدخل النار، ثم يتغير هذا بعد ذلك، لا .. فهذه مقاييس مستقرة ليتصرف الناس في ضوء هذه المقاييس المستقرة .. يقول الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، هذه سنة مستقرة، ثم يقول الله تعالى بعدها: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} [فاطر: 43]. كما يقول الله تعالى لرسوله- صلى الله عليه وسلم -وهو يرى تكذيب الناس إذ كانوا يقولون عنه إنه كذاب، وهو المعروف والمشهور بالصادق الأمين طوال 40 سنة ولم يُذكر عنه أنه كذاب قط، فكبر عليه إعراضهم، والله تعالى قال: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35]، فلما جاء في هذا السياق قال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] ثم بعد التكذيب يأتي النصر {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} [الأنعام: 34]. إن المواضع التي جاء فيها قول الله تعالى لا تبديل لكلمات الله، ولا مبدل لكلمات الله، ولن تجد لسنت الله تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا، ولا يبدل القول لدي، هذه عن قواعد العيش، قواعد الدنيا والآخرة، قواعد النصر والهزيمة، قواعد أن العاقبة للمتقين، قواعد أن المكر السيئ يحيق بأهله من الذين مكروا السيئات .. (1/47) ________________________________________ أما عندما أنتقل لنوع ثان من نوع الكلام وهو الذي أتى في كلام الله وفي المصحف وهو كلام خاص بالبشر، وبإصلاح البشر فبإصلاح البشر يتطورون .. فالطفل الصغير مثلًا عندما يحاول وضع شيء في مقبس الكهرباء فتمنعه وتزجره وربما تسده بشيء، ولكن عندما يصل لسن العاشرة مثلًا قد تطلب منه أن يضع القابس هو بنفسه، فأنت الذي منعته بالأمس ثم تطالبه اليوم بما منعته؛ لأنه قد تطور. إذن المرحلة العمرية والقدرات لهما اعتبار. وحينما يقول الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] هذا الكلام معناه أن الله -عز وجل- يخاطب البشر بقدر طاقتهم، مثلًا في البداية {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] معناها أن المسلم في بداية الدعوة من الصحابة الأولين لقوتهم ولوجود النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم فحتى إذا بلغ عدوهم تسعة أضعاف لا يجوز لهم أن يرجعوا، لا يمكن .. وإنما نحاربهم ولو بلغوا عشرة أضعاف، لكن أكثر من عشرة أصبح الحكم مختلفًا، ثم يقول تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ} [الأنفال:66] فلم يصبح الواحد (1/48) ________________________________________ مقابل عشرة؛ لأنه قد علم أن فيكم ضعفًا، لأن الأمم التى ستأتي بعدكم لن تكون مثل هذه الأمة، فإن يكن منكم مائة يغلبون مائتين، ألف يغلبون ألفين، حتى 12 ألفا .. هنا مقاييس العدد توقفت حيث إنه لن يغلب اثنى عشر ألفًا من أمتي من قلة. كذلك في أمور أخرى مثل الربا والخمر التي أخذت تتدرج، فإذا قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] يعني يأتي الحكم الجديد مراعيًا للظروف والمقتضيات التي أصبحتم عليها فتصير خيرًا لكم في واقعكم الذي تجدد الآن من الآية التي كانت قبل وجود هذا الواقع .. مثلًا في مسألة تحريم الخمر قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فبدءوا يشعرون أن الخمر أجنبية على الصلاة، أجنبية على روح الصلاة، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] قالوا: إذن ما نكسبه سنخسر أكثر منه بالخمر، ولكنها لم تُحرم، إلى أن وصل إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} وليس فقط فلا تشربوه وإنما لا تذهبوا إلى ما فيه خمر، سواء تشربه أو لا تشربه كأن تجلس مع من يشربه أو تلمسه أو تحمله، هذا كله ممنوع، فاجتنبوه أشد من منع الشرب. (1/49) ________________________________________ كذلك في مسألة تحريم الربا قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] يقول قائل: إذن لن آخذ أضعافًا مضاعفة وإنما سآخذ فائدة بسيطة 4% في القانون المدني و 6% في القانون التجاري، وهذه القوانين مع الأسف يحكم بها القضاة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لعن الله الربا، آكله ومؤكله وشاهديه" (رواه مسلم) وقال: "هم سواء" .. فإذا ما وصل الأمر إلى هذه الصورة يقول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] .. ويقول: {اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، وإذا كنتم لا تريدون أن تتركوا الربا {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] .. إذن المسألة صارت خطيرة. وهكذا توجد بعض الآيات التي تناسب البدايات، مثل قيام الليل، ظل قيام الليل -كما ورد عن الصحابة- فرضًا على الصحابة السابقين الأولين من المسلمين في مكة لمدة سنة .. قيام الليل فريضة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزَّمل] .. ظل قيام الليل سنة كاملة فريضة .. فلما اشتد عود الأمة ولو بوجود الصف الأول حتى ولو كانوا قلة وأصبحوا يعرفون الله ويتوجهون إلى الله ويعبدونه فقويت (1/50) ________________________________________ نزعة التوجه إلى الله في قلوبهم، جاءت الآية الأخيرة في نفس السورة تقول: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} [المزَّمل] .. فعلم الله أنه سيكون منكم مرضى وآخرون يجاهدون فلن يستطيعوا أن يجاهدوا في سبيل الله والمريض لن يستطيع، لذلك وضع الله عنهم قيام الليل .. إن هذه الآيات بعضها كان قويًا ثم خُفف، وبعضها كان خفيفًا ثم اشتد، تحريم الخمر بدأ خفيفًا في التعامل معه ثم اشتدت الحرمة حتى قطعت العلاقة بين المسلم والخمر، والربا، وهكذا، وإنما في قيام الليل كان الحكم الأصلي شديدًا، قيام طويل، ثم خُفف، وفي الجهاد في سبيل الله كان شديدًا ثم خفف، إذن المعيار في {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] وفي {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] أنه سبحانه يقول: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك]، وهذا الكلام يتعلق بالأحكام الشرعية المتصلة بالبشر. (1/51) ________________________________________ إن الله -سبحانه- تعامل مع بني إسرائيل بهذه الصورة، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا (160)} [النساء] أي بسبب ظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، طيبات كانت حلالًا عندهم حرمناها عليهم، فلما أحدث التغيير أثره في تأديبهم وفي تربيتهم وفي ردعهم، أو على الأقل في افتضاح انحرافهم، وأنهم لم يرتدعوا أرسل الله رسوله- صلى الله عليه وسلم - ومن مهامه أن يحل الطيبات مرة أخرى، وأن يحرم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال والقيود التي كانت عليهم، فهل كان الحل الأول خطأ؟ لا .. هل كان التحريم الطارئ خطأ؟ لا .. هل كانت عودة الحل مرة ثالثة خطأ؟ لا .. إنما هذا ما كان مناسبًا .. فكان كل شيء يناسب مرحلته. وأخيرًا فإنه لا يحق لنا أن نسأل لماذا نُسخت بعض الآيات لأن هذا ليس شأننا، إنه كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- ينزله كيف يشاء .. وإن كان بعض النسخ معناه تبديل الأحكام، لذلك قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} في قراءة .. أي نؤخرها، فأصبح هذا الحكم متعلقًا بهذا العصر ثم الحكم متعلقًا بالعصر الذي بعده. (1/52) ________________________________________ مكانة المرأة وحقوقها (1/53) ________________________________________ مكانة المرأة وحقوقها إن الحديث عن المرأة موضوع شائك جدًا بقدر ما يظهر لأول وهلة، ولكن بعد أن ندرسه نشعر بأن هذه الصعوبة إنما هي من صنع أعدائنا وخصومنا والمتربصين بنا. وأنا لا أقصد مطلقًا أن أتناول في الحديث عن المرأة هذه الشبهات، ولا الرد عليها، ولا أقصد مطلقًا أن أرد على خصوم، وإنما حديثي للمسلم الذي يقرأ القرآن، ويسعى إلى أن يفهم الإِسلام كما أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. قد يقول قائل: أنا أدرك وأعلم جيدًا أن الإِسلام يساوي بين الرجل والمرأة، ولكن في الحقيقة هذا كلام مرسل، وعند التطبيق يُفضل الرجل على المرأة (هذا قوله) ويبرر كلامه قائلًا: مثلًا في القرآن نجد قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: 97] إذن هما متساويان كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "النساء شقائق الرجال" (رواه أبو داود)، فهم مشتركون معهم في أصل الحقوق والواجبات. (1/54) ________________________________________ وأكثر من هذا الآية التي ذُكرت في سورة الأحزاب حيث تذكر الأصناف كلها بلفظ الرجل والمرأة، يقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} [الأحزاب: 35]. فالله تبارك وتعالى لم يفرّق بين هذا وذاك، من عمل صالحًا منكم من ذكر أو أنثى، وهكذا .. إذن ليس هناك تفريق في الإِسلام بين الرجل والمرأة، وكلاهما عند الله -عز وجل- سواء لا تفريق بينهما إلا بالطاعة. أما إذا نظرنا إلى الأحكام الشرعية في الميراث مثلًا نجد أن المرأة تأخذ نصف الرجل وأحيانًا أقل .. {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وتأخذ نصف الدية، وشهادتها نصف شهادته {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] .. إذن دور المرأة أن تكون احتياطيًا والرجل هو اللاعب الرئيسي وعندما تنزل للعب تكون بالنصف، حيث يستبدل لاعب باثنتين مكانه. (1/55) ________________________________________ كما يقولون إن هناك إهانة شديدة للمرأة حيث لا تتولى المرأة رئاسة الدولة ولا تتولى القضاء في بعض البلاد، كما يتبرأ الله تعالى أن تكون عنده بنت، وذلك في قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} [الصافات] .. {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)} [الصافات]، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] وهذا الكلام في الحقيقة أنا سمعته بنفسي ولا أنسى لقاء في جامعة في أقصى غرب كندا، حيث البرد الشديد، إذ تصل درجة الحرارة إلى 40 درجة تحت الصفر، يعني عندما تستنشق في الوضوء، وتنسى أن تجفف أنفك جيدًا تجدها قد امتلأت ثلجًا بمجرد الخروج إلى الطريق .. في هذه الجامعة كان هناك لقاء للطلبة المسلمين وغير المسلمين من الفتيات وطبعًا ما شاء الله ولا قوة إلا بالله على الالتزام والعفاف والحجاب والأدب والحياء وهؤلاء الفتيات كن يناقشن، وتشعر برغم حبهن الشديد للإسلام أنهن لا يفهمن الإِسلام حيث يسألن عن الأمور البدهية. والحقيقة هذا الكلام خطير، ويدل على عدم فهم الإِسلام. فلابد أولًا أن ننوي أن نفهم ونفقه القرآن، يقول الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمَّد] لذا يجب أن ينوي (1/56) ________________________________________ كل مسلم أن يتعلم العلم؛ ليحيا بنا الإِسلام، من تعلم العلم ليحيي به الإِسلام كان بينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة. هؤلاء لم يفرقوا بين نظرة الإِسلام إلى الرجل والمرأة كذات، وبين نظرة الإِسلام إلى الرجل والمرأة كوظائف، فالذات تعني القيمة الذاتية للشخص، أما الوظيفة فلها قيمة أخرى، فأنت ترى المهندس، ومساعد المهندس .. المهندس يأخذ أجرًا غير مساعد المهندس، الطبيب والممرض .. الطبيب يأخذ أجرًا غير الممرض .. المحامي وكاتب المحامي .. المحامي يأخذ أجرًا غير كاتب المحامي .. وهكذا .. ولماذا يتكلم هؤلاء عن هذا الأمر بالنسبة للإسلام للرجل والمرأة، ولا يتكلمون عن بقية التفاوت الموجود في أحكام الإِسلام؟ فعلى سبيل المثال في الميراث، عندما يرث رجل ضعف ما ترث المرأة، علمًا بأن الرجل فُرض عليه أن ينفق طوال عمره، حيث ينفق على أولاده وزوجته وعلى أمه وأبيه .. والمرأة ترث النصف، وليس عليها نفقة، حتى على نفسها .. بل الرجل هو المكلف أن ينفق عليها ويتكفل بطعامها وكسائها وتوفير خادم لها، والسؤال من الذي ورث أكثر؟! وسأذكر لكم أمثلة لتروا روعة الإِسلام فمثلًا في الزكاة، أنا عندي فدان وأنت عندك فدان، أنا أزرع فداني وأرويه بآلات الري، وأنت (1/57) ________________________________________ ترويه بالمطر، فيجعل الله الزكاة التي عليّ نصف الزكاة التي عليك فأنت تدفع زكاة ضعفي، مع أن هذا فدان وهذا فدان، وهذا زرع وهذا زرع، ولكن أنت تدفع ضعف ما أدفع وهذا من أجل وظيفة الآلة في الري. مثال آخر، لقد جعل الله الأولاد يرثون آباءهم وهذه هي القاعدة الأصلية، إلا إذا قتله فكل ابن يرث من أبيه، إلا أولاد الأنبياء لا يرثون، فأولاد الأنبياء بلا شك هم الأفضل ورغم ذلك يمنع الإِسلام أولاد الأنبياء من الميراث ولا يمنعني أنا من الميراث. أيضًا تفاوت العقوبة بين الأحرار والعبيد، فالمرأة الحرة التي وقعت في الزنا تُعاقب بضعف المرأة الأمة التي وقعت في الزنا. وكذلك العقوبة على زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون ضعف العقوبة التي على غيرهن، يقول الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} [الأحزاب: 30] والسؤال: هل زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - أقل شأنا من باقي الزوجات ليضاعف لهن العذاب؟! وأيضًا التكليف بالهَدْي في الحج، نجد كل الحجاج عليهم هدي إذا كان الحاج متمتعًا أو قارنًا، أما حجاج أهل مكة الذين يخرجون من (1/58) ________________________________________ مكة ليس عليهم هدي، إنها أحكام شُرعت وذلك لإطعام فقراء الحرم. إذن التفاوت في الحكم ليس إهدارًا لحق أحد، ليس معناه أن الحاج السوري أو المصري أسوأ، أو أقل في نظر الإِسلام، وليس معناه أن الأنبياء أقل في نظر الإِسلام، أو أن أمهات المؤمنين أقل في نظر الإِسلام، إنما هذا توظيف حسب الوظائف .. الإِسلام يريد من المرأة ألا تكون مثل الرجل في الخروج من المنزل والعمل والانشغال بالمجتمع والاحتكاك بالآخرين حتى لا تفسد المرأة من الداخل وإلا هُدمت الجبهة الداخلية، فالابن العائد من المدرسة وهو متضايق من زميل أو مدرس أو راسب في امتحان يحتاج لأم تستقبله، وتربت على كتفه، وتعلمه، وتعيد إليه ثقته بنفسه، وتربيه، ولن تستطيع الأم أن تفعل هذا إلا إذا كانت مهيأة لذلك بالجلوس 3 أو 4 ساعات هادئة قبل قدوم أولادها من المدرسة حتى تستطيع أن تنشئ هذا الجيل المميز الذي ننشده، فإن لم تفعل خرج الجيل مدمرًا وأنتم ترون اليوم من يشرب المخدرات، ومن يشاهد القنوات الإباحية. إن المرأة قد كلفها الله تبارك وتعالى بالوظيفة الأهم، وليست الأقل، وكلف الرجل أن يكابد في المجتمع، لذا عندما نكون بصدد قضية- (1/59) ________________________________________ أمام المحكمة- مالية فلابد أن يكون الشاهد يفهم في المعاملات المالية، لذا فمن الطبيعي أن الشخص المتواجد في المجتمع ليل نهار هو من يفهم المعاملات أكثر من الشخص غير المتواجد أو المحتك بالمجتمع، لذا كانت شهادة المرأة التي هي بعيدة عن المجتمع نصف شهادة الرجل؛ وهذا ليس إهدارًا لشأن المرأة، ولكن لأن الإِسلام كلفها بوظيفة تناسب إلمامها الكافي للشهادة على نحو ما، أما الرجل فالمسألة واضحة عنده مثل عين الشمس. وأحيانًا نسمع أستاذة جامعية تقول: كيف يجعل الإِسلام شهادة البواب ضعف شهادتي، وأنا نائبة رئيس الجامعة؟! يا سيدتي إن هذه الشهادة لا تعني أبدًا أن قدرك أقل منه .. فأنتِ عالمة وهو جاهل، ولكن إذا وجد شخص ساعة قيمة جدًا في مدخل العمارة، فسيعطيها للبواب، ويقول له: "يا فلان هذه الساعة وجدتها في مدخل العمارة ولا أعرف صاحبها فخذها حتى يسألك عنها صاحبها فتعطيها له" .. إن بواب العمارة في هذا الموقف هو أستاذ كبير في علمه، لأنه مشهور عالميًا في مجاله .. فيقول بمجرد أن يرد الساعة: نعم يا أستاذ هذه ساعة أخيك، أخوه شقيقه الذي يسكن في نفس البناية! (1/60) ________________________________________ سبحان الله! الأستاذ الجليل العظيم العالم الباهر اللامع لا يعرف أن الساعة ملك شقيقه، ولكن البواب يعرف لأن هذا الأستاذ الجليل ليس فارغ الذهن وإنما هو منشغل بأمور أكثر من ملاحظته لشكل ساعة أخيه، أما البواب فإنه يجلس أمام العمارة متفرغًا للملاحظة، فليس معنى هذا أن البواب عالم وأنا جاهل .. ربما العكس البواب لا يقرأ ولا يكتب .. لكن أنا رجل عظيم جدًا، وأستاذ عالمي، ولكن هذا لا يخل أن البواب كان أجدر في الشهادة وفي معرفة صاحب الساعة مثلًا .. فالمسألة توظيف وظائف وليست منزلة، المرأة قد تكون أذكى من الرجل وقد تكون أعلم، وقد تكون أمهر، وقد تكون أربح وأكسب في في الوزارة، ولكن المسألة مسألة وظائف .. وكذلك الأمر في الميراث. ومع ذلك في قضية الميراث، تصور معي إنسانًا مات وترك 30 مليون جنيه، وعنده بنتان وأبوه وأمه مثلًا، البنتان يرثان 15 مليونًا، والأب يرث 10 ملايين، من ورث أكثر؟ لو ترك ابنته وأباه وأمه، وترك 60 مليونًا، البنت ترث 30 مليونًا، والأب يرث 20 مليونًا فقط .. والأم 10 ملايين، فالبنت ورثت أكثر؛ لأن درجة القرابة ومسألة أن أمامها عمرًا طويلًا جعلاها المستحقة الأكثر للمال، ولكن الأب كبر في السنن، فيأخذ عشرة وهي ثلاثين في مثل هذه الواقعة، (1/61) ________________________________________ فالإِسلام لا يقول إن المرأة لا تأخذ أكثر من الرجل، بل أعطاها ضعف الرجل في حالة بعينها نظرًا للبعد الوظيفي لها. إذن هناك حالات يرث فيها الولد ضعف البنت، وحالات أخرى ترث فيها البنت ضعف الولد وذلك حسب الوظائف، وليس قدر الذات إطلاقًا .. ثم لماذا لا يعترض أحد على الأحكام التي تفضل المرأة على الرجل؟ وقد جاء أن الجنة تحت أقدام الأمهات، فلماذا لم يعترض هؤلاء ويقولون لماذا لم تكن الجنة تحت أقدام الآباء، يقول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [المُلك: 14]، كما يقول {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} [البقرة: 140]. كما يقول صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس حقًا على الرجل أمه" (رواه الحاكم)، ويقول "من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك .. " (متفق عليه). ولماذا لم يعترضوا على أن الحضانة للنساء؟ ولماذا لا يقولون إن الإِسلام يفضل المرأة على الرجل؟ ابن عمر بن الخطاب طلق زوجته لأنه رأى أنها ليست متدينة بالقدر الكافي، يعني لسبب ديني، فتنازعوا على المولود الصغير، فعمر (1/62) ________________________________________ بن الخطاب الفاروق، واحد العشرة المبشرين بالجنة يريد للولد أن يتربى في بيته، وأمه التي طُلقت تريده، فاختصما إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام - فقضى بالولد لأمه، وقال: هذا عبق، ورائحة الأم في قلب الصغير أفضل منك يا عمر، وقضى بالحضانة للأم. حتى لو كانت الأم غير موجودة والأب موجود، فالإِسلام لا يعطي الحضانة للأب، وإنما يعطيها لأم الأم؛ لأن هناك شيئًا اسمه حضانة النساء والطفل يحتاج لهذا الحصن والحنان، فهل الإِسلام هنا أنثوي؟ ولم يقل أحد إن الإِسلام يفضل المرأة .. بل لم يذكروا هذه الأشياء؛ لأنها خطة ومؤامرة. إن المجلس القومي للمرأة وجمعيات المرأة والسيدة فلانة والسيدة فلانة والأميرة فلانة والهيئة الفلانية وكذا والعالم، ثم نجد العقاب للبلاد الإِسلامية؛ لأنها لا تعطي المرأة قدرها و .. و .. كل هذه خطط ومؤامرات ضد الإِسلام والمسلمين. ولدينا أيضًا مسألة تحريم الذهب على الرجال وأنه يحل للنساء، هل هذا لأن النساء أفضل من الرجال؟ وأيضًا الحرير وهذا لأنه طبيعي أن ترتدي المرأة هذه الأشياء دون الرجل، وهو ليس تفضيلًا للمرأة وإنما هو توزيع للوظائف. (1/63) ________________________________________ يعني عندما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم للرجل "خيركم خيركم لنسائه" (رواه الترمذي)، ولم يقل خيركن خيركن لزوجها، صحيح أن حُسن تبعل إحداكن يعدل ذلك كله، لكن خيركم خيركم لنسائه. إذن الإِسلام لا يعرف المعركة التي صنعها الجهلاء والأعداء، والمتربصون بالإِسلام قائلين إن المرأة ضد الرجل، والرجل ضد المرأة، وإن هناك صراعًا وإن المجتمع الإِسلامي ذكوري وليس مجتمعًا أنثويًا. إذن الإِسلام يوظف الوظائف، حيث يجعل مهمة الرجل أن يأتي بالطعام والشراب وهذه هي المهمة الأقل، ولكن مهمة رعاية البشرية جعلها الله للمرأة وهي الأعلى. فالإِسلام يقول للمرأة لقد جعلتُ تلك الوظيفة لك وإن لم تقومي بها فسد الجنس البشري، ولأنني حميتك فستقومين بهذه الوظيفة بشكل جيد ومن هنا قللتُ عمدًا خبرتك بالمجتمع، لأوفرك لوظيفتك التي هي أعظم وظيفة على وجه الأرض. (1/64) ________________________________________ ثقافة الكراهية (1/65) ________________________________________ ثقافة الكراهية كثيرون يقولون: أنتم تقولون إن الإِسلام دين الوئام والسلام الاجتماعي والمحبة وجمع الناس والتواصي بينهم وإن المسلمين هم الرحماء، وقد قيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وإنه قد عفا عن الناس فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء، وإن المجتمع الإِسلامي وَسِع المسلم وغير المسلم، إلا أن الحقيقة أن آيات القرآن مليئة بالعكس، ففيها ما يدل على زرع ثقافة الكراهية، يقول تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 119]، ويقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا} [الممتحنة:4] .. إنها ثقافة الكراهية، فالقرآن مليء بغرس ثقافة الكراهية، ولذلك فإن المسلمين لا يستطيعون أن يعايشوا المجتمعات العالمية. (1/66) ________________________________________ وهذا الكلام يغزل عليه الإعلام الأمريكي والأوروبي واليهودي، والإعلام الذي يخطط ضد الإِسلام تمامًا، ومع الأسف فإن أبناء المسلمين في بلاد العالم -ولقد لقيتهم بكثرة- أحيانًا يتأثرون بهذا، حتى المثقفون الذين يشغلون مناصب مثلًا في الصحافة أو في الإعلام، أو في هيئة استعلامات، أو في التلفاز أو حتى في جهات مثل وزارة الخارجية والسفارات، نجد هؤلاء أيضًا متأثرين بهذا الكلام؛ لأنهم لا يفهمون الإِسلام .. والأخطر أنهم لا يعرفون عن الإِسلام إلا من خلال أقاويل أعداء الإِسلام، فنجد سفيرًا لم يسمع عن الإِسلام من دعاة الإِسلام قط ولا من الكتب الإِسلامية، وإنما يسمع عنه دائما من أعداء الإِسلام ومن إعلامهم .. مسلم كل حصيلته عن معرفة الإِسلام من أعداء الإِسلام ومن الثقافة الغربية، صحفي كل حصيلته عن الإِسلام من أعداء الإِسلام، ويسمي نفسه مفكرًا أو كاتبًا أو أديبًا. وتلك مصيبة الأمة في هذه العصور، أن فيها من وظفوا غصبًا عنا، ووضعوا في مناصب التوجيه، وهم أصلًا لم يتلقوا أي ثقافة إسلامية من الإِسلام، وإنما دائمًا يستمدون من أعداء الإِسلام .. والحقيقة أن هذه الشبهة التي ذكرتها ليست قائمة، بالعكس، فإن الإسلام فعلًا عندما تقرأ آيات القرآن تجده يبث ثقافة المحبة والمودة (1/67) ________________________________________ والوئام والسلام بشكل حقيقي، ولكن المشكلة أن هؤلاء الناس لم يقرأوا بقية الآيات، هؤلاء يقصون الآية عند نقطة معينة، يقسمونها نصفين، فيظهر لك النصف الذي قرأه ولو أنه فقط أكمل تلاوة الآية نفسها لتبين أن المفهوم الحقيقي عكس المفهوم الذي يريد أن يقوله. إن الإِسلام فعلًا يقطع ما بين الإيمان والكفر بخطوط فاصلة، فالإِسلام يرى أن المؤمن مؤمن، وأن الكافر كافر، يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون:1 - 3]، ولكن الإِسلام لا يجعل من هذه المسألة مسألة كراهية عاطفية، أو كراهية مزاج، ولكنه يجعلها كراهية اعتقاد. وكراهية الاعتقاد هي أن أعرف أين الحق وأدركه، وأسير عليه، وأحب أهل الحق، وأكره أهل الباطل .. ولذلك تجد القرآن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118]، إياكم أن تجعلوا من حولكم بطانة، لا تجعلوا المساعدين والمستشارين وهيئة تعاونكم من دونكم، أي من غير المسلمين، فيقولون: هذه هي ثقافة الكراهية، نقول لهم: اقرأوا بقية الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]، لا يقصرون في أن يصيبكم الخبال، والإفساد والإضرار .. (1/68) ________________________________________ وأنا أذكر الرجل الذي اكتشفوا أنه كان جاسوسًا لأمريكا في الاتحاد السوفيتي وله أكثر من 30 أو 40 عامًا، وكان قد وصل إلى منصب كبير في الحزب الشيوعي السوفيتي، قالوا له: ماذا كنت تفعل؟ قال: أنا كنت مكلفًا أنه إذا قيل لي إن هناك أكثر من مرشح لمنصب أن أختار الأسوأ منهم. إن الله تعالى قد قدم العلة حيث قال: لا تجعلوا هؤلاء هم من يتحكمون في دواخل مجتمعاتكم؛ لأنهم لا يألونكم خبالًا، وليس لأنهم غير مسلمين. يقول الله تبارك وتعالى إن هؤلاء غير المسلمين الذين تسارعون في مودتهم أرادوا أن يخرجوا الرسول وإياكم، يقول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، حاد الله أي جعل حد السيف على الله، يقول الله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب: 19]. إذن هذا الموقف ليس لأنهم غير مسلمين، وإنما لأنهم يستخدمون حد سيفهم، وحد لسانهم، وحد تخطيطهم، ومكر الليل والنهار، يقول الله تعالى: {آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]، أي لعلهم يتذبذبون ويرتدون. (1/69) ________________________________________ فهل يعقل أن آتي أنا بهؤلاء وأجعلهم أولياء، يقول الله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 119] ثم نقرأ باقي الآية حتى نعلم أنه ليس اللوم لزرع ثقافة الكراهية كما يقول أعداؤنا، بقية الآية تقول: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]. ويقول الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء]، كما يقول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] رغم أنهم يُظهرون لنا الجانب الحسن ويعاملوننا بطريقة جيدة لذا لا بد أن نعطيهم حقوقهم، ونكون بارين بهم، ونحسن إليهم. فهل كان الإِسلام يزرع فينا ثقافة الكراهية تجاههم، رغم أن منهم أناسًا ليسوا كذلك، لا يعاندون ولا يضمرون للإسلام حربًا ولا شرًا؟ جواب هذا السؤال لم يتركه الله تعالى لنا حتى نستنبطه، وإنما جاء في محكم القرآن، في سورة الممتحنة، يقول الله تعالى في آيتين متعاقبتين في (1/70) ________________________________________ منتهى الوضوح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا في سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة]، ثم يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] أي نقوم بالبر معهم، كأن نعطيهم هدية .. نهنئه بزواج ابنته .. أعاونه في إصلاح سيارته .. أعاونه في البناء .. وكل لون من ألوان البر، من يمرض أزوره، سواء كان يهوديًا أو كافرًا أو ملحدًا، يقول الله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً} [الأحزاب: 19] كما يقول: {يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] ما دام لا حرب ولا قتال ولا ظلم منهم، إذن {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة]. يقول تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} [الممتحنة: 9] وكما يقول علماء التفسير وعلماء اللغة العربية، جملة {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ} أسلوب حصر وقصر، يعني لا ينهاكم الله منهم إلا على الفئة التي سأذكرها لكم صفاتها، هذه (1/71) ________________________________________ هي الفئة التى سأقول لكم عنهم يقول: ({إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة: 9] إذا كان اليهود قد أخرجوكم من أرض فلسطين والجولان وسيناء ومن الأردن ولبنان، فإن الله لا ينهاكم عمن أخرجكم فقط وإنما عمن ظاهره، أي ساعده أيضًا على إخراجكم {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي إياكم أن تتولوهم أي يكون بينكم وبينهم ولاية، يقول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ} [المائدة: 52] أي يتقربون إليهم ويتخذون عندهم الوسيلة ويبتغون إرضاءهم، ويكون بينهم صلة، يقول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 52] يندمون على تصورهم أن هؤلاء الناس يمكن أن يأتي الخير من طرفهم، أو من علاقتهم بهم. لذلك ربطت هذه الآيات عداوتنا لهؤلاء لا بسبب أنهم يهود أو نصارى أو ملحدون، وإنما بسبب أنهم يعادوننا، يحرموننا حقوقنا، يخرجوننا من أرضنا، يعتدون علينا، وبعد ذلك لن تجد آية واحدة في القرآن تقول لك عادهم إذا تركوا المعاداة، وإنما أن نبرهم ونقسط إليهم. (1/72) ________________________________________ وإذا كان هؤلاء ناس لا يحاربوننا ولا يحبوننا، فهل نعاقبهم بسبب عدم حبهم لنا؟ بالطبع لا .. إذا اقتصرت كراهيتهم على العاطفة ودواخل نفوسهم. وبهذا تتضح الصورة، وهي كالآتى: إن الإِسلام قد أمرنا ألا نحرمهم حقوقهم، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، سواء كان كافرًا أو مسلمًا أبلغه مأمنه، أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم لا تنقصوا لهم عهودهم، وإنما "من آذى ذميًا أو أنتقصه شيئًا من حقه كنت خصمه يوم القيامة، ومن كنت خصمه خاصمته" (رواه الطبران) .. والقاعدة أن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وقال القرآن في شأن النبي -صلى الله عليه وسلم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .. ولذلك عندما يقف الإعلام العالمي، ويقول لي: أيها المسلم إن عندك ثقافة الكراهية، أقول له: أنا آسف جدًا، أنت تريد من هؤلاء أن يكرهوني وأن يعملوا ضدي وأن أحبهم، بل القرآن قال لي: إن انفصل كفرهم عن العداوة ضدي، فإنني لن أعاديهم، وإنما أنا أعاديهم؛ لأنهم يعادونني وليس الأمر متعلقًا بثقافة الكراهية. (1/73) ________________________________________ ولذلك ما يحدث الآن من ضرب العالم الإِسلامي، لدرجة أن الشريعة الإِسلامية غير مطبقة في أي بلد، وأنه إذا طبقت حدث حصار لها، وأن المسلمين لا يمكّنون من شرائعهم، ولا من ثرواتهم، ولا من أرضهم، فإذا تضايق المسلمون من هذا قلتم عنهم إنهم يطبقون ثقافة الكراهية، إنما هذه الثقافة هي ثقافة الحب والمودة، وجمع الناس على كلمة سواء، وترك العداوات والبغضاء بينهم، وما إلى ذلك، وإنما إذا أصروا على الكفر فإننا نكره كفرهم .. ولذلك يقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة: 24]،وهذا يعني أن الدين حبيب لنا وهؤلاء أيضًا أحبه، لكن العبرة من الأحب؟ من الذي أنصره على من؟ يقول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] فكان قول هؤلاء إن الإِسلام يزرع بينكم وبين الآباء كل هذه العداوة، يزرع بينكم وبين الإخوان، وبينكم وبين العشيرة .. نقول لهم اقرأوا الآية .. الآية تقول: (1/74) ________________________________________ {مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فلو أن أبي أمسك السيف، وحاشاه ذلك، لو أن والدي أمسك السيف يريد أن يضرب عنق النبي - صلى الله عليه وسلم - أأدافع عن أبي أم أدافع عن النبي؟ هنا تأتي الفكرة. إن الإِسلام دين منطقي والآيات واضحة، ولكن الذين يقرأون الآيات بعيدًا عن سياقها، ويريدون أن يلقوا في روع الناس كلامًا غير حقيقي لا طاقة لنا بهم، بالعكس النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الناس، وقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" قبل أن يسلموا، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، ولكن قبل أن يسلموا أطلقهم جميعًا، وعكرمة بن أبي جهل قد جاء للنبي- صلى الله عليه وسلم - فأحسن النبي- صلى الله عليه وسلم - إليه مع أنه كان كافرًا، لدرجة أن زوجته قالت: إن عكرمة خائف أن يجيء، وأنا لو كنت مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكنت قلت لهم وماذا أفعل له؟ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فك عمامته وقال لها: خذي هذه علامة .. عمامة الرسول- صلى الله عليه وسلم - يأخذها شخص كافر، وأبوه كافر وهو أبو جهل، فلما رآها دخل وأسلم وحسن إسلامه وصار من كبار الصحابة. (1/75) ________________________________________ إن الإِسلام يحب الناس، ويحرص عليهم، ولكن إن كانوا محاربين له فلا يطلب منا أن نكون أهل غفلة ونحبهم وهم يكرهوننا .. (1/76) ________________________________________ لله في خلقه شئون (1/77) ________________________________________ لله في خلقه شئون لا شك أن من فضل الله تعالى على الإنسان أن تستقر عنده معالم التوحيد، ومعاني الإيمان بالله رب العالمين، فإذا استقرت عنده معالم التوحيد، فإنه يشعر تلقائيًا بالعداوة الشديدة جدًا لكل ما هو شرك، ولكل ما هو كفر، ولكل ما هو نقيض للتوحيد، فيكره عبادة الحجر، ويكره عبادة الشجر، ويكره عبادة الجن، ويكره عبادة البشر، ويكره عبادة الملائكة، ويُعبد الله وحده لا شريك له. لهذا فإن الذين رباهم الإِسلام على التوحيد هم أنفسهم الذين يخرجون لنا بأسئلة بعد ذلك يقولون يا جماعة فسروا لنا بعض الظواهر التي قد لا نفهمها، فنحن نعرف أن الإِسلام قد حمل على الوثنية، وعلى الشرك وما إلى ذلك، ولكننا أحيانًا ننظر إلى بعض الآيات في القرآن الكريم فنجدها تأمرنا بأن نطوف بجبل، يقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، أطوف بجبل!! أطوف بحجر!! أصلي وراء مقام إبراهيم، يقول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] .. (1/78) ________________________________________ يقول البعض أنا لا أفهم كيف أبطل الإِسلام عبادة الأوثان ثم يأمرنا بالطواف بالكعبة، وبالصفا والمروة وبئر زمزم، ورمي الجمرات، كيف يمكنني أن أوفق بين هذا وذاك؟! الحقيقة أن الله -سبحانه وتعالى- له في خلقه شؤون، وهو يعلمنا التوحيد، ويمنعنا من الفساد، الإِسلام لم يطلب مني أن أكون عدوًا للحجر، إنما المسلم الذي فهم ذلك اشتط في الأمر، الإِسلام أمرني أن أكون عدوًا للمعنى الموجود، هبل هذا حجر، ولكن أنا لست ضد الحجر، أنا ضد أن يكون إلهًا. لذلك أراد الإِسلام أن يقول لي: لا، أنت ستكون مع الله، ولكنك لا تعادي الحجر؛ لأن هذا الحجر ينطق يوم القيامة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذن عندما ينادي للصلاة لا يسمعه حجر، ولا شجر، ولا وبر، ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة، ويكرر ما يقوله. إذن هذه كائنات تعبد الله بل هذه الأرض كائن حي، الله تعالى يقول عنها: إنها تحدّث يوم القيامة أخبارها، ويقول: إنها تبكي. يقول تعالى مخبرًا عن حال بعض الناس بعد موتهم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} [الدخان]. (1/79) ________________________________________ إذن السماء والأرض تبكيان إذا مات من كان يصلي فإن موضعه الذي كان يصلي عليه يحن ويئن ويبكي؛ لأنه فقد الطاعة, لأنه عندما كان يسجد لله ويقول سبحان ربي الأعلى، كانت تسمعه الأرض لذا فهي تبكي موته، فهذه الأرض ليست عدوًا، والحجر الموجود في في الأرض ليس عدوًا، إنما هو حبيب وسيشهد لي يوم القيامة. لذلك جاءت شرائع الإِسلام تعادي الحجر؛ لأنه عُبد من دون الله، وأرادت شرائع الإِسلام أن تقول لنا: لا تعادوا الحجر لذاته. وهو نفس الحال مع الذين عبدوا الملائكة، فهل أنت تعادي الملائكة، بالعكس الملائكة أولياؤنا، وشرط في عقيدتنا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهناك أناس عبدوا عيسى عليه السلام، فهل أنا أعادي المسيح؟ بالعكس، أنا لن أدخل الجنة إلا إذا آمنت بعيسى المسيح - عليه السلام - وبأنه رسول الله، وكلمه الله وروح الله كما وردت أوصافه في القرآن في الكريم، فهو عبد لله رب العالمين. فأنا في كل هذه المراحل مع الله، ومع الملائكة، ومع المسيح، لا أعادي ما عُبد من دون الله، بل من عُبد من دون الله [ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر] كانوا أناسًا صالحين، أليس كذلك؟ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح] فنجد أناسًا يقولون أنا أكره هؤلاء الناس جدًا، والصحيح ألا نكرههم (1/80) ________________________________________ فهم كانوا، عباداً صالحين، وأولياء لله، لكن عندما ماتوا عبدهم ضعيفوا الإيمان، فنحن نكره عبادتهم، ولكن نحبهم؛ لأنهم أولياء صالحون. اليوم عندما يذهب الناس لضريح الحسين، أو ضريح إبراهيم الدسوقي أو ضريح السيدة نفيسة أو ضريح السيدة زينب، ويفعلون مظاهر الشرك والوثنية والكفر التي تُفعل، حيث يتمسحون بالضريح، ويقبلونه، ويطلبون منه قضاء الحوائج، هذه كلها أفعال شركية .. لكن هل معنى هذا أن أكره الحسين أو أكره السيدة زينب أو السيدة سكينة؟ بالعكس أنا أحبهم؛ لأنهم من الصالحين، ومن أولياء الذي الصالحين، ولا نزكي على الذي أحدًا، ومن أهل البيت فلا نكرههم، ولكن نكره من جعلهم آلهة .. إذن فموقف الإنسان من الحجارة أنه ليس عدوًا للحجر، وإنما هو عدو للمعنى الذي أسدله البشر ظلمًا وعدوانًا وكفرًا وشركًا واعتداءً على هذه الأحجار. لذلك يعامل الله تبارك وتعالى في شعائر الحج بشرًا، فالله هو الذي خلق البشر، وهو يعلم ما الذي يصلحهم، وهو يعامل البشر بصفتهم، هل تعرفون ما هي صفات البشر أو من صفاتهم الجوهرية الأساسية في هذا الأمر؟ (1/81) ________________________________________ إن البشري إذا تركته لفكرة عقلية فقط دون تدريب بدني، وجسدي، وعملي، وممارسة، فإن الفكرة العقلية تظل تخفت، وتضمر، وتصغر حتى تتلاشى أو تصبح شيئًا لا يُحس، إِنما كل فكرة عند البشر تريد لها أن تقوى لا بد أن تجعل لها تدريبًا عمليًا .. كل حياة البشر كذلك، يعني حتى في العلاقة بين الزوج وزوجته لا يظل يحبها وتحبه طوال العمر إلا إذا كان بينهما شعيرة اللقاء الجسدي، الجماع بما فيه من لذة ومتعة، وأيضًا في الفسحة أو في النزهة، أنت تذهب للبحر وتلعب كرة وتتمشى وهذا تدريب، وتشغيل للبدن، حتى في التسوق، أنا أريد أن أشتري رابطة عنق، والزوجة تريد فستانًا، والولد يريد حذاء، فيقول الأب سأشتري لكم كل هذا .. لكنهم يقولون: لا، نحن نحب أن نخرج ونشاهد الأشياء بأنفسنا فهم يريدون أن يروا وينتقوا فيعودون سعداء بالفكرة نفسها أنهم ذهبوا للتسوق .. المصريون أحيانًا يقولون عن السائحيين إنهم مجانين فهم يأتون من آخر الدنيا لكي يشاهدوا الهرم، والهرم ليس إِلا حجارة، كانوا يستطيعون أن يقرأوا عنه ويشهدوا الصور، لكنهم يذهبون ليروه بأنفسهم .. إذن هذه سنة بشرية أن البشري الذي يرى غير البشري الذي لا يرى، البشري الذي يعايش غير البشري الذي لا يعايش .. (1/82) ________________________________________ وأذكر في إحدى المرات في المرحلة الثانوية أن أستاذ الكيمياء في المدرسة أعطانا معادلة أنه إذا وضعت السائل الأول على السائل الثاني يحدث التفاعل ويخرج السائل الثالث ولونه أزرق، ثم أخذنا إلى العمل، وقال: انظروا يا أولاد، السائل الأول الذي لا لون له، وهذا السائل الثاني الذي لا لون له، وسأضع السائل الذي لا لون له على السائل الذي لا لون له، وستفاجؤون بسائل أزرق يكون نتيجة التفاعل الكيميائي، انظروا، فوضع السائل الأول على السائل الثاني وكلنا يتوقع الزرقة، فإذا بنا أمام سائل أحمر، فضج الفصل كله بالضحك، وبعد أن ضحكنا ملء أفواهنا، قال الأستاذ: أرجو ألا تنسوا أبدًا هذه التجربة، ثم قال: أنا لم أخطئ فقد تكوّن فعلًا السائل الأزرق ولكن نظرًا لأننا قمنا بعمل التجربة في الهواء الطلق فقد تفاعل السائل الأزرق مع الأكسجين الموجود في الجو فنشأ السائل الأحمر، وأنا أتذكر هذا الكلام حتى الآن، ربما أكون نسيت ما هو السائل الأزرق وما السائل الأحمر، ولكن لا أنسى أبدًا هذه التجربة .. لأنني لم أذاكرها في الكتاب فقط وإنما شاهدت تلك التجربة بعيني واختلطت بمشاعري وضحكات زملائي وكلام الأستاذ .. وهذا بالضبط ما أراده الله تعالى، فالله يريد أن يحفر بعمق شيئًا مهمًا داخل النفس البشرية، وهذا الشيء هو أحداث حياة سيدنا إبراهيم، أحداث الملة الإبراهيمية، يقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (1/83) ________________________________________ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، يعني رأس المال العقدي عند المسلمين هو اتباع ملة إبراهيم، فأراد الله لكل مسلم ألا يقرأ في الكتب في بيته عند أهله عن هذه الأحداث، وإنما أن يعايشها بنفسه، بجسده، برجله، ويده، وأعصابه، وفكره، وبنظره، وبسمعه، ويسمع التلبية ويرى وهكذا، فالله يحفر العقيدة والملة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الصفا والمروة، ما هي الصفا والمروة، ماذا يعني الطواف بالصفا والمروة؟ وكيف يكون؟ إن الصفا والمروة قصة كبير، حيث بني الله للبشر بيتًا هو الكعبة والمسجد الحرام، وهو أول بيت وضع للناس، وبناه بأيدي الملائكة، ثم انطمس المسجد الحرام، ولم يعد أحد يعرف أين مكان بيت الله، والله يريد أن يجلّي البيت الحرام مرة أخرى للرحلة النهائية في الكون، بعد الذين ماتوا بالحجارة، وماتوا بالصيحة، والصاعقة، والطوفان، وبالخسف جاءت المرحلة التي ليس فيها إهلاك، وهي التي تبدأ من مرحلة سيدنا إبراهيم واستمرت .. فالله يريد أن يخرج البيت الحرام للناس مرة أخرى، ولكن هناك مشكلة كبيرة وهي أن الوثنية والأصنام والأوثان تملأ الدنيا، فهل يرجع البيت الحرام ثم ظل الشرك؟ إن الله يريد التوحيد، مكانًا وزمانًا وأشخاصًا، فإذا بالله يرسل الضعيفَين هاجر وإسماعيل الصغير، وهما ذوا حيلة بسيطة؛ ولذلك (1/84) ________________________________________ أوصى الله بالرحمة بالأرملة؛ لأن المرأة مهما كانت قوية، فهي بعد فقد زوجها تنتابها حالة من حالات الضعف البشري لذا لا بد من الرحمة بها كائنة ما كانت الظروف واتقوا الله رب العالمين. فأرسل المرأة والصغير واللذين أرسلهما الأب إبراهيم الذى ظل طوال عمره يتمنى الذرية الطيبة، يقولى: يا رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء، ولقد تزوج من سن 20 سنة وظل يطلب من ربه الذرية سنين طوالًا، يقال إنه رُزق بإسماعيل في سن 120 أو 140 سنة، ورغم ذلك أول ما أنجب أمره الله أن يذهب بولده إلى الصحراء حيث لا ماء، ولا زرع، ولا شيء إطلاقًا، فيقين إبراهيم أولًا، وإذعانه لله والطاعة ثانيًا، وهذا من كمال الإيمان، ذهب بهما، واستجابت له زوجته وقالت له. آلله أمرك بهذا؟ إذن توكل على الله، اتركنا هنا في هذا الضياع، فإن الله لن يضيعنا برغم كل ما نحن فيه .. لكن الأمور استحكمت، وعطشت المرأة، وظلت عطشانة حتى نفد اللبن من ثدييها، فأصبح الولد لا يرضع، وعطش هو الآخر، وقد اقترب أطلاك، ورغم ضعفها فقد ظلت تسعى بين الصفا والمروة؛ لأنها كلما ذهبت إلى المروة سمعت صوتًا كصوت الماء عند المروة، فتجري إلى المروة، فإذا وصلت المروة أحست صدى صوت وكأنه آت من هناك، فتعود، وظلت كالمجنونة وهي راشدة، كالمجنونة لأنها تبحث عن الماء، فلما عجزت تمامًا بكل قواها (1/85) ________________________________________ أن تجد قطرة ماء أنبت الله الماء بعيدًا عنها بقدم الطفل الصغير، فظهر بئر زمزم الذي يُجري ماءً إلى يوم القيامة، فأراد الله بكل ذلك أن يسعى الإنسان في الحياة، إن الله تعالى لم يترك الناس يطوفون بالصفا والمروة فقط، وإنما جاء في مكان ما بين الصفا والمروة أقرب إلى الصفا، وأمرهم أن يهرولوا عندها، وهو ما بين المشي والجري، حتى نتحرك ونعايش ما حدث فعلًا. وأنا شخصيًا أكثر ما يبكيني في شعائر الحج لحظة الهرولة، أشعر أنني أجري وأهرول بين الناس، وأنا ربما أريد أن أسير بتأنٍ، ولكنني أفعل ذلك عبودية لله؛ لأن أم إسماعيل فعلت هذا ليحيي الله بها الملة، وليكون المسجد الحرام، وليعاد بناؤه، وليتفجر الماء، وليأتي الناس من كل مكان. إن الله أراد للعبد أن يعايش التجربة، وقس على هذا كل شيء من طواف، وسعي، والحجر الأسود، ورمي الجمرات .. لكن رمي الجمرات على سبيل المثال معناه أن الفتنة التي كان الشيطان يريد أن يبثها في إبراهيم أفشلها له إبراهيم بإيمانه، فانتقل إلى إسماعيل فأفشلها إسماعيل، فقال له: لا .. فقال له الشيطان: أتترك أباك الرجل الخرف يقتلك؟! إنه يبلغ 150 سنة، وسيذبحك، راجعه، فما من إسماعيل إلا أن رجمه، فذهب إلى أم إسماعيل فرجمته، وهنا تشعر بقوة الإيمان أمام وسوسة الشيطان للبشر. (1/86) ________________________________________ فالفكرة إذن هي إحياء ومعايشة، ثم لا بد أن يكون واضحًا أن الإحياء والمعايشة بأن المسلم لا يعبد الحجر الأسود، ولا يعبد أحجار الكعبة، ولا غيرها .. وإنما يعاملها كعبيد لله .. فأنا لا أعظّم شجرة الرضوان، ولا أعتبرها كفرًا، وهناك شجرة اسمها شجرة ذات أنواط، شجرة ذات أنواط هذه كانت تُعبدا الجاهلية، وقد قُطعت في الإِسلام، وهي شجرة أخرى غير شجرة الرضوان، فالإِسلام الذي أعلى من شأن بيعة تحت شجرة، هو الذي حمل على عبادة شجرة، والإِسلام الذي حمل على عبادة هبل واللات والعزة كحجارة، هو الذي قال: إن تقبيل الحجر الأسود والتزام أحجار الكعبة هي سنة للمعنى الذي فيها، والذي قال: إن عبادة فرعون كبشر تجعلني عدوًا لفرعون، وهو الذي قال: أنا أحب المسيح، فرعون عُبد، والمسيح عُبد .. لكن المسيح أنا أحبه برغم أنه عُبد؛ لأنه قال: أنا عبد الله، أما فرعون فقال: أنا ربكم الأعلى، فأنا أكرهه. إذن أنا لا أحب البشر لذاتهم، ولا أكرههم لذاتهم، لا أكره النبات لذاته، ولا أحبه لذاته، كذلك لا أكره الحجر لذاته ولا أحبه لذاته .. بل هذا الحجر يشهد لي عند الله تعالى الذي ذكر أن الأرض تبكي لموت الصالحين، بمفهوم المخالفة حين قال: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} [الدخان: 29] (1/87) ________________________________________ لذلك أرى أن شعائر الحج فيها معنيان: معنى المعايشة بالبدن، يعني مثلًا في المزدلفة، ما قبل المزدلفة أرض الحل، وما بعد المزدلفة أرض الحرم، فأنا حين أدخل إلى أرض الحرم يوقفني الله، ويقول لي: بت هنا هذه الليلة، بت في العراء، المبيت بالمزدلفة، لماذا يارب؟ لتشعر بأنك داخل إلى أرض مقدسة، وهي محرمة قد حرمها الله، وجعل اقتلاع الزرع منها محرمًا كما حرّم فيها الصيد، يريد الله سبحانه أن تحس وتشعر فسماها المشعر الحرام، المشعر، الذي يأتيك بالشعور .. فهل سأشعر بكل ذلك في 5 دقائق؟ والجواب: لا .. لا بد من المبيت، طوال الليل والصبح أذكر الله، يقول الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، لبيلك اللهم لبيك .. لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، أنا عبدك وأنت ربي، نعمك عليّ كثيرة يارب، يارب .. فإذا ما تحملتَ كل ذلك أحسست بالشوق إلى الله، وحينها تدخل الحرم بشعور يختلف .. إذن المسألة ليست مسألة حجارة ولا أماكن ولا أشياء، وإنما شعور القلب بالرحمة وبالإقبال على الله. اللهم أذقنا حلاوة الإيمان، وأشعرنا به يا أرحم الراحمين .. اللهم آمين. (1/88) ________________________________________ عصمة الأنبياء (1/89) ________________________________________ عصمة الأنبياء إن الحديث عن عصمة الأنبياء، وعن نضج مشاعرهم البشرية، لهو جزء من الأسوة الحسنة، والله تعالى قد أبقاها فيهم من أجل أن يشعروا بالشوق، وبالخوف، وبالحنين، وبالفزع، وبالغضب حتى يكونوا أسوة للبشر، فلو جمدت قلوبهم ومشاعرهم لما أمكن أن يكونوا أسوة للبشر أبدًا، وهم من أجل هذا تعلموا بالشرع وبالوحي كيف يهذبون هذه المشاعر، وعلّموا هذا لأممهم، وكذلك الحال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث علمه الله فعلم البشر. ولكن يأتي سائل، ويقول: ولكنني أقف أمام أمور في القرآن لا تندرج تحت هذا، ولا أفهمها ولا أقبلها، فيوسف الصديق يقبل مراودة المرأة، ويوشك أن يقع معها في الفحشاء، وفي الزنا، وفي العلاقة الآثمة .. لولا الظروف الطارئة التي حدثت فمنعت عنه ذلك، يعني لولا ذلك لوقع معها فيكون هناك نبي قد وقع والعياذ بالله في الزنا، نبي يفعل ذلك؟! لا أستطيع أن أتقبل ذلك، كيف يقول الإِسلام هذا؟! ثم غير ذلك، هناك أشياء أخرى مثل اتهام سيدنا يوسف مثلًا لإخوته بالسرقة، يقول الله تعالى: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (1/90) ________________________________________ [يوسف: 70]، يقول لهم يوسف: أنتم سرقتم رغم أنه يعرف أنهم لم يسرقوا وإنما فعل ذلك فقط حتى يستطيع أن يأخذ أخاه أسيرًا، ويقبض عليه، ويحبسه ليضمه إليه، لقد فعل هذه الحيلة، فكيف يفعل ذلك وهو نبي ومعصوم من الخطأ؟! ويقول قائل آخر، ليس يوسف وحده، وإنما إبراهيم، إبراهيم (خليل الرحمن) يعبد الشمس، ويعبد القمر، ويعبد الكواكب، فلما رأى القمر قال هذا ربي، فلما رأى الشمس قال هذا ربي، فهل هذا معقول؟! كيف يعبد الشمس والقمر والنجوم والكواكب ثم يهتدي بعد ذلك؟! كيف يكون هذا، ويفعل ذلك؟! كيف يسجد لهذه الأشياء! وهل هذا السجود مباح أم غير مباح؟ الحقيقة أن هذا الكلام معناه أننا نحتاج أن نتعلم العلم، علم التفسير، ونتعلم القرآن ونفهمه؛ لأن من يقول هذا الكلام شخص لا حول له ولا قوة، حظه من العلم قليل .. وقبل أن أتكلم في القواعد العامة أريد أن أرد على هذه الأمثلة؛ لأنني أثرت شبهة لذا يجب أن أرد عليها أولاً وإلا تكون هناك مشكلة. يوسف - عليه السلام - لم يقع في الفاحشة، ولم يفكر، ولم يستجب حتى للمرأة، يوسف رفض وأبى تمامًا من أول لحظة لآخر لحظة، وإنما (1/91) ________________________________________ عدم معرفتنا بكلمات اللغة العربية التي أوقعتنا في هذا اللبس، يقول الله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)} [يوسف: 23]، ثم يحكي القرآن ويقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، أناس كثيرون يظنون أن (همت به وهم بها) بمعنى أنه كان ينوي أن يقع معها في علاقة خاطئة، من الذي قال هذا؟ كلمة {وَهَمَّ} تعني أنه ينوي أن يفعل شيئا، فكلمة يهم وحدها لا تكفي، لابد من كلمة وراءها تفسرها، همّ بماذا؟ من همّ بحسنة ثم لم يفعلها .. ومن همّ بسيئة ثم لم يفعلها .. هممت أن أضرب .. هممت أن آكل .. هممت أن أسافر، بماذا هم؟ فلابد من الكلمة التي وراءها، لكن قوله (همّ بها) ليست بمعنى أنه همّ أن يقع بها .. ولقد فسرت آيات القرآن نفسها. وقبل التطرق لتفسير آيات القرآن، أحذر من الإسرائيليات؛ لأن منهج بني إسرائيل هو إهانة الأنبياء، فعقيدة اليهود من بني إسرائيل كعقيدة منهجهم .. إهانة الأنبياء والتحقير من شأنهم، هذا مبدأ من مبادئ العقيدة عندهم .. (1/92) ________________________________________ فهم مثلًا يقولون إن يعقوب هو إسرائيل، وإنه صار إنسانًا عظيمًا جدًا، وأخذ النبوة بالقوة، كيف؟ وهذه الواقعة يهينون بها الله عز وجل، والله لا يُهان حاشاه ذلك، ولكنهم يقصدون ذلك، حيث يدّعون أن الله رفض أن يعطي يعقوب النبوة والرسالة؛ لأنه كان سيعطيها لأخيه الكبير، لأنه كانت سنة الله في أنبياء بني إسرائيل أن يبارك الأخ الأكبر فجعله هو النبي، وأخوه الكبير كان اسمه عيسو، فقرر الله أن يكون عيسو نبيًا، إلا أن يعقوب كان بصيرًا، فعرف أن الله ينزل بالليل ليتفقد أحوال العباد، فترصد له خلف شجرة، فلما رآه قادمًا من بعيد نظر إليه فعرفه، فانقض عليه وأنشب أظافره في عنقه وظل يصارعه وقال له: باركني، فقال له: لقد باركت أخاك عيسو، فقال له: لا، أنا الذي أستحق النبوة، فقال له: لا، عيسو، قال: لا، أنا، يقولون: فظلا يتعاركان وربنا يقول: يا يعقوب أتركني سيطلع الصبح، والعباد سيستيقظون ويجدون ربهم هكذا .. فيقول له يعقوب: لن أتركك إلا بعد أن تباركني، فظل الرب- في زعم هؤلاء المخبولين - ظل هكذا (أستغفر الله، والله ما أريد أن أقول هذا فما يليق، ولكن على كل حال الواقعة تنطق بهذا) فعندما وجد الرب الصبح قد أوشك على الطلوع، قال له: اذهب فقد باركتك، فتركه يعقوب بعد أن كان قد صرعه وأوقعه في الأرض .. (1/93) ________________________________________ أي خبل هذا .. ويقولون: إن الله ففير ونحن أغنياء، ويد لله مغلولة، ما كل هذا؟! حاشا لله. ولهم رأي في الأنبياء شديد، فيرون مثلًا أن أحد الأنبياء كان يضاجع ابنته في الحرام، وحملت منه، وغير ذلك كثير. وقد يسأل سائل: نحن كثيرًا ما نحذر من الإسرائيليات، فلماذ نذكرها؟! ذلك لأن قصة سيدنا يوسف حسب معظم المصادر والتي تعتمد بشكل أساسي على الإسرائيليات قد جعلت الناس يتصورون أن يوسف أوشك أن يقع بالمرأة، وكتب التفسير عندنا مليئة بالإسرائيليات، لذلك لا يصح أن ننظر إلى الإسرائيليات بشكل مطلق، فهؤلاء القوم قصدوا إهانة الله، وإهانة النبيين، ولا يعرفون لهم توقيرًا .. لقد تمثل موقف الإِسلام من روايات بني إسرائيل أنه لا يصدقها، ولكنه لا يقول إنها كاذبة إلا إذا خالفت الوحي؛ لأنها قد تكون من التوراة أو الإنجيل قبل التحريف، فلا نصدقها ولا نكذبها، ولكن لا نحولها لجزء من أفهامنا ونذكرها في التفسير ونقول حدث كذا، فهذا حرام. (1/94) ________________________________________ وبالنسبة لقصة سيدنا يوسف - عليه السلام - فإن الدليل على أن كلمة (هَمَّ) ليست أنه همَّ بالفحشاء ما في ذكره صريح القرآن، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ} [يوسف: 24]، [شيئين، وليس شيئًا واحدًا] {السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}،ولكن العطف يقتضي المغايرة، فالفحشاء غير السوء، وما هو السوء؟ إن الذي حدث وكما ورد في الروايات أنها وهي زوجة هذا الكبير وهو رجل من علية القوم تعرض نفسهما على عبد لها، صحيح هو عبد لكنه جميل ولطيف وشاب .. إلا أنه خادم بالنسبة لها، فقالت له: تعال وراودته عن نفسه بكلمات حلوة وتكسر وما إلى ذلك، فلما وجدت عينيه قد حملقتا وأنه رفض وغضب وقال: معاذ الله، ماذا تفعلين؟ شعرت بانهزام وانكسار نفسها وأنها أهينت، فمن شدة الغيظ ضربته، فهمت به، هو في البداية قال: راودته عن نفسه، غير همت به، همت به لتضربه، القرآن يقول: ولقد همت به، يعني قامت عليه. إذن لو كان الأمر نفس المعنى فهو تكرار، الله تعالى يقول: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23]، ثم قال (همت به) أي قامت إليه (1/95) ________________________________________ لتضربه، فلما قامت إليه لتضربه هم بها ليدفعها عن نفسه، مثل قوله تعالى: {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13] (فهمَّ بها) ليدفعها عن نفسه، فحدثت بينما مشاجرة وهي سيدة وهو عبد فصار يُخشى على يوسف من أمرين، من السوء ومن الفحشاء، ومن الضرب أن يصيبه سوء بهذا الضرب، وبهذه الإهانة، وبأن تضربه بأي شيء فهذه السيدة المتحكمة تضرب خادمها، ففيها إهانة، فخشي على يوسف السوء وخشي عليه الفحشاء، فالله تعالى لكي يصرف المشاجرة عنه ولكي يصرف في نفس الوقت الوقوع في الفاحشة، فجاءهم برهان ربه، والذي هو على الراجح والذي أراه عند كثيرين من المفسرين هو بوق العزيز عندما حضر، أو شيء ما يدل على حضور العزيز سمع الأبواق أو ما يدل على حضوره .. فالمرأة خافت على نفسها أن تُفضح، ويوسف وجدها فرصة أن يهرب .. ولماذا نرى أن برهان ربه هو برهان العزيز، قبل هذه الآية بقليل استخدم القرآن كلمة الرب دلالة على الملك، قال تعالى: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] يقول: أنا لن أخونه بالغيب لأنه ربي، يعني مالكي، كما يقول: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وقال: {أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41]، أي يسقي مالكه، الرجل الذي يملكه، فكلمة رب ظلت تُذكر في سورة (1/96) ________________________________________ يوسف على أنها تعني ذلك الرجل الذي يملك يوسف، فلما يقول: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، يعني الدليل على قدوم موكب صاحب البيت، فلما رأى الدليل على قدوم موكب صاحب البيت أسرع الاثنان إلى الباب، وإلا فإن يوسف لو أنه بدأ يستجيب للمرأة، وبدأ يخضع لها، وسمعا ما يدل على أن صاحب البيت قادم، أكان الاثنان سيجريان إلى الباب حتى يفضحا نفسيهما، أم يجريان إلى أي مكال ليختبئا فيه؟! إذن جريهما إلى الباب للقاء الملك معناه حدوث اختلاف بينهما، ألا ندرك ذلك؟ لو كان يوسف والمرأة متفقين، وبدأت الملاطفة بينهما وكما يقول الأسرائيليون -والعياذب لله- أنه بدأ يخلع ملابسه ليقبل عليها، لو كان كذلك لاختفى من العزيز، والديل الأقوى على ذلك قوله النساء اللاتي قطّعن أيديهن: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51]، بل شهادة المرأة نفسها: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]، لو كانت المرأة رأته وقد بدأ يخلع ملابسه ليقبل عليها ما قالت. {فَاسْتَعْصَمَ}، وإنما كانت تقول: ولقد راودته عن نفسه ولولا الظروف لوقع بي. (1/97) ________________________________________ فالأدلة -وبصريح الآيات- تذكر أن يوسف قد استعصم، والمرأة شهدت بذلك، والنساء شهدن له بذلك، والجري إلى العزيز معناه ذلك، وكذلك شهادة قريبها، الذي قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف]، وسيدنا يوسف قال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26]، وأنا كنت أفر منها، فالرجل قال: لا، ما دامت ملابسه قد مزقت من الخلف فإنها قد شقت ملابسه من الخلف، إذن حين يقول المولى تبارك وتعالى: "نصرف عنه السوء" أي هو الضرب حيث إنه كان يجري منها وهي تجذبه؛ لأنها أدركت أنه يريد أن يفر لوكب الملك، ولو كانت تشده وهو أمامها لتقبل عليه لتقبله لتمزق القميص من الأمام، إنما الدليل على أن السوء معناه الضرب والمشاجرة أن قميصه مُزق من الخلف؛ لأنه كان يجري نحو الملك. إذن يوسف - عليه السلام - لم يُقبل على المرأة، ولم يوشك، ولم يفكر ولم يسترخِ ولم يستجب ولم يضعف، وإنما ظل قويًا مستعصمًا، {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]، فاستعصم ورفض في كل لحظة، لولا أراجيف الإسرائيليين التي هم عليها، ولولا ضعف اللغة العربية وعدم فهمنا لها، لعلم الناس أن الهم بالضرب، والهم بالشجار كما ورد بالقرآن، فالآيات تقول ذلك، وأظن أن الأمر واضح. (1/98) ________________________________________ كذلك نفس الأمر بالنسبة لسيدنا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فإن الله تعالى نفى عنه بعبارة خاصة به، عبارة جاءت له هو خصيصًا، قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، وهذا طبيعي لأن كل الأنبياء لم يكونوا من المشركين، لكن هذه الآية لم تُذكر في غيره من الأنبياء، فالقرآن لم يذكر ذلك عن موسى أو عن عيسى أو سليمان أو داود أو يونس أو أيوب أو هارون أو صالح أو زكريا أو يحيى أو نوح أو أي نبي. لم يقل هذا إلا عن إبراهيم فقط، لأنه ذكر أشياء وقصصًا ستجعل الناس يظنون أن إبراهيم كان في لحظة من اللحظات مشركًا، فأراد القرآن أن يقول بهذا اللفظ، (ولم يك) ونحن نعلم أن الفعل المضارع حين تدخل عليه لم، تحوله إلى أنه يفيد الماضي، فأقول مثلًا أنا لم أحضر، أحضر فعل مضارع، لكن لم أحضر تعني أنا لم أحضر من قبل، لم أر، يعني لم أر قط في الماضي، فحينما يقولى الله سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .. يعني ليست هناك لحظة واحدة سابقة على لحظة القول كان فيها إبراهيم مشركًا، حتى في واقعة الشمس والقمر والكوكب، لأنه قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فلو كان إبراهيم مشركًا في هذه اللحظة لما صدق عليه "لم يك". (1/99) ________________________________________ ولم يقل القرآن: وما كان من المشركين، أو أنه ليس من المشركين، وإنما قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [كان رجلًا عظيما كبيرًا] {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ} [قط، ولا في أي لحظة] {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]. ولكن ماذا عن واقعة الشمس؟. إن ما فعله إبراهيم هو أنه استصحب منطق المشركين ليبين لهم خطأهم، ماذا تعبدودن؟! الكوكب .. نعم، هذا عظيم فعلًا، إنه يلمع وجميل .. وبالفعل لا يوجد مثله، أعبده؟ أنا موافق، فهذا ربي، فلما أفل قال: أنا أريد ربنا الآن، قالوا له: ربنا لا يوجد الآن لأن وقته بالليل، ولا يوجد في النهار، قال: لا، هذا لا يصلح، وذهب لعبدة القمر، وذهب لعبدة الشمس، ولعبدة البشر {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، وذهب لعبدة الصنام، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، فعندما كسر كل الأصنام، وقالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] كان المفترض أن يقول إبراهيم: هؤلاء لا يفعلون شيئًا، وإنما قال: بل فعله كبيرهم، ولكن هذا شكله كذب، وإنما بيّن الله تبارك وتعالى بكلمة عظيمهّ {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] يعني إبراهيم لم يفعل ذلك كذبًا، ولا مخالفة، ولا انحرافًا، وإنما هو اتبع طريقة للحجة نحن أذنا له بها (1/100) ________________________________________ وآتيناه إياها، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)} [الأنعام]. ولذلك ورد عن الإِمام أبي حنيفة قصة لطيفة، حيث إنه كان على موعد مع جماعة من الملحدين ليناظرهم، فتأخر عليهم، فقالوا: انظروا، أبو حنيفة الذي كان ينوي أن يعلمنا الإِسلام خاف منا، ولم يستطع مواجهتنا، جاء متأخرًا، وجاء أبو حنيفة وقال لهم: معذرة، تأخرت عليكم، ولكنني عندما أردت أن أعبر النهر إليكم لم أجد سفينة، ثم فجأة وجدت الأمواج ترمي الأخشاب، ثم استقامت تلك الأخشاب من تلقاء نفسها، ثم صنعت سفينة ثم جاءتني فركبتها فجئت إليكم، فقالوا: ما هذا؟ أأحضرتم لنا شخصًا مجنونًا؟ وهذا بالطبع لم يحدث، ولكن أبا حنيفة ألّف هذه القصة ليقول لهم لا صنعة بغير صانع، لا مركب بغير صانع، وبالتالي لا كون بغير خالق وهو الله عز وجل، أبو حنيفة كان يكذب؟ لا، وإنما كان يسير وفق {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} كذلك في واقعة يوسف- عليه الصلاة والسلام - فإن الله تعالى قال: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، فما فعله كان بمشيئة من الله .. إذن لا بد أن نفقه ديننا، وأن نفقه أن الأنبياء هم الأكرمون، وأن الله تعالى يقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [مريم: 58] وأن الله (1/101) ________________________________________ أتم عليهم فضله، وأنهم على الجادة، وأنهم معصومون، وأن ما جرى من سوء فهم عند المسلمين لآيات القرآن إنما هو في حقيقة الأمر ضعف منا. وأختم حديثي عن عصمة الأنبياء بلفت الأنظار إلى الخشية من الله، يقول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] يعني لا يخشى الله من العباد إلا من كان عالمًا، والعالم يعني أنت، مَن تعلم آيات القرآن وفهمها فهمًا صحيحًا وهذا لا يعقله إلا العالمون، حيث إن العلم الخشية، والخشية من الله تعالى لا تتحقق إلا بهذا التناول لآيات الله، فاستقيموا على هذا المنهج، واستمروا عليه، ولعل الله أن يفتح لنا أبوابًا تصل بنا إلى رحمة الله عز وجل. (1/102) ________________________________________ تعدد الزوجات (1/103) ________________________________________ تعدد الزوجات إن تعدد الزوجات لا نناقش فيه الله في حكمه أبدًا، ولا يمكن أن يناقش عبد ربه في حكمه إلا كفرًا، وإنما نحن نتدبر الآيات، ونفهمها كما أمرنا ربنا عز وجل، والفارق كبير حيث إن من يتدبر هو إنسان يقدم في الإيمان أولًا والإذعان، ويعلم أن ما يقوله الله حق، وأن القرآن كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه كتاب مطهر مبرأ وأنه الخير للبشر، وأنه كتالوج البشر .. {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن] وأن هذا القرآن الكريم إنما هو إنقاذ للبشرية، وأن الذي شرعه هو وحده الذي يعلم، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]، من الذي يعلم؟ هل الإنسان أعلم أم الله؟ نحن نوقن بذلك ونسلم به، ثم نتناول الحديث عن تعدد الزوجات؛ لنتدبر، ولنفهم، ولنتعظ .. أما الذين يقولون لله لن نطبق أمرك إلا بعد أن نفهم، فهؤلاء حتى ولو طبقوا كفار، وحتى ولو فهموا كفار؛ لأنهم عبدوا عقولهم لا ربهم، عبدوا اقتناعهم لا ربهم .. (1/104) ________________________________________ بينما المسلم يعبد الله بأن يسلم له، اقتنعت أم لم تقتنع .. أنا مُسلم، ولكنني أفهم بعد ذلك من أجل أن أتعايش مع الشرع وأفهمه .. هذا هو ديننا، من أراد أن يؤمن فليؤمن، ومن أراد أن يكفر فليكفر، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] .. ليس الكفر هو عدم العلم بالله، إنما الكفر قد يكون علمًا ورفضا، مثل إبليس هو يعلم ربه علم اليقين، يقول له: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} [ص: 82] .. بعزتك لأغوينهم، تجعل عزة الله مقابلها أنك تغوى عباد الله .. إذن نحن نسلم لله رب العالمين. إن الآيات التى سأطرحها في الحقيقة تناولها صعب، صعبًا نفسيًا، وليس علميًا؛ لأنها تتعلق بتعدد الزوجات، وتعدد الزوجات قضية تؤذي مشاعر نصف الخلق، النساء، وتؤذي مع المرأة أحيانًا أباها وأخاها وأمها، فهي قضية تثير المشاكل، وفي نفس الوقت يلتقطها أعداء الإِسلام ليغزلوا حولها وينسجوا، لكنني أتناول ما يقع في سمع المسلم من آيات، فتأتي امرأة فتقول: القرآن واضح جدًا وضوح الشمس في رابعة النهار، القرآن يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ثم واحدة لمن لا يستطيع. (1/105) ________________________________________ إن الذي لا يقدر أن يعدل ويقيم العدل بين النساء يتزوج واحدة، ثم يأتي في نفس السورة، في أول سورة النساء، فيقول: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] .. إذن من لا يستطيع أن يقيم العدل والقسط والمساواة بين النساء فليكتفِ بزوجة واحدة، وهنا يقول إنك لن تستطيع العدل بين النساء مهما كنت حريصًا عليه .. إذن الحكم واضح جدًا، ما دمتم لن تستطيعوا أن تعدلوا ولن تستطيعوا فالحكم واضح جدًا وهو الاكتفاء بزوجة واحدة .. فهل هذا صحيح؟ في الحقيقة هذا غير صحيح، وكما ذكرنا أننا نحرر الحكم الشرعي كما أراده الله، وليس كما يريده رجل أو كما تريده امرأة، الحقيقة أن هذه الآية من سورة النساء التي تقول: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} جاءت في سياق مهم جدًا، سياق الرجل الذي يكون متزوجا باثنتين مثلًا ويحب واحدة منهما، ويميل إليها ميلًا شديدًا، ويتجه إليها اتجاهًا شديدًا فيظل يميل إليها، ويتجه إليها حتى يشعر بنشوز أو إعراض عن الأخرى تمامًا، فنزلت الآية لتدافع عن المرأة المهملة، المرأة التي يتم إهمالها، فكانت الآية دفاعًا عن المرأة التي (1/106) ________________________________________ تُهمل، قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} [النساء] ثم قال للرجال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [فلم يعقب على ذلك بقول فلا تعددوا، وإنما قال] {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فما معنى ذلك؟ إن العدل له مجالان وليس مجالًا واحدًا، المجال الأول العدل المادي، وهو العدل في الإنفاق، والعدل في الأوقات التي يقضيها معهما فيساوي بينهما في الوقت وأيضًا في الفسح وفي الطعام والكساء وكذلك في الذهاب لأسرتها وهكذا .. إنما هناك العدل الآخر وهو العدل القلبي .. في امرأة أدخل عندها فتكون لطيفة مبتسمة، هناك زوجة تجهز لزوجها حكايات وروايات لكي تأسر لبه وتجعله مرتاحًا إلى الجلسة معها، وزوجة تعد لزوجها مشاكل ومشاجرات، تقول له: أرأيت ما حدث اليوم؟ لا بد أن تجد تصرفًا في أمر كذا وكذا، فهو يعدل بينهما .. لكنه يأنس بجلسة هذه أكثر، ويحبها أكثر .. حتى وإن كان مكرًا أو دهاءً مال إليها، فالإِسلام (1/107) ________________________________________ فرض على الرجل - وهذا في الحقيقة شيء مهم جدًا- فرض عليه العدل في الأمور التي يملكها حتى في الجماع وقد لا يكون الجماع بالتساوي تمامًا، ولكن بشرط ألا يقصد أن يوفر قوته من امرأة لامرأة أخرى، وإنما في الأمور القلبية التي، لا يستطيعها. لذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيها لا أملك" .. إن قضية الغيرة قضية بشريهّ، فمثلًا لو رزقت أسرة بطفل يهتمون به ويطعمونه ويكسونه ويفرحون به ويلاعبونه .. ثم حملت الأم ورزقت بطفل ثانٍ، تجد الطفل الأول يغار غيرة شديدة من أخيه، ويضربه، ويمكن أن يدفعه من السرير ليسقطه على الأرض، وأظن أن الناس كلهم يعلمون ذلك، أن الطفل الأول يغار من الثاني، فهل معنى ذلك أن نحرّم الطفل الثاني؟ بل في المكتب الموظف الأول الذي ظل موظفًا تحت يديه 10 أو 15 سنة ثم نما العمل فأتيت بموظف آخر، الموظف الأول يغير من الثاني، بل لو أن هناك رئيس جمهورية عين نائبًا له، وأظن هذه وقائع مشهورة ومعروفة والناس يفهمونها جيدًا ولا داعي للأسماء، نائب رئيس جمهورية منفرد، ثم مرة أخرى أصدر الرئيس قرارًا بتعيين نائب ثان له وأصبح هناك نائب أول ونائب ثان، فتجد أن النائب الأول (1/108) ________________________________________ يتمزق غيظًا من النائب الثاني، معنى ذلك أن أحرم في المكتب أن أعين موظفًا ثانيًا، أو لا أنجب ولدًا ثانيًا، وأحيانًا والد الزوجة يغير من والد الزوج أو العكس، أو أم الزوجة تغير من أم الزوج، تقول لك: أول يوم رمضان عليك أن تفطر عندنا، لكن الجماعة الآخرين يريدوننا أن نفطر عندهم .. فهذه مسائل موجودة، فهل نقتل أبا الزوج وأبا الزوجة، أو نقتل الأولاد، أو نقتل نواب رئيس الجمهورية، أو الموظفين؟ إن كل ما في الأمر أن الشخص الذي يسبق إلى مكان يريد أن يحتل هذا المكان ولا يريد أحدًا بجانبه .. وهذه سنة بشرية .. ولذلك أنا دائمًا أقول إن تعدد الزوجات ليس قضية بين رجل وامرأة، إنها قضية نسائية نسائية، إنها قضية عند المرأة .. في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية كان التعداد أن الرجل الواحد يقابله ست نساء، فلو أن كل امرأة تزوجت رجلًا صار هناك خمس نساء عانسات. لذلك عندما تأتي على امرأة وتقول لها أنت تكبرين وسنك أصبحت 40، 45، 50، 55، 60 سنة وأنت وحدك، هل تفضلين أن تكوني زوجة ثانية أم تكوني عانسًا؟ (1/109) ________________________________________ إن الرجل ليس لديه مشكلة، هو في كل وقت معه امرأة، لكنك أنتِ أيتها المرأة في حالة عدم التعدد فإنكِ امرأة ليس عندها رجل، فأصبح الرجل في حالة عدم التعدد رجلًا عنده امرأة على كل حال، والمرأة امرأة ليس عندها رجل، وهنا المشكلة. ولذلك في بعض بلاد الخليج نشأت جمعيات نسائية تضغط على النساء، تقول لها: حرام أن تبقى في المجتمع هذه النسبة من العنوسة والضياع .. اقبلي أن تكون هناك زوجة ثانية، ومن عجيب الأمر أنه لا يوجد مجتمع بشري على ظهر الأرض لا من حيث المكان ولا الزمان منذ أن خلق الله الأرض وحتى الآن لا يوجد مجتمع بشري ليس فيه تعدد نساء للرجل، لا يوجد، لكن الفرق في الحلال، يعني أوروبا مليئة بالزنا، أمريكا مليئة بالزنا، أفريقيا مليئة بالزنا، آسيا مليئة بالزنا، لا يوجد مجتمع واحد ليس فيه ذلك، كل ما في الأمر أن الإِسلام حوّله لشيء منضبط لا عربدة. نسمع رجلًا يقول: أنا لا أدري كم امرأة عاشرت ربما 60 أو 70 وعندي أبناء في كل أنحاء العالم وأظن أن هذا الشخص معروف، هذا الشخص قال ممكن يكون عندي 50 أو 60 ابنًا ولا أعرفهم، هذه عربدة .. (1/110) ________________________________________ فالإِسلام لما وجد هذه الحالة، ورأى أن الرجل كان يتزوج بالمئات قصر هذا الأمر .. فالبشر مخلوقون بهذه الصورة، لا يوجد مجتمع لا تعدد للنساء فيه إطلاقًا، ومع ذلك بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - متزوجًا من زوجة واحدة فقط طوال شبابه، منذ أن تزوج وهو شاب صغير في العشرينات حتى سن 53 سنة، ثم تزوج بأخريات لأهداف تتعلق بالرسالة، إنما ظل حوالي 25 سنة ربع قرن من الزمان وكان في سن العشرينات والثلاثينات والأربعينات والخمسينات محتفظًا بزوجة واحدة فقط ومكتفيا بها، والأصل أن العاطفة تتوجه إلى زوجة واحدة، وترتبط بزوجة واحدة، وتأنس بها، وهناك حديث صحيح يقول فيه - صلى الله عليه وسلم -:"إن خير المسلمين سوف يتزوجون بأكثر من زوجة" (رواه البخاري). لذلك قلت إن المسألة نسائية، الزوجة الأولى سبقت إلى المكان، فلا تريد أن تدخل غيرها، إنما لو أنها وجدت نفسها ستكون عانسًا فإنها تطلب أن تكون الزوجة الثانية والثالثة والرابعة. ولذلك في كل تعدد رباعي امرأة ترفض التعدد، وثلاثة يقبلون التعدد، يبقى حتى عند النساء ثلاثة أرباع النساء مع قضية التعدد، والربع فقط هو الذي ضدها. (1/111) ________________________________________ لذلك ليست المسألة مسألة رجل وأمرأة، ليس الصراع بين رجال ونساء، وإنما هو كما ذكرت قضية نسائية داخلية، هن يخترن. ويحدث أنه حتى في التعد العادي وليس بعد الحروب النساء أكثر من الرجال، والسؤال: من الذي خلق الرجال؟ من الذي خلق النساء؟ من الذي قدر العدد؟ من الذي يعرف أن النساء سيكونون مثلاً على سبيل المثال 3.5 مليار، والرجال 2.5 مليار، إذن هناك عجز في عدد الرجال، لذلك يقدر الله عز وجل هذا الأمر على هذا النحو .. ثم مع ذلك يأتي الإسلام ليقول من لم يعدل بين زوجاته جاء يوم القيامة وشقه مائل؛ لأنه لم يعدل بين زوجاته. لهذا نحن لابد أن نعلم أن الذين حاولوا أن يحاصروا التعدد أباحوا الزنا، ولقد سمعت بنفسي يومًا من وزير العدل في إحدى الدول يقول ما المشكلة إذا سمحنا للولد أو الزوج الذي تنكد عليه زوجته أن يذهب إلى بيت دعارة .. يفرج فيه عن نفسه ثم يعود إلى حياته مرة أخرى .. يا للعجب .. وزير العدل يقول هذا الكلام، يقول. نبيح الزنا، ونحرم تعدد الزوجات، كما في تونس فجور الحكم يجعل الأمر فظيعًا، فالحكم القانوني عندهم أن تعّدد الزوجات جريمة، قُبض على واحد مرة بتهمة تعدد الزوجات، ومهدد بدخول السجن، فجاء المحامي وقال له: لا والله هذه ليست زوجته، نحن لا نفعل هذه الجريمة .. إنما (1/112) ________________________________________ هي صديقته، داعرة وعاهرة، حكم القاضي بالبراءة .. هذه قضية حقيقية. إذن الإسلام حينما يدقق إنما يقول إن تعدد الزوجات هو ضرورة، ضرورة؛ لأن المرأة فعلًا وهذا معروف أن كل عصارة قلبها واهتماما متوجهة لأولادها، ولذلك لن أذكر أن أوقات الحيض، وأوقات النفاس، أحيانًا تطول، ونحن نعرف أن فترة العذر الشهري تصل عند بعض، النساء إلى 14 و 15 يومًا، فيعاني الرجل معها، والمجتمع فيه ما ترون وإلى جانب أن فترة النفاس قد تطول أكثر من شهرين وأكثر، وحتى في حالة الرضاعة والولادة وأحيانًا المرأة تسأل وتقول أنا مر عليّ سنتان أو ثلاث وأربع وخمس ولم أصم رمضان، سنة كنت أرضع وسنة كنت حاملاً، وسنة متعبة، فماذا أفعل؟ وحتى إذا انقضى ذلك تكون مهتمة بابنها لدرجة أنها ترى مصالح ابنها فيطيش عقلها، ولا تنتبه أن عليها أعباء أخرى، يحدث هذا، ولا نزال نقول إن الزواج بواحدة هو الأصل النفسي، لكن يحدث هذا فكيف أظلم الرجل ظلمًا متمكنا؟ فالمسألة ليس فيها ظلم للرجل أو ظلم للمرأة، المسألة حوائج، والمسألة كما ذكرت مقررة مجتمعيًا، المجتمع البشري الإنساني العالمي يعلمها وإكرام المرأة يأتي في ديننا تحت شعار "لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم" .. (1/113) ________________________________________ إذن لا يمكن أبدًا أن نتصور أن في هذا عدوانًا، ولكنه رعاية لخلق يعلم خالقه نوازعه، وإلا فلو أبيتم فارضوا عن انتشار الزنا وانتشار الاغتصاب وانتشار الأبناء غير الشرعيين، وعن .. وعن .. ارضوا عن الفساد، إن ترضوا عنه فإن الله لا يرضى عن الفساد ولا عن الفسوق ولا عن العصيان. ومع ذلك فإنه يجوز للمرأة أن تشترط في عقد الزواج ألا يتزوج عليها زوجها غيرها، وفي هذه الحالة يحرم عليه التعدد، لكن معظم النساء لا يفعلن ذلك، ولن يفعلن لأنهن لو فعلن فلن يجدن من يتزوجهن، ومعظم النساء حتى ولو فعلن هذا فالرجل سيقول لا .. لن أقبل بهذا، وذلك لأن المرأة نفسها تعرف أن اشتراطها هذا سيكون ضد مصلحتها .. (1/114) ________________________________________ لا يتوقف أمر الدين على المعجزات (1/115) ________________________________________ لا يتوقف أمر الدين على المعجزات في يوم من الأيام جاءنى شاب، وشعرت وكأن عاطفته سوف تفيض من صدره، وهو يقول إن المشركين كذابون، وقد طلبوا أن يروا معجزات حتى يؤمنوا، لكن هل المعجزات انتهت؟ إن الله تعالى رب العالمين، ولا يعجزه شيء، وقدراته مطلقة، لماذا لم يشبعهم بالمعجزات؟ كل معجزة يطلبونها يعطيها لهم، على الأقل إبطالًا لحجتهم، وحتى لا يبقى عندهم شيء يقولونه، ثم يقول الشاب: ولكنني على العكس أشعر أن القرآن الكريم يرفض أن يطلعهم على المعجزات، يعني يطلبون شيئًا فيرفض القرآن أن يريهم إياه، يطلبون معجزة أخرى فيرفض الإسلام أن يعطيها لهم، معجزة ثالثة، فأشعر أن الكافرين كما لو كانوا يقيمون الحجة على الإِسلام، وليس الإسلام هو الذي يقيم الحجة عليهم، يقولون: يا رب لقد طلبنا أن نرى معجزة محددة ولم تعطنا إياها .. حتى لو كانوا سيكذّبون، فماذا كنا سنخسر؟ طبعًا هو لا يقول هذا إستدراكاً على الله تعالى، ولا يقول ذلك من باب محاسبة الله، ولكن هو يريد أن يفهم، وهذا مشروع، فإن الله لا يُسأل عما يفعل، والله يفعل ما يريد، ويحكم ما يريد .. لكن أنا كمسلم (1/116) ________________________________________ محب لديني وغيور عليه، أتساءل حين يقول كافر أنا أريد أن أرى كنزًا نازلاً من السماء، لماذا لا ينزل الله عليه كنزًا من السماء ويكون قد أبطل حجته؟ والحقيقة أن هذا فعلًا موجود في آيات القرآن، بالفعل هذا صحيح، إن الكفار طلبوا أمورًا معينة، فمثلًا ذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183]، أنزِل نارًا من السماء تأكل القربان، إذا فعلت ذلك نؤمن بك، وإن لم تفعل ذلك لن نؤمن .. وإذا بالقرآن يرفض، فلماذا؟ ثم قالوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)} [الإسراء]، وهم في بلد صحراوي والماء قليل، فإذا أردت أن نؤمن بك فجّر لنا ينبوعًا من الأرض، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)} [الإسراء] أرنا شيئًا غير معتاد، أو {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)} [الإسراء] .. أو أمر آخر، {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93] وإذا بالإسلام يرفض، ويقول: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93] .. (1/117) ________________________________________ لماذا لم يستجب لهم الله؟ ولقد صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء فعلًا في رحلة الإسراء والمعراج، ونزّل الله عليه آيات ونزل بها، فلماذا لم يرد عليهم، وتقول لهم: إن ما طلبتموه قد حدث فعلًا؟ والعجيب أن هذه الآيات وردت في سورة الإسراء، والسورة أولها {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] تتكلم الآية عن الإسراء، تلك الرحلة العظيمة التي لا مثيل لها، وفي وسط السورة تذكر أن الكفار طلبوا هذا، والإِسلام يرفض أن يريهم إياها .. فلماذا؟ ثم طلبوا شيئًا آخر: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]، لماذا لم يقل لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقد أراكم الله الملائكة في بدر، لقد رأوا جبريل أتى يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما الإِسلام، وما الإيمان، وما الإحسان، ومتى الساعة، وما أشراطها. السبب أن تجارب البشر قبل الإِسلام أثبتت فعلًا أن البشر لا تنفعهم المعجزات إذا كانوا يريدون الكفر، ومقاييسهم فاسدة، المعجزات لم تنفع معهم، لم تصلح. مثلًا في قصة سيدنا صالح أرسل الله مع صالح ناقة فاهمة، تعرف كيف تتفاوض مع البشر وتقسّم بينهم، فلما أيقنوا بالآية ورأوا أن الآية بينة وواضحة جدًا قتلوا الناقة، عقروها وذبحوها، هل آمنوا بها؟ كلا (1/118) ________________________________________ بل أكثر من ذلك حين سخر الله الجن لسليمان، كفروا بسليمان، فماذا يريدون أكثر من ذلك؟ {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102]. وإبراهيم - عليه السلام - أخرجه الله تعالى من النار، َ وَقال للنار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69] {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء]، ومع ذلك بمجرد أن خرج من النار أصر قومه على كفرهم. وموسى أحيا لهم الميت، ضربه بالبقرة فأحياه لهم، ومع ذلك كانت النتيجة {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] .. فالآيات لا تأتي معهم بأي نتيجة، أكثر من ذلك ما حدث مع عيسى - عليه السلام - فإن الله -سبحانه وتعالى- جعله يحيى الموتى بإذنه، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذنه، ويعلم بعض الغيب بإذنه، فماذا فعلوا بعد هذه الآيات المعجزة؟ ما كان منهم إلا أنهم طلبوا أن يقتلوه وأن يصلبوه. إذن الآيات لم تأتِ بنتيجة مع الكفار، إنهم بمجرد أن يتبين لهم صواب الآية يكفرون بصاحبها على الفور. حتى من ذكرهم الله بقوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183] كانت (1/119) ________________________________________ الإجابة عليهم، {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183]. إذن فالآيات لا تفيد معكم أنتم تقتلوق الأنبياء، أنتم تفكرون وتركزون عقولكم ثم تطلبون شيئًا محددًا فيأتيكم ثم تقتلون من جاءكم به .. إذن بالعكس فإن الآيات اتضح أنها لا تنفع، معنى ذلك أن الله عندما كان ينزل الآيات، حاشاه ذلك سبحانه، كان مخطئًا، معنى ذلك أن الله لم يكن يعلم أن الآيات لم تكن تنفع فكان ينزلها ثم اكتشف- حاشاه ذلك سبحانه وتعالى- أن الآيات لا تنفع فامتنع، لا .. وإنما معناه أن الآيات لازمة فعلًا، المعجزات لازمة بالفعل .. لكن لازمة لصنف معين من البشر وهو الذي يكون لديه مقاييس؛ لأنه ليس كل من يقول إنه رسول الله سيُصدق، فربما أتى من يدعي ذلك، فلابد أن يُقدم له معجزة أو دليل، فإذا قُدم وكان مستقيم المقاييس متجردًا، ليس عنده هوى ولا عداوة، فإنه سيؤمن بأن المعجزة بينة .. لكن إذا كان سيئًا ومهما فعلت معه لن يؤمن مثل اليود، {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، ومع ذلك كفروا به، مع علمهم اليقيني به؛ لذلك فإن المعجزة ضرورة ولكن لصنف من البشر يتسم بكونه مستقيمًا متجردًا، مستقيم المقاييس، ولا تلزم الصنف الفاسد. (1/120) ________________________________________ لهذا فإن الإِسلام رفض أن تكون طريقته مع الصنف الفاسد أنهم يطلبون فيعطيهم يكفرون، هات لي المعجزة الفلانية، فأعطيك إياها، فتكفر، هات .. وفي المقابل كفر .. رفض الإسلام هذا المنهج، وإنما قال لقد أرسلت إليكم معجزات محددة وبعدها هناك حساب بيني وبينكم. أنا الآن طلبت معجزة فرفضها الإسلام، رفض أن يعطيني إياها، وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، إذن فمإذا عندك؟ وما هو الإسلام؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يُطرح، مادمت رفضت كل معجزة أطلبها، كيف أعرف؟ هذا هو السؤال .. إن رفض الإِسلام أن يعطيهم هذا الذي طلبوه التواءً، ألجأهم إلى أن يقفوا ويقولوا قل لنا ما عندك، ليسمعوا، وهذه روعة الديق الخاتم؛ لأن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلها كتب الله، ولكن فيها مراحل للبشر، هناك مرحلة قديمة ومرحلة متوسطة ومرحلة جديدة، فمرحلة الإسلام مرحلة النضج النهائي للبشر، فالقرآن هو آخر كتاب أنُزل وآخر وحى سيستمر الأمر به إلى يوم القيامة .. فلابد أن يدرب البشر على درجهّ من الارتقاء والاستدلال، ارتقاء إقامة الحجة. قال لهم تعالوا نتناقش، أضرب لكم بعض الأمثلة .. على سبيل المثال عندما قالوا هل يعقل أن يرسل الله وسولًا من البشر، لماذا لم يرسل ملكًا، فالإسلام رد على هذه الجزئية قائلاً لهم: لقد أرسلت (1/121) ________________________________________ الرسول من البشر؛ لأنكم بشر، فأرسلت رسولًا لتروا كيف يطبق الإِسلام، فلو كان الرسول ملكًا ويقوم الليل ستقولون إنه ملك، والملائكة يسبحون الله بالليل والنهار لا يفترون، لكن أنا لا أستطيع أن أصلي قيام ليل ولو لمدة ساعة في اليوم، فستجد نفسك لا تنتفع بالرسول، لكن عندما تجد من يقوم الليل من البشر، تقول: نعم، إنما أنا بشر مثلكم، كل ما في الأمر أن الوحي ينزل عليّ، يُوحى إلى فالله تعالى قال هذا، قال: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء] فأرسل لهم بشرًا يسوق إليهم منطق الرسالة. أيضًا لما وجدوا الرسول- صلى الله عليه وسلم - يبيع ويشتري ويتزوج وينجب وينزل الأسواق، قالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] فرد عليهم الإِسلام يقول لهم، أتريدون شيخًا يرتدي العمة والقفطان، ويقول للناس: قال الله، وقال الرسول، ولا ترون معاملاته لتعرفوا التطبيق العملي كما عرفتم الكلام النظري، فقد يقول كلامًا ولا يطبقه .. إن شرط الفقيه أن يكون عالمًا بأمور الدنيا ويعرف الأوزان والأسواق والتجارات، الفقه معناه إلمام بالواقع كما هو إلمام بالأحكام التي جاءت في الكتاب والسنة .. فبدأ الإِسلام يقول لهم إن كل الأنبياء من قبل كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، فهي سنة دائمة. (1/122) ________________________________________ كل القضايا التي طُرحت طرحها الإِسلام بهذه الصورة، حتى إنهم لما قالوا أنت كذاب، وقالوا أنت مجنون، وأنت مفترٍ، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [النحل] إنك تؤلف من عند نفسك، فقال لهم {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)} [الملك: 28]. إن قضيتكم ماذا ستفعلون في أنفسكم؟ الكافر سيُعذب والمؤمن سينعم، دعك مني، لا تشغل نفسك بي أنت ماذا ستفعل بقضيتك؟ إذن الإِسلام قال لهم إذا كنتم أصحاب منطق فافهموا، واتركوا ما تطلبونه من اللجاجة .. لذا قال لهم الإِسلام كلمة في غاية الجمال، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] تعالوا نتفق ألا نعبد إلا الله، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا، أي أندادًا من دون الله، لا تعبد بشرًا مثلك، تعالوا واسمعوا، تعال أنت وزوجتك وأولادك، وأنا وزوجتي وأولادي ونقف جميعًا ثم نبتهل إلى الله أن ينزل لعنته على من يكذب منا ويظلم ويفتري، فخافوا وارتعبوا؛ لأنهم يعلمون أن هناك إلهًا، ولو فعلوا ذلك لأنزل الله ما يحرقهم كما وردا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. فبدأ الإِسلام يخرجهم من اللجج والمناقشة إلى القول الفصل، حتى تكون مرحلة النضج البشري إلى يوم القيامة .. (1/123) ________________________________________ لكن المفاجأة، أن كل ما طلبه هؤلاء الكفار من آيات ومعجزات سواءً حسية أو غير حسية، ملموسة تحسها بجوارحك وتلمسها، أو تبصرها أوتسمعها، كل ذلك جاء عن طريق النبي- صلى الله عليه وسلم - .. ومن أمثلة ذلك أنه "جاء الرسول- صلى الله عليه وسلم - رجل وقال له: كيف أعلم أنك رسول الله؟ فقبض له حفنة من الحصى في الأرض، وقربها من أذنه فسمع الحصى يقول: سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم في يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي واقعة أخرى" قال: كيف أعلم أنك رسول الله؟ قال: ما الذي معك؟ وكان معه حيوان (ضب) يجره بحبل، فقال له: هذا الحيوان الذي معك يشهد لي بأني رسول الله، قال: كيف؟ فقال للضب: من أنا أيها الضب؟ قال: أنت محمَّد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -" .. وهذه أشياء حسية، فلماذا لم يقل القرآن لقد أريناكم؟ لأن هذا ليس منطق القرآن وهذه ليست المعجزات المعول عليها في الإِسلام تلك الرسالة الخاتمة. (1/124) ________________________________________ بين المعجزة والكرامة (1/125) ________________________________________ بين المعجزة والكرامة إن مما يجب علينا كمسلمين وهو مما يُعبد به الله -عز وجل- أن نفهم الإِسلام، حتى لا يضرنا أعداؤنا إذ يفسدون علينا الدين بشيء لا نفهمه. إن هناك إشكالية تحدث، فنحن كثيرًا ما نسمع مَن يقول: إن كل نبي من الأنبياء إنما جاء بمعجزة لتدل على أنه نبي، ويقول إن عيسى كان يُحي الموتى بإذن الله، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وإن موسى كان يضع يده في جيبه فتخرج بيضاء للناظرين من غير سوء، وإنه كان يلقي العصى فتتحول إلى حية يضرب بها الأرض فتتحول إلى بحر، والبحر إلى أرض، ويقول إن صالحًا كانت معه ناقة، وإن كل نبي من الأنبياء كانت عنده معجزة يقدمها لقومه، وإن سليمان أجرى الله له الريح، وداود طوّع الله له الحديد وألانه له .. إذن المعجزات دليل النبوات، ومع ذلك فنحن نعلم أن المسيخ الدجال سيأتي قبل يوم القيامة يشير إلى المطر أن ينزل فينزل، ويشير إلى الأرض الخربة أن تعمر فتعمر، ويشير إلى الأرض العامرة لتخرب (1/126) ________________________________________ فتخرب، ويمضي في الأرض مسرعًا .. وهذه كلها معجزات، فلماذا لا نصدقه ونقر بمعجزاته؟ لماذا نصدق الأنبياء بما جاءوا به من معجزات، فإذا جاء المسيخ الدجال بالمعجزات نقول لا تصدقوه؟ هل تريدون منا أن نصدق الأنبياء بشأن معجزاتهم وما يقوله العلماء من أن ما محدث مع أولياء الله الصالحين ليس معجزة تغير الدين، في حين أنني أرى واحدًا في المنام يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، إنسان يراني لأول مرة ثم يقول لي كلامًا وهو لا يعرفني وإذا بي أجده كلامًا صحيحًا، وقد حدث ما أخبر به، فكيف لا أتخذه وليًا؟ لماذا يقف العلماء موقفًا مضاداً من الكرامات والأولياء مثل سيدي أحمد البدوي وسيدي الشعراني وإبراهيم الدسوقي وغيرهم ومن الطرق الصوفية عامة؟ وكذلك يقول العلماء يجب تصديق المعجزات، فإذا جاء ***** على يد الإنس أو الجن مثلما تعلمه الناس على يد هاروت وماروت وهو يمثل خوارق، فلم لا نصدقها ونعتقد فيما جاء به *****؟ ولتوضيح ما سلف نلفت الأنظار إلى أنه يجب أن نعلم أن ثمة فارقًا بين المعجزة التي جاء بها الأنبياء ونحن مطالبون كمسلمين أن نصدقها وبين كل هذه الأمور، ما هو الفرق الرئيسي؟ (1/127) ________________________________________ الفرق أن كل هذه الأمور التي ذكرتها أمور لها قواعد تُتعلم، ف***** مثلًا يمكن للإنسان الذي يريد أن يتعلمه أن يذهب إلى *****ة ويتعلم *****، وهناك كتب كثيرة تعلّم الناس كيف يقع *****، والساحر الكبير يعلم الساحر الصغير، ف***** عبارة عن كلمات وطلاسم تُقال فيتم بها *****. ولذلك فإن سليمان عليه الصلاة والسلام حين مات فإن الجن وجدوا أنفسهم قد ذلوا، فأرادت الشياطين أن تدافع عن نفسها، فأعلنوا أن سليمان كان يملكهم لأنه كان ساحرًا يعرف ***** ويسخّر به الجن، وبدأت الشياطين يقولون بأنه كان ساحرًا، ولذلك قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]. فلكي يدافع الله -عز وجل- عن المعجزة التي يرسلها مع الأنبياء، ذكر تعالى أن صفة المعجزة الأساسية أنها لا تُتعلم، إنها إنما تكون على سبيل خرق العادات وخرق القدرات، ولا يستطيع أحد أن يفعلها، أما ***** فقد أرسل الله به ملكين من الملائكة واحد اسمه هاروت والثاني اسمه ماروت وجعلهما عَزَّ وَجَلَّ ينزلان في صورة رجلين من البشر، ليقولا للناس إن سليمان لم يملك الجن والإنس وكل ما حوله لأنه كان ساحرًا، فهذه ليست حقيقة، وما ***** إلا علم، ومن أراد أن يتعلمه فنحن سنعلمه له، ولكن نقول لكم لا (1/128) ________________________________________ تتعلموه لأنه مضر وكفر، ولكن سنعلمكم ***** حتى لا تقولوا إننا نمنعكم من تعلمه، وكي تعلموا أن سليمان لم يكن ساحرًا، فتدركون الفارق بين المعجزة و***** .. إننا لو أحضرنا عباقرة العالم فلن يستطيعوا أن يرموا عصا ويحولوها إلى ثعبان، لكن الساحر يستطيع أن يسحر أعين الناس فترى العصا ثعبانًا، لذلك فإن سحرة فرعون أسلموا وآمنوا بموسى على الفور، لماذا؟ لأنهم رأوا شيئًا لا يُتعلم، الثعبان يلقف ما يأفكون، فهذا شيء غريب عليهم وليس من قبيل ***** تمامًا، فلابد أن يكون معجزة .. إن الله تعالى ذكر نبأ سحرة فرعون ليبين الفارق بين المعجزة و*****. أما المسيخ الدجال فلا يزال السؤال قائمًا ما الذي يجعلني أؤمن بموسى لمعجزاته، وعيسى لمعجزاته، وصالح لمعجزاته، وسليمان لمعجزاته، وداود لمعجزاته، وأكفر بالمسيخ الدجال برغم معجزاته؟! إن مشكلة العقل المسلم أنه لا يربط بين الجزئيات، الفهم والفكرة عنده عبارة عن جزر منفصلة، فمثلًا يجب إدراك العلاقة بين الكرم والإسراف، أو بين العفو والانتصار للنفس، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى]. (1/129) ________________________________________ والإجابة واضحة وهي أن كل نبي من الأنبياء حين قدّم معجزته قال إن هذه المعجزة ليست من عندي وإنما هي من عند الله، وكل نبي عندما قدّم معجزته قدمها على أنها دليل على النبوة، أما المسيخ الدجال فإنه يدعي الألوهية، وليس النبوة، فيقول أنا الله، ويدعي أن المعجزة من عند نفسه، أما الأنبياء فهم يختلفون عنه فمثلًا سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام يُروى عنه أنه كان إذا خلق الطير ونفخ فيه وصار طيرًا وطار هذا الطير فإنه يموت بعد يوم واحد، فاشتكى عيسى عليه السلام إلى الله عز وجل، وقال يا رب إن الطير التي أخلقها تموت في يوم واحد، وبقية الطير تحيا، فقال له الله عز وجل: يا عيسى إني أذنت لك بخلقها ولم آذن لك برزقها، قال تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، إنك خلقتها، لكنني لم آذن لك أن تحفظ حياتها وأن ترزقها، وأن تكفل استمرار عيشها، فماتت. أما المسيخ الدجال فإنه يزعم شيئًا لا يناسب المعجزة، وهو أنه إله .. فما الفرق؟ الفرق أن سيدنا عيسى كان يخلق من الطين كهيئة الطير، ولكن يظل ضعيفًا، يجتمعون عليه يريدون قتله فيرفعه الله إليه، ومحمد (1/130) ________________________________________ - صلى الله عليه وسلم - عنده معجزة ولكن ينام وينسى ويُجرح، ويجوع، وفيه ضعف .. إذن قمة المعجزة ووجه العظمة فيها أنها قوة مع ضعيف، يرسلها الله عز وجل لضعيف لتكون آية قوة خارقة، لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها، فيقال إن هذا الضعيف معه آية قوة، وهي ليست من عنده، وإلا كان قويًا في كل شيء، إنما هي من عند الله فآمنوا بالله، فهي دليل إيمان بالله، أما المسيخ الدجال فيقول هذه معجزتي، وأنا الله، فيرسل الله عليه من يكشف أنه كذاب ودجال وأنه ضعيف، وهو سيدنا عيسى، الذي يقتله برغم قدرات المسيخ الدجال الكبيرة. إن المعجزات قد تكون تقدمًا علميًا، وقد تكون تسخير جن أو أي شيء آخر، وبرغم قدرة المسيخ الدجال فإن فيه آية الضعف، عينه طافية ممسوخة، أعور، وعلى جلده نتوءات، ومكتوب على جبينه بنتوء الجلد أنه كذاب، يقرؤها كل أحد .. وعليه فكل رسول عنده معجزة قوية وهو شخص ضعيف، ولذلك لا يقول أنا رب، وإنما يقول أنا عبد وأنا ضعيف والله هو القوي وهذه المعجزة إنما هي من عند الله فاّمنوا بالله. (1/131) ________________________________________ ثم تأتي مسألة الكرامات والأولياء، ونحن نعلم أن في الكرامة في الإسلام ثابتة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كان في الأمم قبلكم محدثون (أي أصحاب إلهامات) وإن يكن منهم أحد في أمتي فعمر بن الخطاب"، وهناك أناس لديهم كرامات، مثل من يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، أو يسمع إنسان كلامًا من شخص في بلد تبعد عنه آلاف الأميال، لا مانع من وجود ذلك ومن حدوثه، بل إن القرآن ذكر عن العبد الصالح في سورة الكهف الذي ذكرت السُّنة أن اسمه (الخضر)، هذا العبد الصالح رأى ولدًا يلعب في الشارع فرأى أنه سيكون عاقًا وكافرًا في المستقبل، بإذن من الله تعالى وعلم أطلعه عليه، قال تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)} [الكهف] فقتل الخضر هذا الغلام، فهذه كرامة منحها الله لرجل صالح، آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا، قالوا اسمه العلم اللدني .. إذن الكرامة ثابتة، بل إن الحضر عليه السلام رأى أمورًا بإلهامات من الله كثيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "رحم الله موسى لو صبر لرأى عجبًا". ونعلم أنه ورد عن بعض الصحابة أنهم كانت تأتيهم قطوف العنب وما بمكة كلها حبة عنب واحدة، ومريم كانت تأتيها الفاكهة في غير (1/132) ________________________________________ أوانها، قالى تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]. إذن ما الفرق بين المعجزة الخاصة بالنبي والكرامة الخاصة بالولي؟ هناك فارق كبير، وهو أن المعجزة تأتي على سبيل أنها خارقة لقدرات البشر، معجزة لقدرات البشر، لا يستطيعونها، ولا يستطيعون تقليدها، ويستطيع النبي الذي سيقت معه هذه المعجزة أن يقدمها كلما طلبها كدليل على دعوته. فسيدنا موسى لما جُمع له *****ة قال لهم موعدكم يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضحى، وذهب ومعه العصا، قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه]. أما الكرامات فإن صاحبها لا يملكها، ولا يقدمها على سبيل الإعجاز، ولا على سبيل التحدي، فالسيدة مريم لم تقل إنني سآتي لكم بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف لتصدقوا كذا، لا .. وإنما الكرامة نوع من الإكرام لولي من الأولياء، نوع من إفاضة الخير (1/133) ________________________________________ عليه، أو ليرى الناس ذلك، ولذلك سيدنا عمر بن الخطاب قال: لو وجدتم الرجل يطير في الهواء أو يسير على الماء فحكّموا عليه كتاب الله .. لماذا؟ لأن هذه الكرامات لا تجعل لصاحبها استثناء، مثل من يقال له لماذا لا تحج؟ فيقول: حي .. هناك قوم يريدون الحج فيذهبون إلى الكعبة، وقوم يريدون الحج فتأتي الكعبة إليهم .. ما هذا؟ إنه نقض لفريضة الحج وركنية الحج. لا يصلح أن تنقض فريضة الحج ولا ركن الحج، وإنما الكرامة كرامة لا تُوظف ولا تُستغل ولا يُستفاد منها .. لا تُستغل في دعوة فلا يقال عنها إنها على سبيل التحدي، كما ذكرنا عن مريم أنها لم تقل إنني سآتيكم بالفاكهة فآمنوا معي، لا .. وإنما هي كرامة لمريم، والصحابي الذي كانت تأتيه قطوف العنب وما بمكة حبة عنب لم يقل إنني أفضل منكم، وعمر بن الخطاب الذي سمع أو رأى الجيش بقيادة رجل اسمه سارية، رآه من بعيد والجيش في الشام، وسيدنا عمر في المدينة، ورأى الجيش يكاد تقع به الحيلة، فقال عمر: يا سارية، الجبل الجبل .. أي الجأ إلى الجبل، وإذا بسارية الشام يسمع صوت عمر ويفعل هذا، إنها كرامة لعمر وكرامة لسارية، ولم يقل أحد (1/134) ________________________________________ والله أنا أفضل من كذا، وإنما عمر بن الخطاب كما يروون حين قال كلامًا لا يعجب إحدى النساء قامت المرأة وقالت: لا ليس لك هذا، أيعطينا الله ويمنعنا عمر، ولما طلب أن يجلد أكثر من الحد قام له عليّ وقال له: ليس لك هذا، وإنما الحدود يشرعها الله عز وجل، وعندما أخذ يقول اسمعوا وأطيعوا، قام له واحد وقال: لا سمع لك ولا طاعة، لماذا؟ لأن قماش ***ابه أكثر، فمن أين أتى به؟ فلابد من تحكيم شرع الله في أصحاب الكرامات .. إذن نحن نصدّق ونؤمن بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم وبمعجزات الأنبياء جميعًا؛ لأنها تساق على سبيل التحدي، ولا أحد يستطيع أن يتعلمها، ولأنها تُعجز قدرات البشر أن يأتوا بمثلها، وأنهم ممكنون منها من أجل نصرة الدعوة. أما ***** فعلم يُتعلم وتسخير للجن، والجن يفعلون هذا مع البشر وليس في هذا أي إعجاز، أي أحد يمكنه أن يتعلم الطلاسم من الجن وهؤلاء كفار، يدخلون النار ويُعذبون، وبالنسبة للمسيخ الدجال فإنه لا ينطبق عليه وصف المعجزة، لأنه متلبس بالضعف والنقص، ومع ذلك يدعي الألوهية. فالمعجزة حق، والإيمان بالنبيين حق .. (1/135) ________________________________________ أسأل الله عز وجل أن يأخذ بأيدينا إليه أخذ الكرام عليه برحمته وفضله ومنّه وإكرامه ورضوانه، وأن يجعلنا من الذين يستبصرون بدينهم، ومن الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. (1/136) ________________________________________ العلاقة بين القدر والدعاء (1/137) ________________________________________ العلاقة بين القدر والدعاء من الأمور التي يوجه الناس أسئلة بشأنها إلى العلماء وإلى الدعاة في كل مكان ما يتعلق بالموقف من القدر والدعاء. القدر ينزل من عند الله عز وجل، والله له قدره، فيمرض هذا الإنسان ويطول مرضه، أو يمرض هذا الإنسان ويقصر مرضه، فأين الدعاء إذن؟ إنني إذا دعوت الله وقلت: يا رب اشفني فشفاني، فكان معنى هذا أن القدر الذي قدره الله على الإنسان أن يطول مرضه لا معنى له، وقد رد هذا المرض، وارتفع القضاء .. وإذا كان الدعاء لا يؤدي إلى نتيجة فمعنى ذلك أن الدعاء لا قيمة له، ولا عبرة به .. بل القدر هو الذي ينفذ .. وتأتي آيات تؤكد ذلك، إذ تؤكد أن قدر الله ماض، وأن قدره لا راد لقضائه. إن المسألة ليست كذلك بالمرة، وإنما هي إرادة الله للبشر .. والسؤال: ما هي إرادة الله للبشر؟ (1/138) ________________________________________ إرادة الله للبشر أن يستقيموا، وأن يعبدوا الله، وأن يتوبوا إلى الله .. فالنبي- صلى الله عليه وسلم - يقول: "الدعاء هو العبادة" (رواه الترمذي). إذن النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول لنا ما من مشكلة نتعرض لها حتى ولو بسيطة إلا وحلها الدعاء. وكما ورد في الحديث أن الله تعالى يحب العبد اللحوح في الدعاء، ويغضب الله على العبد الذي لا يسأله، وإرادة الله- عز وجل - أن يحرك في المسلم نزعة التوجه إلى الله، ونزعة اللجوء إلى الله. ونحن في العصر الحالي الذي نعيش فيه نجد معظم الناس مشغولين بموضوع الأخذ بالأسباب، وبأمور الدنيا المادية والمصلحة الشخصية، مشغولين بالأسباب، ولكن أي شخص هذا الذي عندما تحدث له مشكلة يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني ألجأ إليك في هذا الأمر يا رب العالمين، اللهم إني أستغيث بك؟ إنها مسألة نادرة إلا من رحم الله .. يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]، ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، فإرادة الله هي الخير. فأراد الله تعالى لسهام القدر أن يستقبلها المسلم بالدعاء، ولذلك قال تعالى على بعض الناس الذين إذا انقطعت بهم الأسباب دعوا الله: (1/139) ________________________________________ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22] ليس أمامه سبيل حينئذ {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. فجعل الله القدر لكي يشعر الإنسان بحاجته إلى الله أحيانًا، لأن القوة أحيانًا تسبب الطغيان، ألم يقل فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29] وقال {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات]، لكنه عندما وجد نفسه يغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]. إن فرعون أعلن إسلامه نتيجة هذا الاعتصار، صحيح كان الأوان قد فات، فالله سبحانه وتعالى قال له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس]، إذن كانت نتيجة ما حدث له أنه لجأ إلى الله .. وهذا حال فرعون وغيره كقارون، أما حال المسلم الصالح الذي ينسى الله فإن الله تعالى يرسل إليه ما يذكره، فجاء القدر من هذه الناحية .. وهناك اختلاف بين القضاء وبين القدر، يعني القضاء والقدر ليسا معنى واحدًا، وإنما الله تعالى قد يبرم أمرًا أن يمرض فلان، ثم ينزل المرض فعلًا، فقبل نزول المرض هناك أمر قرره الله، وبعد نزوله نفذ (1/140) ________________________________________ هذا الأمر، فهما مرحلتان وليسا مرحلة واحدة، فإن الله - سبحانه وتعالى- وهو يقدّر القدر قضى- سبحانه وتعالى- على هذا القدر بأن يكون له ما يرده، يُنزل الله القدر فيرجع القدر ويتوقف، هل توقف رغمًا عن الله؟ كلا وحاشا لله .. إنما هو توقف بإرادة الله للقدر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرد القدر إلا الدعاء" (رواه الترمذي)، ليحيي قلب المؤمن باللجوء إلى الله، وبالدعاء إلى الله، حيث لا يرد القدر إلا الدعاء. فإذا نزل القدر بمرض مثلًا ثم قلت: اللهم اشفني، فشفاك الله عز وجل فقد أراد الله تعالى لهذا القدر أن يتوقف عند هذا الحد، ويأتي قائل ويقول: ولكن الله كان يعلم أن المرض سوف يستمر يومين ثم أدعو فيستجاب لي، فهو أمر مكتوب من البداية .. هناك فارق بين العلم وبين الجبر .. يعني أن يعلم الله -سبحانه وتعالى- أن فلانًا سيمرض ثم يشفى، غير أن يكتب عليه أن يمرض أبد الدهر، هذا شيء وهذا شيء .. فمثلاً، لو أن مدرسًا في مدرسة قال لتلميذ: والله يا بني لن تنجح هذه السنة ولن تفلح .. ثم رسب هذا التلميذ، فليس معنى هذا أن المدرس هو الذي جعله يرسب، وإنما هو عرف من مستواه، وربما يجتهد هذا التلميذ يومين أو ثلاثة قبل الامتحان بعد أن تنتهي الدراسة ويذاكر وينجح .. (1/141) ________________________________________ جائز أن يذاكر الولد قبل الامتحان مباشرة ويتصادف قدرًا أن يأتي سؤال الامتحان فيما قرأه الولد .. وينجح .. أو أن يدخل الامتحان ويغش الإجابة وينجح بالغش، لكن إذا كان المدرس هو المراقب في لجنة الامتحان ومنع الغش، إذن وقتها لن يستطيع الولد أن يغش وسيرسب .. فليس معنى ذلك أن المدرس المراقب هو من جعله يرسب هنا تزايد قدرات المدرس فيصبح مدرسًا ومراقبا وإذا كان هذا المدرس أبا الولد فهو يعلم حاله في المنزل أيضًا فيصبح المدرس أبًا ومراقبًا، ثم مصححًا، فقدرات الله على البشر تجعلله يعرف ما يدور بخاطرهم، وما يحدث لهم. وقد ذكرت الأبحاث الطبية الحديثة اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين أنه حتى إذا حدث للإنسان سعادة أو شقاء أو رغبة أو تطلع يحدث تغيرا الدم، يعني أحيانًا يأخذون تحليلاً فيفاجؤون أنه حدثت أمور في الدم، حتى الماء، حتى كوب الماء أمامك شكل جزيئاته تتغير وحتى الشجر والنبات، يعني تبين أن هناك تغيرًا ماديًا في جسم الإنسان ودمه وفي الزرع وفي الحيوان نتيجة الأمور المعنوية. فكذلك الله- سبحانه وتعالى- يعرف سلفًا ما سيكون من البشر، كما لو دخلت أنا لمكان ليلًا ومعي كشاف وفتحته فعرفت الأماكن حولي، فلما عرفتها جئت في الصباح أعرف كل شيء؛ لأنني كشفت المكان بالليل .. (1/142) ________________________________________ فالله- عز وجل- يعرف هذا، ويعرف أن عبده فلانًا سيدعوه، والدعاء هو العبادة أو الدعاء هو مخ العبادة. إذن الله- سبحانه وتعالى - علم من عبده أنه سيدعوه، ومن لا يدعو يغضب الله عليه، وينزل قدره، ويستمر هذا القدر فيمرض هذا العبد أو يفقر هذا العبد أو كذا .. والسؤال: هل دائمًا يستجاب الدعاء؟ لا .. قد أظل أدعو، وأقول: يا رب اشفني .. اشفني .. اشفني .. ولا أشفى لا قدر الله، والسبب أن الدعاء له مواصفات إذا كانت صحيحة يستجاب له .. يقول تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وهذا وعد من الله، إذن ما الذي يجعل الدعاء لا يُستجاب؟ إن ما يجعل الدعاء لا يستجاب أن الله وضع للدعاء شروطًا، منها أن الله لا يتقبل الدعاء من قِبَل لاه غافل، أي من شخص- والعياذ بالله- يمسك بزجاجة الخمر ويقول: ربنا يهدينا يا سيدي، كلام يقوله دون أن يعزم، دون أن يوقر الله. وأنا أستشعر من هذا المعنى أن المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، كأنه يسخر من الله، يمسك بيده المعصية وهو يدعو الله- سبحانه وتعالى - أن يتوب عليه منها. إذن الدعاء لابد له من صفات، هذه الصفات أن يكون متوجهًا إلى الله وبانتباه القلب وأن يقلع صاحبه عما يناِقض هذا الدعاء وأن يختار (1/143) ________________________________________ أوقات الصلاح وأن يكون من أصحاب الطاعة والعبادة، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .. فنحن أحيانًا ندعو الله -عز وجل- بطريقة لا يكون الدعاء بها صحيحًا فلا يستجاب، وهناك أيضًا دعاء يكون ضد قدر الله، يعني مثلا لو أنا قلت: اللهم اهد الناس جميعًا، فهذه دعوة لا تصلح؛ لأن اللِّه قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] إنما الله تعالى شاء أن تكون له المشيئة، وأراد أن تكون لة الإراد، وأن يعطيهم الاختيار، فلا يأتي أحد في دعائه يريد أن يغير قدر الله، فيقول: يا رب اهد الناس جميعًا، لا .. لن يستجيب الله لك. ولذلك حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الذين يعتدون في الدعاء، وهو من يدعو بأمور لا تليق بالله عز وجل، لذا أحيانًا لا يستجاب للدعاء ولا يتحقق للإنسان ما يريده. وهذا حال من يدعو بأمور لا تليق بالله .. إذن لماذا لا يستجاب للذي يدعو بما يليق لكنه لا يستجاب له أيضًا؟ وهؤلاء نذكّرهم أنه عندما يأتيك ابنك الصغير ذو الثلاث أو الأربع سنوات، واضعًا على كتفيه ملابس تجعله مثل الخفاش أو الطائر أو (سوبر مان) ويريد أن يمشي فوق سور السطوح، ويطير في الجو، كما يطير (سوبر مان) في أفلام الكارتون، هذا الابن مهما بكى ومهما (1/144) ________________________________________ فعل فلن تسمح له أن يطير، رغم أنه قال لك: لا ... لابد أن أفعل .. أنا أريد، وأيضًا لو أرإد أن يمسك شيئا مثل الصودا الكاوية ظنًا منه أنها لبن فعندما تأتي الأم لتأخذها منه يبكي، ومهما بكى فالأم لا تعطيه الصودا الكاوية لأنها تحميه وتخاف عليه. إن الله تعالى قد يحمي عبده المؤمن .. فالله تعالى يقول: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} [الإسراء: 11] ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} أحيانًا يستجعل الشر {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] فالله رفيق بهؤلاء العباد، رحيمّ رؤوف، حنان منان، فيمنعهم هذا ويعطيهم بديلًا للشر الذي طلبوه. وفي الحديث القدسي أنه يستجاب للعبد بإحدى ثلاث، يعني الله تعالى يجعل الاستجابة بصورة من ثلاث صور .. الصورة الأولى: وهي المعروفة أن يعطيه ما دعا به .. يا رب أعطني فيعطيه .. والصورة الثانية ألا يعطيه، ولكن يكشف عنه من البلاء بقدر ما دعا، مثل أصحاب السفينة وما فعل الرجل الصالح إذ أفسد لهم السفينة وخرقها وكانوا متضايقين، ولكن لو كانت سليمة لغصبت السفينة كلها، لأن الملك كان يأخذ كل سفينة سليمة اغتصابًا، ولكن لأنه أفسدها بقيت لهم، وبعد ذلك أصلحوها بلوحين من خشب. (1/145) ________________________________________ فهنا يستجاب للعبد بهذه الصورة بأن يكشف عنه من البلاء بقدر ما دعا. الصورة الثالثة أن يدخر الله له ثوابًا لا تدرك درجته يوم القيامة إلا بقدر دعائه. إذن أنا لا أدرك إلى أي مدى سوف يعطيني الله الثواب يوم القيامة، لأنه منع عني، مع أنه لم يمنع عني إلا رحمة بي ولمصلحتي، ولكنه يمنع عني لمصلحتي، ويأجرني على أنه لم يعطني ما طلبته .. هل هناك رحمة أوسع من هذا؟ ولذلك قد يدعو إنسان ويحترق قلبه، ويقول: يا رب، زوجني هذه الفتاة، وهو لا يدري أنها منحرفة مثلًا، أو لا يدري أنها ستكون عبئًا ثقيلًا عليه، أو ستكون هناك مشاكل، أو يقول: يا رب أعطني مالًا وفيرًا كثيرًا وهو الآن يرزق بمال قليل، ولكنه يعبد الله وحياته في طاعة، ولكن إذا رُزق بمال كثير ربما يطغى، وابنه يشرب مخدرات والآخر خمرًا وهو نفسه يترك الصلوات .. فالله يحمي عبده المؤمن بأن لا يعطيه ما سأل .. إذن إذا قدر الله أن يستمر المرض أو يستمر الفقر فإن هذا هو الخير، فقد أكون الآن فقيرًا، ولكن أقول: اللهم كف الفقر عني، اللهم إن عافيتك أوسع لي، اللهم رد الدين عني، فيتوقف، فينزل المرض أو الفقر، ولكن الدعاء يوقف استمرارهما. (1/146) ________________________________________ ولذلك ينبغي ألا يعلق العبد على شيء يجهله، الله يعلم الذي سيحدث ولكن أنت مكلف، فمثلًا أنا أتوقع أن هذا الولد سيكون الأول في الثانوية العامة، لأنه متفوق وذكي وممتاز .. فهل يتوقف الولد ويقول: لن أذاكر؛ لأنه متوقع لي أن أكون الأول على الثانوية العامة .. أم يأخذ بالأسباب لأنه يعرف أنه سيصل إلى هذه النتيجة بتوقع أستاذه له لما فيه من صفات الخير؟ فكذا حال العشرة المبشرين بالجنة، لما علموا أنهم مبشرون بالجنة؛ لأنهم يجتهدون في العبادة ويطيعون الله ويحبون الله ويتوجهون إليه زادوا من ذلك كله. فأنت كذلك، علم الله في علمه أنه سيشفيك بما توجهت به، لكن بالدعوات، وبالصدقات وبكذا وبكذا؛ لأنك أنت لا تعلم ما هي الوسائل التي من أجلها علم الله أنه سيشفيك، ولكن أنت تريد أن تتحدى القدر، تقول: طالما علم الله أنه سيشفيني فلن أتصدق ولن أدعوه، وهذا إنسان يحادد الله، ويبارزه، ويتحداه، حاشا لله. لذلك إذا علم الإنسان من قدر الله شيئًا فيعلم في ضوء القدر، فما بالك أنه لا يعلم، من أدراك ما هو القدر؟ فإذا علم العبد قدر الله - عز وجل- له فإنه ينبغي أن يستحي من الله، ولا يزداد بطرًا، فالنبي- صلى الله عليه وسلم - لما علم أن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، شعر بأنه يريد أن يتأدب مع الله، (1/147) ________________________________________ وأن الله- سبحانه وتعالى- قد أحسن إليه إحسانًا كبيرًا، فيقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا .. يعني ألا أشكر نعمة الله- عز وجل- على ذلك. ونحن نعلم أن كل إنسان يريد أن يكون غنيًا، ولديه زوجة جميلة، وعنده أولاد كثيرون صالحون ويعمل في وظيفة جيدة وكذا وكذا .. يريد كل شيء، والله سبحانه وتعالى - يريد بالعبد أن يكون عبدًا صالحًا .. وقد رأيت بعض الناس ممن أرزاقهم قليلة على صلاح، فإذا زادت الأرزاق فسدوا، والله تعالى يقول في القرآن: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة] .. لذا اعلم أن الله يريد بك الخير، ويريد بك اليسر، ويريد أن يتوب عليك، وأنه كتب قدرًا وأنه جعل الدعاء يرد القدر، وأنه يصلح حال عبده المسلم، لهذا لابد أن نؤمن بالله وبعلمه للغيب وبإرادته للخير .. (1/148) ________________________________________ الطلاق (1/149) ________________________________________ الطلاق عادة ما يقرأ الإنسان القرآن، وهو متأثر بثقافة العصر الذي يعيش فيه، فيسمع آيات الله تُتلى عليه، وفي خلفية ذهنه ما يدور حوله من ظروف، وأحداث كثيرة، ومن هذا المنطلق يحدث أحيانًا شيء من التقابل بين ثقافته التي يعرفها، وبين القرآن الذي يتلقاه، وهذا هو السبب في أن القرآن قال عن الذين يعرفون ثقافة عصورهم، ولا يعرفون القرآن: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم] وهو يلوم على الكفار أنهم يعرفون ثقافة العصر، ولا يعرفون ثقافة الإسلام .. أما الإنسان إذا عرف ثقافة الإسلام، ولم يدرك ثقافة العصر فهو أيضًا محل لوم ومعاتبة من هذا الدين؛ لأن الإسلام لا يعرف المسلم الأبله .. المسلم الغافل الذي لا يدرك ما حوله .. لقد كان مما أوحاه الله -عز وجل- إلى المؤمنين، وإلى النبيين، وإلى المرسلين، وجاءت في صحف إبراهيم أن المؤمن عالم بزمانه .. مقبل على شأنه .. فالمسلم لابد أن يجمع بين ثقافة العصر الذي يعيش فيه وبين معرفته بدينه؛ لأنه يريد أن يصلح هذا العصر بهذا الدين. (1/150) ________________________________________ فلابد أن يجمع المسلم بين ثقافة الدين الذي يصلح به، وثقاقة العصر الذي يصلحه .. فإن امتلك ثقافة الدين، ولم يدرك ثقافة العصر فشل، وإذا أدرك ثقافة العصر، ولم يملك ثقافة الدين ضل، ولذلك نحن متعبدون بأن نجمع الثقافتين معًا. وكثيرًا ما يأتي إنسان فيشكو من خاطر خطر له فيقول مثلًا .. يعني الحقيقة الذي يقرأ آيات القرآن قد يشعر أن الإسلام يسهل الطلاق .. يجعله سهلًا جدًا .. الرجل يستطيع أن يتخذ قرارًا بكلمة من أربعة حروف .. أنت كذا .. صارت زوجته مطلقة، ولا يجعله مقيدًا بشيء، صحيح هو مطلوب منه أن يشهد .. لكن إذا طلق بدون شهادة وقع الطلاق .. صحيح أنه مطلوب منه أن يمسك زوجته .. لكن إذا طلق تطلقت زوجته .. يعني مسألة سهلة لا يلجأ إلى قاض، ولا يلجأ إلى ... يعني كيف؟ بينما المفترض أن الإسلام لا يسهل الطلاق، ولكن بالعكس يريد أن يحافظ على الحياة الزوجية .. المفترض أن الإسلام يحترم الحياة الزوجية، والرابطة الزوجية، ويقدسها، وفي الحقيقة نحن نرى في العصر الحديث يقولون: إن النظم الحديثة تقيد الطلاق .. يعني من يريد أن يطلق يقدم طلب طلاق، ويرفع قضية طلاق والقاضي هو الذي يقيم الطلاق .. يعني هناك نظم تجعل الطلاق أصعب، وهذا أنسب لرعاية الحياة الزوجية وأواصرها، وعلى هذه الأوتار يعزف الذين يريدون أن يحكموا بلاد المسلمين بشرائع غير المسلمين، يعزفون (1/151) ________________________________________ على ذلك، ويقولون: الأسر صارت غير متزنة، وصارت رعناء .. وهكذا. ونحن نعلم أن شرع الله جليل .. كل هذه النظم تنطق بآيات فشلها لصالح الإسلام الذي ينطق بآيات حكمته وفضله .. إن الإسلام ضد الطلاق فعلًا، وبالفعل يحاول أن يقاوم انفصال الحياة الزوجية، هذا صحيح بلا أدنى شك، ويرفض أن يكون انفصام عرى الزوجية سهلًا .. بل إنه يبغض الطلاق، ويكرهه، ولا يحبذه، ويحاول أن يبقي الحياة الأسرية مستقرة، ونسب الطلاق في المجتمعات الإسلامية قليلة جدًا إذا قورنته بمثيلاتها في المجتمعات الأخرى، ولكن إذا حدثت حالة الضرورة وإذا وقعت في الحياة الزوجية ما سيجعلها سعيرًا وجحيمًا لا يطاق، كيف نبقي حياة يمكن أن تدمر البشر سواء الزوجين أو الأبناء أو المجتمع كله لصالح فكرة لم تؤد إلى أي خير؟! ونحن نرى في المجتمعات التي تحظر الطلاق وتمنعه حيث يشترط ألا يكون هناك طلاق إلا إذا وقع أحد الزوجين فى الزنا .. فنجد أن الزوج يضطر أن يتهم زوجته وهي بريئة أنها وقعت في الزنا أو الزوجة تأتي بشهود زور على زوجها ليشهدوا أنه وقع في الزنا .. حتى يتمكن أحدهما من الطلاق. تجد الأبناء يرون أباهم وأمهم يتراميان بالزنا، وتتعكر سمعة الأبناء، ويلازمهم العار .. لماذا؟ لأننا نريد أن ننفصل فقط، فنحول العار للأبناء، وفضيحة في المجتمع بالباطل قبل أن تكون بالحق. (1/152) ________________________________________ لذلك بعض الديانات كالنصرانية والتي يعتبر البعض أن من مفاخرها أنها تحظر الطلاق هي في حقيقة الأمر حولت حياة الناس إلى جحيم؛ ولذلك انظر إلى دين الله وهو حكيم، وهو فوق العبيد .. الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا طبعًا تحظر الطلاق، وهي عندما فتحت باب الطلاق وأباحته بشرط تقديم طلب للكنيسة قُدم إليها مليون طلب طلاق في الساعة الأولى التي فُتح فيها باب تقديم طلبات للطلاق .. مليون طلب في ساعة واحدة في أوروبا؛ لقد أدى حظر الطلاق إلى وقوع حوادث إطلاق رصاص، وقتل، والولايات المتحدة الأمريكية على ما تزعمه من تقدم فإن زوجة تُقتل كل ثلاث دقائق .. فهل يا ترى نفتح منفذًا .. طبعًا لسنا نحن من يفتح هذا المنفذ وإنما رب العالمين هو الذي يقدّر .. لكن نحن نتذوق نعمة الله .. نتذوق آية الله .. نتدبر آية الله .. فهل يُفتح باب الطلاق ليكون منفذًا للخروج من حياة تؤدي إلى قتل، وإلى إفساد، وإلى رمي بالزنا، أم نجعل الطوق محكمًا بحيث تضطر الأسر أن تتفجر من داخلها .. بل والأبناء كذلك. إن كل أبحاث علم الاجتماع .. بل وعلم التربية، وعلم النفس أيضًا ترى أن الطفل الذي يتربى في أسرة انفصل فيها الأب عن الأم خير له من أن يتربى في أسرة الأب والأم معًا، ولكنهما يتشاجران بصفة مستمرة .. مجرد مشاحنات ومشاجرات مستمرة .. هذا ضرر على الولد .. لكن الأضر ما هو؟ (1/153) ________________________________________ إن الذي شرع للبشر هو الذي خلقهم، ولذلك قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]، وقال في سورة الرحمن {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن]. أولًا ثم قال {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} [الرحمن]، مع أن الترتيب الطبيعي أن الرحمن خلق الإنسان، ثم علمه القرآن .. إنما يقول: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} لأن القرآن هو الرسم الذي خُلق الإنسان طبقًا لأحكامه كالرسم الهندسي أو الرسم الإنشائي لعمارة، كأن ترسم العمارة، وتحدد الحديد، والخرسانة، والأعمدة، وغير ذلك، ثم تبني البناية على مقتضى الرسم الذي يكون مثل الكتالوج .. أنا سأصنع سيارة يرسمها المهندس، ويضع المقاييس والأوزان والأطوال ثم تُصنع السيارة .. فالله يريد أن يقول: إنه علم القرآن، وعلى مقتضى علم القرآن خلق الإنسان .. فأصبح الإنسان لا يصلح حاله إلا على هذا النحو. لذلك فإنه لا توجد علاقة واحدة على وجه الأرض كلها لا تنفصل .. لا توجد، نجد البنت تظل في بيت أبيها 16 أو 18 سنة أو غير ذلك ثم تنفصل عن أبيها وأمها، وتتزوج .. والإخوة يكونون مع بعضهم البعض في بيت واحد ثم يذهب كل واحد في طريقه ليبني أسرة خاصة به، وكذلك الشركاء في العمل. (1/154) ________________________________________ إذن كل العلاقات إذا كانت طيبة بينها وبين بعضها تتواصل، وإذا حدثت فيها مشكلة تنفصل، فإذا جاءت العلاقة الزوجية على العكس من ذلك فإنها تكون قد صادمت حياة البشر .. وصادمت سنة البشر .. ولذلك فإن الإسلام مكن من فصم عرى الزوجية إذا استحكم هذا الخلاف، مكن الرجل وكذلك مكن المرأة من ذلك .. المرأة تلجأ إلى الخُلع، بأن تقول: أنا ليس عندي سبب للطلاق، ولكنني أريد أن أطلق؛ لأنني لا أحبه؛ لأنني أكره أن أعامله معاملة سيئة .. لا أستطيع .. فتحصل على الطلاق حتمًا، والرجل يريد أن يطلق فيطلق. إذن مكن الإسلام الرجل والمرأة من الطلاق، فالمسألة فيها عدالة .. فإذا طلبت المرأة الطلاق تتحمل تبعاته المالية، وهنا تتنازل المرأة عن حقوقها المالية، وإذا طلب الرجل الطلاق يتحمل هو تبعاته المالية .. حيث يدفع المؤخر، والنفقة، والمتعة وما إلى ذلك. إذن هنالك عدالة .. هذا له حق، وهذه لها حق .. هذا يتحمل تكلفة قراره، وهذه تتحمل تكلفة قرارها .. إلا أن الإسلام في حقيقة الأمر يقف موقف المقاوم من الطلاق، ونحن نعرف الرجل الذي جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول له: يا رسول الله أريد أن أطلق زوجتي .. قال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، وحين قالت الزوجة: لا أريده، وصممت على الطلاق، والزوج كان يحاول معها بكل قوة، قال الرسول - صلى الله (1/155) ________________________________________ عليه وسلم -: "ألا تعجبون من حب مغيث لبريرة، ومن بغض بريرة لمغيث، وشفع .. وقال لها: يا بريرة إن قبلت شفاعتي .. قالت: يا رسول الله تأمرني أم تشفع؟ [يشفع في عدم الطلاق] قال: إنما أنا شافع .. فقالت: لا .. [أنا مصممة] إنها هو شفع الإسلام" (رواه النسائي). إن الزوج إذا كان متضايقًا من خلق معين فكل النساء هكذا .. إن كرهت منها خلقًا رضيت منها آخر .. وبالمناسبة فإن العوج ليس عيبًا في المرأة، إنما هذا العوج مثل المصابيح المعلقة (كالنجف) تجدها معلقة في خطاف معوج، ولو كان الخطاف مستقيمًا لما استطعنا تعليق النجفة لذا لابد من اعوجاجه ليؤدي وظيفته .. فجعل الله المرأة عوجاء في قلبها وعاطفتها حتى تتحمل ولدها الصغير، وتتحمل أن يوقظها الصبي بالليل لترضعه؛ فهي لديها نزعة عاطفية شديدة، ولديها جموح يجعلها تتحمل مهماتها .. فهذا العوج ليس عيبًا فيها .. بل هو شرف لها .. فلو كان العوج بامرأة قليلًا كان ذلك شيئًا غير حسن وتصبح به معيبة؛ لأن العوج قليل .. وأنت أيها الزوج تريد هذا النزوع الشديد للقيام بمهماتها. وكذلك كلمة "ناقصات عقل ودين" ليست عيبًا في المرأة .. بالعكس ناقصات عقل ودين بشرع الله- عز وجل - ليست تهمة لها، وإنما هو لأداء وظيفتها ومهمتها. (1/156) ________________________________________ ولذلك فإن الإسلام ظل يكف هؤلاء عن الطلاق كفًا .. حتى إذا ما جاءت واقعة الطلاق، وحدثت فعلاً، ووقعت .. فإن الإسلام يحرص على أن يعيد الزوجين لبعضهما مرة أخرى لدرجة أن الله تعالى يقول في سورة البقرة في آية تزلزل السامع لها، وهي أنه إن حدثت واقعة أن رجلًا طلق امرأته .. ثم بعد ذلك تراءى له أن يردها إلى عصمته .. فأخوها قال له: لا يمكن .. أنا زوّجتك أختي، ثم رميتها .. ثم تريد أن تردها مرة أخرى؟ مستحيل .. لابد أن أعاقبك .. فإذا برب العالمين دفاعًا عن العلاقة بين الرجل والمرأة .. بين الزوج والزوجة، ولئلا تتعكر بكرامات العائلات، يقول تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ... } أي لا تجهدوهن، ولا ترهقوهن، ولا تحملوهن، وإنما {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] .. انظر للكلمات الضخمة {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 232] إنها كلمات شديدة جدًا في الدفاع عن العلاقة الزوجية. إن الله تعالى سمى العلاقة الزوجية ميثاقًا غليظًا {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، بل إن الله تعالى جعل الرابطة بين الرجل وامرأته رابطة بين الإنسان ونفسه، {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ (1/157) ________________________________________ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21] .. خلقها من نفس واحدة، وخلق منها زوجها ليسكن إليها. إذن المسألة كأنها وحدة الرجل وامرأته وحدة واحدة؛ ولذلك فالإسلام ليس كما زعم قائل أنه يسهل الانفصال والطلاق .. بالعكس .. إن الإسلام يحرم على المسلم أن يطلق زوجته وهي حائض، ويحظر عليه ويكره أن يطلق زوجته وهي طاهرة .. ما هذا؟ فالمرأة إما حائض وإما طاهرة، فكيف تتطلق إذن؟! السنة أن يتم الطلاق لمن أراد أن يطلق في طُهر لم يمسسها فيه لأن الإنسان إذا كانت زوجته في طهر، وحدث جماع بينه وبينها يكون قد قضى وطره وشهوته، وأصبح هادئًا فيصبح مستعدًا للمشاجرة وللغضب منها إذا ضايقته أو استفزته .. أما لو أنها منذ فترة وهي حائض وهو -كرجل- عنده نزوع للقاء الزوجي فإنه حينئذٍ لو أنه طلقها وهي حائض ربما يكون بالأمس أو أول أمس قد قضى وطره منها .. وهي في بداية الحيض ومزاجها متعكر .. فالزوجة مزاجها متعكر، والزوج قضى وطره فيصبح الاثنان لا يطيقان بعضهما فيكون الطلاق سهلًا. إنما الإسلام يقول: في الحيض .. لا .. انتظر .. فيظل ينتظر .. الزوجة حائض لأسبوع أو أكثر أو أقل، وحين ينتهى الحيض يكون الزوج (1/158) ________________________________________ متشوقًا للقاء زوجته .. فإن طهرت، ولأنه متشوق للقائها جامعها وهنا أصبح لا يجوز له أن يطلقها في الطهر الذي جامعها فيه .. فلو أنه مصمم على الطلاق نقول له انتظر حتى ينتهي الطهر الذي لقيتها فيه ثم انتظر حتى ينتهي الحيض، ويجيء الطهر الجديد. ثم لو وقع الطلاق فإن الزوجة تظل في البيت أمام زوجها ثلاثة أشهر تقريبًا، فتكون مطلقة طلاقًا رجعيًا .. تظل أمامك طوال هذه الفترة تراها وترى جمالها الذي كان قد أغراك يومًا .. فكأن الإسلام يغريك كي تتراجع عن قرارك، يقول تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وقد يقول زوج أنا لم أخرجها هي المصممة على أن تخرج، وهذا ليس من الشرع، إذن هي لا يحق لها أن تغضب، وتأخذ حقيبتها وتذهب لبيت أبيها .. تقعد في بيتها والزوج لا يستطيع أن يخرجها {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] فيكون الزوج والزوجة يتذاكران .. فربما يتراجعان، يقول تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. لذلك فإن الإسلام في كل هذا يحض الإنسان على ألا يقع منه الانفصال .. فإن وقع فإن أمامه فرصة المراجعة .. ثم لننظر إلى آيات القرآن التي جاءت في سياق آيات الطلاق .. اقرءوا سورة الطلاق وسورة البقرة، ستجدون آيات الطلاق فيها كلام (1/159) ________________________________________ يخلع القلب، يقول تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10]، ويقول: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، ويقول: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، ويقول: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، ويقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. ولذلك جعل الأمر بضوابطه .. أما أن يقال: نريد أن نمنع، ونقيد .. فمعنى ذلك أننا نري أن نحرق مجتمعاتنا.- {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10]. وأخيرًا أريد أن أبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انفصلت ابنته على زوجها؛ لأنه كافر وهي مسلمة وهي بنت رسول الله، وزوجها حارب رسول الله في غزوة بدر، ووقع أسيرًا، وحاربه بالسيف، ولما أسلم الرجل أعاد النبي- صلى الله عليه وسلم - ابنته إلى زوجها دون مهر جديد، ولا عقد جديد، وإنما ردها إليه بالزواج الأول؛ لأنه الرابطة الزوجية رابطة ضخمة وعظيمة. (1/160) ________________________________________ عدم فهم التعارض الموهوم (1/161) ________________________________________ عدم فهم التعارض الموهوم من الشبهات الضخمة التي تأتي بسبب عدم فهم آيات القرآن أن الناس يقولون أنتم معشر العلماء تقولون إن الإسلام يعد الناس بالرخاء ورغد العيش إذا أسلموا، يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66] .. يأكلون من فوقهم ومن تحتهم، أي يأكلون من فوقهم طيورًا ومما ينزل من السماء، ومن تحتهم مما يخرج من الأرض .. والواقع أن الأمة الإسلامية الآن على الخريطة بها نسبة كبيرة من الأرض الإسلامية التي تعاني الفقر، وتعاني الانهزام، والتبعية .. فأين إذن ارتباط الإسلام بالرغد؟ ويقولون إنكم قلتم لنا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، ألا تقولون ذلك يا دعاة الإسلام؟ تقولون: إن من أعرض عن الله فإن له معيشة صعبة وضنكًا، فما حال أمريكا (1/162) ________________________________________ وأوروبا والعالم المتقدم؟ إنهم يعيشون حياة رغدة واسعة مع أنهم كفار مشركون بالله بعيدون عن منهج الله، كيف إذن نفهم آيات القرآن في ضوء ما يحدث في الواقع؟ والحقيقة أن هذه الشبهة بالذات لا تدل فقط على أننا لا نفهم آيات القرآن، بل تدل على أننا أيضًا لا نفهم الواقع، كيف؟ مبدئيًا وقبل أن أتطرق للموضوع أريد أن أسأل: هل المسلمون يطبقون الإسلام؟ يقول الله- سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف] كيف يطبقون الإسلام ونجد في البلاد الإسلامية خمرًا وزنا وربا ونوادي القمار، وفيها مراهنات الخيل؟ هل تطبيق الإسلام يكون بمجرد أن أسماءهم في البطاقات وجوازات السفر أسماء مسلمين .. لمجرد أن أسماءهم هكذا. لو أننا فهمنا الواقع سنعرف أن المسلمين معظمهم مسلمون بالاسم، ولكن لا يطبقون الإسلام، والعبرة الآية هي بالإيمان الفعلي والتقوى الفعلية، وما دام الحرام عند المسلم حلالًا تصبح الآية التي تقول {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} غير مطبقة، وغير قائمة؛ لأنهم لا آمنوا ولا اتقوا. (1/163) ________________________________________ كذلك الواقع عند بلاد الكافرين، وكما ذكرت نحن لسنا فقط لا نفهم الإسلام .. بل لا نفهم الواقع، فهل أنتم تعتقدون أن الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم يعيشون تلك الحياة التي تصفونها بأنها رغدة؟ بالطبع لا .. إنكم لا تفهمون المسألة، إن المسألة كالآتي: إن القرآن لم يقل إن الكفار سيعيشون حياة فقر وضيق وضياع، وإنما قال العكس، وانظروا لمحكم القرآن، واعلموا أن ما يحدث ليس غصبًا عن القرآن وليس رغمًا عن القرآن وليس شيئًا استثناءً أو مخالفًا لما جاء به القرآن، يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [على الرحب والسعة] {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)} [هود]، سنجعلهم ينالون من الدنيا ما يشاءون، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ} [آل عمران: 145]، ويقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} .. والسؤال: ما حال الكفار كالأمريكيين والإنجليز والفرنسيين؟ إنهم قد كفروا .. ومع ذلك يعيشون في تقدم زراعي وصناعي، وما إلى ذلك. (1/164) ________________________________________ لقول الله تعالى في سورة الأنعام: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [نسوا أن يذكروا الله أصلًا، فهم كفروا ومسح الله على أذهانهم] {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى} [الأنعام: 44] أي النعم التي تريدونها ستجدونها. أيضًا يقول الله تعال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .. إذن الواقع الذي نعيشه مذكورا في القرآن .. وكذلك يقول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24]. لقد ظن أهلها أنهم متمكنون منها ومسيطرون عليها، وهذا الحال مع الأمريكيين والإنجليز وغيرهم إذ تمكنوا حتى وصلوا إلى درجة أنهم يتصورون أنهم متمكنون تمامًا من الدنيا. والسؤال الآن: ما هو تفسير قوله تعالى {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}؟ إن معيشة الضنك ليست بألا يعطيهم الله أموالًا، لقد أعطاهم الله المال والمنزل والملابس والزوجة والأولاد وكل أسباب السعادة، ولكنه سيظل محرومًا من السعادة فيكون لديهم كل أسباب السعادة ولكنهم محرومون منها، وهذه قدرة الله، يقول تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا (1/165) ________________________________________ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، إذن ستصبح أي نعمة كالأموال والأولاد عذابًا لهم وهذا بنص القرآن. قال تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)} [المدثر]، لكنه مازال يطمع في مشروعات استثمار وعنده آفاق للنمو، {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} [المدثر]. إذن ما يحدث في القرآن من أن الله يمد لبعض الكافرين مدًا لا يجعل هذا المد مؤديًا إلى الراحة النفسية، هذا ما قاله القرآن .. وانظر إلى الواقع في أمريكا مثلاً ستجد ذلك، إنها بلد تعيش في منتهى الرغد ومع ذلك لديهم نسب مرتفعة في الانتحار، لدرجة أنني كنت في ميناء في نيويورك وفوجئت أن المشكلة عندهم أن وثيقة التأمين على البواخر ارتفعت لأنه قد انتشر عندهم أن يستأجر 200 شخص باخرة ويذهبون في رحلة حتى إذا وصلوا لآفاق المحيط يربط كل منهم جسده بحبل وحجر كبير ثم يعدون 1، 2، 3 ويلقون أنفسم في الماء وينتحرون انتحارًا جماعيًا في المحيط ويتركون الباخرة في وسط المحيط. (1/166) ________________________________________ مجتمع لديه المال، والأرزاق، وتزداد نسب الانتحار بشكل جنوني .. حيث انتشر الانتحار في ألمانيا والسويد والنمسا انتشارًا غير طبيعي، لدرجة أن نسب الانتحار في استراليا عالية جدًا، مما أدى إلى أذى الأشخاص غير المنتحرين .. مثلًا شخص ينتحر بأنبوبة الغاز فيحدث حريق في البناية، فيكون المنتحر قد مات وسبب وراءه كارثة فقررت الحكومة أن تخصص أقسامًا في المستشفيات لمن يريد الانتحار .. هل هذه بلاد رغد ونعيم؟! انتشار القتل إن 60% من المدن الأمريكية لا يستطيع الإنسان السير في شوارعها بعد الساعة 3 عصرًا، وأنا رأيت بنفسي فيلادليفيا في ولاية بنسلفانيا شرق أمريكا حيث ترتفع نسبة القتل في المدارس، سواء الطلاب الذين يقتلون بعضهم أو يقتلون مدرسيهم، وانظر إلى الإحصائيات لتعلم ذلك .. أيضًا انتشار القتل بين الأزواج .. في أمريكا زوجة تُقتل كل 3 دقائق، كل 3 دقائق شخص يقتل زوجته، أو زوجة تقتل زوجها، هل هذا مجتمع؟! (1/167) ________________________________________ انتشار الاغتصاب إن عدد البنات الحوامل من آبائهم في بلد مثل ألمانيا مع أنه بلد لديه إباحية جنسية، أي أن من يريد أن يصاحب واحدة يصاحبها ويفعل معها ما يشاء .. ومع ذلك يغتصب الأب ابنته في البيت وتحمل منه، وتصبح نسبة عالية تهدد المجتمع .. لدرجة أن الأبناء المولودين من الزنا في ألمانيا أكثر عددًا من الأبناء المولودين من زواج شرعي .. انتشار الاكتئاب بالنظر إلى إحصائيات نسب الاكتئاب في هذه الشعوب، سنجد أن عدد المكتئبين في الشعب السويدي أحيانًا يزيد عن عدد الأشخاص العاديين وأحيانًا يقل، إن المكتئبين أكثر من غير المكتئبين، علمًا بأن السويد كانت أعلى بلد في مستوى دخل الفرد في العالم لسنوات طويلة، وكذلك أعلى نسبة في الاكتئاب. انظر إلى قدرة الله عندما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا، فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم .. المال يزيد والاكتئاب يزيد .. (1/168) ________________________________________ لذا فقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، أقول إن الناس في إنجلترا وفرنسا وأمريكا وألمانيا يعيشون هكذا برغم كل الرغد الذي نراه، والإنسان المسلم هو المطمئن بالله، ولكن المشكلة عند المسلمين أنهم لا يتبعون سبيل الله، فنتيجة لهذا لا يشعرون بالنصر ولا بالأمن، ولكن إذا شعرنا بالنصر وبالأمن فإننا سنشعر بهما بسبب تطبيقنا للإسلام. إن المسلمين يفهمون أن رغد العيش في الدولة الإسلامية وفي الإسلام مرتبط فقط بعصر الخلفاء الراشدين، سبحان الله! فهذا اعتقاد خاطئ. لقد كانت عصور العباسيين التي أتت بعد عصر النبوة والخلفاء الراشدين والأمويين كانت عصورًا فيها ارتفاع في رغد العيش لدرجة أن الغنم كانت ترعى في أرض الشام لا صاحب لها .. ومن أراد أن يأكل يخرج ويحضر عنزة ويذبحها ويسلخها ويأكلها وتكون حلالًا له؛ لأنه قد فاضت الخيرات، وكانت المشكلة أن أموال الزكاة تُحمل على ظهور الجمال ويُسافر بها عبر البلاد ولا يجدون فقراء يأخذون الزكاة. وأيضًا عصر كعصر الأندلس التي ظل فيها المسلمون 800 سنة، ثمانية قرون، وهو خواتيم عصر الأمويين .. واقرأوا عن الرغد الذي عاشت فيه الأندلس لدرجة أن أحد الخلفاء الأندلسيين كانت زوجته (1/169) ________________________________________ تعيش في قصر ونظرت يومًا من شرفة القصر فوجدت الفقراء يدوسون في الطين ويلعبون، فطلبت من زوجها أن يكون لها في قصرها طين فأتى لها بتراب مزجه بالمسك، وبنى لها بركة من الطين الممسك حتى تنزل تلعب فيه .. الطين الممسك .. انظر إلى الترف الزائد، وكانت الأموال تفيض بهذه الصورة، وعلى مر التاريخ كلما عاد العالم الإسلامي إلى تطبيق الإسلام كلما زاد الخير فيه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، ويقول الله تعالى أيضًا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] .. والسؤال: هل هناك حقبة أو مرحلة في التاريخ زاد إيمان المسلمين ولكنهم ظلوا فقراء؟ لا .. قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] نبلوهم لنختبرهم، وعندما يثبت أنكم مؤمنون، يقول الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ولذلك خرج النبي- صلى الله عليه وسلم - يومًا في الطريق يمشي فقابل أبا بكر، وقابل عمر، فقال لهما: ما أخرجكما؟ قالا: يا رسول الله (1/170) ________________________________________ والله ما أخرجنا إلا الجوع، قالة وأنا والله ما أخرجني إلا الجوع، الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجد الطعام، وعندما يدخل النبى - صلى الله عليه وسلم - على فاطمة تقول له: يا أبت والله أنا جوعانة، فقال- صلى الله عليه وسلم -: والله يا بنية إنك لكريمة على الله، وإن أبإك لأكرم على الله منك، وإني ما ذقت الطعام منذ ثلاث، وأكل - صلى الله عليه وسلم - ورق الشجر من الجوع .. ألم أقل لكم إنه اختبار من الله لكي يصبر الإنسان قليلًا؟ وقد أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه من يعيش فسوف يرى الرجل يبحث عمن يأخذ منه صدقته فلا يجد. إذن لا نجعل الجهلة الذين لم يقرأوا على الإسلام إلا من كلام أعداء الإسلام يهزأون بعقيدتنا. إن الإسلام عندما مر بصعوبة وهي مرحلة اختبار ثم جاء عمر بن عبد العزيز- خامس الخلفاء الراشدين - أعاد الرشد للحياة حيث ارتفعت اقتصاديات المسلمين في سنتين فقط، وفي المقابل كان عمر بن الخطاب يتولى الحكم فتجد سنة من السنين سميت عام الرمادة، عام من المجاعة .. لكن المهم أن يستطيع الإنسان أن يصمد لربه، ذلك أن ما يتشارك به كل المسلمين هو الراحة النفسية .. (1/171) ________________________________________ تصور أنك تملك مزرعة فيها 10 آلاف رأس ماشية من بقر وجمال وجاموس .. لكنك لن تستطيع أن تأكل أكثر من نصف كيلو لحم فقط، أو كيلو، أيضًا أنت تعيش في قصر به غرف كثيرة ولك في كل مدينة قصر .. لكنك ستنام في مساحة متر في مترين .. ومعنى ذلك أن هذا الكثير لن تستفيد إلا بجزء يسير منه، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "من بات آمنًا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" .. (1/172) ________________________________________ الخاتمة وبعد هذا التطواف الذي حاولنا من خلاله أن نعرض لبعض الشبهات التي يلتبس فهمها على بعض المسلمين، ويستخدمها أعداء الإسلام لإثارة البلبلة والفتنة في نفوس المسلمين وصرفهم عن دينهم، فإننا نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على فهم كتابه الكريم وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يمكّننا من تبليغ هذا الأمر للناس حتى تتضح أمامهم حقائق الإسلام ناصعة واضحة؛ ليدرك الجميع عظمة هذا الدين الخاتم وخيريته لقيادة البشرية لما فيه سعادتها الدنيا والآخرة. (1/173) ________________________________________ http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة المصدر: ملتقى شذرات
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201) |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية (Tags) |
معاصرة, ردود, شبهات, وقفات, قضايا |
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع وقفات مع قضايا معاصرة شبهات ردود | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
مدار شبهات الطاعنين في القرآن | عبدالناصر محمود | شذرات إسلامية | 0 | 04-23-2019 07:36 AM |
مناظرة أهل البدع رؤية شرعية معاصرة | عبدالناصر محمود | شذرات إسلامية | 0 | 03-24-2016 07:55 AM |
رد شبهات حول عصمة النبي | عبدالناصر محمود | دراسات ومراجع و بحوث اسلامية | 0 | 01-21-2015 08:37 AM |
الرد على شبهات المستشرقين | عبدالناصر محمود | دراسات ومراجع و بحوث اسلامية | 0 | 11-22-2014 08:41 AM |
نظرة معاصرة إلى أيام العرب وحالة انفراط السلام | عبدالناصر محمود | مقالات وتحليلات مختارة | 0 | 07-03-2013 10:03 AM |