#1  
قديم 11-03-2012, 11:32 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي خصوصية قراءة رسائل المشاهير في الأدب العالمي - . عبد الباقي يوسف


12-4e3cfe1996024.jpg

الرسالة هي تعبير مباشر يعبر من خلالها الكاتب عن حالته الشخصية، وعن خصوصية نظرته ومفهومه لما يرى من أحداث ومستجدات في الحياة، يوجهها الكاتب إلى شخص مقرّب لديه، وحيث أن الكاتب يمتلك تأثيراً من خلال ما يبدع، فإن رسائله تحظى بأهمية في قراءات تأويلية وتحليلية متعددة تضاف إلى قائمة إنتاجه الأدبي.
حظي الأدب العالمي برسائل بالغة الأهمية كتبها نوابغ الأدب في العالم، وتكمن أهمية هذه الرسائل أنها تعرّف القارئ بشكل مباشر بالمبدع الذي عادة يتخفى خلف شخوصه في أعماله الأدبية.
مع الرسائل يتمكن القارئ من الوقوف وجهاً لوجه مع الأديب، ومن جهة أخرى تكون فرصة مذهلة للقارئ والناقد معاً لإعادة قراءة أعمال هذا الكاتب بعد نقاط الضوء التي سلطها الكاتب على نفسه، وعلى تفاصيل الواقع الذي يعيش فيه من خلال الرسائل التي خطها إلى أناس أعزاء لديه.
من هنا أعتقد بأن الناقد والقارئ معاً تعرفا على فرانز كافكا بشكل أكثر قرباً بعد قراءة رسائله التي كانت تشرح في مواضع كثيرة غموض إبداعه، وكذلك الأمر مع دستويفسكي، وناظم حكمت، وهاينرش فون كلايست وغيرهم من كبار الشخصيات الأدبية التي تركت بصمات عميقة في تاريخ الأدب الإنساني.

فيدودور دستويفسكي يكتب عن معاناته الشخصية إلى أخيه
يتحدث دستويفسكي بشكل شخصي، وشبه سري لأخيه في رسائل خاصة تعبّر عن تفاصيل وقائع حياة هذا الروائي الروسي الكبير.
بعد قراءة هذا الرسائل التي حرص أن تكون سرية، ولم يطلع عليها أحد لأنه كان يفرّغ فيها معاناته الشخصية التي كالت تفجر لديه تلك العبارات الملتهبة التي سحرت الملايين من قرائه من مختلف أنحاء العالم وبغالبية لغاته الحية، نتوقف أمام حقيقة اقتران الإبداعات العظيمة بالمعاناة العظيمة، فيمكن ملاحظة أن معظم مراحل العباقرة والنوابغ كانت معاناة في معاناة، والمعاناة تقترن بالإبداع في كافة ألوانه وأشكاله.
لولا المعاناة لما كان هناك طموح، لما كانت ثمة آمال وأحلام.
لقد كان أبو لينير- صاحب ذاك المسرح المذهل - يعاني طيلة حياته من شعوره بأنه ابن غير شرعي، وكان كافكا - مبدع رواية المسخ – لا يستطيع أن يتخلص من شعوره الأعمق بأنه حشرة كبيرة غير مرغوب فيها، ولم يتلق رامبو - مبدع تلك القصائد الرائعة - قبلة حب حقيقية من شخص، وعانى بودلير الأهوال من زوج أمه، وأمضى المركيز دي ساد خمساً وعشرين سنة في السجن، وانتهى سويفت إلى الوهن العقلي أواخر حياته، وانتهى نيتشه بالجنون، ويقول سارتر: كنتُ بمنتهى الصدق أرى جامعاً مكان معمل، وكان عنوان مسرحية يزرع الرعب في طريقي.
يقول سترندبرغ: إنني أجد بهجة الحياة في صراعاتها الأكثر حدة.
فالكاتب الذي يستعير كتاباً بسبب الفقر وضيق اليد، يقبل على قراءته بنهم حرفاً حرفاً أكثر من كاتب تهدى إليه مجموعات من الكتب كل شهر.
في إحدى رسائل دستويفسكي يقول: لا أملك كوبيكا واحداً لكتابة رسالة.. لقد بلغ الفقر بالسيد دستويفسكي إلى أقصى مراحله..
بقوة عظمى يستخدم الكتابة للتعبير عن نفسه إذ لا يملك غيرها، إنه يرمز إلى الإنسان الفقير، بل هو لسان حالهم ورسولهم، يروي تاريخهم ربما دون قصد عندما يروي تاريخه.
لا شك أن الكثيرين لا يملكون قيمة قدح من شاي، أو قيمة سيجارة واحدة ويعانون الفقر وأمراض سوء التغذية وفقر الدم مثل دستويفسكي نفسه، وهو من هذا المنطلق يتضامن معهم ويطرح مآسيهم، ومن هنا فإنه يكتب الجملة الصادقة إلى أخيه في إحدى هذه الرسائل التي يقول فيها: وما تبقى لي سوى هذا القلب والدم اللحم، هذا الذي يعاني ويشفق ويتذكر ويبدع الحياة رغم كل شيء. لم أشعر بها مطلقاً بهذه الخواص الملأى بالقسوة والغنى الفكري من قبل كما أشعر بها الآن.
لا شيء يفسد على المبدع إبداعه سوى أشكال الرفاهية التي تقتل فيه روح الإبداع، ويمكن ملاحظة أن الإنسان بصورة شبه عامة تخلى عن شفافيته في زحمة مطاردته للحياة والرفاهية بعد ثورة الانفتاح الاقتصادي.
لقد خسر هذا الإنسان الشيء الذي لاشيء يعوضه على الإطلاق وهو في أثناء جريه يتحسس مرارة هذه الخسارة الفادحة.
إن دستويفسكي يكون أقوى في وضعه، يكتب بقوة هائلة يقول: نعم إنهم منعوني من الكتابة، إنني أفضّل أن أُسجن خمسة عشر عاماً شرط أن أحتفظ بقلمي في يدي.. إنني لم أفقد الأمل.
ويختتم خوفه: أنا مسكون بالخوف من أن يُصاب حبي الأول للعمل بالفتور قبل انطلاقه على الورق.
لقد استطاع فيودور دستويفسكي أن يهدي العالم إبداعات أكثر من أغنى رجل من أبناء عصره.
إن كل من يحمل القلم، يحمل في قلبه ألماً يسعى بالقلم أن يعبّر عن هذا الألم.. ويبقى يكتب إلى أن يموت وفي قلبه الكلمة التي لم يتمكن من قولها والتي تخلصه من ألمه، وأما إذا اهتدى إلى الكلمة المضبوطة المعبرة فإنه سيقولها ويبقى قلمه منطفئاً إلى أن ينطفئ عقب انطفاء قلمه وفي لحظات الاحتضار الأخيرة سيكتشف بأن تلك الكلمة خانته ولم تكن مضبوطة بالمرة.

رسائل ناظم حكمت.. شاعر تركيا الأول
يعد الشاعر التركي ناظم حكمت من أبرز الأسماء الشعرية في تركيا، ويمكن اعتباره الشاعر التركي الأول في العصر الحديث لما لأشعاره من أهمية جعلتها تُترجم إلى غالبية لغات العالم.
وناظم حكمت قريب إلى الشعوب الشرقية بأفكاره وتفاؤله، ولذلك لاقى إقبالاً كبيراً في البلدان العربية شأنه في ذلك شأن عزيز نيسين، ويشار كمال.
مجموعة من الرسائل كان الشاعر التركي ناظم حكمت كتبها في السجن، وهي لاتقل أهمية عن قصائده كونها تعبّر عن تفاصيل دقيقة عاشها الشاعر بانتظار خروجه من السجن.

رسائل الأمل والحكمة
عندما أقرأ ناظم حكمت لا أشعر بأنني أقرأ شاعراً قدر ما أقرأ حكيماً وداعياً من كبار الدعاة إلى تمجيد حرية الإنسان الشخصية، ولذلك فإن قصائده تفوح منها رائحة الحرية أكثر من أي إحساس آخر، وهذا ما كنّا نلمسه في شعر بول إيلوار بيد أن الخلاف يكمن هنا أن ناظم حكمت كان يكتب بتلك القوة عن مساحة ورحاب وفكرة الحرية، والحرية محجوزة عنه، فلم يكن باستطاعته أن يمارس حريته وهو داخل السجن. وهنا بتقديري تكمن خصوصية هذه القصائد، وحتى هذه الرسائل التي كان يكتبها داخل السجن، فهي تتحدث عن شخص سوف يخرج غداً ويمارس طقوس حريته أكثر من أي شخص آخر.
نتعلم من الألم أكثر مما نتعلم من السعادة إذا كانت ثمة سعادة حقيقة بعمق الألم لأن الإنسان هو ابن الألم قبل أن يعرف السعادة، إنه ابن البكاء قبل أن يعرف الضحك، دوماً في البدء يتعلم المآسي والإخفاقات ويصلب عوده مع المعاناة.
الذين يظنون السعادة، دوماً تفوتهم تفاصيل الحياة الأكثر حرارة والأكثر واقعية والأكثر دقة, لقد جاء الإنسان إلى الأرض ليتألم ويعيش تفاصيل هذا الألم، والبطولة لمن يستطيع أن يقدم شيئاً مجدياً للحياة في دائرة هذا الألم.

ثنائية الألم والأمل
دوماً من أعماق الألم وُلدت الإبداعات والمكتشفات والأعمال العظيمة، الألم تلك المدرسة العظمى التي تعلّمنا كيف نكافح لنحصل على خبز يومنا، كيف نتكاتف مع آلام الآخرين,، كيف نكون عمالاً وواقعيين.
مع قراءة قصائد ومعظم كتابات ناظم حكمت نقف أمام مساحة الأمل الشاسعة التي يتمتع بها هذا الرجل وندرك أن من المعاناة يولد إنسان حقيقي يقدم الحقائق في انتظار شروق الشمس التي لا تشرق,، في انتظار العفو العام الذي لن يأتي، إنه سيزيف المكافح، وهذا أكثر ما يميّز الإنسان وأكثر ما يرفع من سموّه.
هذا حال الإنسان في الحياة، فما حال الإنسان في السجن، في غرفة مغلقة؟!
من هنا تأتي أهمية رسائل ناظم حكمت التي كتبها في سجنه، كونها من شخص مفرط الحساسية وبتلك الحساسية العالية يتوجه برسائله إلى العالم من خلال بعض الأصدقاء والمقربين، وهو يدرك حقيقة أن رسائله ستنتشر في العالم، أو على الأقل في بلاده، وهي مجموعة من الرسائل الهامة كتبها ناظم حكمت وهو مفعم بالأمل.. ناظم حكمت لا يعرف اليأس فدوماً ثمة شمس ستشرق ودوماً سيعيش الحياة وسيرى ما هو أهم، وهو يرفع شعار:
أجمل البحار هي التي لم تبحر بها بعد
وأجمل الأطفال لم يترعرع بعد
وأجمل أيامنا هي تلك التي لم نعشها بعد
وأجمل ما يمكن أن أقوله لك هو ما لم أقله لك بعد.

تفاؤلي هذا الكنز الذي لا ينضب
هذه الطاقة على أمل لم يبارحه، جعلته رغم إنه في وحدته المنعزلة عن العالم، يحيك لرفاقه في السجن السراويل والقمصان ويوجه رسائله إلى كمال طاهر، السجين مثله لنفس الأسباب، وإلى شقيقته سامية، وإلى صديق صباه فالا نور الدين وزوجته مزهر..
فمنذ الرسالة الأولى وهو على موعد قريب مع العفو العام.
بتاريخ 5-12-1940 ينقل لكمال ما يقوله له المستشار الحقوقي لوزارة الأشغال العامة: أستطيع أن أؤكد لك إنه سيطلق سراحك قريباً خلال شهر من الآن.
ويبقى ناظم حكمت يعيش على الأمل حتى الرسالة الأخيرة التي يكتبها بتاريخ 8-5 -1950 وفيها يُعلم فالا ومزهر بأنه على وشك الخروج قريباً: أطلب إليكما استضافتي لبعض الوقت، لا تتحركا انتظرا برقيتي.
لكنه يواسي نفسه قائلاً: لو متُ دون أن أعرف هذا العذاب لكنت وليت دون أن أفهم وجهاً مهماً جداً من وجوه الحياة في هذا الميدان، حمداً لله.

ويردّد في لحظات اليأس أمام المساجين:
تفاؤلي هذا الكنز الفريد الذي لا ينضب
يغلي ويطوف، قريباً نصبح أحراراً، أقول لنفسي
وأعاند وفي هذه اللحظة يبدو لي العالم حاشداً بالناس الطيبين
سوف نلتقي يا أصدقائي سوف نلتقي
سنضحك جميعا تحت الشمس.

تمتّع بالهنيهـة
إنه الأمل الذي يجعلك تبكي غضباً وتعاطفاً، ويستثمر ناظم حكمت أوقاته بالقراءة والكتابة في كفاح متواصل مع الحياة دون أن يعرف اليأس طريقاً إليه.
إن هذه الرسائل التي كتبها ناظم حكمت في سجنه هامة كأهمية ما خلفه من أشعار ومسرح وأجناس أدبية متفرقة لأن هذه الرسائل القريبة جداً من أسلوب المذكرات، تعطي القراء صورة حقيقية عن شخصية وأفكار ناظم حكمت المباشرة, فهي توجه إلى الصبر والانتظار، وأن الحياة أعظم من أن نتركها لأجل بعض القسوة أو الظلم، ودوماً فإن الأيام الجميلة هي التي ستأتي لأن الحياة مفعمة بالمفاجآت والتقلبات، ولا يمكن لها أن تتوقف أمام شخص معين أو تجمد أمام حدث معيّن، إنها تتجدد كل صباح وتحمل معها الأمل والمفاجآت المدهشة، وليس هناك أفضل من أن يتسلح الإنسان بهذا الأمل لمواجهة الكوارث.. يكتب ناظم حكمت مُصوراً مشاهد الحياة:
(هذه الحقيقة، هذه الأرض الرطبة، عطر الياسمين، ليلة ضوء القمر، كل هذا سيشع عندما أكون قد وليت لأن كل شيء كان قبلي وسيكون بعدي وبدوني، فما عكست إلا صورة الأصل، الحياة تجري قبل أن تغرق في سبات دون يقظة، تمتع بالهنيهة).
إنها صورة قوية وحقيقية عن حجم الأمل الإنساني في مواجهة اليأس محملة بالنفس الإنساني والعلاقات الإنسانية ونظرة الإنسان السجين إلى الحياة وقضية الحرية الإنسانية.
أجل فإننا لا نحتاج شيئاً قدر حاجتنا إلى صيحات الأمل التي كانت تنطلق وعلى الأخص من أولئك العظماء الذين انتظروا ذاك الأمل حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم، وهنا نعلم بأن تلك الطاقة كانت تمدهم بدفقات الحياة، وقد عاشوا حقاً وتمتعوا بتلك الحياة التي عاشوها، لقد استطاعوا أن ينتصروا على مشاعر اليأس.
أظن أننا بحاجة إلى أناس كهؤلاء، إنهم دون شك يعيشون في هذه الحياة، ولكن علينا أيضاً أن نبحث عنهم ونتعلم منهم، ونكتشفهم أيضاً.
يبقى المرء يتوق بين حين وحين لإعادة قراءة هذه الرسائل الثمينة.

هاينرش فون كلايست
يشرح هاينرش فون كلايست سبب كراهيته للحياة وحبه للموت قائلاً في رسالة إلى أخته أولريكه بتاريخ 26 تشرين الأول 1803/عزيزتي: إن ما سأكتبه إليك قد يكلفك حياتك، ولكني لابد.. لابد.. لابد أن أكتبه إليك. لقد تناولت في باريس عملي على قدر ما تم فيه، وراجعته ورفضته، ثم مزقته. والآن انتهى كل شيء. إن السماء تحرمني من الشهرة، من أعظم نعمة في الدنيا. ولهذا فإنني ألقي إليها كالطفل العنيد بكل النعم الأخرى، ولهذا فإنني ألقي بنفسي إليه، هو الموت الجميل على أرض المعارك. إنني أبتهج بالتفكير في القبر ذي العظمة اللانهائية.
مع هاينرش ندخل إلى تفاصيل عالم شخص بالغ العبقرية مجبل بالحساسية والتوتر والآلام الكبرى، إنه لا يرى مخرجاً من كل تلك الاضطرابات إلا بالموت وهو يكتب عن الأوتار الأكثر حساسية في هذا الأمر، أعني جوهر العلاقة بين الإنسان والحياة. كلايست وهو يحاول أن يقدم مفهومه هذا يقدم لنفسه قناعة كاملة عن جدوى هذا المفهوم ويدعو الآخرين أن يشاركوه هذا المفهوم حتى إنه في المناسبات السعيدة يقول للعروسين مثلاً: أتمنى لكما موتاً سعيداً. وكتأكيد على انسجامه التام مع مفهومه يتوسل كلايست بإلحاح إلى (كارولين فون شيلر) لتقبل أن تكون شريكته في الانتحار بيد أنها ترفض هذا العرض، وترفض متعة تلقي رصاصة الموت كما يقول لها، ولا تتردد من أن تنفصل عن صداقته لأنها مولعة بحب الحياة. ويلجأ كلايست إلى صديقه (روهلة) قائلاً: هناك فكرة لاتفارق ذهني، وهي إنه لنا أن نقوم مرة أخرى بعمل مشترك فهلمّ، ولنقم بعمل حسن ونموت معه، نموت إحدى ميتاتنا التي تُعد بالملايين التي متناها، والتي سنموتها بعد، وإن الأمر ليشبه خروجنا من غرفة ودخولنا في أخرى/. ولكن روهلة أيضاً يرفض ذلك ويبتعد عنه لأنه شديد التعلق بالحياة. يكتب كلايست في رسالة إلى إحدى الصديقات العزيزات لديه: فلتهب لك السماء موتاً فيه شطر من البهجة والمرح اللذين لا يوصفان، واللذان يوجدان في موتي، وهذه هي أكثر الأماني التي أستطيع أن أتمنّاها لك حرارة وعمقاً. ويصف كلايست لحظات موته قائلاً:

الآن أيهذا الخلود أصبحت لي كلك
فأنت تنفذ بشعاعك من خلال العصابة على عيني
مرسلاً بهاء الشمس المتضاعفة آلاف الأضعاف
لقد نبت لي جناحان على كاهلي
وهاهي ذي روحي تحلق في مجالات الأثير الساكن
وهي ترى مدينة الميناء اللاّهية تغوص
كسفينة تخطفها نسائم الريح
وكذلك تتوارى عنّي كل حياة
غائبة في الغسق
أما الآن فمازلت أميّــز الألوان والأشكال
والآن أخلّـف كل ضباب تحتــي.

إن ما يدفع كلايست إلى الموت هو هذا الألم الذي يستوطن روحه فيشعر بأنه فقد كل شيء بشكل مطلق، ولم تعد الحياة تحمل إليه غير المأساة. إنه يناشد الخلاص في الموت، ولأنه لا يريد الاستسلام إليه مرغماً أو مهزوماً كما ينهزم الجنود في الحروب الخاسرة أو يستسلمون، فإنه يقوم بالاستعدادات للرحيل الأخير ويريد أن يصطحب معه مَنْ يحب. وإذا نظرنا في رسائله سنعثر على حجم الألم الهائل الذي يعيشه لحظة بلحظة. يقول:/ لقد أصاب الجرح روحي حتى لأكاد أقول إنني حين أخرج أنفي من النافذة يؤلمني ضوء النهار الذي يلتمع في وجهي /. ولكنه في النهاية يرى المرأة التي أصاب الجرح روحها كذلك فتقبل أن تشاركه الانتحار وهي امرأة أصيبت بداء السرطان ويئست من الشفاء، فيتخيل كلايست لحظة إطلاق الرصاص عليها سيكون/ ضريحها أحبّ من أسـرّة كل الإمبراطورات في العالم/. ثم يكتب رسالته الأخيرة إلى أخته: / إلى أولريكة فون كلايست إلى صاحبة العصمة، لا يمكنني أن أموت قبل أن أتصالح راضياً تماماً على نحو ما أنا الآن مع الدنيا كلها، وبالتالي وقبل كل شيء آخر معك يا أولريكة يا أعز الناس عندي. دعيني أرجع عن التعبير القاسي الذي ضمنته خطابي إلى آل كلايست.. لقد فعلتِ، لا أقول أقصى ما يمكن أن تفعله أخت، بل أقول أقصى ما يمكن أن يفعله إنسان لإنقاذي. والواقع إنه لم تعد في الدنيا وسيلة لمساعدتي، والآن أقول لك وداعاً ولعل السماء تمنحك ميتة فيها نصف ما في ميتتي من الفرحة والبشاشة التي لا سبيل إلى التعبير عنها. هذه هي أخلص وأحب أمنية استطيع أن أتمنّاها لك /.
أخوك هاينرش
شتيمينجس – قرب بوتسدام
صباح يوم موتـــي
ثم ينشد كلايست نشيد الموت الأخير في حياته وهو يخاطب هذه المرأة التي وضعت يدها بيده:
قفــي وانتصبي صامدة مثلما تنتصب القبة
لأن كلاً يريد أن يهدّ لبِناتها
وقدمـي هامتك كحجر البناء الأخير
إلى بروق الآلهة وناديها: فلتصيبي
ودعي النفس تتصدع حتى القدمين
مادامت نفحة من ملاط وحجــر
متماســكة في هذا الصدر الفتــي.

الرسائل كدليل للتعرف على شخصية المبدع
أحياناً يشكل القارئ مفهوماً شخصياً عن المبدع من خلال ما يقرأ له من أعمال أدبية، ولكن عندما يقرأ رسائله، يشعر بأنه تعرف إليه بشكل أقرب، وهذا يؤدي إلى قراءة وتذوّق أدبه بشكل أقرب إلى شخصية الأديب.
يظن المرء للوهلة الأولى أن آغاتا كريستي امرأة بوليسية صلبة، ولكن لدى حديثها عن نمط حياتها، سرعان ما يتغير هذا المفهوم.
تقول كريستي عن طفولتها: من أمتع سنوات حياتي وأسعدها، سنوات طفولتي الأولى، كان لدي بيت وحديقة كنت أعشقهما، ومربية ممتازة، وكان أبي وأمي يجسدان الحب والحنان وجعلا من حياتهما حياة ناجحة وهانئة.
إن ما لفت الأنظار إليها بقوة ككاتبة بارعة في الاتجاه البوليسي هو كتابها "أساليب القتل في القضايا الغامضة" وبخاصة شخصية "هيركول بايروت" التي غدت محببة في صفوف كبار الممثلين السينمائيين والمسرحيين بحيث بات كل ممثل لامع يحلم بأداء هذا الدور كي يحظى بمكانة لدى القراء، وبالفعل كانت عملية قريبة إلى المباراة لتجسيد هذا الدور، ومن أشهر هؤلاء ألبرت فيثي، وبيترا ستنيوف، ويذكر أن رواية هذه الكاتبة البارعة الأخيرة "مصيدة الفئران" لعبت أدوارها 13780 مرة وتُرجمت إلى 25 لغة.
لكن بقيت آغاتا كريستي سـيدة هادئة الطبع، تعيش حرارة وبرودة وقائع الحياة الاجتماعية العامة، وبعد كل هذه التجارب والمحن والإبداعات قالت في نهاية حياتها: هذه نزهاتي الطويلة قد انتهت، وحمام البحر الذي آسف عليه، وتناول شريحة من اللحم الـ(ستيك) أو التفاح، أو ثمار العليق، وهاهي متاعب الأسنان أيضاً، والحرمان من الطباعة الأولى الدقيقة، لكن مازال هناك الشيء الكثير.. الأوبرا.. الموسيقى.. ومتعة الإيواء إلى السرير والذهاب في نوم عميق أحلم فيه بأشياء متنوعة. شكرا لله على هذه الحياة الجميلة التي عشتها، وعلى كل هذا الحب الذي لقيته.
نتعرف على الروائية الفرنسية فرنسواز ساغان بشكل أكثر قرباً من خلال كتاباتها الخاصة التي تعد اعترافات تقدم سيكولوجية الكاتبة إلى قرائها تقول: إني متأكدة من أني قد تغيرت، ولكن ليس لدي انطباع بأني نضجت وفهمت الشيء الكثير، وإني لأتساءل إن لم أكن في الثامنة عشرة أغزر معرفة مني اليوم. على كل حال، كنت حينها أكثر ثقة بنفسي وبأحكامي، وأعمق تصميماً، في العشرين نكون مترددين، ولكن مقتنعين. في شبابي - إن وسعني قول ذلك - كانت الأمور واضحة وكان هناك لطفاء وأشرار، ويساريون ويمينيون. أشياء بسيطة جداً، ولكن في غاية الوضوح، ذاك أمر يدعو للاطمئنان. عصر اليوم يلفه الغموض قليلاً. كل شيء مشوّش مع هذه العبادة للمال التي أضحت لا تطاق. أصبح نصف الناس من التابعين والنصف الآخر متعصباً، لم تكن الأمور هكذا في الماضي.
بيد أن السعادة ما تزال تأتي من الكتابة، فتشعر بحياة جديدة وبدفق حيوي جديد مع إبداع كل سطر وكل صفحة وكل كتاب، وهي واثقة بأنها سوف تعثر على كلمات لم تكتبها بعد، وتقدم أفكاراً لم تقدمها للقراء بعد.
تقول: السعادة.. سعادة الكتابة وحسب، إنني متأكدة من أن الكاتب الرديء نفسه يعيش لحظات سحرية عندما يعثر على الجملة المناسبة، والتوافق بين كلمتين في هذه اللحظات، هذه اللحظات وحدها، يشعر الكاتب بأنه كاتب حقيقي.. إنني مولعة بحب الحياة، قضيتها وأنا أعيش أكثر مما فعلت، وأنا أكتب أتمتع بحس السعادة، التعاسة لا تعلمنا شيئاً.
كذلك نتعرف على أفكار سيمون دي بوفوار من خلال ما تركت من أحاديث ورسائل شخصية تفسر أدبها، وتعكس صورة عن مفهومها للأدب والحياة والآخرين.
تقول عن كتابها الجنس الآخر: هوجمت خصوصاً بسبب فصل الأمومة، وصرّح رجال كثيرون بأنه لم يكن يحق لي التحدث عن النساء لكوني لم أنجب أولاداً، ترى، هل أنجبوا هم.؟ إنهم يعارضونني بأفكار ليست حاسمة ولا قطعية، أتراني قد رفضت كل قيمة لشعور الأمومة والحب؟ كلا، لقد طلبت من المرأة أن تعايش هاتين القيمتين وبشكل حرّ، في حين أنهما غالباً ما يخدمانها كحجة، وأنها تخضع لهما إلى درجة أن الخضوع يبقى إذ يكون القلب قد جفّ.
وتضيف: كان من ألوان سوء التفاهم التي خلقها الكِتاب الاعتقاد بأني كنت أنكر فيه أي فرق بين الرجال والنساء، والحقيقة أني بالعكس قست وأنا أكتب الكتاب ما يفصل الجنسين، ولكن ما ذهبت إليه هو أن تلك الاختلافات هي ثقافية وليست طبيعية، وأخذت على عاتقي أن أروي كيف كانت تنشأ هذه الاختلافات.
وتقول عن رواية "المدعوة": كانت الأرض مزروعة بالأوهام المحطمة وهي الإخفاق الذي أزعج حياتي الخاصة هو الذي خلق المدعوة، ومنحني تقهقراً بالنسبة لتجربتي الحديثة والرغبة في إنقاذها بالكلمات وأصبح ممكنا وضرورياً لي أن أضعها في كتاب.
تقول بوفوار عن رواية "المثقفون": خلافاً لما ادّعاه البعض من الخطأ اعتبار"المثقفون" رواية مفاتيح، وأنا أحتقر روايات المفاتيح احتقاري لكتب "الحيوات المروية"، وأنا لا أزعم أن "المثقفون" رواية ذات فكرة. إن رواية الفكرة تفرض حقيقة تمحو جميع الحقائق الأخرى وتوقف دائرة الاعتراضات والشكوك التي لا تنتهي، أما أنا فقد صورت بعض أشكال الحياة في فترة ما بعد الحرب من غير أن أقترح حلولاً للمشكلات التي تقلق أبطالي. وعن روايتها "دم الآخرين" تكتب بوفوار: كان موضوع دم الآخرين كما ذكرت تناقض هذه الحياة التي عشتها في ظل"حرية" اعتبرها أولئك الذين يقربونني مجرد شيء، ولكن هذه المقاصد فاتت الجمهور، وصنفها الكتاب على أنها رواية عن المقاومة، وصنفت أيضاً كرواية وجودية، وكانت هذه الكلمة قد أصبحت تلازم آلياً آثار سارتر وآثاري.
وعن علاقتها بسارتر تقول: الحقيقة إنني كنت منفصلة عن سارتر بالقدر الذي كنت ألتحم فيه مع هذه الشخصية.. كانت علاقتنا جدلية. أحياناً كنت أشعر بأنني على مسافة لا معقولة منه، وفي أحيان أخرى كنت أشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر. أخذت منه وأخذ مني، وبالتأكيد لم أكن تابعة لـه.
وتضيف: لقد كان رجلاً حقيقياً يعرف كيف ينتمي إلى الحقيقة وكيف يبحث عنها وعندما وضعت كتابي كنت واثقة أن هذا أفضل ما يمكن أن يُقدم لرجل لا يزال حياً .. كشفتُ عن سارتر الجانب الذي كان الناس يريدون أن يعرفوه، فلسفته ليست تعبيراً إمبراطورياً عن أفكار تجول في وجدان الشخص، إنها الدخول إلى أعماق الناس. حاولت أن أضيء بعض المشاهد غير المعروفة في حياته لكي أظهر كيف أن الارتجاج هو انعكاس جزئي لزلزال يتشكل داخل عقل الفيلسوف.
رسائل المبدعين هي السراج نحو التعرف على تفاصيل حياتهم، وأفكارهم عن العالم، وهي الرشيد نحو قراءة واعية لما تركوا من إبداع.




المصدر : الباحثون - العدد 50 آب 2011
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الأدب, المشاهير, الباقي, العالمي, خصوصية, يوسف, رسائل, عبد, قراءة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع خصوصية قراءة رسائل المشاهير في الأدب العالمي - . عبد الباقي يوسف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
القمح المصري.. من يوسف الصديق إلي يوسف والي Eng.Jordan شذرات مصرية 3 01-22-2016 08:11 PM
قراءة رسائل إلكترونية لـ"أوباما" عبدالناصر محمود مواقع التواصل الاجتماعي 0 04-27-2015 06:59 AM
الامل الباقي زهير شيخ تراب الشاعر زهير شيخ تراب 1 08-24-2014 09:50 AM
عيون الأدب العالمي عبق الزهر أخبار ومختارات أدبية 7 06-09-2012 10:45 AM
من روائع الأدب العالمي Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 2 02-02-2012 09:50 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:03 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59