#1  
قديم 08-11-2014, 07:21 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,044
ورقة محمود شاكر شيخي الذي لم يعلّمني


محمود شاكر.. عن شيخي الذي لم يعلّمني
ــــــــــــــــــــ

(كريم محمد)
ـــــــ

15 / 10 / 1435 هــ
11 / 8 / 2014 م
ــــــــــ

images?q=tbn:ANd9GcTU-NzrO8npdcC9V9A4bdWWem8cDwqoeQ1JdpVkQYW_jCGzrHcR

أذكرُ أنّ أوّل كتاب قرأته “كاملًا”، كان كتاب أستاذنا المرحوم محمود محمّد شاكر: “أباطيل وأسمار”، وكان ذلك في صيف إجازة، كنتُ أسمع عن شاكر ولما جئتُ إليه لم أكُ خالي الوفاض منه، بل كنت أجيء بزهوة العارف لا خفوت الجاهل بالشخص، وأيضًا فإنّ مسائل الكتاب التي يناقشها، أو بالأحرى: يحقّقها -بالمعنى الأعم للتحقيق- لم تكن خافية عليّ؛ فكنتُ أعرف موقفه من أبي العلاء، وموقفه بالتبع من لويس عوض وغيره. إلّا أنّني كنتُ مزهوًّا بشاكر، لأنّني ارتأيتُ رؤيته مسبقًا عندما اطلعتُ من قبل على “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، وعرفتُ موقفه من الثقافة الحديثة عامّة، غربًا وشرقًا. وأن تأتي بزهوة العالم بالشخص، ليس في صالحك عامّة، بل ربّما كنت بحاجة إلى مسافة الجاهل كي تعيد ترتيب نفسك داخل النصّ المقروء، أو أن تُعيد، بالأحرى، بناء سياقك.

بالطبع، أن أتحدّث عن شاكر من الآن وهنا، غير أن أتكلّم عنه من عدة سنوات، بيد أن هذا الاختلاف في “الكلام” عنه وفيه هو اختلاف المحبّ وليس اختلاف المنتكس عليه. نعم، إنّ أبا فهر – نوّر الله ضريحه – كان عينيّ للعربيّة (عليّ أن أؤكّد هاهنا أنني تشرّبتُ منه لفظة “العربيّة” وليس “اللغة العربيّة”، كما يحلو للكثير)، العربيّة بمعناها الأعمّ، ذوقًا وبيانًا سليمًا، أو بلغة شاكر، إبانة عن النفس. ولازلتُ أذكر أنّني كنت أردّد بعض مقاطعه من نفاسة القول، ودقّة اللفظ الواقع على المعنى؛ كأنّه – يرحمه الله – كان يحقّق مقصود عبد القاهر بالنّظم بهذا الجمع الجميل بين اللفظ ومعناه، كمن يختار وردةَ المائدة.

أحببتُ العربيّة على يدِ هذا الرجل، ولا يعني أنّني تلبستُ بقضاياه، كنتُ أرى دائمًا أنّ قضايا أبي فهر هي ذاتيّة وليست موضوعيّة؛ فأنْ تكون شاكريًّا ليس أكثر من أن تجترّ معاركَ متخيّلة مع طه حسين وجوقته، ومع الجيل الثاني من الجوقة مع لويس عوض وغيرهم. من الصعب أن يكون المرء شاكريًّا دائمًا. فشاكر، بشخصيّته وفكره وذاتيته، يُدخلك في علاقة مُلتبسة بينك وبينه. لذلك أرى أنّ مواقف شاكر تحتاج إلى تحليل نفسي وليس إلى كلّ هذا التبجيل غير المبرّر من الشاكريين. أتفهّم أن تدافع عن قضايا نظريّة قد نافح عنها شاكر، وأنا من هؤلاء بالمناسبة لا زلتُ أدافع عن أوّل مقالات بأباطيل وأسمار وأرى أن بإمكاننا تسميتهم “علم الجرح والتعديل الأدبي”، وكذا عن تعليقاته في شروح الشعر؛ لكنّي – وأي قارئ – ليس مطالبًا بالإيمان بمواقف شاكر الحياتيّة بدايةً من ترك الجامعة انتهاءً بموقفه من الثقافة الحديثة مثلًا. فرقٌ بين أن تقرأ الرجل، وأن تضطلع هُوويًّا بالحديث عنه من داخله.

أهمّ ما يمكن التركيز عليه في قراءة مؤلّفين كشاكر هو محاولة الإفلات منهم كي نعود إليهم مرّة أخرى؛ بمعنى أنّك لا تحتاج أن تتكلّم عنه بلغته أو بتفسيراته عن حياته وكتابته، بل أنت بحاجة للتفكير مع شاكر ضدّ شاكر، ولقلب لغته عليه كأقصى نوع من الجمال الميتافيزيقي لمصاحبة المعنى الذي وفّره والأفق الرائع الذي دشّنه لمحبّي العربية. علينا أن نقرأ شاكر في سياق بشري قليلًا، وليس في سياق بطولي وملحمي كما يصوّر لنا هو دائمًا، أو يصوّر الشاكريون.

لا يخفى أن شاكر يمتلك فرادة عظيمة في تذوّق النصوص شعريّها ونحويّها وعروضيّها إلى غير ذلك، ويعجب المرء كثيرًا من طرافة شاكر المبهرة في هذه الإقامة “الطيّبة” في معجم الأمّة العربيّة. إن لشاكر صلة خفيّة بالمتنبي في بداية حياته، وربّ كتابٍ أنجزه شاكر عن المتنبي ليس سوى تحقيق لآمال الطفل الذي حفظ المتنبي في صغره. نعم، إنّ شاكر، وهذا تعلّمته منه، له صلات شخصيّة وذاتية بالمؤلّفين والشعراء الذين يحبّهم، وهذا أمر عالٍ ونادر ونفيس، لأن المعرفة تهرب من موضوعيتها الجافّة إلى صداقتها الرائعة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى جيل دولوز، وصداقة الحكمة؛ حيث إن الصديق هو موفّر معرفي للآخر الذي لم يلتقه، ونمطٌ آخريّ للعلاقة مع المؤلفين بشكل حميميّ.

هذه الذائقة الفريدة، هي من جعلت شاكر يمتلك جرأة عالية لنقد التراث اللغوي في شروحه لبعض الأشعار، فتجد أنّه يدخل في قراءة حادّة لبعض الأبيات، ويدافع عن تأويله بشيءٍ من الوثوقيّة الأنيقة التي تجعلك تنحاز إليها ضدّ الشراح القدامى. في هذا المقال، لا أغفل تعليقه على بيت امرئ القيس: “وليلٍ كموج البحر..”، حيث إنّ شاكر أهدر كلّ التأويل من قبله، لينتصر لتأويله هو، ويمكن مراجعة ذلك في تعليقه على البيت بكتاب ابن سلام الذي حقّقه المعنون: “طبقات فحول الشعراء”.

الإشارة السابقة أردتُ منها أن أقول إنّ شاكر ليس سلفيًّا بالمعنى التقليديّ، بل هو مجتهد كبير وعالم، ومن الذين يقيمون علاقة نقدية مع التراث الذي ينتمي إليه، بعلم وبصيرة. بيد أنّ محمود شاكر يغلب عليه عقلية الضابط لا عقليّة المحلّل، بمعنى أنّه مهجوس بضبط النّص والقول والبيت إلخ، قبل أن التحليل، ليس هذا غير حسن بالطبع، لكن هو توصيف لطبيعة الاشتغال. فاشتغال شاكر بالأساس كان تحقيقيًّا، ومحاولة لضبط النّصوص وقراءتها بتأنٍّ، بل إنّنا يمكن أن نقول إنّ عزلته التي دخل بها في بداية عمره كانت لأجل ضبط العلم الذي رأى أنّه متسيّب في الجامعة المصريّة آنذاك.

المهمّ، أعود للجديث الذي فيما ابتدأته، وأقول إنّني كنت مهووسًا بقراءة كلّ ما كُتب عن شاكر، كنتُ أتلهّف لأخباره، غير أنّي خرجتُ منه مبكّرًا، كي أعود إليه (وأنا الذي لم أذهب) كي تستمرّ العلاقة بيننا. بل إنّني عندما أسافر أو أذهب إلى أيّ مكان يكون من دواعي سروري أن ألتقي بشاكريّ ما، محبّ لشاكر، هذه الأخوّة الميتافيزيقيّة التي اجتمعت على مؤلّف غائب.

رحلَ شاكر، رحيلًا عاديًّا وليس عاديًّا، لما خلّفه من جمهرة محبيه وتلامذته، وكم أكل الناس وشربوا على تعليقاته وتحقيقاته؛ فبيته -كما يسمّيه العلّامة إحسان عباس- هو “كعبة العلم” التي نهل النورَ منها الكثيرُ. وهو رحيلٌ عاديّ لأنّه إمكان للانتحار الذي أراد شاكر أن يبتدئ به حياته عندما فكّر بالانتحار أوّل أمره، لكنّه انتحار مؤمن ونبيل.
-------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
محمود, الذي, يعلّمني, شاكر, شيخي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع محمود شاكر شيخي الذي لم يعلّمني
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
معارك محمود محمد شاكر الأدبية عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 0 03-26-2013 02:29 PM
قراءة في مجالس العلامة محمود محمد شاكر Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 11-30-2012 10:50 PM
أبو فهر.. محمود محمد شاكر Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-19-2012 10:55 AM
سهرة خاصة عن العلامة أبي فهر محمود شاكر Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-19-2012 10:48 AM
محمود شاكر .. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا احمد ادريس كتب ومراجع إلكترونية 2 01-13-2012 05:59 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:23 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59