#1  
قديم 03-02-2020, 12:38 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
25 "غدر المرأة" من كتاب "النظرات" لـ المنفلوطي


"غدر المرأة"
من كتاب "النظرات" لـ المنفلوطي

روي في إحدى الأساطير اليونانية عن حكيم من حكماء اليونان كان يحب زوجته حباً ملك عليه قلبه وعقله، ولكن، قد كان يمازج هناءه معها شقاء مستقبل يسوق إلى نفسه الخوف من أن تدورالايام دورتها فيموت ويفلت من يده ذلك القلب الذي ملأه حباً وحناناً، وهو قلب زوجته التي أقسمت له بأنها لا تسترد هبة قلبها منه حياً أو ميتاً .. فكان يطمئن إلى ذلك الوعد ويسكن كسكون الجرح تحت الماء البارد ..

وفي ليلة من الليالي المقمرة، مر بجانب مقبرة وهو عائد إلى منزله، فسمع صوت نحيب امرأة، فدخل إلى المقبرة، وإذ بامرأة جالسة امام قبر لم يجف ترابه، تحمل مروحة بيضاء مطرزةبخيوط ذهبية، تحرك بها يمنة ويسرة لتجفف بها تراب هذا القبر، فعجب لشأنها وتقدم نحوها، فارتاعت حينما رأته، فسألها من هذا الدفين؟ وماذا تفعلين؟ فأبت ان تجيبه، فجلس إلى جانبها وساعدها في عملها حتى جف التراب،

فحدثته أن الدفين هو زوجها الذي مات منذ ثلاثة أيام، وهي هنا تجفف تراب قبره، وفاء بيمين أقسمته على زوجها قبل وفاته بأن لا تتزوج بعده حتى يجف تراب قبره .. وبعد أن انهت كلامها، هنأها على زواجها الجديد .. ومضى سائراً متعجباً، حزيناً ومتوجساً، سائلاً نفسه: إن هذه المرأة جلست على قبر زوجها لتبكيه، لا لتذكر عهده، بل لتتحلل من يمين قطعته على نفسها ...

حتى وجد نفسه على باب منزله وزوجته تستقبله، فرأت كآبة وحزناً باديين على وجهه فأخبرها بما حصل معه فغضبت زوجته غضباً شديداً، وسبت المرأة وشتمتها ولعنتها على فعلتها، ونعت غدرها وخيانتها ودناءتها ... ثم قالت:وأنت.. أما زال ذاك الوسواس عالقا ببالك ما دمت حيا؟؟ وهل تحسب ان امرأة في العالم ترضى لنفسها ما رضيته لنفسها تلك الغادرة؟؟ فقال لها: إنك أقسمت لي بأن لا تتزوجي من بعدي، فهل تفين بعهدك؟

فقالت: نعم .. ورماني الله بكل ما يرمي الغادر إن فعلت ... فاطمأن لقسمها وعاد إلى هدوئه وسكونه ..
مضى على ذلك عام ثم مرض هذا الرجل مرضاً عجز به الأطباء والحكماء، حتى أشرف على الموت، فدعا زوجته وذكرها بوعدها وقسمها الذي أقسمته، فما غربت شمس ذلك اليوم حتى غربت شمسه، فأمرت أن يسجى بردائه ويترك وحده في القاعة الكبيرة المتألقة حتى تجري مراسم الدفن في اليوم الثاني، وجلست وحدها في غرفتها تبكيه وتندبه،

وبقيت على هذه الحال حتى دخلت عليها الخادمة واخبرتها بأن فتى من تلاميذ زوجها المرحوم، حضر الساعة من بلدته ليعوده حينما سمع بخبر مرضه، فلما سمع بخبر وفاته صعق وخر في مكانه صعقاً وإنه لا يزال صريعاً عند باب المنزل لا تدري ما تصنع في أمره!! فأمرتها ان تدخله إلى غرفة الأضياف إلى أن يستفيق .. ثم عادت إلى بكائها ..

وفي منتصف الليل ، هرعت الخادمة إليها مذعورة : رحمتك يا مولاتي، فالفتى يكابد آلاماً شديدة وعذاباً مهلكاً، ولا أدري ما أفعل؟!!! فأهمها الامر، وقامت تتحامل على نفسها حتى وصلت غرفة الضيف، فوجدته فرأته مسجى على الأريكة، فاقتربت منه ونظرت في وجهه، فرأت أبدع سطر خطته يد القدرة الإلهية في لوح الوجود، فأنساها ذلك الوجه المتلألىء حزنها على الفقيد الهالك، وعناها امره،

فلم تترك وسيلة إلا توسلت بها إليه لكي يستفيق، حتى استفاق ونظر إليها نظرة شكر وثناء، فقص عليها تاريخ حياته وعرفت سيرة حياته كاملة وصلته بزوجها الراحل، وأنه فتى غريب لا أم له ولا أب ولا زوجة ولا أحد، فصمتت قليلا ثم أمسكت بيده وقالت: إنك قد ثكلت أستاذك وأنا ثكلت زوجي فأصبح همنا واحد، فهل لك ان تكون عوناً لي وأن أكون عوناً لك على هذا الدهر الذي لم يترك لنا معيناً؟

فألم بخبيئة نفسها، وابتسم ابتسامة الحزن والمضض وقال: من أين لي يا سيدتي أن أظفر بهذه الأمنية العظمى، وهذا المرض الذي يفسد علي شأن حياتي وينغص عيشتي، وقد أنذرني الطبيب باقتراب أجلي ... فاطلبي سعادتك من غيري، لأنك من أبناء الحياة وانا من أبناء الموت ..
فقالت له: إنك ستعيش، ولو كان دواؤك بين سحري ونحري ..
فقال لها بيأس: لا يا سيدتي، فإني عالم بدوائي ولن أجد السبيل إليه ..
فسألته وما هو دواؤك ؟

فأجاب: لقد حدثني الطبيب في أن شفائي لا يكون إلا إن أكلت دماغ ميت ليومه، ومادام ذلك يعجزني، فلا دواء لي ولا شفاء ..
فشحب وجهها وارتعدت وأطرقت إطراقة طويلة لا يعلم إلا الله ما كانت تحدث نفسها فيها ..

ثم رفعت رأسها وقالت: كن مطمئنا فدواؤك لا يعجزني .. ثم أمرته أن يعود إلى راحته وسكونه، ثم خرجت من الغرفة متسللة حتى وصلت إلى غرفة سلاح زوجها، فأخذت منها فأساً قاطعة ، ثم مشت تختلس خطواتها حتى وصلت إلى قاعة الميت، وأصدر الباب صريراً مزعجاً جمدت على إثره في مكانها رعباً وخوفاً، ثم تاكدت من خلو القاعة من أحد، ودنت من السرير، ورفعت الفأس لتضرب به رأس زوجها الذي عاهدته ألا تتزوج من بعده،

فما كادت تهوي بها، حتى رأت الميت فاتحا عيناه ينظر إليها، فسقطت الفأس من يدها، فسمعت حركة وراءها فرات الخادمة والضيف واقفين يضحكان، ففهمت كل شيء ....
وهنا قال لها زوجها : أليست المروحة في يد تلك المرأة أجمل من هذه الفأس في يدك؟
أليست التي تجفف تراب قبر زوجها بعد دفنه افضل من التي تكسر دماغه قبل نعيه؟
فصارت تنظر إليه نظراً غريباً ثم شهقت شهقة كانت فيها نفسها ..
ــــــــــــــــــــ
مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 - 1924):

أديب مصري نابغ في الإنشاء والأدب، انفرد بأسلوب نقي في مقالاته، له شعر جيد فيه رقة، قام بالكثير من الترجمة والاقتباس من بعض روايات الأدب الفرنسي الشهيرة بأسلوب أدبي فذ،وصياغة عربية في غاية الروعة. لم يحظ بإجادة اللغة الفرنسية لذلك أستعان بأصحابه الذين كانوا يترجمون له الروايات ومن ثم يقوم هو بصياغتها وصقلها في قالب أدبي.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
"النظرات", "غير, المرأة", المنفلوطي, كتاب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع "غدر المرأة" من كتاب "النظرات" لـ المنفلوطي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
"المرأة الشبح" تخرج من مخبئها لمحاربة "المافيا" عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 01-07-2020 09:44 AM
تهمة " إثارة النعرات " لمضر زهران Eng.Jordan الأردن اليوم 1 12-28-2013 12:24 PM
الأردن .. "جبهة العمل الإسلامي" تدعو لرفض اتفاقية "سيداو" لتحرير المرأة ابو الطيب الأردن اليوم 0 11-10-2013 01:23 AM
قراءة دلالية في كتاب "زكريا أوزون": "جناية سيبويه" Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-30-2013 11:41 AM
كتاب "النور الخالد" للعلامة "كولن" يلقى اهتمامًا واسعًا في الهند Eng.Jordan المسلمون حول العالم 0 05-13-2013 01:29 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 09:37 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59