#8  
قديم 01-14-2015, 10:28 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة من مقامات النبوة (8) وللحب مداد

من مقامات النبوة (8) وللحب مداد
ـــــــــــــــــ


(نايف بن محمد اليحيى)
--------------

23 / 3 / 1436 هــ
14 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ




وللحبِّ مِداد
-----------

لقد كان لتلك التَّربية التي غرَسها رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظَم الأثَر في زرع أسمَى غايات الحُب، وأنبل معاني التضحيَة، وأرفع مقَامات الصدْق، في قلوب أصحابه له، فهم يتفَانون من أجل خدمَته، ويتنافسُون في سبيل رضاه، وهَا هو – عليه الصلاة والسلام – يأتي مثخَناً في جرَاحه، قد فَقَدَ جملةً من أصحَابه في غزوة أحُد، فلما أقبل على المدينَة وقد سبقته أنبَاء المعرك ة إليها، فخرج الناس يسْألون عن أولادهم وأزواجِهم وأقَاربهم، وكان من بين تلك الجمُوع امرأةٌ خرجت لكنها لغَاية أخرى، ومقصد مغَاير، فلما أقبلت أخبرت باستشهاد ابنين لها في المعركة، فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا، هو بحمد الله صالح على ما تحبين. قالت: أرونيه أنظر إليه! فما شفى غليلها إلا أن تنظر إليه بعينها وتطمئن على صحته، فأشاروا لها إليه فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل!! -أي: هينة يسِيرة.
فهل ترى في زخَارف الحب أصدق من هذا الحب؟! وأسمَى من هذه المشَاعر!! وأصدق من هذا الإيمان!!
وصورة أخرى يسطِّرها زيد بن الدَّثِنَة وهو يقدم للقتل في مكَّة، وقد خرج الرجَال والنسَاء لحضُور ذلك المشهَد، فيقول أبو سفيَان: يا زيد أنشُدك بالله، أتحب أن محمداً الآن عندَنا مكانك تضْرب عنقُه، وأنك في أهْلك؟! فأجَابه زيد بصَوت عَالٍ سمعه الجميْع: والله ما أحِب أن محمَّداً الآن في مكَانه الذي هو فيْه، تصيبُه شوكَة تؤذيه، وأني جَالس في أهْلِي!! وتعجَّب الناس أشد العجَب من هذا الجَواب، فقال أبو سفيَان لمن حولَه: ما رأَيتُ من النَّاس أحَداً يحب أحَداً، كحُب أصحَاب محمَّدٍ محمَّدا!!
قومٌ سمَت بهم العَوَارف والنُّهى
أن يرغبوا في كُل فَان قَالي
قوم أبَت بهم المفَاخر والعُلى
أن يشْتروا غَير النفِيْس الغَالي
وفي صُلح الحديبيَة أرسَلت قريش عُروة بن مَسعُود الثَّقفي ليفَاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى إليه بهَرته عظَمة الرسُول وحُبُّ أصحابه له، فرجع إلى قريش فقال: والله لقَد دخلت على كسْرى في ملكه، وقيصَر في ملكه، والنجَاشي في ملكه، ورأيت مُلوك اليمَن، والله ما رأَيت قومَا يعظمُون صاحبهم ويحبُّونه كحُب أصحَاب محمَّد لمحمَّد، والله ما التفَت في جهَة إلا التفَتوا جميعاً في الجهَة التي نظَر إليها، ولا تكَلم إلا سَكتُوا كأن على رؤوسِهم الطَّير، والله إن تنخَّم نخَامة إلا وقعَت في كف رجُل منهم فدلك بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمرهم ابتَدروا أمْره، وإذا توَضَّأ كادوا يقتتلُون على وَضُوئه، وما يحِدُّون إليه النظَر تعظيماً له [1].
وهكذا هي سواقي الإيمان إذا نبعَت في القَلب، أنبتَت جنَاناً حسَاناً من الكَمال، وثمَاراً يانعَةً من العَزْم، وقطُوفاً دانيَـةً من الحكمَة.
ألا يا مُحب المصْطَفى زد صَبابةً
وضَمِّخ لسَان الذكْر منك بِطيْبه
ولا تعْبَأن بالمبطلِين فإنما
عَلامة حُب الله حُب حَبيبِه
وهذا حَبيْب بن زَيد أرسَله النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسَيلمة الكَذاب في اليمَامة، فلما دخَل عليه وكلمَه، جمع مسيْلمة أهل اليَمامة وأوقف حبيْب أمَامَه ثم قال: أتشهَد أن محمَّدا رسُول الله؟ فقال: نعم، فقال أتشهَد أني رسُول الله؟ فقال حَبيب: لا أسمَع. فأعَاد عليه: أتشهَد أن محمدا رسول الله؟ فقال: نعم، فقال: أتشهد أني رسُول الله؟ فقال حَبيب: لا أسمع! فغضب مسيْلمة عند ذلك ودعَا السَّياف فأمره فقطَع يده ثم سَأله: أتشهَد أن محمدَا رسُول الله؟ فقال حبيب: نعم!! فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع!! فغضِب أشَد من غضبتَه الأولى وأمر السَّياف أن يقطع يده الأخْرى فقطَعها، وأهْل اليمَامة كلهُم ينظُرون ويتأمَّلون هذا المشهَد! ولكن من لم يجعَل الله له نُورا فما له من نُور. فأعَاد عليه مسَيلمة السُّؤال ثالثَة، فرد بنفْس الجَواب، فأمَر السَّياف أن يضرب عُنقَه، فقتَله، فطَار رأسه طَاعة لله والرَّسُول، ولكأن الحَادي يحدُو به فيقول:
واهتِف بهم أنا من جُنُود مُحمَّد
بايعتُه فيمَا يُريح ويتْعبُ
رايَاتهَا خفَّاقَة وسُيُوفها
صَفَّاقة وجُنُودُهَا لا تُغلَبُ
واهتَزَّت الدُّنيا لصَوت محمَّد
الله أكْبَر شَرقُها والمغْربُ
وهذا صدِّيق هذِه الأمَّة يلِح على رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهَروا أمَام قرَيش في الكَعبة لما بلَغ عددُهم ثمانيةً وثلاثيْن رجُلا، فقال: " يا أبا بكر إنَّا قليْل " فلم يزَل أبو بكر يلِح حتى ظهَر رسُول الله وتفرَّق المسْلمون في نواحي المسْجد كل رجُل في عشْرين، وقام أبو بكر في النَّاس خطيبَا، ورسول الله جَالس، فكَان أول خطيْب دعا إلى الله وإلى رسُول الله، وثَار المشْركُون على أبي بكر فوطؤوه وضَربوه ضَربا شَديدَا، ودنا منه الفَاسق عُتبة بن رَبيعَة فجَعَل يضربُه بنعلين ويحرفُهمَا في وجْهه، ونزَا على بطنه، حتى حَملُوه ولا يشُكون في موته وقال بنو تيم قبيْلتُه: والله لئن مَات لنقتُلن عتبَة بن ربيعَة، فجَعلوا يكلمُون أبا بكر حتى كان آخِر النَّهَار فأجاب، فكان أول ما قال: ما فعل رسول الله؟ فتكلموا عليْه وعَذلُوه وقاموا عنه، فجَاءته أمه أم الخَير بطَعَام فقال: إن لله علَي أن لا أذُوق طعَامَا ولا أشرَب شَرَابَا حتى أرى رسُول الله، فلما جَن الليْل وسَكن النَّاس خرج يتكئ علَى أمه وأم جَميْل بنت الخَطَّاب حتى أتى رسول الله فأكَب عليه يقبِّله، وأكب عليه المسْلمون يعانقُونه – رضي الله عنه وأرضاه –.
------------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (2581).

--------------------------------------
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-14-2015, 10:31 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة من مقامات النبوة (9) مقام الدعوة

من مقامات النبوة (9) مقام الدعوة
ــــــــــــــــ



(نايف بن محمد اليحيى)
--------------

23 / 3 / 1436 هــ
14 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ




مقَامُ الدَّعْوَة
----------

إذا أرَدت أن تعيش في ميدَان السبَاق والتضْحيَة، وأحببْت أن تشَاهد همَّاً رسَخ في القَلب، وتغَلغَل في الرُّوح، وسَرى في الأعمَاق، وتشَربه الجَسَد، وجَرى مجْرى الدَّم، وتخَلل شُريان العُروق، وقَام مقَام الطعَام والشَّراب، فاقرأ وقلِّب صفحَات سِيرة الحبيْب صلى الله عليه وسلم ودعْوته، وانظر إلى حيَاة حفَلَت بالصدْق، وامتَلأَت بالعَدل، وازدَهَرت بالبَذل، وتجَمَّلت بالكَرم، وأينَعت بالجُود، واكتَمَلت بهدَاية البَشَرية
تبْني الفَضَائل أبرَاجَاً مُشَيَّدةً
نصْب الخِيام التي من أََروَع الخيَمِ
إذا مُلوك الوَرَى صَفوا مَوَائدَهَم
عَلَى شَهِي من الأكْلات وَالأُدُمِ
صَفَفْتَ مَائدَةً للرُّوح مَطعَمُها
عَذبٌ من الوَحي أو عَذْب من الكَلمِ
إن كَان أحبَبْت بعْد الله مِثلَك في
بَدو وَحَضْر ومن عُربٍ ومن عَجَمِ
فلا اشتَفَى ناظِري من مَنظَر حَسَن
ولا تَفوَّه بالقَول السَّديْد فَمِ
لقد استَغَل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل لحظَة من لحَظَاته، وكُل فرصَة في حيَاته، لدَلالَة الأمة على الخَير، ودَعْوة الناس إلى الرُّشْد، وهدَاية البشَرية إلى النُّور، "فقد دعَا في جميع الأمَاكن والأحوَال والأزمَان، ودَعَا جميْع أصنَاف النَّاس، واستخدَم جميع الأسَاليب المشْروعَة.
دعَا فوق الجبَل، وفي المسْجِد، وفي الطَّريق، والسُّوق، وفي منَازل الناس بالموَاسم، وحَتى في المقْبَرة، ودعَا في الحَضَر والسَّفَر، وفي الأمْن والقتَال، في صحَّته ومَرضِه، وحينمَا كان يزُور أو يزَار. دعَا من أحبُّوه، ومن أبغضُوه وآذَوه، ومن استمَعوا إلى دعْوته ومن أعرضُوا عنها. وبعَث الرسَائل والرسُل إلى الملُوك والرؤسَاء، ممن لم يتمَكن من الذهَاب إليهم بنفسه" [1].
وتأمَّل كيف كَان يستغِل كل فرصَة ولحظَة وحدَث، كل ذلك تبليغَا لرسَالة الله، ورحمَة ورأفَة في الأمة أن تهْوى في شفِير جهنَّم، فهذا صبي يهُودي كان يخدِم النبي صلى الله عليه وسلم فمَرض ذاتَ مرَّة، فأتاه النبي يعُوده، فقعَد عند رأسِه وإذا هو في لحظَات الاحتِضَار وآخر سَاعَات الدُّنيا، فقال له: "أسْلِم" فنظَر الصبي إلى أبيه وهو عندَه فقال له: أطِع أبا القَاسم، فأسْلم، ثم مات فخَرج النبي صلى الله عليه وسلم مسْتبشِراً فرحاً وكأنما حيِزَت له الدنيَا بحذافيْرها وهو يقول: "الحمْدُ لله الذي أنقَذَه بي من النَّار" [2].
فانظُر كيف أنه اجتمَعت فيه خصْلتَان تجعلان المرْء لا يعبؤ به، الصغَر واليهُودية، إضافة إلى كونه على فراش الموت فلو أسلم لما انتفع به المسلمون بشيء، ومع ذلك لم يزدَري ذلك – عليه الصَّلاة والسَّلام – ولم يحتَقره بل حَاول حتى شَرَح الله صدرَه، ليعلم النَّاس أن هذا الدين قَام على طلب الهدى والخير لهم، لا لمصالح شخصية، أو مطامع سياسيَّة.
وفي موقف مشَابه يدخُل رسول الله على عمِّه أبي طَالب الذي آزرَه ونصَره، وهو في سَكَرات الموْت فلم يَيأس من دعوَته، مع أنه عَاش يدعُوه عشرَ سنين فلم يسْلم، فوقف على رأسِه وهو يقوْل: "يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله" فقال رأسُ الشرك أبو جهْل وعبد الله بن أبي أُمية دعَاة إبليس على أبواب جَهنَّم:يا أبا طالب أترغَب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسُول الله يعرضُها عليه، ويعودَان بتلك المقَالة حتى كان آخرَ ما قال: هُو على ملة عبد المطلب. ثم أنزَل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56] [3] ولم يكُن – عليه الصَّلاة والسَّلام – يحقِر أحداً أو يبْخل في علم على أحَد، ففي أحَد الأيام كان يسيْر على حمَارٍ له وقد أردَف خلفه عبد الله بن عبَّاس وكان غلامَا صغيرَا، فقال: "يا غُلام إني أعلمك كلمَات: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سَألت فاسأَل الله وإذا استَعَنت فاستَعن بالله، واعلَم أن الأمة لو اجتمعُوا على أن ينفَعوك لم ينفعُوك إلا بشئٍ قد كتبه الله لَك، ولوا اجتَمعوا على أن يضُروك، لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله علَيك، رفعَت الأقلام وجفَّت الصُّحُف" [4].
وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحَدث عن دعوته فيقول: لبِث رسُول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنِين يتبع الناس في منَازلهم في الموَاسم ومِجنَّة وعُكَاظ ومنازلهم في منى فيقول: "من يؤويني؟ ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة" فلا يجِد أحدا ينصُره ولا يؤويه، حتى إن الرجُل يرحَل من مصْر أو اليمَن إلى ذي رحمه، فيأتيه قومُه فيقولون له: احذَر غُلام قرَيش لا يفتنَنك [5].
وقال رجُل من كنَانة: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسُوق ذي المجَاز يتخللها يقول: "يا أيها النَّاس قولوا: لا إلَه إلا الله تفلحُوا" وأبو جَهل يحْثي عليه التُّراب ويقول: لا يغْوِيْكم هذا عن دِينِكم، فإنما يُريْد لتترُكوا آلهتَكم، وتتركوا اللات والعُزَّى، وما يلتفِت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [6].
وفي أحَد أسفَاره وهو يمشِي أقبَل عليه أعرابي فلما دنا منه قال له: "أين تُريد؟" فقال الأعرابي: إلى أهْلي. فقال: "هل لك إلى خَير؟" قال: وما هُو؟ قال: "تشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شَريك له، وأن مُحمَّدا عبده ورسُوله" فقال الأعرابي: هل من شَاهد على ما تقول؟ قال: "نعم هذه الشَّجَرة" فدعاها صلى الله عليه وسلم وهي على شَاطئ الوادي، فأقبَلت تخُد الأرض خدَّاً، فقامَت بين يديه، فاستَشهدَها ثلاثَا فشهدَت أنه كمَا قال، ثم إنها رجَعَت إلى منبتِها، فرجع الأعرابي إلى قومِه فقال: إن يتبعُوني أتيتُك بهم، وإلا رجَعت إليك وكنت معَك [7].
بل بلَغ من حرصِه – عليه الصلاة والسلام – أنه كان يرجُوا هداية أجيَال من آذَوه أشَد الأذَى وطردُوه وسخِروا منه، فعندما رجَع مردودَا من الطائف أرسَل الله له مَلك الجبَال فخَيره إن شَاء أن يطبِق عليهم الأخشبين جبَلي مكة فيموتوا فقال علَيه الصَّلاة والسَّلام: " بل أسْتَأني بهم لعَل الله أن يُخرج من أصْلابهم من يعبُد الله [8].
ولما تُوفي أحَد أصحابه ووضعوه ليُلحدوه في قبره، انتهَز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصَة، ولحظَة التأثر من أصحَابه، وفرصَة اجتمَاعهم، فوعَظهم موعظة جَليلَة عظيمَة وعلمهم فيها ما يحصل للميت من نَزْع الرُّوح وحضُور الملائكة، وصعُود الرُّوح إلى السَّماء، وماذا يحصُل له بعد مماته في قبره وسؤَال الملكَين له [9].
بل إنه – صَلَوات الله وسَلامه عليه – لم يترك دعوَة هذه الأمة حتى وهو في مرَض الموت فقد كان يقول: "قاتَل الله اليَهود والنصَارى، اتخذوا قبُور أنبيَائهم مسَاجِد" يحذر من صنيعِهم [10]، بل الأعظَم من ذلك أنه كان وهو يجُود بنفْسه، وفي غَرغَرة حُلقُومه، يدعو الأمة فيقُول: "الصَّلاة الصَّلاة، وما مَلكَت أيمانُكم" [11].
لتحْمِل هذه الرسَالة الخَالِدَة على أكتَافها، ولتخْرج العبَاد من عبَادة العبَاد إلى عبَادة الله وحدَه، ولتكون مشْعَلاً ونبراسَاً يضئ في ديَاجي ظُلمَات الجهْل والشِّرك.
وكان يراعي نفسياتِ الآخرين وجوانب التَّأثير فيهم كلٌ بما يناسبه، ففي صلح الحديبية أرسلت قرَيش رجلاً من بني كنَانَة ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أشرف قال صلى الله عليه وسلم: "هَذَا فلَان، وَهُوَ من قوم يعظمون الْبدن، فابعثوها لَهُ" فَبعثت لَهُ، واستقبله النَّاس يلبون. فَلَمَّا رأى ذَلِك قَالَ: سُبْحَانَ الله، مَا يَنْبَغِي لهَؤُلَاء أَن يصدوا عَن الْبَيْت، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابه قَالَ: رَأَيْت الْبدن قد قلدت وأشعرت، فَمَا أرى أَن يصدوا عَن الْبَيْت.
ولما أسلم أبو سُفيان قال العَباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئًا، قال: "نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ".
وعلم تأثُّر سادة القَبائل بالمال فأعطاهم يتألفُهم ليقوى إيمَانهم، وليؤثروا فيمن تحتَ أيديْهم من العَامة.
وهكذا كان يكسب النَّاس بما يرغبونه ويحبونه.
فعلى كل مؤمِن أن يسيْر على خُطا حَبيبه، ويسْلك منهَج نبيه وقدوَته، ويرفَع شعَار:
هي دعوَة لله أقبَل فجْرهَا
بالنُّور يخفِق مُشْرقَا وضَّاءا
ضَربَت بأعمَاق النفُوس جُذورُها
وسَمَت منَاراً للهُدى ولوَاءَا
وسيُزهر الحُلم الذي نصْبو اله
أرضَاً تعانقُ في الوجُودِ سمَاءَا
ياللعزائِم حين تنهَض حرَّةً
وتُحطِّم النَّير البغِيْض هَبَاءَا
تمشي علَى هَام النجُوم عَزيزَةً
تذكي النُّفوس تَوثُّباً ومضَاءَا
"لقد فرغ رسُول الله صلى الله عليه وسلم من أمْر بطنِه، فما يفَكر أجَاع في سبيْل الدعوَة أم شَبع، وفرَغ من أمر جِلدِه فما يبُالي ألبِس أكسَية الصُّوف أم ارتدَى برُود اليمن، وفرَغ من أمر الجَاه فما يعيقُه أن يُلقى في طريقه الشَّوك، ولا يزدَهيْه أن يفرَش بالوروْد، لم يفَكر في أن يستَغِل دعوته لينَال زعَامَة، ولو أرادَها لكانت طَوع يدَيه، أو ليَجمَع مَالا، أو ليَقتني ضَيعة، أو ليمُد يَده إلى أتبَاعه ليقبلوها ويملؤوها فيَعيش معظمَاً" [12] مبجلاً مرفهاً مخدوماً، ولكن جاهد وناضَل وحمَل الأذَى، ولم يميِّز نفسه عن أصغَر واحِد من أتباعه في مطعَم أو ملبَس ولا متعةٍ ولا جاه , بهذه الحكمَة وبهذا التدبيْر أرسَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوَاعِد مجتمع جَديْد، كانت صورتُه الظاهرَة بياناً وآثاراً للمعاني التي كان يتمتَّع بها أولئك الأمجَاد، وكان يتعَهدهم بالتعليْم والتربيَة، وتزكيَة النفُوس، والحث على مكَارم الأخْلاق، ويؤدبهم بآدَاب الوُد والإخَاء والمجْد والشرَف والعبَادة والطاعَة، سأله رجُل: أي الإسلام خَير؟ فقال: "تطعم الطعام وتقرؤ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" [13].
كما كان يبين لهم ما في العبَادَات من الفضَائل والأجْر والثوَاب عنْدَ الله، وكَان يربطهُم بالوحْي النازِل من السَّماء ربطاً موثقاً، فكان يقرؤه عليهم ويقرؤونه، لتَكون هذه الدرَاسة إشعاراً بما عليهم من حقُوق الدعوَة وتبعَات الرسَالة، فضْلا عن ضرورَة الفَهم والتَّدبير، وهكَذا هذَّب تفكيرَهم، ورفع معنوياتهِم، وأيقَظ مواهبَهم، وزودَهم بأعلَى القيَم والأقدَار، حتى وصَلوا إلى أعلَى قمَّة من الكمَال عرفت في تاريْخ البشَر بعد الأنبياء.

------------------------------------
[1] سيد رجال التاريخ (ص15).
[2] أخرجه البخاري (5333).
[3] أخرجه البخاري (1294) مسلم (24) .
[4] أخرجه الترمذي (2516) وصححه.
[5] أخرجه أحمد (14694)، وصححه البوصيري. إتحاف الخيرة المهرة (7/352).
[6] أخرجه أحمد (16654)، وصححه ابن الملقن. البدر المنير (1/680).
[7] أخرجه ابن حبان (6505)، والدارمي (6)، صححه البوصيري، وجود إسناده ابن كثير. إتحاف الخيرة المهرة (7/106)، البداية والنهاية (6/130).
[8] أخرجه البخاري (3059) مسلم (1795 ).
[9] أخرجه أحمد (18557)، وصححه البيهقي، في شعب الإيمان (1/300).
[10] أخرجه البخاري (1265) مسلم (531).
[11] أخرجه أحمد (44 / 84)، وصححه البيهقي في دلائل النبوة (7/205)، وجوده ابن الملقن في شرحه للبخاري (21/645).
[12] سيد رجال التاريخ (ص81).
[13] أخرجه البخاري (5882) مسلم (39).

------------------------------------
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 01-14-2015, 10:34 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة من مقامات النبوة (10) مقام الإقدام

من مقامات النبوة (10) مقام الإقدام
ــــــــــــــــــــ



(نايف بن محمد اليحيى)
--------------

23 / 3 / 1436 هــ
14 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ




مَقــَامُ الإقـدَام

إذا حَمَل كُل كاتبٍ قَلمَه، ووضَع كل مُؤلفٍ يده ليسَطر كتَاباً، أو يكتبَ مقَالاً، أو يبعَث رسَالة، ترَدد وتحَير وتَوقفَ كثيراً؛ لينظُر بم يفتَتح ويبتَدئ مقَاله وكتَابته، فتَراه ينمِّق العبَارة، ويتفَنن في الصِّياغة، ليَجْذب القَارئ ويشَوقه لمتَابعة أسْطُر المقَالة، أو صفَحَات الكتَاب، ولكن عُنوَان هَذا المقَـام لا يحتَاج في نظمِه وسَبكه لتزويْق العبَارات، ولا لحشْو الكلمَات، ولا لبهرَجة الألفَاظ، ذاك أنه يبعَث في رَوْع قارئه من أول وهْلة معاني العزِّ والإباء، والشُّموخ والجسَارة، فيحَرك كوامن النَّفس، ويلهب عَوَاطف الحس، في المضي قُدماً لكل مَا يقَرب إلى المولى - عزَّ وجَل- ويصْرف عن معصيَته.
فكَيف بك إذا كَان هذا المقَام يتحَدث عن إقدَام أبسَل الشُّجعان، وصَانع الأبطَال، وكاسِر هامَات الفرسان، عمَّن وصَفه أصحَابه وصَحَابته _رضْوان الله تعَالى عليهم_ فقال متحَدثهم واصفَاً إقدامَه وشَجَاعته، وبذله وتضحيَته، " كنَّا والله إذا احمرَّ البأس نتَّقي برسُول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الشُّجَاع منا للذي يحَاذي به" [1]، وقال علي – رضي الله عنْه – " لقَد رأيتنَا يوم بَدر ونحْن نلوذ برسُول الله صلى الله عليه وسلم وهُو أقربُنا إلى العَدو، وكان من أشَد النَّاس يومئذٍ بأسَاً" [2].
ملك الشَّجاعَة فهي طَوع زمَامه
ولغَيره جَمَحَت وليسَت تُركَبُ
ومهمَا تحَدثَت الأخبَار، ونقَلت السِّير والآثَار، جُرأتَه وإقدامَه وشَجَاعته، فلن تَستَطيع أن توفي ذلك البَذل، أو تُقوِّم ذلك العَدل، أو تَسِم تلك التضْحِية؛ التي قَام بها عليه الصَّلاة والسَّلام.
وعَلى تفَنُّن واصِـفيه بوَصْفِـهِ
يفـْنَى الزَّمان وفيه مَالم يوصَفُ
إن الإقدَام والشَّجَاعة في حَياته -عليه الصَّلاة والسَّلام- سمةٌ ظاهرَة، وعَلامةٌ بارزَة، فأعْلامُه خفَّاقة، وسُيوفُه برَّاقة، وصَولته في الحقِّ ثَائرة، وجُيوشه في العَدل سَائرة، فتُربة الأرض، وصُخور الجبَال, وأديم السَّماء, تُنبئك عن دَويِّ صَوته، وثبات جأشه، في خمسٍ وعشْرين غَزوةً سَار فيهَا بنفسه، منَاهضَاً لأعدَاء الله الذين جَعَلوا معه شَريكاً في عبَادته وألوهيَّته.
واستَمع إلى أنسِ بن مَالك – رضي الله عنْه – في أحَد مجالسِه وهو يحَدث أصحَابه عن هذه المثُل فيقول: " كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم أحسَن النَّاس, وكان أجْود النَّاس, وكان أشجَع الناس، ولقَد فزع أهل المدينَة ذات ليلة، فانطَلق ناس قبل الصَّوت, فتَلقاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم راجعَاً وقد سَبقَهم إلى الصَّوت، وهو على فرَسٍ لأبي طلحَة عُرْيٍ, وفي عنُقه السَّيف, وهو يقُول: "لم ترَاعُوا لم ترَاعُوا" [3].
ولا غَرْو في ذلك ولا عجَب فهُو القائل " وددت أن أقتَل في سَبيل الله ثم أحيَا ثم أقتَل, ثم أحيَا ثم أقتَل, ثم أحيَا ثم أقتَل" [4]، والقَائل كذلك " لأن أقتل في سَبيل الله أحَب إلي من أن يكون لي أهْل الوَبَر والمدَر" [5].
فلقَد كان بأبي هو وأمي – صَلوات الله وسَلامه عَليه – من أجَلِّ أمانيْه أن يسيل دَمه, وتتَنَاثر أشْلاؤه, في طاعة مَولاه, وفي سَبيل رضَاه.
فَرْد التَّواضُع فرد الجوْد مَكرُمَـةً
فَرد الرجَال عن الأشبَاه والنُّظرَا
أعْلى العُلا في العُلا قَدراً وأمنعُهُم
دارَاً وجَاراً وإسماً في السَّماء ذُرَا
ومن أيامه التي حَفَلت بصِدق إرادته, وثبَات عَزيمته, غَزوةُ بَدرٍ الكُبرَى, التي خرَج فيها مُسرعاً يحُث السَّير, ويستَبق الخطَى, في ثلاثمِائة وأربعَة عَشَر رجُلاً من أصحَابه, يعتقِب بعيراً هو وعَلي ومَرثَدٌ الغنَوي, فلمَّا بلغ الروحَاء أتاه خَبر النفير الذي قامَت به قرَيش لحمَاية قافلتهَا التي كان رسُول الله يريد الاستيْلاء عليها؛ فجَمع عند ذلك رسُول الله صلى الله عليه وسلم أصحَابه يستَشيرهم, وهو الذي ماكان يقطَع أمراً دونهم, فقَام أبو بكرٍ فتكلم فأحسَن, ثم قام عمَر فتكلم فأحسَن, ثم قام المقدَاد فقال: يارسُول الله, امضِ لما أراك الله فنحْن معك, والله لا نقول كمَا قال بنو إسْرائيل لموسَى: اذهَب أنت وربك فقاتلا إنا هَاهنَا قاعدون, ولكن: اذهب أنت وربك فقَاتلا إنا معَكم مقَاتلون.
فَطفق رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أشِيروا عليَّ أيها النَّاس" وإنما يريْد الأنصَار, لأنهم لما بايعوا ليلة العَقَبة بايعوه على أن يمنَعوه مما يمنعُون منه أبناءهم ونسَاءهم مادام بين أظهُرهم, ولم تكن المبَايعة على القتَال خَارج المدينة, فقَام سَعد بن معَاذ فقال: لقَد آمنا بك وصَدقناك, وشَهدنا أن ماجئت به هو الحق, وأعطينَاك على ذلك عهُودنا ومواثيقَنا على السَّمع والطاعَة لك, فامض لما أردت فنَحن معك, فوالذي بعثك بالحق لو استَعرضت بنا البَحر فخضتَه لخضنَاه معك ماتخَلف منا رجُلٌ واحِد, ومانكره أن نلقى عَدونا غَدا, إنا لصُبر في الحرب, صُدق عند اللقاء, لعل الله أن يريك منا ما تقَر به عينك, فَسر بنا على بركة الله, فَسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " سِيروا وأبشِروا, فإن الله وعَدني إحدى الطَّائفتين, والله لكأني أنظر إلى مصَارع القوم" ثم مضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نَزل عند آبار بَدر فأمطرَت السَّماء تلك الليلة, فكان على المشْركين وابلاً شَديداً وكان على المسْلمين طَلاً طهَّرهم الله به, وأذهَب عَنهم رجْز الشَّيطان, ووطأ به الأرض وثبَّت به الأقدام, ومهَّد به المنزل.
فلما كان الصَّباح بنى الصَّحَابة له عَريشَاً يُطل به على ميدان القتال, فَنزَل إلى سَاحة المعرَكة وجَعل يشير بيده "هَذا مصْرع فلان" ويضَع يده على الأرض هَاهنَا وهَاهنَا, فما تبَاعد أحَدهم عن موضع يد رسُول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي إشَارته هذه لفتَة مهمَّة في جانب تَعزيز الثقَة بالنفْس لدَى الأتبَاع، وأن الظفَر لهم وحليفُهم، من غير مبالغَة في الموعُود تحققه.
وفي ليلة المعرَكة أصَاب المسْلمين نعَاس ألقي عليهم فناموا, وقام أكمَل الخلق إيماناً, وأرسخِهِم يقيناً, وأصدَقهم عبَادةً, يوحِّد خَالقه ويَدعوه ويتَمَلقه, ويَسأله النَّصر والتمكين, ويُلح عليه, ويتضَرع بين يديه, فأجَاب له الله ماطلَب, ويسَّر له ما أرَاد, وأمَده بجُندٍ من الملائكَة يتقَدمهم ويقودهم رُوح القُدس – جبريل – عَليه السَّلام, وفي ذلك يصْدح حسَّان بأفخَر بيتٍ قالته العرَب واصفَاً ذلك الشَّرف وتلك المكرمة.
وبيـَوم بـدرٍ إذ يرُد وجُوهَهُم
جبْـريل تـَحْت لـوائنَا ومحمَّد
فلما نشَب القتَال, والتحَمَت الصُّفوف, قام - عليه الصَّلاة والسَّلام – يدعو ربه ثانيةً حتى سَقَط الرِّداء من ظهره وهو يقول: "اللهُم إن تهلك هذه العصَابة اليَوم, لا تعبَد في الأرض أبدا" فأشفَق عليه الصِّدِّيق– رضي الله عنه – فجَعل يرفَع الردَاء على عَاتقه ويقول: يارسُول الله بعض منَاشدتك لربِّك, فإن الله منجزٌ لك ماوعَدَك, فأخَذَت رسُول الله صلى الله عليه وسلم سِنة من النوم, ثم استَيقظ مبتَسماً, فقال: " أبشِر يا أبَابكر هَذا جبريل على ثنَاياه النقْع " ثم خَرَج من باب العَريش وهو يتلو {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فأعزَّ الله جُنده, ونصَر عبده, وكسَر كبريَاء قريش, فقُتل منهم سَبعون, وأُسرَ سَبعون آخرين.
ولما رجَعت قريش في غَزوة أحُد, لتثأر لقتلاها في معركة بَدر, خَرج رسُول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبسَ الدرع والمغفَر, في ألفِ رجُل من أصحَابه, للقَاء المشركين, فلما كان ببَعض الطريق رجَع عبدالله بن أبي بن سَلول بثلث الجيش, وقال بمَنطق النفَاق الذي مازال يردده تلامذته عَبر العصُور إلى هَذا الزمَن, {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ }، فلم يثن ذلك شَيء من عَزم المصْطَفى وعَزيمته صلى الله عليه وسلم بل تقَدم حَتى نزل أحُدا, فصَف الجيش وعَبأ الصُّفوف, ووضَع الرُّماة فوق الجبَل خَلفه لئلا يبغَتَهم العدو من خَلفهم, وقدمَت قريشٌ بحَدِّها وحَديدها وكبريائها, تحَاد الله ورسُوله, فنشب القتال, وحَمي وَطيس المعرَكة, فكانت الغَلبة للمسْلمين وفَر المشْركون على أعقابهم, فنزَل الرمَاة وخَالفوا أمرَ القائد، فَكرَّ خالد بن الوليد من خلفهم بكتيبَة من المشْركين, فقتَل من بقي من الرمَاة على الجبَل, ودَارة الدَّائرة على المسْلمين, فشَرف الله منهم رجَالاً بالشَّهادة واصطَفاهم, فبينَما هم كذلك إذ سمعَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم صَوتاً يقول: أين محمَّد لانجَوت إن نجا.فإذا هو أُبي بن خَلَف , وقد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم عندي فَرس , أعلفهَا كل يوم فَرَقاً من ذُرة , أقتلك عليهَا . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أقتُلك عليها إن شَاء الله". فلمَّا رآه يوم أحُد , شَد أُبيٌ على فرَسه على رسُول الله صلى الله عليه وسلم , فاعترَضه رجَال من المسْلمين , فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيَده هَكذا, أي خَلوا طريقَه , وتنَاول الحربَة من الحارث بن الصِّمة , فانتفَض بها انتفَاضةً تفرَّقوا عنه تفَرق الحمُر قد باغتهَا الأسَد , وطعنَه في عنقِه طعنةً تَدَأدَأ فيها عن فرسه مرَاراً , فرجَع إلى قريش يقول: قَتلني محمَّد , وهم يقولون: لا بأس لم يصبْك أذى , فقال: لقَد وعدني أن يقتلني بمكة والله لو بصَق علي لقتَلني , فمَات عدُو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة . وانتهَت تلك الغزوَة بما فيها من دروسٍ وعبَر , وجَاءت غَزوة الأحزَاب , فقام فيها رسُول الله صلى الله عليه وسلم وصحَابته – رضي الله عنهم – أعظَم قيام , وصَمَدوا أمام طوفان التحَزب المشْرك البالغ عشرَة آلاف رجل بأمنع سلاح , وأجوَد متَاع , وهم لايجاوزون الثلاثة آلاف مع ضعفٍ في العتَاد , وشَظفٍ في العيش , ورفع الله مَنار الإسلام بعد ذلك اليوم, فجَعل المسلمون بعدَها يَغْزون ولا يُغزَون , ثم جَاءت سَنة الحديبيَة فأشِيع فيها مقتل عثمَان , فهَب رسُول الله صلى الله عليه وسلم في ثبَاتٍ , وشمَّر في عَزيمة, وصَاح في أصحَابه فتواثبوا إليه يبايعونه على الموت , وهو مستَظل تحْت شجَرة , فأنزل الله – جَل في عُلاه – رضَاً بما صَنعوا , وإكراماً لهم على ماقدموا , آياتٍ فيها الرضى منه عليهم , والثناء والمدح , تتلى وتُردد إلى أن يَرث الأرض ومَن عليها , وأخبَر النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه " لن يدخُل النار أحَدٌ بايع تحت الشَّجَرة "[6], ورجَع عثمَان ولم يكن الخبر صَحيحَاً فتم الصُّلح الشهير مع قريش , فلم يكن المشركون ليوفوا بذمَّة , ولا ليفُوا بعهْد , فنقَضُوا ما أبرموا مع رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فنفَر إلى مكة بين يديه جَحَافل الإيمان, وعسَاكر الإسلام, في مَقْدمٍ لم ترَ الأرض في ذاكَ الزمَن أبهى ولا أجَل مَنظراً منه, فدَخَل مَكة التي أُخرج منهَا, وطَالما طَارده رجَالها, ووقفوا عَثرةً في طريق دعوته, فاتحاً عَزيزاً, مُكرماً مبَجَّلاً, فلم يلهِه بهجَة الفتْح , ونشوَة النصْر , وعزَّة الموقف , عن الشُّكر والحمْد للمنعِم المتفضِّل , فدخَلها في غَاية الذُّل , وكمَال الخضُوع لربه, متخَشعاً، ذقنه على راحلته, فكادت جبَال مكة أن تميل طرباً, وهضَابها أن تميد فرَحاً, وأرضهَا أن تعَانق السَّماء, أنسَاً وبهجَةً ...
في خير من حَمَلت أنثَى ومن وضَعت
وخَير حَافٍ على الدُّنيا ومنَتعلِ
ثم جمَع أولئك الذين آذوه ولمزوه وأخرَجُوه , عندَ الكعبة التي كان قَبْل سنَوات يوضَع على ظهْره عندَها من قِبَلهِم سَلا الجزُور, ويُنصب بين يديه فيها الأصنَام عنَاداً وتعَنتاً , فما تُراه يصنع بهم؟! وبمَ تظن عقَابهم سَيكون؟! لقَد قام فيهم وعلى وجوههم علامات الخَوف والوجَل , وقسَمَات الحيَاء والخجَل , فقال في هُدوء الصَّمت الذي يُخيِّم عليهم: "ما تظنُّون أني فاعلٌ بكُم؟!" فقَالوا: خَيرا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كَريم! فقَال صلى الله عليه وسلم في منطقٍ يهتَز نضرةً ويتَألق عَظمةً: "اذهَبوا فأنتُم الطُّلقَاء"
- خـُلقٌ أرقُّ من النـَّسيم ونفحَةٌ
تُغـني العـَديم وتنجِدُ المجهُودَا
- وسَـريـْرَةٌ مَـرضيَّةٌ وعَـزيمةٌ
عُـلويـَّةٌ سمَت السَّمَاء صُعُودَا
- ذا البَحر علمَاً ذا النجُوم طلائعَاً
ذا الصَّخْر حِلمَاً ذا الغَمَامةُ جُودَا
ثم انطَلقَ بعد فتح مَكة إلى هوَازن وقد اجتمَعوا في حُنين في عشْرين ألف رجُل , فلمَّا نزلوا وادي حُنين مع انبلاج الصُّبح , فجَأتهم هَوازن في كَمينٍ في فم الشِّعب , وكانوا رجَالاً رمَاةً , فَفَر المسْلمُون , ولم يبق مع رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبوسُفيان بن الحارث آخذٌ برأس بغْلته , ونفَر قليل من أصحَابه، فجَعَل يقول وهو الذي لا يعْرف الهزيمَة: "أين أيها النَّاس؟ هلمُّوا إلي أنا رسُول الله , أنا محمَّد بن عَبدالله " ثم جَعَل يقاتل ويُركِض بغلته نحْو العَدو وهو يقول:
أنـَا النـَّبي لا كَـذِب
أنـَا ابن عَـبْد المطَّـلـبْ
ثم أمرَ العباس وكان صَيتاً جَهورِي الصَّوت , أن ينَادي الأنصَار , وأصحَاب بيعَة الرضْوان , فكَروا إليه , وتجمَّعوا حَوله , فاشتَد النِّزال , وتقَارع الأبطَال , فقال صلى الله عليه وسلم وهو ينظُر إلى شدَّة البأس , وحَمْأة المعرَكة , " الآن حَمي الوَطيس " ثم نزَل على الأرض , فأخَذ حفنَة تراب فرَمَى بها وجُوههم وقال:" شَاهَت الوجُوه " فمَا خَلق الله منهم إنسَاناً إلا ملأ عينيه ترَاباً بتلك القبضَة , فوَلوا على أدبَارهم مدبرين , ونصَر الله رسوله والمؤمنيْن [7].
ومَع هذا كُله فقَد كَانَت شَجَاعته صلى الله عليه وسلم شَجَاعةً من غَير بطش، وقتَالاً من غَير تعَد أو ظُلم، وإقدَاماً من غَير حِقدٍ أو انتقَام، فلا يبتَدئ بقتَال أحدٍ حتى يُعذره ويُنذره، ثم يخَيره بين الإسْلام أو الجزية، فإن أبى قاتلَه ونازَله، وكان يأمر سَراياه وبعُوثه وجُيوشه، ألا يغلُّوا ولا يغدرُوا، ولا يقتلوا صَغيراً أو امرَأة، أو راهبَاً في صَومعته، أو شَيخاً كَبيراً، وكان يأمُرهم بالإحسَان إلى الأسْرى، ويُرسِّخ ذلك عمَلياً أمام أعينهِم، كمَا في قصَّته مع ثُمامة بن أُثال، وكان مع أعدائه خَير من الناس مع أصحَابهم وأحبَابهم، فهكذا كانت هي سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وحَياته وشَجَاعته، مع البعيد والقَريب، والعدو والصَّديق، فشَاهت وجُوه عبَّاد الصَّليب، الذين أظلمت وانعَكسَت في أعينهم الحقَائق، فرَأو الحق باطلاً والباطل حَقا.
------------------------------------------------
[1] أخرجه مسلم (1676).
[2] أخرجه أحمد (2 / 81).
[3] أخرجه البخاري (2751) مسلم (2307).
[4]أخرجه البخاري (2644) مسلم (1876).
[5] أخرجه النسائي (6 / 33)، وحسنه الألباني.
[6] أخرجه أبو داود (4653)، والترمذي (3860) وصححه.
[7] أخرجه البخاري (2728)، ومسلم (2498) .

------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 01-15-2015, 07:59 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة من مقامات النبوة (11) رحمة للعالمين

من مقامات النبوة (11) رحمة للعالمين
ــــــــــــــــــ

(نايف بن محمد اليحيى)
ــــــــــــ

24 / 3 / 1436 هــ
15 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ





رحْمَةً للعَالميْن

لقد امتزَجت الرحمَة، وخالط الكرم، وضَوَّعت المحبة خَلايا دمه، ومنَاسم عُروقه، _عليه الصلاة والسلام_ فلم يعُد يبالي وينظر أوقَف من أجل مشكِلة ناقة وجمل، أم من أجل جَارية ضاقت بها الحيَل، وانقطعَت عليها السُّبل، أم لأجل صَبي أحب أن ينفُث مشَاعره، ويبُث هموم صبَاه، أم لأعرابي خلِق الثوب، متطَاير الشَّعر، جاف الطبَاع، كل ذلك في ميزانه سوَاء؛ وأن يقف لأجل قبيْلة بكاملها، أو سادَات قوم، أو فرسَان بواسِل، أو خطَباء مفَوهين، فلم يكن شرَف النبوة، وكَرَم الرسَالة، ورفعَة الجَاه، وعزُّ الجنَاب، يحول بينه وبين أن يمشي في حاجَة الصغِير قبل الكبير، والجَارية قبل السَّيد، والحيوان والبهيمَة والطيْر، ففي أحَد أسفاره ومعه أصحابُه – رضوان الله عليهم – ذهَب – عليه الصلاة والسلام – لحاجَة له، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «من فجَع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: «من حَرق هذه؟» قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربُّ النار» [1].
جَاءت إليه حَمَـامةٌ مشـتَاقة
تشْكو إليه بقَلب صَبٍ واجِفِ
من أخْبَر الوَرْقاء أن مكَانه
حَرَم وأنَّك ملجَأٌ للخَائفِ
ودخَل ذاتَ مرةٍ في نفَر من أصحَابه بستَاناً لرجل من الأنصَار، فإذا فيه جمَل: فما إن رأى رسُول الله حتى حَن الجمَل وذرَفَت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسَح ذفْرَاه فسَكن، ثم قال: "مَن ربُّ هذا الجمَل؟ " فقال فتى من الأنصَار هو لي يا رسول الله، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ألا تَتقي الله في هذه البَهيمة التي مَلكك الله إياها، فإنه شكَا إلي أنك تجيعُه وتدئِبُه !! [2].
حنَّت له النُّوق من وَاد العقِيق بكَت
تجْـري بأحمَالهـا شَوقاً للقيَـاه
وفي حَجة الودَاع لما أرَاد – عليه الصلاة والسلام – أن ينْحَر الإبل للهَدْي كانت الإبل والنُّوق تتسَابق، وتتصَارع، أيهَا تتشرف وتحظى بنَحر رسول الله لها بيَده الشَّريفة [3]، فإذا كانت هذه نوق وجمَال تَدافعت وبادَرَت لتحْظى بشرف النحْر باليَد فقط، فأين رجَال الإسْلام، وفتيَان الإيمان، وأحفَاد الكرَام، من بذل الغَالي والنفِيس، وإزهَاق الأرواح والمهَج، وتسْخير الأوقات والأموَال، طاعة لله واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم!! وأين من ادعَوا أنهم فدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهَاتهم وأنفسهم، فلم تُتَرجم ذلك أعمَالهم، ولم تقم شاهِدة على ذلك أفعَالهم، "فإن محَبة رسول الله ليسَت دعوى باللسَان، ولا هُيَاماً بالوجدَان، ولا عبَارات ترَدد، ولا كلمَات تقال، ولا شعَارات ترفَع، ولا مشَاعر تجيْش، ولا شعَائر تقَام فحسب"[4]، وإنما هو مع ذلك انقيَاد لله وللرسول، واتباع للمنهج الذي يحمِله الرسول. ولما كان عليه الصلاة والسلام يخطُب على جذْع شجَرة فصنع له منبَر ليخطُب عليه، فلما صَعد على المنبر بكَى ذلك الجذع الذي كان يقُوم بجَانبه، حزْنا على فراق ذاكَ الجسَد الطَّاهر،، واللسَان الصَادق، واليَد الشَّريفَة، وحزن كذلك على موَائد الوَحي، ورياض الجنَّة، وبسَاتين الإيمان التي كانت تقَام بجَانبه، فنزَل الشفيق الرحيْم إلى ذلك الجِذع فاحتضَنه فجعَل يئن ويخفت صَوته كالصبي الذي يُسكَّت، حتى هدَأ وسَكن، فقال عند ذلك نبي الرحمَة: "والله لو تركتُه لحَن إلى يوم القيَامَة! [5]. وكان الحسَن البصْري إذا حَدث بهذا الحديث بكَى وقال: يا أهل الإيمان جذع يحِن إلى رسول الله، أفلا تحِن إليه قلوبُكم!!.
وكان يخفف الصلاة التي هي قرة عينه وأنس روحه من أجل بكاء صبي؛ لئلا ينشغل قلب أمه عليه.
وجاءه أحد أصحابه يسأل عن شفقة ورحمة يجدها في قلبه للبهيمة عند ذبحها فكان من سؤاله: يا رسول الله إني لأذبح الشاة، وأنا أرحمها - أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها - فقال: "والشاة إن رحمتها رحمك الله" [6].
وخرج صلى الله عليه وسلم في حاجة فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟! فابتغي فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في هذه البهائم، ثم اركبوها صحاحا، واركبوها سمانا" كالمتسخط آنفا [7].
ومر على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: "أفلا قبل هذا! أتريد أن تميتها موتتين؟! [8].
فإذا كانت هذه رحمته ووصيته بالحيوانات والبهائم التي لا تعقل، فكيف سيكون حاله مع من كرمه الله بالعقل من البشر؟! ولهذا اكتفيت بذلك عن ذكر حاله مع الناس ورأفته بهم.
كل القـُـلوب إلى ****** تميل
ومعي بذلك شَاهد ودلــيل
أما الدلــيل إذا ذكَرت محمداً
ارت دمُوع العاشِقين تسِيل
هذا رسـُـول الله هذا المصطَفى
هذا لرَب العَـالمين خليْل
هذا الذي رد العُــيون بكفه
ابدت فوق الخدُود تسِـيل
هذا الغمـَامة ظللته إذا مشَى
كانت تقيل إذا الحبـيْب يقيل
صلّى عليك الله يا عَـلم الهدى
ما حَن مشتَاق وسـَار دليـْــل

--------------------------------------------------
[1] أخرجه أبو داود (4 / 367)، وصححه ابن الملقن، وقال ابن مفلح: إسناده جيد. البدر المنير (8 / 689)، الآداب الشرعية (3 / 357).
[2]أخرجه أبو داود (2549)، وأحمد (1754)،وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.
المستدرك على الصحيحين (2 / 109).
[3] الخبر عند الإمام أحمد (190986) وصححه شعيب الأرنؤوط.
[4] ينظر: في ظلال القرآن (1 / 387).
[5] أخرجه البخاري (875).
[6]أخرجه أحمد (24 / 359)، وصححه الحاكم وابن القيم. المستدرك (4 / 257)، جلاء الأفهام (1 / 167).
[7] أخرجه أحمد (4 / 180 - 181)، وابن حبان (844) وقال الألباني: سنده صحيح على شرط البخاري. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 / 63).
[8]رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4 / 54)، والحاكم (4 / 257)، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي والألباني. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 / 64).

--------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 01-15-2015, 08:02 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة من مقامات النبوة (12) دلائل النبوة

من مقامات النبوة (12) دلائل النبوة
ــــــــــــــــــ


(نايف بن محمد اليحيى)
ــــــــــــ

24 / 3 / 1436 هــ
15 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ





دَلائِـــل النُّبَوَّة
-----------

في كلام الله وإعجازه غُنية عن كل آيَة وكرامة، ومع ذلك فقَد أيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمعجزات وآيات بهَرت كل من رآهَا، ثبتت بها الأخبَار، ونقلها الصحابَة الأخيار رضي الله عنهم، ومما ورد مما صح به النقل حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفْيَح، فذهب رسول الله يقْضي حاجَته، فلم يَر شَيئاً يستَتر به، وإذا بشَجَرتين في شَاطئ الوَادي، فانطَلقَ إلى إحدَاهما فأخَذ بغصن من أغصَانها، فقال: "انقَادي علي بإذْن الله" فانقَادَت معه كالبَعير المخْشُوش – سريْع الانقيَاد – الذي يصانع قائدَه، حتى أتى الشجَرة الأخْرى فأخذَ بغصْن من أغصَانها، فقال: "انقَادي علي بإذن الله" فانقَادت معه كذَلك، حتى إذا كان بالنصْف مما بينهمَا قال: "التَئما علي بإذن الله"، فالتَأمتَا، فجلسْت أحدث نفسِي، فحَانت مني التفَاتة، فإذا برسول الله مقبِلاً، وإذا بالشجَرتين قد افتَرقتَا كل واحدة منهما على سَاق!! [1].
ومن المعجزَات التي أيده الله بها، أن المشْركين سأَلوه أن يريهم آية، فأراهم القَمَر، فانشَق حتى صار فرقَتيَن نصفَه على جبَل أبي قُيس ونصفَه الآخر على الجبَل الذي أمَامه [2]، وهو المرَاد بقوله سبحانه "اقترَبَت السَّاعة وانشَق القمر" ونبَع الماء من بين أصَابعه غير مَرة، وسَبح الحصَى في كَفه، ثم وضعَه في كَف أبي بكر، ثم عمَر، ثم عثمَان فسبَح، وكانوا يسمَعون تسبيْح الطعَام عنده وهو يؤكَل، وسلم عليه الحجر والشجَر ليالي بعِث، وكلمَته الذراع المسمُومة، وأصيبَت رجْل عبد الله بن عتِيك الأنصَاري، فمسَحهَا فبرأَت من حينهَا، وأخبر أنه يقتُل أبي بن خَلف في أحُد، فخدشه خدشَاً يسيراً فمَات، وأخبر يوم بَدر بمصَارع المشرِكين فقال: "هذا مصْرع فلان غداً إن شَاء الله، وهذا مصْرع فلان" فلم يعْد واحد منهم مصْرعه الذي سمَّاه، وأخبر أن طوَائف من أمته يغزُون البحْر، وأن أم حَرَام بنت مِلحَان منهم، فكَان كما قال. وقال لعثمَان: "إنه سيُصيبُه بلوَى" فقتِل. وأخبر بمَقتل الأسْود العنسي الكَذاب ليلة قُتل وبمن قتله وهو بصنعَاء اليمَن، وبمثل ذلك في قتل كسْرى، ودعا لأنَس بن مالك بطول العمُر وكثرة المَال والولَد، وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذَكراً لصُلبه، وعَاش مائة وعشْرين سنة. وكان عُتبة بن أبي لهَب قد شق قميصَه وآذاه، فدَعَا عليه أن يسَلط الله عليه كلبَاً من كلابه، فقتَله الأسَد بالزرْقاء من أرض الشَّام، وشكي إليه قحُوط المطَر وهو على المنبَر، فدعا الله عز وجل، وما في السَّمَاء قزَعَة فثَار سحاب أمثَال الجبَال، فمُطروا إلى الجمعَة الأخْرى، حتى شكي إليه كثرة المطَر، فجعل لا يشِير للسحَاب إلى ناحية إلا ذهَب إليها، وأطعم الله أهل الخندق – وهم ألف – من صَاع شعير وبهيمَة، فشبعوا وانصرفوا والطعَام أكثر مما كان، وكان نائمَاً في سَفَر، فجَاءت شجَرة تشُق الأرض حتى قامَت فلما استيقَظ ذكرت له فقَال: "هي شَجرَة استأذنَت ربها أن تسَلم على رسول الله فأذن لها" ومسَح ضرْع شاة حَائل لم ينزُ عليها الفحل، فحَفل الضَّرع فشرب وسقَا أبا بكر، وبدَرت عَين قتَادة بن النعمَان حتى صارت في يده فرَدها، فكانَت أحسَن عينيه وأحَدهما، وتفَل في عيني علي بن أبي طالب وهو أرمَد فبرأ من سَاعَته، وأطعَم في منزل أبي طلحَة ثمانين رجُلا من أقرَاص شعير جعَلها أنس في إبطه، حتى شَبعوا كلهم، ثم رَد ما بقي فيه.
ورمى الجَيش يوم حنين بقبضَة من تراب، فهزمَهم الله –عز وجل– وقال بعضُهم: لم يبق منا أحَد إلا امتَلأت عينَاه ترابا وفيه أنزَل الله: }فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ وكان هنَاك رجل أعرابي في البَادية عند غنَمه فهجَم ذات يوم الذئْب على الغَنَم فأخذ شَاةً، فلحقه الراعي فأخذها منه، فأقعَى الذئب على ذنَبه وقال: أتحرمُني رزقاً ساقه الله إلي!! فقال الرَّاعي: واعجَباً ما رأيت كاليوم ذِئب يتكَلم بكَلام الإنْس!! فقال الذئب: ألا أدلك على أعجَب من ذلك؟ فقال الراعي: بلى، فقال: رجُل بيثْرب يخبر الناس خَبر الأمَم السابقَة، فأتى الراعي فدخَل المسْجد فأسلم ونطَق بالشهادتين، وحَدثه بقصة الذئب، فأمرَه النبي عليه الصلاة والسلام أن يقُوم على المنبَر فيحَدث بها الصحَابة، فقَام وأخبرهم به [3]، وله صلى الله عليه وسَلم معجِزات باهِرَة، ودَلالات ظَاهِرة، وأخْلاق طَاهِرة، أكثر وأعظم مما ذكرت، اقتصَرت على ذكر بعْض منها، وقديما قيل: حسْبك من القِلادة ما أحَاط بالعُنُق.

-------------------------------------------

[1] أخرجه مسلم (3012).
[2] أخرج البخاري بعضه (6 / 142)، وأحمد (27 / 314).
[3] الأحاديث السابقة مما حسن إسناده أهل العلم أو صححوه، ولم أخرجها لئلا تكثر الحواشي، ينظر: "دلائل النبوة" و "صحيح السيرة النبوية" و "أعلام النبوة".
----------------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 01-15-2015, 08:05 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة من مقامات النبوة (13) أخرجني الجوع

من مقامات النبوة (13) أخرجني الجوع
ــــــــــــــــــ


(نايف بن محمد اليحيى)
ــــــــــــ

24 / 3 / 1436 هــ
15 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ





أخْرَجَني الجُوْع
في يوم قَائظ شديْد الوَهَج والحرَارة، أشعَلت فيه حَرَارة الشَّمس جنبَات المدينة وأرضَها، وبعْد الزوال حين قَام قَائم الظَّهيرة، إذا برسول الله يخْرج في هذه الأثناء على غَير عادته، فبينما هو يمشي إذا بصِديق هذه الأمة أبو بكر ومعه عمر رضي الله عنهما قد لقيَاه في بعض الطُّرق، فتعَجب كل منهم من صَاحبه وخُروجه في هذا الوقت، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» قالا: الجوع يا رسول الله،، قال: «وأنا، والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا» ، فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين فلان؟» قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، قال: فانطلق، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك، والحلوب» ، فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وعمر: «والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم» [1].
فتَأمل مَنْ هَؤلاء الجَوعى الذين أخرجهم الجُوع فلم يجدوا طعَاماً يأكلونه، ولا شَيئا يسُد مخمصَتهم!! إنهم من لَو وزن إيمان كل واحدٍ منهم من غير صاحبيه لوزَن كل إيمان هذه الأمة بعلمَائها وعُبَّادها وشهَدائها وصَالحيهَا!!.
مَضَت حياته صلى الله عليه وسلم بسيطَة تضرِب أروع الأمثلَة في الزهْد وشَظَف العَيش، وخُلو اليَد من حطَام الدنيا، يأكل يوماً ويجُوع أياماً، وهو سَيد الخَلق الذي كانت تجبى له الأموال فلا يبقي منها شيئاً في يده.
وَراودَته الجبَال الشُّم من ذَهَبٍ
عن نفسِه فأرَاهَا أيمَا شَمَمِ
وأَكدَ الزهْد فيهَا من ضَرورَته
إن الضَّرورَة لا تعْدو على العِصَمِ
دخَل عليه ذاتَ يوم عمَر بن الخطَّاب في غُرفة له، فوجَدَه مضطَجعاً على حصير بالٍ أكل الفَقر أطرَافه، قد أثر في جَنبه، وتحْت رأسه وسَادة محشُوة ليفَاً، وفي ناحية الغُرفة قبضَة من شعير نحو الصَّاع، فانخرَطت دموع ابن الخطاب وغَلبه البُكاء لرِقة حاله صلى الله عليه وسلم، فقَال – عليه الصَّلاة والسَّلام – وهو ينظُر إلى دمُوع عمر: " ما الذي يُبكيْك يا ابن الخَطَّاب؟ " فقال عمر: يا نبي الله وما لي لا أبكي، وهَذا الحصِير قَد أثر في جَنبك، وهذه خزَانتك لا أرى فيها إلا ما أرَى، وكسْرى وقَيصَر على سرُر الذهَب وفُرش الديبَاج والحَرير، وفي الثمَار والأنهَار وأنت نبي الله وصَفوته!! فقال صلى الله عليه وسلم: " أولَئك قوم عُجلَت لهم طَيباتهم، أما تَرضى أن تَكون لهَم الدُّنيا ولنا الآخرَة؟!" فقال: بلَى ولكن لو اتخَذت فراشَاً ألين من هذا؟ فقال: " مَالي وللدُّنيا ما مثَلي ومثَل الدنيَا إلا كَرَاكِب سَار في يوم صَائفٍ، فاستَظَل تحْت شجَرَة سَاعة ثم رَاح وتَركَها " [2].
وهذه عائشَة أم المؤمنيْن – رضي الله عنها – دعَاها عُروة ابن الزبَير ابن أختها للغَداء فلمَّا قدم ونظَرت إليه، التَفتت ناحيَة الجدَار وأجهَشَت بالبكَاء، فقال لها عُروة: ما بك يا أماه فقَد كَدَّرت علينا الطعَام، فقالت: يا ابن أخْتي إن كنا لنَنْظر إلى الهِلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثَة أهِلة، وما أوقدَت في أبيَات رسول الله نار، وما شَبع ثلاثَة أيام من طعَام بُر حتى فارَق الدُّنيا، فقال عروة : فما كان عَيشُكم؟ قالت: الأسْودَان التمر والماء [3].
يقول عُقبة بن الحَارث: صلى بنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم العَصر فأسرَع وأقبَل يشق الناس من سُرعته، ودخل إلى بيَته، ثم لم يكن بأوشَك من أن خرَج فقال:"ذكرت شيئا من تبر كان عندي فخشيت أن يحبسني فقسمته"[4] ، هذا الذي قسَم التبْر بين الناس هو الذي تقُول عائشَة عن حال أهْله: ما شَبع آل محمَّد من خُبز البُر ثلاثا حتى مضَى لسَبيله، وما أكَل آل محمدٍ أكلتَين في يومٍ واحدٍ إلا إحدَاهما تمَر، ويقول أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقَد أخفْت في الله ما لم يخَف أحد، وأوذيْت في الله ما لم يؤْذ أحَد، ولقد أَتى علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلَة، ومالي ولبِلال من الطعَام إلا شيءٌ يوارِيه إبِطُ بِلال "[5].
كان سَيد العَرب، ومالك الجَزيرَة يملؤ بالأموَال صَحْن المسجِد، فيقسمها على الناس إلى آخرِ درهَم، فإذا دَخَل إلى بيته نام على جِلْد محشوٍ بليْف كما تقول عائشَة، كان فراشه من أدمٍ حشْوه ليْف.
يقول السِّير وليم مُوير : كانَت السهُولة صُورته من حَياته كلهَا، وكان الذَّوق والأدَب من أظهَر صفَاته في معَامَلته لأقل تابعيْه، فالتواضُع والشفَقَة، والصبْر والإيثَار، والجود، صفَات ملازمَة لشَخصه، وجَالبة لمحَبة جميع من حَوله، فلم يعرَف عنه أنه رفَض دعوَة أقَل الناس شَأناً، ولا هديةً مهمَا صغُرت، وما كان يتعَالى ويبرز في مجلسِه، ولا شَعر أحَد عنده أنه لا يختصه بإقبَاله وإن كان حَقيراً.
ولسنَا في سيرة رسول الله بحَاجة إلى أحَد فقد اختَصه الله من بين الرسُل بوضوح حيَاته وجَلائها من جميْع النواحي، وإنما ذلك لبيَان تلك العظَمة وذلك السمُو الذي بهَر الأعداء قبل الأصدقَاء، حتى أقَرت به أقلامهُم ونطقَت بذلك ألسَنتهم، وذلك يحفِز العَزائم، ويثير الكَوامن، لدرَاسة سيرَته ليكون حَياً في قلوبنا كما كان حياً بين أصحَابه، وليعيْش المؤمن في كل حَركة ونبضَة وفكْرة من حيَاته وفق ما عاشَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، متبعاً مقتفياً آثاره وسنتَه، كما قال أبو علي الرَّوذَباري: رَوائح نسِيم محَبة الرسُول تفُوح من المحبين وإن كتمُوها، وتغْلب عليهم دلائلهَا وإن أخفَوها، وتدل عليهم وإن سَتروهَا [6].
فإن فضْل رسول الله ليس له
حدٌّ فيعـرب عنه ناطـقٌ بفَـم
كالشمس تظهر للعينين من بعدٍ
صغـيرةً وتكل الطرف من أمـم
وكيف يدرك في الدنيا حقيقَته
قومٌ نيامٌ تســلوا عنه بالحلـمِ
أكـرم بخَلق نبيّ زانـه خُلقٌ
بالحســن مشتمل بالبشر متَّسم
كالزهر في ترفٍ والبدر في شرفٍ
والبحر في كـرمٍ والدهـر في همَم

--------------------------------------------
[1] أخرجه مسلم (3 / 1609).
[2] أخرجه أحمد (2744)، قال ابن كثير: إسناده جيد. البداية والنهاية (5/248).
[3] أخرجه البخاري (6094) مسلم (2972).
[4] أخرجه البخاري (1163).
[5] أخرجه أحمد (12233) وصححه ابن القيم. عدة الصابرين (ص299).
[6] طبقات الأولياء (1 / 58).
-------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 01-15-2015, 08:07 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,147
ورقة من مقامات النبوة (14) مقام التعبد

من مقامات النبوة (14) مقام التعبد
ــــــــــــــــــ

(نايف بن محمد اليحيى)
ــــــــــــ

24 / 3 / 1436 هــ
15 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ





مقـــَــام التعَـــبُّد
---------------

حينما تعيْش مع سِيرَة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتنَقل بين رياضهَا وحُقولهَا، وترى جهَاده وبذلَه وتضحيتَه، ثم تقَلب صفحَات دعوَته وهمِّه وتعليْمه، ثم تتَمَعن في قيامه بأموْر الناس وقضَاء حاجَاتهم وحَل مشَاكلهم، ثم تنظر في مقَامه مع أهله وقضَاء حَاجَاتهم والقيَام بخدمَتهم، وكل واحدٍ منها لَو أنيطَت على شُم الجبَال، وكَرام الرجَال لما أطَاقوا حملَها، فتَظن عند ذلك أنه قد مَضى وقتُه للناس فلم يبق منْه شَيء، وتنسَى عندها أبرَز صفَة كانت تعيش بين جنبَيه من النسُك والتعَبد والافتقَار والإلحَاح والتضَرع إلى ربه، فقَد كان يَجد في العبَادة قُرة عينه، وطمَأنينة نفسِه، "وإنك لتَقف مشدُوهاً أمام ذلك الجَمع العجيْب بين النسُك الذي بلَغ أرقَى مَراتب التعَبد، وبين القيَام على أمُور الدنيَا التي كان يعيْش فيها بكَده، ويعُول كثيراً من الأهْل والفقَراء، وينَاضل أمة بكَاملهَا، ويسُوس دولةً فتيةً في وجه العَالم، يوفِد إلى المُلوك ويدعوهم، ويستَقبل الوفُود ويكرِمهم، ويبعَث السرايا ويقُودها، ويجَادل من حَوله من أهْل الأديَان وأهل السلطَان، ويهيء للنصْر، ويحتَاط للهَزيمة، ويبعَث العمَّال، ويجبي الأموَال، ويقسمها بنَفسه ويشرع للناس دين الله فيفصِّل المجمَل من الوَحي، ويوضح الغَامضَ، ويرسُم السنَن، وهو في كل ذلك يؤدي عَمَله اليَومي، وبين هذه الهمُوم والمشَاغل يتجَلى محمدٌ الناسِك العَابد الذي هو أعظَم انقطَاعاً إلى الله واتصَالاً به ممن انقطعوا إليه في رؤوس الجبَال"، كانَت الصلاة أنسَه وميدَانه، وروحَه وريحَانته، ونزهَتَه وبستَانه،ونعيمَه وعُنوانَه، فكان إذا حَزبه أمرٌ صَلى، وكان يقُول: "جُعلت قُرة عَيني في الصَّلاة"، ويقول لبلال: "أقِم الصَّلاة أرحْنَا بها ".
دخَل عَطَاء وابن عمَر على عَائشَة رضي الله عنها فقال ابن عمَر: حدثينَا بأعجَب شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبَكَت وقالت: كُل أمره كان عجبَاً دخل علي ليْلةً من الليَالي فقال: "يا عائشَة ذريني أتعَبد لرَبي" فقلت: والله إني لأحِب قُربَك، وأحب أن تعَبد لرَبك، فقَام إلى القِربة فتَوضأ ولم يكْثر صَب الماء، ثم قام يصَلي، فبكى حتى بل لحيتَه، ثم سجَد فبكى حَتى بلَّ الأرض، ثم اضطَجع على جنبِه فبكَى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصَلاة الصبْح، قال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبَك ما تقدم وما تأخَّر فقال:"ويحَك يا بلال وما يمنَعني أن أبكي وقد أُنزل علي الليْلة{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ } الآيات، ثم قال: "وَيل لمن قَرأَها ولم يَتفَكر فيهَا" [1].
صَلى مَرةً في قيام الليل فافتَتَح البقَرة يقول حُذَيفة: فقُلت يركَع عند المائة فمَضَى، فقلت: يصَلي بها في ركعَة فمَضَى، فافتتَح النسَاء فقلت: يركَع بها فافتتَح آل عمران حتى ختَمَها، يقرأ متَرسِّلاً إذا مَر بآية سُؤال سَأل، وإذا مَر بآية تعَوذ تعَوذ، ثم رَكَع فكَان ركوعُه نحواً من قيَامه، ثم سَجَد فكان سجُوده نحواً من ركوعِه [2].
وهذا ابن مَسعود يقول: صَليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ حتى همَمت بأمر سُوء! فقالوا له: وبماذا همَمت؟ فقال: هممت أن أقعُد وأدَعَه [3].
نَفْس المحِب إلى الحَبيْب تطَلع
وفُؤَاده من حُبه يتقَطَّعُ
عزُّ الحَبيب إذا خَلا في ليلِه
بحَبيبه يَشْكو إليْه ويضرَعُ
وَيقُوم في المحْرَاب يشْكُو بثَّه
والقَلْب منْه إلى المحَبَّة يَنزعُ
ولقَد سرَت نسَمَات الإيمَان في كل ذَرةٍ من جسَده – عليه الصَّلاة والسَّلام – فعَلق قلبَه بالله في كل شيء، فَهو يذكُره على كل أحيَانه، واثقٌ بوَعده، مرَاقبٌ له، مُطيعٌ، خَائف، مُحب، خَاشِع آناءَ الليل وأطرَاف النهَار، معَظم لحُرماته، فإذا جاءه أمْر يحبُّه قال: "الحَمد لله الذي بنعْمته تَتم الصَّالحَات" [4]، وإذا أرَاد الأكل والشُّرب قال: "بسْم الله" [5]، وإذا فرَغ منه قال "الحَمد لله كَثيرا طيباً مباركاً فيه غيرَ مكفيٍ ولا مُودع،ولا مسْتغنى عنْه ربنَا" [6]، وإذا أوَى إلى فرَاشه قال: "اللهم أسلَمْت نفسي إليك ووجَّهت وجهِي إليْك، وفوَّضت أمري إليْك، وألجَأت ظَهري إليك، رَغبةً ورهبةً إليْك، لا ملجَأ ولا منجَى منك إلا إليْك، آمنت بكتَابك الذي أنزَلت، ونبيك الذي أرسَلت" [7] ، وإذا استيقَظ قال: "الحَمد لله الذي أحيَانا بعدَما أماتَنَا وإليه النشُور" [8]، وإذا لبسَ ثوباً جديداً قال: "الحَمد لله الذي كسَاني هذا الثَّوب ورزقَنيه من غَير حَولٍ مني ولا قُوة" [9]، "وإذَا عطَس قال: "الحَمد لله" [10]، وكان إذا استوَى على بَعيره خَارجاً إلى سفَر كبر ثلاثاً ثم قال: "سبحَان الذي سخَّر لنَا هذا وما كنا له مقْرِنين...." [11]، وإذا رَأى مبتَلى قال: "الحَمد لله الذي عَافَاني مما ابتَلاك به، وفضلَني على كَثير ممن خَلَق تفضيْلا" [12]، وكان إذا عَلا ثنيةً كبَّر الله، وإذا هبَط سبَّح. وإذا نزَل منزلاً قال: "أعُوذ بكلمَات الله التامَّات من شر ما خَلق"[13] ، وإذا سمع المؤذن قال مثْل ما يقُول فإذا فرَغ قال: "أشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شَريك له، وأن محمداً عبْده ورسُوله، رضِيت بالله رباً، وبمحمدٍ رسولاً، وبالإسلام ديناً" [14] ، وإذا حَزبَه أمرٌ صلى [15]، وإذا قَام من الليْل قرَأ الإحدَى عشْرة آية الأخِيرة من سُورة آل عمرَان "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب" [16]، وإذا أصبَح قال: "اللهم بك أصبَحنَا وبك أمسَينا، وبك نحيَا وبك نمُوت، وإليك النشُور "وإذا أمسَى قالهَا كذلك: "اللهم بك أمسَينا..." [17]، وإذا كَرَبه أمرٌ قال: "يا حَي يا قَيوم، برحمَتِك أستَغيْث" [18] ، وإذا رأى ما يكْره قال : "الحَمد لله على كل حَال" [19]، وهكذا كان – عليه الصَّلاة والسَّلام – في جَميع أحوَاله وأوقَاته، يتَنقَّل في ريَاض الذكْر وبسَاتين المعْرِفة، فإذا فرَغ من عبَادة شرَع في ذكْر، فإن فرغَ منه وجَدته في برٍ وصدقةٍ وإحسَانٍ، وهو في سفَره وجهَاده يُعلم ويدعوا إلى الله، فإذا لم يكن في هذه وجَدته مع أصحَابه يمازحُهم ويحُل مشكلاتهم، فإذا قَام منهم دخَل فكان في خدمَة أهله، فلم تَمض لحظَة ووَمضَةٌ من حياته إلا في خَير وطَاعَة وقربةٍ من الله – عز وجَل – ويصف عبدالله بن رواحة ليله فيقول:
يبيْت يُجافي جَنبه عن فرَاشِه
إذا استَثقَلت بالمشْركين المضَاجعُ
لقد ربّى نفسَه على تلك الحَال فَتربى عليها أصحابه -رضوان الله عليهم- فهذا فاروق هذه الأُمة عُمر بن الخطَاب يقال له: ألا تَنام؟! بعد أن تولى الخِلافة فيقول: إن أنا نمِت في النًهار ضيّعتُ رعيتي، وإن أنا نمِت في الليل ضيّعتُ نَفسي! فكان إذا جنَّ الليل أصبحَ كالعصفور المُبلل باِلماء.
إذا قُلتَ ليْث فهو أمْضَى عزيمةً
وإن قلتَ غَيثٌ فهو أندَى وأجوَدُ
هُو المقتَفي أمرَ الإلَه وإنَّه
ليَصدُر عن أمرِ الإلَه ويُوردُ
منَاقب تحصَى دونَها عَدد الحَصَى
بهَا يغبَط الحُر الكَريم ويحسَدُ
------------------------------------------
[1] أخرجه ابن حبان (260)،وقال المنذري: إسناده صحيح أو حسن. الترغيب والترهيب (2/316).
[2] أخرجه مسلم (772).
[3] أخرجه البخاري (1084) مسلم (373).
[4] أخرجه ابن ماجه (3803) وصححه الألباني.
[5] أخرجه البخاري (557).
[6] أخرجه البخاري (5142).
[7] أخرجه البخاري (244) مسلم (2710).
[8] أخرجه مسلم (2711).
[9] أخرجه أبو داود (4023) وحسنه الألباني.
[10] أخرجه البخاري (3115) مسلم (2162).
[11] أخرجه البخاري (1342) مسلم (532).
[12] أخرجه الترمذي (3431) وصححه ابن القيم في الزاد (2/418).
[13] أخرجه مسلم (2708).
[14] أخرجه مسلم (386 ).
[15] أخرجه أبو داود (1319) وحسنه ابن حجر في الفتح (3/205).
[16] أخرجه البخاري (1200) مسلم (620).
[17] أخرجه أبو داود (3868) وصححه ابن القيم في زاد المعاد (2/337).
[18] أخرجه الترمذي (3524)، وصححه المنذري في الترغيب والترهيب (1/313).
[19] أخرجه ابن ماجه (3803)وجود إسناده النووي في الأذكار (ص399).

---------------------------------------------
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مقالات, النبوة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع من مقامات النبوة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مقامات أبو سمرة ... ! الامير الفقير الكاتب الامير الفقير (العراق) 2 08-03-2012 08:30 PM
الفُكاهة في مقامات بديع الزمان الهمذاني يقيني بالله يقيني أخبار ومختارات أدبية 2 04-17-2012 06:26 PM
برنامج مقالات الشيخ د. سلمان العودة - نسخة آيباد 1.0 Eng.Jordan الحاسوب والاتصالات 0 04-06-2012 04:16 PM
حمل كتاب مقامات الحريري Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-02-2012 10:48 PM
فيض الخاطر وهو مجموع مقالات أدبية واجتماعية _ أحمد امين احمد ادريس دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-20-2012 06:27 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:10 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59