#1  
قديم 09-01-2019, 10:24 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي مقالات لكبار كتاب العربية في العصر الحديث





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فهذه هي المجموعة الأولى من (مقالات لكبار كُتَّاب العربية في العصر الحديث).

وقبل الكلام على هذه المقالات يحسن الكلام على المقالة من حيث نشأتها، ومفهومها، وموضوعها، وأنواعها، إلى غير ذلك مما يدور في هذا الفلك.

فالمقالة _ أو المقال _ باب عظيم من أبواب العلم، وطريق واسع لنشر الفكر والتأثير في الناس.
ولقد عُرفت بعد ظهور المطابع، وانتشار الصحافة في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وذلك حين أنشئت صحيفة الوقائع المصرية، ثم بلغت الصحافة أوجها في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، حيث ازدهرت حركتها في البلاد العربية، وصارت عِمَادَ الكُتَّاب، والأدباءِ، والقالبَ الذي يصبُّون فيه أفكارهم، وينشرونها بين الناس.
وليست المقالة غريبة عن الأدب العربي القديم _ وإن تغيَّرت صيغها، وشروطها_.
فعبدالحميد الكاتب حين كان يتكلم عن الصيد، أو الكتابة كان يكتب شيئاً قريباً من المقالة، والفصول الأدبية التي أنشأها ابن المقفع في الأدب الصغير والأدب الكبير كانت أشبه بالمقالات المطوَّلة.
وكذلك صنيع الجاحظ في البخلاء، والبيان والتبيين، والمحاسن والأضداد؛ فهي مقالات مطوَّلة تنقصها بعض شروط المقالة الحديثة.
أما في العصر الحديث فقد أخذت المقالة لوناً آخر؛ فصار لها طابع مميَّز؛ فهي قطعة نثريَّة يعرض فيها الكاتب قضيةً أو فكرة بطريقة مُنَظَّمة مشوِّقة.
والمقالة محدودة الحجم، لا يتوسَّع فيها الكاتب كثيراً.
أما موضوعاتها فكثيرة متنوِّعة؛ فهناك المقالة الدينيَّة، التي يتناول كاتبها باباً من أبواب الدين سواء كان في الاعتقاد، أو الأحكام، أو السلوك، أو الأخلاق، أو السيرة، أو يكتب عن قضيَّة من قضايا الإسلام والمسلمين، أو نحو ذلك.
وهناك المقالة الاجتماعية، وهي التي يعالج فيها كاتبها أدواء المجتمع، وأمراضه كالجهل، والفقر، والعادات السيئة، ونحو ذلك؛ فيشخِّص تلك الظاهرة، ثم يقوم بتحليلها، وعرضها بطريقة تجتذب القارئ، ثم يتوصَّل من خلال ذلك إلى العلاج.
وهناك المقالة السياسيَّة التي تتعرَّض لتحليل موقف، أو قضيَّة، أو ما شاكل ذلك.
وهناك المقالة النَّقديَّة، وهي التي يَعْمَدُ صاحبها إلى نَقْدِ عملٍ علميٍّ، أو أدبيٍّ نقداً يجلو محاسنه، ويكشف عن عيوبه بأسلوب مبنيٍّ على أساس من الإلمام بالضوابط والمعايير النَّقديَّة.
والمقالة النَّقديَّة إذا أحسن كاتبها، وَوُفِّقَ في طريقة نقده كانت مدرسة للتهذيب.
وهناك المقالة الوصفيَّة، وهي أرحب ميداناً؛ لأن كاتبها يستطيع أن يتناول أيَّ مجال من مجالات الحياة، فيصفه وصفاً يصوِّره لمن لم يره، وكأنَّه يراه رأيَ العين.
غير أنَّ هذا النوع يُحتاج فيه إلى دقَّة الملاحظة، وصدق التصوير، وشمول النظرة.
وبالجملة فموضوع المقال يتَّسع لكلِّ شيء في الوجود من تعبير عن عاطفة، أو رغبة، أو رهبة، أو فكرة.
وهناك تقسيم آخر للمقالة، حيث يقسمها بعض النُّقَّاد والأدباء إلى نوعين كبيرين: أحدهما: المقال الذاتي، أو المقالة الذَّاتيَّة، والآخر هو المقال الموضوعيُّ، أو المقالة الموضوعيَّة.
أمَّا المقال الذَّاتيُّ فهو الذي يرتبط بالكاتب، فَتَظْهَرُ من خلاله شخصيَّتُهُ قويَّةً آسرةً؛ حيث يعرض لبعض القضايا ممزوجة بمشاعره، ويستخدم فيه الأسلوب الأدبيَّ.
أمَّا المقال الموضوعيُّ فيُبْعِد فيه الكاتبُ عواطفَه، وقضاياه الشَّخصيَّة، فَتَنْصَبُّ عنايتُه على الموضوع، ويقدِّم الحقائق كما هي، ويستخدم الأسلوب العلميَّ، فيجمع مادَّته، ويرتِّبها، ويعرِضها بصورة منطقيَّة متسلسلة، وبعبارات واضحة.
غير أنَّ الفصل بين هذين النوعين قد يكون صعباً؛ فالمقالة تنسب إلى أظهر الموضوعين، أو إلى السبب في إنشائها، وهذا قد يخفى إذا لم يدلَّ اللفظ عليه.
ثم إنَّ هناك بعضَ الاختلاف بين مقالة الصَّحيفة ومقالة المجلَّة؛ فبينما تتَّسم مقالة الصحيفة باليسر والسهولة في لفظها وأسلوبها فإنَّ العمق، والجزالة، من سمات مقالة المجلَّة.
والمقالة الصَّحفيَّة زادٌ يوميٌّ قد ينتهي بانتهاء يومه غالباً، بينما مقالة المجلَّة تحمل قابليَّة البقاء، بل هي أقرب إلى البحث، بل قد تكون بحثاً.
ومقالة الصحيفة طابِعُها القِصَر، ولا يُصَارُ فيها إلى الإطالة إلا نادراً، وعكسها مقالة المجلَّة.
وهكذا عُرِفَت المقالة، وصار لها منهجها المميَّز، وطريقتها التي سار عليها الكُتَّاب إلى يومنا الحاضر( ).
ولا ريب أنَّ الفترة الذَّهبيَّة للمقالة كانت _ كما مرَّ ذكره _ في النِّصف الأوَّل في القرن الرابع عشر إلى ما يقارب العقد السابع من ذلك القرن؛ حيث ازدهرت، وراج سوقها في كثير من البلاد العربيَّة خصوصاً في الشام ومصر، وظهر في ذلك الوقت كُتَّاب أفذاذ يضارعون الكُتَّاب الأوائل في أساليبهم الراقية، وتحريراتهم العالية.
وفي ذلك الوقت حرصت الصحفُ والمجلاَّت على استقطاب أكابر الكُتَّاب والعلماء؛ فصارت ميداناً فسيحاً لنشر الأدب، والعلم، والنَّقد، والرُّدود، وما جرى مجرى ذلك.
ولقد يسَّر الله لي فرصة الاطلاع على كثير من تلك المقالات، سواء عبر أعداد تلك الصحف والمجلات، أو عبر الكتب التي جمعت تلك المقالات.
ومهما يك من انتشار تلك المقالات، وشهرة أصحابها في ذلك الوقت _ فإنه يبقى محدوداً إذا ما قِيس بانتشارها وسهولة تداولها في عصرنا هذا.
ثمَّ إنَّ كثيراً مما نُشِر آنذاك قد انطوى، ودَرَس، ويُخشى أن تَطَالَهُ يدُ النِّسيان، وتعدو عليه عوادي الضياع؛ فيُحرمَ هذا الجيلُ خيراً عظيماً من ذلك التُّراث، ومن تلك التَّجارب التي تسمو بهمَّة قارئها، وترتقي بأساليبه الكتابيَّة أو الخطابيَّة، وتكسبه خبرة ودراية، وتختصر عليه كثيراً من الوقت والجهد، وتوقفه على مدى ما وصلت إليه العقول في تلك الفترة، وتُقْصِره عن كثير من البحث في الأطروحات التي طرقت، وقتلت بحثاً، وأخذاً، ورداً.
كما أن بعض تلك المقالات قد خرجت في طباعة رديئة، ولم تراع فيها قواعد الترقيم؛ مما قد يغلق فهمها على كثير من القراء.
ومن هنا نشأت فكرة جمع شيء من تلك المقالات، وانتقائها، وإعدادها للنَّشر إعداداً ملائماً؛ لعلَّها تحقِّق الأغراض السابقة، وتمد قارئها بقسط وافر من العلم والفكر، وتفتح له آفاقاً من المعرفة والتَّجربة، وتوقفه على شيء من تلك الأساليب البيانيَّة الرَّاقية، وتُعرِّف القارئ بكُتَّاب في بلاد لم تأخذ حظَّها الكافي من الدِّراسة والبحث، فيظن بعض الناس أنَّها خِلْوٌ من الفكر والكتابة، مع أنَّها قد بلغت الذُّروة في العلم، والأساليب، كما هو الحال في بلاد تونس، والجزائر _كما سيتبيَّن من قراءة بعض ما خطَّتْهُ أنامل بعضِ العلماء والكُتَّاب هناك _.
ولقد احترت كثيراً في الطريقة الملائمة لنشر تلك المقالات: هل تنشر كلُّ كتابة في موضوعٍ ما على حِدَةٍ، وتخرج في أجزاء متعدِّدة كلُّ جزء يدور حول موضوع معيَّن؟
أو تجمع مقالات كلِّ كاتب، وتوضع في جزء وهكذا؟
أو يخرج ما تيسَّر منها، ثمَّ يخرج الباقي تباعاً ؟

وأخيراً استقرَّ الأمر _ بعد مشورة واستخارة _ على أن تخرج في مجموعات، وكلُّ مجموعة تحتوي على عدد من الموضوعات لعدد من الكُتَّاب؛ حتَّى يجد القارئ في كلِّ مجموعة ما يلائم ميوله أياً كان مع مراعاة قرب بعض تلك المقالات من بعض في الموضوع.
وكل ذلك على سبيل التقريب، ومن باب تيسير القراءة، وطرد الملل.
وإلا فالمقال الواحد قد يكون داخلاً في أكثر من باب؛ لتداخل المقالات، وصلاحيَّة بعضها ليكون في أكثر من موضع.
وليس الغرض من نشر هذه المقالات تقييمَ هؤلاء الكُتَّاب، أو وزنهم، وبيان ما لهم وما عليهم.
وإنما الغرض الإفادة، والاطلاع على نتائج تلك القرائح، وما جرى مجرى ذلك ممَّا ذكر آنفاً.
ولعل ما نشر في هذه المجموعة خير ما تركوه من ثروة علمية.
ولعله _ أيضاً _ سبيل لنشر علمهم، وتعريف الناس بهم، وإيصال الأجر والثواب إليهم.
ثمَّ إنَّ ترجمة هؤلاء الكُتَّاب جميعاً لا تتسنَّى؛ لتعسُّر ذلك، ولكن سيكون ترجمة موجزة لأكابر أولئك، وذلك عند أوَّل مقال يُنْشَر لهم.
كما أن بعض الكتاب ليس مشهوراً، وإنما وجدت له مقالات طيبة في تلك الصحف، فكانت ضمن ما وقع عليه الاختيار.
وكم كانت الأمنية أن تتناول هذه المجموعة وما يليها أكبر قدر من الكُتَّاب في شتى البلاد، ولكن ذلك قد لا يتأتى.
وهذه المجموعة تشتمل على أبواب متفرقة، وموضوعات متنوعة؛ في العلم والدعوة، وفي الإصلاح، وبيان أصول السَّعادة، وفي الأخلاق والتَّربية، وفي السِّياسة والاجتماع، وفي قضايا الشَّباب والمرأة، وفي أبواب الشِّعر والأدب، وفي العربيَّة وطرق التَّرقِّي في الكتابة، كما أنها تشتمل على مقالات في السِّيرة النبويَّة، وبيان محاسن الإسلام، ودحض المطاعن التي تثار حوله.
وسيجد القارئ فيها جِدَّة الطَّرح، وعمقه، وقوَّته، وطرافةَ بعض الموضوعات، ونُدرةَ طرقها.
وسينتقل من خلالها من روضة أنيقة إلى روضة أخرى، وسيجد الأساليب الرَّاقية المتنوِّعة؛ إذ بعضها يميل إلى الجزالة والشَّماسة، وبعضها يجنح إلى السُّهولة والسَّلاسة، وهكذا.
وقد يخطر ببال القارئ أن بعض المقالات يكفي قراءة عنوانها؛ فيقصره ذلك عن قراءة بقية المقال.
ولو قرأ المقال لربما رأى فيه ما لم يكن يدور في خلده من نفيس العلم، ودقيق الفهم، وجمال العرض.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ويكفي في ذلك مقال: (مجلس رسول الله") للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ×.
ولا يغيب عن فطنة القارئ الكريم أنَّ تلك الكتابات قد أنشئت في زمن مظلم؛ فالاحتلال كان ضارباً بجرانه في كثير من بلاد المسلمين، والشيوعيَّة كانت في عزِّ أوجها وبريقها، والجهل والهزيمة النَّفسيَّة كانا شائعين في ذلك الوقت.
وهذا يدفع إلى تقدير ما قام به أولئك الكُتَّاب، وإلى التماس العذر لهم فيما فاتهم، أو قصَّروا به إن وُجِد شيء من ذلك.
وهذه المقالات التي يحتويها هذا المجموع معزوَّة إلى مراجعها، ومُشَارٌ إلى تواريخ كتابتها إن كانت موجودة.
كما أنَّ بعضها قصير، وبعضها متوسِّط، وبعضها مطوَّل أقرب ما يكون إلى البحث العلمي.
وقد أبقيت تلك المقالات كما هي، وربَّما حَذَفْت من بعضها _وهو قليل_ ما قد يُستغنى عنه، وما لا يخلُّ بأصل الموضوع، خصوصاً إذا كان يحتاج إلى مناقشة، أو كان فيه إلباس على بعض القراء، أو ما كان مشتملاً على تسويغ بعض البدع، وما إلى ذلك.
وما كان الغرض _ كما مرَّ _ هو محاكمة الكاتب، بل إنَّني أحاول جهدي ألا أتعرَّض لأيِّ مقال بانتقاد أو اعتراض إلا ما لا بدَّ منه من إيضاح معنى، أو إزالة إشكال، وهو قليل جدًّا؛ لأجل ألا أقطع على القارئ استرساله، ومتعته.
وأكثر الهوامش إنما هي من صنع الكتاب، وأما ما أعلق به فسيكون مختوماً بحرف (م) حتى يتميز عن الأصل.
وإليك مسرداً بعنوانات الموضوعات والمقالات التي تضمنتها هذه المجموعة:
أولاً: مقالات في السعادة
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين.
2_ السعادة: للشيخ علي الطنطاوي.
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك
4_ أخلاق العرب وعاداتها: للعلامة أحمد تيمور باشا.
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين.
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري.
8_ أخلاق الناس: د. زكي مبارك.
9_ الوفاء: للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي.
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين.
11_ مضار الإسراف: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب.
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين.
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر.
رابعاً: مقالات في الشباب
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
17_ الشباب المحمدي: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين.
خامساً: مقالات في المرأة
19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين.
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ العلامة محمد بهجة البيطار.
سادساً: مقالات في العادات والعبادات
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ.
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي.
25_ لبيك اللهم لبيك: للعلامة محب الدين الخطيب.
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين.
سابعاً: مقالات في السياسة والإجتماع
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين.
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
31_ المجاهدون الأولون: للعلامة محب الدين الخطيب.
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
33_ الله أكبر: للأديب مصطفى صادق الرافعي.
34_ الأذان: للأديب عباس محمد العقاد.
35_ العلماء والإصلاح: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم: لأمير البيان شكيب أرسلان.
37_ تصحيح الكتب: للعلامة أحمد شاكر.
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور.
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر.
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية
43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا.
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
45_ مجلس رسول الله": للعلامة محمد الطاهر بن عاشور .
الثاني عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين.
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين.
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.
49_ موت أم: مصطفى صادق الرافعي.
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي.
وأخيراً لا يسعني إلا أن أسأل الله العليَّ القدير أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجزيَ خير الجزاء من أعان على إخراجه مقابلةً، ومراجعةً، ومتابعةً.
كما آمل من القارئ الكريم أن يمدني بملحوظاته، واستدراكاته، وله جزيل الشكر، وخالص الدعاء.
والله المستعان وعليه التكلان.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.





















أولاً: مقالات في السعادة

1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين
2_ السعادة: الشيخ علي الطنطاوي
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور


ابتسم للحياة ( ) الأستاذ أحمد أمين( )

لا شيء يضيع ملكات الشخص ومزاياه كتشاؤمه في الحياة، ولا شيء يبعث الأمل، ويقرب من النجاح ويُنَمِّي الملكات، ويبعث على العمل النافع لصاحبه وللناس، كالابتسام للحياة.
ليس المبتسمون للحياة أسعد حالاً لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالاً للمسئولية، وأصلح لمواجهة الشدائد، ومعالجة الصعاب، والإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس.
لو خُيَّرتُ بين مال كثير، أو منصب خطير، وبين نَفْسٍ راضية باسمة _ لاخترت الثانية؛ فما المال مع العبوس؟ وما المنصب مع انقباض النفس؟ وما كل ما في الحياة إذا كان صاحبه ضيقاً حرجاً كأنه عائد من جنازة حبيب؟ وما جمال الزوجة إذا عبست، وقلبت بيتها جحيماً؟ لَخَيْرٌ منها ألف مرة زوجة لم تبلغ مبلغها في الجمال، وجعلت بيتها جنة.
ولا قيمة للبسمة الظاهرة إلا إذا كانت منبعثةً عن نفس باسمةٍ، وتفكير باسمٍ، وكل شيء في الطبيعة جميلٌ باسمٌ منسجمٌ، وإنما يأتي العبوس مما يعتري طبيعة الإنسان من شذوذ، فالزهر باسم، والغابات باسمة، والبحار، والأنهار، والسماء، والنجوم، والطيور كلها باسمة، وكان الإنسان بطبعه باسماً لولا ما يعرض له من طمع، وشر، وأنانية تجعله عابساً؛ فكان بذلك نشازاً في الطبيعة المنسجمة.
ومن أجل هذا لا يرى الجمالَ مَنْ عَبَستْ نفسُه، ولا يرى الحقيقةَ مَنْ تدَنَّس قلبه؛ فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله، وفكره، وبواعثه؛ فإذا كان العمل طيباً، والفكر نظيفاً، والبواعث طاهرة _ كان منظاره الذي يرى به الدنيا نقياً، فرأى الدنيا جميلة كما خلقت، وإلا تغبَّش منظاره، واسْوَدَّ زجاجُه، فرأى كل شيء أسودَ مغبَّشاً.
هناك نفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء شقاءًا، ونفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء سعادة، هناك المرأة في البيت لا تقع عينها إلا على الخطأ، فاليوم أسود؛ لأنَّ طبقاً كُسِرْ ولأنّ نوعاً من الطعام زاد الطاهي في ملحه، أو أنها عثرت على قطعة من الورق في الحجرة، فتهيج، وتسب، ويتعدى السباب إلى كل من في البيت، وإذا هو شعلة من نار.
وهناك رجل ينغِّص على نفسه، وعلى مَنْ حوله مِنْ كلمة يسمعها، أو يؤولها تأويلاً سيئاً، أو من عمل تافهٍ حدث له، أو حدث منه، أو من ربح خسره، أو من ربح كان ينتظره فلم يحدث، أو نحو ذلك، فإذا الدنيا كلها سوداء في نظره، ثم هو يُسَوِّدها على من حوله.
هؤلاء عندهم قدرة المبالغة في الشر، فيجعلون من الحبة قبة، ومن البذرة شجرة، وليس عندهم قدرة على الخير، فلا يفرحون بما أوتوا ولو كثيراً، ولا ينعمون بما نالوا ولو عظيماً.
الحياة فنٌّ، وفنٌّ يُتَعَلَّم، ولَخيرٌ للإنسان أن يَجِدَّ في وضع الأزهار، والرياحين، والحب في حياته من أن يَجِدَّ في تكديس المال في جيبه، أو في مصرفه.
ما الحياة إذا وجهت كل الجهود فيها لجمع المال، ولم يوجه أي جهد لترقية جانب الجمال، والرحمة، والحب فيها؟
أكثر الناس لا يفتحون أعينهم لمباهج الحياة، وإنما يفتحونها للدرهم والدينار، يمرون على الحديقة الغناء، والأزهار الجميلة، والماء المتدفق، والطيور المغردة؛ فلا يأبهون لها، وإنما يأبهون لدينار يأتي، ودينار يخرج.
قد كان الدينار وسيلة للعيشة السعيدة، فَقَلبوا الوضع، وباعوا العيشة السعيدة من أجل الدينار، وقد رُكِّبت فينا العيون؛ لنظر الجمال، فعودناها ألا تنظر إلا إلى الدينار.
ليس يعبس النفس والوجه كاليأس؛ فإن أردت الابتسام فحارب اليأس.
إن الفرصة سانحة لك وللناس، والنجاحَ مفتوحٌ بابُه لك وللناس؛ فَعَوِّد عقلك تَفَتُّحَ الأمل، وتوقُّعَ الخير في المستقبل.
إذا اعتقدت أنك مخلوق للصغير من الأمور لم تبلغ في الحياة إلا الصغير، وإذا اعتقدت أنك مخلوق لعظائم الأمور شعرت بهمة تكسر الحدود والحواجز، وتنفذ منها إلى الساحة الفسيحة، والغرض الأسمى.
ومصداق ذلك حادث في الحياة المادية، فمن دخل مسابقة مائة متر شعر بالتعب إذا هو قطعها، ومن دخل مسابقة أربعمائة متر لم يشعر بالتعب من المائة والمائتين؛ فالنفس تعطيك من الهمة بقدر ما تحدد من الغرض، حدد غرضك، وليكن سامياً صعب المنال، ولكن لا عليك في ذلك ما دمت كل يوم تخطو إليه خطواً جديداً.
إنما يصد النفس، ويعبِّسُها، ويجعلها في سجن مظلم _ اليأسُ، وفقدان الأمل، والعيشة السيئة برؤية الشرور، والبحث عن معايب الناس، والتشدق بالحديث عن سيئات العالم لا غير.
وليس يُوفَّق الإنسان في كل شيء كما يوفق إلى مربٍّ ينمي ملكاتِه الطبيعيةَ، ويعادل بينها، ويوسع أفقه، ويعوِّدُه السماحة وسعة الصدر، ويعلمه أن خير غرض يسعى إليه أن يكون مَصْدَرَ خيرٍ للناس بقدر ما يستطيع، وأن تكون نفسه شمساً مشعةً للضوء، والحب، والخير، وأن يكون قلبه مملوءاً، عطفاً، وبراً، وإنسانية، وحباً لإيصال الخير لكل من اتصل به.
النفس الباسمة ترى الصعاب فيلذها التغلب عليها، تنظرها فتبسم، وتعالجها فتبسم، وتتغلب عليها فتبسم، والنفس العابسة لا ترى صعاباً فتخلقها، وإذا رأتها أكبرتها واستصغرت همتها بجانبها، فهربت منها، وقبعت في جحرها تسب الدهر والزمان والمكان، وَتَعلَّلَتْ بلو، وإذا، وإن.
وما الدهر الذي يلعنه إلا مزاجه وتربيته، إنه يود النجاح في الحياة ولا يريد أن يدفع ثمنه، إنه يرى في كل طريق أسداً رابضاً، إنه ينتظر حتى تمطر السماء ذهباً، أو تنشق الأرض عن كنز.
إن الصعاب في الحياة أمور نسبية؛ فكل شيء صعب جداً عند النفس الصغيرة جداً، ولا صعوبة عظيمة عند النفس العظيمة، وبينما النفس العظيمة تزداد عظمة بمغالبة الصعاب إذا بالنفوس الهزيلة تزداد سقماً بالفرار منها، وإنما الصعاب كالكلب العقور إذا رآك خفت منه، وجريت نبحك وعدا وراءك، وإذا رآك تهزأ به، ولا تُعِيرُه اهتماماً، وتبرق له عينك أفسح الطريق لك، وانكمش في جلده منك.
ثم لا شيء أقتل للنفس من شعورها بضعتها، وصغر شأنها، وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير.
هذا الشعور بالضعة يفقد الإنسان الثقة بنفسه، والإيمان بقوتها؛ فإذا أقدم على عمل ارتاب في مقدرته، وفي إمكان نجاحه، وعالجه بفتور؛ ففشل فيه.
الثقة بالنفس فضيلة كبرى عليها عماد النجاح في الحياة، وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة، والفرق بينهما أن الغرورَ اعتماد النفس على الخيالِ، وعلى الكبرِ الزائفِ، والثقةَ بالنفس اعتمادُها على مقدرتها على تحمل المسؤولية، وعلى تقوية ملكاتها، وتحسين استعدادها.
وبَعْدُ: فالشرق في حاجة كبرى إلى كميات كبيرة من الابتسامات الصادقة الدالة على النفوس الراضية الآملة الطامحة.
سِرْ أنى شئت في الشوارع، واغشَ المنتدياتِ والمجتمعات، وَتَفرّسْ في الوجوه، فقلما ترى إلا وجوهاً مُقَطِّبة الجبين، ورؤوساً أثقلها الهم، فخفضها، وعيوناً ساهمةً قد فقدت بريق السرور، ولمعان الحيوية.
استنن الضحكات العالية في مجالي اللهو، وأماكن التنادر، فهل ترى إلا العبوس وما يشبه العبوس، واستبعد البسمات المزيفة المتصنعة في المقابلات، والمجاملات، وانفذ منها إلى أعماق النفوس، فهل ترى إلا انقباضاً وانكماشاً؟
فما السر في هذا كله؟
سِرُّهُ في تعاقبِ الظُّلم على الشعوب من زمن قديم حتى سلبها حريَّتَها، وهل تَبَسَّمُ النفسُ إلا للحرية، وهل تَنقبضُ إلا من الاستبداد؟!
وسرُّه في الفقر الشامل لأكثر أفراد الشعب، فهم يحملون الهم المضني، كيف يأكلون ويعيشون، وكيف يسدون حاجات أسرتهم ومَنْ تعلَّق في رقبتهم، والمنافذ ضيقة في وجوههم، وأكثر الثروة قد ضاعت من أيديهم.
وسرُّه في ضعف التربية التي لا تفتح النفس للحياة، وتكتفي بالعلم الجاف.
وسره في أننا إلى الآن لم نتعلم فن الحياة، ولم نسمع به في برامج الدراسة، ولم نره لا في بيوتنا، ولا في مدارسنا، ولا عند خطبائنا وكتابنا.
وسره أننا لم نستشعر الثقة بالنفس؛ فلا الفرد يثق بنفسه، ولا المواطن يثق بمواطنه، ولا رجال الإدارة والأعمال يثقون بمواطنيهم، ولا الناس يثقون بأولي الأمر فيهم.
فلنتغلب على هذه الصعوبات جميعاً، ولنبسم للحياة ولو تَكَلُّفاً ينقلب التكلف بعد حين تَطَبُّعاً.
ابسم للطفل في مهده، وللصانع في عمله، وابسم لأولادك وأنت تربيهم، وابسم للتاجر وأنت تعامله، وابسم للصعوبة تعترضك، وابسم إذا نجحت، وابسم إذا فشلت، وانثر البسمات يميناً وشمالاً على طول الطريق؛ فإنك لن تعود للسير فيه.


السعادة( ) للشيخ علي الطنطاوي( )

كنتُ أَقْرَأُ في ترجمة (كانت) الفيلسوف الألماني الأشهر أنه كان لجاره ديك قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عَمِدَ إلى شغله صاح الديك، فأزعَجه عن عمله، و قطع عليه فكره.
فلما ضاق به بعث خادمه؛ ليشتريه، و يذبحه، و يطعمه من لحمه، و دعا إلى ذلك صديقاً له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدِّثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجده بعده من لذة وراحة، ففكَّر في أمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه.
ودخل الخادم بالطعام معتذراً أن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح !( )
فكّرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِيَ بهذا الديك؛ لأنه كان يصيح، وسَعِد به وهو لا يزال يصيح.
ما تبدَّل الواقع، ما تبدَّل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته، وقلت: مادامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ ومادامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنَّا؛ إذ نمشي إليها من غير طريقها، ونلجها من غير بابها؟
إننا نريد أن نذبح ( الديك ) لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك؛ لأن الأرض مملوءة بالدِيَكة، فلماذا لا نرفع الدِيَكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسدُّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدَّ أفواهها عنَّا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وَفْقَ ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تُسْمِعُ الموتى، وتوقظني همسة في جوِّ الدار ضعيفة، وخطوة على ثراها خفيفة، فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي، فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي، ولا صوت القطار وهو يهتز بي؛ فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟
ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب و ما تكره، وإن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى، وتسمع همس الدار وهو أضعف وأَخْفَت؛ لأنك وجَّهت إلى هذا حسَّك، وأدخلته نفسك؛ فسمعته على خُفُوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء، وأَغْفَلتَ ذلك وأخرجته من نفسك، فلم تَسْمَعه على شدته، وخفي عنك كما تختفى في الظلام عظائمُ الموجودات.
فلماذا لا تَصْرِفُ حسَّك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك، ولكن ما أدخلته أنت برضاك، وقَبِلْتَه باختيارك، كما يُدْخِلُ الملكُ العدوَّ قلعته بثغرة يتركها في سورها، فلماذا لا نقوِّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام؟
إني أسمعكم تتهامسون، تقولون: =فلسفة و أوهام+ نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذياناً، وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص، ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام.
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني؛ فكأنه ما حمل شيئاً.
ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها.
ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُهُ.
وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِلْم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخّينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره.
وكان يوماً في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتد عليه فيها الضيق ويعظم الهم، وبقي أسبوعاً كاملاً من غير دخان، صابراً عنه أملاً بهذه الدخينة، فلما رأى ذلك ترك التدخين، وانصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري أصيب في أواخر عمره بِتَوَهُّمِ أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءاً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس بالعافية، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءاً، و يئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبداً.
ما شَفِي الشيخ لأنَّ ثعباناً كان في بطنه ونَزَل، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لَقُوىً إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ أَلَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضاً، خامل الجسد، وَاهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حيَّة تقبل عليه، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثباً، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيَّاً يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره، أو كتاباً مستعجلاً من الوزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته، فأحسَّ الخفة و الشبع، وعدا عدواً إلى المحطة، أو إلى مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيَّاً عذباً، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة !
يا أيها القراء: إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها؛ زهداً فيها، واحتقاراً لها.
يصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحاً بيضاء مشرقة؟ ويُحْمَى عن الطعام ويمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي، أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟
كل يبكي ماضيه، ويحن إليه؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضياً؟
أيها السادة والسيدات:
إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئاً، لماَّ نَظَر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانياً؟
فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره و يأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي؟
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء، وكاد يهلك جوعاً وعطشاً، لما رأى غدير ماء، وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمراً أو خبزاً يابساً، فلما رأى ما فيه، ارتد يأساً، وسقط إعياءاً. لقد رآه مملوءاً بالذهب !
وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا، أنه سأل ربه أن يحول كل ما مسته يده ذهباً، ومس الحجر فصار ذهباً؛ فكاد يجن من فرحته؛ لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه؛ ليأكل، فمس الطعام، فصار ذهباً وبقي جائعاً، وأقبلت بنته تواسيه، فعانقها فصارت ذهباً، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته وأن يبعد عنه الذهب !
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة، فانصفق عليه بابها، فمات غريقاً في بحر من الذهب.
يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهباً كثيراً؟ أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؛ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به، والوقت يمر، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها، ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يوماً، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهراً وتبراً، واستفدت من كل لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة ( باب اللوق ) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس، وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها، فلو أني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها _ لربحت شيئاً كثيراً.
ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب ( قواعد التحديث) للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب.
والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائماً، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئاً من العلم فأَلَّف (الحاشية).
والسرخسي أَمْلَى وهو محبوس في الجب، كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا.
وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يُضَيّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؛ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنه لو قرأ مثله _ لا أقول كل ليلة، بل كل أسبوع مرة _ لكان عَلاَّمَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي، والجاحظ، بل خذوا كتاباً واحداً كنهاية الإرب، أو لسان العرب، وانظروا، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، ونسخه مرة واحدة بخطه، فضلاً عن تأليف مثله من عنده؟
والذهن البشري، أليس ثروة؟ أما له ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل، ولو عمل لجاء بالمدهشات؟
لا أذكر الفلاسفة و المخترعين، ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها، والشافعي لماَّ كتب مجلس مالك بريقه على كفه وأعاده من حفظه، والمعري لما سَمِع أرمنيين يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه، والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء؛ فتعجبون، ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس، والبلدان، والصحف، والمجلات، والأغاني، والنكات، والمطاعم، والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمر به كل يوم من المقروءات، والمرئيات، والمسموعات؛ فلو وضع مكان هذا الباطل علماً خالصاً، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.
أعرف نادلاً كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شاياً، أو هاضوماً _ كازوزة _ أو ليموناً، والقهوة حلوة ومرة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة ويردد هذه الطلبات جهراً في نَفَسٍ واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفاً !
فيا سادة: إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد.
وملاك الأمر كله ورأسه الإيمان، الإيمان يشبع الجائع، ويدفئ المقرور، ويغني الفقير، ويُسَلِّي المحزون، ويقوِّي الضعيف، ويُسَخِّي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنساً، ومن خيبته نُجحاً.
وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلَّ مُرَتََّبك، وساءت حالك أحسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهماً وعلماً، وحسباً ونسباً.
وأنت أحسن عيشة من عبدالملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا مَلِكَي الأرض.
فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيباً يحشوها، ويلبسها الذهب، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب.
وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة، وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهر و أنت ترحل في أيام أو ساعات.
فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك( )، ولم تطلبوا المستحيل، فتحاولوا سد فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم.
سعداء إن كانت أفكاركم دائماً مع الله، فشكرتم كل نعمة، وصبرتم على كل بَلِيَّة، فكنتم رابحين في الحالين، ناجحين في الحياتين.
والسلام عليكم ورحمة الله.


اللذة مع الحكمة( ) الشيخ محمد الطاهر بن عاشور( )

سبرنا أغراض الإنسان، فوجدناه ظَمِئاً إلى مُلائِماتِ نفسه كيفما اتفق، ومتى اتفق، وأين اتفق، غير باحث عن ما يتبع ذلك من المضار، فأردنا أن نبين هنا حقيقة اللذة، ثم نبحثَ عن مواقعها، وننظر فيما إذا كانت لذةً دائمةً في هذا الكون الجثماني.
اضطربت آراء الناس _ حتى الفلاسفة _ في تشخيص معنى اللذة، وكلَّت أقلام الكتاب والشعراء دون ذلك، والذي نختار من بين كثرتها رأيان:
أولهما: يرى أن اللذة هي إدراك النفس ما يلائمها، وتراه حسناً.
وثانيهما: أنها التخلص من آلام طبيعية، أو عارضة.
ونحن إن نقدنا الأقوال، ولم نذهب مع تشعبها لا يعترضنا شك في الحق أن اللذةَ إدراكُ النفسِ ما يلائمها على ما رأى أهلُ الرأي الأول، وأَنَّ مَنْ حصر اللذة في التخلص من الألم لم يستقرئْ في حَدِّها استقراءاً تاماً كما يجب أن يكون التحديد للموجودات، إنما نظر إلى نحو النوم، والأكل، والشراب من كل لذة دعى إليها احتياجٌ فطري، وضيَّق في دائرتها حتى كاد أن يُخْرِج المعارفَ كلَّها عن اللذة.
نحن لا ننكر أن أكثر اللذات لا يفارقه الشعور بمبدأ ألم، ولو بالأقل ألم الشوق إلى نَيْل ما يلائم النفس، حتى ننكر على هذا القائل قوله كله.
ولكنَّا نعلم أن من اللذات ما ينساق إلى المرء بدون فكر سابق، وربما وقع منه موقعاً لا يقعه لو كان مترقباً من قبل؛ فماذا ترون في هذا الإحساس؟!
انقسمت اللذات بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية، وعقلية، ومركَّبَةٍ منهما.
والنظر في التقسيم إلى الداعي والحاصل جميعاً، فإن كان الداعي الحس _وهو الذي تَحْصُل به_ فهي الحسية، وإن كان العقل فهي العقلية، وإن كان الداعي العقل _ وتحصل بالحس _ فهي المركبة.
أما الحسية فأمرها خطير، ومطالبها محدودة يسهل استيفاء ما تقتضيه في الإمكان، ومتى قضى الحس منها شيئاً كان الزائد عليه عنده ألماً.
وأما العقلية فهي حركة الفكر في المعقولات التي تطمح إليها النفس، وشعوره بالحقائق التي يجد عند الشعور بها مَسَرَّةً لا يَعْدِلُها عنده شيءٌ، وهذه يجدها العقل طوع( ) متى بالغ في البحث وجدها منطاعة لا تقف به عند حد.
أما إن أردتم التعب الشديد، والمشقة في السرور فاطلبوا قسمنا الثالث من أقسام اللذة، أعني ما تطلبه النفس، ويقتضيه البدن، تجدون خَرْطَ القتاد دونه سهلاً، وتفرضه في المحبة الحب العشقي؛ فإن الروح إن تعلقت به لقيت في سيرها من المكدرات ما يُمَرِّر حلاوة منالها منه، وإذا كانت مطالب الروح غير واقفة عند مدى فإن سلطانَ وهمِ المحبة يتسلط عليها، فيناجيها أن تطمع باتحاد الروحين، وأن تروم المقارنة الدائمة، والرِّضا الأبدي، وهكذا يغادرها تستهتر بأماني لا يتناهى غرامها، ولا يبرد أوامها، ولكنها تجد طريق الاقتضاء هذا البدن القادر في مبدئه، العاجز في غايته، الذي تَسِمُه المداومة، وتعوقه الموانع، فماذا عساه حقق من مطالب هاتِه الروح، وكم ذا يمكنها أن تقضي من استخدامه؟ لا شك أنها سيكون لهما مثلاً في هذه الحال قول أبي الطيب:
وإذا كانت النفوس كباراً









تعبت في مرادها الأجسام














فإذا نظرنا بعدَ هذا إلى المقدار الذي يمكن الإنسان تناوله من غير القسم الثاني نجد أن لا شيء من الملاذ الحسية بلذَّة حقيقية، وإن تموَّه على عقول جمهور الناس؛ فإن هاته الملاذَّ _ على ما فيها من توقف على تسويغات الدين، والصحة، والعادة، والاحتياج إلى مُكْنة الفرص _ هي واقفة عند غاية.
ثم ماذا ترى عند البلوغ إلى غايتها؟ ترى الهَيْضَة إن أَكَلتْ، والامتلاء إن شَرِبتْ، والندامة إن داعبتْ، والعجز إن استزادتْ، غير أن الذي يريد أن يغض عن هذا كله، ولا يعتبر من حال اللذات إلا أوقات اقتضائها، ويقول ما الإنسان إلاَّ ابن ساعته، وما هو بمفكر في التي تليها _ نقول له: انظر إليك وأنت تزعم أنك في لذاتك الحالية، وجرد عقلك مما تسلط عليه من الوهم _ تجد نفسك في لذاتك كلها محتاجاً إلى معونة غيرك، وإن كنت عاجزاً عن تحضير أسباب لذاتك؛ فليتك تشعر أنك تفقد واحداً، أو ينقبض لك آخر، وفي الأقل تفكر في انتهاء اللذَّة ومفارقتها، وكيف تجدك في حالك هاته ألا تجدك كما قال الشاعر:
وأبكي إن دنوا خوف الفراق( )





فأبكي إن نأَوا شوقاً إليهم

















حكي أن الناصر لدين الله ملك قرطبة كتب بخطه أنه لم يَصْفُ له من زمان حكمه على ذلك البلد الطيب في ذلك السلطان القاهر الذي دام خمسين سنة إلا ساعات تَلَفَّق من جميعها مقدارُ أربعة عشر يوماً؛ لذلك قال الأسطوانيون( ) من الفلاسفة: إن الدنيا دار شقاء، وبلاء.
دعْ عنك هذا، وولِّ وجهك شطر اللذات الروحية والكمالات العقلية تجد المرء متى التذَّ بشيء منها لا يقف عند منتهى؛ فهو كلَّ الزمان مبتهج بما يعلمه من العلوم، ويستفيده من الآداب.
وهذا حال الحكيم؛ فهو دائماً ينظر نفسه؛ فيستفيد علوماً، ويلمح العالم؛ فيزداد تذكرة، وتُزْوى له الدنيا؛ فلا تهزه وهو مسرور بإقبالها، وتدبر عنه وهو مسرور بما يعلم من إخلافها، ربما نام ليلة وهو يرصد طلوع الصباح للرجوع إلى لذة التفكير التي قطعها عنه النوم، فإن حاول أمراً، أو أتم له فلا تسل عن لذته منه، وإن لم يتم فقد حَصَّل _ في الأقل _ معرفةَ طريقِ لا يُهدى إليه، ومتى أَلَمَّ به ضررٌ من مصاب استهون به في فائدة التجربة، كما يرى العالم النحرير؛ فيسره مرآه؛ لما ينال من علمه، كذلك يرى الأحمق الجاهل؛ فيعلمه وبالأقل يأخذ الحكمة من حاله بطريق الحضارة( )؛ فرب خطأ جر إلى صواب.
إذن فالحكيم لا يتنكد أبداً، وهو مسرور في كل وقت، سبب ذلك علمه بحقيقة كل شيء؛ لأنَّ هاته الدنيا _وإن كانت خضرة حلوة_ فإنها تعقب تفاهةً، أو مرارة في فَم مجتنيها، ومن ثمَّ لا يوجد فيها سرورٌ متساوي الأطراف، وقد كادت مصالحها أن لا تسلم من ضرر تُخْلِفه.
وينبغي أن يكون هذا سبيل طائفة الابيكوريين( ) من الفلاسفة الذين يرون الدنيا كلها لذَّات؛ فإن رئيسهم لا يذهب عنه أن متاعبها كثيرة لغير الحكيم، ولكنه أراد اقتضاء لذاتها بقدر الاستطاعة.
جاءت شريعة الإسلام في آدابها على الحكمة الفطرية، فلذلك يكون حال المؤمن أشبه بحال الحكيم، ذلك أن الدين يأمره أن يأخذ من الدنيا ما يريد من الحلال، وأن لا يكون جازعاً عند فقدها.
وبهاته التربية التي أصلها التسليم للقدر فيما لا حيلة فيه فُقِدت المفاسد التي تنشأ عن الآلام في الأمم الأخرى من انتحار وجنون ونحوهما، قال _تعالى_ [وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا] القصص: 77.
إذا كانت النفس ميَّالة إلى لذاتها في كل حال فالعاقل لا يسمح لنفسه باقتضاء لذتها الحسية، وربما وصل العقل إلى التفكر في حال اللذة ومآلها، فرأى أَنْ لابدَّ من انقطاعها، فقطعها قبل أن تقطعه، وهو مبدأ عظيم من الحكمة، قال فيه فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري:
وحقّ لِسُكَّان البسيطة أن يبكوا





ضحكنا وكان الضحك منَّا سفاهة



















وكما ترى من نفسك استنكافاً عن بعض اللذات، وترى غيرك يرغب فيها، بل ترى من نفسك الفرق في لذاتك بين حالتي الصبا والفتوة مثلاً_ كذلك لا تشك أنَّ الحكمة إنْ أشرقت على قوم ربما نزعت كلَّ هَوَسٍ من قلوبهم، فرأوا الدنيا كلها سفاسف وغروراً، كما ترى أنت اليوم الرقصَ مع الصبيان وتَلَقُّفَ الكرة جنوناً بعد أنْ كانا شُغُلَك الوحيدَ.
أُولئك هم السعداء الذين استوى عندهم الكدر والطرب، فعاشوا وقلوبهم ممتعة بإدراك الحقائق الذي وراءه للعاقل مطلب، وهذا قسم شريف فات أبا الطيب إذ يقول:
عما مضى فيها وما يتوقع





تصفو الحياة لجاهل أو غافل

ويسومها طلب المحال فتطمع
ولمن يغالط في الحقائق نفسَه


وذكَّرني تشكي الناس من سوء معاملة الزمان عادة من عوائده، وهي انزواؤه لمن لا يقدر قدره، أو من لا ينتفع به، وتزلُّفه لمن عَدِم العقل والفضيلة، وأنه لا وصل إلى مقاصده وأمانيه من الحكيم بما سهلت الدنيا بين يديه لولا أن يخونه الطريق، فيضله عن كنه مقاصده، وكما ترى الجمادات تنال بدون ارتقاب ما تشيب دون نيله رؤوس الشباب، وترى الزجاج ينال من الثغور ما تتلظى دونه أرباب الأساورة والقصور، فلا تتعجب ممن قرب إلى الجمادية أن تكون الدنيا أسوق إليه، وأنها لا تدين لمن يسخر منها، وإنما تُقَرِّب من تضحك عليه.







ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك

4_ أخلاق العرب وعاداتهم: للعلامة أحمد تيمور باشا
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري
8_ أخلاق الناس: د.زكي مبارك
9_ الوفاء: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين
11_ مضار الإسراف: للعلامة محمد الخضر حسين


أخلاق العرب وعاداتهم( ) للعلامة المحقق أحمد تيمور باشا( )

من أخلاق العرب الحسنة و عاداتهم الطيبة: الشجاعة, والعفة, والشهامة, والنجدة, وعلو الهمة، والحمية, وحفظ العهود, والإيفاء بالوعود, والمحافظة على الأعراض أشد المحافظة، فقد كان الموت عندهم أسهل من العار حتى أدَّاهم ذلك إلى دفن بناتهم وهنَّ أحياء؛ خشية العار.
ومنها المدافعة عن الجار، وحفظ الْجِوار، والسخاء، والكرم، والضيافةُ للغريب والقريب.
ومنها الافتخار بشدة البأس، وعزَّة النفس، وإباء الضيم, و الولوع بالشعر؛ لأنه ديوان العرب, وبالحكم و الأمثال, والحِلْم, و الفصاحة, و الغلو في حفظ الشرف, ومكانة النفس.( )
وكانت لغتهم من أعز الأشياء لديهم, حتى إنهم كانوا يأنفون من مخالطة غير العرب ؛ حفظاً لها من العُجْمة.
ومن عاداتهم السيئة: دفنُ البنات وهن أحياء؛ خشية العار, وقَتلُ الأولاد؛ خشية الفقر, والغلو في أخذ الثأر, حتى إنهم يشنُّون الحرب التي تزهق فيها النفوس الكثيرة في سبيل أخذ ثأر رجل منهم.
ومنها: المنابزة بالألقاب .
ومنها التَبَنِّى, وهو أن يجعل الولد غير الحقيقي الذي يُتَّخَذُ كالابن _ بمنزلة الابن الحقيقي, يَرِثُ ويُورَث .
ومنها عبادة غير الله، وكانت عبادتهم على أنواع مختلفة, ولهم آلهة وأصنام كثيرة، كاّللات، والعُزَّى، وهُبَل، ونَسْر، وسُوَاع، ويَغُوثَ، ويَعُوقَ، وغير ذلك.
وكان منهم من يعبد النجوم :كالشمس, و القمر, وعطارد, والمشتري وغيرها.
ومن ذلك أسماؤهم: كعبد العُزّى, وعبد يَغُوث, وعبد شمس, ونحوها, وكان في بلادهم من بينهم بعضُ النصارى، و اليهود، والمجوس.
وكانوا قَبْلاً موحّدين يعبدون الله على ملّة إبراهيم الخليل وإسماعيل _عليهما السلام_ ثم اتخذوا الأصنام؛ لتكون واسطة بينهم وبين الله بزعمهم, إلى أن عبدوها، وقدموا لها القرابينَ, وذبحوا الذبائح على اسمها.
فلما وصلوا إلى هذه الدرجة من الجهل، و الكفر، وعبادة غير الله _ أرسل الله لهم رسوله المصطفى، ونبيه المرتَضَى ؛فأعادهم إلى الشريعة الحقّة, شرِيعةِ إبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء من قبلهم, فهداهم بعد الضلالة, وأرشدهم بعد الحيرة.


أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة ( ) للأستاذ أحمد أمين

لاحِظ الطفل، وأمعن النظر في تصرفاته، وراقب البواعث على حركاته وسكناته تَخْرُجْ بنتيجة حتمية، وهي أنه أناني مفرط الأنانية، يرى أنَّ أهمَّ ما في الوجود شخصه، وكل شيء حوله يجب أن يكون له، ما يصدر عنه من أعمال فإنما هي لجسمه، ولِلَذَّة يلتذها جسمه، ليس يهمه أي شيء يتصل بغير شخصه، لا يعنيه من أمِّه إلا أنَّ ثدييها وعاء للبنه، كل ما له من عمل، وكل ما له من شعور، وكل ما له من فكر، وكل ما له من رغبات فإنما هي موجهة نحو ذاته؛ فإذا أحسَّ فراغاً من الزمن ليس فيه شيء مما يشتهي ويلتذُّ بكى، لو كُلِّف أن يرسم خريطة العالم كما يرى، واستطاع ذلك لَرَسم شخصه فقط، وكان هو العالمَ وحده، وما عداه من شيءٍ فلخدمته.
لاحِظْ بعد ذلك وهو ينمو تجده يتحول من ( أنا ) قليلاً قليلاً إلى ( نحن ) شيئاً فشيئاً؛ فهو يبدأ يشعر بأسرته بجانب شخصه، ثم بتلاميذ مدرسته بجانب نفسه، ويتعلَّم دروس الأخذ والإعطاء بعد أن كان درسه الوحيد هو الأخذ، ويضم إلى العمل لشخصه العمل لغيره، ويعتاد ألا يعمل فقط ما يحب، بل يعمل _أيضاً_ ما يجب، ويعمل ما تقتضيه التقاليد، ويعمل خوف الاستهجان أو العقوبة أو نحو ذلك، يتعلَّم ذلك كله في أسرته، وفي مدرسته، وفي ألعابه وفي شارعه، ويتولَّد فيه شعور، وتفكير، ورغبات للعمل للغير، كما تولَّدَت فيه من قبل هذه الأمور للعمل لشخصه.
ويَرْقَى فيه الشعور بـ (نحن) إذا اتَّسع أفُقه في الحياة العامة، وخرج من المدرسة وتولَّى عملاً، وعاملَ الناس، وتبادل معهم المنافع والمصالح؛ فيشعر بأن هناك أناساً غير أسرَته، وغير مدرسته وغير معارفه، وأنه مرتبط ببعضهم في التعامل، ويشعر بأن هناك مسؤوليةً مُلقاةً على عاتقه نحوَ مَنْ يعمل معهم، وأنه خاضعٌ لقوانين البلاد، وله روابط بقومه وأهل دينه ونحو ذلك، كما يشعر أنه يجب عليه العمل، لا كما يحب الطفل، ولا طاعةً للتقاليد أو خوفاً من العقوبة كالفتى، ولكن ليحصِّل رزقه يقوت به نفسه، أو أهله، أو منْ يحمل عبأهم.
وهكذا تراه يبعد بعض الشيء من (أنا) ويقرُب من (نحن)، ولكن في حدود ضيِّقة معيَّنة.
فإذا نحن سَمَوْنا لدراسة (الرجال) وعظماء الناس، رأينا استغراقاً وعمقاً في (نحن)، وضموراً في (أنا) رأينا الرجل العظيم الناضج يصل إلى منزلة يرى معها أن لا قيمة لحياته إلا إذا ارتبطت بحياة الناس، والعملِ لإسعادهم، لا يقتصر على علاقاته الطيبة بمن حوله في الأعمال العادية، ولكن يضع نصب عينه العمل؛ لترقية الناس روحيَّاً ونفسيَّاً وماديَّاً، لا يرى أن مسؤوليته هي نحو أسرته فقط، ولا أصدقائه فقط، ولا قريته أو مدينته فقط، ولكن لأمَّته خاصة، وللإنسانية عامة إن وسعه الجهد والكفاية، هو واسع النظر، عميق الفهم، رحب الصدر، متسامح أمام ما يشل العقل من العصبية الوطنية والدينية، والخلافات الحزبية، يختبر حاجات الناس، وأسباب شقائهم في الناحية التي هو مُعَدٌّ لها، ثم يوجه إرادته لرفع الشقاء عنهم، و*** السعادة لهم ما أمكن، ويَحْمِل مسؤولية ذلك في لذة وسرور وتضحية، ولا بأس إن كان فقيراً، ولا بأس إن لم تُنبته أسرة أرستقراطية، ولا بأس إن لم يتسلَّح بقوَّة؛ فهو يشعر أن نُبل غرضه قوة فوق قوة المال، وفوق الأسرة النبيلة، وفوق أسلحة الناس.
إذا كانت جماهير الناس يعملون للأجر، ويقوِّمون العمل بالمال؛ فإن أُعطوا كثيراً عملوا كثيراً، وإن أُعطوا قليلاً عملوا قليلاً، ويفاضلون بين عمل وعمل بقدر ما يدر من ربح _ فإن هؤلاء العظماء يعملون؛ لأنهم يلذُّهم العمل، ويقوِّمون العمل بمقدار ما يحقق من خير لأمتهم، وللإنسانية أجمع، يدأبون في العمل، ويعرِّضون حياتهم للخطر في سبيل مرض يكتشفونه وداء يعالجونه به، أو في سبيل تحرير العقول من أغلالها، أو تحرير العقيدة مما أفسدها، أو يحاربون الظلمة والطغاة؛ لتحقيق العدل في الأمة أو العالم، يحتملون في ذلك العذاب ألواناً؛ لأن عشقهم للحق غلب حبهم للذات، وهيامهم بـ (نحن) أضعف حبهم لـ (أنا).
فإذا قال الطفل (أنا)، وقال الإنسان العادي (أُسرتي) وقال الرجل (أُمَّتي)، أو (عالَمي)، وإن تلذذ الناس بالعمل يُرْبِح تلذذهم بالفكرة تنجح، وإن تساءلوا عند العمل: ماذا نجني من دَخْل؟ تساءل هو: ماذا يستلزم العمل من جهد؟.
قد منحهم الله قوَّةً من قوَّته، وقدرة من قدرته؛ فهم _ دائماً _ مصدرُ نفعٍ وجمال، حدَّدوا غرضهم في الحياة؛ فعلموا أنهم لا يصلون إليه إلا إذا فهموا حق الفهم دنياهم التي يعيشون فيها، وطبائع نفوس الناس في الاستجابة للإصلاح، والنفور منه.
يلتذُّونَ تحمُّلَ التبعات كما يلتذ الجبناء الهرب منها، يواجهون الصعوبات بابتسام، ويتقبلون الهزيمة ريثما يستعدُّون للوثوب، أقوياء في خصومتهم، صابرون في هزيمتهم، كرماء سمحاء في انتصارهم، آلوا على أنفسهم أن يكونوا قوة محاربة للشر المحيط بهم حتى ينهزم، وأن يكونوا ضوءاً يدافع الظلام حتى ينجاب، يكرهون من أعماق نفوسهم المرض، والجهل والفقر، والسخافة والتخريف، وكل عيوب البشرية، ومع هذا يمزجون كراهيتهم لهذه الأشياء بالعطف على المنكوبين بها حتى ينقذوهم منها.
ثم الأمر في النفس ليس كالأمر في الجسم؛ فقد ينضج الجسم ويكتمل، والنفس لا تزال على حالها نفس طفل، فالشاعر كان محقاً حين قال:
. . . . . . . . . . . . .
جسم البغال وأحلام العصافير

وفي الناس حولنا أشكال وألوان من هذا القبيل، رجولة جسم وطفولة نفس، ومقياس ذلك الذي لا يتخلف هو ضمير (أنا) و (نحن)، فإن رأيت لا شيء إلا (أنا) رأيت طفلاً مهما كان جسمه وسنُّه، وإن رأيت (نحن) كثيراً و (أنا) قليلاً رأيت رجلاً، والرجال قليل.
هناك من ليس أمامه في الدنيا إلا جسمه، يبحث حياته عن الأكل الطيِّب، والملبس الطيب، والنعيم الطيب، وذلك كل تفكيره، وكل سعيه، وكل غرضه، ركزوا في صحة جسمهم ونعيمه كل شعورهم، وكل عواطفهم، وكل ملذاتهم، فإن عملوا عملاً خارج هذه الدائرة فلهذه الغاية، تعرفه بالإفراط في العناية بنوع ما يأكل، ومقدار ما يأكل، وبهندامه وبمرآه في المرآة، وبالحذلقة في حركاته وسكناته، ونحو ذلك، ثم لا شيء، فهذا طفل كبير.
وإن شئتَ فعُدَّ من هذا القبيل ناسكاً راهباً لا يفكر في أحد من بني آدم حوله، ولا يهمه حال قومه سياسياً ولا اجتماعياً، ولا يعنيه شقوا أم سعدوا، ولا يحتمل تبعة شيء، ولا يُصدِّق أحداً، ولا همَّ له في الحياة إلا نفسه وعبادته، أليس هو الآخر طفلاً كبيراً شغلته ( أنا ) عن ( نحن )؟
وهناك من يَحُدُّ العالم بحدود نفسه، إذا فكَّر فكَّر فيها، وإذا عمل عمل لها، لا يعنيه من العمل إلا مقدار ربحه منه، خسر الناس أو كسبوا، لا يمنعه من الغش في عمله إلا خوف العقوبة، فإن أمِنَها عمل ما شاء؛ ليربح مالاً، أو يكسب شهرة، أو يحقق غرضاً من أغراضه لنفسه، تعلم درس الأخذ ولم يتعلم درس العطاء، وليست الدنيا كلها وما فيها إلا قنطرة يعبر عليها للوصول إلى غايته، فهذا كذلك طفل كبير.
وهناك من يهرب _ كالطفل _ من كل تبعة، لا يقتحم الحياة، ولكن ينتظر القدر، ولا يزاحم، ولكن ينتظر الحظ، إن عرض له شيءٌ متعب تنحَّى عنه إلى شيءٍ مريح.
وهناك أسوأ من هذا، من رفع نفسه فوق الناس، فهم لم يُخلقوا إلا له، ولم تُخْلق عيونهم إلا لتقع على مطلبه، ولا آذانهم إلا لتصغي إلى كلمته، ولا أيديهم إلا للعمل في خدمته، يسير في الحياة على ما يهوى، ويحب أن يسير الناس فقط على ما يهوى، فهذا _ أيضاً _ طفل كبير، وكم في الناس من أطفال كبار، وهم في طفولتهم أشكال وألوان.
ارسم خطَّاً مستقيماً رأسياً، وضع في أسفله (أنا) وفي أعلاه (نحن) وامتحن نفسك: كيف أنت في عملك؟ هل لا تنظر إلا إلى شخصك، أو تراعي فيه مصلحة قومك؟ وكيف أنت في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك؟ وهل تؤدي زكاة مالك، وزكاة علمك، وزكاة فنِّك، وزكاة كفايتك؟ أو تشح بكل ذلك؛ فلا تنفقه إلا لمال أكثر تحصله، أو جاه تبتغيه؟ وكيف أنت في نيَّاتك ومقاصدك، هل يؤلمك بؤس الناس وشقاؤهم وفقرهم؛ فتتعاطف معهم، وتعمل جهدك لإسعادهم؟ أو أنت وبيتك، ثم على الدنيا العفاء؟
وحدد بذلك كله مركزك من الخط المستقيم، فإذا قربت جداً من (أنا) فهذا دليل الطفولة ولا محالة، وإن قربت جداً من (نحن) فأنت رجل.
هذا هو التقويم الصحيح للناس، وهو _ مع الأسف _ غير ما تواضعوا عليه؛ إنهم يقدرون الرجل بماله وبجاهه وبمنصبه، وبكل شيءٍ إلا قيمته الحقيقية.
ولو راعيت هذا المقياس الحق الذي ذكرنا لرفعت من شأن عامل بسيط على صاحب مصنع كبير، وموظفٍ في الدرجة الثامنة على موظف في الدرجة الأولى، ومعلمٍ أوَّليٍّ على سَرِيٍّ كبير، وكنَّاسٍ مخلصٍ على طبيب غير مخلص، وجنديٍّ مجهولٍ على قائد مشهور.
ولكن أنَّى لنا المدنية الحقَّة التي تهدم نظام القِيَم المتعفِّن لتضع مكانه نظاماً للقيم نظيفاً؟


الإنصاف الأدبي( ) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين( )

لا أريد أن أبحث تحت هذا العنوان عن الإنصاف الذي يُفَسَّر بالعدل, وُيوصَف به من ينتصب للحكم بين المتخاصمين( ), فقد سبق لنا أن تعرضنا لهذا الموضوع في مقال =القضاء العادل في الإسلام+( ).
كما أني لا أريد البحث عن الإنصاف الذي هو خلقٌ يحملُ صاحبَه على أن يُعطي الحقوق المادية من نفسه, كأن يعرف الرجل أن هذا المال أو المتاع حق لفلان ؛ فَيَكُفَّ يده أو يرفعها عنه من تلقاء نفسه, لا يخشى سطوة حاكم، أو لومة لائم؛ فللحديث عن الإنصاف الذي هو تبرئة الذمة من الحقوق المادية مقام غير هذا المقام.
وإنما الغرض البحث عن ضرب خاص من ضروب الإنصاف وهو أن يقول الرجل صواباً؛ فتعترف بأنه محق، أو يحرز خصلة حمد؛ فتقر بها ولا تنازع من يصفه بها.
ولا أجد مانعاً من أن أسمي هذا النوع من الإنصاف =الإنصاف الأدبي+ ويقابله من الأخلاق المذمومة =العناد+ وهو جحود الحق, ورده مع العلم بأنه حق.
والإنصاف الأدبي من الخصال التي لا ترسخ إلا في نفس نبتت في بيئة صالحة, وارتضعت من ثدي التربية الصحيحة لبناً خالصاً.
والجماعة التي تفقد هذا الخلق تفقد جانباً عظيماً من أسباب السعادة، ويدخلها الوهن بعد الوهن, حتى تتفرق أيدي سبا( ) وعليك الإنصات، وعلينا البيان:
بين الأخلاق روابط, وكثيراً ما يكون بعضها وليد بعض، كالعدل قد يكون وليد القناعة, وكالشجاعة قد تكون وليدة عزة النفس, وكالجبن قد يكون وليد الطمع, وكذلك خلق العناد، وعدم الإذعان للحق قد يكون وليد الحسد، وقد ينشأ عن طبيعة الغلو في حب الذات.
وللغلو في حب الذات فرعان: حب الانفراد بالفخر, وإيثار النفس على كل شيء حتى الحق؛ فالحاسد أو الحريص على الانفراد بالفخر هو الذي يسمع الرجل يقول صواباً فيقول له: أخطأت, أو يسمع الثناء عليه ببعض ما أحرز من خصال فيقول للمُثني عليه:كذبت.
وإيثار النفس على الحق هو الذي يحمل الرجل على التعصب لرأيه, والدفاع عنه وهو يعلم أنه في خطأ مبين.
فمن أراد أن يَطْبَع ناشئاً على خلق الإنصاف نَقَّب على علتي الحسد والغلو في حب الذات, فإن وجد لهما في نفس الناشئ أثراً راوضه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ حتى يتهيأ الناشئ لأن يكون على هذا الخلق العظيم, أعني خلق الإنصاف.
وإذا كان منشأُ الحسد قلةَ ملاحظةِ أنَّ النعمَة تصل إلى صاحبها مِنْ علام الغيوب, وهو لا يرسلها إلا لِحِكْمَة _ فإن من وسائل علاج هذا الداء تلقينَ الناشئ أن النعم ماديةً أو أدبيةً إنما ينالها الناس بمشيئة العليم الحكيم.
وإذا كان منشأُ الحرصِ على الانفرادِ بالفخرِ هو الغلوَّ في حب الذات _ كان على المربي تهذيبُ عاطفةِ حبِّ الذات في نفس الناشئ حتى تكون عاطفةً معتدلة: ت*** لها الخير, وتأبى له أن يَنال غيرَهُ بمكروه.
وإذا شُفي الناشئ من مرض الحسد, وخَلُصَ من لوثة الغلو في حب الذات _لم يبقَ بينه وبين فضيلة الإنصاف إلا أن تَعْرِضَ عليه شيئاً من آثارِها الطيبةِ, وتُذَكِّره بما يدرك المحرومين منها والمُسْتَخِفِّين بها من خسار وهوان.
وقلَّةُ الإنصاف تُبْعِد ما بين الأقارب أو الأصدقاء, وكم من تَجَافٍ نَشَأَ بين أخوين أو صديقين, وإنما نشأ من جحود أحدِهما بَعْضَ ما يتحلى به الآخر من فضل, أو من رَدِّه عليه رأياً أو روايةً وهو يعلم أنه مصيبٌ فيما رأى، أو صادقٌ فيما روى, قال الحكيم العربي:
ولم تزل قِلَّةُ الإنصافِ قاطعةً

بين الرجال وإن كانوا ذوي رَحِمِ

ومتى شَعُرَ الرجلُ من آخر بإنكار شيء من فضله, أو بتعسفه في معارضة رأيه_ رآه غير موضعٍ للصحبة والمعاشرة, وربما وقع في ظنه أن الراحة في عدم لقائه.
قلةُ الإنصافِ تَجُرُّ إلى التقاطعِ, والإنصافُ يدعو إلى الألفة, ويؤكد صلةَ الصداقة؛ فإذا كنت في مجلس, فقرر الرجل رأياً واضح الحجة, فغلبك ما في نفسك, وحاولت أن تصوره للناس خطأً _ فقد ألقيت بينك وبينه عداوة؛ فإن خضعت لحجته, وأعربت له عن استحسان رأيه فقد مددت بينك وبينه سبباً من أسباب الألفة؛ إذ يشعر من إنصافك أنك لا تحمل له ضغناً، ولا تكره له أن ينال حمداً؛ فإن سبق هذا الإنصاف خصومةً شعر بأنك خصم شريف؛ فيسعى لأن تنقلب الخصومة سلماً, ويتبدل التقاطع ولاءاً.
وقلةُ الإنصاف تسقط احترامك من العيون؛ فإن من يراك تهاجم الآراءَ المُؤَيَّدةَ بالحجة قد يَحْمِلُ هذا الهجومَ على قصر نظرِك, وعجزِك عن تمييز الباطل من الحق, فإن حمله على أنك تهاجمها؛ كراهة أن تكسب صاحبها حمداً وقع في نفسه أنك تتمنى لغيرك زوال النعمة, أو أنك حريص على الانفراد بخصال الحمد, فإن ذهب في تأويل إِبايَتِكَ لقبول الحق إلى أنك تموه على الناس؛ حتى لا ينسبوا إليك نقيصة الخطأ علم ما لم يكن يعلم من إيثارك النفس على الحق.
ولا احترام لمن لا يدرك الآراءَ المؤيدةَ بالحجة, أو يتألم من أن يرى غيره في نعمة, أو من يعمل للانفراد بالحمد من طريق التعسف والعناد, أو من يدافع عن نفسه نقص الخطأ بمحاولة قتل الحق.
قلةُ الإنصافِ تُسْقط احترامك من القلوبِ، والإنصافُ يزيد احترامك في القلوب مكانة؛ ذلك لأن إنصافك للرجال يدل على صفاء سريرتك، ونقائها من أن تكون قد حملت شيئاً من دنس الحسد, أو حام بها الغلوُّ في حب الذات.
نقرأ في كتب الأدب أن منذر بن سعيد البلوطي دخل مصر, وحضر مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء, فأنشد أبو جعفر أبيات مجنون ليلى هكذا:
خليلي هل بالشام عينٌ حزينة
تُبَكِّي على نجد لعلي أعينها

قد اسلمها الباكون إلا حمامةٌ
مطوقةٌ باتت وبات قرينها

تجاوبها أخرى على خَيْزَرانةٍ
ٍ يكاد يُدَنِّيها من الأرض لينها

فأراد منذر أن ينبه على أن قراءة =باتت وبات+ من عجز البيت الثاني بالتاء المثناة خطأ, فقال: يا أبا جعفر ماذا أعزك الله باتا يصنعان؟ فقال أبو جعفر: كيف تقول أنت يا أندلسي؟ قال منذر : =بانت وبان قرينها+.
كيف يكون مقام أبي جعفر في نفسك لو قص عليك التاريخ أنه تلقى تصحيح منذر بن سعيد بالارتياح, وقال له : أنا أخطأت, وأنت أصبت؟ لا شك أنك تحمل له من الاحترام فوق ما كنت تحمل.
ولكن منذر بن سعيد يقول: إن ابن النحاس سكت وما زال يستثقلني, ثم عاد بعد حين إلى ما كنت أعرفه منه, يعني من الإقبال والحفاوة.
وقلة الإنصاف تحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً؛ فمن لم تنصفه من أهل العلم وجد في نفسه مُثَبِّطاً عن أن يسرع إلى إفادتك, أو يفيض القول في مذاكرتك؛ فيفوتك حظٌّ من العلم لولا عدم إنصافك لازددت به قوةً في الفهم، وسعةً في العلم.
وقد يكون من أثر جحودك لفضل الرجل أن تقل رغبتك في ملاقاته, والتزود من آرائه أو رواياته, وكم وصل الرجل بإنصافه إلى علم وأدب جم.
قال أبو إسحاق الزجاج: لما قدم المبرد بغداد أتيته لأناظره؛ وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب, وأميل إلى قول الكوفيين, فعزمت على إعنات المبرد, فلما فاتحني ألجمني بالحجة وطالبني بالعلة؛ وألزمني إلزامات لم أهتد إليها,فتبينت فضله, واسترجحت عقله وجددت في ملازمته.
فلو كان أبو إسحاق من أولئك الذين يجمع بهم التعصب للأشياع أو المذهب حتى ينبذوا الإنصاف ناحية _ لما اعترف بفضل المبرد وقد فاتحه بالمناظرة عازماً إعناته, ولَفَاتَه العلمُ الذي غَنِمَه بالجد في ملازمته.
وقلة الإنصاف تحدث في العلم فساداً كبيراً؛ ذلك بأن من لم يقدر الإنصاف قدره, قد يرى بعض الآراء العلمية الصحيحة قد صدرت من شخص لا يرتاح هو لأنْ تكون قد صدرت منه, فيقابلها بالرد والإنكار؛ وقد تكون له براعة بيان؛ فيصرفها في تشويه وجه الحق وهو يعلم أنه حق, فيظهر الجهل على العلم ولو في فئة قليلة، أو دائرة صغيرة.
قلة الإنصاف تخذل العلم, وتطمس شيئاً من معالمه, والإنصاف يؤيد العلم، ويجعل موارده صافية سائغة.
ولو أخذ الإنصافُ حظَّه من نفوس جميع الباحثين عن الحقائق لقلَّت مسائلُ الخلاف في كل علم؛ فيكون حفظ العلوم أيسر, ومدة دراستها والرسوخ فيها أقصر.
نقرأ في تاريخ العلامة محمد بن عبد السلام أن ابن الصباغ اعترض عليه في أربعَ عشرةَ مسألة, فلم يدافع عن واحدة منها, بل أقر بالخطأ في جميعها.
ومن النواحي التي غفل فيها بعض الناس عن فضيلة الإنصاف؛ فكانت منبتَ فسادٍ غيرِ قليل _ ناحيةُ التعصب للمذهب تَعَصُّب َ من لا يسمع, ولا يرى.
ولصاحب المذهب أو المُقْتَدي به أن يبسط القول في تقرير أصوله, وإيراد حججه, وله أن يناقش أقوال مخالفيه وأدلتهم؛ فيردها, ويصفها بالخطأ إذا شاء.
ومن الإنصاف أن يناقشها استبانةً للحق, ولا يصفها بالخطأ إلا بعد أن تأذن له الحجة في وصفها.
والعالم الذي يطول نَظَرُه في أقوال الأئمة يشهدهم كيف يَرْمُون إلى غرض واحد هو الحكم المطابق للحق؛ فيمتلئ قلبه باحترامهم, ويقف في حدود الإنصاف عند دَرْسِه لمسألة من المسائل التي جرى فيها اختلافهم.
قال الإمام الشافعي: =الظُّرف في الوقوف عند الحق كما وقف+.
لا يصعب على النفوس التي فيها بقيةٌ مِنْ خير أن تنصفَ الرجل يَبْتَكِر رأياً, أو ينهض لعمل؛ فتعترف لرأيه بالإصابة, أو لعمله بالإجادة.
والإنصاف الذي قد تجمع عنه نفسك كثيراً أو قليلا أن تقول قولاً تظنه صواباً, أو تعمل عملا تحسبه حسناً؛ فينقده آخر بميزان العلم الصحيح, ويريك أنك قد قلت خطأ, أو عملت سيئا؛ ففي مثل هذا المقام قد تجد في نفسك كراهةً للاعتراف بالخطأ في القول, أو الإساءة في العمل؛ فإن كنت على ذكْرٍ من فضيلة الإنصاف, وما تؤتيه من ثمارٍ طيبة لم تلبث أن تَكْظُم هذه الكراهةَ, ولا تجد في نفسك حرجاً من أن تقول للناس: إني قد أخطأت في قولي, أو أسأت في عملي.
وتاريخ علماء الإسلام مملوء بقصص الذين رجعوا عن آرائهم بعد محاورات أو مناظرات ظهر لهم منها أن الحق في جانب مَنْ دارت بينهم وبينه المحاورة أو المناظرة.
ومما يروى في هذا الصدد أن مناظرةً جرت بين الإمامين: مالك بن أنس, وأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة في مقدار الصاع الذي تؤدى به زكاةُ الفطر, فقال مالك: هو خمسة أرطال وثلث,وكان أبو يوسف يذهب إلى أنها ثمانية أرطال, فاحتج عليه مالك بالصيعان الموجودة لذلك العهد عند أبناء المهاجرين والأنصار بالمدينة؛ فرجع الإمام أبو يوسف إلى ما قاله الإمام مالك.
لا يصعب على الرجل أن ينصف قريباً أو صديقاً, بل لا يصعب عليه أن ينصف مَنْ لا تربطه به قرابةٌ أو صداقةٌ, ولا تبعده منه عداوةٌ.
والإنصاف الذي قد يحتاج فيه إلى مُراوضةِ النفس كثيراً أو قليلاً أن يبدي بعض أعدائه رأياً سديداً, أو يناقشه في رأي مناقشةً صائبة؛ فهذا موطن تذكير النفس بأدب الإنصاف, وإنذارها ما يترتب على العناد من إثم وفساد.
ومن الإنصاف الذي يدل على الرسوخ في الفضيلة أن يتحدث الرجل عن خصمه، فينسب إليه ما يعرفه له من فضل.
أُنشِد في مجلس الإمام علي بن أبي طالب قول الشاعر:
فتىً كان يُدنيه الغنى من صديقه

إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

كأن الثريا عُلِّقت بجبينه
وفي خَدِّه الشِّعرى وفي الآخر البدر

فلما سمعها علي بن أبي طالب ÷, قال: هذا طلحة بن عبيد الله, وكان السيف لَيَلْتَئِدُ مجرداً بينهما.
يسهل على الرجل أن ينصف مَنْ هو أكبر سناً منه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف قرينه؛ ذلك لأن أكبر عائق عن الإنصاف التحاسدُ, وحسدُ الإنسانِ لأقرانه أكبر وأشدُّ من حسده للمتقدمين عليه في السن.
ويسهل عليه أن ينصف أقرانه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف من هو أحدثُ سناً منه؛ إذ يسبق إلى ظنه أن ظهورَ مزيةٍ لمن هو أحدث عهداً منه قد تفضي إلى أن يكون ذِكْرُهُ أرفعَ.
وفضلُ القرين على بعض أقرانه شائعٌ أكثر من فضل المتأخر على المتقدم, وشيوع الشيء يجعله أهونَ على النفس مما هو أقل شيوعاً منه.
فينبغي للإنسان أن يتيقظ للأحوال التي تتقوى فيها داعيةُ العناد, ويعدَّ للوقوف عند حدود الإنصاف, ومقاومة تلك الداعية _ ما استطاع من قوة.
ويقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي تلاميذه في العلم إلى الذروة, ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يَظْهَرَ عليه أحدُهم في بحث أو محاورة.
يذكرون أن العلامةَ عبدَالله الشريفَ التلمسانيَّ كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه, ويبرزه في أحسن صوره.
ويروى أن أبا عبد الله هذا كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد بن الإمام الكلامَ في مسألة, وطال البحث اعتراضاً وجواباً حتى ظهر أبو عبد الله على أستاذه أبي زيد, فاعترف له الأستاذ بالإصابة, وأنشد مداعباً:
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني

ومن نظر بروية إلى أن فضل العلم من جهة أنه وسيلة إلى إصلاح العمل، وإسعاد البشر, وكان مع هذا النظر ناصحاً لأمته _ وقف عند حد الإنصاف، ولم ينحرف عنه إجابةً لداعي الحسد؛ أو انسياقاً مع حب العلو في الأرض ولو بغير حق.
أخذ رجال بأدب الإسلام؛ فرسخوا في فضيلة الإنصاف على قدر صفاء سرائرهم, واحترامهم لأصول الدين وأحكامه.
وقد مثل الصحابة _ رضي الله عنهم _ الإنصاف في أكمل صورة, بدا لعمر ابن الخطاب مرة أن يضع للمهور حداً, فخطب قائلاً: =لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال+.
فقامت امرأة من صف النساء, فقالت: ما ذاك لك, قال: ولم؟ قالت لأن الله _ عز وجل _ يقول: [وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً]
فقال عمر: =امرأة أصابت، ورجل أخطأ+.
ولو كان عمر بن الخطاب ÷ من أولئك الذين يألمون من أن ينسب إليهم نقصٌ أكثرَ من ألمهم لتحريف آية عن موضعها, أو استبدال خاطر بشري بحكم إلهي _ لما عَدِم وجهاً من أمثال تلك الوجوه التي يصورها المخادعون, أو ضعفاء الإيمان؛ تعصباً لآرائهم المخالفة للقرآن.
اختلف ابن عباس وزيد بن حارثة _ رضي الله عنهما _ في مسألة من باب الحيض, فقرر ابن عباس حكماً؛ وخالفه زيد, فرأى فيها رأياً آخر, فقال له ابن عباس: سل نسيَّاتك: أم سليمان وصويحباتها, فذهب زيد فسألهن, ثم جاء وهو يضحك، فقال لابن عباس: القول ما قلت.
وموضع العبرة من هذه القصة أن زيداً تمسك برأيه في مخالفة ابن عباس حتى استبان له أن الحق مع ابن عباس, فلم يجد في نفسه حرجاً من أن يرجع إليه ضاحكاً، ويقول له: القول ما قلت.
ويروى أن الإمام علي بن أبي طالب ÷ تكلم في مسألة, فقال له أحد الحاضرين: ليس الأمر كذلك يا أمير المؤمنين, ولكنه كذا وكذا, فقال علي: أصبتَ وأخطأتُ, وفوق كل ذي علم عليم.
وعشاق الأخلاق الكريمة يجلون الإمامَ علياً لهذا الإنصاف إجلالهم له عندما يفتي، فيصيب الحق, أو يعظ، فينطق بالحكمة.
وقد اقتدى بالصحابة في هذا الخلق الكريم من جاء بعدهم من كبار العلماء, وهذا الإمام الشافعي ÷ يقول: =ما ناظرت أحداً على الغلبة, ووددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحق على يديه+.
والراسخون في فضيلة الإنصاف لا يبالون أن يكون رجوعهم عن الخطأ أمام من خالفهم وحده, أو بمحضر جمع كبير لم يشعروا بالخلاف, ولا بخطأ المخطئ، أو إصابة المصيب.
وها هو ذا التاريخ يحدثنا عن رجال من علماء الإسلام بلغوا هذه الغاية من الإنصاف, قال عبد الرحمن بن مهدي: ذاكرت القاضي عبيد الله بن الحسين في حديث وهو يومئذ قاض, فخالفني فيه, فدخلت عليه بعد وعنده الناس سماطين( ), فقال لي: ذلك الحديث كما قلت أنت؛ وأرجع أنا صاغراً.
فعبيد الله بن الحسين قد أحسن إلى نفسه؛ إذ أخذها بفضيلة الإنصاف, وأحسن إلى الناس؛ إذ علمهم كيف يعترفون بالخطأ إذا أخطأوا، ولا يتلبثون في الرجوع إلى الحق ولو عظمت مناصبهم, وعلت أقدارهم.
العناد قبيح, ويشتد هذا القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول رَدَّه على صاحبه؛ فمتى كانت الحجةُ أظهرَ كان العنادُ أقبحَ، والإنصافُ جميلٌ ويكون جمالُه أوضحَ وأجلى حيث يكون في حجة الرأي الصائب شيءٌ من الخفاء, وحيث يُمْكِنُك أن تتحيز لرأيك، وتهيئ كثيراً من الأذهان لقبوله.
وقد ينقل التاريخُ شذراتٍ من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر, أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة؛ فتهتز في نفوس قرائها عاطفة احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد, وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب, وربما كان إكبارهم لمن شهد لخصمه بمكرمة فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة.
وسببُ هذا الإكبارِ عظمةُ الإنصافِ, وعِزَّةُ مَنْ يأخذ نفسه بها في كل حال.
قال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف.
وإذا لم ينصفك الرجل, فرد عليك الحق بالشمال واليمين, أو جحد جانباً من فضلك وهو يراه رأي العين _ فلا تكن قلةُ إنصافِه حاملةً لك على أن تقابله بالعناد, فترد عليه حقاً, أو تجحد له فضلاً, واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت, فَيَلِجَ في نفسك, وينشط له لسانك أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم.
كلا, لا يحارب الرجل خصومه المبطلين بمثل الاعتصام بالفضيلة, ولا سيما فضيلة كفضيلة الإنصاف تدل على نفس مطمئنة, ونظر في العواقب بعيد.
ومن وجد في خصمه فضائل حصر محاربتَه في الأمر الذي هو منشأ الخصومة؛ وترك تلك الفضائل قارَّةً في مكانها, باديةً لمن أراد أن يقتدي بها.
وإذا كان الإنصافُ فضيلةً ترتفع بها أقدارُ الرجال, وتتسع بها دوائرُ العلوم, وتصفو بها مواردُ الآداب, ويشتد بها حبلُ الاتحاد, وينتظم بها شأنُ الاجتماع _ كان من واجب أولياء الأطفال, وأساتذة الأخلاق, ودعاة الإصلاح أن يجعلوا له من تربيتهم، وتعليمهم، ودعوتهم نصيباً يكفي لأن نرى أنديتنا ومؤلفاتنا وصحفنا نقيةً من إنكار الحق, بريئة من جحود الفضل.


علم الأخلاق( ) للشيخ علي فكري _ أمين دار الكتب المصرية

علم الأخلاق: هو العلم الذي يبحث عن حالة النفس، ونزوعها في أفعالها إلى الخير أو الشر، وعن الصفات الإنسانية عاليها وسافلها، وعن بقاء تلك الصفات في الإنسان وقبولها للتغيير.
وقد قال العلماء: إن الأخلاق هي صورة النفس المستترة التي تظهر في الإنسان عند القيام بأفعاله التي لا تكلف فيها.
ولا تكون الأفعال خلقاً للإنسان إلا إذا كانت صادرة لا عن تكلف، ولا عن إجهاد نفس، ولا عن تفكير.
فالأعمال التي يحتاج فاعلها إلى إكراه نفسه عليها لا تعد من خلقه؛ لأنها ليست سجية له، ولا طبعاً.
فمن يتكلف فعل المكرمات، وبذل المال؛ رياء لا يقال خلقه السخاء أو الكرم، ومن تصنَّع الحلم أو التواضع لا يسمى حليماً ولا متواضعاً.
وها هو ذا أبو الطيب المتنبي يقول:
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا

فرب شخص من خلقه السخاء لكنه لم يبذل لفقده المال، أو لمانع آخر، ورب بخيل تراه في طليعة الباذلين والمتبرعين؛ لحاجة في نفسه قضاها.
من أجل هذا عرَّف بعضهم الأخلاق فقال: هي ميول وجدانية تقوم بالنفس؛ فتوحي بها إلى الجوارح؛ فتحدث آثارها إن خيراً، وإن شرّاً وفاقاً لإرادة الشخص ونزوعه النفسي...
والأخلاق إما حسنة وإما سيئة، فالحسن: ما حسَّنه الشرع والعقل( )، والسيئ: ما ذمه الشرع والعقل.
ومن شأن العاقل الكامل أن يختار الأفضل، والأحسن في العاقبة وإن كان في فعله مشقة على النفس، أو كان مكروهاً لها، ومبغضاً قال _ تعالى _: [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً]، وقال _ تعالى _: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ]
وآفة عقل الإنسان هواه؛ ولذا قال بعض الحكماء: أرفض الهوى؛ فإنه إذا غلب العقل جعل محاسن المرء مساوئ، فيصير الحلم حقداً، والعبادة رياءاً، والجود تبذيراً، والاقتصاد بخلاً.
وقال آخر:
وآفة العقل الهوى فمن علا

على هواه عَقْلُه فقد نجا

وإذا قوي العقل، وغلب قاد صاحبه إلى محاسن الأخلاق، ومحامد الأمور، وحفظه من التردي من مهاوي الهلكة.
وإن ضعف العقل هلكت النفس، وظهر اعوجاجها.
وليس الإنسان شرِّيراً بفطرته، ولا خيراً بطبعه، ولكنه خلق أداة صالحة؛ لفعل ما يوجهها العقل إليه قال _ تعالى _: [أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ( )(10)] البلد: 8 _10، وقال: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا( ) (10)] الشمس: 7 _10.
وفي التاريخ أمثلة كثيرة تدل على أن العقل السليم يهدي صاحبه إلى الخير، فالأمة العربية في جاهليتها كانت غريقة في بحار الآثام من خمر، وميسر، وقتل نفس بغير حق، ووأد بنات، وهتك أعراض؛ فلما جاء الإسلام وغلب العقل الهوى انتقلت تلك الأمة من حمأة الفساد إلى روضة الصلاح والاستقامة، فأتت فعلاً حميداً، ونالت عزّاً مجيداً.
وحسبك أن تعلم أن الأمة العربية سادت بجميل الأخلاق، وحميد الخلال، فكان الصدق، والأمانة، والعفة، والوفاء، والمروءة، والإخلاص في العمل، والألفة، والاتحاد، وكلها مجتمعة في الرجل منها يُتَحلَّى بها عن رغبة لا عن رهبة، وبميل ووجدان شريف، ونزعة نفسية حرة.


أخلاق الناس( ) للدكتور. زكي مبارك( )

قَلِّبْ ما شئت من مؤلفات القدماء فسترى أنَّ المؤلفين كانوا يهتمون في أكثر الأحيان بمحاربة الرذائل الاجتماعية، لاسيما الغيبة والنميمة؛ لأنهما من أخطر أسباب القطيعة بين الناس.
أما المؤلفون في العصر الحاضر فيرون الغيبة والنميمة من الموضوعات البالية التي لا تصلح لأقلام المُحْدَثين، وإني لأكتب هذه الفقرات في هيبة وحذر؛ خشيةَ أن يقول قائل: ما هذه الرجعة إلى أوهام الأولين!
ويسألني من أرى من الأصدقاء: أين تسهر؟ وأين نراك؟
والسهرات عند هؤلاء هي جلساتٌ سخيفة تؤكل فيها لحوم الناس، ويجري فيها من السفه والبذاءة ما يندى له الجبين! ويا ويل من تَكْرُمُ عليه نفسُه؛ فلا يشترك في لغو الحديث؛ فهو عندهم ثقيل الظل، بارد الأنفاس!
والتطرف في عصرنا هو مضغ أخبار الأدباء والشعراء والمؤلفين.
وفي شباب اليوم أفراد يعيشون من هذا الرزق الحرام؛ فهم زينة الأندية الرقيعة التي لا تجري فيها كلمةُ خير، ولا تَعْرِف زواياها غيرَ الإفك والبهتان من عبث القيل والقال.
وفي كهول اليوم طوائفُ تتلمس هذه الأنواع البشرية التي تحسن تلفيق الأراجيف والأكاذيب.
وإنك لتعجب كيف يتفق لمن يسمونهم أدباء الشباب وأدباء الكهول أن يجيدوا شيئاً، وهم يقضون ثلاثة أرباع الوقت في تلك الأحاديث الممجوجة التي تتنافر مع سماحة الطبع، وسلامة الذوق، ورجاحة العقل.
أين أسهر؟ أنا أسهر في بيتي حيث آنس بوحشة الليل؛ فقد ضجرت من إخوان الزمان، وعادت الوحدة أحبَّ إلى نفسي مِنْ صحبة مَنْ يلبسون ثوباً للمحضر، وثوباً للمغيب.
أين من يعرف أدب النفس في هذه الأيام؟ وأين الرجل الذي تثق بكرمه ومروؤته؟ وتطمئن إلى أن أذنه لا تفتح لأهل اللغو والفضول ممن يبعثرون النمائم ذات اليمين وذات الشمائل؟ وأين من يزن ما يقول، ويفكر في عواقب ما يقول؟ وأين من سَلِم أديمُه في هذا البلد، فلم تمزقه الأقاويل والأراجيف؟
دلونا أيها الناس على رجل واحد سلم عرضُه وشرفُه، وحُفِظَ معروفُه وجميله، واستطاع الفضل أن يحميه من لغو المرجفين، وكيد المفسدين.
لقد صحبت طوائف من المصريين وطوائف من الأجانب وانتهيت إلى النتيجة الآتية: الغيبة والنميمة من الرذائل الإنسانية يقع فيها المصريون وغير المصريين.
ومع هذا لاحظت أن المثقفين من الأجانب قد يستبيحون الاغتياب، ولكنهم لا يستبيحون البهتان؛ فالرجل قد يغتابك، ولكنه يتحرَّج من أن يصفك بما ليس فيك، وقد ينم، ولكن نمائمه خالصة من المفتريات.
أما المثقفون منَّا _وا أسفاه!_ فيجمعون بين الرذيلتين: النميمة، والافتراء.
ومعنى هذا أنَّ من الأجانب من يعصمه الحياء من خَلْقِ الأكاذيب، وأنَّ فينا من تنقصه فضيلة الحياء.
إننا نتحدث كثيراً عن الوطنيةِ، والوطنيةُ لا تقوم إلا على فكرة الوطن، والوطن لا يُحَبُّ إلا حين يكون لنا فيه أصدقاء وأخلاء؛ فإنَّ الموداتِ والعلاقاتِ هي أساس التقديس( ) للأفكار والأشخاص.
أيها المغتابون والنمامون! أنتم أعداء الصدق والكرامة والوطنية، وأنتم أعداء أنفسكم لو تعلمون!


الوفاء ( ) لمصطفى لطفي المنفلوطي( )

يا صاحب النظرات( ):
تزوجت منذ سنة من زوج صالحة طيبة القلب والسريرة، فاغتبطت بعشرتها برهة من الزمان، وقد عرض لها في هذه الأيام رمد في عينيها؛ فذهب ببصرها فأصبحت عمياء، وأصبحت أعمى بجانبها، وقد بدا لي أن أطلقها وأتزوج من غيرها... فماذا ترى ؟
إنسان.
أيها الإنسان: لا تفعل، فإنك إن فعلت كان عليك إثم الخائنين، وجرم الغادرين، وكن اليوم أحرص على بقائها بجانبك منك قبل اليوم؛ لتستطيع أن تدخر لنفسك عند الله من المثوبة والأجر ما يدخر أمثالك من الصابرين المحسنين.
لا تقل: إنها عمياء فلا خير فيها، ولا غبطة لي بها؛ فإنك ستجد بين جنبيك من لذة المروءة والإحسان والجود والإيثار ما يحسدك عليه الناعمون بالحور الحسان، في مقاصير الجنان.
اجلس إليها صباحك ومساءك، وحادثها محادثة الصديق صديقه، بل الزوج زوجه، وتلطف بها جهدك، وروِّح عن نفسها ما يساورها من الهموم والكروب وقل لها: لا تجزعي ولا تحزني؛ فإنما أنا بصرك الذي به تبصرين، ونورك الذي به تهتدين.
أعيذك أيها الإنسان بالله ألا تجعل لهذا الخاطر السيء _ خاطر الطلاق والفراق _ سبيلاً إلى نفسك، فإنها لم تسىءْ إليك؛ فتسيءَ إليها، ولم تنقضْ عهدك؛ فتنقضَ عهدها، فإن كنت لا بدَّ ثائراً لنفسك فاثأر من القدر إن استطعت إليه سبيلاً!
إنَّ عجزاً من الرجل وضعفاً أن يغضب؛ فيمد يده بالعقوبة إلى غير من أذنب إليه، ويعتدي عليه.
إن لم يكن احتفاظك بزوجك، وإبقاؤك عليها عدلاً يسألك الله عنه فليكن إحساناً تحاسبك الإنسانية فيه.
إنك قد خسرت بصرها، ولكنك ستربح قلبها، وحسب الإنسان من لذة وهناءة في هذه الحياة قلب يخفق بحبه، ولسان يهتف بذكره.
إنها أسعدتك برهة من الزمان، فليخفق قلبك رحمة بها، بقدر ما خفق سروراً بعشرتها.
لا أحسب أنها كانت تاركتك، أو غادرة بك لو أن هذا السهم الذي أصابها قد أصابك من دونها؛ فاحرص الحرص كله على ألا تكون امرأة ضعيفة أسبق منك إلى فضيلة الصدق والوفاء.
إلى من تعهد بها بعد فراقك إياها؟ وأي موطن من المواطن هيأته لمقامها؟ وما أعددت لها من الوسائل التي تستعين بها على عيشها؟ وتأنس بها في وحشتها ووحدتها؟
كيف يهنأ لك عيش، أو يغمض لك جفن؟ إذا أظلك الليل فذكرتها، وذكرت أنها تقاسي في وحدتها من الوحشة ما لا قبل لها باحتماله، وأنها ربما طلبت جرعة ماء، فلا تجد من يقدمها إليها، أو كسرة خبز، فلا تجد من يدلها عليها، أو ربما قامت من مضجعها في سكون الليل وهدوئه تتلمس الطريق إلى حاجة من حاجاتها، فأخطأ تقديرُها، فصدمها الجدار في جبينها صدمة أسالت دمها حتى امتزج بدمعها؟
أيها الإنسان: إن لم تكن عادلاً ولا وفياً ولا محسناً فارحم نفسك من هذا الخيال الذي لابدَّ أن سيساورك، يفت في عضدك ويزعجك من مرقدك، فإن لم تكن هذا ولا ذاك، فغيرك أخاطب؛ لأني لا أحسن إلا مخاطبة الإنسان.
إني محدثك عن صديق لي من كرام الناس وأوفيائهم تزوج امرأة حسناء؛ فاغتبط بها برهة من الزمان، ثم أصابها الدهر بمثل ما أصاب به زوجك، ولم يترك لها من ذلك النور الذاهب إلا كما تترك الشمس من الشفق الأحمر في حاشية الأفق، فلم يقنعه من الوفاء لها أَنِ استبقاها واستمسك بها، بل كان يحرص جهده على ألا تعلم أنه ينكر من أمرها شيئاً، فكان يعتب عليها في بعض الأحايين في أشياء لا يؤاخذ بها عادة إلا الناظرون المبصرون؛ يريد أن يلقي في روعها أنه لا يزال يعدها ناظرةً مبصرة، وأنه لا يرى شيئاً جديداً عليها؛ رحمة بها، وإبقاءاً على ما كانت تحب أن تحاوله من الاعتداد بنفسها، والإدلال بمزاياها.
ولقد قرأت جملة صالحة من نوادر العرب في آدابهم، ومكارم أخلاقهم، ورقة شعورهم، ولطف وجدانهم، فلم أر بينها نادرة أوقع في النفس، ولا أجمل أثراً في القلب من قول أبي عيينة الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية، وكان كفيف البصر: اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد أربعين عاماً فما سمعته مرة يقول لغلامه عند تشييعي: خذ بيده يا غلام بل يقول: اخرج معه يا غلام.
فإن كنت تريد أن يسجل لك من الوفاء في صفحات القلوب، ما سجل لأحمد بن أبي دؤاد( ) في صفحات التاريخ فلا تُطَلِّق زوجك، ولا تنقم منها أمراً قد خرج حكمه من يدها، وإن أبيت إلا أن تأخذ لنفسك حظها من لذائذ العيش فاعلم أنه ما من لذة يتمتع بها الإنسان في حياته إلا ويشوبها الكدر، أو يعقبها الألم، إلا لذة البر والإحسان.


الشرف( ) للأستاذ أحمد أمين

في الحرب الروسية اليابانية الماضية أُخذ بعضُ الضباط أسرى ووضعوا في مكان وأخذ منهم كلمة ألا يهربوا، ولم يوضع عليهم حُرَّاس؛ اكتفاءاً بوعدهم وكلمتهم، فما الذي منعهم أن يفروا أو يهربوا ؟ كلمة الشرف...
ومن حكايات العرب المشهورة أن حصن بن زرارة لما ضاقت المعيشة به وبقومه رحل إلى كسرى، فشكا إليه ما أصابهم من الجهد في أموالهم وفي نفوسهم، وطلب إليه أن يأذن له ولقومه أن ينزلوا في البلاد المتاخمة لفارس؛ لِخِصَبها، فقال كسرى: إن العرب فيهم غدر، فإذا أذنت لهم عاثوا في الأرض وأغاروا، فقال: أنا ضامن لهم، قال كسرى: فمن لي أن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي، فلما جاء بها ضحك مَنْ حول الملك؛ لتفاهة القوس وحقارتها، ولكن كسرى كان عارفاً بالرجل وبعادات العرب فقبل منه القوس رهناً، فما الذي حمله على قبول قوسه الحقير؟ لأنه انضم إلى رهن القوس ذمة الرجل ووعده وكلمته، وقد بَرَّ بوعده، وهذا هو الشرف؛ فالشرف في أبسط أشكاله أن يحافظ الطفل، والشاب، والرجل، والمرأة على الكلمة تصدر منهم كأنها =عِقْد+سواء في ذلك اللسان، أو التوقيع بالقلم، والفرق بينهما أن التوقيع على العقد يُلْزِمُ به القانون، والنطق بالكلمة يلزم به الشرف.
وهناك مظاهر للشرف في كل عمل يعمله الإنسان؛ فالأطفال في أعمالهم قد يَغُشُّون فلا يكون لهم شرف، وقد يكونون أمناء فلهم الشرف، والبائع قد يغش في الكيل والميزان فلا شرف له، وقد يكون أميناً؛ فهو شريف، ورئيس الوزارة قد يحترم كلمته، ويحافظ على بلاده ويحفظ سمعتها؛ فيكون شريفاً، وقد لا يقوم بذلك؛ فلا يكون شريفاً وهكذا.
وهناك نوع آخر من الشرف، وهو حماية الضعفاء؛ فالدنيا مملوءة بالضعفاء كالفلاَّح المسكين الذي لا يجد ما يأكل، والصانع الذي حدثت له إصابة منعته من العمل، والمريض لا يجد ما يتداوى به، والأسرة مات ربها ولا عائل لها، والتلميذ النابغة لا يجد وسيلة لتعليمه وهكذا، كل هؤلاء ضعفاء، وكل هؤلاء يحتاجون إلى المعونة لسد حاجتهم.
فمساعدتهم، وسد عوزهم، والأخذ بيدهم ضربٌ من ضروب الشرف؛ فشريفٌ مَنْ ينزل عن بعض ماله لمساعدة هؤلاء المنكوبين، وشرفاءُ مَنْ يؤسسون جمعيات ينفقون عليها من مالهم، وعقولهم، ونشاطهم؛ لرفع البؤس عن البائسين.
وهناك أنواع أخرى صغيرة من أنواع الشرف، إذا كان أمامك خطاب لآخر تستطيع أن تقرأه ولكن رأيت من الواجب ألا تقرأه؛ لأنك لا تملكه؛ فهذا شرف، وإذا اؤتمنت على سرٍّ فلم تبح به؛ فهذا شرف، وإذا ضغطت عليك الحوادث؛ لتسير سيراً معوجاً لا يتناسب والخلقَ السامي فأبيت إلا أداء الواجب مهما ضحيت في سبيله فهذا شرف، وإذا كانت كلمة الحق تهددك في منصبك أو مالك فقلتها ولم تبال بالعواقب فهذا شرف.
إذاً فيجمع الشرَف كلمةٌ واحدة هي أن تحافظ على الكلمة تصدر منك، وعلى واجبك تؤديه على الرغم من كل شيء.
وللشريف مكافأتان يكافئه بها الناس ويكافئ بها نفسه، فمكافأة الناس كالأوسمة، والرتب، وبعض المناصب، والمكافآت المالية، والدرجات الجامعة، وإقامة الخطب، والهتافات إذا منحت كل هذه لرجل شريف لأداء عمل شريف.
وهناك مكافأة أهم من هذه وهي مكافأة الشريف نفسه برضا ضميره لأداء واجبه، هي راحة نفسه، وسرورها باحتمال المشقة؛ لعمل ما كان ينبغي أن يعمل، ولذة هذا الشعور تفوق كل لذة( ).
كان الجنرال (غوردون) قائد حملة في الصين فلما انتهت مهمته كتب يقول: =إني أعلم أني سوف أترك الصين فقيرة كما دخلتها، ولكنَّ ضميري مرتاح؛ لأني استطعت أن أُنْجِيَ نحو مائة ألف نفس من الموت، وهذا عزائي+.
ولما مُنِحَ لقب الشرف على عمله قال: إن هذه الألقاب والنعوت كلها لا تساوي عندي (بنسين) ولما منحه إمبراطور الصين ميدالية ذهبية صهرها، وباعها، وتصدق بثمنها على فقراء الصين.
الطفل الشريف يأبى أن يعمل عملاً يسيء سمعته، أو فصله، أو مدرسته.
والرجل الشريف يأبى أن يعمل عملاً يضر بأسرته، أو أمته.
والمرأة الشريفة تأبى أن تأتي عملاً يضر بأسرتها أو أمتها، بل أكثر من ذلك أن الرجل الشريف أو المرأة الشريفة عنده شعور قوي يدفعه للإعجاب بمن يأتي بعمل يُشرِّف أسرته أو أمته.
ويتجلى هذا الشعور بالقول، وبالتبرع، وبالتكريم، كما أن هذا الشعور القوي يدفعه إلى السخط الشديد على من يرتكب عملاً نذلاً يَحُطُّ أسرته، أو أمته، ويترجم هذا الشعور بالقول والعمل.
وكما أن هناك جنيهاً صحيحاً، وجنيهاً مزيفاً، وعَقْدَ بيعٍ صحيحاً وعقداً مزيفاً _ كذلك هناك شريف صحيح، وشريف مزيَّف؛ فكل الأنواع التي ذكرتها من المحافظة على الكلمة، ومساعدة الضعفاء، وقول الحق في صراحة، وأداء الواجب في أمانة، ودفع السوء عن الأسرة، والوطن، و*** الخير لهما _ كل هذه أنواع من الشرف الصحيح.
أما الشرف الـمُزَيَّف فأنواع كذلك، كالشرف بالغنى الذي لا ينفع الغنيُّ به أمتَه وقومه، فاحترام الناس للغني؛ لأنَّ عنده ألف فدان أو أقل أو أكثر احترامٌ خاطئ، وتعاظمُ الغنيِّ؛ لأن عنده هذه الأطيان شرف مزيف.
إنما يكون شريفاً صحيحاً يوم يفخر أنه استخدم غناه في مصلحة قومه، فساهم في أعمال الخير، وتبرع لرفع البؤس عَمَّنْ كانوا سبب غناه، وخَفَفَ بماله بؤس البائسين، وعوز المحتاجين.
كذلك من الشرف المزيف الفخر بالمنصب، كأن يكون وزيراً، أو مديراً، أو في الدرجة الأولى أو الثانية، فهذا الفخر إن لم يقترن بالعمل النافع شرفٌ مزيفٌ.
وواجبُ الأمةِ العاقلةِ أن تزن الأمور بميزان صحيح؛ فلا تَبْذِلَ من الاحترام، والتوقير، والإجلال لغني، أو وزير، أو مدير إلا بمقدار ما يسدي للأمة بماله ومنصبه من خير.
ولو عقل الناس لاحترموا كناساً في الشارع يؤدي واجبه أكثر مما يحترمون وزيراً لم يؤدِّ واجبه بل أضاع واجبه.
كذلك من ضروب الشرف المزيف الفخر بالحسب والنسب، فهو من أسرة فلان، ومن بيت فلان، ونسيب فلان، وابن فلان، وحفيد فلان؛ فكل هذا لا قيمة له في الشرف ما لم يُدْعَمْ بالعمل النافع.
ورجل عصامي نشأ من بيت فقير، وكان أبوه نجاراً، أو حداداً ثم أتى بعمل جليل خيرٌ من الحسيب النسيب لا يأتي عملاً، أو يأتي ما يشين.
ومثل هذا من الشرفِ المزيَّفِ الأمةُ تفتخر بماضيها، ولا تعمل لحاضرها، ومستقبلها، والشاعر العربي يقول:
إذا أنت لم تحمِ القديم بحادث

من المجد لم ينفعك ما كان من قبل

فالذي يَشْرُف بماله، أو بمنصبه، أو نسبه، أو تأريخه شريف مزيف، ما لم يأت بأعمال شريفة من نفسه.
الشريف يحترم نفسه؛ فلا يعمل الدنيء من الأعمال، ولو أَمِنَ أن يطلع عليه أحد، ويخاف من ضميره أكثر مما يخاف من غيره، ويترفع عن الصغائر، ويَحْرِمُ نفسه من بعض المباح؛ لأنه يرى نفسه أرفع من أن تأتي بمواضع الشُبَه.
والشريف يسمو إلى الغرض النبيل، ولا يهدأ ضميره حتى يناله، أو يقرب منه.
لقد أخذت اللغة الإنجليزية من اللغة العربية كلمة (شريف)، واستعملتها في بعض المناصب الرفيعة، وسَمَّتْ بعض المحاكم (محكمة الشرفاء)؛ فهل يعتز العرب بهذه الكلمة، ويتخذونها أساساً لأفعالهم؛ كما تأصلت في لغتهم؟ أرجو ذلك.


مضار الإسراف ( ) للشيخ محمد الخضر حسين

تعظم الأمة، وترقى في سماء العزة والمنعة، بخصال من أكبرها أثراً الاقتصاد في الإنفاق، والاقتصاد فضيلة بين رذيلتين: هما البخل، والإسراف.
وتقديره يختلف باختلاف أحوال الأشخاص من اليسار وقلة ما في اليد، وضابطه أن لا يتجاوز الإنسان في نحو مطعمه، وملبسه، ومسكنه، وأثاث منزله سيرةَ من يماثلونه في مقدار ما يملك، أو يكسب من المال، وهم يعيشون في مروءة، وسلامة من هموم الدين.
ولما كان الاقتصاد يقوم على عدم الإسراف في الترف اخترنا أن نجعل حديثنا في الإسراف وما يجرُّ إليه من عواقب وخيمة.
الإسراف يُفضي إلى الفاقة؛ ذلك أن المسرف يطلق يده في الإنفاق إرضاءً لشهواته؛ حتى يفقده ما عنده، وينزل إلى طبقة المقلِّين أو المعدمين، وكم من بيوت أسسها آباء مقتدرون، وعمَّروها بما يليق بها من المرافق والأمتعة، وأقاموا حولها وسائل للثروة، من نحو المزارع، أو المصانع، أو المتاجر، ثم صارت إلى أبنائهم من بعدهم وقد غلب عليهم حب الترف، فأطلقوا لشهواتهم العنان حتى أتلفوا وسائل الثروة، وتقوَّض بناء تلك البيوت، والتحق أولئك الخلف بطبقة البائسين الذين لا يجدون ما ينفقون.
وإذا وقع الرجل في الفقر بعد اليسار، تجرَّع مرارة الهوان المصحوب بحسرات.
وكذلك الأمة تملك عزتها بقدر عمارة بيت مالها، قال أبو جعفر المنصور في وصيته للمهدي: =فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً+.
ومن ثمَّ كان القاضي منذر بن سعيد البلوطي يواجه الخليفة عبدالرحمن الناصر بالنهي عن الإسراف في المباني وزخرفتها، ويلقي بحضرته الخطب الزاجرة، حتى خاطبه يوماً بقوله:
يا باني الزهراء مستغرقاً
أوقاته فيها أما تمهل


لله ما أحسنها رونقاً

لو لم تكن زهرتها تذبل



ثم قال: اللهم اشهد فقد بلَّغت.
والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة، من نحو الجبن والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.
أَمَّا أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ من العيش يقوِّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرص على تجنب مواقع الحروب وإن كانت مواقف شرف، وذود عن النفس والعرض والمال.
شأن المحفوف بالزينة، وملاذ العيش أن تشتد كراهيته للموت، ولا يسابق إلى خوض غمار الحروب؛ لهذا ترى الرجل الذي يريد أن يجعل لشجاعة ممدوحة مزية زائدة يحدثك أنه يندفع إلى الحروب غير مبال بما تركه وراءه من لذة وزينة، كما قال الحطيئة العبسي:
إذا هم بالأعداء لم يثن عزمه
كعاب عليها لؤلؤٌ وشنوفُ




حَصَانٌ لها في البيت زيٌ وبهجة

ومشيٌ كما تمشي القطاة قَطوفُ( )





وإذا كان شأن المترفين الفرار من الموت، فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور؛ فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يُبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب، إن كان ذا سلطان وقوة.
دُعِيَ العلامة محمد بن بشير إلى ولاية القضاء بقرطبة، فاستشار بعض أصحابه في قبول الولاية، فسأله صاحبه عن أشياء؛ ليعلم مقدار قوته في العدل، ومما قاله له: كيف حبك للأكل الطيّب، واللباس اللين، والمركوب الفاره؟ قال: والله لا أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به بدني، وحملت به رحلي، قال: اقبل الولاية، فلا بأس عليك.
وأما أن الإسراف في الترف يذهب بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همّه الوصول إلى زينة، أو لذة مطعم ونحوه، وكثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي يؤتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أن الإسراف في الترف يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه، كان أعظمُ قصدِه من جمع المال إنفاقَه فيما يلذه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.
لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة من مجاملات الإخوان، ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى، هي قطع صلة التعاطف والتواد بين كثير من أفراد الأمة.
وللإسراف في الترف أثرٌ كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم يغلب عليه الحرص على هذا الحال، فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم، كسكوته عن كلمة حق بين يدي ذي جاه، أو سلطان يكره أن يسمع صوت الحق، ومن تَرك أن يواجه بكلمةِ حقٍّ ذا جاه، أو سلطان يخشى أن يحول بينه وبين رفاهيته _ سهل عليه أن يترك الدعوة إلى الحق جملة.
وللإسراف في الترف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون وما يشربون.
وقد أورد ابن خلدون في مقدمته حديثاً عن الأمراض، ونبّه على أنها تكثر في أهل الحضر والأمصار؛ لِخِصَب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية، ثم نبّه على أن تلك الأمراض تقل في أهل البادية؛ لقلة مأكولاتهم، وبساطة أغذيتهم.
وإذا كانت الصحة من متممات البطولة كان حقاً على الأفراد والجماعات أن يأخذوا في مآكلهم ومشاربهم بحكمة الاقتصاد؛ فلا فضل للأمة في أن تضع على موائدها ألواناً من الأطعمة مختلفة، وإنما الفضل في أن يكون لها رجالٌ سليمة أبدانُهم، قوية عزائمُهم، مضيئة بصائرهم.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب، يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية، ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة، لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذا شأن الإسراف في الترف، ولكن التاريخ قد حدثنا عن أفراد نشأوا في بيوت توفرت فيها وسائل الرفاهية، ولم يكونوا بحال المترفين المستضعفين، بل نشأوا وقد عظم في نفوسهم الطموح إلى معالي الأمور، فاحتقروا ما يسمى لذاتٍ حسيّةً، وإن كانت طَوْعَ أيمانهم وشمائلهم، وأقبلوا على العلم، أو على ضرب آخر من ضروب السيادة، فأدركوا فيه غاية قصوى، مثل عمر ابن عبدالعزيز ÷ فقد نشأ في بيت إمارة، وحينما تولَّى الخلافة استطاع بما وهبه الله من الحكمة والرويَّة أن لا يقيم للزينة والأطعمة الفاخرة وزناً، فعاش عيشة الكفاف، وخزائن الأرض طوع يمينه، وتوفي وقد أبقى سيرة غراء، وذكراً أطيب من ريح المسك.
ومثل أبي محمد بن حزم الذي نشأ في بيت وزارة بالأندلس، وتولَّى هو نفسه الوزارة، ثم نفض يده وانقطع للازدياد من العلم، حتى ارتقى إلى طبقة كبار العلماء بنظر مستقل، وقلم بارع.
ونحن إذا حذرنا من الإسراف في الترف لا نريد من الناس أن يكونوا على سنّة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذ، فقد قال _تعالى_: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق]الأعراف: 32.
وإنما نريد الدعوة إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الحرص على الزينة واللذيذ من العيش، حتى لا تجعلها مظهر الفخار والمباهاة:
يفاخرنا بمأكول ولبس
وذلك فخر ذي حظ هزيل






وقد سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم أعني طريق الاقتصاد، فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال _تعالى_: [وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً]الإسراء: 29.
وألحق المسرفين بقبيل الشياطين، فقال _تعالى_: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ]الإسراء: من27.
وعدّهم في زمرة من يستحقون بغضه، فقال _تعالى_: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]الأعراف: 3.
ونفي محبة الله كناية عن بغضه إياهم.
وأثنى الله _ تعالى _ على المصطفين من عباده بفضيلة الاقتصاد، فقال: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً]الفرقان: 67.
ونظر الشارع الحكيم إلى أن الإسراف يذهب بسعادة الفرد والأسرة، فشرع إقامة أولياء على أموال من لم يبلغوا سِن الرشد، أو من بلغوه وظهر عليهم السفه في تصرفاتهم، لينفق الأولياء عليهم باقتصاد، حتى يتبين رشدهم، قال _تعالى_: [فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ]النساء: 6.
وإذا كان المسرف في إنفاق ماله ملوماً أو مذموماً فإن الذي يقترض مال غيره لينفقه في الشهوات أحق بالملام أو المذمة، قال الشاعر الحكيم:
إذا رمت أن تستقرض المال من أخ
تعودت منه اليسر في زمن العسر






فسل نفسك الإنفاق من كيس صبرها
عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر






فإن أسعفت كنت الغنيَّ وإن أبت
فكلُّ منوعٍ بعدها واسع العذر


وقد نظر بعض الحكماء إلى ما يجره الدَّين من الذلة والهموم، فكرهه حتى لمن تحدثه نفسه أن يقترض مالاً؛ لينفقه في تثبيت سؤدده فقال:
أخذت الدَّين أدفع عن تلادي
وأخذُ الدَّين أهلك للتلاد




ولا حرج في الدَّين متى دعت إليه حاجة ملحة، وكان المقترض واثقاً بسماحة نفس المقرض مع العزم على قضاء الدين عند حلول أجله.
يُعَيِّرني بالدين قومي وإنما
تدينت في أشياء تُكْسِبُهُمْ حمدا






نحذر من عواقب الإسراف وندعو إلى الاقتصاد، ولا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبة عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة للفقراء والمساكين، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة، كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجئ، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة، والدفاع عن حقوقها.
وليس غنى إلا غنى زين الفتى
عشية يعرى أو غداة ينيل







ورُمي محمد بن عمران بالبخل، فقال: =والله إني لا أجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل +.
ويقولون: =لا تصن كثيراً عن حق، ولا تنفق قليلاً في الباطل+.
وقيل لكريم بذل في وجوه البر مالاً كثيراً: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
لا يضر أولي اليسار أن يقتصدوا في أطعمتهم وملابسهم متى كانوا يبذلون أموالهم فيما تكمل به المروءة، وتدعو إليه حقوق المجتمع، بل يزيدهم ذلك الاقتصاد مكرمة على مكرمة، قال قتيبة بن مسلم: أرسلني أبي إلى ضرار ابن القعقاع، وقال لي: قل له: في قومك دماء وجراح، وقد أحبوا أن تحضر المسجد فيمن يحضر؛ لتقوم بقسطك من الديات، قال: فأتيته وأبلغته، فقال: يا جارية هات الغداء، فجاءت بأرغفة خُشْن، ففتتهن في نقيع من التمر، ثم صبَّ عليهن زيتاً، فأكل، وقال: الحمد لله، حنطة الأهواز، وتمر الفرات، وزيت الشام، ثم انطلق إلى المسجد، فصلى ركعتين، واجتمع من قومه الطالبون للدِّيات والمطلوبون، فأكثروا الكلام، فقال ضرار: إلامَ صار أمركم؟ قالوا: إلى كذا وكذا من الإبل، فقال: هي عليَّ كلها: ثم قام وانصرف إلى منزله.
فلو كان ضرار بن القعقاع من المسرفين في الترف لما تبرع بجميع ما لزم القوم من الديات، ولم يزد على أن تحمل قسطاً ضئيلاً من نحو ما يتحمله المسرفون في الترف وهم كارهون.
نشكو إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، ومن أمثلة هذا الإسراف الممقوت مظاهر الأفراح والمآتم؛ فإنها تقام عندنا على غير حكمة وحسن تقدير، وتأكل من الأموال ما لا يجر إلى صاحبها حمداً، بل شأنه أن يسوق إليه ذماً أو إثماً.
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضار كثيرة، كان واجباً على أولياء الأمور، ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم، ويتحروا في جميع ذلك الطريقة المثلى.
قال ابن الخطيب في مقالته السياسية: =رَعِيَّتُك ودائع الله عندك+ ثم قال: =ورِضْهم على الإنفاق بقدر الحال+.









ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ

12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر



قوة العرب المعطلة( ) للعلامة محب الدين الخطيب( )

ما ذل الشرق وانقطعت صلته بينبوع قوته، ومادة حياته إلا يوم جهل الناطقون بالضاد قدر أنفسهم، ونسوا رسالتهم العُلويةَ التي كانوا بها ملح الأرض؛ فرفعوا يدهم عن دفة السفينة، وتعطلت ألبابهم عن هداية القافلة؛ وهنالك استعجم الإسلام.
ولا تعود إلى الشرق قوتُه وحياته إلا إذا عاد إلى اغتراف إيمانه المحمدي من ينبوعه الأول من بين الصخور التي انفجرت عن معينه، وصفَّق عليها برحيقه السَّلْسل.
ولا يكون ذلك إلا إذا اشتركت في حمل مشعله سواعدُ العرب، وسُمع في حُداء صوت أَبْيِنَاء العرب.
بالإسلام يلم الشرق شعثه، ويستعيد قوته، وتنمو فيه أخلاق الرجولة، ويتأهل لمشاركة الأمم في حمل عبء الحضارة، واحتلال المحل الشريف من صف القيادة.
وإذا دبت في الإسلام روح الحياة، فعاد إلى ما كان عليه من صفاء وبهاء، وصراحة في عصر السعادة وفي أيام التابعين _ فستجد فيه الإنسانية دواءها من أوصابها، وسيتقي به البشر طغيان القوميات الذي يتمخض بمذبحة جهنمية تحترق بها الأرض.
وإذا بقيت منها بقية بعد الحرب المقبلة فستستعد لشر منها.
وإذا أبطأ على الناس شر القوميات وملاحمها فسيكتسحهم وباء الشيوعية الذي يتغلغل في أحشاء الأمم، وتقاومه الأمم بالعصبيات الحقودة الباغية.
وهكذا يستشفي الناس من داء بداء، ما لم يهتدوا إلى الإسلام، ويستشفوا به.
وكيف يهتدون إلى الإسلام والمسلمون واقفون في طريقه يصدون الأمم عنه بمخازيهم، وجرائمهم،وضعفهم، ونفاقهم، وشحهم، وحسدهم، وشحنائهم، وكذبهم على الإسلام بأنهم أهله ودعاته؟!
تجربة جربها آباؤنا مرة يوم باعوا نفوسهم للهداية المحمدية، ووقفوا عليها مداركهم، وأفئدتهم، وسواعدهم، ونقودهم، وأسلحتهم، وسروا على ضوئها إلى مقاصدهم، ورجعوا إلى ميزانها في تقدير الأمور، فنجحت تلك التجربة النجاح كله، وما لبثوا أن رأوا النفوس التي باعوها لله ـ وكانت نفوس رجال من عامة الناس ـ عادت إليهم وهي نفوس ملوك، ورأوا مداركهم التي وقفوها في سبيل الله صارت من أغزر ينابيع الحكمة، وأفئدتهم التي عمروها بالإيمان بالله أهَّلتهم لاقتحام العقبات، واختراق الآفاق، وسواعدهم التي حملوا بها ألوية الإسلام إلى أمم الأرض تقدمت أمم الأرض لمصافحتها ومسالمتها، ونقودهم التي بذلوها لإعلاء كلمة الحق عوضهم الله منها كنوز كسرى وقيصر، وأسلحتهم التي جردوها لنصرة اليقين غدت ملاذ العز، وعنوان الفوز، ونقمة الله على الظالمين.
وبينما كان آباؤنا يجربون افتتاح كنوز السعادة بمفتاح الإيمان المحمدي كان الدهر يجرب مواهبهم، ويقيس طول باعهم، ويسبر غور أخلاقهم إذا انطوت أفئدتهم على ذلك الكنز؛ فوجدهم أمة ضربت الرقم القياسي في الحكمة والحكم، وفي الفراسة والفروسية، وفي الرفق وحسن الارتفاق.
وقف الحكيم الفرنسي غوستاف لوبون يراقب بعض ما استطاع أن يراقبه من تصرفاتهم في أدوار التاريخ، فهتف بملء فيه يقول: =ما عرفت الإنسانيةُ فاتحاً أحكم ولا أعدل من العرب+.
تركوا وراءهم في آفاق الأندلس من بدائع الفن، وآيات العمران، وآثار الحضارة ما يشهد لهم بأنهم أدق الأمم حسَّاً، وألطفهم ذوقاً، وأبعدهم نظراً، وأقلهم غطرسةً ودعوى.
تركوا وراءهم في مكتبة الإنسانية معارف في كل ضرب من ضروب الحكمة والتفكير والعلم عجزت جهالة أعدائهم من التتار والصليبيين والأسبانيين عن تبديدها في مياه دجلة، ونيران طرابلس، والقدس، ومحاكم التفتيش؛ فبقيت من بقاياها أثارة لا تزال مطابع المستشرقين في أوربا، وهمم الشرقيين في الهند وإيران وبلاد الغرب تجدُّ في نشر الألوف منها في أكثر من مائة عام، وكلُّ ما نشر منها لا يساوي قطرةً من بحر علم العرب الذي لا يزال مطوياً في مخطوطات دور الكتب الشرقية والغربية، مما عرفه الناس ومما لم يسمعوا به.
وتركوا وراءهم هداية لو تجرد الغرب من تعصبه الأعمى للكنيسة، وأخذ بهداية الإسلام لشفاه الله من كل أمراضه، ولتمتع بالسعادة التي يبحث عنها في الظلام ولا يجدها.
بل لو تجردنا نحن أحفاد العرب من جهالتنا الكسيحة، ووطَّنا النفوس على العمل بقواعدها، وعملنا على إحياء تكاليفها الاجتماعية التي لا تكون الأمة أمة إلا بها _ لظهرت حقيقة الإسلام في سيرتنا وسريرتنا، وتجلت محاسنه في أعمالنا ومعاملاتنا.
ويومئذ نكون حجة للإسلام لا عليه، ومبشرين به لا منفرين عنه، وقبل أن ينتفع الإسلام بنا ذيوعاً وانتشاراً ننتفع به نحن تقدماً واعتلاءاً.
هنالك تعرف الأمم الإسلام بنا، وتعرفنا بالإسلام، وهنالك تقبل شعوب الأرض على الإيمان به أمة بعد أمة؛ كما يقبل الأفراد الآن على الدخول فيه واحداً بعد واحد.
في أعناقنا _ نحن العرب _ جريمةُ إعراضِ أممِ الأرض عن معرفة هداية الإسلام، وفي أعناقنا _ نحن العرب _ جريمة خذلاننا وضعفنا واستخذائنا لكثير من أمم الأرض، حتى اليهود.
وما دام ناشئ الفتيان منا ينشأ على حب الشهوات، والظنِّ بأن الإسلام دين لا فائدة له في سعادة الدنيا، ويجهل نفسه بأنه من سلالة أمة اختصها الله بالرسالة إلى الإنسانية لو أهلت نفسها لأدائها لتغيرت الأرض بذلك غير الأرض؛ ما دام ناشئ الفتيان منا ينشأ على ذلك_ فبطن الأرض أولى له من ظهرها.
نحن العرب نصلح لأن نكون خير الأمم أو شر الأمم، أما التوسط بين ذاك وهذا فلم يقع في دور من أدوار التاريخ.
نكون في سبات عميق، وفي غفلة تأخذ علينا السبل؛ فإذا استيقظنا قفزنا قفزتنا من سَمْت القدم إلى سمت الرأس، وأصبحنا ملح الأرض، وتاج الإنسانية، وقادة الدنيا، ولكن كيف نستيقظ، ومن الذي يوقظنا؟
كنت في يأس أغالط نفسي فيه لأسعد بالأمل، كنت أعلم أن اليقظة يجب أن تكون في مصر، وأن دعاتها لابد أن يكونوا من مصر، ولكن كلما قيلت كلمة (عرب) فهم القراء في مصر أن المَعْنِيَّ بهذه الكلمة غيرهم، وأن العربي لا يكون إلا أعرابيّاً حافي القدمين، فلما قرأت في أسبوع واحد كلمة الأديب الكبير الأستاذ الشيخ عبد الله عفيفي التي عنوانها (وطن وعشيرة) وقد اقتطفت باقة منها في هذا الجزء من الحديقة، وقرأت فقرات من محاضرة الأستاذ عبد الرحمن عزام عن (وحدة الثقافة الإسلامية)، ورأيت جريدة الاستعمار البريطاني (المورنن بوست) في جزع من أن تعرف مصر أنها عربية، فتهب لإيقاظ العرب_ تَحوَّل حينئذ يأسي الذي كنت أغالط نفسي فيه إلى أمل كنت أعلل نفسي به، ولكن الغطيط أعظم من أن يؤثر فيه قلم كاتب واحد، ونبرات صوت خطيب واحد.
ولابد من إفراغ هذا الإيمان في قلوب رجال آخرين من أهل الاستعداد للخير، ممن لم تكن لهم سابقة في الإلحاد، والتفرنج، وحب الشهوات، فعن هؤلاء يجب أن نبحث، وفي قلوب هؤلاء يجب أن نبث هذا الإيمان، ثم يهتف المؤذنون بصوت واحد بحي على الفلاح حتى يستيقظ الناطقون بالضاد جميعاً ويعرفوا طريقهم، ويهبوا لأداء رسالتهم في العالمين.


معركة الحياة كيف نفوز فيها؟( ) لأحمد أمين

أهم نقطة يتركز عليها النجاح الإرادة القوية، التي يصحبها التنفيذ السريع، وانتهاز الفرص؛ أَلمْ يقولوا =إنَّ الحَرْبَ جِهَادٌ +وبعبارة أخرى =الحَيَاةُ حَرْبٌ +!؟
وخير محارب من هاجم ولم يقتصر على الدفاع، وعَمِل ولم يقتصر على الحذر، ومتى سنحت له فرصة أقدم فانتهزها، ولم يتوان لحظة حتى لا يُضَيِّعَها.
ثم هو يسدد الرمي، ويحكم إصابة المرمى، ولا بَأْسَ من الفشل؛ فإنما يفشل؛ لينجح.
إذا أنت أكثرت من التردد، وبالغت في الحذر، ولم تقدم على عمل حتى تثق من نجاحه مائة في المائة فقد تصلح أن تكون أديباً حالماً، أو فيلسوفاً في الخيال سابحاً، ولكن لا تصلح أن تكون رَبَّ عملٍ ناجحاً.
فليس يكسب المعركةَ القائدُ الجبانُ، ولا القائدُ الحذرُ، ولا القائدُ الذي لا يريد أن يضحي بشيء من جنوده.
وإنما يكسبها من يفكر حسب طاقته، ولا يطيل التفكير أكثر مما يلزم، ثم يضرب الضربة في حينها، وهو يغلب النجاح وإن كان لا يتأكده، فإن فشل بعد ذلك فقد أدى واجبه.
إن الأخلاق الحديثة تفضل =فعل الأمر+على =فعل النهي+=فاصدق+خير من =لا تكذب+و =اعدل+خير من =لا تظلم+.
والأمر بعمل الفضيلة خير من النهي عن الرذيلة؛ لأَنَّ في الأولى عملاً ووجوداً وحياة، وفي الثانية تركاً وعدماً وموتاً.
كل شيء في الحياة يجاهد، الجسم يجاهد المكروبات حوله وفيه، والصحة لا تعتمد على الوقاية وحدها، وإنما خير من الوقاية =الحيوية+ بالرياضة والعمل والحركة والنشاط وما إلى ذلك.
وإنما يعتمد على الوقاية، والسكون، وقلة الحركة والسير الدقيق على طرق العلاج _ المرضى في أَسِرَّتِهم، والمرضى في المستشفيات، أَمَّا الأَصِحَاء فيعتمدون قليلاً على الوقاية، وكثيراً على الحيوية والعمل.
والعقل يجاهد الأفكار السقيمة، والخيالات السامة، وخير وسيلة للتغلب عليها حيويته، ونشاطه، وتفكيره المنتج، لا خنوعه واستسلامه.
وهكذا كل شيء في الحياة جهاد، والجهاد الصحيح يعتمد على الإرادة الصحيحة، والتجارب الدائمة، والعمل المستمر.
إن العالم مملوء بالحيوية، وهو في حركة دائمة، ونشاط مستمر، وقُوىً متفاعلة أبداً، من كهرباء وقوى ذرية، وحرارة وبرودة، ورياح وعواصف، ونحو ذلك.
فالذي ينجح في هذا العالمِ المتحركِ النشيطِ إنما هو مَن انسجم معه بالعمل والقوة والحيوية، ولذلك كان السكون التام موتاً.
وبجانب هذه القوى المادية في الحياة قُوى معنوية هي الأخرى في حركة مستمرة وجهاد دائم، كالنظام وعدمه، والجهل والعلم، والرأي العام وقوته وضعفه، والعدل والظلم، واختلاف رغبات الناس في التزاحم على كسب الخير لأنفسهم.
ولابُدَّ للنجاح في الحياة من تحديد موقف الإنسان أمام هذه القوى المادية والقوى المعنوية، فأَمام القوى المادية لابُدَّ أنْ يعرف كيف يستخدمها في مصلحته، ويسايرها ولا يعاكسها، فالكهرباء قد تصعقه إذا هو لم يعرف استخدامها، ولكنه يستطيع أنْ يَسْتَنِير بها ويَسْتَدْفِئ بها، ويُسيِّر القطارات بها إذا هو أحسن استخدامها، وكذلك كل قوة من القوى الطبيعية.
وفي القوى المعنوية يجب أن يحدد موقفه أمام التيارات المختلفة للنظم الاجتماعية، فينغمس فيها، ويكون هو نفسه قوة معها، يُصْلِحها ما استطاع، ويستخدمها في خيره وخير الناس ما استطاع.
وكلما كان الإنسان أقوى جسماً وعقلاً وخُلُقَاً كان أقدر على الانتفاع بالقوى المادية والروحية؛ فالإنسان استطاع أن يلجم الفرس ويركبه ويوجهه في خدمته؛ لأنه أكبر منه نفساً وعقلاً؛ فكذلك هو يستطيع وسط الظروف الاجتماعية المتضاربة، أن يصرفها ويستغلها للخير الخاص والخير العام، فإذا خمل أو كسل أو أفلت زمام الأمور من يده لم يستطع نجاحاً، وساقته الظروف أكثر ما يسوقها هو.
فالإنسان إنما ينجح بتقوية ملكاته الداخلية، وعلمه بالقوى الطبيعية والاجتماعية التي حوله، ثم بانسجامه معها، ومعرفته كيف يستخدمها.
وإن شئت فاستعرض كل من نجح في الحياة نجاحاً حقيقياً تَجِدْ نجاحه بمقدار تطبيقه هذه القاعدة، ولو لم يحسن التعبير عنها.
ثم شأن الأمم والحكومات شأن الأفراد؛ فلكل أمة قواها الطبيعية التي حولها، وقواها المعنوية التي تحيط بها.
فالأمة الفاشلة هي التي تكون في أرضها معادن لا تعرف كيف تستغلها، وقوى مائية لا تعرف أن تنتفع بها، وأراض زراعية لا تعرف كيف تستخرج منها أغزر ما تنتج وهكذا، ثم حولها ظروف اجتماعية ترتبك في توجيهها، وتحار في التصرف فيها، ليس لها إرادة قوية في التنفيذ، ولا رغبة صادقة في الإصلاح، تسيرها القوى الطبيعية كالريشة في الهواء، وتسيرها القوى الاجتماعية حيثما اتفق، ليست هي إنساناً يمسك بزمام فرسه، ولكنها فرس ملجمة تقاد.
أَمَّا الأمة الناجحة فكالرجل الناجح يدرس قوى الطبيعة، ويعرف أنها لا تتغير ولا تتبدل، ولكنه كالمَلاَّح الماهر يعرف متى ينشر شراعه ومتى يطويه، وكيف يسير سفينته وإلى أي اتجاه، يعرف أنه لا قدرة له على تغيير الرياح، ولكن له قدرة على استخدامها في مصلحة سفينته.
كذلك هذا شأن الأمة الناجحة مع القوى الاجتماعية؛ ترى الفوضى فتنظمها، وترى الرأي العام ضعيفاً فتقويه، وترى الأضرار من بطء الآلة الحكومية فتجددها، وترى ظلماً هنا وظلماً هناك فتمحوه بالعدل، ولا تكتفي بالوقاية وعلاج الأمراض، بل تبعث في الأمة الحيوية والنشاط، وهكذا قانون الفرد، وقانون الأمة في النجاح والفشل واحد.
فكِّر، واعمل، وابتكر، وجاهد، وغامر، وانتهز الفرصة تنجحْ، وإلا فالموت أو شبهه.


النبوغ ( ) للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي

من العجز أن يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزناً، وأن ينظر إلى من فوقه من الناس نظر الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق، وعندي أن من يخطئ في تقدير قيمته مستعلياً خير ممن يخطئ في تقديرها متدلياً؛ فإن الرجل إذا صغرت نفسه في عين نفسه يأبى لها من أعماله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده؛ فتراه صغيراً في علمه، صغيراً في أدبه، صغيراً في مروءته وهمته، صغيراً في ميوله وأهوائه، صغيراً في جميع شؤونه وأعماله؛ فإن عظمت نفسه عظم بجانبها كل ما كان صغيراً في جانب النفس الصغيرة.
ولقد سأل أحدُ الأئمة العظماء ولدَه _ وكان نجيباً _: أيُّ غاية تطلب في حياتك يا بني؟ وأي رجل من عظماء الرجال تحب أن تكون ؟
فأجابه: أحب أن أكون مثلك، فقال: ويحك يا بني لقد صغَّرت نفسك، وسقطت همتك؛ فلتبك على عقلك البواكي، لقد قدّرت لنفسي يا بني في مبدأ نشأتي أن أكون كعلي بن أبي طالب؛ فما زلت أجدُّ، وأكدح حتى بلغتُ تلك المنزلة التي تراها، وبيني وبين علي ما تعلم، من الشأو البعيد والمدى الشاسع؛ فهل يسرك، وقد طلبت منزلتي أن يكون ما بينك وبيني من المدى مثل ما بيني وبين عليّ ؟
كثيراً ما يخطئ الناس في التفريق بين التواضع وصغر النفس، وبين الكبر وعلو الهمة، فيحسبون المتذلل المتملق الدنيء متواضعاً، ويسمون الرجل إذا رفع بنفسه عن الدنايا، وعرف حقيقة منزلته من المجتمع الإنساني متكبراً.
وما التواضع إلا الأدب، ولا الكبر إلا سوء الأدب؛ فالرجل الذي يلقاك متبسماً متهللاً، ويقبل عليك بوجهه، ويصغي إليك إذا حدثته ويزورك مهنئاً ومعزياً_ ليس صغير النفس كما يظنون، بل هو عظيمها؛ لأنه وجد التواضع أليق بعظمة نفسه؛ فتواضع، والأدبَ أرفعَ لشأنه؛ فتأدب.
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة
ولكنَّ كبراً أن يقال به كبر



فإذا بلغ الذل بالرجل ذي الفضل أن ينكس رأسه للكبراء، ويتهافت على أيديهم وأقدامهم لثماً وتقبيلاً، و يتبذل بمخالطة السوقة والغوغاء بلا ضرورة ولا سبب، ويكثر من شتم نفسه، وتحقيرها، ورميها بالجهل والغباوة، ويبصبص برأسه، وهو سائر في طريقة بصبصة الكلب بذنبه، ويجلس في مدارج الطرق، وعلى أفواه الدروب جلسة البائس المسكين_ فاعلم أنه صغير النفس، ساقط الهمة، لا متواضع، ولا متأدب.
إن علو الهمة إذا لم يخالطه كبر يزري به، ويدعو صاحبه إلى التنطع وسوء العشرة _ كان أحسنَ ذريعة يتذرع بها الإنسان إلى النبوغ في هذه الحياة، وليس في الناس من هو أحوج إلى علو الهمة من طالب العلم؛ لأن حاجة الأمة إلى نبوغه أكثر من حاجتها إلى نبوغ سواه من الصانعين والمحترفين، وهل الصانعون والمحترفون إلا حسنة من حسناته، وأثر من آثاره؟
بل هو البحر الزاخر الذي تستقي منه الجداول والغدران.
فيا طالب العلم كن عالي الهمة، ولا يكن نظرك في تاريخ عظماء الرجال نظراً يبعث في قلبك الرهبة والهيبة؛ فتتضاءل وتتصاغر كما يفعل الجبان المستطار حينما يسمع قصة من قصص الحروب، أو خرافة من خرافات الجان، وحذار أن يملك اليأس عليك قوتك وشجاعتك؛ فتستسلم استسلام العاجز الضعيف، وتقول: من لي بِسُلَّم أصعد فيها إلى السماء حتى أصل إلى قبة الفلك؛ فأجالس فيها عظماء الرجال؟
يا طالب العلم، أنت لا تحتاج في بلوغك الغاية التي بلغها النابغون من قبلك إلى خلق غير خلقك، وجو غير جوك، وسماء وأرض غير سمائك وأرضك، وعقل وأداة غير عقلك وأداتك.
ولكنك في حاجة إلى نفس عالية كنفوسهم، وهمة عالية كهممهم، وأمل أوسع من رقعة الأرض، وأرحب من صدر الحليم، ولا يقعدن بك عن ذلك ما يهمس به حاسدوك في خلواتهم من وصفك بالوقاحة أو بالسماجة؛ فنعم الخلق هي إن كانت السبيل إلى بلوغ الغاية؛ فامض على وجهك، ودعهم في غيهم يعمهون.
جناحان عظيمان يطير بهما المتعلم إلى سماء المجد والشرف: علو الهمة والفهم في العلم، أما علو الهمة فقد عرفته، وأما الفهم في العلم، فإليك الكلمة الآتية:
العلم علمان: علم محفوظ وعلم مفهوم، أما العلم المحفوظ؛ فيستوي صاحبه فيه مع الكتاب المرقوم، ولا فرق بين أن تسمع من الحافظ كلمة، أو تقرأ في الكتاب صفحة؛ فإن أشكل عليك شيء مما تسمع، فانظر إن نطق الكتاب بشرح مشكلاته، نطق الحافظ بتفسير كلماته.
الحافظ يحفظ ما يسمع؛ لأنه قوي الذاكرة، وقوة الذاكرة قدر مشترك بين الذكي والغبي والنابه والخامل؛ لأنَّ الحفظ ملكة مستقلة بنفسها عن بقية الملكات: وإنك لترى الشيخ الفاني الذي لا يميز بين الطفولة والهرم، والذي يبكي على الحلوى بكاء الطفل عليها، ويرتعد فرقاً حينما يسمع ابنته تخيف طفلها بأسماء الجن والشياطين، ويسرد ذلك من تواريخ شبيبته وكهولته ما لو دوَّنته لكان تاريخاً صحيحاً ضخماً مملوءاً بالغرائب والنوادر؛ وقيل لأحد العلماء: إن فلاناً حفظ متن البخاري، فقال: لقد زادت نسخة في البلد !( )
ذلك هو السر العظيم في كثرة المتعلمين وقلة العاملين؛ لأن من فهم معلوماً من المعلومات حق الفهم أُشْرِبَتْه روحه، وخالط لحمه ودمه، ووصل من قلبه إلى سويدائه، وكان إحدى غرائزه، فلا يرى له بدَّاً من العمل به رضي أم أبى.
لولا أن العلم الديني قد أصبح اليوم علماً محفوظاً لما وجدت في العلماء من يجمع بين اعتقاد الوحدانية وبين التردد على أبواب الأحياء والأموات في مزاراتهم وفي مقابرهم يسألهم المعونة والمساعدة على قضاء الله وقدره، ولا وجدت بين الذين يحفظون قوله _تعالى_[قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ]الأعراف: 188.
مَنْ يُسْنِد النفع والضر إلى كل من سال لعابه، وتمزق إهابه، ولا وجدت في الناس كثيراً من ضعفاء العزيمة الذين يحفظون ما ورد على ألسنة الأنبياء والحكماء من مدح الفضائل وذم الرذائل، ثم لا تجد فرقاً بينهم وبين العامة في ارتكاب المنكرات والنفور من الصالحات.
لو كان العلم المحفوظ علماً _ وهو على ما نشاهد ونعلم من سوء الأثر وقلة الجدوى _ ما مدح العلم في كتاب ولا سنة، ولا قدَّسه كاتب، أو ترنم بمدحه شاعر، فإذا سمعت ذكر العلم فاعلم أنه العلم المفهوم لا المحفوظ، وآية فهم المعلوم تأثر العالم به، وظهوره في حركاته وسكناته، وترقرقه في شمائله، ولا تثق بالحافظ فيما ينقل إليك، فربما مرَّ بالمعلوم مُحَرَّفاً فأخذه على علاته.
وأقبح ما عرفنا من أطواره أنه يجمع في حافظته بين النقيض ونقيضه، والغث والسمين، والجيِّد والزائف، فكأن ذاكرته حانوت عطَّار اختلطت فيها الأدوية الشافية، بالعقاقير السامة.
وجملة الأمر أن الحافظ البحت لا رأي له في مبحث فيسأل عن مذهب، ولا أثر لمعلوماته في نفسه فيقتدى به، ولا ذوق له في الفهم فيعتمد على شرحه وتأويله.
أما العلم المفهوم فهو الواسطة التي إذا جمع المتعلم بينها وبين علو الهمة طار إلى المجد بجناحين، وكان له سبيل مختصر إلى منزلة العظماء ودرجة النابغين.
والعلم سلسلة طويلة طرفاها في يدي آدم أبي البشر وإسرافيل صاحب الصور( )، ومسائله حلقات يصنع كل نابغة من النوابغ في كل عصر من العصور واحدة منها، ولن يبلغ المتعلم درجة النبوغ إلا إذا وضع في العلم الذي مارسه مسألة، أو كشف حقيقة، أو أصلح هفوة، أو اخترع طريقة، ولن يسلس له ذلك إلا إذا كان علمه مفهوماً لا محفوظاً، ولا يكون مفهوماً إلا إذا أخلص المتعلم إليه، ولم ينظر إليه نظر التاجر لسلعته، والمحترف لحرفته؛ فالتاجر يجمع من السلع ما يتفق سوقه، لا ما يغلو جوهره، والمحترف لا يهمه من حرفته إلا لقمة الخبز وجرعة الماء، أحسن أم أساء.
لا يزور العلم قلباً مشغولاً بترقب المناصب، وحساب الرواتب، وسَوْقِ الآمال وراء الأموال، كما لا يزور قلباً مقسماً بين تصفيف الطُّرَّة، وصقل الغرَّة، وحسن القوام، وجمال الهندام، وطول الهيام بالكأسين: كأس المدام، وكأس الغرام.


يوم البعث( ) للأستاذ محمود بن محمد شاكر( )

إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل، ولا تنثني، ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تُشْعِرُ العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حياً يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه، ويتمنى أحدنا يومئذٍ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجاً ونزاعاً، عسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة.
وهذا العارض إذا ألمَّ جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفاً بطيئاً مرهقاً كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسداً لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟.
الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أنحائه حركة الروح العاملة _ فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان.
وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَك( )، وأشواك، وحطب، وكل ما لا نفع فيه إلا أذى وبلاءً عليه وعلى الناس.
وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل من الأمم؛ فإن الفرد هو خلاصة الجماعة، وأصل الجماعة؛ فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه.
وعندئذٍ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة مدوية مجلجلة، ترمي في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة، والأماني الباطلة المكذوبة.
وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون؛ ليوقظوا الأحياء الذين ضُرب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزاً وذلاً ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش.
أما اليوم الذي نحن فيه فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله؛ فهل يحق لنا أن نؤمل أنَّ هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يَلُمُّ ما تشعث من حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقباض على أوثان المظالم القديمة التي نُصبت، فَعَبَدها من عَبَدَ ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا _على أوهامهم _ إلا فُتاتاً من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟.
إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤلاً واحداً يكون جوابه عملاً صارماً نافذاً لا يرعوي دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقاً لا يبطل.
من أنا ؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه _ فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة.
شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق _ فإن السؤال سوف ينزع به وينبُثُ( ) عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصا المسنون، ويرجع مجرَّحاً تدمي جروحه، يتألم، ويتوجع، ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه.
فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها، ويكفها عن الشك والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشايخ؛ فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة.
والأمر كله الآن بيد الشعب أفراداً أفراداً، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يَكِلُ كلَّ أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية.
فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية، فيجلي لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة، وجراثيم التفاني والانقراض.
ليس لشرقيٍّ ولا عربيٍّ بعد اليوم أن يقف مستكيناً يقول لحكومته: افعلي من أجلي يا حكومتي العزيزة! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأتِ فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منَّا همه سامياً إلى غاية، وأمله معقوداً بغرض، ويبيت ليله ونهاره يَتَدَارس في نفسه، وفي أهله، وفي عشيرته، وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد _ حقيقة ما يجب أن يتعرَّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟؟
والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟.
فالعالم، والأديب، والشاعر، والفيلسوف، والعامل، والصانع، وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم، ونوازعهم _ يجب أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدأون، وأنهم دائماً في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد.
أما قيام الدعوة على البحث عن طريق الإصلاح، وأساليب الإصلاح، وتحقيق ذلك بالطرق العلمية...إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدي على الأمة شيئاً إلاَّ ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد، وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها.
إن الأمم لا يُصلحها مشروع، ولا أسلوب من الحكم، ولا باب من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلاً _ بما فيه من الحركة النفسية _ على أن الحياة التي يعيشها هي إثبات لوجوده، ولا يثبت الوجود للحي إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلاَّ أن تكون كل أفكاره متنبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟
فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم، وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور، والجهل، والغباء، والبلادة، وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه، وأجوده، وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل من أنا؟
فتجديد الحياة في الشرق حقيقة لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض.
وأما إذا انطلقنا مع أحلام النوم، وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مسوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت..أي البلادة ! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدماً في حاجاته ومرافقه.
إنَّ من الهراء أن تأتي مجلس قوم من المهندسين قد اختلفوا في الأرض، كـ: هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحوَّلوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته... مما يصلح عليه البناء؛ فإن هؤلاء إذا بدأوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة فاعلم أنه لا فلاح لهم.
وإنما الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتاً يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر.
فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف، والمنابذة، وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضاً وتبايناً وافتراقاً، وأن يصغي إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغماً روحياً فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل.
وعندئذٍ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياةُ الحياةَ إلى الغاية التي يرمي إليها الشرق بأبصاره من تاريخه، ومن وراء التاريخ.
إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ _ وسنبدأ بإذن الله _ فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا أن نضع الأسس العلمية، أو السياسية، أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها، وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟
إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صُوْرٍ جديد يكون صوته فزعاً جديداً مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحاً بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المستعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن.
يومئذٍ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا ؟ عملاً صامتاً لا يتكلم؛ لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة، والجهل، والخمول.










رابعاً: مقالات في الشباب

16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
17_ الشباب المحمدي: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين



التربية الدينية والشباب( ) للشيخ محمد الخضر حسين

سادتي: نقلب النظر في الأيام الخالية، فنقف على وقائع تحدث عنها التاريخ بإعجاب، ذلك أنها كانت مظهر قوة الفكر، ومتانة العزم.
ومن هذه الوقائع ما رفع أمة من خمول إلى نباهة، أو نقلها من استعباد إلى سيادة، فإذا تجاوزنا الوقائع إلى الأيدي التي هزتها وأطلقتها من عقالها وجدناها أيدي الشباب الذين يشعرون فيعزمون، ويبصرون الخطر فلا يحجمون.
فذلك أبو مسلم الخراساني نهض بالدعوة العباسية، وزلزل عرش الدولة الأموية، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وتولَّى محمد بن القاسم الثقفي قيادة جيش قاتل قبائل ثائرة، فأطفأ ثورتها وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال فيه الشاعر:
لمحمد بن القاسم بن محمد


إن السماحة والمروءة والندى















يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة




وقد نبَّه رسول الله " على أن الولايات منوطة بالكفاية، وأن الكفاية للعظائم قد تتحقق في الشباب، فولَّى أسامة بن زيد جيشاً تخفق رايته على أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ولم يتجاوز أسامة يومئذٍ الثامنة عشرة من عمره.
ففي الشباب نفوس قريبة من الخير، وهمم لا ترضى من المجد إلا باللباب؛ فإذا توجه الشباب إلى غايات خطيرة، وساروا في طرق قويمة فما للأمة إلاَّ أن ترفع رأسَها عِزّة، وما لخصومها إلاَّ أن يتقوا بأسها، ويجنحوا لسلمها.
ومن أين لنا أن يتوجه شبابنا إلى السيادة لا يبغي بها بدلاً ؟ وإذا توجهوا إليها فمن أين لنا أن يسيروا إليها في أقوم الطرق وآمنها؟
وذلك ما يجب علينا أن نفكر فيه بجد، ونبذل في سبيله كل جهد.
نعم؛ ذهبنا بالفكر في كل مذهب، ورجعنا إلى التاريخ والتجارب، فلم ندع بعيداً إلاَّ دَنَوْنَا منه، ولا شافياً إلاَّ كشفنا غطاءه، فلم نر لشبابنا سيرة تجعلهم خير شباب أُخْرِجَ للناس إلاَّ أن نراهم يستنيرون بهدى الله، ويتنافسون في التجمل بآداب شريعته الغراء:
بِأوامرٍ مِنْ رَبِّه ونَوَاهي
أَدَبُ الفتى في أَنْ يُرى مُتمسكاً

إن الدين ليهدي للتي هي أقوم؛ يطبع النفوس على الأخلاق السمحة الكريمة، ويضع أمامها موازين تستبين به الرشد من الغي، ويريها كيف تحيا الحياة الزاهرة المطمئنة.
فإذا تلقن شبابنا حقائق الدين نَقِيَّةً من كل بدعة، وابتهجت نفوسهم بحكمته ابتهاج البلد الطيب بالغيث النافع _ فقد أعددنا للخوض في غمار الحياة رجالاً لا يكتفون بالخطب تلقى على المنابر، ولا بالمقالات تحرر على المكاتب، بل يعلمون فيقولون، ويقولون فيفعلون.
مَذْقُ اللسان يَقولُ ما لا يفعل





وأراكَ تفعلُ ما تَقولُ، وبعضهم



















إِنَّ الإيمان ليملأ القلوب إجلالاً للواحد الخلاّق، ومَنْ أجلَّ مقام خالقه صغر في عينه كل جَبَّار مخلوق، ومن الأمراض التي تأكل من كرامة الأمم أكلاً ذريعاً، وترمي بالمهانة في أوطانها أنْ تُرْهِبَ سطوة المخلوق رهبة تمنعها من أن تقول في صدق، أو تعمل في حكمة.
فحقيق بشبابنا أنْ يكون الإيمان الصادق رائدهم؛ فإنَّا لا نرى من ضعيف الإيمان عملاً إلاَّ أنْ يكون مخلوطاً برياء؛ ولا نرى له من سيرة إلاَّ أنْ تنحرف إلى الشمال مرة، وتتأخر إلى الخلف مرة أخرى.
وقعَ الطيشُ في صدورِ الصعادِ


وإذا كان في الأنابيبِ حيفٌ



















وإذا قيل: إن الذمم تباع وتشترى فإن ذمم المؤمنين الصادقين لا يملك ثمنها إلا رب العالمين.
كنَّا رأينا من بعض شبابنا انحرافاً عن الرشد، فخشينا أنْ تسري عدوى هذا الانحراف إلى سائر الشباب، فتصبح مصر _ وهي زعيمة الأقطار الشرقية _ مبعث الجحود والإباحية، ولكنَّا لم نلبث أن رأينا شباباً في المدارس العالية يحرصون على تلقي دروس علوم الدين، ويتبينون أحكامه وآدابه، ويتصلون بالجمعيات الإسلامية، بل أقول إن للشباب الفضل في إنشاء هذه الجمعيات، أو المؤازرة على نهوضها.
والواقع أنَّ ما قام به بعض العاملين من دعوة الشباب إلى الدين قد أتى بثمر على قدر الجهاد الذي بذل في هذا السبيل.
فمتى اتسعت دائرة هذا الجهاد، وكثر العاملون في صفوفه من رجال العلم، ووجه أولو الشأن عنايتهم للتربية الدينية أكثر مما وجهوا، متى تحقق هذا الأمل _ولا أراه إلاَّ متحققا_ أدركنا كل ما نبتغي من شرف وقوة، وفزنا بحياة آمنة المسالك، محمودة العواقب، ذلك وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.


الشباب المحمدي( ) للشيخ محمد البشير الإبراهيمي( )

الشباب في كل أمّة هم الدم الجديد الضامن لحياتها واستمرار وجودها، وهم الامتداد الصحيح لتاريخها، وهم الورثة الحافظون لمآثرها، وهم المصحّحون لأغلاطها وأوضاعها المنحرفة، وهم الحاملون لخصائصها إلى من بعدهم من الأجيال.
كنا شباباً فلما شِبْنا تلفَّتنا إلى الماضي حنينًا إلى الشبيبة، فرأينا أن الشباب هو الحياة التي لا يُدْرِك قيمتها إلاَّ من فارقها، ورأينا أخطاء الشباب من حيث لا يمكن تداركها وسيصبح شباب اليوم شيوخ الغد، فيشعرون بما نشعر به نحن اليوم.
وليت شعري إذا كان شيوخ اليوم هم شباب الأمس، وشبابُ اليوم هم شيوخ الغد فعلام هذه الشكوى المترددة بين الفريقين؟ وهذا التلاوم المتبادل بين ******ين؟ يشكو الشيوخ نزق الشباب وعقوقهم ونزواتهم الكافرة، ويشكو الشباب بطء الشيوخ، وترددهم، وتراجعهم إلى الوراء، ونظرتهم إلى الحياة نظرةَ الارتياب.
مَهْلاً أيُّها المتقاربان المتباعدان، فليس التفاوت بينكما كسبيًا يعالج، وليس النزاع بينكما علميًا يحكم فيه الدليل، ولكنَّه سنّة وتطوّر.
كنَّا حيث أنتم، وستصبحون حيث نحن بلا لوم ولا عتاب؛ هما مرحلتان في الحياة، ثم لا ثالثة لهما طويناهما كرهاً، وستطوونهما كرهاً، والحياة قصيرة وهي أقصر من أن نُقَطِّعها في لوم، أو نقطعها بنوم.
ليحرص الشباب على أن يكونوا كمالاً في أمّتهم لا نقصًا، وأن يكونوا زيناً لها لا شينًا، وأن يضيفوا إلى تليد مكارمها طريفًا، وإلى قديم محاسنها جديداً، وأن يمحوا كل سيئة لسلفهم بحسنة.
والشباب المحمّدي أحقّ شباب الأمم بالسبق إلى الحياة، والأخذ بأسباب القوة؛ لأنَّ لهم من دينهم حافزاً إلى ذلك، ولهم في دينهم على كل مكرمة دليل، ولهم في تاريخهم على كل دعوى في الفخار شاهد.
أُعيذ الشباب المحمدي أَنْ يُشْغِل وقته في تعداد ما اقترفه آباؤه من سيئات، أو في الافتخار بما عملوه من حسنات، بل يبني فوق ما بنى المحسنون، وليتق عثرات المسيئين.
وأُعيذه أن ينام في الزمان اليقظان، أو يهزل والدهر جادّ، أو يرضى بالدون من منازل الحياة.
يا شباب الإسلام، وصيتي إليكم أَنْ تتصلوا بالله تديُّناً، وبنبيّكم اتِّباعاً، وبالإسلام عملاً، وبتاريخ أجدادكم اطِّلاعاً، وبآداب دينكم تخلُّقاً، وبآداب لغتكم استعمالاً، وبإخوانكم في الإسلام وِلداتكم( )في الشبيبة اعتناءاً، واهتمامًا، فإن فعلتم حزتم من الحياة الحظ الجليل، ومن ثواب الله الأجر الجزيل، وفاءت عليكم الدنيا بظلها الظليل.



حديث إلى الشباب( ) للأستاذ الأديب أحمد أمين

تفضلت (مجلة الهلال) فطلبت إليَّ أن أتحدث هذا الشهر إلى (الشباب) فرحبت بهذا الطلب، لأن الحديث مع الشباب وعن الشباب وإلى الشباب، حبيب إلى النفس قريب إلى القلب، وكيف لا يكون كذلك وهم _ كما قال أبوالعتاهية _ رائحة الجنة، وأيامهم خير أيام الحياة، وهي أكبر مظاهر القوة، وأكبر مظاهر الإنسانية، وهي في الأيام كالربيع في الزمان، تغنى بها الشعراء يوم كانوا ينعمون بها، وبكوا عليها يوم حرموا منها؛ فالشباب كان شغلَهم الشاغلَ إذا وجد وإذا فقد، وما أكثروا من القول في الحزن على الشيب إلا لأنهم أعظموا الشباب.
ثم أين حكمة الشيوخ من قوة الشباب؛ فلطالما كانت الحكمة معوقة عن العمل، بما ملئت من حذر، ومن دعوى بعد النظر، بل وما الحكمة التي زعموها إلا وليدة الشباب وبفضل الشباب، فلولا حركة الشباب الدائمة وإقدامهم في شجاعة على الخطأ والصواب ما كانت حكمة ولا تجارب، ولا مران، ولا شيء مما يدعي المحنكون.
والحق أن لا شيء في الشيوخ يعوض ما للشبان من لمعان في عيونهم، وقوة في عضلهم، ويقظة في عقلهم، ويقين في قلبهم، ليسوا بالأطفال يصعدون، ولا بالشيوخ ينحدرون، وإنما هم في الذروة التي ليس بعدها غاية، هم حَجَرُ الزاوية، وواسطة العقد في الأمة.
طريق المستقبل:
في سن الشباب =ينعقد+ الإنسان، ويتحدد قالبه، ويرسم خطة نجاحه وفشله، وليس له بعد الشباب إلا تنفيذ ما رسم، واستقبال ما قُضِي وقدر.
وعلى الجملة فحياته بعد شبابه هي حركة =القصور الذاتي+ واستمرار في دفعة الشباب.
وإذا كُتب لكل إنسان تاريخٌ فكتب الناس متشابهة في أن أهم فصولها فصول شبابه وليس بعد فصل =الشباب+ إلا فصل =النتيجة+ وهل بعد صب العجين في القالب إلا التصلب، أو هل بعد استكمال المقدمات إلا النتائج، أو بعد انتهاء الفصول إلا الخاتمة، أو بعد انتهاء المهندس من رسم البناء والموافقة عليه إلا التنفيذ.
ولكن _ وا أسفاه _ يخطئ كثير من الشباب فيصب نفسه في قالب غير القالب الذي يناسبه، أو يؤلف كتاب تاريخه على غير ما خلق له، أو يرسم هندسة بنائه ومساحة نفسه التي يقيم عليها البناء لا قوائم شكل البناء فيخرج معيباً مشوهاً؛ فكثير من رجال الأعمال أضاعوا شبابهم في دراسة نظرية بحتة، وكثير ممن حسن استعدادهم للفلسفة والنظريات البحتة أضاعوا شبابهم في عمل يدوي، ففقدت الأمة نبوغَ هؤلاء وهؤلاء جميعاً، وكنا كأننا في مصنع يكنس أرضه المهندس، ويهندس آلاته الكناس، ويقوم بكل عمل فيه مَنْ لا يحسنه.
وهذا أكبر سبب في ضياع الشبان، وفساد الأعمال.
فنقطة البدء في حياة الشباب يجب أن تكون هي دراسة نفسه، وتعرُّفُه موضع نبوغه، ومواضع ضعفه، واختيار العمل الذي يعمله، ونوع الدراسة التي تناسبه، وتحديد الغاية التي ينشدها.
وليس يستطيع أي عالم، أو مرشد، أو ولي أمر أن يستكشف موضع النبوغ في الشاب كما يستطيع الشاب نفسه؛ فنفسه بين جنبيه هو أقدر على أن يقيسها ويقيس اتجاهاتها، وهو لو دقق النظر، وأخلص النية في تَعرُّف جوانبها ولم تغره المطامع الخادعة، والمظاهر الكاذبة_ لعرف سرَّ نفسه، وموضع عظمته.
صعوبات الشباب:
وليست هذه هي الصعوبة الوحيدة للشباب، فهناك صعوبات عدة تعرضهم وتحاربهم، وتدفعهم إلى الشر، وتصدهم عن الخير.
من أهم هذه الصعوبات =الوراثة والبيئة+ فهناك كثير من الشباب ورثوا الميل إلى الإجرام، والميل إلى الخمر، والميل إلى النساء ونحو ذلك عن آبائهم، وظلت هذه الجذور الموروثة كامنةً فيهم مدةَ صباهم حتى إذا دخلوا في دور الشباب تحركت هذه الميول بقوة وشدة؛ فظهرت فيهم مرعبة مزعجة.
كما أن كثيراً من الظروف السيئة تحيط بالشاب الطيب، فتلتهم ميوله الطيبة، وتهدم آماله وطموحه، وتستأصل شعوره بالشرف والنبل، وتجعل على عقله غشاوة؛ فلا يستطيع التفكير، وتجعل كل طموحه، وكل أمله، وكل تفكيره في شهوات وضيعة، وكل يوم تقوم لنا البراهين العدة على هذا.
فمن هذه الظروف =الصداقة السيئة+ فقد يكون الشاب طاهراً نقياً، فما هو إلا أن يصاب بصديق يفتح له حديث الشر، ويحيي فيه كوامن شهواته، ويقص عليه مغامراته ومغامرات أمثاله في النساء وفي الشراب، ويستدرجه من سيجارة يدخنها، إلى كأس يشربها، إلى ما هو أسوأ من ذلك، فإذا رأسه مشتعل بالشر، وإذا هو يطلِّق كل ما اعتنقه من مبادئ الخير، وإذا هو لا يصلح لجدٍّ ولا لدراسة وإذ هو لا يصلح إلا لضروب الشر.
ومثل هذه الصداقة، صداقة الكتب والمجلات والجرائد التي من هذا النوع، فهناك أنواع من الأدب مضلةٌ مغويةٌ، وكم من الشباب اتخذوا مثلهم العليا من روايات السينما الداعرة الفاتكة بالعقول، الممثلة للجرائم واللصوصية، المحركة لأسفل أنواع الشهوة، وكذلك الكتب، والمجلات، والصحف، والصور التي من هذا القبيل.
ومما نأسف له أن هذا النظر، وهذا القول يعد عند بعض الشبان من أخلاقية القرون الوسطى لا يصح أن ينطبق على عصورهم وزمنهم.
والواقع أن التجارب التي أجريت والحريات التي مُنحت في هذا الباب دلت على صحة أخلاقية القرون الوسطى، وأصبح المعاصرون من كتاب أرقى الأمم الممدنة يخشون من تهور الشباب في هذا الباب، وأصبحوا في فزع مما يرونه من المآسي التي يرتكبها الشاب باسم الحرية.
كيف يبني الشاب نفسه؟:
والآن نتساءل: ماذا يجب أن يكون الشاب وكيف الوصول إلى ما يجب؟
أول واجب على الشاب أن يبني نفسه؛ فينظر في ملكاته واستعداداته، ويكوِّن منها نفسه على أحسن وضع يمكن أن تكون عليه المواد الأولية.
والناس كلهم مختلفون في كمية الملكات والاستعدادات وكيفياتها، ولكن كل كمية وكيفية يمكن أن يصاغ منها إنسان جيد في ناحية من النواحي، له شخصية ممتازة نوع امتياز، وليس يفسد هذا العمل إلا عدم القدرة على البناء، أو عدم الاهتداء لخير الأشكال؛ يجب أن يبني نفسه جسمياً وعقلياً وخلقياً؛ فيرسم له مثلاً أعلى محدوداً في كل ناحية من هذه النواحي، ويرسم خطة السير للوصول إلى هذه الغاية، ولا يترك نفسه سهلاً كالسفينة بلا قائد تتقاذفها الأمواج، وتدفعها الرياح كما تهوى.
ولا يتسنى له ذلك إلا إذا امتلأ عقيدة بخير هذا المثل، ومناسبته له.
وقد دلت التجارب على أن القلب لا العقل هو الذي يبني الإنسان ويكتب تاريخه، ويحدد مقدار نجاحه، فلا خير في عقل كبير لا قلب معه، وتاريخ الإنسانية يشهد أن خدمة القلوب الكبيرة لها_ أقوى من خدمة العقول الكبيرة.
وأهم ما يدعو إليه القلب، ويتطلبه من الشاب أن يكون =رجلاً+ والرجولة وصف جامع لكثير من الصفات المحمودة: أهمها الجد في العمل، والشجاعة في مواجهة الصعاب، والحرص على المبادئ.
وهذه الصفة _ نحن الشرقيين _ أحوجُ ما نكون إليها الآن، وأحق صفة لكثرة الكلام فيها؛ لأني أرى في الشباب ميلاً إلى الانحدار، والتحلل من الواجبات، وعدم الاكتراث بالمبادئ، والميوعة في السلوك.
وهي كلها مظاهر لقلة =الرجولة+ أو عدمها، وهي أكبر سبب فيما نرى من عدم نجاح الشبان في الأعمال الحرة؛ فالعمل الحر يتطلب جدَّاً فائقاً ونشاطاً كبيراً، وعملاً شاقاً في زمن طويل، وإعمال العقل في الابتكار والتفكير في وسائل النجاح، فإذا لم يكن الشاب مسلحاً بكل هذه الخصال فشل فشلاً تاماً.
لماذا يفشل الشاب:
ولعل من أكبر أسباب هذا الفشل وعدم هذا الخلق _ خلق الرجولة _ أن الآباء لم يتعودوا عندنا أن يزجوا بأبنائهم الشبان في معترك الحياة، ويحملوهم عبء أنفسهم، بل يفتحون لهم صدورهم، وبيوتهم، وجيوبهم حتى بعد أن يتخرجوا من المدارس العالية، ويتركونهم في البيت يأكلون، ويشربون، وينامون وينعمون، وكل عملهم السعي في دواوين الحكومة لعلهم يجدون لهم =وظيفة+.
ولم يعتد الآباء فينا هذه العادة الجيدة التي اعتادها الغربيون وهي أنهم منذ تعليمهم يطلبون منهم أن يصطدموا بالحياة، ويلجؤونهم أن يجدوا لهم عملاً وأن يبحثوا لهم عن قوت، وأنهم _ وقد أعانوهم على إتمام دروسهم _ قد أنهوا الواجب عليهم؛ فوجب على الشاب أن يحمل عبء نفسه، ويتعلم أن يعوم في الحياة كما يعوم في البحر، وأن يكافح الأمواج، ويحارب الصعاب، ويبذل جهده حتى يجد قُوتَه؛ فهذا هو ما يبني الشاب حقاً، ويستخرج منه الرجولة.
أما طريقتنا التي نسير عليها فلا نتيجة لها إلا ما نشاهد من ميوعة، وتسكع على أبواب المصالح الحكومية.
وللوصول إلى هذا يجب أن يكون الشاب _ دائماً _ باسماً للحياة متفائلاً لا متشائماً آملاً في النجاح؛ فاليأس يستلزم الفشل والخيبة، ويسمم الحياة كما يسمم =المكروب+ الماء.
وأخيراً على الشاب أن يمتلئ شعوراً بأنه مكلف أن يفعل ما يستطيع لتصحيح الخطأ الذي يقع فيه الناس من جرائم وشرور؛ فلا يكون في حياته أنانياً بحتاً لا ينظر إلا إلى نفسه، بل هو مطالب بعد أن يبني نفسه: أن يشترك في بناء أمته، وفي بناء الإنسانية عامة على قدر جهده وكفايته بخلقه وبعلمه وبماله وجاهه.
على الشباب أن يكونوا قوةً فاعلة دائمة في حياة أمتهم، ويجب أن يتحملوا في الحياة أكبر عبء؛ لأن حيويتهم في الأمة أقوى حيوية.
وهم المقياس الصحيح لرقي الأمة أو انحطاطها؛ فإذا أردت أن تعرف هل ارتقت أمة أو انحطت وما مقدار هذا الرقي أو الانحطاط فاعرف الفرق بين شباب الأمة وشيوخها، فبمقدار تفوق الشبان على الشيوخ في العلم والخلق والصحة يكون الرقي، وبمقدار ضعفهم عن الشيوخ في ذلك يكون الانحطاط.
إن كل طبقة من طبقات الأمة لها رسالة يجب أن تؤديها وليس في كل هذا أجدى، وأنفع من أن يؤدي الشباب رسالتهم.









خامساً: مقالات في المرأة

19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للشيخ محمد الخضر حسين
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ محمد بهجة البيطار


تحرير المرأة ( ) للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي

حرر الإسلام المرأة من ظلم الرجال وتحكمهم، فقد كانت المرأة في العالم كله في منزلة بين الحيوانية والإنسانية، بل هي إلى الحيوانية أقرب، تتحكَّم فيها أهواء الرجال، وتتصرف فيها الاعتبارات العاديَّةُ المجرَّدة من العقل، فهي حيناً متاعٌ يُتخطَّف، وهي تارة كرة تُتلقَّف، تُعتبر أداة للنسل، أو مطيَّةً للشهوات.
وربَّما كانت حالتها عند العرب أحسن، ومنزلتها أرفع، يرون فيها عاملاً من عوامل ترقيق العواطف، وإرهاف النفس، ودواءاً لكثافة الطبع، وبلادة الحسّ، ويجدون فيها معانيَ جليلةً من السموِّ الإنساني، وأشعارهم _على كثرتها_ عامرةٌ بالاعتراف بسلطان المرأة على قلوبهم، وبشرح المعاني العالية التي يجدونها فيها.
ولا عبرة بما شاع عنهم من وأد البنات؛ فإنه لم يكن عامَّاً فاشياً فيهم، وتعليله عند فَاعِلِيْهِ يُشعر أنه نتيجة حبٍّ طغى حتى انحرف، وأَثَرُ عقلٍ أسرف في تقدير العواقب، لا نتيجة كراهيةٍ لنوع الأنثى.
وعلى كلِّ حال فالوَأْدُ خطأ كبير، وجريمة شنيعة، وشذوذ في أحكام الرجال خارجٌ عن نطاق الإنسانية، وحسبه تسفيه قوله _تعالى_:[أَلا سَاْءَ مَاْ يَحْكُمُوْن].
وجاء الإسلام فنبَّه على منزلتها، وشرفها، وكرم جنسها، وأعطاها كلَّ ما يناسب قوَّتها العقلية، وتركيبها الجسمي، وسوَّى بينها وبين الرجل في التكاليف الدينية، وخاطبها بذلك استقلالاً؛ تشريفاً لها، وإبرازاً لشخصيتها، ولم يجعل للرجل عليها سبيلاً في كلِّ ما يرجعُ إلى دينها وفضائلها، وراعى ضعفَها البدني بالنسبة للرجل، فأراحها من التكاليف المادِّيَّة في مراحلِ حياتها الثلاث: من يوم تولد إلى يوم تموت: بنتاً وزوجاً وأماً، فأوجب على أبيها الإنفاق عليها وتأديبها ما دامت في حِجْره إلى أن تتزوَّج، وهذا حقٌ تنفرد به البنت على الابن الذي يسقط الإنفاق عليه ببلوغه قادراً على الكسب، فإذا تزوَّجت انتقل كلُّ ما لها من حقٍّ أدبي أو مادي من ذمة الأب إلى ذمة الزوج، فتأخذ منه الصداق فريضة لازمة، ونِحْلَةً مسوَّغة، وتستحق عليه نفقتها ونفقة أولادها منه بالمعروف، فإذا خلت من الزوج ولها أولاد مكتسبون وجبت الحقوق على أولادها، ولا تُنفق شيئاً من مالها إلا باختيارها.
ووصايا القرآن والسنَّة وأحكامها في برِّ الأمهات معروفة، وهي أظهر من الشمس؛ فالإسلام أعطى المرأة وأولادها من الإعزاز والتكريم ما لم يُعطها إياه دينٌ آخرٌ، ولا قانونٌ وضعيٌّ، وأعطاها حقَّ التصرفِ في أموالها، وحقَّ التملك من دون أن يجعل للزوج عليها من سبيل، وأحاطها بالقلوب الرحيمة المتنوِّعة النوازع، المتلوِّنة العواطف: قلب الأب وما يحمل من حنان، إلى قلب الزوج وما يحمل من حب، إلى قلب الولد وما يحمل من برٍّ ورحمة؛ فهي لا تزال تنتقل من حضن كرامة وبر إلى حضن كرامة وبر إلى أن تفارق الدنيا، وبين المهد واللحد تتبوَّأ المراتب الكاملة في الإنسانية.
نرى من هذه المعاملة الصريحة للمرأة في الإسلام أنه سلَّحها بأحكام قطعية، وحماها بتشريع سماوي عادل، ولم يكلها إلى طبائع الآباء الذين يلينون ويقسون، ولا إلى أهواء الأزواج الذين يرضون ويغضبون، ولا إلى نزعات الأبناء الذين يَبرُّون ويعقُّون، وإنما هي أحكام إلهية واجبة التنفيذ، لا تدور مع الأهواء والعواطف والنزعات وجوداً وعدماً.
ولا يَنْقُضُ علينا هذه الأصول شُذاذُ العصور المتجاوزون لحدود الله الخارجون عن الفطرة الصحيحة كمسلمي زماننا الذين منعوا المرأة المسلمة كلَّ أو جُلَّ حقوقها، وحسب هؤلاء أنهم ظلموا أنفسهم قبل أن يظلموا المرأة، وأنهم هدموها، فهدمتهم من غير قصد في أبنائهم، وأفسدوا كونها، فحُرموا عونها.
وفي موضوع =المرأة في الإسلام+ يتدخَّلُ علماءُ الغرب ملاحدةً ومُتألِّهين، ويتعاطون ما لا يُحسنون من القول في هذا الموضوع، ويجعلون منه ذريعةً للنيل من الإسلام.
ولقد ناظرنا جماعةً منهم في الموضوع، فأفحمناهم، وألقمناهم حجراً، قلنا لهم: هاتوا مثالاً نتناقش فيه، فقالوا: الميراث، قلنا: من أي جهة؟ فإنَّ المرأة ترث بعدة أسباب، فنظر بعضُهم إلى بعض، هل يراكم من أحد، وكادوا يتسلَّلون، وكأنهم كانوا لا يعرفون إلا أنَّ المرأةَ مظلومة في القرآن الذي يقول:[لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْن]، فقال لنا أحدهم: نعني ميراثَ البنت مع أخيها، فقلت: أنتم قوم تبنون الحياة كلَّها على الحساب، فهلمَّ =نتحاسب+، ولنفرض أنَّ مُورِّثاً مسلماً مات وترك ابناً، وبنتاً، وثلاثمائة نقداً، قال الإسلام: للابن مائتان، وللبنت مائة، فقلتم: هذا ظلم، هذا غبن، هذا إجحاف، ولم تفهموا أنَّ الإسلام نظر إلى المرأة ككل، ونظر إلى مراحل حياتها الثلاث كمنظومة متناسقة، فإذا نقص لها في جزئية جبر لها في جزئية أخرى، ولنجرِ معكم على مثالنا ولا نخرج عنه، ولنفرض أنَّ الأخوين الذكر والأنثى تزوَّجا في يومٍ واحد، وليس لهما من المال إلا ذلك الميراث، فالذكر يدفع لزوجته مائة صداقاً، فيُمسي بمائة واحدة، وأخته تأخذ من زوجها مائة صداقاً فتُصبحُ ذات مائتين، والذكر مطلوب بالإنفاق على نفسه وزوجته وأولاده إن ولد، وأخته لا تُنفق شيئاً على نفسها ولا على أولادها.
فهذا هو الميزان العادل في الإسلام يتجلَّى من هذا المثال، وتتجلَّى منه رحمةُ الله في هذا المخلوق الذي ركَّبه الله على ضعف، ورشَّحه لحمل أعظم أمانة، وهي تربية الناشئة وإعدادها للحياة.


مستودع الذخائر( ) للأستاذ أحمد أمين

أين_ تظن _ مستودع الذخائر للأمة؟
وقد تجيب على الفور: إنه المطارات، ومخازن الأسلحة، ومستودع القنابل، وما إلى ذلك من أماكن تكدس فيها آلات القتال، وأدوات الحرب.
إن أجبت بذلك فقد أجبت بالعرض دون الجوهر، وبالمجاز دون الحقيقة.
وقد تتفلسف قليلاً، فتقول: إن ذخيرة الأمة هي جيشها المسلح بعَدده وعُدَدِه، ومرانه وتجهيزه، وفنونه وتشكيله.
إن قلت ذلك فقد قاربت الصواب ولم تقله، وحُمْتَ حوله، ولم تقع عليه.
فما قيمة الذخائر إن لم تجد رجالاً؟ وما ينفع السيف إذا لم تك قتَّالاً؟
إن السيف في يد الغِرِّ والحاذق كالقلم في يد الأميِّ والكاتب، بل ما ينفع الجندي المسلح إن لم يكن له بين جنبيه قلبٌ لا يهاب، ونفسٌ لا تفزع؟
الإجابة الحقة هي أن مستودع الذخائر للأمة قلب المرأة، قلب المرأة هو الجيش الأول الذي لا قيمة لقنابل، ولا طيَّارات، ولا غواصات، ولا دبابات، بدونه.
وإن شئت فقل هو الطابور الخامس الذي لا يوقع الرعب والفزع في قلوب الأعداء شيء مثله.
لقد خُلقت المرأة من ضِلَع من أضلاع الرجل، ولكن سرعان ما تغير الحال؛ فخلق قلب الرجل من قلب المرأة.
يخطئ من يظن أن لبن الأم ليس إلا نسبة معينة من الدسم، ونسبة معينة من الماء، وما إلى ذلك؛ فليس هذا كله إلا تحليلاً للمادة، وليست المادة كل شيء في اللبن.
وإنما قصر تحليل الكيمياويين، فقصرت نتائجهم.
إن في اللبن صفات خلقية، وصفات عقلية، وصفات روحية، وراء الصفات المادية، يرضعها الطفل كما يرضع مادة اللبن، فتتغذى بها روحه، وتتشكل منها نفسه؛ وليست هذه الصفات الروحية متطابقة دائماً مع الصفات المادية؛ فقد يحلل اللبن في معامل الكيمياء فيتبين من تحليله أنه المثل الأعلى للبن، وهو مع ذلك سمٌ خلقي ينفث الجبن، ويشيع الفساد، ويبعث الفزع والخور؛ على حين أن لبناً آخر ينقصه الدسم، ويعيبه التحليل الكيمياوي؛ وهو مملوء روحاً، ومملوء شجاعة ونشاطاً، ومملوء قوة، ومن أجل ذلك صدق الشاعر إذ يقول:
وفي أثوابه أسدٌ مَزِيرُ
ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريه




فيُخلفُ ظنَّكَ الرجل الطريرُ

ويعجبك الطرِيرُ فتبتليه







ثم إن اللبن الذي ترضعه الأم أولادها توعز إليهم الجبن أو الشجاعة بسلوكها؛ فإن هي ربتهم تربية الأرانب فأدفأتهم وأشبعتهم، وحاطتهم بكل ضروب العناية، ولم تسمح لهم أن يجربوا، وأن يخاطروا وأن يجازفوا، ثم حدثتهم من الأحاديث ما يخلع قلوبهم، ويحبب إليهم الحياة بأي ثمن، وعلمتهم أن لا قيمة للعقيدة بجانب حياتهم، ولا للوطن بجانب سلامتهم، وصاحت وولولت يوم يجندون، وفقدت رشدها يوم يسلحون، فهناك ترى صورة جند ولا جند، ويرى أشكال الرجال ولا رجال، وترى أجساماً ضخاماً وقلوباً هواءاً.
وإن هي ربتهم من صغرهم على المخاطرة والمجازفة، وحدثتهم أحاديث الأبطال وعظماء الرجال، وعودتهم مكافحة الحياة والتغلب على الصعاب، وعلمتهم أن المبادئ فوق الأشخاص، والوطن فوق حياة الأفراد، وعيرتهم يوم يفرون من واجب، وأنبتهم يوم يأتون بنقيصة، وفخرت بهم يوم يضحون لمبدأ، واعتزت بهم يوم يخاطرون لأمة _ فهناك الرجال، وهناك العزة، وهناك الشرف.
ألست ترى معي بعدُ أن قلب المرأة هو الذي يخلق قلب الرجل؟.
قَلِّبْ صفحات التاريخ إن شئت، فحيثما رأيت للأم قلباً رأيت للرجل قلباً، فإذا انخلع قلبها انخلع قلبه.
إن هنداً بنت عتبة التي تخاطب الجيش بقولها:
إن تُقبلوا نُعانِقِ
أو تُدْبروا نُفارِقِ فراقَ غير وامِقِ






هي التي أنجبت معاوية.
وأسماء بنت أبي بكر التي قالت لابنها: يا بني لا ترضَ الدنية؛ فإن الموت لا بدَّ منه، فلما قال لها: إني أخاف أن يمثَّل بي، قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ_ هي التي أنجبت عبد الله بن الزبير.
والتاريخ مملوء بهذه الشواهد في كل أمة.
وظلت المرأة العربية على شهامتها ومعرفتها بأمور الدنيا حتى أصبحت المرأة ليست إلا رمزاً للمتعة، أو رمزاً للكيد؛ وتجادل الشعراء، فمنهم من يقول:
وكلنا نشتهِي شَمَّ الرياحينِ
إن النساء رياحينٌ خُلِقنَ لنا





ومنهم من يقول:
نعوذ بالله من شرِّ الشياطينِ
إن النساء شياطين خلقن لنا





وكلا النظرين سخيف قاصر؛ فليست المرأة ريحانة فحسب, ولا شيطانة فحسب؛ وإنما هي فوق ذلك مَرْبىً للرجال، ومحضنةٌ للقلوب، ومستودع للذخائر.
بمثل هذه النظرات البلهاء فقدنا المرأة ففقدنا الرجل؛ فإن أردنا تنظيم حياتنا على أسس جديدة وجب أن يكون أولها وأولاها خلق قلب المرأة.
ليس ما يمنع أن تحيا المرأة حياة الجمال, بل هو واجب أن يكون ولكن يجب أن يكون بجانب الجمال الحسي جمال معنوي؛ فيه جمال حديث المرأة , وجمال رقيها وخبرتها، وجمال شجاعتها، وجمال قلبها, فعند ذلك نجد المرأة فنجد الرجل.
انظر الآن دور المرأة الغربية في الحرب, ولا أقص عليك إلا مثلاً واضحاً تلمسه في كثير مما يدور من قصص، وما يتلى من أخبار وهو أن الشبان والرجال يتعيرون كل العار أن يُروا في بلادهم أيام الحرب وهم لا يحملون السلاح, ولا يشتركون في القتال أو وسائل القتال , ويحز في نفوسهم أن قد أصيبوا بعاهة أو منعهم مانع جسمي عن أن يؤدوا لوطنهم خدمة ولأمتهم عملاً.
ومن يقوم بهذا الدور الخطير من تأنيب وتعيير غير نساء الأمة؟ فتكفي نظرة من إحداهن ليفضل الرجل الموت على الحياة, وخطر الحرب على أمن السلم, وعيشة القتال على عيشة الدعة.
كل هذا يلخص لنا الأمر في جملة: شَجُعَتْ المرأة فشجع الرجل, وماعت المرأة فماع الرجل.
ليست تُعد الأمة راقية تستحق البقاء إلا إذا أرسلت الأمة أبناءها إلى ميادين القتال وهي تبتسم, وودعت الزوجة زوجها إلى الحرب وهي تملؤه أملاً بالعيشة السعيدة بعد النصر، وقالت الأمهات لأبنائهن ما قالت (أسماء): =إن ضربة بسيف في عز خيرٌ من لطمة في ذل+.
إن وراء كل جيش في الأمة جيشاً غير منظور من قلوب نسائه، ووراء كل جيش صاخب جيش المرأة الصامت، ووراء البنود والأعلام والجنود والذخائر ذخيرة أسمى وأرقى وأغلى، وهي (قلب المرأة).


اختلاط الجنسين في نظر الإسلام( ) للشيخ محمد الخضر حسين

ألقى أحد الأساتذة محاضرة تعرض فيها لاختلاط الفتيان والفتيات في الجامعة، وأبدى استحسانه لهذا الاختلاط، ووقف موقف الدفاع عنه.
وما كنا ننتظر من الأستاذ المحاضر وقد قضى سنين غير قليلة وشؤون المجتمع تمر عليه بمقدماتها، وبما ينتج عنها من خير وشرأن يقول ما قاله في تلك المحاضرة.
بل كنا ننتظر منه أن يملي على أبنائنا وبناتنا كلمات يتلقونها على أنها آراءٌ أحْكَمَتْها التجارب، فيستنيرون بها في حياتهم المحفوفة بالأخطار من كل جانب.
ولكن الأستاذ لم يشأ إلا أن يتناول في محاضرته مسألة اختلاط الفتيان والفتيات، ويرضى عن ذلك الاختلاط، صارفاً النظر عما يجر إليه من الانحلال في الأخلاق، وغمز في الأعراض.
وغَرضنا من هذه المحاضرة نقد كلمات وردت في محاضرة الأستاذ، وإنما ننقدها على طريقة آداب البحث، وما تقتضيه قوانين المنطق، ثم انظروا ماذا ترون.
وما كان لي ولا للأستاذ وقد أخذنا نبحث في شأن اجتماعي أن نهمل وجهة الدين الإسلامي في هذه المسألة الهامة، فإذا نحن حققنا النظر فيها من حيث اتجاه الدين الإسلامي، وأعقبناه بالنظر في حكمة هذا الاتجاه _ استطعنا أن نحكم على ما يقال في اختلاط الفتيان والفتيات بين جدران الجامعة، أو حول جدرانها، ونحن على بينة من أمر هذا الحكم.
قال الأستاذ في محاضرته: =ويتصل بخطأ الجمهور في فهم رسالة الجامعة مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة+.
يعد الأستاذ فيما أخطأ الجمهور في فهمه من رسالة الجامعة مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة، ويريد بخطأ الجمهور إنكارهم لما صنعته الجامعة من قبولهن، وخلطهن بالفتيان في حجرات التدريس.
والواقع أن الجمهور لم يخطئ، وأن الجامعة هي التي أخطأت في هذا الخلط؛ ذلك أن جمهور الأمة المصرية يستضيء في حياته بدين قامت لديه الأدلة القاطعة على أنه وحي سماوي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا عرضت له مسألة اجتماعية كالجمع بين الفتيان والفتيات على الوجه الذي يقع في الجامعة _ أقبل يستفتي دينه الحق، فإن وجده قد أذن في ذلك سكت عنه ورضي به، وإن وجده قد نهى عنه بادر إلى إنكاره.
وتحريم الدين لاختلاط الجنسين على النحو الذي يقع في الجامعة معروف لدى عامة المسلمين، كما عرفه الخاصة من علمائهم، وأدلة المنع واردة في الكتاب والسنّة وسيرة السلف الذين عرفوا لباب الدين، وكانوا على بصيرة من حكمته السامية.
يقول الله _ تعالى _: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ] النور:30، ويقول: [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ]النور: 31.
ومعنى غضّ البصر صرفه عن النظر الذي هو وسيلة الفتنة، والوقوع في فساد، ومن ذا الذي يجمع الفتيان والفتيات في غرفة وينتظر من هؤلاء وهؤلاء أن يصرفوا أبصارهم عن النظر، ولا يتبعوا النظرة بأخواتها؟ وهل يستطيع أحدٌ صادق اللهجة أن يقول: إن أولئك المؤمنين والمؤمنات يحتفظون بأدب غضّ أبصارهم من حين الالتقاء بين جدران الجامعة إلى أن ينفضّوا من حولها؟ والشريعة التي تأمر بغض النظر عن النظر إلى السافرات، تنهى أولي الأمر عن تَصَرُّفٍ شَأْنُهُ أن يدفع الفتيان والفتيات إلى عواقب وخيمة.
ويقول الله _ تعالى _: [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ]النور: 31.
والزينة ما يتزين به من نحو القُرط، والقِلادة، والخاتم، والوشاح والشعر، والأصباغ من نحو الكحل والخضاب، والملابس الأنيقة، وما ظهر من الزينة هو الثوب الذي يستر الجسد حتى لا يظهر ما تحته من حلي، وشعر، ونحوه.
ثم إن القرآن قد استثنى طائفة من الناس تكثر مداخلاتهم للمرأة؛ فيكون في التزامها التستر الذي تلزمه مع الأجنبي مشقةٌ عليها، فأذن لها في عدم زينتها منهم، ثم إنَّ تَوقُّعَ الفساد منهم شأنهُ أن يكون مفقوداً أو نادراً، إما لشدة القربة، كالأب والابن والأخ والخال والعم وابن الأخ وابن الأخت، وإما لأن شأنهم الغيرة على حفظ عرض المرأة كأبي الزوج وابنه، فإن أبَ الزوج أو ابنه تدعوه الغيرة على أن يحافظ على عرض المرأة؛ لأن في حفظ عرضها حفظاً لعرض ابنه إن كان أباً، أو لعرض أبيه إن كان ابناً.
وهؤلاء وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة، لا يتساوون فيما يصح أن يطلع عليه، فالزوج يحل له النظر إلى ما شاء، وأما الابن والأب والأخ والجد وكل ذي محرم، فلا يجب على المرأة أن تستر منهم الشعر والنحر والساقين والذراع، وأما غير أولي الإربة من الرجال، وهم الذين عرف منهم التعفف وكانوا على حالة من لا يقدر على مباشرة النساء، كالطاعنين في السن الذين عرفوا بالصلاح وعدم الحاجة إلى النساء، فإنما يحل للمرأة أن تظهر أمامهم في ثياب صفيقة وإن لم تكن عليها ملحفة.
وليس من شك في أن طالبات الجامعة لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وقد يأتين في أجمل ثيابهن، ويختلطن بفتيان ليس بينهم وبينهن صلة من الصلات المشار إليها في الآية الكريمة.
ويقول الله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ]الأحزاب: 59.
ال***اب: الثوب الذي يستر المرأة من فوق إلى أسفل، أو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وإدناؤه عليهن إرخاؤه عليهن، قال ابن عباس وجماعة من السلف: أن تلوي ال***اب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف، فتستر الصدر ومعظم الوجه إلا عينيها.
ثم ذكر حكمة هذا الستر، وهي أن التستر يدل على العفاف وال*****؛ إذ من كانت في هذا الحال من التستر لا يطمع الفسَّاق في أن ينالوا من عرضها؛ فلا تلقى من الفساق تعرضاً يؤذيها مثلما تلقى المتبرجات بزينتهن، وذلك معنى قوله _تعالى_: [ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ].
والأحاديث الصحيحة الواردة في النهي عن اختلاط المرأة بغير محرم لها تدل بكثرتها على أن مقتَ الشريعة الغرَّاء لهذا الاختلاط شديد، وأن عنايتها بأمر ***** المرأة بالغة، وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري: =قالت النساء للنبي " غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن+.
ولو كان اختلاط الطلاب بالطالبات مما يأذن به الدين لكان للنساء أن يجلسن مع الرجال في مجلس رسول الله " ولما قلن له: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك، ولما وعدهن يوماً لقيهن فيه وحدهن.
وأذكر منها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: =لقد كان رسول الله " يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد+.
ولو كان اختلاط الرجال بالنساء مأذوناً فيه لما احتاج المؤمنات إلى أن يتلفعن بمروطهن، ويرجعن إلى بيوتهن دون أن يعرفهن أحد.
وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: قال النبي ": =لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال: اخرج معها+.
ولو كان اختلاط النساء والأجانب مأذوناً فيه، لما حرَّمت الشريعة على المرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا أن يكون معها محرم، ولما نهى النبي " عن أن يدخل رجل على امرأة إلا ومعها محرم.
وأذكر منها ما رواه البخاري في صحيحه عن أم سلمة _ رضي الله عنها _ قالت: = كان رسول الله "إذا سلَّم، قام النساء حينما يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيراً قبل أن يقوم، قالت: نرى _ والله أعلم _ أن ذلك لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال+.
فقيام النساء، وانصرافهن عقب تسليمه " لأنه مأذون لهن في الصلاة دون البقاء في المسجد لغير صلاة، وقد أشارت رواية الحديث إلى أن مكث النبي " في مقامه عقب الصلاة من أجل تمكين النساء من الانصراف؛ لأن الرجال لا يقومون من موضع الصلاة إلا إذا قام _ عليه الصلاة والسلام _.
وفي هذا شاهد على كراهة الشارع لاختلاط الرجال الأجانب بالنساء.
ثم إن سنة النساء في صلاة الجماعة أن يصلين خلف صفوف الرجال، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك ÷أنه قال: =صلى النبي " في بيت أم سليم، فقمت، ويتيم خلفه، وأم سليم خلفه +.
ويدلكم على أن النهي عن اختلاط الرجال بالنساء كان معروفاً بين الصحابة _ رضي الله عنهم _ حتى أصبحت قاعدة يذكرونها عندما يشتبه عليهم الأمر في بعض الآثار أو الأحاديث، ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن جريج قال: =أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي " مع الرجال، قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال لم يكن يخالطهن: كانت عائشة _ رضي الله عنها _ تطوف في حجرة من الرجال لا تخالطهم+.
والحجرة الناحية المنفردة، تقول رأيت رجلاً يسير من القوم حجرة أي ناحية منفردة.
فانظر كيف بدا لابن هشام أن يمنع النساء الطواف مع الرجال؛ أخذاً بالقاعدة المعروفة في الشريعة من منع اختلاط النساء بالرجال.
ولما أنكر عليه عطاء لم يقل له: إن اختلاط النساء بالرجال لا حرج فيه، ولكنه استدل بحديث أن نساء النبي " كن يطفن مع الرجال، ولما بدا لابن جريج أن طوافهن مع الرجال يقتضي الاختلاط بهم، والاختلاط محظور في الشريعة، قال متشكلاً الإذن لهن في الطواف مع الرجال: كيف يخالطهن الرجال؟ فلم يقل له ابن جريج: وأي مانع من هذا الاختلاط، بل بيّن له أنهن يطفن مع الرجال دون أن يخالطنهم.
وليست نصوص الدين وحدها هي التي تسوق الجمهور إلى إنكار اختلاط الطلاب والطالبات، بل المشاهدات والتجارب قد دلتا على أن في هذا الاختلاط فساد لا يستهان به، ومن أنكر أن يكون لهذا الاختلاط آثار مقبوحة فإما أن يكون غائباً عن شؤون المجتمع، لا يرقبها من قريب ولا من بعيد، وإما أن يكون قد نظر إلى هذا الاختلاط وآثاره بعين لم تنبه إلى وجهة استقباحه، ووجوب العمل على قطع دابره.
ومن عمد إلى البلاد التي يباح فيها اختلاط الجنسين، ونظر إلى ما يقع فيها من فساد الأعراض، وقاسه بالفساد الذي يقع في البلاد التي يغلب على رجالها ونسائها أن لا يجتمعوا إلا على وجه مشروع_ وجد التفاوت بين الفسادين كبيراً.
بل لا نحتاج في معرفة هذا التفاوت إلى إحصاء مفاسد هذه وتلك؛ فإن المعروف بالبداهة أن الاختلاط يُحْدِث في القلوب فتنة، ولا تلبث الفتنة أن تجر إلى فساد، فعلى قدر كثرة الاختلاط يكثر ابتذال الأعراض.
قال الأستاذ: =وهي مسألة كانت قليلة الأنصار في الرأي العام+.
يريد أن قبول الطالبات في الجامعة لم يَرْضَ عنه فيما مضى إلا قليل من الناس، والواقع أن الذين يرضون عن هذا الاختلاط لا يزال عددهم قليلاً إذا نظر إليهم إزاء مَنْ ينكرونه، ويَشْكُون من سوء مغبته، ولو استُفْتِيت الأمة استفتاءاً صحيحاً لظهر أن أنصاره لا يزالون في قلة، على أن المسائل الاجتماعية إنما يرجع الحكم فيها إلى الأدلة القائمة على رعاية ما يترتب عليها من مصالح أو مفاسد، أما كثرة الأنصار فلا تجدي أمام النصوص الشرعية، والأدلة المؤيدة بالتجارب ولو مثقال ذرة.
قال الأستاذ: =بعد عشر سنوات من قبول هؤلاء الطالبات، قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط فلم نأبه له؛ لأن التطور الاجتماعي معنا، والتطور لا غالب له+.
ليس هناك تطور يعرض للاجتماع في نفسه، وإنما تطور الاجتماع أثر أفكار وأذواق وميول نفسية، ورقيُّ هذا التطور أو انحطاطه يرجع إلى حال تلك الأفكار والأذواق والميول؛ فإن غلب على الناس جودة الفكر، وسلامة الذوق، وطهارة ميولهم النفسية_ كان التطور الاجتماعي راقياً وهذا هو الذي لا تنبغي معارضته، ويصح أن يقال فيه: إنه تطور لا غالب له.
أما إذا غلب على الناس انحراف الأفكار في تصور الشؤون الاجتماعية، أو تغلبت أهواؤهم على عقولهم، كان التطور الاجتماعي في انحطاط، وهذا هو الذي تجب معارضته، وأقل دعوة تقوم لإصلاحه يمكنها أن تقوِّم عوجه، وترد جماحه.
وإذا كان اختلاط الجنسين من قبيل التطور الاجتماعي فهو من نوع ما ينشأ عن تغلب الأهواء، وتقليد الغربيين في غير مصلحة، فيتعين على دعاة الإصلاح أن يجهروا بإنكاره، ويعملوا على تنقية المجتمع من أقذائه، ومتى قويت عزائمهم، وجاهدوه من طرقه الحكيمة أماطوا أذاه، وغلبوه على أمره.
وما كانت حالة العرب في الجاهلية إلا تطوراً اجتماعياً، وقد قام النبي " يحارب هذا التطور، فقضى عليه في أعوام غير كثيرة.
ولو عرض حال فرنسا قبل الحرب، ونظرنا إلى ما كان فيها من تهتك، وحاول بعض عقلائهم التخفيف من شر ذلك الاستهتار _ لوجد من يقول له: هذا التهتك تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له.
فهل يرضى الأستاذ المحاضر أن يسكت دعاة الإصلاح عما يغلب في الناس من الفساد، وييئسوا من إصلاحه بدعوة أنه تطور اجتماعي، والتطور الاجتماعي لا غالب له؟
والذي نرى أن الإصلاح يسود بالدعاية الحكيمة، وقد يسود بقوة السلطان العادل متى كانت الأمة في عماية عن طريق الرشد، وصَمَمٍ من مواعظ الحكماء، أما الباطل فإنما يسود بوجاهة أشياعه، أو قوة سلطانهم، وإذا تغلب باطل بالدعاية الماكرة فلأن أنصار الحق كانوا غارقين في نوم ثقيل، ولا يرفع الباطل صوته إلا في بيئة غاب عنها الدعاة المصلحون.
وقد حسبنا عندما سقطت فرنسا في هذه الحرب تلك السقطة المزرية أن يأخذ منها رجالنا عبرة بالغة، فيعود الذين كانوا يحبذون السفور، واختلاط الجنسين، دعاة إلى أدب الإسلام من تستر المرأة بثياب العزة، وصيانتها عن مواقف الابتذال، ومواطن الاختلاط.
ومن دواعي الأسف أن يتنبه رجال فرنسا قبل أن يتنبه كثير من رجالنا، ويأخذ من سقوط دولتهم عبرة، هي أن سبب ضعف فرنسا وانهيار بنائها هو انحلال أخلاق شبابها، وإغراقهم في الملاذ والشهوات.
ولا إغراق في الشهوات أكثر من تخلية السبيل للنساء يخالطن الرجال، ويبدين لهن ما بطن من زينتهن دون أن تلتهب في نفس أبيها أو أخيها أو زوجها غيرةٌ حامية.
وقال الأستاذ المحاضر: =ومعنا العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص+.
لا يتنازع أحد في العدل بين الأخ والأخت، ولا يمانع من التسوية بينهما في تحصيل كل منهما أسباب كماله الخاص، ( )لا يستدعي اختلاطها بالفتيان، بل يعد هذا الاختلاط عائقاً لها عن الوصول إلى كمالها الخاص، فإنه يذهب بجانب كبير من الحشمة، وهدوء النفس، ويهيؤها لأنْ تنحدر في حفرة من سوء السمعة، ولو كان ولي أمرها الناصح في تربيتها ينظر إلى هذه العاقبة بعين تدرك حقيقتها لحال بينها وبين هذا الاختلاط بكل ما يملك من قوة.
ونحن لا نعارض في تعليم المرأة، ولا في استمرارها على التعليم إلى أبعد مدىً، ولكنا نريد الاحتفاظ بأساس كمالها الخاص، وهو ال***** ونقاء العرض.
ولا شك في أن اختلاطها بالفتيان وسيلة قريبة إلى هدم ذلك الأساس، فالذين ينكرون اختلاط الطلاب بالطالبات هم الذين يناصرهم العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كل منهما أسباب كماله الخاص.
فللمرأة أن تطلب من العلوم ما وَسِعَها أن تطلبه، ولكن على أساس ال*****، فإن كان طلبها لبعض العلوم يُعَرِّض هذا الأساس للانتقاص فلتكتف بما وصلت إليه يدها من علم، وفي الرجال كفاية للقضاء، والمحاماة، وعضوية مجلس النواب، إلى ما يشابه هذا من الأعمال التي لو تولتها المرأة لانجرَّت بطبيعة العمل إلى عاقبة سيئة هي الاختلاط بالرجال.
قال الأستاذ المحاضر: =ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي+.
إذا كنَّا لا نستسلم لتقليد أوربا في كل شأن من شؤون الاجتماع، وترفَّعنا عن أن نجعل حال الأوربيين المثال الكامل للارتقاء القومي _ قلنا: إن أساس ارتقائنا القومي هو الاحتفاظ بآداب ديننا، وأن يكون في فتياتنا علم واسع، وعزم صارم، وإرادة ماضية، وصبر على تحمل المشاق، وأن يكون في فتياتنا حشمة، و*****، وعلم يساعدهن على تأدية واجباتهن في الحياة من نحو تدبير المنزل، والقيام على تربية الولد، وقد دل النبي " على هاتين المهمتين بقوله: =خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده+.
وأشار " إلى مهمة تدبير المنزل بقوله: =والمرأة راعية على بيت زوجها+.
فمن أطماعنا أن تكون المرأة على خلق عظيم من الحشمة، بعيدة من مواطن الفتنة والريبة، فرغبتنا في تكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا تدعونا وتلح في دعوتنا إلى أن نجعل بين الفتيات والفتيان فارقاً يقطع مثار الفتنة، وتسلم به النفوس من خواطر السوء التي قد تنقلب إلى عزم ثم إلى مقدرة.
وإذا كان النظر إلى زينة المرأة، والتأمل في محاسن وجهها وسيلةَ تعلقِ القلب بها، وتعلقُ القلب مدرجة الفتنة _ فالاختلاط الذي يستدعي تكرار النظر، ويجر إلى الأخذ بأطراف الحديث يكون بلا ريب أمرا منكراً؛ إذ هو الوسيلة المباشرة لزلزلة نفوس الفتيان والفتيات بعد سكونها زلزلة قد تذهب بأعراضٍ كانت مصونة، وإذا دخل ابتذال العرض في الأسرة، فمن أين لنا أن نكونها على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي ؟.
وليس في حماية الفتاة من الاختلاط بغير محارمها، تضييق لدائرة الحياة في وجهها، وإنما هو احتفاظ بكرامتها، وتوفير لهنائها؛ إذ بصيانتها عن الاختلاط تعيش بقلب طاهر، ونفس مطمئنة، وبهذه ال***** تزيد الصلة بينها وبين زوجها، وأولي الفضل من أقاربها متانة وصفاءاً.
وأنا لا أستبعد صحة ما أسمعه كثيراً من أن النزاع بين الرجال وزوجاتهم أصبح أكثر مما كان، وأن منشأ هذا الخصام تهافت النساء على التبرج الممقوت، وتساهلهن في الاجتماع بغير محارمهن.
والواقع أن أنصار اختلاط الجنسين لا يؤيدهم تطور اجتماع صحيح، ولا يناصرهم العدل بين الأخ وأخته في تحصيل كل منهما أسباب كماله الخاص، ولا تقف بجانبهم مصلحة الأمة في حال، وليس معهم إلا أنهم فعلوا ذلك، ففتحوا أبواب الجامعة للطالبات، وكان منكرو هذا الاختلاط على كثرتهم في تفرق، فلم يصدعوا بإنكارهم، واقتصروا على أن يرددوا هذا الإنكار في مجالسهم، وربما كتب أحدهم مقالة في صحيفة، أو قال كلمة في محاضرة.
ولو عقد دعاة الإصلاح مؤتمراً أخلاقياً، ونظروا في شأن اختلاط الجنسين نظراً خالياً من كل هوى، وبسطوا القول في وجوه مفاسده _ لكان لقرارهم شأن، وكان لرجال السياسة الرشيدة في أمر الفتيات رأي يجمع بين إعطائهن حظهن من التعليم، وصيانتهن من مواضع الفتنة والابتذال.


أمهات المؤمنين( ) للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار( )

النساء في عصر النبوة:
النساء في فجر الإسلام وعصر النبوَّة كُنَّ كالرجال، يتدارسن القرآن، ويروين الأحاديث، ويحافظن على العبادات، ويصلين صفوفاً وراء الرجال، ويستمعن المواعظ والخطب في المساجد، ويسافرن لأداء فريضة الحج والعمرة، بل كنَّ يشهدنَ الحروب، ويضمدن الجروح، ويُهيئن الطعام، ويسقين الماء، ويغسلن الثياب، ويشتركن في الجهاد أحياناً كما حصل في واقعة اليرموك.
وقد كان تعلم العلم الديني بعقائده وعباداته إلزامياً، فعمَّ الرجال والنساء، والبنين والبنات، وإنك لتجد أسماء النساء مدونة في كتب طبقات المحدِّثين وغيرهم( )، وقد استغرقت المحدِّثات المجلد السادس من مسند الإمام أحمد ابن حنبل إلا قليلاً، ومسند السيدة عائشة _ أي الأحاديث التي سمعتها وروتها _ قد بلغ وحده أكثر من مائتين وخمسين صفحة =ص29_282+.
وقد تسلسل العلم ببعض البيوتات في السيدات، حتى صارت الواحدة تروي أحاديث النبي" عن أمها وجدتها.
ومن شواهد ذلك ما رواه الإمام أبو داود في سننه: قال: حدثنا محمد ابن بشار، حدثني عبدالحميد بن عبدالواحد، حدثتني أمُّ جَنوب بنت نميلة عن أمها سُويدة بنت جابر عن أمها عَقيلة بنت أسمر بن مضرّس قالت: أتيت النبي" فقال: =من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له+ أي من الأرض _ الحديث.
إحدى أمهات المؤمنين وفتاة في القرن العشرين:
لنقايس الآن من الوجهة العلمية بين فتاة في صدر الإسلام، وفتاة في عصر العلم والحضارة، لنعلم كنه الحياة في العصرين:
عائشة _ رضي الله عنها _ عاشت في صدر الإسلام، ودخلت المدرسة النبوية في التاسعة من عمرها، ولبثت تسع سنوات في مدرستها، وتوفي عنها معلمها الأمين " وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فما العلوم التي درستها، وما نوع شهادتها يا ترى؟
كانت تلك النابغة فقيهة جداً حتى قيل: إن ربع الأحكام منقول عنها، عالمة بكل العلوم.
قال أبو موسى الأشعري ÷: =ما أشكل علينا أصحاب رسول الله " حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً+.
وقال عروة: =ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بحرام، ولا بحلال، ولا بفقه، ولا بشعر، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا نسب _ من عائشة+.
وقال مسروق: =رأيت مشيخة أصحاب رسول الله " الأكابر يسألونها عن الفرائض+.
وكانت فصيحةً جداً، قال معاوية: =والله ما رأيت خطيباً قط أبلغ، ولا أفصح، ولا أفطن من عائشة+.
وعند الطبراني برجال الصحيح عن موسى بن طلحة: =ما رأيت أحداً كان أنفح من عائشة+.
من أخذ عنها من الصحابة:
روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة كعمر وابنه عبدالله، وأبي هريرة، وأبي موسى، وزيد بن خالد، وابن عباس، وربيعة بن عمرو بن السائب بن يزيد، وصفية بنت شيبة، وعبدالله بن عامر بن الحارث بن نوفل.
تلاميذها من كبار التابعين:
من أجلاّئهم ابن المسيب، وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس، ومسروق، وعبدالله بن عليم، والأسود بن يزيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وأبو وائل.
من روى عنها من آل بيتها:
أختها أم كلثوم، وعائشة بنت طلحة، وأخوها من الرضاع عوف ابن الحارث، وابنا أخيها محمد: القاسم وعبدالله، وبنتا أخيها الآخر عبدالرحمن: حفصة وأسماء، وابنا أختها أسماء: عبدالله وعروة، وحفيد عبدالله: عباد ابن حمزة، وآخرون كثيرون.
فهذه شذرة من شهادة كبار الصحب لعائشة بكونها صارت مرجعاً في كل علم، حلاّلة لكل مشكل.
إن عائشة _ رضي الله عنها _ كانت على حداثة سنها تجيب كبار الرجال عما يُشكل عليهم من أمر دينهم، ولكن فتياتنا في سنها لا يُجبن عن مشكلات الدين أحداً، بل هنَّ يسألن ويستشكلن مسائل كان يُرجى منهن أنفسهن الجواب عليها، مثل كون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراثه، ومثل تعدد الزوجات =أو عدم المساواة كما يُقال+، وعن الحكمة في كون أزواج النبي أكثر من أربع، وأمثال هذه المسائل.
حكمة تعدد أمهات المؤمنين بعد الهجرة:
لو رجعنا إلى التاريخ الصحيح في أزواج النبي " أمهات المؤمنين، لعلمنا أنَّ التعددَ، أو الجمع بين التسع لم يكن إلا بعد هجرته " إلى المدينة في السنوات العشر الأخيرة من عمره ".
أما في مكة فقد عاش فيها قبل الهجرة ثلاثة وخمسين عاماً، لم يجمع في أثنائها بين زوجتين قط، والسيدة خديجة التي كانت أولى أزواجه وأم أولاده _عدا إبراهيم؛ فإنه من مارية القبطية_ قد تزوج بها( ) وهي امرأة في الأربعين من عمرها، وهو في الخامسة والعشرين من حياته الشريفة، في نضارة الصبا، وريعان الفتوة، وجمال الطلعة، وكمال الرجولة، وعاشت معه 25 عاماً، ثم توفيت وهي عجوز في الخامسة والستين من عمرها.
قضى حياة الشباب، وسنَّ الحاجة إلى النساء مع خديجة، المرأة الثيب التي تزيد عنه في السن خمسة عشر عاماً، ولم يتزوج عليها، ولا أحب بعدها أحداً أكثر من حبه لها، وكان طول حياته يذكرها، ويكرم صديقاتها ومعارفها، ولما قالت له عائشة: =هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها _تعني نفسها_+ وكانت تُدِلّ بحداثة سنها وجمالها، وكونها بنت صديقه الأول، وصديقه الأكبر أبي بكر ÷ _ قالت: فغضب، وقال: =والله ما أبدلني خيراً منها، آمَنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء+.
من هذا الشاهد تعلم أن عفَّتَه " لا نظير لها، ولو شاء لتزوج بحسان الأبكار، أو لو شاء لتزوج على خديجة كما كان يفعل غيره، لاسيما أن تعدد النساء كان في الجاهلية شائعاً جداً، وليس له حدٌ معين، ولكنه عف ضميره، ولم يمد عينه إلى زهرة الحياة، وزينتها.
أما باقي أزواجه " فخمس من قريش، وهنَّ عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أمية، وأما الأربع الباقيات فهن صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وليس فيهن كلِّهن بِكْرٌ إلا عائشة.
والحكمة في تزوجه " بعد هجرته إلى المدينة ببضع نسوة في بضع سنين هو العناية بإصلاح البيوت، وتهذيب النفوس، ونشر الفضيلة، وأن تكون أزواجه قدوة حسنة لجميع النساء في تلقي العلم والحكمة، والرحمة، والتقوى والعبادة، والتربية والتعليم، وإليك البيان:
1_ جعل الله _ تعالى _ من بيوت نساء النبي " مدارس داخلية يتعلمن فيها الدين، عقائده وعباداته، ومعاملاته وأخلاقه، لاسيما ما يختص منه بالنساء، قال _ تعالى _:[وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية] (الأحزاب: 33).
فالقرار في البيوت من أجل أن يتعلمن ما يحتجن إليه، وما يعظن به النساء والرجال، ولهذا قال _تعالى_: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ...الآية](الأحزاب:34).
وآيات الله: براهينه وكتابه، والحكمة: سنة نبيه " المبينة ما نزل إليه من ربه.
وإنما نهى عن التبرج الجاهلي؛ لأن المتبرجات المتهتكات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، لا يأتي منهن معلمات ولا مربيات.
ونساء النبي " إنما وجدن عند النبي لتعليم الأمة وتربيتها، وإرشادها وإسعادها.
2_ لما طلبن منه التوسع في الطيبات، وملابس الزينة، والترف في المعيشة نزلت في حقهن آيتا التخيير، وهما قوله _تعالى_:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً](الأحزاب: 28_29).
لما نزلت هاتان الآيتان بدأ " بعائشة _ وكانت أحبهن إليه، كما كان أبوها أعز الرجال عليه _ فقال: =يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك+ قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيرهن كلهن فاخترن ما هو خير لهن، اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
3_ أراد نساء النبي " أن يقمن حيث أقامهن الله ورسوله صالحات مربيات ومعلمات، مرشدات ومفتيات، فاخترن الدار الآخرة ونعيمها الدائم، ورضوان الله الأكبر، على حظوظهن من هذه الحياة الدنيا وزينتها، ومُتعها ومفاتنها، فأثابهن الله كرامة لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين بأن قصر نبيه " عليهن، دون أن يتزوج أو يطلق، أو يستبدل بهن غيرهن، فقال _ عز شأنه _:[ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ](الأحزاب:52).
والحكمة في تحريم تطليقهن هي استدامة سماعهن ما يُتلى في بيوت النبي " من آيات الله والحكمة، وذِكر ذلك، ونشره بين الناس، لاسيما نساء الصحابة _رضي الله عنهم_.
وأيّة فائدة تُرجى لهن أو لغيرهن من طلاقهن وهن أمهات المؤمنين؟ أي تحريماً وتعظيماً على الرجال كالأمهات.
فأنت ترى أنَّ النبي " قد قُصِر على أزواجه الطاهرات، وحُرِّم عليه أن يمد عينيه إلى غيرهن بالزيادة أو التبدل، بخلاف رجال أمته الذين أبيح لهم التعدد بشروطه، وكذا التطليق، وأن يستبدلوا بأزواجهم غيرهن، إذاً فقد قصر النبي " على دائرة ضيقة من الأزواج، وكانت الأمة في دائرة أوسع منها.
أهذا الذي يسمونه تمتعاً بالنساء أو الأزواج؟
نساء كلهن ثيبات _ عدا السيدة عائشة _ ومنهن من لها أولاد،تزوجهنَّ _صلوات الله عليه_ في سن الكهولة أو الشيخوخة، وحين الحاجة إلى التبليغ والتعليم، وربما كان التزوج بهن كلهن قبل نزول آية التحديد بأربع نسوة، فهي قد نزلت في السنة الثامنة للهجرة، وكان تزوجه بآخرهن ميمونة بنت الحارث الهلالية في أواخر سنة سبع منها، وحرم عليه تطليقهن؛ لأنهن قد اخترن ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا وزينتها، على أنهن قد صرن أمهات المؤمنين، فما الفائدة من طلاقهن وهن حرام على الرجال؟ أوليست الحكمة في بقائهن عند هذا الزوج الكريم، والرسول العظيم متعلماتٍ، ومعلماتٍ، ومُثلاً عليا في البر والتقوى وسائر الصالحات؟ بلى ثم بلى.








سادساً: مقالات في العادات والعبادات

23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي
25_ لبيك اللهم لبيك: للشيخ محب الدين الخطيب
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين


الناس والعادات( ) للشيخ علي محفوظ

من العادات الممقوتة: تساهل المسلمين في دخول بعضهم على بعض، واختلاط الرجال بالنساء مع عدم الحجاب.
وهي بدع محرمة بالكتاب والسنة، قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)]النور.
فرعايةً لحرمة النساء، وصوناً للأعراض، ومحافظةً على حقِّ المسلم في التمتع بما أباح الله له من الحرية في بيته حرم الله _ عز وجل _ على كل مؤمن أن يدخل بيتاً غير بيته قبل أن يستأذن أهله ويسلم عليهم، فإن أذنوا في الدخول دخل وإلا رجع.
وذلك أن كل إنسان في مسكنه له حالات خاصة قد لا يحب أن يطلع عليها أحد من الناس، ولو كان ألصق الناس به وأقربهم إليه.
فلو أبيح للطارق أن يقتحم البيت على أهله من غير استئذان لفاجأهم بما يكرهون، ودهمهم بما يؤلمهم.
وقد يطلع على ربة البيت وهي مكشوفة الرأس عارية بعض البدن، وفي ذلك _ زيادة على الفتنة له والإيذاء لصاحبه _ ما لا يخفى من العواقب السيئة والنتائج المحزنة، ولهذه الحكمة الجليلة بعينها حرمت الشريعة الغرَّاء على الإنسان أن ينظر في بيت غيره قبل الاستئذان، حتى قال الإمام الشافعي ×: لو فقئت عينه في هذه الحالة فهي هدر؛ تمسكاً بحديث سهل بن سعد ÷قال: اطلع رجل من جحر _ ثقب مستدير _ في حجرة النبي "ومع النبي "مِدْرًى يحك بها رأسه _ بكسر الميم وسكون الدال وتنوين الراء حديدة يسرح بها الشعر، وقال الجوهري: شيء كالمسلة يكون مع الماشطة تصلح بها قرون النساء _ قال ": =لو أعلم أنك تنظر لطعنت به _ أي المدرى وهو يذكر ويؤنث _ في عينيك إنما جعل الاستئذان _ أي شُرِع _ من أجل البصر _ لئلا يقع على أهل البيت ويطلع على أحوالهم _+ رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي.
فتحصَّل من هذا أن السِّرَّ في إيجاب الاستئذان هو ***** الأعراض، والمحافظة على القلوب وقد وردت السنة بلزوم تكراره ثلاث مرات؛ حتى يتمكن أهل البيت من إصلاح شؤونهم، وستر أمورهم.
ففي الحديث الشريف عن النبي ": =الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردُّون+.
وقال ": =إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له فليرجع+.
ولا تظن أن الاستئذان خاص بالأجانب دون الأقارب؛ فإن الخطاب في الآية عام لجميع المؤمنين فيستوي فيه القريب والأجنبي ويلزم به الأب، والابن، والعم، والخال، جاء رجل إلى النبي "فقال: =أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال الرجل: إنها لا تجد من يخدمها غيري أفأستأذن عليها؟ فقال ": أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن+ وفي ذلك غاية الأدب والكمال.
وكذلك ألزم الله المملوك أن يستأذن على سيِّده، والصبي الحر على مخدومه في أوقات ثلاث هي مظنة لكشف العورات قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ]النور: 58.
وأباح الدخول بدونه فيما عداها للخادم مملوكاً أو صبيّاً، فإذا جاوز الطفل حدَّ الطفولة، وبلغ مبلغ الرجال لزمه الاستئذان على مخدومه في عموم الأوقات كسائر الأجانب قال _ تعالى _: [وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] النور: 59.
بهذه الآداب العالية أدَّب الله المؤمنين؛ لتظلَّ قلوبهم نقيَّة من دنس الشهوات، سليمة من الضغائن والأحقاد.
وهذا هو السر في أن الشارع الحكيم أمر الرجال والنساء جميعاً بغض البصر، والبعد عن مواطن الشكوك والريب؛ حيث كان النظر بريد الزنا، ورائد الفتنة، ورسول الفساد والفجور.
وحرم على النساء المسلمات أن يظهرن زينتهن، أو يطلعن الرجال الأجانب على شيء من عوراتهن ومحاسنهن؛ لما في ذلك من الفتنة، وانتشار الفاحشة بين المسلمين، ووقوعهم في مقت الله وغضبه قال _ تعالى _: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] النور: 30_ 31.
فأنت ترى في هذه الآية الحكيمة أن الله _ تعالى _ قد حرَّم على الرجال النظر إلى النساء الأجنبيات، وحرَّم على النساء كشف العورات وإظهار الزينات؛ درءاً للمفاسد والفتن، وقطعاً لأطماع النفس الأمارة بالسوء، وحرصاً على سلامة القلوب من الأذى؛ ليدوم الوفاق ويبقى التضامن.
وبهذا يظهر لك السر في أن الدين الإسلامي قد حرَّم على الرجل مسَّ الأجنبية كما حرَّم عليه مخالطتها والخلوة بها؛ لأن الفتنة في هذا أشد، والمفسدة به أعظم، والشر فيه أقرب، روى الطبراني بسند صحيح أن رسول الله _ صلوات الله وسلامه عليه _ قال: =لأنْ يُطْعَن في رأس أحدكم بمخيط خير له من أن يمسَّ امرأة لا تحل له+.
وروى _ أيضاً _ أن رسول الله _ صلوات الله وسلامه عليه _ قال: =إياكم والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا ودخل الشيطان بينهما، ولأنْ يزحم رجلاً خنزير متلطخ بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكب امرأة لا تحلُّ له+.
وهو صريح في منع الاحتكاك بالمرأة الأجنبية.
فتبين لك من مجموع هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الدين القويم قد جعل بين المسلم وبين الفسوق سدّاً منيعاً من الآداب، وحصناً حصيناً من الأوامر والنواهي؛ فهل تأدب المسلمون في هذا العصر المفتون بما أدبهم الله به؟ وهل ابتعدوا عما نهاهم الله عنه؟ وهل تحرزوا مما حذرهم رسول الله "منه؟ وهل عنوا بتعليم نسائهم وبناتهم ما يخصهم من آداب الشرع وأحكام الدين؟ وهل باعدوا بينهم وبين الفجَّار والمفسدين؟.
كل ذلك لم يكن؛ ولذا ترى الشر ينمو والفساد ينتشر، والاختلاط بين الرجال والنساء يزداد يوماً عن يوم، والجهل بدين الله يضرب أطنابه في الأسر الإسلامية حتى أصبحنا ونحن في تدهور أخلاقي، وانحلال اجتماعي ينذرنا بأسوأ العواقب، وأفدح الخطوب.
انظر إلى بيوت الأغنياء تجدها قد زالت من أكثرها الصبغة الإسلامية، وحلَّت محلَّها العادات الفرنجية التي لا تتفق مع أحكام الدين ومحاسن آدابه في شيء، ولا تلتئم مع العفاف وال***** بحال من الأحوال.
ترى ربة القصر هناك تخالط خدمَها وحشَمَها وتظهر أمامهم بما أمرها الدين بستره عن الرجال من حليها وزينتها، والسيد الكريم يرى ذلك ولا ينكره ولا يغار له؛ كأن الخادم في نظره جماد لا يهز قلبه سحر الجمال، أو معصوم عن الخنا لا يفتنه النظر إلى ربات الحجال.
ترى سائقي العربات والسيارات وهم يذهبون بالعقائل والمخدرات للرياضة في مختلف الأماكن البعيدة وليس هذا إلا خلوة بالأجنبيات، يعدها الشرع الشريف من كبائر المنكرات.
ثم انظر إلى بيوت المتوسطين والفقراء تجد المرأة تخالط أقارب زوجها، وأولاد أعمامها، وأخوالها، وأولاد جيرانها، وقد تظهر أمامهم في ثيابها الرقيقة أو القصيرة حاسرة عن رأسها كاشفة عن ذراعيها وصدرها كأنها ليست من جماعة المسلمين.
وربما ظهرت بهذا المنظر الفاضح للسَّقَّاء، واللَّبَّان، والطَّحَّان، والفرَّان، ولباعة الفواكه والخضروات المتجوِّلين في الأزقة والحارات.
وكان حقًّا عليها _ لو أنها حافظت على آداب دينها _ أن تحتجب عن هؤلاء وأمثالهم؛ اتقاءً للفتنة، وتباعداً عن الفساد والشر؛ فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، وقبيح أن تكون نساء المسلمين على هذا الحال بعد أن أوجب الله عليهن في كتابه الكريم أن يسترن زينتهن عن أنظار الرجال جميعاً ما عدا أزواجهن، والمحارم من أقاربهن، ومن يأمَنَّ فِتْنَتَه من أتباعهن ومماليكهن، قال _تعالى_: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ] (النور: 31)
وأقبح من ذلك أن يجترئ الرجال على انتهاك حرمات الله _ تعالى _ بالدخول على النساء بعد أن ألزمهم الله _ عز وجل _ برعاية الحجاب الذي هو الضمان الوحيد للعفاف والطهارة خصوصاً في هذا الزمان الذي كثر فيه الفسوق والعصيان.
قال _ تعالى _: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ].
وقال _ صلوات الله وسلامه عليه _: =إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ فقال ": الحمو الموت+ متفق عليه.
استفهم الأنصاري عن الحمو _ وهو قريب الزوج كأخيه وابن أخيه وابن عمه_ أيمنع من الدخول على النساء كما يمنع غيره من الأجانب والغرباء؟ فأجابه النبي _ عليه الصلاة والسلام _ بأن دخول الحمو على الزوجة أشد بلاءاً وأعظم فتنة من دخول غيره؛ لأنه قد يستخدم صلته بالزوج في تنفيذ مقاصده السيئة، ومآربه الخبيثة، وإن مثله في فك روابط الزوجية وإفساد نظام الحياة المنزلية كمثل الموت في إبطال حركة الأجسام، وتفريق أجزاء الأبدان.
ولقد صدق رسول الله "فكم شاهدنا من بيوت قد خربت بعد عمرانها، وأُسَرٍ قد اختلت بعد تماسك وَحْدَتِها وحسن نظامها، وكم رأينا من محبة وصفاء قد تحولا إلى عداوة وجفاء، ولم يكن لذلك من سبب إلا اختلاط الأجانب وأقارب الأزواج بالزوجات؛ فهل آن للمسلمين أن يستبدلوا الشك باليقين، ويتبصروا في عاقبة التساهل، ويأخذوا بآداب الدين ويتخلقوا بأخلاقه؟
هل آن لهم أن يفيقوا من سكرتهم، ويتنبهوا من غفلتهم؛ فيعلموا أن فلاحهم موقوف على الرجوع إلى أحكام دينهم، وعلى العمل بسنة نبيهم؟ هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيل.


فلسفة الصيام( ) لمصطفى صادق الرافعي( )

لم أقرأ لأحدٍ قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعته للجسم، وأنه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره _ فقد فرغ الأطباءُ من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبَّةً تؤخذ في كل سنة مرةً؛ لتقوية المعدة، وتصفية الدم، وحياطة أنسجة الجسم.
ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملةً على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغير الحوادث وتَبَدُّلها، ولكيلا تجهل الدنيا معانيَ الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.
من معجزات القرآن الكريم أنه يدَّخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليِّها لوقتها حين يضجُّ الزمانُ العلميُّ في متاهته وحيرته، فيشغَب على التاريخ وأهله مُسْتَخِفَّاً بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة؛ ليستخلصَ من بين كفرٍ وإيمان ديناً طبيعياً سائغاً، يتناول الحياة أوَّل ما يتناول، فيضبِطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية؛ ليحقِّق في إنسانيته العالَم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمُها المذاهب الاجتماعية، ولم يهتد إليها مذهبٌ منها ولا قاربها؛ فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين يدي علمائها: لم يحققوها، ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها: تبدأ من حيث تبدأ، ثم تنتهي لا تنتهي إلاَّ إلى حيث تبدأ....
يضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجزَ مَنْ يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه، ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهبَ كتب ورسائل، ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاماً علمياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة؛ فهذا الصوم فقرٌ إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضاً؛ ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً، كما يتساوى الناس جميعاً في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي تفرضه على من استطاع.
فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم، وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض، وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورةٍ مدَّ البطن مدَّه من قوي الهضم فلم يُبْقِ، ولم يَذَرْ.
ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد، وحسٌّ واحد، وطبيعة واحدة، ويُحْكِمُ الأمر؛ فيحول بين البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصيبة في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة.
وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعَلِّم الرحمة، ويدعو إليها، فَيُشْبِع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك التي يكون عنها مساواة الغنيّ للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته.
ومن هذين: الاطمئنانِ والمساواةِ يكون هدوءُ الحياة بهذه النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني.
وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقيَ هذا المذهب كلُه عبثاً من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم؛ إذ يبالغ أشدَّ المبالغة، ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء، وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
ومتى تحققت رحمةُ الجائع الغني للجائع الفقير أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحَكَمَ الوازع النفسي على المادة، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: =أعطني+، ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفرَّ من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى مَنْ كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية؛ التي تقضي أن يُحذَف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة؛ ليحلَّ في محله تاريخ النفس؟
وأنا مستيقنٌ أن هناك نسبةً رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس، كأنه الشهر الصحيُّ الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم.
ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني، وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق، إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف الأول من الشهر، كأنها (مدّ) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها (الجَزْرُ) في النصف الثاني؛ حتى كأن للدم إضاءةً وظلاماً.
وإذا ثبت أن للقمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدِّ الدم وجزره( ) فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمرياً دون غيره.
وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو _ مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها _ إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة، والإنسانية والبر.
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة، وتقويتها بهذا الأسلوب العلمي، الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذةِ حيوانيته، مُصِرّاً على الامتناع، متهيئاً له بعزيمة، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مزاولاً في كل ذلك أفضل طريقةٍ نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحوَّل، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراك هذه القوة من الإرادة العلمية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم؛ ففي هذين تعرض الفكرة مارَّةً مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض؛ لتستقر، وتتحقق؛ فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرضت فرضاً لتربية إرادة الشعب، ومزاولته فكرة نفسيةً واحدةً بخصائصها وملابساتها حتى تستقر، وترسخ، وتعود جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمرُّ برأسه مراً.
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العلمية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مُذْعنةً لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرَّفَةً بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها؟
أما والله لو عمَّ هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعاً لآلَ معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة؛ لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية؛ ليتدارسها أهل الأرض دراسة علميةً مدةَ هذا الشهر بطوله؛ فيهبط كل رجل، وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها؛ ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه _ لا في الكتب _ معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء، والحرية، والمساواة.
شهرٌ هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أَنفسكم لا منْ أيامي، ومنْ طبيعتكم لا منْ طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغةِ السمو، يَتَعهَّد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما أُلزمت معاني التقوى كما ألزمها هو.
وما أجمل وأبدع أن تظهرَ الحياة في العالم كله _ ولو يوماً واحداً _ حاملة في يدها السُّبحة! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟
إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس، وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي، ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها _ إلى قانون من باطنها نفسه يُطهِّر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصْرِفُها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافيةً مشرقةً بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعوَ إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفِكَرِ الأخرى.
والنفس في هذا الشهر مُحْتََسَبَة في فكرة الخير وحدها؛ فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها، ولهو _ والله _ أَشْبَه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائلَ لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أنْ يُكْسِبَهَا الصلابة والانكماش والخفَّة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
وعجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدَّخر فيه الجسم من قواه المعنوية؛ فيودعها مصرف روحانيته؛ ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة.
عجيب جداً أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8,5 في المائة، فكأنه يسجل في أعصاب حساب قوته وربحه، فله في كل سنة زيادة 8,5 من قوته المعنوية ********ة.
وسِحْرُ العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدَّخر هذه القوة، وتوفِّرها؛ لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سرُّ أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد، والأسلحة، والذخيرة.
كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم، فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]البقرة: 183.
وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى (التقوى)، أما أنا فأوَّلتُها من (الاتِّقاء)؛ فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألاَّ يُعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة، ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسانٌ مع إنسانٍ كحمارٍ مع إنسان: يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه؛ فإنَّ ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي( ).
وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر؛ ل*** منفعة، واتقاء رذيلة؛ ل*** فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهةً فلسفيةً عاليةً، لا يأتي البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجزَ ولا أكملَ من لفظها، ويتوجَّه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه =قانون البطن+...
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان ! لو عرفك العالم حق معرفتك لسَمَّاكَ: =مدرسة الثلاثين يوماً+.


لبيك اللهم، لبيك!( ) للعلامة محب الدين الخطيب

صوت القدس يصدر اليوم من أفئدة مائة وخمسين ألف مؤمن جمعتهم ساحة عرفات، فدوَّت به أرجاؤها، ورددت صداه جبالها، وحملته الآفاق إلى ثلاثمائة مليون مسلم انتشروا في أنحاء العالم الإسلامي؛ فاشتركوا مع إخوانهم في إرسال هذا الصوت من الأرض إلى السماء؛ إشعاراً بالعروة الوثقى التي عقدها بينهم دين التوحيد، وشكراً لله على ما أنعم به عليهم من نعمة الهدى والرشاد.
إن قلوب المسلمين تتجه اليوم بما فيها من نور وإيمان إلى موقف تجرد الناس فيه لربهم، وتساووا فيه جميعاً، فلا يتميزون بثيابهم، ولا تفرق بينهم مظاهر الدنيا.
وإذا علا بعضهم على بعض بشيء فبمبلغ الإخلاص الذي تصدر به كلمة =لبيك اللهم لبيك+ من صميم الفؤاد.
لقد دعانا الله لأن نكون أمة صدق، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من كان أكثرَنا إخلاصاً حين يجيب نداء ربه قائلاً: =لبيك اللهم لبيك+.
ولقد دعانا الله لأن نكون أمة سعي، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من كان أقوانا عزيمة حين يجيب نداء ربه قائلاً: =لبيك اللهم لبيك+.
ولقد دعانا الله لأن نكون أمة عزيزة بين الأمم، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من كان أكثرنا عملاً لإعزاز هذه الأمة حين يجيب نداء ربه قائلاً:=لبيك اللهم لبيك+.
ولقد دعانا الله لأن نكون من أهل الفلاح، وإن أعلانا منزلة عند الله والناس من يذكر أن من واجبه العملَ لفلاح أمته كلما سمع المؤذن يقول: =حي على الفلاح+ وكلما تصور هذه المعاني فقال: =لبيك اللهم لبيك+.
ولقد دعانا الله لأن نعد ما استطعنا من قوة، وإن أصدقنا إسلاماً من يحاسب نفسه على ما عمل من هذه الناحية، فيذكر ذلك مغتبطاً إذا أجاب نداء ربه فقال: =لبيك اللهم لبيك+.
أيها المسلمون، إن الأمر قد حزبكم في أضيق وقت، وإن الأخطار قد حفت بكم من كل جانب، وإن دينكم بريء من كل ما حاق بكم من ذل، وبكل ما نزل بكم من خطب، وبكل ما ابتليتم به من فقر وفاقة وعجز؛ لأن الله قد أرشدكم بهذا الدين إلى أن تكونوا أعز الأمم، وهداكم به إلى ابتغاء الجلادة( ) والسعادة من أقرب الطرق وأشرفها.
فإن كنتم قد فاتكم قبل اليوم أن تعملوا بهدايته، فأدبكم بالمصائب فقولوا مع شاعركم:
جزى الله المصائب كل خير
. . . . . . . . . . . . .

وارجعوا إلى ربكم رب الهدى والرشاد، ارجعوا إلى دينكم دين العز والقوة والسداد، انسوا السفاسف التي ألفتموها، وترفعوا عن المنافع الخسيسة التي صرتم لا تقيسون الأمور إلا بمقياسها، وذوبوا في الحق، واكتبوا سجلَّ اليوم الوقفية التي تجعلون بها أشخاصكم وقفاً على عز الإسلام ونهوضاً بالمسلمين؛ فإنكم إن تفعلوا يكتب الله لكم ذلك عنده وعند خلقه في الدرجات العلى، وتكونوا عنده وعندهم أسمى وأكبر مما لو عملتم للمنافع الخسيسة والسفاسف الصغيرة.
وإذن فلن يحول الحول، فيأتي مثل هذا اليوم المبارك من العام القادم حتى تكونوا سائرين في طريق السعادة والسيادة، وتكونوا من أهل الصدق والإخلاص تنادون ربكم: =لبيك اللهم لبيك!+.
هيا تعالوا نتعاهد على هذا، ونجعل الله عليه خير الشاهدين.


روح المجالس ( ) للأستاذ أحمد أمين

لعل للمجالس روحاً كالتي للأفراد، فقد تكون روح المجلس مرحة فكهة، وقد تكون مُتَزَمِّتَةً جامدة، ثم قد تكون أحياناً خفيفة رقيقة، وأحياناً ثقيلةً غليظة، ثم قد تكون أحياناً ضاحكة مستبشرة، وأحياناً عابسة مكتئبة.
وروح المجالس كروح الأفراد، صعبة التعريف، غامضة التعليل، فمن أين تتكون؟ هل تتكون من روح الأفراد الذين يضمهم المجلس؛ فتكون روح المجلس حصيلة روح الأفراد؟
الظاهر أن ليس الأمر كذلك؛ لأنا نرى أن روح المجلس تتأثر أكثر ما تكون بفرد أو فردين؛ لامتيازهما بشخصية قوية أكثر مما تتأثر ببقية الحاضرين؛ فإنا نرى المجلس يحضره نابغة في الفكاهة؛ فتكون روح المجلس فكهة ضاحكة، حتى ليضحك الحاضرون من أتفه شيء وأخف نكتة، ويضفي هذا النابغة على المجلس من روحه حتى تتلاشى كل روح ما عداه.
وقد يكون في المجلس نابغة في العقل أو في التفكير؛ فيصطبغ المجلس كله بروح العقل والتفكير مهما كان فيه من أشخاص قليلي العقل قليلي التفكير.
فليست روح المجلس حصيلة روح الحاضرين إلا إذا قلنا إنها تتكون من الحاضرين، ولكن لا بمقدار واحد، بل بمقدار ما لهم من شخصية قوية أو ضعيفة.
وتختلف روح المجلس كذلك باختلاف طبائع الحاضرين؛ فالمجلس إذا تكون من نساء فقط كان له روح خاصة غير روح المجلس إذا تكون من رجال فقط، وهما غير روح المجلس يتكون من رجال ونساء، وروح مجلس الصبيان غير روح مجلس الشبان غير مجلس الشيوخ، فكل مجلس يستمد روحه من طبيعة نوع أفراده.
وشيء آخر: وهو أن روح المجلس ليست تعتمد على روح أعضائه فقط، بل على مزاجهم _أيضاً_ لذلك نرى أن المجلس قد يضم أفراداً معينين فيكون فكهاً مرحاً مرة، وعابساً مكتئباً مرة أخرى، والحاضرون هم هم، لم يزد عليهم، ولم ينقص منهم، ولكن اختلف مزاجهم، فكان مرَّة مزاجاً فكهاً، ومرَّة مزاجاً عابساً، فاختلفت روح المجلس باختلاف أمزجتهم.
ومن العوامل _أيضاً_ في تكوين روح المجلس موضوع الحديث، فقد يثقل الحديث وقد يَخِفّ؛ فتكون روح المجلس ثقيلةً أو خفيفة.
وقد يكون موضوع الحديث خفيفاً لطيفاً؛ فتخف روح المجلس وتلطف.
وأكبر دليل على ذلك أن المجلس قد يتغير حاله، وتختلف روحه مع بقاء الجالسين كما هم لم يزيدوا ولم ينقصوا؛ لتنقلهم في موضوعات مختلفة؛ فقد يثيرون موضوعاً فكهاً يستخرج الضحك من أعماق صدورهم؛ فتستولي على المجلس روحٌ فَكِهَةٌ ضاحكة، ثم ينتقلون إلى حديث ديني وقور فيتوقر المجلس، ويتوقر الروح، وقد ينتقلون بعد ذلك إلى حديث آسف حزين؛ فتحزن نفوسهم، وتتغير روح المجلس إلى روح حزينة، وهكذا...
بل إن مكان المجلس، وزمانه عاملان كبيران في روحه، فإذا كان المجلس في بستان على نهر، والشمس ساطعة، والجو جميل، والمناظر فاتنة _ اكتست روح المجلس من هذا المنظر واصطبغت بصبغته.
وعلى العكس من ذلك إذا كان المجلس في حجرةٍ ثقيلةٍ في أثاثها، وَخِمَةٍ في هوائها فإن هذا المكان يشع ثقلاً على الروح، وانقباضاً في الصدر، وكذلك شأن الزمان؛ فالسمر لا يحسن إلا ليلاً، فإن أنت عقدت مجلس سمر قبيل الظهر أو بعد الغداء كان المجلس أثقل ما يكون.
كذلك يتحكم في روح المجلس عدد الحاضرين، فالمجلس من اثنين له روح غير روح المجلس من ثلاثة، وللأربعة روح غير روح الخمسة، فإذا زاد العدد زيادة مفرطة ضاعت الروح ولم يعد مجلساً، بل كان جماعة.
بل إن المناظر الطبيعية الجميلة تختلف روح مجالسها، فجلسة القمر تحتاج إلى هدوء وتفكير في الفلسفة، ومنظر البحر الهائج يعدي النفوس؛ فتحتاج إلى مجلس هائج ونفوس متحركة، وكذلك قل في منظر الزرع والشجر، أو قمم الجبال، أو طلوع الشمس، أو غروبها في البحر؛ فكلّ من هذا لا يناسبه إلا منادمة خاصة، وحديث خاص، وإلا فسد الطعم وساء الذوق.
وكما تموت روح الفرد قد تموت روح المجلس، فقد ترى جماعة اتخذوا شكل مجلس، ولكنه مجلس بلا روح، كمجلس لا تعارف بين أصحابه، أو هم متعارفون ولكنهم متناكرون، أو هم متعارفون متحابون ولكن انقبضت صدورهم لسبب ما؛ فنفروا من الحديث ولجأوا إلى الصمت، فإن شئتَ فقل في هذا المجلس إنه مجلس بارد، وإن شئتَ فقل إنه مجلس ميت.
كل هذا أدركه من قبلنا، ولكن لم يعبروا عنه تعبيراً، فقد أدركوا المعنى الجزئي ولم يدركوا ما نسميه اليوم روح المجلس، والأدب العربي مملوء بهذه النظرات.
ومع ذلك كله فلا تزال روح المجالس يكتنفها الغموض، شأنها شأن روح الأفراد، فقد تتفتح روح الفرد، وتنتعش، وتغمر بالسرور من غير سبب واضح، وقد تنكمش، وتنقبض، ويعلوها الحزن والضيق من غير سبب واضح _ أيضاً _.
كذلك الشأن في روح المجلس، قد يجتمع إخوان على أصفى ما يكونون روحاً وتجانساً وألفة، وتتهيأ جميع ظروف الزمان والمكان ويتنبؤون جميعاً بمجلس سار ممتع، وإذا روح المجلس تنقلب ثقيلة بغيضة كريهة كأسوأ ما يكون.
وقد يخلو المجلس من شروط صفائه وم***ة سروره، ثم يكون مجلساً ساراً ممتعاً، كل ذلك لأسباب قد تعرف وكثيراً ما تجهل.










سابعاً: مقالات في السياسة والاجتماع

27_ الدهاء في السياسة: للعلامة محمد الخضر حسين
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي
31_ المجاهدون الأولون: لمحب الدين الخطيب



الدهاء في السياسة( ) للعلاَّمة محمد الخضر حسين

بدا لي أن تُلْقَى في هذا الاحتفال كلمة ولو على وجه الذكرى، وكان على المكتب أمامي أوراق مبعثرة، فمددت إليها يدي لعلي أجد ما لا يكون في إلقائه على مسامعكم الزكية من بأس، فوقعت يدي على كلمة كنت جمعتها في حال اقتضى جمعها، ورأيتها الآن غير نابية عن هذا المقام، فتفضلوا بسماعها:
الدهاء: جودة الرأي التي تمكن السياسي من أن يدير نظاماً، أو يكشف عن وجه قضية بأسلوب لطيف، فغير الداهية ينبذ إلى الباطل على سواء؛ فتكون الحرب بينهما سجالاً، والداهية ينصب له المكيدة، فيقع كما يقع الأسد في الزبية( ) العميقة، ومن لم يكن داهية لا يمشي إلى الغرض إلاَّ على خط مستقيم، فإذا اعترضته عقبة كؤود وقف في حيرة أو رجع على عَقِبه يائساً، والداهية يسير في خطٍّ منحنٍ أو منكسرٍ ولا يبالي بطول المسافة في جانب الثقة بإدراك الغاية المطلوبة.
يقوم الدهاء على فطرة الذكاء التي هي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى المقاصد الخفية.
والإفراط فيه الذي يعد عيباً في صاحب السياسة إنما هو اختطاف صورة الأمر أو النتيجة من غير تثبيت في مأخذها، أو إحاطة بكنهها؛ إذ الشأن فيمن تضرب أشعة فكره في المعاني البعيدة أول ما يلتفت إليها لا يطيل البحث عن أسرارها أو يستوفي النظر إلى آثارها.
فمن لم ينظر في الشؤون العامة بفكر ثاقب، ضاع من بين يديه كثيرٌ من المصالح، ووقع في شراك الخداع والمخاتلة، وكم من أمة قضى عليها بَلَهُ زعمائها أن تعيش في هاوية الذل ونكد الحياة.
وإنما استقام ظهر الخلافة لعهد عمر بن الخطاب؛ لأنه كان _ مع سلامة ضميره وصفاء سريرته _ نافذَ البصيرة في السياسة، بعيدَ النظر في عواقبها.
قال المغيرة بن شعبة: كان عمر أفضل من أن يَخْدَع، وأَعْقَلَ من أن يُخدَع.
السياسة فنون شتى، والبراعة في كل فن تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والدَّرَبَةِ في مسالكه، فهذا خبير بسياسةِ الحرب، وبصيرتُه في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا، ويجري النظاماتِ بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خَرَجْتَ به؛ ليخوض في صلة أمة بأخرى ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكْنَة، وربما جنح إلى السِلم والحربُ أشرف عاقبة، أو أَذَّن بحرب والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة؛ فلابُدَّ للدهاء في فن سياسي من الوقوف على شيء من سننه، إمَّا بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب الملوَّح إليها بقول أبي تمام:
من لم يُقَد ويطيرَ في خيشومه
رهجُ الخميس فلن يقود خميسا









أو بتلقيها على طريق النقل، كدراسة فن التاريخ، أو الكتب المؤلفة في ذلك الفن من السياسة خاصة.
ولا يملك مزية الدهاء في السياسة، إلا من كان في استطاعته كتمُ تأثراته النفسية من غضب وسرور، ومودَّة وبغضاء، ولهذا يقول الأدباء: إنَّ أحكم بيت قالته العرب:
ولَرُبَّما ابتَسَم الكريمُ من الأذى
وفُؤَادُه مِنْ حَرِّه يَتَأَوَّهُ











فأناة الرئيس ورصانته هي المنبع الذي تُسقى منه الأمةُ حريةَ الفكر، والسلَّم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة.
تسمح الحكومات الحرة للكتاب والخطباء أن يكشفوا عما في ضمائرهم ويجهروا بآرائهم، وتسيرُ معهم على مبدأ أنَّ الناس أحرار في آرائهم وعواطفهم.
فلا يسألون عنها، أو يؤاخذون بها متى كانت مباينة لمقاصد الرئيس، أو معارضة لمذهبه في السياسة، إلاَّ إذا وضعوا أيديهم في إجرائها، واندفعوا إلى العمل على نفاذها.
تعد الحرية البالغة هذا الحد في حسنات بعض الحكومات الحاضرة، وقد أدار عليها أمراء الإسلام رحى سياستهم منذ ألف وثلاثمائة سنة؛ فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: =والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي+.
يتلقى الأمراء نقد سياستهم وآرائهم بصدر رحب، وكثير منهم من إذا أنس في الأمة تهيباً كره أن ينقلب ذلك التهيب رهبةً تجرهم إلى إيثار الخَلق على الحق، ويدعوهم إلى ما دعا إليه عمر بن الخطاب في قوله: =أيما رجل عتب علينا في خلق فليؤذِنِّي+أي فليعلمني.
وكان المأمون يقول لأهل ناديه إذا جارَوه في كلام: =هلاَّ سألتموني لماذا ؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة+.
يطلق الأمراء العادلون للآراء أعنتها؛ لتعرض عليهم في أي صبغة شاءت، ويثقون في هذا التسامح بأن أمامها أفكاراً مستقلة وعقولاً راجحة، فتقبل منها ما كان حقيقة ناصعة، وترد الزائف على عقبه خائباً.
يدور على الألسنة قول ابن خلدون في مقدمة تاريخه: =إنَّ العرب أبعد الأمم عن سياسة الـمُلْك+.
يلهج بهذه المقالة بعض الأعجمين رامزين إلى أن العرب لا يليق بهم أن يعيشوا كما يعيش الرجل الرشيد يتصرف في بيته، ويدير مصلحته بنفسه، وتبسط طائفة أخرى النكير على هذا الفيلسوف قائلة: كيف يصف الأمة التي شادت تلك الدولة الكبرى بالبعد عن مذاهب السياسة؟.
والذي ينظر في الفصل المعقود لهذه المقالة من (المقدمة) يجد ابن خلدون يتكلم على الأمة العربية الطبيعية، حيث ذكر أن العلة في بعدهم عن إجادة السياسة اعتيادهم على البداوة، ونفورهم من سلطة القوانين، واحتياج رئيسهم إلى الإحسان إليهم وعدم مراغمتهم، والسياسة تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر.
ثم صرح ابن خلدون في هذا الفصل نفسه، بأن هذه الأمة بعد ما طلع عليها الإسلام، وفتح أبصارها في مناهج السياسة العادلة سارت فيها باستقامة، فعظم ملكها، وقوي سلطانها.
ويوافق ما قاله ابن خلدون من أنَّ العربي بعد مطلع الإسلام غير العربي في عصر الجاهلية أن سعد بن أبي وقاص أرسل نفراً منهم المغيرة بن زرارة إلى =يزدجرد+ فدارت بينه وبينهم محاورة أفصح لهم في آخرها عن تعجبه من ظهورهم في هذا المظهر العظيم بعد أن كانوا بمكانة من الجهل، فقال له المغيرة: إن ما وصفت به العرب من الجهل هو حق، إلا أنه قد كان ذلك قبل الإسلام.
وبعد أن انصرفوا قال لقائده رستم: =ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جواباً منهم+.
ركبتُ مرة القطار من بَرْلِين إلى إحدى قراها القريبة منها، وكان في رفقتي أستاذان من المستشرقين، فأخذا يتحاوران باللسان الألماني، ولم أكن أفقه من هذا اللسان يومئذ شيئاً، ثم أقبل عليَّ أحدهم وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون أن العرب لا يعرفون السياسة ؟ فقلت له: إنما يصف ابن خلدون العرب في حال جاهليتهم، وقبل أن يهتدوا بهدي الإسلام ويستنيروا بحكمته، فانقطع، وعاد إلى محاورة صاحبه.
ومن نظر إلى العربي في حال جاهليته، رآه مطبوعاً على خصلتين يُطوِّح به الغلو فيهما إلى ما ليس وراءه غاية:
إحداهما: اندفاعه للانتقام ممن هَضَمَ له حقاً، أو مسَّ جانبه بأذى.
وحُسْنُ السياسة يقتضي التأني، والإغضاء عن كثير من الهفوات.
ثانيتهما: إطلاقه لأيدي شيعته وعشيرته، وغضُّ الطرف عنهم إذا أخذهم الاعتزاز بجاهه، واضطهدوا حق ضعيف لا ينتمي إليه.
والسياسة تنافي الإفراطَ في معاضدة الأشياع والأحلاف، ولا تستقيم مع الانتصار وهم مبطلون.
وقد قاومت الشريعة الإسلامية هاتين الطبيعتين، وجاهدت فيهما حق جهادها، حتى أعدت لسياسة العالم أساتذة مثل عمر بن الخطاب الذي كان لا يراعي في إقامة الحق وكبح الباطل أشد الناس به صلة وأمسَّهم به رحماً.
ومثل معاوية بن أبي سفيان؛ فإنه كان يُرمى بالمطاعن، ويرشق بسهام الإنكار، فيُسرُّها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ الذي يتخبط كثيراً من المستبدين.
ومن دهاء عمر بن عبد العزيز أنه كان يرى في كثير من الأمور مصالح للرعية، ولكن كان يسلك في إجرائها طريقة التمهل والتدريج؛ حَذَرَ أن يثقل عليهم عبؤها، فيطرحوها عن ظهورهم، ويقعوا في عاقبة سيئة.
قال ابنه عبد الملك: =مالك لا تُنَفِّذ الأمور؟+، فقال: =لا تعجل يا بني؛ فإنني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة؛ فيدفعوه، وتكونَ فتنة+.
فلا يخرج السياسي عن مجرى الاستقامة حيث يرى في سيرة الأمة عوجاً يتعذر عليه تقويمه بالقوة؛ فيحجم عن مكافحته، ولكن يبذل حكمته في علاج ذلك المبدأ السقيم، حتى يأخذ صحته ولو بعد أمد طويل.
وقد بدأت السياسة في عهد معاوية لا تبالي أن تمر إلى الحق ولو على جسر من الباطل، كما قال زياد في بعض خطبه: قد علمنا أنا لا نصل إلى الحق إلا أن نخوض في الباطل خوضاً.
ويقول ابن خلدون: =إن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها+.
وذكر في توجيه هذه المقالة، أنهم معتادون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية، والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال، ويتبعها من الآثار.
وتحقيق هذا أنَّ العلم في نفسه لا يعوق صاحبه أن يدرك الغاية القصوى في السياسة، وإنما العلة التي تَقْعُدَ بالعالم عن البراعة في تدبير الشؤون العامة إنما هي انكبابه وعكوفه على القواعد، وما يتفرع عنها من الأحكام دون أن يضيف إليها الاطلاع على أحوال أهل العصر، ويفحص عما تقتضيه مصالحهم، وتستدعيه حاجتهم، ويغوص على الوقائع؛ فيتفقه في نشأتها، وما تصير إليه عاقبتها.
فما قاله ابن خلدون إنما ينطبق على حال العلماء الذين أنفقوا أوقاتهم في القضايا النظرية، ولم يضربوا بسهم في معرفة أسباب العمران وطبائع الاجتماع، وهذه الحالة هي الغالبة على أمرهم في عصر ابن خلدون، وما تقدمه بزمن طويل، ولاسِيَّمَا بعد أن وقفوا دون مرتبة الاجتهاد، وتهاونوا بالشطر الأهم من وظيفتهم وهو الدعوة إلى الإصلاح أينما كانوا.
وأما الذين يُقَدِّرون وظيفتهم حق قدرها، ويقومون بما قلدهم الله من مراقبة سير الأمة وإرشادها إلى وسائل الفلاح عن فكرة سليمة، وألمعية مهذبة _ فإنهم يسبقون _ بلا ريب _ إلى الغاية السامية في السياسة القيِّمة، ولا يكون العلم عثرة تهوي بهم في البله والجهل بتدبير شؤون الاجتماع، كما يدعي الذين يسمعون أو يسردون مقالة ابن خلدون على غير تدبر وروية.
وكان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية اهتَزَّ ذلك الوزير ارتياحاً، وضرب يمناه على يسراه قائلاً: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.


القضاء العادل في الإسلام( ) للشيخ العلامة: محمد الخضر حسين

أحاط الإسلام بضروب السعادة هداية وتعليماً , فدل على كل ضرب منها دلالة تقوم بها الحجة , وتَقْطَع عن الناس عُذْرَ الجهلِ به.
وله في هدايته درجات, فقد يرشد إلى الشيء دون أن يلهج به, أو يُلْحِفَ في الترغيب فيه, حيث يكون سهل المأخذ على النفس, أو يكون في طبيعة البشر ما يسوق إليه, كإحسان الوالد لولده, والسعي في الأرض؛ لابتغاء الرزق.
وقد يكون في الأمر ثقل على النفس، وصرف لها عن بعض شهواتها, فلا تكاد تقبل عليه إلا بعزم صميم, ونظر في العواقب بعيد, كإقامة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد.
وهذا ما يأمر به المرة بعد الأخرى, ويسلك في الدعوة إليه أساليب شتى؛ حتى يأخذ إليه النفوسَ على تفاوت هممها، واختلاف رغائبها, وكذلك ترى مسلكه في الدعوة إلى العدل في القضاء.
يتقدم الخصمان إلى القاضي وكثير ما يجد في نفسه ميلاً _ شديداً أو ضعيفاً _ إلى أحدهما, يميل إليه؛ لنحو قرابة, أو صداقة, أو وجاهة, أو غنى, أو يميل إليه؛ لأنه فقير, أو ضعيف, أو خصم لمن يناوئه .
وقلما استطاع القاضي في هذه الأحوال أن يضع الخصمين من نفسه في درجة واحدة إلى أن يفصل في القضية بما أراه الله من الحق.
تلك العواطف التي تثور في القاضي حال النظر في القضية هي في حكم المعفو عنه إلا أن يكون لها في رجحان أحد الخصمين على الآخر أثرٌ غيرُ ما تقتضيه البينةُ, وأصولُ الحُكْمِ .
شأنُ تلك العواطفِ أن تجاذبَ القاضيَ, وتناجيَه أن يَنْحُوَ بالحكم نحوَ منفعةِ المعطوف عليه, وعلى قدر العطف تكون هذه المجاذبة والمناجاة, ومتى قَوِيتا في نفس لا تخاف مقاَم ربِّها, ولم تكن على بصيرة مما في لباس العدل من زينة وفخار_ نبذت الحق وراء ظهرها, وانحدرت مع عاطفتها إلى هاوية الظلم, وما هاوية الظلم إلا حفرة من النار.
هذه العواطف التي تجاذب القاضي, وتناجيه أن يُرْضِيَ خصماً بعينه تجعل العدل في القضاء من قبيل ما يثقل على النفس, ويجمح عنه الطبع؛ فكان من حكمة الدعوة الإسلامية أن تُعْنى به عنايةً صافية, وتَدْخُلَ إلى الترغيب فيه من أبواب متعددة.
عُنيت الشريعةُ بالعدل في القضاء عنايتَها بكل ما هو دَعامةٌ لسعادة الحياة؛ فأتت فيه بالعظات البالغات : تُبَشِّرُ مَنْ أَقامَه بعلو المنزلة, وحسن العاقبة,وتُنْذِرُ مَنِ انحرف عنه بسوء المنقلب, وعذاب الهون.
فمن الآيات المنبهة لما في العدل من فضل قوله _ تعالى _: [وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ].
فقد أمر بالعدل, ونبه على أن خيراً عظيماً ينال الحاكم بالقسط هو محبة الله له, وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا والعيشة الراضية في الأخرى.
ومن الأحاديث الدالة على ما يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله _ تعالى _ قوله ":=إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن _ عز وجل _ وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا+( ).
وفي ذكر =الرحمن+ تربية للرجاء والثقة بأنَّ الحاكم العادل يجد من النعيم ما تشتهيه نفسه، وتلذه عينه، شأن مَنْ يكون قريبَ المنزلة من ذي رحمةٍ وسعت كلَّ شيء.
وإن شئتَ مثلاً من آيات الوعيد فانظر قوله _تعالى_: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ].
تجد الآية تنادي بأن الفَصْلَ في القضايا جرياً مع الأهواء ضلالٌ عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله مُلْقٍ في شديد العذاب.
ومن ذا الذي يستخف بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة، ويشتريه بمتاع من هذه الحياة؟ إلا من سفه نفسه، ولم ينفذ الإيمان إلى سويداء قلبه.
فلهذه الآية أثر بليغ في النفوس المطمئنة بالإيمان، كان أحمد بن سهل جاراً لقاضي مصر بكار بن قتيبة، فحدث أنه مرَّ على بيت بكار في أول الليل، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: ثم قمت في ***** فسمعته يقرؤها ويرددها؛ فلا عجب أن يكون بَكَّارٌ هذا من أعدل القضاة حكماً، وأشرفهم أمام أولي الأمر موقفاً.
ومن الأحاديث الواردة في الوعيد على الجور في القضاء قوله ":=من ولي من القضاء فقد ذبح بغير سكين+( )
ففي هذا الحديث تمثيل القاضي إذ يلاقي جزاءه في الآخرة بأشد الناس عذاباً في هذه الحياة، وهو المذبوح بغير سكين.
وهذا حالُ مَنْ يكون حظُّه من علم القضاء بخساً، أو يكون خلق العفاف في نفسه واهياً.
ويصح حمل الحديث على معنى الإشارة إلى صعوبة القضاء، حتى كأن القاضي مِنْ أجلِ ما يلاقيه مِنْ تَعَرُّفِ الحق وتنفيذه مِنْ مكاره ومجاهدةٍ للأهواء _ مذبوحٌ بغير سكين.
وهو بعد هذا مُشْعِرٌ بسمو منزلة القضاء؛ إذ كان القاضي العادل يضاهي القتيل في سبيل الله بما انقطع عنه من شهوات، وقاساه من آلام؛ يبتغي أجر الله، والله عنده أجر عظيم.
ومما جمع بين الوعد والوعيد قوله ":=القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار+( )
وَصَفَ هذا الحديثُ عاقبةَ مَنْ يقضي بالحق على بينة منه، وهي المصير إلى الجنة، وآذن بعاقبة مَنْ يقضي على جهل أو جور، وهي المصير إلى النار.
ولا يتناول هذا الوعيدُ العالمَ بأصول الشريعة يجتهد رَأْيَهُ فلا يُصيب الحق، ويقضي بما رأى.
قرأ الحسن البصري قوله _تعالى_:[ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً... الآية](الأنبياء:78_79).
وقال: لولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أنَّ القضاة هلكوا؛ فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.
وصف الإسلام ما في العدل من فوز، وأعلن بما في الحيف من شقاء، وكان قضاؤه " المثل الأعلى ل***** الحقوق، والتسوية بين الخصوم، ويكفي شاهداً على هذا أنَّه " أراد إقامة الحد على امرأة مخزومية سرقت، فخاطبتْ قريشٌ أسامةَ؛ ليكلم رسول الله " في إسقاط الحد عنها فقال _ صلوات الله وسلامه عليه _:=أتشفع في حد من حدود الله+! ثم قام؛ فخطب قال:=يا أيها الناس إنما ضلَّ من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها+.
رسم _ عليه الصلاة والسلام _ طريقَ العدلِ في القضاء قَيِّمَةً غيرَ ذات عوج، وزادها بسيرته العملية وضوحاً واستنارة؛ فاستبانت لأصحابه في أجلى مظهر، فاقتدوا بهديها الحكيم، وأروا الناس القضاء الذي يزن بالقسطاس المستقيم؛ انظر إلى قول عمر بن الخطاب ÷ في رسالته إلى أبي موسى الأشعري: =آس( ) بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك+.
كان للإسلام وسيرةِ الذين أوتوا العلم من رجاله أثرٌ في إصلاح القضاء كبيرٌ، ولا تُشْرِقُ المحاكم بنور العدل إلا أن يمسك زمامها رشيدُ العقل، راسخ الإيمان بيوم الفصل.
فتقوى الله تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة؛ حتى يتعرف الحق، ولا يأخذ بأول ما يلوح له من الفهم، وإن تيقنَ أن قضاءَه نافذ، وما له في الرؤساء من مُعَقِّب.
ومن أمراء الأندلس من كان يعزل القاضي متى رأى منه السرعة في فصل القضايا التي تستدعي بطبيعتها شيئاً من التروي؛ إذ يفهم من هذه السرعة عدمَ تحَرُّجِه من إثم الخطأ في الحكم.
وتقوى الله هي التي تقف القاضي في حدود العدل: لا يخرج عنها قيد أنملة في حال.
قيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي: ألا تؤلف كتاباً في أدب القضاء؟ فقال: =اعدل، ومد رجليك في مجلس القضاء، وهل للقاضي أدب غير الإسلام؟+.
وفي سيرة أبي عبدالله محمد بن عيسى أحد قضاة قرطبة أنه =التزم الصرامة في تنفيذ الحقوق، والحزامة في إقامة الحدود، والكشف عن البيان في السر، والصدع بالحق في الجهر، ولم يهب ذا حرمة، ولا داهنَ ذا مرتبة، ولا أغضى لأحدٍ من أرباب السلطان وأهله، حتى تحاموا حِدَّةَ جانبه، فلم يجسر أحدٌ منهم عليه+.
ونقرأ في وصف إبراهيم بن أبي بكر الأجنادي أحد قضاة مصر أنه =كان لا يَقْبَلُ رسالة ولا شفاعة، بل يصدع بالحق، ولا يولي إلا مستحقاً+.
وامتُحِنَ عبدُالله بن طالب _ أحد قضاة القيروان _ فكان يقول في سجوده وهو في السجن =اللهم إنك تعلم أني ما حكمت بجور، ولا آثرتُ عليك أحداً من خلقك، ولا خفت فيك لومة لائم+.
ووصف المؤرخون محمد بن عبدالله بن يحيى _ أحد قضاة قرطبة _ بأنه =لم يداهن ذا قدرة، ولا أغضى لأحد من أصحاب السلطان، ولم يطمع شريف في حيفه، ولم ييأس وضيع من عدله، ولم يكن الضعفاء قطُّ أقوى قلوباً ولا ألسنة منهم في أيامه+.
ومن القضاة العادلين مَنْ تُطْرح بين يديه قضية يدلي فيها أحد الخصمين بشهادة الخليفة نفسه، فيرد الشهادة في غير مبالاة، شهد السلطان با يزيد عند شمس الدين محمد بن حمزة الفناري قاضي الأستانة في خصومة رُفعت إليه، فرد القاضي الشهادة، ولما سأله السلطان عن وجه ردها قال له: إنك تارك للجماعة، فبنى السلطان عند قصره جامعاً، وعين لنفسه فيه موضعاً، ولم يترك الجماعة بعد ذلك.
ورفعت قضية إلى محمد بن بشير قاضي قرطبة أحد الخصمين فيها سعيد الخير عم الخليفة عبدالرحمن الناصر، وأقام سعيد بيِّنةً أحدُ شهودِها الخليفةُ نفسه، ولما قدم كتاب شهادة الخليفة إلى القاضي نظر فيه ثم قال ل**** سعيد: =هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بشاهد عدل+.
فمضى سعيد إلى الخليفة، وجعل يغريه على عزل القاضي، فقال الخليفة: =القاضي رجل صالح لا تأخذه في الله لومة لائم، ولست _ والله _ أعارضه فيما احتاط به لنفسه ولا أخون المسلمين في قبض مثله+.
ولما سُئل ابنُ بشير عن رد شهادة الخليفة قال:=إنه لا بد من الأعذار في الشهادة، ومن الذي يجترئ على القدح في شهادة الأمير إذا قبلت! ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه+.
فالإسلام يلقن القاضي أنه مستقل ليس لأحد عليه من سبيل، وقد قص علينا التاريخ أنَّ كثيراً من القضاة العادلين كانوا لا يتباطؤون أن يحكموا على الرئيس الذي أجلسهم على منصة القضاء حكمهم على أقصر الناس يداً، وأدناهم منزلة.
قال ابن عبدالسلام يصف القضاة العادلين: =وربما كان بعضهم يحكم على من ولاه، ولا يقبله إن شهد عنده+.
وقال المقري يصف القضاء في الأندلس: =أما خطة القضاء في الأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة؛ لتعلقها بأمور الدين وكون السلطان لو توجه عليه حكم حضر بين يدي القاضي+.
وحكم ابن بشير قاضي قرطبة على الخليفة عبدالرحمن الناصر في قضية رفعها عليه أحد المستضعفين من الرعية، وأبلغ الخليفة الحكم مقروناً بالتهديد بالاستقالة من القضاء إذا لم يُسلِّم الحكم، ويبادر إلى تنفيذه.
ومن القضاة العادلين مَنْ يرمي بالمنصب في وجه الدولة إذا أخذ بعض رجالها يتدخل فيما يرفع من خصومات، فعل هذا إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر حين تخاصم إليه رجلان، وأمر بكتابة الحكم على أحدهما، فتشَفَّع المحكوم عليه إلى الأمير، فأرسل إليه الأمير يسأله الرجوع، فقال: لا أعود إلى ذلك أبداً، ليس في الحكم شفاعة.
وفعل هذا برهان الدين بن الخطيب بن جماعة أحد قضاة مصر، عارضه محب الدين ناظر الجيش في قضية، فقال: لا أرضى أن أكون تحت الحجر، وصرف أتباعه، وصرح بعزل نفسه، وأغلق بابه، فبلغ أمره الملك الأشرف، فانزعج وما زال يسترضيه حتى قبل، واشترط أشياء تلقاها منه بالإجابة.
والرئيس الناصح يكبر القاضيَ الذي يأنس منه استقامة، ويعمل لإرضائه؛ حتى يصرفه عن الاستقالة.
أرسل أبو عبيد قاضي مصر أبا بكر بن الحداد إلى بغداد؛ ليستعفي له عن القضاء، فأبى الوزير علي بن عيسى بن الجراح أن يعفيه وقال: =ما أظنه إلا أنه كره مراقبة هلال بن بدر؛ لأنه شابٌ غِرٌّ لا يعرف قدره؛ فأنا أصرف هلالاً، وأولي فلاناً وهو شيخ عاقل يعرف قدر القاضي+.
والرئيس العادل يعجب بالعالم الذي دلته التجربة على استقامته عند الحكم، وتجرده من كل داعية غير داعية ظهور الحق، ويدعوه هذا الإعجاب إلى إقامته قاضياً بين الناس؛ أخذ عمر بن الخطاب ÷ فرساً من رجل على سوم، فحمل عليه فعطب، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال الرجل: إني أرضى بشريح القاضي، فقال شريح: أخذته صحيحاً سليماً، فأنت ضامن له حتى ترده صحيحاً سليماً، قال الشعبي _وهو راوي القصة_ فكأنه أعجبه؛ فبعثه قاضياً.
ولصعوبة القضاء من ناحية التثبت من الحق أَوَّلاً، والقدرة على تنفيذه ثانياً _ أبى كثير من العلماء الأتقياء أن يقبلوا ولايته، ورفضوها بتصميم يخشون أن يعترضهم في التنفيذ ما لا طاقة لهم بدفعه، أو يخشون الزلل عند النظر في بعض النوازل، وتَعَرُّف أحكامها؛ فإن إدراج الوقائع الجزئية تحت الأصول الكلية عسير المدخل؛ لكثرة ما يحوم حوله من الاشتباه؛ فكثير من الجزئيات تحتوي أوصافاً مختلفةً، وكلُّ وصفٍ ينزع إلى أصل، وقد يكون في الأصل الذي هو أَمَسُّ بالواقعة خفاءٌ لا ينكشف إلا أن يرددَ القاضيْ الألمعيُّ نظره، ويجهد في استكشافه رَوِيَّتَه.
عرض هارون الرشيد على المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث قضاءَ المدينة بجائزة قدرها أربعة آلاف دينار، فأبى، وقال: لأن يخنقني السلطان أحب إلي من القضاء.
ومن العلماء من يأبى قبولها، ويكون الأمير ممن يقدر قدره، ويراه أقدر أهل العلم على القيام بها؛ فيهدده بالعقاب، أو يسومه العذاب؛ ليكرهه على قبولها، ومنهم من يقبلها بعد التهديد البالغ، مثل عيسى بن مسكين أحد الفقهاء بالقيروان؛ عرف الأمير إبراهيم بن أحمد بن الأغلب من زهده في المناصب أنه يأبى ولاية القضاء، فأحضره وقال له: ما تقول في رجل جمع خلال الخير أردت أن أوليه القضاء، وألم به شعث هذه الأمة فامتنع؟
قال له عيسى بن مسكين: يلزمه أن يلي، قال: تَمَنَّع، قال تجبره على ذلك بجلد، قال: قم فأنت هو، قال: ما أنا بالذي وصفت، وَتَمَنَّع حتى أخذوا بمجامع ثيابه، وقربوا السيف من نحره، فتقدم لها بعد أمر خطير.
ولارتباط سعادة الأمة باستقامة القضاء جاز للرئيس الأعلى متى رأى في أهل العلم من هو أدرى بمسالكه، وأقدر على القيام بأعبائه _ أن يكرهه على ولايته بالوسائل الكافية، قيل للإمام مالك: هل يُجبر الرجل على ولاية القضاء؟ قال: لا، إلا أن لا يُوجد منه عوض فيُجبر عليه، قيل له: أيُجبر بالضرب والسجن؟ قال: نعم.
وطلب ابن الأغلب أمير القيروان الإمام سحنون لولاية القضاء فامتنع، وبقي نحو سنة يطلبه لها وهو يمتنع، حتى قال له حالفاً: لئن لم تتقدم لها لأقدمن على الناس رجلاً من غير أهل السنة؛ فاضطره هذا الحلف إلى قبولها.
ومن العلماء من يُطلب للقضاء فلا يُجيب إلا على شرط يصعب على رجال الدولة قبوله، ولا يسعهم إلا أن يتركوه، طلبوا أبا محمد بن أبي زيد لقضاء القيروان، وقطعوا دون قبوله كل عذر؛ فشرط عليهم أن يجعلوا لمن بين يديه من الأعوان ما يقوم بكفايتهم من بيت المال بحجة أن من واجب السلطان أن يوصل لكل ذي حقٍّ حقه، وليس على صاحب الحق أن يُعطي من حقِّه شيئاً( )، فاستكثروا ما يُنفق في هذا السبيل، وتركوه.
وإن شئت مثلاً يريك الاعتزازَ بالعلم والزهد في المناصب إلا أن يتيقن السير بها في استقامة _ فإليك قصةَ زيادِ بن عبدالرحمن: دعاه هشام عندما تولى الخلافة بالأندلس إلى القضاء، فأبى، وبعث إليه الوزراء، فلم يتخلص منهم حتى قال لهم: عليَّ المشيُ إلى مكة إن وليتموني القضاء، وجاء أحد يشتكي بكم _ لآخذن ما بأيديكم، وأدفعه إليه، وأكلفكم البينة؛ لما أعرفه من ظلمكم؛ فعرفوا أنه سيفعل ما يقول؛ فتركوه.
وعناية الإسلام بالقضاء رَفَعَتْهُ إلى درجة أفضل الطاعات؛ فمن سار فيه على بينة وهدى كانت الأوقات التي يشغلها بالنظر في النوازل، وإعداد الوسائل لساعة الفصل أوقاتاً معمورة بالعمل الصالح، كافلة لصاحبها الكرامة في الدنيا، والفوز في الأخرى.
ولهذا ترى بعض العلماء يتقلدون القضاء، ويأبون أن يأخذوا عليه رزقاً.
ومن هؤلاء العلماء الزاهدين أبو القاسم حماس بن مروان ولاه زيادة الله ابن الأغلب قضاء إفريقية فتولاه وأبى أن يأخذ عليه أجراً =وكانت أيامه أيام حقٍّ ظاهر، وسنة فاشية، وعدل قائم+.
وكان سحنون قاضي إفريقية =لا يأخذ لنفسه رزقاً ولا صلة من السلطان، وإنما يأخذ لأعوانه وكتابه من جزية أهل الكتاب+.
ومن أبى أخذ الأجر على القضاء فليدخر ثوابه كاملاً عند الله، أو لأنه كان في غنى، وليس في أهل العلم من يكفي كفايته، فتكون ولايته من قبيل القيام بفرض عين، ومن تعين عليه القضاء وهو في بسطة من المال فهو الذي لا يُجيز له الفقهاء أن يأخذ على ولايته عوضاً.
حقيقةً إن الإسلام بنى القضاء على أسس محكمة، ونظم صالحة، وأخرج للناس قضاة سلكوا إلى العدل في الحكم، والحزم في التنفيذ مسلكاً هو أقصى ما يستطيعه البشر، وأرقى ما يجده الباحث في القديم والجديد؛ فإذا وفقت الدول الإسلامية لأن تربي رجالاً مثل من وصفنا علماً وجلالة _ أمكنها أن تحتفظ بروح العدل الذي لا يجري إلا على يَدِ مَنْ تفقه في كتاب الله وسنة رسوله، واهتدى بحكمتهما إلى أنَّ الدنيا متاعٌ، وأن الآخرة هي دار القرار.


الإسلام والمسلمون ( ) للأستاذ أحمد أمين

من البديهي أنه يجب التفريق بين الإسلام في مبادئه وتعاليمه، كما يدل عليه القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وبين أعمال المسلمين من وقت أن اعتنقوا الإسلام إلى اليوم؛ فمن أراد الحكم على الإسلام فليرجع إلى أصوله الأولى، وينظر إلى جوهر تعاليمه ويزنها بميزان الحق والعدل.
ومن الخطأ الفاحش أن يحكم على الإسلام بالمسلمين، فقد يكون الدين صحيحاً، ومعتنقوه خارجين عليه، منحرفين عنه؛ فيكون الخطأ خطأ أصحابه لا خطأه هو، بل أحياناً يكون الدين فاسداً في جوهره وتعاليمه، ويرتقي معتنقوه، فتصدر عنهم أعمال فاضلة، لا تمت إلى دينهم الأصيل بسبب، وإنما هم الذين حوَّروا دينهم، وصاغوه صياغة خيراً مما كانت عليه.
والحق أن الفرق كبير بين الإسلام نفسه، وعمل المسلمين في مختلف العصور، وأكاد أجزم بأن الإسلام لم يحيَ حياة عملية صحيحة طبق مبادئه إلا عصراً قصيراً جداً، وهو عصر الرسالة وما بعدها بقليل، وأما ما عدا هذه الفترة، فقد عاش المسلمون عيشة منحرفة عن الدين، وإن اختلف هذا الانحراف قلةً وكثرةً، أو شدةً وضعفاً.
لننظر قليلاً في أهم عنصر من عناصر الإسلام، وهو التوحيد الذي تبلور في قولنا: =لا إله إلا الله+ فهل سار المسلمون عملياً واقتصادياً على هذا المبدأ، وإلى أي حد؟.
إنَّ هذا المبدأ يدعو إلى اعتقاد أنه لا يصح تأليه غير الله، وعبادة غير الله.
وأما من عداه من الناس فسواسية لا إله ولا مألوه، قد يختلفون في النسب، وقد يختلفون في الثروة، وقد يختلفون في غير ذلك، ولكنهم كلهم عبيدٌ لله وحده.
ولكن هذه العقيدة بعدم تأليه أحد من الناس، تحتاج إلى جهد جهيد في تطبيقها في الحياة العملية، إنها تحتاج إلى رياضة قوية، تحتاج إلى أن يحتفظ الضعفاء بإيمانهم؛ فلا يركعوا للأقوياء، وتحتاج إلى أن يلجم الأقوياء غرائزهم؛ فلا يحاولوا السيطرة على الضعفاء، وهذا مطلب ليس باليسير، وإن كان هو جوهرَ الإسلام.
ومن أجل هذا كان أسرع الناس إلى الإسلام أكثرهم من الضعفاء، لا من أصحاب السيطرة، كبلالٍ وأمثاله؛ لأنهم وجدوا في الإسلام تحرراً من عبوديتهم لغير الله.
وكان أكبر المعاندين أصحاب السيطرة والتأله من مثل صناديد قريش، فلم يسلموا إلا أخيراً، وبعد عناد طويل، كأبي سفيان بن حرب في مكة، أو إسلاماً ظاهراً بعد أن سدت الأبواب في وجوههم، كعبدالله بن أُبَي في المدينة، وأكبر سبب في تأخرهم، أنهم رأوا الإسلام يُفقدهم تألههم، وعظمتهم، وربوبيتهم.
ولما فتح المسلمون فارس والروم كان أغرب ما استرعى أنظارهم عبادة الرعية لسادتهم؛ لِما وقر في نفوسهم _بسبب الإسلام_ من أنه لا معبود إلا الله.
والقرآن مملوء بلعن الذين اتخذوا سادتهم أرباباً، أو خلعوا القدسية والربوبية على رؤسائهم الدينيين، وكانت دعوة الإسلام دائماً دعوة إلى عبادة الله وحده، وعدم الاعتراف بربوبية أحد غيره: [يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ]آل عمران: 64.
ولذلك حارب الإسلام الاعتزاز بالنسب، والاعتزاز بالجاه، والاعتزاز بالمال؛ لأن كلَّ ذلك من ضروب التأله، والإسلام عدو كلِّ تأله.
ولكن لم يستطع كثير من المسلمين أن يحتفظوا بهذا المبدأ الجليل القويم، وظهر التراجع.
وكلما تقدم الزمن نمت غريزة التأله، كما كان في العصر العباسي وبعده، وبلغ ذلك التأله أوجَه في مثل جنكيز خان، وتيمور لنك، وأشباههما.
إن نظرة الإسلام إلى الألوهية، والدعوة إلى إله واحد يتساوى أمامه الناس جميعاً _ تقضي على كل فكرة من شأنها وجود طبقة يكون لها الشفاعة أو الوساطة بين الله وخلقه.
ولكن ما لبث المسلمون أن عادوا إلى سيرتهم الجاهلية الأولى؛ فاتخذوا أصنافاً من الناس شفعاء يستشفعون بهم عند الله، ويتقربون بهم إلى الله، متأثرين بالديانات القديمة.
أما الإسلام نفسه فيدعو إلى أنه لا حجاب بين أي عبد مهما ضعف وبين الله، وقد عاب على النصارى واليهود اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
ولعل السبب في ذلك أن هذه العقيدة الصحيحة _ عقيدة الإيمان بالله وحده _ والخضوع له وحده، وعبادته وحده، تحتاج إلى رياضة شديدة في تصفية النفس من الشوائب، والنفوس القوية عادة تعشق التأله والاستعلاء، والنفوس الضعيفة سرعان ما تستسلم، وهذا مشاهد في كل أمة، وفي كل جماعة، وفي كل عصر من عهد أن قال فرعون: =أنا ربكم الأعلى+ ومن قبله ومن بعده.
وهؤلاء الأقوياء يتخذون لتألههم أشكالاً وألواناً من المظاهر، فمنهم من يتأله بجنوده وبنوده، وكثرة ماله ونحو ذلك، ومنهم كبار المستبدين في أممهم مثل نابليون، ومثل هتلر وستالين، ومنهم كبار أصحاب رؤوس الأموال في كل أمة، ونحو ذلك، كلهم يتألهون، وكل الناس حولهم تؤلههم، وإن لم يسمِّ الأولون أنفسهم آلهة، وإن لم يسمِّ الآخرون أعمالهم عبادة، ولكن العبرة بالحقيقة لا بالأسماء.
والإسلام يكره هذا التأله بجميع أشكاله وألوانه، والمسلمون _ مع الأسف _ في كل عصورهم ما عدا الفترة الأولى لم يخل سلوكهم من تأله من جانب القوة، وعبادة وخضوع من جانب الضعف.
هذه ناحية من نواحي التأله والعبودية، يصح أن نسميها ناحية سافرة، وهناك ناحية أخرى من التأله والعبودية، يصح أن نسميها مُحَجَّبة؛ ذلك أن هناك قوماً لم يكن لهم من قوة السلطان، وكثرة المال والجنود والعصبية ما يمكنهم من الاستعلاء في الظاهر، فبحثوا عن وسائل للاستعلاء من طريق خفي، ولهؤلاء أمثلة كثيرة ك*****ة، والمشعوذين، والدجالين من رجال الدين الذين يدعون الاتصال بالغيب، والاستمداد من السماء، وأن بينهم وبين الله نسباً، أو بينهم وبين الجن صلة، وأنهم يستطيعون بذلك أن يقربوا إلى الله من يشاؤون، ويحرموا من الجنة من يشاؤون، أو أنهم يستطيعون أن يسيطروا على قوانين الطبيعة في هذا الكون بسحرهم، وتعاويذهم، وتعازيمهم، وما إلى ذلك، كل هؤلاء وأمثالهم لما فقدوا السلطة الظاهرة، والقوة الدنيوية لجؤوا بمكرهم وحيلهم إلى ادعاء سلطة خفية يستمدون منها سلطانهم، ويبسطونها على السذَّج والبُلْه.
وكان من سوء الحظ، وضعف العقل أن قُبِلَتْ دعوتهم، وتألهوا هم الآخرون، وعبدهم أتباعهم؛ فكان في الدنيا مملكتان: مملكة السلطنة المادية، ومملكة السلطنة الغيبية، والناس موزعون في العبادة بين هؤلاء وهؤلاء، وكل هذا حرب على الإسلام في جوهر تعاليمه، وهو الذي ينادي دائماً، ويجعل شعاره دائماً، أن لا إله إلا الله، وأن كلَّ تأله باطل، وأن كل عبادة لغير الله باطلة.
ولكن كم من المسلمين في العصور المختلفة استطاعوا أن يحتفظوا بهذه الوحدانية خالصة لم يشبها شيء من عبادة وتأله.
ومن الأسف أنه في كثير من عصور تاريخ المسلمين تعاونت القوتان، الظاهرة والباطنة، والمادية والغيبية، على إفساد حال المسلمين؛ فتحالف الملوك الظلمة والسلاطين الغاشمة مع الدجالين من رجال الدين، والدجالين من المتصوفين، وأعملوا قوتهم في إفساد عقيدة الوحدانية، وفي تعديد الآلهة وعبادتها، واتخذوا لذلك وسائل لا تحصى، فالسلاطين الغاشمة تحيط مظاهرها بكل أنواع الجبروت والطغيان، والخطباء والوعاظ يصرفون الناس عن المطالبة بحقوقهم بإفهامهم أن الفقر من الله، والغنى من الله، وليس للجد ولا للعمل أي دخل في الغنى والفقر، وأنَّ ظلم الظالمين إنما هو انتقام من الله لسوء سيرة المسلمين، ونحو ذلك من تعاليم تفسد الروح، وتذل النفس، وتمكن المتألهين من التأله، وتوجه الأذلة إلى عبادة المتأله، ولم يكن هذا من جوهر الإسلام في قليل، ولا كثير.
ولو نحن نظرنا نظرة شاملة لرأينا أن أكثر شرور العالم في الشرق والغرب، وفساد حال الأمم يرجع إلى هذا التأله من جانب، والعبادة والضعف من جانب آخر، فالعلاقاتُ بين الأمم، والحروبُ المتتابعةُ إنما يبعثها في الغالب حبُّ الاستعلاء، أو بعبارة أخرى التألُه، ومحاولةُ الدولة القوية أن تسيطر على العالم؛ لتكون إلهه، وليكون غيرها عباداً أذلة، وكان كل هذا يزول لو اعتنق الجميع أن لا إله إلا الله.
وبعد فهذا أصل من أصول الإسلام، رأينا كيف انحرف المسلمون عنه، فساء حالهم، وانحط شأنهم، ولعلنا نتبع ذلك ببيان بعض الأصول الإسلامية الأخرى، ونبين كيف عطلت وأهملت، والله الموفق.


شرعة الحرب في الإسلام للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي( )

من لوازم الحرب سفك الدماء, والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلاّ بحقها, وليست عصمة الدماء خاصةً بالمسلمين في حكم الإسلام، بل مِثْلُهم في ذلك ثلاثة أصناف من الكتابيين وهم الذميون الذين استقروا في دار الإسلام وفي ذمته, والمعاهدون الذين استقروا فيها بعهد محدد بأجل, والمستأمنون وهم كل من دخلها بأمان مؤجل أو غير مؤجل؛ فهذه الأصناف دماؤهم معصومة كدماء المسلمين, ولا يجوز للحاكم كيفما كانت سلطته أن يستبيح دم أحدهم إلاّ بحقه.
وأول حق يكتسبه المسلم بإسلامه, أو الذمي ومَنْ معه من الأصناف المذكورة هو عصمة دمه وماله, فإذا سفك دمَ غيره عَدْوًا بغير حق استبيح دمه, ورفعت العصمة عنه بما كسبت يداه, وإذا أخذ مال غيره بغير وجه شرعي أخذ من ماله بقدره من غير زيادة، ولا إجحاف، ولا ظلم.
فالحرب في الإسلام لا تكون إلاّ لمن آذنه بالحرب, أو وقف في وجه دعوته يصدّ عنه المُستَعِدِّين لتلقيها, والإسلام في أعلى مقاصده يعتبر الحرب مفسدة لا تُرْتَكَبُ إلاّ لدفع مفسدة أعظم منها, وأول مفسدة شرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية, ومفسدة الوقوف في سبيل الدعوة الإسلامية بالقوة.
ولو أن قريشًا لم يقفوا في طريق الدعوة المحمدية, وتركوها تجري إلى غايتها بالإقناع لما قاتلهم محمد  ولكنهم بدأوها بالعدوان، والتقبيح, والحيلولة بينها وبين بقية العرب, والقعود بكل صراط لصد الناس عنها.
ومن اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة شرع, أو وجب, أو غيرهما من صيغ الأحكام, وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري, ولكنه ليس خيرًا محضاً ولا صلاحًا سرمدًا, وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًا آخر.
ومما وقر في نفوس البشر أ ن بعض الشرور لا تدفع بالخير, ولا تنقصم إلاّ بشر آخر.
وإذا كانت الأحكام على الأشياء إنما هي بعواقبها وآثارها فإن الشر الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيراً كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن, وكقتل الثلث لإصلاح الثلثين كما يؤثر عن الإمام مالك, قال _ تعالى _ [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ].
ففي قوله _ تعالى _: =يُقَاتَلُونَ+ وفي قوله:=بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا+ وفي قوله:[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ] بيان للشروط المسوِّغةِ للحرب في الإسلام تحمل عليها نظائرها في كل زمان.
شرعت الحرب في الإسلام أي أذن فيها بدستور كامل للحدود التي تربطها, وتحدد أولها وآخرها, وتخفف من شرورها, وتكبح النفوس على الاندفاع فيها إلى الخروج عن الاعتدال، وتعدي الحدود.
وإذا كان الإسلام الذي هو آخر الأديان السماوية إصلاحاً عاماً لأوضاع البشر فإن أحكام القتال فيه إصلاح وتهذيب لمسألة طبيعية فيهم وهي الحرب.
إن أحكام الحرب في الإسلام مثال غريب في تاريخ العالم: ماضيه وحاضره يصور الحرب عذابًا تحفّه الرحمة من جميع جهاته, ويتخلله الإحسان في جميع أجزائه.
ولو وازناها بالقوانين المتبعة في الحروب إلى يومنا هذا, وقارنا أسبابها في الإسلام ببواعثها اليوم لوجدنا الفروق أجلى من الشمس.
ولو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلاّ قوانينه الحربية لكان فيها مَقْنَع للمنصفين باعتناقه؛ ذلك أن الحرب تنشأ عادة عن العداوات والمنافسات على المصالحِ الماديةِ,والعداوةُ مِنْ عمل الشيطان يوريها بين أبناء آدم؛ ليرجعوا إلى الحيوانية الضارية التي لا عقل لها, ولا رحمة فيها, ولا عدل معها؛ فجاء الإسلام بتعاليمه السامية المهذِّبة للفطرة، المُشَذِّبة للحيوانية, فحددت أسباب الحرب وأعمالها تحديدًا دقيقًا, وحرمت البغي والعدوان, وقَيَّدتها بقوانين هي خلاصة العدل، ولبابه حتى كأنها عملية جراحية تؤلم دقائق؛ لتترك الراحة والاطمئنان العمرَ كلَّه.
حرم الإسلام التعذيب والتشويه والمُثْلَةَ في الحرب, أوصى بالأسرى خيراً حتى جعل إطعامهم والإحسان إليهم قربة إلى الله, أمر بألا يُقْتَل إلاّ المقاتل, أو المُحَرِّض على القتال, أوالمظاهر على المسلمين, نهى وتوعد عن قتل النساء والصبيان والشيوخ الهَرْمَى والقَعَدَة والرهبان المنقطعين في الصوامع, نهى عن عقر الحيوان المُنْتَفَع به, نهى عن إتلاف الزرع وإحراق الأشجار وقطعها.
وما وقع ليهود المدينة إنما هو تصرف خاص لحكمة, لا تشريع عام للتشفي والانتقام.
ووصية أبي بكر÷ للجيش هي الكلمة الجامعة في هذا الباب, وهي التطبيق العملي لمجملات النصوص من الكتاب والسنة.
وما نسبة هذه الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام من قبل أربعة عشر قرناً إلى ما يجري في حروب هذا العصر الذي يَدْعُونه عصر النور والعلم والإنسانية والمدنية _ إلاّ كنسبة نور النهار إلى ظلمة الليل.
أين ما يرتكب في حروب هذا العصر المدني من تقتيل النساء, وبَقْرِ بطونهن على الأجنة, ومن قتل الصبيان والعجزة, وهدم البيوت بالقنابل الجوية, والمدافع الأرضية على من فيها, ومن هدم المعابد, ومن تسميم المياه والأجواء, وإحراق الناس أحياءً، إلى القنبلة الذرية التي لا تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم؟
أين هذه الموبقات من تلك الرحمة الشاملة التي جاء بها الإسلام؟ والإسلام يعتبر السلم هو القاعدة, والحرب شذوذ في القاعدة؛ لأن الإسلام دين عدل، ورحمة، وعمران، وعصمة في ما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين, والعقل,والعرض, والمال, والنسب .
والدين هو ملاك التهذيب النفسي, والعقل هو قسطاس الآراء التي تقوم عليها الحياة, والعِرْض هو مقياس الشرف الإنساني, والمال هو قوام الحياة, والنسب هو مناط الفخر, وملاك القوميات والنظام التفاضلي والتنافس المحمود, فإذا انهارت هذه الكليات ارتكست الإنسانية, وتردت إلى الحيوانية؛ فحاطها الإسلام بحصون من الأحكام المنيعة.
ولحرص الإسلام على السلم جاءت آية الأنفال آمرةً بالجنوح له كلما جنح له العدو؛ حتى لا يُسَْبَقَ المسلمون إلى فضيلة.
والإسلام يأمر بالوفاء لذاته, ويجعله من آيات الإيمان, وينهى عن الغدر, ويجعله شعبة من النفاق, يأمر بالوفاء حتى في الحرب التي هي مظنة الترخيص في الأخلاق, والتساهل في الفضائل, يقول _تعالى_:[وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ].
ويقول في وجوب انتصار المسلم للمسلم: [إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ], ويقول: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ].
هذه هي آداب الحرب في الإسلام وأعماله.


المجاهدون الأولون( ) للعلامة محب الدين الخطيب

في كتاب الإصابة للحافظ ابن حجر (1: 576 _ 577) عن خالد بن سعيد ابن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه قال:
لما بويع مروان بن الحكم _ وكان ذلك سنة 64هـ أي قبل ثلاثة عشر قرناً _ مرَّ على ماء في البادية لبني جَزْءِ بن عمرو بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، وعلى الماء شيخ منهم كبير، فقال له مروان:
كيف أنتم آل جزء؟
فقال الشيخ: بخير؛ أنبتنا الله فأحسن نباتنا، ثم حصدنا فأحسن حصادنا.
قال الحافظ ابن حجر: وكانوا هلكوا في بلاد الروم، في الجهاد.
أما كيف هلكوا قبل ذلك في الجهاد، فقد ذكر مؤرخو الإسلام لمعاً من أخباره. وأنت إذا وقفت على القليل مما ذكروا تجلت لك صورة من صور الكمال الذي كان للمجاهدين الأولين؛ فجمعوا فيه بين الإخلاص لدين الله، وتصريف الشجاعة والفروسية والأموال بل والأهواء باستعمال ذلك كله في سبيل الله.
وكان لهم _ مع ذلك الكمال _ نضوج العقل، وجمال المنطق، وهما من ميراث القومية العريق في القدم الذي ازدان به سلفنا من العرب، وبه امتاز الإنسان على سائر خلق الله من ذوي الحياة.
وحكاية جهاد آل جزء _ الذي كان به حصادهم كما قال ذلك الشيخ من شيوخهم لمروان بن الحكم سنة 64هـ _ هي أن زرارة بن جزء الكلابي، انتهى إليه وهو في نجوعه بالبادية سنة 49هـ، أن أمير المؤمنين معاوية يعقد رايات الجهاد لأبطال العرب ومجاهديهم تحت قيادة ابنه يزيد، وأن القبائل تقرع طبولها في كل أفق متجهة إلى دمشق؛ لتأخذ مكانها في فيالق الحملة الكبرى التي ينظم كتائبها في البر وأساطيلها في البحر سفيان بن عوف الأزدي، وأن طائفة من أعلام الصحابة وعلمائهم التحقوا بهذه الحملة جنوداً في سبيل الله، وفي مقدمتهم عبدالله بن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعبدالله بن العباس بن عبدالمطلب _ ابن عم النبي" _ وعبدالله بن الزبير بن العوام _ حفيد عمة رسول الله، وسبط أبي بكر الخليفة الأول _ وأبو أيوب الأنصاري الذي نزل النبي "ضيفاً عليه في بيته عند هجرته الشريفة من مكة إلى المدينة.
واتفق في ذلك الحين مرور أمير من أمراء البيت المالك بديار آل جزء، وهو الأمير عنبسة بن أبي سفيان أخو الخليفة، فاحتفل آل جزء بمقدمه، وأنزلوه في المقام اللائق به.
ومما أكرم به آل جزء ضيفهم الأمير أن الشاب النبيل عبدالعزيز بن زرارة ابن جزء استعرض أمامه خيلَه بفرسانِها، وإبلَه بركبانِها، ومواشيَه وأموالَه التي جَرَتْ عادة العرب أن يرفقوها بفرسانهم وركبانهم إذا نفروا للقتال؛ فرأى الأمير الأموي من ذلك ما أعجبه، فلما لمح ذلك عبدالعزيز في وجه أخي الخليفة _وكان قد وقف على خبر الحملة التي تجهز في الشام لغزو القسطنطينية_ نادى قائلاً _والأمير عنبسة يسمع_: =اللهم إني أشهدك أني حبست نفسي، وأهلي ومالي، في سبيلك...+.
فكانت هذه التضحية في مقام بدلية التجنيد التي كان يبذلها أبناء الوجهاء إلى عهد قريب، ولكن أبناء وجهاء العرب الأولين لم يكونوا يبذلونها؛ ليقعدوا بها عن الجهاد، وليهربوا من كتائبه، ويتخلوا عن حمل أعبائه، واحتمال متاعبه، وتحمل عواقبه في أنفسهم وذويهم، بل لتكون هذه التضحية نوراً يمشي بين يدي دمائهم التي عاهدوا الله على بذلها في سبيله؛ إعلاء لكلمة الحق في آفاق جديدة من آفاق الأرض.
وما كاد ضيفهم الأمير يرحل عن نجعهم متوجهاً إلى دمشق، حتى تجهز شيخ العشيرة زرارة بن جزء أبو عبدالعزيز وركب من باديته قاصداً عاصمة الإسلام الرابضة بين جبل قاسيون وضفاف برَدَى، حتى إذا صار بباب معاوية، رأى ازدحام زعماء القبائل عليه، وصعوبة الوصول إليه، فقال لمن كان هناك: =من يستأذن لي اليوم على أمير المؤمنين أستأذن له غداً +!.
أي أنه يستقرض الاستئذان حقاً بحق، ولا يستجديه عفواً بلا مقابل.
وكان زرارة يثق فيما له من مواهب أنها ستنيله الحظوة عند معاوية، وتحله منه في المكان الأقرب، كما كان يثق بأن معاوية يعرف أقدار الرجال، وينزلهم من نفسه ومجلسه ودولته على قدر رجولتهم، وعلى قدر ثقتهم بفضائل أنفسهم، وجودهم للملة بما تحت أيديهم.
فلما أذن له معاوية ودخل عليه، قال: =يا أمير المؤمنين، إني رحلت إليك بالأمل، واحتملت جفوتك بالصبر، ورأيت أقواماً أدناهم منك الحظ، وآخرين باعدهم منك الحرمان، وليس للمقرب أن يأمن، ولا للمباعد أن ييأس+.
ونسب الجاحظ في البيان والتبيين (3: 37) إلى ابنه عبدالعزيز الفقرة التالية خطاباً لمعاوية، وما علمنا أن عبدالعزيز خطب بين يدي معاوية، وهي بكلام أبيه أشبه، ومعانيها تدل على أنها من تمام الخطبة التي أوردنا منها الفقرة السالفة.
قال: =يا أمير المؤمنين، لم أزل أستدل بالمعروف عليك، وأمتطي النهار إليك، فإذا ألوى بي الليل، فقبض البصر، وعفى الأثر أقام بدني، وسافر أملي، والنفس تلوم، والاجتهاد يعذر، وإذ بلغتك فقطني...+.
فأعجب معاوية كلامه، كما أعجبت أخاه عنبسةَ خيلُ ابنهِ عبدالعزيز وإبلُه.
وزرارة بن جزء _ أبو هذا الشبل الشهيد الفارس الكريم _ معدود من الصحابة.
ونقل أبو عثمان الجاحظ أبياتاً من بليغ شعره قالها حين أتى عمر بن الخطاب في خلافته، وهي:
أتيت أبا حفص ولا يستطيعه
من الناس إلا كالسنان طرير

فوفَّقني الرحمن لما لقيته
وللباب من دون الخصوم صرير

قُرومٌ غَيارى عند باب ممنع
تُنازِعُ مَلْكاً يهتدي وتجور

فقلت له قولاً أصاب فؤاده
وبعض كلام الناطقين غرور



أما الابن المجاهد الشهيد فقد ظلت سيرته على ألسنة الفتيان في البادية يتحدثون بها جيلاً بعد جيل؛ ليقوموا بمثل فضائلها وروائعها بأنفسهم كلما سنحت لهم الفرص.
وقد زار أرضهم بعد ذلك بأمد طويل هارون بن بكار _ حفيد عبدالله بن الزبير ابن العوام الذي كان زميل عبدالعزيز بن زرارة في حصار القسطنطينية الأول _ فذكروا له في جملة ما ذكروه من أخلاق عبدالعزيز بن زرارة، وإعلانه التبرعَ بنفسه، وبأهله، وبأمواله بين يدي الأمير عنبسة بن أبي سفيان، ثم وفاءه بهذا العهد أكمل وفاء عرف عن فارس شاعر نبيل.
هذه صورة صادقة لبادية العرب في صدر الإسلام إلى نهاية دولة بني أمية، وهو زمن التابعين والتابعين لهم بإحسان، وهو زمن الخير الذي عمَّت فيه الفتوح، وحدث فيه أعظمُ انقلابٍ في تاريخ الإنسانية؛ لأن دخول الممالك في الإمبراطورية الإسلامية لم يكن معناه الظفرَ والفتحَ كما تفهمه الأمم قبل الإسلام وبعد الإسلام، بل كان معناه تحولَ الأمم عن أنانيتها، وعن باطلها، وعن ضعفها الخلقي وسخافاتها الدينية والعقلية؛ بل عن ألسنتها وقومياتها إلى لسان القرآن وقومية رسوله، والتحاقها بتلاميذ محمد " وأتباعهم التحاقَ تخلقٍ واندماج، وهو انقلاب لم يسبق له نظير، ولا استطاع أن يأتي بمثله الفاتحون فيما بعد، لا من المسلمين المتأخرين، ولا من الغربيين.
والمجاهدون الذين تم على أيديهم هذا الانقلاب هم أمثال عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وأبي أيوب الأنصاري، الذين تقدموا بأنفسهم للجهاد في سبيل الله تحت راية معقودة ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكان الأميرَ القائدَ الذي يصلي بالناس، وهو الذي يرجعون إليه في جميع حركاتهم وسكناتهم.
وإذا تجاوزنا هذه الطبقة من علماء الصحابة وأعلامهم نلقى بعدها الطبقة التي منها أمثال عبدالعزيز بن زرارة بن جزء الكلابي.
وإن الكثيرين من مثقفي المسلمين يعلمون أن من أحداث الدعوة المحمدية الأولى تبرعَ عثمانَ بنِ عفانَ بنفقات جيش العسرة، وتبرعَ إخوانه من كبار الصحابة بكرائم أموالهم، ولكن قلَّ من يعلم منهم أن من أحداث الجهاد الإسلامي الأعظم في زمن التابعين تَبَرُّعَ أمثالِ هذا البدوِي النبيلِ القابع في نجعه، المنزوي بين الحمات في الصحراء بكل ما يملك من خيلٍ وإبلٍ ومواشيَ وأموال، بل تبرعه بدمه وبأهله في سبيل الله.
وهذا البدوي المجاهد، وكل عربي تقدم للجهاد معه أو قبله أو بعده، كانوا يعرفون فرق ما بين شمس باديتهم الساطعة الضاحية، وبين جو القسطنطينية التي كان يتجمد ماءُ خليجها في بعض السنين من شدة البرد؛ فتسير الخيول، والعربات، والناس على مائه المتجمد.
ومع ذلك فإن هذه الطبيعة بقسوتها وشدتها لم تستطع أن تصد أبناء البادية، ولا أهل الرفاهة من وجوه أبناء العواصم وفي مقدمتها دمشق عن أن يقدموا أنفسهم ودماءهم في سبيل إعلاء كلمة الحق والخير، تحت كل سماء، وفي دائرة كل أفق؛ لأنهم يرون أن الله الذي أنبتهم فأحسن نباتهم، إنما أكرمهم بالجهاد؛ ليحصدهم في سبيله فيحسن حصادهم.
هذه الأخلاق التي كان عليها المجاهدون الأولون هي التي تمكنوا بها من إسعاد البشر بالإسلام فيما بين نهر الغانج، وجبال الأطلس وتخوم البيرنيه في عشرات قليلة من السنين.
وبتلك الدماء الطاهرة سقى العرب تربة الدنيا، فأينعت بها ثمرات الإسلام.










ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله

32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
33_ الله أكبر: مصطفى صادق الرافعي
34_ الأذان: للأديب عباس محمود العقاد
35_ العلماء والإصلاح: للشيخ محمد الخضر حسين



دمعة على الإسلام ( ) لمصطفى لطفي المنفلوطي

كتب إليَّ أحدُ علماءِ الهند كتاباً يقول فيه: إنه اطلع على مؤلف ظهر حديثاً بلغة (التاميل)، وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مدراس... موضوعه: (تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني، وذكر مناقبه وكراماته).
فرأى فيه من الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب السيد عبدالقادر، ولقبه بها صفاتٍ وألقاباً هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة؛ فضلاً عن مقام الولاية كقوله: =سيد السموات والأرض+ و =النفاع الضرار+ و =المتصرف في الأكوان+ و =المطلع على أسرار الخليقة+ و =محيي الموتى+ و =ومبرئ الأعمى والأبرص والأكمه+ و =أمره من أمر الله+ و =ماحي الذنوب+ و =دافع البلاء+ و=الرافع الواضع+ و =صاحب الشريعة+ و =صاحب الوجود التام+ إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب !
ويقول الكاتب: إنه رأى في ذلك الكتاب فصلاً يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن يتكيف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني يقول فيه: =أول ما يجب على الزائر: يتوضأ وضوءاً سابغاً، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجه إلى تلك الكعبة المشرفة.. وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول:
= يا صاحب الثقلين، أغثني وأمدني بقضاء حاجتي، وتفريج كربتي، أغثني يا محي الدين عبدالقادر، أغثني يا ولي عبدالقادر، أغثني يا سلطان عبدالقادر، أغثني يا بادشاه عبدالقادر، أغثني يا خوجة عبدالقادر+.
=يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبدالقادر الجيلاني، عبدك ومريدك مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة+.
ويقول الكاتب _ أيضاً _: إن في بلدة (ناقور) في الهند قبراً يسمى =شاه الحميد+، وهو أحد أولاد السيد عبدالقادر _ كما يزعمون _ وإن الهنود يسجدون بين ذلك القبر سجودهم بين يدي الله، وإن في كل بلدة من بلدان الهنود وقراها مزار السيد عبدالقادر.. فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد والملجأ الذي يلجؤون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون على خدمته وسدنته، وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض جميعاً لصاروا أغنياء.
هذا ما كتبه إليَّ ذلك الكاتب، ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أُبصر مما حولي شيئاً؛ حزناً وأسفاً على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعد ما عرفوه، ووضعوه بعد ما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها.
أي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع، فلا تريقها أمام هذا المنظر المحزن، منظر أولئك المسلمين، وهم ركَّع سجَّد على أعتاب قبر ربما كان بينهم مَنْ هو خير مِنْ ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته؟!
أي قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعاً حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله؛ وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات ؟!
لِمَ يَنْقِمُ المسلمون التثليث من المسيحيين؟ لِمَ يحملون لهم في صدورهم تلك المُوجِدَةَ وذلك الضغن؟ وعلام يحاربونهم؟ وفيم يقاتلونهم، وهم لم يبلغوا من الشرك بالله مبلغهم، ولم يغرقوا فيه إغراقهم؟!
يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة، ولكنهم يشعرون بغرابة هذا التعدد وبعده عن العقل، فيتأولون فيه ويقولون: إن الثلاثة في حكم الواحد، أما المسلمون فيدينون بآلاف من الآلهة أكثرها جذوع أشجار، وجثث أموات، وقطع أحجار، من حيث لا يشعرون !.
كثيراً ما يضمر الإنسان في نفسه أمراً وهو لا يشعر به، وكثيراً ما تشتمل نفسه على عقيدة خفية لا يحس باشتمال نفسه عليها، ولا أرى مثلاً أقرب من المسلمين الذين يلتجؤون في حاجاتهم ومطالبهم إلى سكان القبور، ويتضرعون إليهم تضرعهم للإله المعبود؛ فإذا عتب عليهم في ذلك عاتب، قالوا: إنا لا نعبدهم، وإنما نتوسل بهم إلى الله، كأنهم يشعرون أن العبادة ما هم فيه، وإن أكبر مظهر لألوهية الإله المعبود أن يقف عباده بين يديه ضارعين خاشعين، يلتمسون إمداده ومعونته، فهم في الحقيقة عابدون لأولئك الأموات من حيث لا يشعرون.
جاء الإسلام بعقيدة التوحيد: ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رق العبودية، فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفُهم قويَّهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل، وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغيرة، يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده غيرها سلطانه( ): قف مكانك، ولا تَغْلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود، واعلم أنه لا إله إلا الله.
هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد، أما اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى فقد ذلت رقابهم، وخفقت رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حَمِيَّتُهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا عليهم نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم؛ فأصبحوا من الخاسرين.
والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد وإن طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: =أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات+.
إن الله أغير على نفسه من أن يسعد أقواماً يزدرونه، ويحقرونه، ويتخذونه وراءهم ظهرياً، فإذا نزلت بهم جائحة، أو ألمت بهم ملمة ذكروا الحجر قبل أن يذكروه، ونادوا الجذع قبل أن ينادوه.
بمن أستغيث؟ وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعوه لهذه الملمة الفادحة ؟ أأدعو علماء مصر وهم الذين يتهافتون على =يوم الكنيسة( )+ تهافت الذباب على الشراب؟ أم علماء الآستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام؛ ليحيوا أبا الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية! أم علماء العجم وهم الذين يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى البيت الحرام، أم علماء الهند وبينهم أمثال مؤلف هذا الكتاب؟
يا قادة الأمة ورؤساءها، عَذَرْنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها، وقلنا: إن العامي أقصر نظراً، وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة في النصب والأضرحة والقبور، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرؤون صفاتِه ونعوتَه، وتفهمون معنى قوله _تعالى_: [قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ](النمل: 65)، وقوله مخاطباً نبيه: [قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً](الأعراف: 188)، وقوله [ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى](الأنفال: 17).
إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغدوكم ورواحكم:
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف

فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبراً، أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر النبي " أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته، يسأله قضاء حاجة، أو تفريج هَم؟ وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله، وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين؟
وهل تعلمون أن النبي " حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثاً ولعباً؟ أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟
وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور، ما دام كل منها يجر إلى الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟
والله ما جهلتم من هذا، ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة؛ فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم، وانتقاض أمركم، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون أوطانكم، ويستعبدون رقابكم، ويخربون دياركم، والله شديد العقاب.


الله أكبر( ) لمصطفى صادق الرافعي

جلستُ وقد مضى هزيعٌ من الليل، أهَيِّئ في نفسي بِناء قصة أُديرُها على فتىً كما أحَبَّ.. خبيث داعر، وفتاة كما أحبَّتْ.. عذراءَ مُتَمَاجِنة، كلاهما قد درس وتخرَّج في ثلاثة معاهد: المدرسة، والروايات الغرامية، والسِّيما، وهو مصري مسلم، وهي مصرية مسيحية، وللفتى هِنَاتٌ وسيئاتٌ لا يتنزَّه ولا يتورَّع، وهو من شبابه كالماء يغلي، ومن أناقته بحيث لم يبْقَ إلا أن تَلْحَقَه تاءُ التأنيث، وقد تشعَّبتْ به فنون هذه المدنية، فرفع الله يده عن قلبه لا يُبالي في أيّ أوْديتها هلَكَ، وهو طِلْبُ نساء، دأبُه التَّجوالُ في طُرقهنّ، يتْبَعُهنَّ ويتعرض لهنّ، وقد ألِفَتْه الطرق حتى لو تكلَّمتْ لقالت: هذا ضرْبٌ عجيبٌ من عربات الكنس...!
وللفتاة تبرُّجٌ وتهتك، يعبثُ بها العبثُ نفسه، وقد أخرجتْها فنونُ هذا التأنث الأوربي القائم على فلسفة الغريزة، وما يسمّونه (الأدب المكشوف) كما يصوِّره أولئك الكتَّابُ الذين نقلوا إلى الإنسانية فلسفة الشهوات الحرَّة عن البهائم الحرَّة، فهي تبْرُزُ حين تخرج من بيتها، لا إلى الطريق، ولكن إلى نظرات الرجال، وتظهرُ حين تظهر، مصوَّرة لا بتلوين نفسها مما يجوز وما لا يجوز، ولكن بتلوين مرآتها مما يُعْجِبُ وما لا يُعجب.
وكِلا اثنيهما لا يُقيم وزناً للدين، والمسلم والمسيحيُّ منهما هو الاسمُ وحده؛ إذ كان مِن وَضْع الوالدين.
والدِّين حرِّية القيد لا حرية الحرية، فأنت بعد أن تُقيِّدَ رذائلك وضراوتِك وشرَّك وحيوانيتك _ أنت من بعد هذا حرٌّ ما وسعتْكَ الأرضُ والسماء والفكرُ؛ لأنك من بعد هذا مكمِّلٌ للإنسانيَّة، مستقيمٌ على طريقتها.
ولكن هبْ حماراً تفلْسَفَ وأراد أن يكون حرّاً بعقله الحماري، أي تقرير المذهب الفلسفي الحماريّ في الأدب؛ فهذا إنما يبتغي إطلاقَ حريته، أي تسليطَ حِماريَّتِه الكاملة على كل ما يتصل به من الوجود.
وتمضي قصَّتي في أساليبَ مختلفة تمْتَحِنُ بها فنونُ هذه الفتاة شهوات هذا الفتى، فلا يزال يمشي من حيث لا يصل، ولا تزال تمنعه من حيث لا تردُّه، وما ذلك من فضيلة ولا امتناع، ولكنها غريزة الأنوثة في الاستمتاع بسُلطانها، وإثباتها للرجل أن المرأة هي قوة الانتظار، وقوَّة الصبر، وأن هذه التي تحمل جنينها تسعةَ أشهرٍ في جوفها، تمسكُ رغبتَها في نفسها مدَّةَ حملٍ فكريٍّ إذا هي أرادت الحياة لرغبتها؛ ليكون لوقوعها وتحقُّقها مثل الميلاد المُفرح.
ولكنَّ الميلادَ في قصتي لا يكون لرذيلة هذه الفتاة، بل لفضيلتها؛ فإن المرأة في رأيي ولو كانت حياتُها محدودةً من جهاتها الأربع بكبائر الإثم والفاحشة _ لا يزال فيها من وراء هذه الحدود كلِّها قلبٌ طبيعتُه الأمومةُ، أي الاتصال بمصدر الخلق، أي كلُّ فضائل العقيدة والدين، وما هو إلا أن يتنبه هذا القلبُ بحادث يتَّصل به فيبلغُ منه، حتَّى تتحوَّلَ المرأةُ تحوُّلَ الأرض من فصلها المقشعرِّ المجدب، إلى فصلها النَّضِر الأخضر.
ففي قصتي تُذْعِنُ الفتاة لصاحبها في يوم قد اعترتْها فيه مخافةٌ، ونزلَ بها همٌّ، وكادتْها الحياةُ من كيدها، فكانت ضعيفةَ النفس بما طرأ عليها من هذه الحالة، وتخلو بالفتى وفكرُها منصرفٌ إلى مصدرِ الغيبِ، مؤمِّلٌ في رحمةِ الله، ويَخْلِبُها الشابُّ خلابةَ رُعُونته وحبِّه ولسانه، فيعطيها الألفاظَ كلَّها فارغةً من المعاني، ويقرُّ بالزواج وهو منطوٍ على الطَّلاق بعد ساعة، فإذا أوشكت الفتاة أن تُصْرعَ تلك الصرعة دوَّى في الجوّ صوتُ المؤذن: =الله أكبر+.
وتُلسعُ الفتاةُ في قلبها، وتتصلُ بهذا القلب رُوحانيةُ الكلمة، فتقعُ الحياةُ السماويةُ في الحياة الأرضية، وتنتبه العذراء إلى أن الله يشْهَدُ عارَها، ويَفْجؤها أنها مُقْدمةٌ على أن تُفْسِدَ من نفسها ما لا يُصلحه المستحيلُ فضلاً عن الممكن، وترنو بعين الفتاة الطاهرة من نفسها إلى جسمِ بغيٍّ ليستْ هي تلك التي هي، وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسق ليس هو ذاك الذي هو، ويَحْكي لها المكانُ في قلبها المفطور على الأمومة _ حكايةً تَثُور منها وتشمئزّ، ويصرُخُ الطفلُ المسكينُ صرختَه في أذنها قبل أن يُولد ويُلقى في الشارع...!
الله أكبر! صوتٌ رهيبٌ ليس من لغة صاحبها، ولا من صوته ولا من خسَّتِه، كأنما تُفرغُ السماءُ فيه مِلءَ سحابةٍ على رجسِ قلبها؛ فتُنْقيه حتى ليس به ذرَّةٌ من دَنَسِه الذي ركِبَه الساعة.
كان لصاحبها في حسِّ أعصابها ذلك الصوتُ الأسود، المنطفئ، المبهَم، المتَلَجلجُ مما فيه من قوَّةِ شهواته، للمؤذِّنِ صوتٌ آخر في روحها، صوتٌ أحمر، مشتعلٌ كمعمعةِ الحريق، مُجلْجِلٌ كالرعد، واضح كالحقيقة فيه قوَّةُ الله.
سمعتْ صوتَ السلسلة وقعْقَعتَها تُلوى وتُشدُّ عليها، ثم سمعتْ صوتَ السلسلة بعينها يُكسرُ حديدُها ويتحطَّم.
كانت طهارتُها تختنقُ فنفذتْ إليها النَّسمات، وطارتْ الحمامة حين دعاها صوتُ الجو بعد أن كانت أسفَّتْ حين دعاها صوتُ الأرض، طارت الحمامة؛ لأنَّ الطبيعةَ التفتتْ فيها لفتةً أخرى.
ويُكرِّرُ المؤذِّنُ في ختامِ أذانه: =الله أكبرُ الله أكبر!+ فإذا...
وتبلَّدَ خاطري، فوقفتُ في بناء القصة عند هذا الحد، ولم أدرِ كيف يكون جوابُ =إذا...+ فتركتُ فكري يعمل عملَه كما تُلْهمه الواعيةُ الباطنة، ونِمْتُ...
ورأيتُ في نومي أنِّي أدخل المسجدَ لصلاة العيد وهو يعُجُّ بتكبير المصلين: =الله أكبر الله أكبر!+ ولهم هديرٌ كهدير البحر في تلاطُمِه، وأرى المسجدَ قد غصَّ بالناس فاتَّصلوا وتلاحموا، تجدُ الصفَّ منهم على استوائه كما تجد السطرَ في الكتاب: ممدوداً محتبكاً ينتظمه وضعٌ واحد، وأراهم تتابعوا صفّاً وراء صف، ونَسَقاً على نَسَق، فالمسجد بهم كالسُنْبُلة مُلئتْ حباً ما بين أولها وآخرها، كلُّ حبَّةٍ هي في لِفٍّ من أهلها وشملها، فليس فيهن على الكثرة حبَّةٌ واحدةٌ تُميِّزُها السنبلة فضلَ تمييز، لا في الأعلى ولا في الأسفل.
وأقف متحيِّراً مُتلدِّداً ألتفت ههنا وههنا، لا أدري كيف أخلُصُ إلى موضعٍ أجلس فيه، ثم أمضي أتخطَّى الرِّقابَ أطمعُ في فُرجة أقتحمها وما تنفرج حتى أنتهي إلى الصف الأول، وأنظرُ إلى جانب المحراب شيخاً بادِناً يملأ موضعَ رَجلين، وقد نفحَ منه ريح المسك، وهو في ثيابٍ من سندسٍ خُضر، فلما حاذيته جمعَ نفسَه وانكمش، فكأنما هو يُطوى طيّاً، ورأيتُ مكاناً وسِعني، فحططتُ فيه إلى جانبه، وأنا أعجبُ للرجل ضاقَ ولم أضيِّق عليه، وأين ذهبَ نصفُه الضخم وقد كان بعضه على بعضه زِيَماً على زِيَم( )، وامتلاءً على امتلاء.
وجعلتُ أحدسُ عليه ظني، فوقع في نفسي أنه ملَكٌ من ملائكة الله قد تمثَّل في الصورة الآدمية؛ فاكتتم فيها لأمر من الأمر.
وضجَّ الناس: =الله أكبرُ الله أكبر!+ في صوتٍ تقشعرُّ منه جلود الذين يخشونَ ربهم، غيرَ أنَّ الناسَ مما ألِفوا الكلمةَ ومما جهلوا من معناها _ لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام.
أما الذي إلى جانبي فكان ينتفضُ لها انتفاضةً رجَّتْنِي معه رجّاً، إذ كنت ملتصقاً به مُناكِباً له، وكأن المسجد في نفْضِه إيَّانا كان قطاراً يجري بنا في سرعة السحاب، فكلُّ ما فيه يرتجُّ ويهتزّ، ورأيتُ صاحبي يذهل عن نفسه، ويتلألأُ على وجهِه نورٌ لكل تكبيرةٍ، كأنَّ هناك مصباحاً لا يزال ينطفئ ويشتعل، فقطعتُ الرأيَ أنه من الملائكة.
ثم أقيمتْ الصلاةُ وكبَّر أهل المسجد، وكنت قرأتُ أنَّ بعضهم صلى خلفَ رجلٍ من عظماءِ النفوس الذين يعرفون الله حقَّ معرفته، قال: فلما كبَّرَ قال: =اللهُ...+ ثم بُهِتَ وبقيَ كأنه جسدٌ ليس به روح من إجلاله الله _تعالى_، ثم قال: =أكبر+ يَعْزِمُ بها عزماً، فظننتُ أنَّ قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره.
قلتُ أنا: أما الذي إلى جانبي، فلما كبَّر مدَّ صوته مدّاً ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوتُ نوراً لملأ ما بين الفجر والضحى.
وعرفتُ _ والله _ من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأنِّي لم أدخله من قبل، فكان هذا الجالسُ إلى جانبي كضوء المصباح في المصباح، فانكشفَ لي المسجدُ في نوره الروحيّ عن معانٍ أدخلتني من الدنيا في دنيا على حِدَة، فما المسجد بناءاً ولا مكاناً كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيحٌ للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب، فإنَّ في الحياة أسبابَ الزَّيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلُّها يمحوها المسجد إذ يجمعُ الناسَ مراراً في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانيَّة النفس، ولا تدخله إنسانيَّة الإنسان إلا طاهرةً منزَّهة مُسْبغةً على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعارَ الطُّهْرِ الذي يُسمَّى الوضوء، كأنما يغسلُ الإنسانُ آثارَ الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد.
ثم يستوي الجميع في هذا المسجد استواءاً واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويخشعون خشوعاً واحداً، ويكونون جميعاً في نفسيَّةٍ واحدة، وليس هذا وحدَه، بل يَخِرُّون إلى الأرض جميعاً ساجدين لله، فليس لرأسٍ على رأسٍ ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز، ومن ثَمَّ فليس لِذَاتٍ على ذاتٍ سلطان.
وهل تُحقِّقُ الإنسانيةُ وَحْدَتَها في الناس بأبدعَ من هذا؟ ولعمري أين يجدُ العالمُ صوابَه إلا ههنا؟
فالمسجد هو في حقيقته موضعُ الفكرةِ الواحدةِ الطاهرةِ المصحِّحةِ لكلِّ ما يزيغُ به الاجتماع، هو فكرٌ واحدٌ لكلِّ الرؤوس، ومن ثَمَّ فهو حلٌّ واحدٌ لكل المشاكل، وكما يُشقُّ النهرُ فتقف الأرضُ عند شاطئه لا تتقدم يُقامُ المسجدُ، فتقف الأرضُ بمعانيها التُّرابيَّةِ خلفَ جدرانه لا تَدْخله.
وما حركةٌ في الصلاة إلا أوَّلُها =الله أكبر+ وآخرها =الله أكبر+، ففي ركعتين من كلِّ صلاة إحدى عشرةَ تكبيرةً يجهرُ المصلُّون بها بلسان واحد، وكأني لم أفطن لهذا من قبل، فأي زمام سياسي للجماهير وروحانيَّتها أشدُّ وأوثقُ من زمام هذه الكلمة التي هي أكبرُ ما في الكلام الإنسانيّ؟
ولما قُضيتْ الصلاةُ سلَّمتُ على الملَك وسلَّم علي، ورأيتُه مقبلاً محتفياً، ورأيتُني أتيراً( ) في نفسه، وجالت في رأسي الخواطرُ فتذكرتُ القصةَ التي أريد أن أكتبها، وأن المؤذنَ يكرر في خاتمةِ أذانه: =الله أكبرُ الله أكبر+ فإذا...
وقلت: لأسألنَّه، وما أعظمَ أن يكونَ في مقالتي أسطرٌ يلْهِمها مَلَكٌ من الملائكة! ولم أكدْ أرفعُ وجهي إليه حتى قال:
=... فإذا لطْمَتانِ على وجه الشيطان، فولَّى مدبراً ولم يُعقِّبْ، ووضعتِ الكلمةُ الإلهيَّةُ معناها في موضعه من قلب الفتاة، فلأياً بِلأي ما نَجَت.
إنَّ الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، ولكنه هو الفولاذ السميكُ الصلبُ الذي تُصفَّحُ به أخلاقُها المدافعة.
الله أكبر! أتدري ماذا تقول الملائكة إذا سمعت التكبير؟ إنها تُنشدُ هذا النشيد:
بينَ الوقتِ والوقتِ من اليوم تدقُّ ساعةُ الإسلام بهذا الرنين: الله أكبرُ الله أكبر، كما تدقُّ الساعةُ في موضع ليتكلمَ الوقتُ برنينها.
الله أكبرُ! بين ساعات وساعاتٍ من اليوم تُرسلُ الحياةُ في هذه الكلمة نداءها تهتفُ: أيُّها المؤمن! إن كنتَ أصبتَ في الساعات التي مضتْ، فاجتهد للساعات التي تتلو، وإن كنت أخطأتَ، فكفِّرْ وامحُ ساعةً بساعة، الزمن يمحو الزمن، والعملُ يُغيِّرُ العمل، ودقيقةٌ باقيةٌ في العمر هي أملٌ كبير في رحمة الله.
بين ساعات وساعات يتناول المؤمنُ ميزانَ نفسه حين يسمع: الله أكبر، ليعرفَ الصِّحةَ والمرضَ من نيَّتِه، كما يضعُ الطبيبُ لمريضه بين ساعات وساعات ميزانَ الحرارة.
اليومُ الواحد في طبيعة هذه الأرض عُمْرٌ طويلٌ للشر، تكاد كلُّ دقيقة بِشرِّها تكون يوماً مختوماً بليل أسود، فيجب أن تَقسِمَ الإنسانيةُ يومها بعدد قارَّات الدنيا الخمس؛ لأن يوم الأرض صورةٌ من الأرض، وعند كل قسم: من الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء _ تصحيحُ الإنسانيةُ المؤمنة مُنبِّهةً نفسَها: الله أكبر، الله أكبر!.
بين ساعات وساعات من اليوم يعرِضُ كلُّ مؤمنٍ حسابَه، فيقومُ بين يدي الله ويرفعه إليه، وكيف يكون من لا يزال ينتظر طولَ عمره فيما بين ساعاتٍ وساعاتٍ _ الله أكبر...؟
بين الوقتِ والوقت من النهار والليل تُدوِّي كلمةُ الروح: الله أكبر، ويجيبها الناسُ: الله أكبر؛ ليعتادَ الجماهير كيف يُقادونَ إلى الخير بسهولة، وكيف يحقِّقونَ في الإنسانية معنى اجتماع أهل البيت الواحد، فتكون الاستجابة إلى كل نداء اجتماعي مغروسةً في طبيعتهم بغير استكْراه.
النفسُ أسمى من المادة الدنيئة، وأقوى من الزمن المخرّب، ولا دِيْنَ لمن لا تشمَئِزُّ نفسُه من الدناءة بأَنَفَةٍ طبيعية، وتحمل همومَ الحياة بقوة ثابتة.
لا تضطربوا، هذا هو النظام، لا تنحرفوا، هذا هو النَّهج، لا تتراجعوا، هذا هو النداء، لن يكبرَ عليكم شيء ما دامت كلمتُكم: الله أكبر...!


الأذان( ) للأديب عباس محمود العقاد( )

أشبهُ الأشياءِ بالدعوة إلى الصلاة دعوةٌ تكون من معدن الصلاة، وتَنِمُّ على صوت من أصوات الغيب المحجَّب بالأسرار: دعوةٌ حيَّة كأنما تجد الإصغاء والتلبية من عالم الحياة بأسرها، وكأنما يبدأ الإنسان في الصلاة من ساعةِ مسراها إلى سمعه، ويتصل بعالم الغيب من ساعة إصغائه إليه.
دعوةٌ تلتقي فيها الأرض والسماء، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق، وتعيد الحقيقة الأبدية إلى الخواطر البشرية في كل موعد من مواعد الصلاة، كأنها نبأ جديد.
الله أكبر. الله أكبر.
تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المسلمون إلى الصلاة، وتلك هي الدعوة الحيَّة التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومئ إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة، العجيبة غاية العجب؛ لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد الأبيد، وأحوج الحقائق إلى التكرار بين شواغل الدنيا، وعوارض الفناء.
المسلم في صلاةٍ منذ يسمعها تدعوه إلى الصلاة؛ لأنه يذكر بها عظمة الله، وهي لب لباب الصلوات.
وتنفرج عنها هدأةُ الليل، فكأنها ظاهرةٌ من ظواهر الطبيعة الحية تلبيها الأسماع والأرواح، وينصت لها الطير والشجر، ويَخِفُّ لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها إن =الصلاة خير من النوم+.
فتخرج كلها إلى الحركة بعد لمحة أو لمحتين، وتقول كلها: إن الحركة صلاة خفيَّة بيد محرك الأشياء، وإن الصلاة خير من النوم.
وإذا ودع بها الهاتفُ ضياءَ النهار، واستقبل بها خفايا الليل فهو وَدَاعٌ متجاوبُ الأصداء، كأنه ترجمان تهتف به الأحياء، أو تهمس به في جنح المساء، وكأنه ينشر على الآفاق عظمةَ الله، فتستكين إلى سلام الليل، وظلال الأسر والأحلام.
وإنها لتسمع بالليل ثم تسمع بالنهار، تُسمع والنفوس هادئة كما تسمع والنفوس ساعية مضطربة: توقظ الأجسام بالليل، وتوقظ الأرواح بالنهار، فإذا هي أشبهُ صياحٍ بسكينة، وأقرب ضجيج إلى الخروج بالإنسان من ضجيج الشواغل والشهوات.
حي على الصلاة!
حي على الفلاح!
نعم هذا هو الفلاح جد الفلاح؛ لأن كل فلاح بغير الإيمان هو الخسار كل الخسار.
وما يُعْرَفُ وقعُ الأذان من شيء كما يُعْرَف مِنْ وقْعِه بمعزل عن العقيدة، ومعزل عن العادة والسنة المتبعة، أو كما يُعرف مِنْ وَقْعه في بدائه الأطفال، وبدائه الغرباء عن البلاد، وعن عقيدة الإسلام.
ففي الطفولة نسمع الأذان، ولا نفهمه, ولكننا نميزه حين يحيط بنا بين دعوات هذه الأرض وبين صيحات اللعب، وصيحات البيع والشراء، ونؤخذ به ونحن لا ندري بم نؤخذ، ونود لو نساجله، ونصعد إليه، ونستجيب دعاءه، ويفسره المفسرون لنا =بأمر الله+ فنكاد نفهم كلمة الأمر، ونكاد نفهم كلمة الله، ولكننا نحار في البقية ونحيلها إلى الزمن المقبل.
ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة بأننا ما نزال حائرين، وإن سُمِّيت الحيرة بأسماء بعد أسماء، وأطلق عليها عنوان بعد عنوان.
وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظةً من اللحظات، فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة؛ ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه.
إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة، ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة لو تستطاع وثبة إلى ماض بعيد أو قريب.
أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يلفتهم من شيء من شعائر العبادة الإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية كيفما اختلف الترتيل والتنغيم.
يقول إدوارد وليام لين صاحب كتاب =أحوال المُحْدَثين وعاداتهم+: =إن أصوات الأذان أخَّاذة جدَّاً ولاسيما في هدأة الليل+.
يقول جيرار دي نرفال في كتابه سياحة بالمشرق: =إنني لأول مرة سمعت فيها صوت المؤذن الرخيم الناصع خامرني شعور من الشجو لا يوصف، وسألت الترجمان: ماذا يقول هذا الهاتف؟ فقال: إنه ينادي أن لا إله إلا الله، قلت: فماذا يقول بعد هذا؟ فقال: إنه يدعو النيام قائلاً: يا من ينام توكل على الحي الذي لا ينام...+
وأنشأ الكاتب المتصوِّف =لافكاديو هيرن+ Lafcadio Hearn رسالة وجيزة عن المؤذن الأول _ أي بلال بن رباح _ فقال: =إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة شرقية، وعلى مقربة من إحدى المنائر قلما تفوته خشعةُ الفؤاد لذلك الجمال الوقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة، وهو لا شك يستوعب في قلبه _ إذا كان قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة _ كلَّ كلمة من كلمات تلك الدعوة المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة، حيثما أرسل الفجر ضياءه المورد في سماء مصر أو سورية، وفاض بها على النجوم، وإنه ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة، ويسمعه قبيل مغيب الشمس والمغرب يتألق بألوان القرمز والنّضَار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزُّمُرُّد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومِضُ مِنْ فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق مسجد الله الذي لا يزول.
ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنَّعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه كما فعل جيراردي نرفال أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام.
عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة ومنها [لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ].
فإن كان الترجمان ممن يعون طرفاً من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول _ أول من رتل الدعاء إلى الصلاة _ كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة، بلال بن رباح، صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم+.
وقد لمسنا نحن آثار الأذان البالغ في رُوْع كثير من السائحين والسائحات الذين ينزلون ببلدتنا أسوان خلال الشتاء، أو يمرون بها في الطريق من السودان وإليه.
فإنهم كانوا يَصِلون إلى أسوان وقد سمعوا الأذان مرات في القاهرة والاسكندرية، وربما سمعوه في غيرهما من البلدان الإسلامية ولكنه كان يفاجئهم بجدة لا تبلى كلما طرق أسماعهم بالليل أو النهار _ ولاسيما في أيام الجمعة.
وكان من المصادفات الطيبة أن مؤذن الجامع الأكبر بالمدينة كان حسن الصوت منطلق الدعاء يمزج الغيرة الدينية بالغيرة الفنية في أذانه، فكان يخيل إلينا وهم يصغون إليه أنهم يتسمعون هاتفاً من هواتف الغيب يطرق الأسماع في وقت رتيب، أو يترقبون طائراً من طوائر الهجرة التي تأتي في الأوان ولكن كما يأتي كل شيء غريب.
وكان من عادات المؤذنين التي لبثوا يعيدونها في شهر رمضان إلى عهد قريب أن يدقوا طبول السحور على المنائر العالية في الهزيع الأخير من الليل؛ فشكا بعض النازلين بالفنادق القريبة من المنارة، وترددوا في تبليغ شكواهم إلى رجال الحكومة؛ لأنهم حسبوا هذه الطبول شعيرة من شعائر الإسلام.
فلما سأل عنها بعضُ مثقفيهم وقيل لهم: إنها عادة من عادات البلد، وليست شعيرة من شعائر الدين تقدموا برجائهم وقالوا: إننا لا نشكوا من الأذان؛ لأنه لا يقلقنا، ولا يزال يسري إلينا في ساعة الفجر كما يسري الحلم الجميل، ولكننا نقلق من هذه الطبول التي تدق فوق رؤوسنا، وكنا نحتملها لو علمنا أنها شعيرة لا تبديل لها، ولكنا علمنا أنها تبدل في كل بلد إسلامي على حسب عاداته، وأن المدن الكبرى تستبدل بها طبولاً صغيرة تدق على الأبواب: فاسمحوا لنا أن نهدي إلى البلد بعض هذه الطبول.
وكانت هذه الطبول مما يباع في كل موسم للسائحين على أحجام مختلفة؛ لأنها كانت تستخدم في عهد الدراويش بالسودان، إما لجمع الجند أو لتنبيه الغافلين، أو للتوقيع والتنغيم، وكانت ملابس الدراويش وأسلحتهم وأدوات معيشتهم مما يبحث عنه السائحون في أسواق البلدة، فتبرعوا بالطبول الصغيرة فرحين؛ لأنها تنقذهم من قرع الطبول حين يختلط بأصوات المؤذنين، فيقلقهم ويشوِّه عندهم جمال الأذان الخفيف على أسماع النيام.
وقد كانت هذه الطبولُ وشيكةً في بداية الأمر أن تقوم مقام الأذان في دعوة المسلمين إلى الصلاة؛ إذ لم يكن الأذان كما نسمعه اليوم معروفاً قبل انتشار الإسلام في مكة والمدينة، وإنما كان المسلمون طائفة قليلة يدعون إلى الصلاة الجامعة بالنداء الذي يُسمع من قريب، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة فكر المسلمون في دعاء إلى الصلاة يسمعه المنتشرون بالمدينة من بعيد.
ومن جملة الروايات التي جاءت في طبقات ابن سعد وغيرها يُفهم أنهم كانوا قبل أن يؤثر بالأذان ينادي منادي النبي _ عليه السلام _ : الصلاة جامعة! فيجتمع الناس، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة تذاكر المسلمون الأمر فذكر بعضهم البوق، وذكر بعضهم الناقوس، وذكر بعضهم ناراً توقد كنار القِرى، ثم تفرقوا على غير رأي ومنهم عبدالله بن زيد الخزرجي، فلما دخل على أهله فقالوا: ألا نعشيك؟ قال: لا أذوق طعاماً؛ فإني قد رأيت رسول الله قد أهمه أمر الصلاة، ونام فرأى أن رجلاً مرَّ وعليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس، فسأله: أتبيع الناقوس؟ فقال: ماذا تريد به؟ قال: أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس، فأجابه الرجل: بل أحدثك بخير لكم من ذلك، تقول: الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة. حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. ونادى الرجل بذلك النداء وهو قائم على سقف المسجد ثم قعد قعدة، ثم نهض، فأقام الصلاة.
فلما استيقظ عبدالله بن زيد من منامه ذهب إلى النبي _ عليه السلام _ فقص عليه ما رأى فقال له: قم مع بلال فألق عليه ما قيل لك.
وجاء الفاروق بعد ذلك فقصَّ على النبي مناماً يشبه ذلك المنام.
وجرى الأمر في الدعوة إلى الصلاة منذ ذلك اليوم على الأذان كما نسمعه الآن، وزاد بلال في أذان الصبح =الصلاة خير من النوم+ فأقرها النبي _ عليه السلام _ وبقي النداء في الناس بالصلاة الجامعة للأمر يحدث فيحضرون له يخبرون به مثل فتح يقرأ، أو دعوة يُدعون إليها، وإن كان في غير وقت الصلاة.
وقد ندب بلال بن رباح للأذان من لحظته الأولى فلم يُسمع لأحد أذان قبله ولم يسبقه إلى ذلك سابق في تاريخ الإسلام، وهو شرف عظيم؛ لأن محمد ابن عبدالله كان إمام المسجد الذي كان مؤذنه بلال بن رباح.
ومن المتفق عليه في أقوال الصحابة أن بلالاً كان محبب الصوت إلى أسماع المسلمين، وأنهم كانوا يقرنون دعوته بصلاة النبي فيزيدهم هذا خشوعاً لسماع صوته فوق خشوع.
على أننا نقرأ في أنباء فتح مكة أن رهطاً من المشركين كانوا ينكرون نداءه ويتساءلون: أما وجد محمد غير هذا العبد ينهق على ظهر الكعبة؟ وكانوا يستكبرون من رجل كائناً من كان أن يعلو ظهر البيت الذي لم يصعد إليه أحد في الجاهلية، فهالهم أن يروا =عبداً+ يصعد إليه ويجهر بذلك النداء.
قال بعضهم للحارث بن هشام: ألا ترى هذا العبد أين يصعد؟ فلجأ الرجل إلى حكمة المضطر وقال: دعه: فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.
وكان الحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وعتّاب بن أَسيد جلوساً بفناء الكعبة يوم أمر النبي بلالاً أن يصعد إلى ظهر الكعبة فيقيم الأذان، فقال عتّاب: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه.
وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، وأنكر أبو سفيان ما سمع، أو قيل في بعض الروايات أنه جمجم قائلاً: لا أقول شيئاً، ولو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.
وقبل أن نحيل هذا الإنكار إلى شيء يؤخذ مأخذ النقد ينبغي أن نذكر أن ذلك الوصف من المشركين كانوا خلقاء أن ينكروا أول أذان يرتفع في سماء مكة ولو ترنمت به الملائكة، وتجاوبت به سواجع الأطيار، وأنهم سمعوه زعيقاً و =نهيقاً+ _ كما قالوا _ لأنهم سمعوا شيئاً لا يطيقونه ولا يستريحون إليه، وكانت بهم عُنْجُهِيَّة السادة في النظر إلى العبيد، وكان لبلال عندهم وَتْرٌ معروف بمن قتل من سادات مكة في غزواته مع النبي _ عليه السلام _.


العلماء والإصلاح( ) للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين

نودُّ من صميم قلوبنا أن تكون نهضتُنا المدنيةُ راسخةَ البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة.
ولا يرسخ بناؤها، ويَرُوع طلاؤها، وتُحْمَدُ عاقبتها إلا أن تكون موصولةً بنظم الدين، مصبوغةً بآدابه.
والوسيلة إلى أن يجري فيها روح من الدين يجعلها رشيدةً في وجهتها، بالغةً غايتَها أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية؛ فلا يذروا شيئاً يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه.
ينظر أهل العلم في حال الناس من جهة ما يتقربون به إلى الخالق، ويزنون أعمالهم، ليميزوا البدعة من السنة، ويرشدوهم إلى أن يعملوا صالحاً.
ومَنِ الذي لا يدرك أن البدع تقف كقطع من الليل المظلم، فتغطي جانباً من محاسن الشريعة الغراء، وهي بَعْدَ هذا ضلالات تهوي بأصحابها في ندامة وخسران؟
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يدور بينهم من المزاعم الباطلة، والأحاديث المصنوعة، وينفون خبثها نفيَ النار لخبث الحديد، يفعلون هذا؛ ليكون الناشئ المسلم نقيَّ الفكر، صافي البصيرة، لا يحمل في نفسه إلا عقائدَ خالصةً، وحقائقَ ناصعةً.
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يجري بينهم من المعاملات، فيصلحون ما كان فاسداً، ويصلون ما كان متقطعاً.
وما شاعت المعاملات التي نهى عنها الدين في غير هوادة كالربا والميسر إلا حيث قل من يعظ الناس في ارتكابها، ويبسط القول في شؤم عاقبتها.
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يمسهم من السراء والضراء، ويسعون ما استطاعوا في كشف الضر عنهم ولو بعرض حالهم على أولي الشأن، وإثارة دواعيهم إلى أن يعالجوا العسر حتى ينقلب بفضل تدبيرهم يسراً.
يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم وقال أحد علمائهم:
وأَتْعَبُ إن لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً
وغيري إن لم يَتْعَبِ الناس يتعبِ

ينظر أهل العلم بعين الاحتراس إلى كل من يدعو إلى مذهب باسم الدين، ويتخذون الوسائل إلى الاطلاع على حقيقة قصده.
ومن أسباب وهن حبل الإسلام، وتقطُّع أوصاله _ مذاهبُ يبتدعها ملاحدة يمكرون، أو جهال لا يفقهون؛ أفلم يكن المذهب البهائي يعمل لهدم قواعد الإسلام، واستهواء أبنائه من خلف ستار؟.
وقد أحس بعضُ أتباعه اليوم بقوة، فصاروا يخطبون على منابر بعض النوادي، ويجهرون بشيء من مزاعمه، وعرف بعض خصوم الإسلام قصدهم، فقاموا يشدون أزرهم، ويرددون الثناء على مذهبهم.
نحن نعلم أن في كل أمة فئةً يفتحون صدورهم لقبول كل دعوة توافق أهواءهم، أو تأتيهم في طلاء يلائم أذواقهم.
ولكن نهوضَ العلماء بعزم وحكمة إن لم يسحق آراء زعماء هذه الفئة سحقاً فإنه يكشف عما فيها من سوء؛ فلا يسكن إليها إلا مَنْ هم إلى الحيوان الأعجم أقرب منهم إلى الإنسان.
يَرْقُبُ أهل العلم كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة.
ولا تُعَدُّ هذه المراقبة، وهذا النقد خارجين عن خطة العالِم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه كواجب التعليم والإفتاء.
وإذا قصَّ علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث من المسائل العلمية البحتة _ فقد قصَّ علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً.
كان أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبوبكر بن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحيةً من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مالٌ موفَّرٌ يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد أضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة.
وكان محمد بن عبدالله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما كان يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وهى منها حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.
وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودَّاً واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً.
أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يَعْرِفون في طائفة من العلماء رجاحةَ الرأي، وصرامةَ العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء.
وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبدالرحمن بن القاسم في القاهرة.
ينظر أهل العلم إلى ما غرق فيه بعض شبابنا من التشبه بالمخالفين، وتقليدهم في عادات لا تغني من الرقي شيئاً، وقد يرى بعضهم انحطاط كثير من أبنائنا في هذا التشبه والتقليد، فيعده قضاءاً مبرماً، ويملكه خاطر اليأس حتى ينتكث من التعرض للشؤون العامة ومعالجتها.
ولكن الذي يعرف علة هذا التسرع ويكون قد قرأ التاريخ؛ ليعتبر يرى الأمر أهون من أن يصل بالنفوس إلى التردد في نجاح الدعوة، بَلْه اليأس من نجاحها.
وأذكر بهذا أن كاتباً كتب في إحدى المجلات مقالاً تحت عنوان: =وحدة العالم+ يدعو فيه إلى مسايرة أوربا في السفور ونحوه، وقال في علة الدعوة إلى هذه المسايرة: ليخرج الشرق والغرب في مدينة( ) واحدة، وأشار على دعاة الإصلاح في الشرق بأن لا يقفوا في سبيل هذه المدنية زاعماً أنهم لا يستطيعون مقاومتها، ولا يزيدون على أن يجعلوا سيرها بطيئاً، ورغب إليهم أن يحثوا الناس على المسارعة إلى قبولها.
والذين ينظرون إلى مدنية أوربا باعتبار يبصرون فيها على البداهة ما لا يرتضيه العقل، ولا يقبله الشرع.
واختلاف الأمم بالحق خير من اتحادها على باطل، ولا يفوت الحكمة أن تجد نفوساً مهذبة وعقولاً سليمة فتقبلها؛ فحقيق على العلماء أن يبتسموا لهذا الرأي تبسم الازدراء، ولا يقيموا لمثله وزناً إلا أن يكشفوا سريرته، ويعرضوا على الأنظار سوء مغبته.
والعالم بحق من يتدرع بالإيمان البالغ، والثقة بما وعد الله به الداعي إلى الحق من الظهور على أشياع الباطل وإن أوتوا زخرفاً من القول، وسعة من المال، وكانوا أكثر قبيلاً.
لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات؛ فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجاً نصحوا لهم بأن يستقيموا، أو رأوا حقَّاً مهملاً لفتوا إليه أنظارهم، وأعانوهم على إقامته.
أمر السلطان سليم بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن؛ فبلغ هذا النبأ الأستاذ علاء الدين الجمالي، وكان متولياً أمر الفتوى، فذهب إلى السلطان وقال له: وظيفة أرباب التقوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً؛ فعليك بالعفو عنهم، فغضب السلطان سليم، وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك، فقال الأستاذ علاء الدين: لا بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي؛ فإن عفوت فلك النجاة، وإلا فعليك عقاب عظيم؛ فانكسرت سَوْرَةُ غضبِ السلطان، وعفا عن الجميع.
ومتى كان في الولاة شيء من العدل، وكان في الداعي إلى الإصلاح حكمة وإخلاص _ نجحت الدعوة في سعيها، وبلغت بتأييد الله مأربها.
يكون العالم رفيقاً في خطابه، ليناً في إرشاده.
أما إذا أراده ذو قوة على أن يقول ما ليس بحق، أو يأتي ما ليس بمصلحة _ أخذ بالتي هي أرضى للخالق، وكان مثالاً للاستقامة صالحاً.
أذكر أن أحمد بن طولون دعا القاضي بكار بن قتيبة إلى خلع الموفق من ولاية العهد فأبى، فحبسه، وكرر عليه القول، فأصر على الإباءة، وبقي في السجن حتى ثقل ابن طولون في مرض الوفاة، فبعث إلى القاضي بكار يقول له: أردك إلى منزلتك أو أحسن منها، فقال بكار للرسول: قل له: شيخٌ فانٍ، والملتقى قريب، والقاضي الله _ عز وجل _ .
فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك، فأطرق ساعة ثم قال: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله _ عز وجل _ وأمر بنقله من السجن إلى دارٍ اكْتُريت له.
وإنما يقوم العالم بإسداء النصيحة إلى ذي قوة، أو لا يوافقه فيما يخدش أمانته وتقواه _ متى قَدِرَ مقامَه العلميَّ قَدْرَه، وكان شأن العلم أسمى في نظره من كل شأن.
وهذا الشعور هو الذي يهيئه بعد داعية الغيرة لأن يجاهد في سبيل الحق مستهيناً بكل ما يواجهه من أذى.
ومن أدب العلماء أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه.
وكم من عالم قام في وجه الباطل فأوذي، فتجلد للأذى، وأجاب داعي التقوى متأسياً بقوله ": =اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون+.
وممن جرى على هذا الخلق المتين أبوبكر بن العربي يوم كان قاضياً بأشبيلية، قال في كتاب القواصم والعواصم: حكمتُ بين الناس، فألزمتُهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا عليَّ، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا علي حتى أمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن الأقدار لكنت قتيل الدار _ يعني بقتيل الدار عثمان ÷.
ولا يستحق لقب عالم أو مصلح ذلك الذي يدعو الناس إلى العمل الصالح، ويقبض عنه يده، أو ينهاهم عن العمل السيئ ولا يصرف عنه وجهه؛ فمن أدب العلماء أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يؤاخذ به، وعمل ما يحمد عليه كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين، فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم، وقبولهم نصائحَهم.
وإذا كان العدد القليل فيما سلف يكفي لحراسة الدين، وإرشاد من ينحرف عنه حتى يعود إليه _ فَلأَنَّ سلطانَ الإسلام يومئذ وصوتَ غالبِ الجهلِ عليه خافتٌ.
أما اليوم فالحال ما ترون وما تسمعون، فلا يمكن للدعوة أن تأتي بفائدتها إلا أن تَضُمَّ المعاهد الإسلامية بين جدرانها طوائف كثيرة من أولي الغيرة والعزم يصرفون جهدهم في الدفاع عن الدين والدعوة إلى الخير، ويعيدون الدعوة مرة بعد أخرى.
وستنبت المعاهد الإسلامية _ إن شاء الله _ كثيراً من العلماء القوامين على نحو ما وصفناه، ولاسيما حين يأخذ التعليم بالأزهر الشريف نظامه الأسمى، ويجري مثل هذا النظام في غيره من المعاهد الإسلامية كجامع الزيتونة في تونس وجامع القرويين في فاس، ويقوى الأمل في أن تؤتيَ هذه المعاهد الثمرة الغزيرة الطيبة متى نظر إليها أولوا الأمر برعاية، وعاملوا النشء المتخرجين منها بما يدل على أنهم يحترمون الشريعة، ويقدرون ما تبثه في الأمة من رشد وإصلاح.









تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب

36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم: لأمير البيان شكيب أرسلان
37_ تصحيح الكتب: للعلامة أحمد شاكر
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين


التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم ( )
لأمير البيان شكيب أرسلان( )

لا أريد أن أناقش أحداً ولا أن أسمي أشخاصاً ولا أن أحمل على باحث أديب بتجهيل، وإنما أُلمح من خلال الكتابات التي يجود بها بعضُ أدباء الوقت منزعاً، إن كان في حد ذاته محموداً فقد ينقلب في إساءة استعماله مذموماً، ويصير ضلالاً.
ولع بعض الأدباء( ) باتهام التاريخ الإسلامي الذي لدينا وسلوكِ طريقة في التعليل لم يسلكها الأولون؛ ارتياداً لوجوه جديدة، وأسبابٍ للحوادث لم تكن معروفة، بحيث يُقال: إنهم كشفوا حقائق تاريخية لم يعرفها غيرهم، أو عرفوا أسراراً أعماها التاريخ الديني أو عَمّتْها السياسةُ وأهواؤها على الجمهور، ويسمون ذلك تحقيقاً وتمحيصاً، ويظنون أن التمحيصَ والتحقيقَ هما بمجرد المخالفة، والخروج عمَّا عليه الرأيُ العام.
والحقيقة أنه إن كان مقصدُهم مجردَ المخالفة، وتغيير الأسلوب؛ لعدم الصبر على طعام واحد _ فقد أصابوا الغرض.
ولكن إن كانوا يزعمون أن هذه التعليلات الغريبة هي الأصل في تلك الوقائع فليسمحوا لنا أن نستعفيَهم من التصديق؛ لأننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية، وملاحظة ما سبق وما لحق، واستنباطِ النتائج من المقدمات، ولا نعرفه تخرصاتٍ وافتراضاتٍ وأبنيةً على غير أساس.
فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق؛ لأجل الإتيان بالبدع، ويجلُّ علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص، ولكن نبَّه المدققون منهم على أنهم خلطوا.
فعندما يقوم واحد، فيذهب إلى أن تاريخَ حربِ اليمامة محاطٌ بالغموض، وأن مُقاتلة أبي بكر لأهل الردة لم تكن من أجل إقامة الدين، بل من أجل تأسيس الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل _ نعلم أنه حاول أن ينهج مناهج الممحصين، فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع ولو كان الإجماع صحيحاً؛ فلم يُصِبِ المرمى.
وعندما يقومُ آخر فيدَّعي أنَّ السلفَ في صدرِ الإسلام وضعوا =سانسورا+( ) على الشعر الجاهلي المُشْرَبِ مبادئ الوثنية أو النصرانية أو اليهودية _ نعلم أنَّ هذه الدعوى مبنية على الافتراض والتخيُّل، وأنها لا تستند على دليلٍ، بل الواقع يُناقضها من كلِّ الجهات.
أعجبتني جداً عبارة الذي ردَّ على هذه الفئة( ) فقال لهم =مَنْ مِنْ ملوك المسلمين وحكامهم أمر بوأد الوثني واليهودي والنصراني ومحوه؟ ومَنْ مِن أعوان هؤلاء الحكام تولَّى ذلك؟ وكيف كانت طريقةُ المحو؟ وهل كُتب لها النجاح في كلِّ بلادِ الإسلام؟ ...إلخ+.
والحقيقة أنه ليس لهم من جواب على هذا السؤال، ولا حيلةَ لهم في التخلص منه إلا بإيراد أدلة واهية لا تدفع شيئاً من حقيقة حرية الرواية في ذلك العصر، ومِن كون بابها بقي مفتوحاً على مصراعيه، ولا تنفي أن عصر الصحابة لم يعرف =السانسور+ ولا مراقبة الرواية، ولا كمَّ الأفواه، ولا شيئاً من أوضاع =ديوان التفتيش+.
وإذا تأملتَ في كلامِ هذه الفرقةِ رأيتهم يشيرون من طرف خفي إلى نزول درجة الحضارة التي كان عليها الصحابة، وأن شرائعهم وقوانينهم إنما كانت شرائع قوم في طفولة المدنية، وأنها لا تمس الحياة إلا قليلاً، وما أشبه ذلك، ثم ينسون أن مراقبة الكتابات والروايات إنْ هي إلا من أوضاع الهيئات الاجتماعية المتمدينة التي استبحر فيها العمران وتأثَّلَ الملك، وأن =السانسور+ لا يأتي مع بداوة المجتمع، ولا يعقل وجوده في أيام السذاجة كالتي عاش فيها النبي " والصحابة _ رضوان الله عليهم _.
فمراقبة الكتب والخطب كانت تقع في رومية والقسطنطينية لعهد عظمة القياصرة، وفي أيام سلطة الباباوات، وفي عهد ملوكٍ فاتحين كلويس الرابع عشر، وقد بالغ فيها نابليون الأول ثم نابليون الثالث، وقد وقعت من أيام العرب في عهد العباسيين وغيرهم من ملوك الأعاجم، أو الملوك العرب الذين اتخذوا أطوار الأعاجم.
فأما القولُ بأنها كانت في عهد الخلفاء الراشدين وفي أيام الصحابة فمحضُ تحكمٍ ومكابرة.
نعم كان هؤلاء الناس من شديدي التحمس بالدين الجديد الذي جاءهم به محمد" ولكن حماستهم هذه لم تَقْلَعْ ما في قلوبهم من حبِّ الحرية التي نشأوا عليها في الجاهلية، والتي لا يوجد في الشرق ولا في الغرب أمةٌ بلغت شَأْوَ العرب فيها.
ومن قال: =إن العرب أعرق الأمم في الحرية+ فغير مبالغ؛ لهذا تجدهم رووا بألسنتهم، وكتبوا بأقلامهم جميع مطاعن المشركين في النبي " وصحْبِه، ولم يُخْفوا منها قليلاً ولا كثيراً، ونقلوا الشُبَهَ والاعتراضات التي كانت تقع على الرسول ورهطه، وذكروا كثيراً مما كان يردُّ به بعض العرب على رسول الله " وكيف أنَّ اثنين تخاصما إليه، فحكم لأحدهما فقال المحكوم عليه:=هذا حكم لم يُرد به وجه الله+، فقال _ عليه الصلاة والسلام _:=أوذيَ موسى من قبلي بأكثر من هذا+.
وغير ذلك مما هو مستفيض في كتب السيرة النبوية وأخبار صدر الإسلام، ومما رواه الرواة المسلمون، وحرره الكتبة المسلمون، وأقرأه العلماء المسلمون.
ولم يكن عندهم حرج في نقل تلك الأحاديث وإبرازها كما جاءت؛ لأنهم كانوا على بينة من دينهم الذي دانوا به، وكانت قلوبهم مطمئنةً بالإيمان، وكانت سيرة النبي " معلومة عندهم بدقائقها، فلم يكونوا يحتاجون فيها إلى =السانسور+ دَرْءاً للشبهات عنها، وخوفاً من أن يُفضي تداول هذه الروايات إلى زعزعة عقيدة الإسلام التي لم تكن منذ جاء بها صاحبها " إلى اليوم على شفا جرف هار.
إن الإسلامَ مولودٌ رُزِقَ الصحةَ، ووثاقةَ التركيب منذ ولادته.
نعم في هاتيك الأيام وما يليها كانوا يردون( ) أهاجي بعض الشعراء للصحابة والأنصار و=لبني النجار+ وفي تلك الأيام كان يُعاتَبُ الرسولُ ويُقال له:
ما كان ضَرَّكَ لو عَفَوتَ فربما
منَّ الفتى وهو المَغيظُ المُحْنَقُ

في أيام السلف كان يُنادي الأخطل:
ولستُ بصائمٍ رمضانَ عُمري

ولستُ بآكلٍ لحمَ الأضاحي

ولستُ بقائلٍ ما عشتُ يوماً
قُبيلَ الصبحِ: =حيَّ على الفلاحِ+

كان يقولُ هذا ويدخلُ على الخلفاء، ويُجيزونه الجوائز السنية، وكان هو وغيره من النصارى واليهود يفتخرون بدينهم، ويُعلنونه في أشعارهم التي كانَ يرويها المسلمون، ويُقيِّدونها في دفاترهم.
ولمَّا جاءَ الملكَ النعمانَ بن المنذر رجلٌ نصراني في اليوم الذي كان عنده يومَ بؤس وأمر النعمان بقتله، استماحه النصرانيُّ مُهلةً أن يذهبَ ويودِّعَ أهله، فأذن له، على أن يقدِّم كفيلاً يحل محله في القتل إذا هو لم يرجع، فرجع، وتعجب النعمان من وفائه، فسأله: ما حملك على هذا الوفاء؟ فأجابه النصراني: حملني ديني! فقال له النعمان: وما دينك؟ قال له: النصرانية، وتنصَّرَ النعمان بعد ذلك.
فكانت هذه الرواية مما حرَّره المسلمون ولم يغمطوا النصرانية حقَّها، ولا غمطوا اليهودية _ أيضاً _ حقَّها.
وأجمع العرب المسلمون على نقل مآثر السموأل، وكان السموأل يهودياً، ومازال السموأل مَضْرِباً للأمثال في علوِّ النفسِ وكرمِ السجية إلى يومنا هذا، حتَّى قال شوقي _شاعر العصر_ منذ أيام قلائل( ):
كأنَّ من السموأل فيه شيئاً

فكلُّ جهاته كرمٌ وخُلْقُ

فكيفَ يكون المسلمون الأوائل حاولوا خنقَ كلِّ صوتٍ غيرِ صوتهم، ومحوا آثارَ النصرانية واليهودية والوثنية من شعر العرب؟
ثم إنَّ شعرَ شعراء النصرانية في الجاهلية يملأ الدواوين، وما منهم إلا من حرص علماء الإسلام على التنبيه أنَّه كان نصرانياً، وقد نقلوا خطب قس ابن ساعدة الذي كان مُطراناً، ونقلوا ثناء النبي" عليه.
وأما كون ديوان شعراء النصرانية المطبوع في بيروت موضوعاً، وأنَّ الشعراءَ المرويةَ أشعارُهم فيه لم يكونوا نصارى، بل جعلهم صاحب الديوان نصارى وهم جاهليون لا غير _ فمن يقول هذا؟ ومن يصل به المراء إلى إنكار أن أكثر أولئك الشعراء كانوا نصارى؟ غاية ما يُقال: إنَّ بعض أولئك الشعراء لم تثبت نصرانيتهم، وهذا لا ينفي أنَّ شعراء كثيرين مثل العبادي، والأخطل، والقطامي كانوا نصارى مجمعاً على نصرانيتهم، وأنَّ المسلمين نقلوا أشعارهم كما هي ولم يحذفوا منها شيئاً، وكان شعراء المسلمين يناقشونهم ويداعبونهم، وكان جرير يقول:
قال الأُخيطلُ أن رأى راياتهم
يا مارِسرجس لا نريد قتالا

فالقول بأن النبي" وأصحابه لم يبقوا على أي نزعة تخالف دين الإسلام، وأنهم طووا شعر النصارى واليهود والمشركين _ محضُ تحكمٍ لم يقم عليه أدنى دليل، بل قام الدليل على حرية الإسلام.
ونقل رواة المسلمين ليس شعر النصارى واليهود والمشركين فقط، بل أهاجيَ كثيرةً قالها هؤلاء في النبي وأصحابه وأنصاره.
وأما عدم حرمة النبي" والصحابة للشعر وقولهم إن روايته ضلال فهذا زعم باطل مخالف للإجماع، فقد روى النبي" الشعر( ) واستحسنه وقال: =إنَّ من الشعر لحكمة+ ورواه عمر وعلي وسائر الصحابة، وتناشدوه، وطربوا له وكان فكاهة مجالسهم، وقصة كعب بن زهير مع رسول الله " وإنشاده إياه =بانت سعاد+ واهتزاز النبي لهذه القصيدة وإنعامه على كعب ببُردته الشريفة _ كلُّ ذلك لا يحتاج إلى بيان.
ولكنَّ الشعر كسائر الأشياء إذا أسيء استعماله انقلب إلى الضرر، وإذا كان وقعَ من عمر ÷ _ وهو من أبصر الناس بنقد الشعر وأشدهم اهتزازاً لجيده _ تضييقٌ على الشعراء، فيكون في المواطن التي أسيء فيها استعمال الشعر، وصار باباً للمشاحنات والفتن.
وكما أنَّ للخليفة طبيعةً ينفش بها إلى الأدب، ويعجب بسحر البيان فإنَّ عليه واجباً هو حماية الأعراض، وحفظ السلام.
وأما إزراء الشعراء بالعلماء، وما قاله بعض هؤلاء في الإعراض عنه، والتعوذ منه فهو من باب التورُّع من بعض الفقهاء، وذلك لأنهم كانوا يرون فيه مبالغة، وغلواً، وعبثاً، فأشفقوا من أن يؤثِّرَ الاعتمادُ عليه في أخلاقِ النشء، ويصرفهم عن العبادة.
ولكن هذا الزهد في الشعر لم يحملهم، ولا حَمَلَ الخلفاء والسلاطين على منع قرضِ الشعرِ وروايته والتأدبِ به، وذلك كما أنَّ نصرانية الأخطل والقطامي وأمثالهما لم تمنع متأدبي الإسلام من رواية أشعارهم، وحفظها والتأدب بها، وأن وثنيةَ أكثرِ شعراء الجاهلية لم تَحُلْ دونَ انطباع طلاب الفصاحة من المسلمين بأساليبهم، ونسْجهم على منوالهم.
ومَنْ مِنْ العلماء والمؤرخين المحققين يقدر أن يقول إن أدباء العرب بعد الإسلام رغبوا عن شعر الجاهلية، وأهملوا روايته؛ من أجل أن قائليه كانوا مشركين؟ أو أن المسلمين طووا كلام قس بن ساعدة، لأنه كان نصرانياً؟ أو لم يعجبوا بقصيدة =إذا المرء لم يَدنس من اللؤم عرضه+ لأن صاحبها كان يهودياً؟ من يا رب يقول هذا إلا الذين يبنون التاريخ على الأهواء والخيالات؟
وقع التشدد في مثل هذه الأمور في أيام الدولة العباسية؛ لبعد العهد بسذاجة الدَّور الأول، وميلِ هذه الدولة إلى مناحي الأعاجم، وفُشُوِّ الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية في دار السلام، مما أخافَ الخلفاء ووزراءَهم على العقيدة الدينية، وحَفَزهم على الاحتياط لعدم انحلالها، وهذا أشبه بما كان في أوربة في القرون الوسطى، لا بل في القرون الأخيرة، لا بل بما لا تزال بقاياه إلى هذه الآونة.
وبرغم ما كان من هذا الاحتياط في أيام العباسيين، ومَنْ في عصرهم من ملوكِ الإسلام _ فقد كان الناس يروون أهاجيهم، ومثالبهم، ويتناشدون المطاعن الفاحشة في أعراضهم حتى في مجالس أقرب الناس إليهم.
وقد شاعت أقاويل التعطيل والإلحاد في هاتيكَ الأيام برغم الضبط والمراقبة، ودُوِّنتْ أقوال الملحدين والدهريين.
ورُويتْ أشعارُ المعرِّي ومن في سبيله حتى ما يخالف الدين الإسلامي مثل قوله:
وقوم أتوا من أقاصي البلاد

لرمي الجمارِ ولثمِ الحجر

وكثير غير هذا من أقواله، ورسالة الغفران وصلتْ إلينا، ولولا أنها تُدوِّلت بالنسخ من قراب ألف سنة ما وصلتْ إلينا، ولو كان هناك =سانسور+ ما أبقى على رسالة الغفران.
وتجادل نصراني في الدين مع أحد بني العباس، ونال النصراني من العقيدة الإسلامية، وبلغَ المأمون ذلك فقال ما معناه، ما كان أغنى ابن عمِّنا عن تعريض دينه للطعن!
ولا أنفي _ مع ذلك _ أنَّ الدولة الإسلامية في القرون التالية كانت تحجر _أحياناً_ على الفلسفة التي يُراد منها التعطيلُ أو الإلحاد، ويُسمونها الزندقة.
فأما إزالة شعر النصارى أو اليهود أو المشركين، ومنع روايته فشيء لم يقع لا في زمن الصحابة، ولا في أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.
فيا إخواننا إنَّ التاريخ لا يكون بالظن، وإنَّ الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً، وهذا نتفٌ من كثير، ووشل من بحر؛ ولو كانت بيدينا الآن كتب لأحلناكم على شواهد لا تنتهي، فإن كنتم مع هذا تُصرُّون على المخالفة؛ لأجل المخالفة فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو مما يُنقصها، وبدلاً من أن يضعَ العلم على قواعد اليقين يضعه على قواعد أوهى من بيت العنكبوت.


تصحيح الكتب( ) للعلامة الشيخ أحمد محمد شاكر( )

تصحيح الكتب، وتحقيقها من أشق الأعمال وأكبرها تبعة، ولقد صوَّر أبوعمرو الجاحظ ذلك أقوى تصوير، في كتاب (الحيوان) فقال (ج1، ص79 من طبعة أولاد السيد مصطفى الحلبي بمصر): =ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً، أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حرِّ اللفظ، وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص؛ حتى يرده إلى موضعه من أمثلة الكلام؛ فكيف يطيق ذلك المعارض المستأجر، والحكيم نفسه قد أعجزه هذا الباب؟ وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمرين: قد أصلح الفاسد، وزاد الصالح صلاحاً، ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخة لإنسان آخر، فيسير فيه الورَّاق الثاني سيرة الورَّاق الأول. (
ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض المفسدة، حتى يصير غلطاً صرفاً وكذباً مصمتاً؛ فما ظنكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخطاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله، كتاب متقادم الميلاد، دهريُّ الصنعة+.
وقال الأخفش: =لو نُسخ الكتاب، ولم يعارض، ثم نُسخ ولم يعارض خرج أعجميّا!+.
وصدق الجاحظ والأخفش، وقد كان الخطر قديماً في الكتب المخطوطة، وهو خطر محصور؛ لقلة تداول الأيدي إياها، مهما كثرت وذاعت؛ فماذا كانا قائلَينِ لو رأيا ما رأينا من المطابع، وما تجترحه من جرائم تسميها كتباً!!
ألوف من النسخ من كل كتاب، تنشر في الأسواق والمكاتب، تتناولها أيدي الناس، ليس فيها صحيح إلا قليلاً؛ يقرؤها العالم المتمكن، والمتعلم المستفيد، والعامي الجاهل وفيها أغلاط واضحة، وأغلاط مشكلة، ونقص وتحريف؛ فيضطرب العالم المتثبِّت إذا هو وقع في خطأ في موضع نظر وتأمل ويظن بما علم الظنون، ويخشى أن يكون هو المخطئ، فيراجع ويراجع، حتى يستبين له وجه الصواب؛ فإذا به أضاع وقتاً نفيساً وبذل جهداً هو إليه أحوج؛ ضحيَّة لعب من مصحح في مطبعة، أو عمد من ناشر أمِّيٍّ، يأبى إلا أن يوسد الأمر إلى غير أهله، ويأبى إلا أن يركب رأسه؛ فلا يكون مع رأيه رأي.
ويشتبه الأمر على المتعلم الناشئ، في الواضح والمشكل، وقد يثق بالكتاب بين يديه، فيحفظ بالخطأ، ويطمئن إليه، ثم يكون إقناعه بغيره عسيراً، وتصوَّر أنت حال العامي بعد ذلك!!.
وأيُّ كتب تبتلى هذا البلاء؟ كتب هي ثروة ضخمة من مجد الإسلام، ومفخرة للمسلمين، كتب الدين والعلم: التفسير والحديث، والأدب والتاريخ، وما إلى ذلك من علوم أُخر.
وفي غمرة هذا العبث تضيء قلةٌ من الكتب طبعت في مطبعة بولاق قديماً عندما كان فيها أساطين المصححين، أمثال الشيخ محمد قطة العدوي، والشيخ نصر الهوريني، وفي بعض المطابع الأهلية كمطبعة الحلبي والخانجي.
وشيء نادر عنى به بعض المستشرقين في أوروبة وغيرها من أقطار الأرض يمتاز عن كل ما طبع في مصر بالمحافظة الدقيقة _ غالباً _ على ما في الأصول المخطوطة التي يطبع عنها مهما اختلفت، ويذكرون ما فيها من خطأ وصواب، يضعونه تحت أنظار القارئين، فَرُبَّ خطأ في نظر مصحح الكتاب هو الصواب الموافق لما قال المؤلف، وقد يَتَبَيَّنُهُ شخص آخر عن فهم ثاقب، أو دليل ثابت.
وتمتاز طباعتهم _ أيضاً _ بوصف الأصول التي يطبعون عنها وصفاً جيداً، يظهر القارئ على مبلغ الثقة بها، أو الشك في صحتها؛ ليكون على صحة من أمره.
وهذه ميزة لن تجدها في شيء مما طبع في مصر قديماً بلغ ما بلغ من الصحة والإتقان؛ فها هي الطبعات الصحيحة المتقنة من نفائس الكتب المطبوعة في بولاق، أمثال: الكشاف، والفخر، والطبري، وأبي السعود، وحاشية زاده على البيضاوي، وغيرها من كتب التفسير، وأمثال البخاري، ومسلم، والترمذي، والقسطلاني، والنووي على مسلم، والأم للإمام الشافعي، وغير ذلك من كتب الحديث والفقه؛ وأمثال لسان العرب، والقاموس، والصحاح، وسيبويه، والأغاني، والمزهر، والخزانة الكبرى، والعقد الفريد، وغيرها من كتب اللغة والأدب؛ وأمثال تاريخ ابن الأثير، وخطط المقريزي، ونفح الطيب، وابن خلكان، وذيله، والجبرتي، وغيرها من كتب التاريخ والتراجم، إلى غير ذلك مما طبع من الدواوين الكبار ومصادر العلوم والفنون.
أتجد في شيء من هذا دليلاً أو إشارة إلى الأصل الذي أخذ؟!
وأقرب مثل لذلك كتاب سيبوبه طبع في باريس سنة 1881م (توافق سنتي 1298، 1299هـ) ثم طبع في بولاق في سني 1316_ 1318هـ وتجد في الأولى اختلاف النسخ تفصيلاً بالحاشية، ومقدمة باللغة الفرنساوية فيها بيان الأصول التي طبع عنها، ونصَّ ما كتب عليها من تواريخ وسماعات واصطلاحات وغير ذلك حرفيَّاً باللغة العربية؛ ثم لا تجد في طبعة بولاق حرفاً واحداً من ذلك كله، ولا إشارة إلى أنها أخذت من طبعة باريس.
فكان عمل هؤلاء المستشرقين مرشداً للباحثين من المُحْدَثين.
وفي مقدمة من قلَّدهم وسار على نهجهم العلامةُ الحاج أحمد زكي باشا× ثم من سار سيره، واحتذى حذوه.
ومن ذلك كانت طبعات المستشرقين نفائس تقتنى، وأعلاقاً تُدَّخَر، وتغالى الناس، وتغالينا في اقتنائها على علو ثمنها، وتعسر كثير منها على راغبيه.
ثم غلا قومنا غلوَّاً غير مستساغ في تمجيد المستشرقين، والإشادة بذكرهم، والاستخذاء لهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي خطأ أو صواب يتقلدونه، ويدافعون عنه، ويجعلون قولهم فوق كل قول، وكلمتهم عالية على كل كلمة؛ إذ رأوهم أتقنوا صناعة من الصناعات: صناعة تصحيح الكتب؛ فظنوا أنهم بلغوا فيما اشتغلوا به من علوم الإسلام والعربية الغاية، وأنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه؛ حتى في الدين: التفسير والحديث والفقه.
وجهلوا أو نسوا، أو علموا وتناسوا أن المستشرقين طلائع المبشرين، وأن جلَّ أبحاثهم في الإسلام وما إليه إنما تصدر عن هوى، وقصد دفين، وأنهم كسابقيهم [يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ].
وإنما يفْضُلونهم بأنهم يحافظون على النصوص، ثم هم يحرفونها بالتأويل والاستنباط.
نعم إن منهم رجالاً أحرار الفكر لا يقصدون إلى التعصب، ولا يميلون مع الهوى، ولكنهم أخذوا العلم عن غير أهله، وأخذوه من الكتب، وهم يبحثون في لغة غير لغتهم، وفي علوم لم تمتزج بأرواحهم، وعلى أسس غير ثابتة وضعها متقدموهم، ثم لا يزال ما نُشِّئوا عليه، واعتقدوا يَغْلِبُهم، ثم ينحرف بهم عن الجادة، فإذا هم قد ساروا في طريق آخر غير ما يؤدي إليه حريةُ الفكر والنظر السليم.
ومعاذ الله أن أبخس أحداً حقه، أو أنكر ما للمستشرقين من جهد مشكور في إحياء آثارنا الخالدة، ونشر مفاخر أئمتنا العظماء.
ولكني رجل أريد أن أضع الأمور مواضعها، وأن أُقِرَّ الحقَّ في نصابه، وأريد أن أعرف الفضل لصاحبه، في حدود ما أسدى إلينا من فضل، ثم لا أجاوز به حده، ولا أعلو به عن مستواه.
ولكني رجل أتعصب لديني ولغتي أشد العصبية، وأعرف معنى العصبية وحدَّها، وأنْ ليس معناه العدوان، وأنْ ليس في الخروج عنها إلا الذل والاستسلام.
وإنما معناها الاحتفاظ بمآثرنا ومفاخرنا، وحوطُها والذود عنها؛ وإنما معناها أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعرف أنه =ما غُزِيَ قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا+.
وقد _ والله _ غُزِينا في عقر دارنا، وفي كل ما يقدسه الإسلام، ويفاخر به المسلمون.
وكان قومنا ضعافاً، والضعيف مُغْرَىً أبداً بتقليد القويِّ وتمجيده؛ فرأوا من أعمال الأجانب ما بهر أبصارهم؛ فقلدوهم في كل شيء، وعظموهم في كل شيء، وكادت أن تعصف بهم العواصف، لولا فضل الله ورحمته.
غرَّ الناسَ ما رأوا من إتقان مطبوعات المستشرقين؛ فظنوا أن هذه خطة اخترعوها، وصناعة ابتكروها، لا على مثال سابق، ليس لهم فيها من سلف، ووقع في وهمهم أن ليس أحد من المسلمين بمستطيع أن يأتي بمثل ما أتوا، بَلْهَ أن يَبُزَّهم إلا أن يكون تقليداً واتباعاً، وراحوا يثقون بالأجنبي، ويزدرون ابن قومهم ودينهم؛ فلا يعهدون له بجلائل الأعمال وعظيمها، بل دائماً: المستشرقون! المستشرقون!! ويلقى الأجنبي منهم كل عون وتأييد إلى ما له في قومه وبلاده من عون وتأييد.
وقد يلقون للمسلم والمصري فضلات من الثقة؛ على أن يكون ممن يعلنون اتِّبَاع المستشرقين، والاقتداء بهم، والاهتداء بهديهم، وعلى أن يكون ممن درسوا وتعلموا باللغات الأجنبية، حتى فيما كان من العلوم إسلاميَّاً وعربيَّاً خالصاً، وعلى أنه إذا عهد لأجنبي ومصري بعمل واحد كان الاسم كله للأول، والثاني تابع؛ ولعله أن يكون الثاني أرسخ قدماً فيما عهد إليهما، على قاعدة (علمه وأطع أمره)!!
وما كان هذا الذي نصف خاصَّاً بالعمل في الكتب وحدها، وإنما هي ذلة ضربت على المسلمين في شأنهم كله، عن خطط تبشيرية ثم استعمارية، رسمت ونفِّذت، في كل بلد من بلدان الإسلام، وليس المقام مقام تفصيل ذلك، ولكنا نعود إلى ما نحن بسببه من تصحيح الكتب.
لم يكن هؤلاء الأجانب مبتكري قواعد التصحيح، وإنما سبقهم إليها علماء الإسلام المتقدمون، وكتبوا فيها فصولاً نفيسة، نذكر بعضها هنا، على أن يذكر القارئ أنهم ابتكروا هذه القواعد؛ لتصحيح الكتب المحفوظة، إذ لم تكن المطابع وُجدت، ولو كانت لديهم لأتوا من ذلك بالعجب العجاب، ونحن وارثو مجدهم وعزِّهم، وإلينا انتهت علومهم؛ فلعلنا نحفز هممنا لإتمام ما بدؤوا به.
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا




احترام الأفكار( ) للشيخ محمد الطاهر بن عاشور

يقول المبتدؤون والمتوسطون من الكتَّاب =بنات الأفكار+إذا أرادوا أن يملِّحوا العبارة، ويدلوا على منزلهم في علم الاستعارة، وهم لا يشعرون _ عند لفظ هاته الكلمة من أفواههم إلا بتلك الاستعارة المطروقة المبذولة _ حدوث ذلك الشيء الذي ذكروه عن ازدواج المقدمات وتمخض الفكر.
وربما كان البعض ذاهلاً أو عاجزاً عن هذا المقدار؛ فلا عجب أنهم ذهلوا عن شيء أكبر منه أفادته العبارة وما أراده قائلها: وهو تمام التشابه بين الأفكار وبين انتساب البُنُوة من جميع أطرافه، حتى تجد مُبْتَكَرَ فكرك منك بمنزلة ابنك أو بنتك، وكأنهم اختاروا الثاني؛ قصداً للمبالغة في الحرمة والغيرة.
احترام النسب يقع على وجهين: احترامه قبل قوامه، أي أن يُتوخى كل ما يدفع اختلاطاً أو فساداً في النسب، وهو الذي سماه علماء الشريعة حفظ الأنساب، وناطوه مع الكليات التي كانت أساس قانون الشرع التفصيلي، واحترامه من الاعتداء عليه بعد وجوده أن لا يسبَّ أو ينبذ، أو يقابل بالطعن.
فإذا كانت الأفكار أنساباً أدبية فبغير شك يكون الاجتراء عليها بواحد من هذين الجرمين _اللذين احترما بالاحترامين_ جنايةً عظيمةً في باب الأدب لو سنَّ له أهله حدوداً يُخزى بها المعتدون، ويخسأ بها المتكالبون.
وضع شيء في غير ما وضعته يد الزمان، وإن تقصى عن كلفة التصنع لا يفارق مفسدة الاجتراء على بعثرة نواميس الكون والاعتداء على نظامه، وإيهام غير الواقع فيه واقعاً.
وفي ذلك من قلب الحقيقة ما أوجب تحريم الكذب، وتكرير لعن صاحبه، فإذا كان الكذب الذي يذكرونه التمويه اللساني، فهذا التمويه الفعلي الذي يكون أشد متى كان الفعل أوقع من القول: لو عمدت إلى رجل من سوقة الناس، فأسندت إليه مسائل حققتها، أو رسائل نَمَّقتها، لكنت توحي إلى الأمة أن تسند إلى هذا الرجل منصب الرئاسة في علومها، أو أن تكل إليه قلمها الذي به تدافع عن نفسها.
وفي هذا ما يجر الفساد لنفسك ولصاحبك وللأمة، أما الثالثة فقد ضرب فيها الفساد منذ صارت بيد من لا يعرف كيف يدير، وحسبك من هاته الكلمة تشخيصاً لحالها.
وأما صاحبك فرجل ألقي إلى الأمة بذلك الوصف العظيم، فكيف تراه والمشاكل تتقاطر عليه، وعيون الحيرة تعشو إلى ضوء اهتدائه، وتنظر إليه، ثم لا يبوء لهم أمرهم إلا بضلال مبين، أو سكوت إن كان المسؤول من خُلَّص الجاهلين.
وأما نفسك فأنت _ إذن _ بها أعرف.
قضت سنة الله في الناس أن تخضع نفوسهم إلى الحق والواقع والثابت، ترى الرجل تُسند إليه الهِنةُ وهو بريء منها، فتصعد إلى دماغه دماء الغضب، ويدافع عن نفسه دفاع البريء المخلص، بلسان فصيح، وقلب صحيح، ثم تراه تسند إليه تلك السيئة إن كان قد اقترفها، فيطأطىء لها رأساً، ولا يجد منها مناصاً، مهما سترها بأطمار الجمود( ) والمكابرة، حتى تفتضح حاله عند الفراسة الصادقة، أو يزلق لسانه عند البحث الشديد، أليس ذلك آية على أن النفس تخضع إلى الحق وإن لم يكن مشتهاها؟ وتبرأ من الباطل وإن كان هواها؟
كذلك الرجل يبلوه الله _ تعالى _ بنبات ذرية سوء، فيستسلم إلى ما قدر عليه، فلو كان ذلك الولد دَعِيَّه لقرع السن من ندم، ورضي أن لو باء من سعيه بالعدم.
هكذا حال الأفكار ومنشئاتها متى أسندت إلى غير أصلها قارنتها ندامة واغتباط، وفضيحة تلوح على أخواتها مِنْ تخالفِ شكل، وانحلال، ورباط.
لعل في هذا المقدار مَقْنَعاً من إيصال هذا الإحساس الحكمي إلى نفوسكم أيها النقاد، وتعريفاً بوجوب دعائنا الأفكار إلى آبائها؛ لنقوم بالقسط، فلن نكون كذي ذهن عاقر يُشَوِّه فضيلته بانتحال أفكار ما كان لينال أمثالها.
قد تغتفر الأمور الضرورية والإحساسات الفطرية العامة التي تشترك فيها أفراد الأمة متى تقاربت في الشعور، فلا يجب إسنادها، وربما استحال في البعض ذلك، إن الذي قالها بالأمس لم يصدر كلامه حتى قال مثلها، أو قاربها اليوم آخر.
أما احترام الفكر بالمعنى الثاني فحق على كل صاحب فكر أن يقابل فكر غيره بالاحترام دون السخرية والهزو؛ فإن الاسترسال على ذلك يُجْبِنُ الذين تخلقت فيهم مبادئ العقل النظري عن الإعلان بما وُهِبوه؛ خشية الاستهزاء والاستسخار، ولو كانت قد وصلت إلى التمكن والرسوخ لأَمَّنا عليها حتى إن تتستر كشمس تحت السحاب، أو كإدبار المحترف للقتال، أترون ذلك يرزونا المنفعة المقصودة؟ ولكننا لا نخشى عليها إلا أن تموت تحت أقفال الأسر في صباها، وما بلغت أَشُدَّاً تستطيع به مقاومةَ الزمان، ولَيَّ أيدي المضطهدين.
نحن نوقن أن أفكاراً ساقطة تنشأ في الأمة قد يجب الضغط أن لا تشيع؛ فتستهوي أقواماً غافلين بسطاء، فتصبح وباءاً في الأفكار المهزولة.
ولكنَّا لما وازنَّا بين هاته المصلحة النادرة، وبين المفسدة الكبرى التي كانت ولا زالت تتضاءل من اضطهاد الأفكار السامية، باسم التحقيق آونة وباسم.... أخرى؛ لأنها لا توافق الرغبات، ولا تجاري الشهوات _ حكمنا للأفكار باحترامها، وجعلنا البحث والنقد معياراً يُمَيِّز به خبيثها من طيبها، ولا يلبث الحق أن يهزم الباطل.
لو كنا نضطهد الأفكار لاشتبه الباطل منها بالحق، فيصرخ يستنصر لاهتضامه كما يستصرخ الحق شيعته، وربما وجد من السامعين قلوباً ترق للمضعوف وإن جار، فيصبح فتنة أشد مِنْ أَنْ لو ترك يتمارض بالنقد الصحيح والحجة الدامغة، حتى يموت حتف أنفه، ثم لا يثأر له أحد.
ليس يحول هذا دون الواجب من تقويم المخطئ، إنا نعني باحترام الفكر أن لا يُتَعرَّض لصاحبه الشخصي بالطعن والاستخفاف.
ولكن التقويم يكون بصفة كلية، وتعريض بسيط بين سقوط الرأي بوجه برهاني أو خطابي ينفر الغافلين.
وليس احترام الأفكار يأبى مناقشتها والحكم بضعفها، لكن تجب الأناة في الحكم على الفكر أن لا يتعرض له بالنقد، مادام فيه احتمال الصواب.
أليس في ارتياء مقاصد المتكلمين قبل التسارع إلى تغليطهم ببوادر الظنون، أو بشهوات نفس تخب خَبَبَ البازل الأمون ما نقتصد به زمان المراجعة إلى استئناف شيء جديد ونحفظ به كرامة الاتحاد، وسلامة الضمير، ونسلم به من افتضاح حب التشفي، والانتقام لإطفاء ثوائر الحسد والغل؟.
ما كان التقرير على الخطأ إلا خطأً وتضليلاً، ولكن نظيره في التضليل وأعظم منه فساداً التسارعُ إلى تغليط الصائبين لاسيما إن قارنه ما يقارن سفاهة الرأي، وضيق الصدر، وبالثاني غليل الجهل من تفويق سهامِ نقدٍ تخطىء الرمية، والأخذ بسلاح العاجزين من الغيبة والشتيمة التي تسترحم عن قصد صاحبها من غير غرض ترشقه، اللهم إلا رأي رجل اعتدت منه المكابرة والمسارعة إلى الزج بنفسه فيما لا يدبر منه مخرجاً ولا يجد لمثله فيه مولجاً، ثم قومته المرة والمرتين، فما زاده تقويمك إلا عناداً، ولا أكسبه اقتصادك إلاَّ سرافاً وازدياداً؛ فإنك إن رأيت منه ما يقتضي أن تسلك معه مسلك الخطابة من تقبيح انتحاله، وتشخيص مشوه حاله_ فلا ملام عليك إن كنت قد صادفت البلاغة في فعلك أو قاربت.
قد ترى قوماً أغرقوا في احترام أفكار الناس =وما كل الناس+إلى غور عميق، فغشيهم ظلام طمس على أعينهم حتى تلقوا كل قول بالتأييد، وحكموا في كلا المتناقضين بأنه سديد، واتسموا _أكرمك الله_ بِسمَةِ البليد، ثم ترى رجلاً يخترق قلوبهم بنصائح تفتح لهم أعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً وهم في صمم عن تلقيها؛ أفتعذره إن رأيته يسلك معهم ذلك المسلك؟أم تعذره إن خالف ما تأصل من احترام الأفكار؟
لعلك تشعر ساعتئذٍ بأن أصول التهذيب دواليب تدور، وأنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور؟.
سيظن البسطاء من الناس أن احترام الأفكار، وحريتها يخولها حق الاجتراء بنحو الشتيمة، ولكنه ظن سريع التقشع متى وجدوا لساناً حكيماً يبين لهم أن الحرية والاحترام شيء، وأن الاجتراء شيء آخر؛ لأن الحرية إنما ينالها المرء بعد شعوره بوجوب مساواته مع غيره فيها، وإلا كانت الاستعباد الذي نفر منه، فإن طلبت أنفسهم زيادة البيان فإنا نحيلهم على كلام طويل في معنى الحرية، لو بسطناه لفصم عنا سلك الكلام في مرادنا من هذا المقال.
فإذا كانت الأفكار محترمة كما قلنا فالاجتراء عليها بما ذكرنا يتساهل عقوبة على خرق سياج هذا الاحترام حقاً؛ لأن ذلك يثير العصبيات ويجفي عن الحقيقة التي ما احترمت الأفكار إلا لأجل الوصول إليها.
من أكبر الأسباب في تقدم الأمة بعلومها وقبولها لرتبة التنوير وأهليتها للاختراع في معلوماتها _ أن تشب على احترام الآراء على الوجه الذي وصفنا من قبل، وعسى أن نصف من بعد.
وقد كان للمسلمين من ذلك الحظ الذي لم يكن لغيرهم يومئذٍ من التسامح مع الأفكار، شهد بذلك التاريخ وأهله إلا المتعصبين منهم مع ما كان بين أصناف أهل الآراء من التناظر والجدل، ولكنك لا تجد ذلك محفوظاً بتعصب ولا اضطهاد، كنت ترى الأشعري بين يدي المعتزلي لا يستنكف عن تلقي فوائده، والاعتراف له بحق التعليم، وترى السني يتعلم عن القدري وعن الفيلسوف الشاك ِّ، قد كان عمرو بن عبيد الزاهد الشهير من خاصة تلاميذ الحسن البصري _ رحمهما الله _ وهو الذي كان مكلفاً بكتابة ما يمليه الحسن من التفسير الذي يرد به على القدرية والمعتزلة، وما كان يمنعه ذلك من المجاهرة باتباعه مذهب المعتزلة، ومن التحاقه بدروس واصل بن عطاء الغزال الذي قال له الحسن لما كثرت مناقشته اعتزل مجلسنا، فكان عمرو بن عبيد يختلف إلى الدرسين جميعاً، وما كان ذلك يمنع الحسن من تكليفه بإملاء تفسيره، حتى استخدم اختلاف الآراء آلة للتشيع السياسي حين أذنت الدولة العربية والجامعة الإسلامية بالانحلال والافتراق اللذين تركا من الآثار ما نحن نتخبط في مصائبه ولأوائه حتى اليوم.
وكذلك الحَجْر على الرأي يكون منذراً بسوء مصير الأمة، ودليلاً على أنها قد أوجبت نفسها خفية من خلاف المخالفين، وجدل المجادلين، وذلك يكون قرين أحد أمرين، إما ضعف في الأفكار، وقصور عن إقامة الحق، وإما قيد الاستعباد الذي إذا خالط نفوس أمة كان سقوطها أسرع من هويّ الحجر الصلد.
حكى الجاحظ: أنَّ النظَّام دخل على شيخه أبي هذيل العلاَّف، فقال: يا أبا الهذيل! لم قررتم أن يكون الله _ تعالى _ جوهراً خشية أن يكون جسماً؟ فهلاَّ قررتم أن لا يكون جوهراً مخافة أن يكون عرضاً، والجوهر أضعف من العرض، فبصق أبو هذيل في وجهه فقال النظَّام: قبحك الله من شيخ ! فما أضعف حجتك!.
وكان الخليفة المأمون يقول لأهل ناديه إذا جاروه على كلام: هلاَّ سألتموني لماذا؟ فإنَّ العلم على المناظرة أثبت منه على المهابة.
دامت على ذلك الأمة الإسلامية متمتعة باحترام الأفكار، جرى كل واحد على أن يبوح برأيه، وجرى كل مستمع على تقويمه بالحق، وإن وقع في خلال ذلك حادثة صغيرة وقعت بالقدس بين الباطنية وأهل السنة؛ إلا أنهما لأسباب عالية، وغلط فاحش لا يسع ذكره اليوم.
لما استخدمت الآراء للسياسة، وشاعت المداهنة بين الناس، وضعفت الكبراء عن الحجة، يومئذٍ ساد اضطهاد الأفكار والضغط عليها؛ كي لا تسود على مخالفتها القاصرين الظاهرين في مظاهر العلماء المحققين.
نعني بالسياسة ما يقرن سياسة الدول في تصرفاتها وأغراضها بسياسة الأشخاص المسيطرين في هواهم، وربما كان القسم الثاني أشد على الأفكار لكثرة دواعيه، ووفرة منتحليه، وأنواع وجهتهم في هذا الغرض: منهم من يفعل ذلك إبقاءاً على منصبه، واستحفاظاً على وجاهته؛ لأنه يخال أن كل مخالفة له في الرأي تنذر بثَلِّ عرشه، وزلزال أركانِه، والمريضُ كثير الأوهام.
ومنهم الذي يسخط من مخالفة المعتاد، ويرى العادة ديناً أو شبه دين، يجب أن لا يتلاعب به الشخص، ومنهم الذي يتوهم أن الدين يخالف احترام الآراء، وهذا إن شئت أن تجعله فرعاً من سابقه وجدته لك أطوع من نعلك.
ومنهم الحاسد العاجز الذي يحب أن يظهر في مظاهر الكمال بكلمات يلفقها، ويحس في ذكر ذلك لذة ما دام منفرداً بها، فإن شاع ذلك بين الناس تميز من الغيظ.
كنت أعرف رجلاً ينادي بين الناس باسم النقد للحالة والطعن في الأوضاع المعتادة، وربما ترقى إلى بعض الشتيمة زمانَ كان يقول ذلك وحده يحب الشهرة وما يلقاها، ويترصد طريقها وما يقع بمرآها، كان يومئذٍ مستأثراً بورقات ينقل منها ما يغلط به، فلما امتدت الأيدي، وانبرت العيون إليها، واستوى مع غيره في معرفتها _ انصاع يُقبِّح ذلك الحال، ويرى خلفه ودعاءهم في ضلال.
مما يخص بالوصاية والاحترام أفكار المتقدمين الذين وصلوا بنا إلى حيث ابتدأنا من العلم والمدنية، عوضاً أن نكون في متحركهم الأول نبتدئ سيراً بطيئاً، كما قالوا: إن الإنسان ابن يومه لا ابن أمسه، فهو _أيضاً_ ليس بابنٍ لغده؛ فمقدار فضيلة الرجل ومكان شهرته لا ينظر فيه إلى غير يومه الذي كان فيه، فلا يغلط لنا كثير من الناس ينتقصون الأقدمين بمستدركات المتأخرين، فإنما تعرف مقادير الرجال بما أوجدوه، لا بما تركوه؛ ولكن طرق الشهرة لا تختلف، وهي قوة الفكر، ومرتبة العلم والعمل على تنوير آراء المتعلمين والقارئين في عقل صحيح، ونية قويمة، ونصح جهير.
قد استهوى هذا الغلط الشيخ أبا علي ابن سينا حين بالغ في ثنائه على أرسطو حتى قال: أما أفلاطون الإلهي فإن كانت غايته من الحكمة ما وصلنا من علومه فإن بضاعته إذن لمزجاة.
وكأنه نسي أنه لولا أفلاطون بكلماته القليلة خوّل لأرسطو أن يبني عليها كثيراً _ لكان أرسطو هو أفلاطون وبضاعته الوافرة كانت مزجاة.
هذا أيها الناشؤون على النقد، الباحثون عن الحكمة نبراس مبين، أقمناه بين أيديكم؛ ليضيء لكم مستقبلاً نيّراً وعسى إن اهتديتم بضيائه، واحتفظتم عليه من عواطف الأهواء والشبهات _ أن تحمدوا غبَّه، وتسلكوا به طريق العقلاء، فتصبحوا سمراءَهم، والله يضيء آراءَكم بالحكمة.


الطب في نظر الإسلام( ) للشيخ العلامة محمد الخضر الحسين

عُرف الإسلام بأنه يدعو إلى التوكل على الخالق _ جلَّ شأنه _ ويوجِّه القلوب إلى تفويض الأمور إليه في كل حال، وهو _ إن عُدَّ التوكلُ والتفويضُ إلى الله في جملة آدابه _ لم يهمل النظر في الأسباب وارتباطها بمسبباتها؛ فأَذِنَ بل أمر بتعاطي ما دلَّتْ العقول والتجارب على أنه م***ة خير، ونهى عن القرب مما عرف بأنه م***ة شر.
والتوكل والأخذ بالأسباب يلتقيان في نفس واحدة ما شدَّ أحدهما بعضد الآخر؛ التوكل أدب نفسيٌّ يُبْتَغى به رضا الخالق ومعونَتُه، والأخذُ بالأسباب عملٌ يجري على سنن الله في الخليقة؛ فمن وكَّل أمرَه إلى الله، ثم تعاطى أسبابه وصل إليه من أرشد الطرق، وعاد منه بأحسن العواقب.
والطبُّ إنما هو من قِبَل( ) الأسباب التي أذن الإسلام في تعاطيها، وهو من أشرف الصناعات.
وشرفُ الصناعة على قدر ما يترتب عليها من نفع الأمة، وتقويم أود حياتها.
ونَفْعُ الطبِّ في حماية الناس أو إنقاذهم من كثير من المهالك أمرٌ جليٌّ لا يحتاج إلى بسط واستدلال.
ولا جرم أن يتجه الإسلام بشيء من العناية إلى الطب؛ ذلك أنه يريد من الأمة أن تكون عزيزة الجانب مهيبة السلطان حتى تستطيع أن تنفذ ما أمر الله به من إصلاح، وتتحامى ما نهى عنه من فساد.
وإنما يعزُّ جانبها، ويهاب سلطانها متى كانت كثيرة العدد، قوية الأيدي، والطبُّ من أهم الوسائل إلى كثرة النسل وقوة الأجسام.
ومن المعروف أنَّ في سلامة الأجسام معونةً على انتظام الأفكار، وسداد الآراء، وسماحة الأخلاق، وإنما تتفاضل الأمم برجاحة عقولها، واستقامة أخلاقها.
وإذا تحدثنا عن الطب في هذه المحاضرة، فإنما نقصد إلى معالجة الأمراض الحاصلة في الحال، ووقاية الأبدان من أن تُصاب بها في المستقبل، وذلك ما يُدعى بحفظ الصحة، وكذلك قال جالينوس: الطب حفظ الصحة، وإزالة العلة.
لما دخل عضدُ الدولة بغداد دخل عليه من الأطباء أبو الحسنِ الحرَّانيُّ وسنانُ ابن ثابت، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأطباء، قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم، فقال له سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حِفْظُ الصحة لا مداواة المرضى، والملك أحوج الناس إلى حفظ الصحة، فقال عضد الدولة: صدقت، وقرر لهما الجاري السنوي، وقرَّبهما إلى مجلسه في طائفة من الأطباء.
رفع الإسلام من شأن الطب: مداواة العلل، وحفظ الصحة، وعرف هذا من القرآن الكريم، وأقوال النبي" وسيرته.
أما القرآن الكريم فقد أذن في ترك بعض الفرائض متى كان القيام بها يؤثر في الصحة بإحداث مرض، أو زيادته، أو تأخر برئه، وشرعَ في أحد هذه الأحوال التيمم بدل الوضوء أو الغسل، كما أذن للمريض والمسافر أن يترك كلٌّ منهما الصيامَ الواجبَ، ويقضيَ المريضُ الأيامَ التي أفطر فيها عندما تعود إليه صحته، كما يقضي المسافر أيام إفطاره عندما ينقطع سفره، قال _ تعالى _: [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](البقرة:184).
والإذن في الفطر للمسافر من قبيل حفظ الصحة؛ فإن السفر مَظِنةُ التعب، والتعب من مغيِّرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب، فيزداد تغير الصحة.
وحرَّم الإسلام الدمَ ولحمَ الخنزير والميتة وما ألحق بها من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع.
وسرُّ هذا التحريم أنها مؤثرة في الصحة، كما بيَّن هذا الأطباء في القديم والحديث، وقد تحدَّث الأطباء في هذا العصر عن مضارها من جهة الصحة بأوسع بيان.
وحرَّم القرآن مباشرة الحائض، وقد بسط الأطباء _ أيضاً _ في مضار هذه المباشرة بها من جهة الصحة مما يدل على أنه تحريم شارع حكيم.
وحرَّم القرآن الخمر والزنا، ولهذه المحرمات مضار صحية علاوة على المضار الاجتماعية، وكذلك فعل الأطباء اليوم.
فكشفوا القناع عن هذه المضار الصحية، فنترك الكلام عن هذه المضار لحضرات الأطباء المحققين.
في الكشاف: يُحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي ابن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطبَّ في نصف آية من كتابه، قال: وما هي؟ قال: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]الأعراف:31.
أما أقواله _ عليه الصلاة والسلام _ فمنها ما رواه مالك في موطَّئه عن زيد ابن أسلم أن رجلاً في زمن النبي" جرح، فاحتقن الدم، وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فقال لهما رسول الله": =أيكما أطب+ فقال: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: =أنزل الدواء الذي أنزل الداء+.
وعن هلال بن يسار أن رسول الله" دخل على مريض يعوده، فقال: =أرسلوا إلى طبيب+ فقال قائل: وأنت تقول يا رسول الله؟ قال: =نعم إن الله _عز وجل_ لم يُنزل داءاً إلا أنزل له دواءاً+.
ونهى عن التنفس والنفخ في إناء الشراب أو الطعام؛ حتى لا يتناول الإنسان الطعام أو الشراب وقد مازجه ما لا خير في امتزاجه به.
وأما سيرته _ عليه الصلاة والسلام _ فإنه كان يتعاطى بعض الأدوية، كما تداوى للجرح الذي أصابه في غزوة أحد، وأذن في الاحتجام عند تَبَوُّغ( ) الدم، واحتجم في الأخدُعينِ والكاهل، وثبت في الصحيح أنه بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً، وكواه عليه، وجاء في الحمية أنه _ عليه الصلاة والسلام _ رأى علي بن أبي طالب يأكل عنباً فقال له: =مه مه يا علي؛ فإنك ناقِهٌ+.
ومما جاء في الوقاية نهيه _ عليه الصلاة والسلام _ عن الإقدام على أرض فشا فيها الوباء فقال: =إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها+، وفي رواية:=فلا تقدموا عليها+.
ومما جاء من هذا القبيل تحذيره _ عليه الصلاة والسلام _ من مخالطة بعض ذوي الأمراض السارية كالجرب والجذام، وقال: =فرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد+.
قال ابن خلدون: =وللبادية من أهل العمران طبٌّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارث عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج.
وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث ابن كلدة وغيره، والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عادياً للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي " من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلَّة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل؛ فإنه" إنما بُعث ليعلمَنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: =أنتم أعلم بأمور دنياكم+.
فلا ينبغي أن يحمل شيء في الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع؛ فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك، وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع+.
وذهب ابن القيم في =زاد المعاد+ غير هذا المذهب فقال: =وليس طبُّه " كطبِّ الأطباء؛ فإنَّ طبَّ النبي " متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي، ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطبُّ غيرِه أكثره حدسٌ وظنون وتجارب.
ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة؛ فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان؛ فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق بهذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور+.
ثم قال: =فطبُّ النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أنَّ شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، والقلوب الحية+.
ونحن نرى أنَّ الطبَّ النبوي لا يلزم أن يكون وحياً، ولكن ما يقوله النبي " في هذا الشأن لابد أن يكون صحيحاً كبقية المسائل الطبية المشهود بصحتها في علم الطب، وننبه هنا على بعض أحاديث طبية تنسب إلى النبي " ونسبتها غير ثابتة، منها حديث: =المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء+ يورده بعضهم مرفوعاً إلى النبي " ولم يثبت هذا عند المحدِّثين، بل قالوا: هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، أو كلام غيره.
ومنها حديثه: =البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء، وعوِّدوا كلَّ بدن ما اعتاد+ أورده الغزالي في الإحياء، وقال المحدِّثون: ليس له أصل.
ومنها حديث: =المعدة حوض البدن، والعروق إليه واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم+.
ولا يعرف هذا من كلام النبي "، وإنما هو من كلام عبدالملك بن سعيد ابن الحارث.
وأدرك الفقهاء رعاية الدين لحفظ الصحة والطب، فبنوا كثيراً من الأحكام الشرعية على رعايتها؛ فتراهم يفتون بمداواة الأجنبي للمرأة عند الضرورة، وإن اقتضى العلاج أن يطلع على ما لا يباح الاطلاع عليه.
وأفتوا بقبول قول الطبيب في كثير من الوقائع، والاعتماد عليه في القضايا نحو الجنائيات، ومن هنا نشأ ما يُسمَّى في هذا العصر بالطب الشرعي، ويسميه بعض علماء الهند بالطب الحكمي، وقالوا في تعريفه: هو المعارف الطبية والطبيعية المستعملتان في الأحكام الواقعة بين الناس.
وفي أمثال هؤلاء يقول بعضهم:
أعمى وأفنى ذا الطبيبُ بكحله

ودوائه الأحياءَ والبصراءَ

فإذا رأيت رأيت من عميانه
أمماً على أمواته قرّاء

وأجمع الفقهاء على أنَّ الطبيبَ الماهرَ إذا عالج مريضاً فأخطأ في اجتهاده، وتولد من معالجته تلف عضو أو نفس أو ذهاب صفة _ فلا ضمان عليه، بخلاف المتطبب الذي لم يتقدم له معرفة بالطب يقدم على معالجة عليل، فيترتب على علاجه تلف عضو أو نفس، فإنه يضمن( ).
ويعللون بعض الأحكام الشرعية بوجوه ترجع إلى حفظ الصحة.
أمر النبي " بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب، فذكر الفقيه ابن رشد في تعليل هذا الحكم فقال: =ليس من سبب النجاسة، بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كَلِباً، فيخاف من ذلك السم+.
قال الحفيد: =وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إنَّ الكَلْبَ الكَلِبَ لا يقرب الماء حين كلبه+ قال: =وهذا الذي قالوه عند استحكام هذه العلة بالكلاب لا في مبادئها، وفي أول حدوثها؛ فلا معنى لاعتراضهم+.
وقال طائفة من محققيهم: إن المجذومين إذا كثروا يمنعون من المساجد والمجامع، ويتخذ لهم مكان ينفردون به عن الأصحاء، ويجري هذا الحكم في الجرب، وبعض أنواع الحمى التي يقرر الأطباء أنها أمراض سارية.
وعرف علماء الشريعة فضل صناعة الطب، وأنها من الأعمال التي تُكْسب حمداً؛ فأنفقوا فيها جانباً من أنظارهم وأوقاتهم، وأضافوها إلى علومهم الشرعية.
ومن هؤلاء العلماء رجال بلغوا في علوم الشريعة الذروة، منهم الإمام أبوالحسن علي سيف الدين الآمدي، وأبو عبدالله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، والإمام أبو عبدالله المعروف بالمازري؛ فقد كان هذا العالم كما قال في ترجمته: يُفْزَعُ إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتوى في الفقه، والفيلسوف محمد ابن أحمد بن رشد، وهو مؤلف =بداية المجتهد+ في الفقه، وكتاب =الكليات+ في الطب، والعلامة موفق الدين عبدالمطلب البغدادي، فقد كان يجمع بين الفقه والطب.
وظهرت عناية العلماء بهذه الصناعة في الإقبال على تدريسها والتأليف فيها.
وعني أمراء الإسلام بالطب، ولهذه العناية أربعة مظاهر:
أولها: تقريب الأطباء على اختلاف مللهم، وإسعادهم بالأرزاق الواسعة، والمناصب العالية، فقد نال عبدالملك بن أبحر الكناني لدى عمر بن عبدالعزيز حظوة، وكان عمر يستطبه، ويعتمد عليه في صناعة الطب، ونال ابن أثال حظوة عند معاوية بن أبي سفيان، فكان معاوية يستطبه، ويحسن إليه، ويكثر من محادثته.
ومن عناية سيف الدولة بالأطباء أنه كان يَحْضُر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً، وقد يبلغ الطبيب أن يكون رفيع الشأن في دولة، فإذا تغيرت وقامت دولة أخرى مكانها استمرت منزلته في رفعة واحترام، كأبي بكر بن زهير؛ كان ذا حظوة في دولة المرابطين بالمغرب، ولما خلفتها دولة الموحدين لقي من هذه الدولة _ أيضاً _ الإقبال والإكرام.
أما إحرازهم المناصب العالية، فقد تولى الطبيب رفيع الدين الحلبي منصب قاضي القضاة بدمشق، وتولى ابن المرخم يحيى بن سعد منصب قاضي القضاة في أيام المقتفي بدمشق، وكان طبيباً في المارستان المحمول، وفصَّاداً فيه.
وتولى الوزارة في عهد يعقوب المنصور سلطان المغرب أبو بكر بن نصر، وهو _ كما قالوا _ بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين.
كما تولى الطبيب يحيى بن إسحاق الوزارة لعبدالرحمن الناصر، وحظي عنده بمنزلة رفيعة، ويدلكم على أن لصناعة الطب شرفاً يناسب الوزارة أن هذا الطبيب الوزير قد يلجأ إليه المبتلون بأمراض عسرة، وهو وزير، فيتولى علاجها بنفسه.
ثانيها: نقل كتب الطب إلى العربية: وجرى هذا في عهود طائفة من الخلفاء والأمراء مثل خالد بن يزيد بن معاوية، والمأمون، ومحمد بن عبدالملك الزيات، ومحمد بن موسى بن عبدالملك.
ودخل معظم كتب جالينوس الطبية في العربية بنقل حنين بن إسحاق، أو تصحيحه لها بعد نقلها، وظهر بعد نقل هذه الكتب إلى العربية مؤلفات عربية اللهجة ككتاب =القانون+ لابن سينا وغيره من المؤلفات الوارد معظمها في كتاب =كشف الظنون+ والكتب التي تصدت لتراجم الأطباء ككتاب =عيون الأنباء في تراجم الأطباء+.
ثالثها: ***** الطب عن أن يتعاطاه غير أهله: اتصل بالمقتدر أن غلطاً جرى من بعض المتطببين على رجل من العامة، فصدر أمر بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت، فامتحنهم سنان، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه.
وفوَّض الخليفة المستضيء بأمر الله رياسة الطب ببغداد لأمين الدولة ابن التلميذ، فاجتمع إليه سائر الأطباء؛ ليرى ما عندهم، وشرع في امتحانهم واحداً بعد آخر.
رابعها: بناء المستشفيات: بنى الخلفاء والأمراء وغيرهم من المطبوعين على فعل الخيرات مستشفياتٍ كثيرةً كانت بالغةَ الغاية في استيفاء وسائل العلاج، وتوفير راحة المرضى حسبما يقتضيه رقيُّ العلم في عصورهم.
وقد تكفل كتاب تاريخ البيمارستانات في الإسلام للدكتور أحمد عيسى بوصف واسع تناولها من كل ناحية، مثل: البيمارستان العتيق الذي أنشأه أحمد ابن طولون بالقاهرة، والبيمارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة ابن بويه في بغداد، وبيمارستان مراكش الذي أنشأه يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن في مدينة مراكش.
واتخذ أمراء الإسلام المستشفيات المتنقلة، قال ابن خلكان: إنَّ أبا الحكم المقري عبدالله بن المظفر نزيل دمشق، كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون رجلاً، والمستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خيَّم.
وأول مستشفى أحدثه الوليد بن عبدالملك بن مروان بدمشق للمجذومين سنة ثمانٍ وثمانين وأجرى لهم فيها أرزاقهم.
شدة عنايتهم بمداواة المرضى، وتوفير وسائل الراحة لهم:
كان الأمراء يبنون المستشفيات، ويعيِّنون لها أطباء، ويُعِدّون فيها من الأدوية ما يُحتاج إليه.
كتب الوزير علي بن عيسى بن الجرَّاح في أيام خلافة المقتدر إلى سنان ابن ثابت، وكان سنان هو القائم على أمر البيمارستانات: =فكرت في أمر الحبوس، وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم، وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛ فينبغي أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كلَّ يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من المزوَّرات( )، وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس، ويعالجوا فيها من المرضى، ويريحوا عللهم فيما يصفون لهم إن شاء الله _ تعالى _+.
وكتب إليه كتاباً آخر يقول فيه: =فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم؛ لخلو السواد من الأطباء؛ فتقدم بإيفاد متطببين، وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون بالسواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره+.
وقد يتجاوز بعضهم في العناية بأحوال المرضى إلى حد الرفاهيةِ، وأوضحُ مثال لهذا معاملة المرضى بالمستشفى الذي أنشأه أبو يوسف المنصور يعقوب ابن يوسف بن عبدالمؤمن بن علي في مدينة مراكش، قال عبدالواحد المراكشي: =ذلك أنه بعد أن بنى المستشفى في ساحة فسيحة، وظهر في نقوشه البديعة وزخارفه المحكمة، وحفَّه بالأشجار ذات الثمار والأزهار، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، وأمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره مما يزيد عن الوصف+.
ثم قال: =وأعد فيها للمرضى ثيابَ ليلٍ ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل+.
وقال:= وكان في كلِّ جمعة بعد صلاته يركب، ويدخل يعود المرضى، ويسأل عن أهل بيت أهل بيت، ويقول: كيف حالكم، وكيف القومةُ عليكم+.
عني رجال الإسلام بالطب حتى أصبح من العلوم التي تدرس في المعاهد أو المساجد على طريقة البحث وتحقيق النظر، يحدثنا التاريخ أن الملك الأشرف جعل لمهذب الدين عبدالرحيم بن علي مجلساً لتدريس صناعة الطب، ووقف مهذب الدين هذا داره بدمشق، وجعلها مدرسة يُدَرّس فيها صناعة الطب من بعده، وكان لموفق الدين عبدالعزيز بن عبدالجبار مجلس عام للمشتغلين عليه بعلم الطب.
وأقرأ علمَ الطبِّ رضيُّ الدين يوسف بن حيدرة الرحي، وكان لا يُقْرِئ هذا العلم إلا لمن يجده أهلاً له، قالوا: وكان يعطي صناعة الطب حقها من الرياسة والتعظيم.
وكان شمس الدين محمد بن عبدالله مدرساً للأطباء بجامع طولون.
وكان موفق الدين البغدادي يدرس الطب فيما يدرسه من العلوم بالأزهر الشريف.
وكان من إقبال أمراء الإسلام وعلمائه على علم الطب أن كثر أساتذته في العهود التي ازدهرت فيها العلوم على اختلاف موضوعاتها، وأسوق شاهداً على هذا أن سنان بن ثابت لما كلفه المقتدر بامتحان الأطباء بلغ عدد الذين أجرى عليهم الامتحان في جانبي بغداد ثمانمائة شخص ونيف وستين سوى من استغنى عن امتحانه بشهرته بالتقدم في هذه الصناعة.
والذي نرمي إليه في هذا الحديث أن دينَ الإسلام، ونبيَّ الإسلام رفعا علم الطب وصناعته مكانة عالية؛ إذ كان الطب مظهراً من مظاهر الرأفة بالإنسانية، ووسيلة من أهم وسائل راحة النفوس، وتخليصها من آلام تُكَدِّر عليها صفو حياتها، ومعونةً لذوي الهمم الكبيرة على أن يتمتعوا بعافية تسعدهم في القيام بأعمال جليلة؛ فالأخذ بما ينصح به الأطباء الأمناء من إتيان أشياء، أو اجتنابها إنما هو عمل على حفظ الصحة التي تظهر بها الأفراد والأمم في قوة وعزم يسهل عندهما كل صعب، ويتضاءل أمامهما كلُّ خطب، وإنما خلق الإنسان؛ ليسير في طريق الفلاح، ويذلل ما يلاقيه من العقبات بإيمان صادق، وعزيمة ماضية.










عاشراً: مقالات في اللغة والأدب

40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين


لغة الضاد( ) لمحمد صادق عنبر

أغنى اللغات السامية مادة، وأعذبها سحر بيان، وأرقها حاشية تبيان.
نزلت على ألسنة العرب، فجرت على ألسنتها سحراً كلُّ سحر غيره باطل، ولا بدع فكل بلد هي حلٌّ به بابل.
أجل، لقد انقطعت ألسنة من منابتها، واجتثت لغات من أصولها، فلم يبق منها إلا آثار تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، وتلك اللغة تدور مع الفلك: لا يُخْلِقُ ديباجتَها هرمٌ، ولا يُلِمُّ بها قدم.
وآية لها أنك ترى كيف عجز السيف على سعة الزمن أن يحول أمة عن لغتها، وقد استطاعت _ ولم تجرد سيفاً _ أن تشق لها طريقاً إلى ألسنة أعيا على غيرها علاجُها، وتقتحم العقبات إلى قلوب كان محكماً عليها رِتَاجُها( )؛ فكأنها كانت ديناً لفطرة الألسنة لتكون بعد ذلك لساناً لدين الفطرة، ولا عجب إذا قَدِرتْ أن تصبغ كل بلد حَلّتْ به صِبْغَةً عربيةً إذ قالت لكل شيء: كن منذ الآن، فكان عربياً.
دخلت لغة القرآن الكريم كثيراً من بقاع الأرض، فما هي إلا فترة يبلغ الصبي في دونها الحلم حتى استتب لها الأمر فيها، وكانت كأنها محورٌ دارَ عليه التاريخ دورة أخرى ترى أين كانت العربية، ثم أين بلغت؟
لقد كانت بدأةً تطوف بأركان تلك الجزيرة الجرداء على صفة ما كانت تأخذه أعين الناطقين بها من الفَدْفَد الوعر، والمَهْمَهِ القفر، ومن الفحل إذا هدر، والليث إذا زأر، والحمامة إذا سجعت، والناقة إذا ضبغت، والريح إذا لفحت، والسماء إذا ضنَّت، والأرض إذا حرَّت، والمكارم إذا هزَّت، والخيل إذا استنت، والأسنة إذا اشتجرت، ونحو هذا مما هو بتلك البادية أشبه وأمثل.
نعم، كان هنالك مطاف اللغة في بادئ أمرها، ولكنها من سماء تلك البادية الناطقة الخرساء قد استمدت ذلك الخيال الذي يريك من الورد الذابل خدَّاً نديَّاً، ومن الغصن المائل قدَّاً عادلاً سمهريَّاً.
ثم سما ذلك الخيال الذي كان كأنه يواثب النجوم فلم يدع تشبيهاً بليغاً إلا وقع من ورائه، ولا فنَّاً من فنون القول إلا بلغ الغاية من الافتنان فيه، ولم يذر معنىً دقيقاً إلا أحكم تصويره، حتى بذَّت العربية اللغات على بكرة أبيها.
لقد وسعت اللغة العربية ما تضيق ببيانه هذه الأوراق فكانت وما فتئت تساير كل آخذ بِحُجْزَتِها إلى كل غرض يمشي إليه، فلم تضق ذرعاً باصطلاح، ولا برمت بالكشف عن معنى، ولا نشزت على قلم غَذَتْهُ بِلَبانها، ولا وقع بها العِيُّ دون حاجة، فلم تنهض ببيانها.
أما أين بلغت، فكل مبلغ؛ فقد تسربت بين العصا ولحائها، وتغلغلت بين الذَّرة وأجزائها، ومادَّت العلمَ حَبْلَها وقد ظلَّ ما بينه وبينها مبلولاً؛ فلم ييبس إلا حقباً معدودات؛ فقد وسعت معارف الدهر كلها، ولا تزال آثار العرب حجة لهم، ولعربيتهم ناهضة لم تقعد بها الأيام.
ألا إن العربية التي نبتت في تلك البيداء قد مدَّت ظلها على العلم كله، وذلك العربي الذي حيَّ حياته الأولى في منقطع من الأرض إذا سافرت فيه عيناه ففي صميم القفر، وإذا وقفنا به فعلى أديم الصخر، قد مشى بلغته مدىً بعيداً في أمد قريب.
فسلام على ذلك العهد النضير، وسلام على تلك البادية التي نبتت فيها أمة المجد والبيان، وسلام على هذه اللغة الخالدة على فناء الزمان.


البيان( ) لمصطفى لطفي المنفلوطي

قال لي أحد الوزراء ذات يوم: =إني لتأتيني رقاع الشكوى فأكاد أهملها لما تشتمل عليه من الأسباب المنفرة، والكلمات الجارحة، لولا أن الله _ تعالى _ يلهمني نيات كاتبيها وأين يذهبون، ولولا ذلك لكنت من الظالمين+.
ذلك ما يراه القارئ في كثير من المخطوطات التي يخطها اليوم كاتبوها في الصحف، ورقاع الشكوى، والكتب الخاصة، والمؤلفات العامة.
هزلٌ في موضع الجد، وجدٌ في موضع الهزل، وإسهاب في مكان الإيجاز، وإيجاز في مكان الإسهاب، وجهل لا يفرق ما بين العتاب والتأنيب، والانتقام والتأديب، والاستعطاف والاستخفاف، وقصور عن إدراك منازل الخطاب ومواقفه بين السوقة والأمراء، والعلماء والجهلاء، حتى إن الكاتب ليقيم في الشوكة يشاكها مناحة لا يقيمها في الفاجعة يفجع بها، ويكتب في الحوادث الصغار ما يعجز عن كتابة مثله في الحوادث الكبار، ويخاطب صديقه بما يخاطب به عدوه، ويناجي أجيره بما يناجي به أميره.
ذهب الناس في معنى البيان مذاهب متشعبة، واختلفوا في شأنه اختلافاً كثيراً، ولا أدري علام يختلفون وأين يذهبون؟ وهذا لفظه دال على معناه دلالة واضحة لا تشتبه وجوهها، ولا تتشعب مسالكها؟
ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس، وتصويره في نظر القارئ أو مسمع السامع تصويراً صحيحاً لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه، فإن علقت به آفة تَيْنِكِ الآفتين فهي العي والحصر.
جَهِل البيانَ قومٌ فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة، ونادر الأساليب، فأغَصُّوا بها صدور كتابتهم، وحشوها في حلوقها حشواً يقبض أوداجها، ويحبس أنفاسها، فإذا قدّر لك أن تقرأها، وكنت ممن وهبهم الله صدراً رحباً، وفؤاداً جلداً، وجناناً يحتمل ما حمل عليه من آفات الدهر وأرزائه _ قرأت متناً مشوشاً من متون اللغة، أو كتاباً مضطرباً من كتب المترادفات.
وجَهِلَه آخرون فظنوا أنه الهذر في القول، والتبسط في الحديث واقعاً ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع، فلا يزالون يَجْتَرون بالكلمة اجترار الناقة بجرتها، ويتمطقون بها تمطق الشفاه بريقها، حتى تَسِفَّ وتُبتذل، وحتى ما تكاد تسيغها الحلوق، ولا تَطْرُفُ عليها العيون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
يخيل إلي أن الكُتَّاب في هذا العصر يكتبون لأنفسهم أكثر مما يكتبون للناس، وأن كتابتهم أشبه شيء بالأحاديث النفسية التي تتلجلج في صدر الإنسان حينما يخلو بنفسه، ويأنس بوحدته؛ فإني لا أكاد أرى بينهم من يحكم وضع فمه على أذن السامع، وينفث في روعه ما يريد أن ينفث من خواطر قلبه، وخوالج نفسه.
الكلام صلة بين متكلم يفهم، وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من العلو والإسفاف، فإن أردت أن تكون كاتباً فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك، واحرص الحرص كله على ألا يخدعك منها خادع؛ فتسقط مع الساقطين.
ما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلاَّ من ناحية الجهل بأساليب اللغة، ولا أدري كيف يستطيع الكاتب أن يكون كاتباً عربياً قبل أن يطلع على أساليب العرب في أوصافهم، ونعوتهم، وتصوراتهم، وخيالاتهم، ومحاوراتهم، ومساجلاتهم، وقبل أن يعرف كيف كانوا يعاقبون، ويؤنبون، ويعظون، وينصحون، ويَتغزَّلون، وينسبون، ويستعطفون، ويسترحمون، وبأية لغة يحاول أن يكتب ما يريد إن لم يستمد تلك الروح العربية استمداداً يملأ ما بين جانحتيه حتى يتدفق مع المداد من أنبوب يراعته على صفحات قرطاسه.
إني لأقرأ ما كتبه الجاحظ، وابن المقفع، والصاحب، والصابئ، والهمذاني، والخوارزمي، وأمثالهم من كتاب العربية الأولى، ثم أقرأ ما خطه هؤلاء الكاتبون في هذه الصحف والأسفار، فأشعر بما يشعر به المتنقل دفعة واحدة من غرفة محكمة النوافذ، مسبلة الستور إلى جو يسيل قراً وضراً، ويترقرق ثلجاً وبرداً؛ ذلك لأني أقرأ لغة لا هيَ بالعربية؛ فاغتبط بها، وهي( ) بالعامية؛ فألهو بأحماضها ومجونها.
رأيت أكثر الكاتبين في هذا العصر بين رجلين: رجل يستمد روح كتابته من مطالعة الصحف وما يشاكلها في أساليبها من المؤلفات الحديثة والروايات المترجمة، فإذا علقت بنفسه تلك الملكة الصحفية ألقى بها في رُوْع قارئ كتابته أَدْوَنَ مما أخذها، فيدلي آخذها كذلك إلى غيره أسمج صورة، وأكثر تشويهاً، وهكذا حتى لا يبقى فيها من روح العربية إلا كما يبقى من الأطلال البالية بعد كرِّ الغداة ومر العشيّ، وطالب قصارى ما يأخذه من أستاذه: نحو اللغة وصرفها، وبديعها وبيانها، ورسمها وإملاؤها، ومترادفها ومتواردها، وغير ذلك من آلاتها وأدواتها.
أما روحها وجوهرها فأكثر أساتذة البيان عنده علماء غير أدباء، وحاجة طالب اللغة إلى أستاذ يفيض عليه روح اللغة، ويوحي إليه بسرِّها، ويفضي له بلبها وجوهرها أكثر من حاجته إلى أستاذ يعلمه وسائلها وآلاتها.
وعندي أن لا فرق بين أستاذ الأخلاق وأستاذ البيان؛ فكما أن طالب الأخلاق لا يستفيدها إلا من أستاذ كملت أخلاقه، وسمت آدابه، كذلك طالب البيان لا يستفيده إلا من أستاذ مبين.
ولا يقذفن في روع القارئ أني أحاول استلاب فضل الفاضلين، أو أني أريد أن أنكر على شعراء الأمة وكتابها ما وهبهم الله من نعمة البيان؛ فما هذا أردت ولا إليه ذهبت، وإنما أقول إن عشرة من الكتاب المجيدين، وخمسة من الشعراء البارعين، قليل في بلد يقولون: إنه مهد اللغة العربية اليوم، ومرعاها الخصيب.
وبعد: فإني لا أدري لك يا طالب البيان العربي سبيلاً إليه إلا مزاولة المنشآت العربية منثورها، ومنظومها، والوقوف بها وقوف المتثبت المتفهم لا وقوف المتنزه المتفرج؛ فإن رأيت أنك قد شغفت بها، وكلفت بمعاودتها، والاختلاف إليها فاعلم أنك قد أخذت من البيان بنصيب؛ فامض لشأنك، ولا تلوِ على شيء مما وراءك تبلغْ من طلبتك ما تريد.
ولا تحدثك نفسك أني أحملك على مطالعة المنشآت العربية لأسلوب تستَرِقه، أو تركيب تختلسه، فإني لا أحب أن تكون سارقاً، أو مختلساً، فإن فعلت لم يكن دركك دركاً، ولا بيانك بياناً، وكان كل ما أفدته( ) أن تخرج للناس من البيان صورة مشوهة لا تَنَاسُبَ بين أجزائها، وبردة مرقعة لا تلاؤم بين آثارها عفواً بلا تكلف ولا تَعَمُّل، وإلا كان شأنك شأن أولئك القوم الذين علقت ذاكرتهم بطائفة من منثور العرب ومنظومها، فقنعوا بها، وظنوا أنهم قد وصلوا من البيان إلى صميمه.
فإذا جدَّ الجد وأرادوا أنفسهم على الإفصاح عن شيء مما تختلج به نفوسهم، رجعوا إلى تلك المحفوظات، ونبشوا دفائنها، فإن وجدوا بينها قالباً لذلك المعنى الذي يريدونه، انتزعوه من مكانه انتزاعاً، وحشروه في كتابتهم حشراً، وإلا تبذلوا باستعمال التراكيب الساقطة المشنوعة، أو هجروا تلك المعاني إلى معان أخرى غيرها، لا علاقة بينها وبين سابقاتها ولاحقاتها، فلا بدَّ لهم من إحدى السوأتين: إما فساد المعاني واضطرابها، أو هجنة التراكيب، وبشاعتها.
فاحذر أن تكون واحداً منهم، أو تصدق ما يقولونه في تلمُّس العذر لأنفسهم من أن اللغة العربية أضيق من أن تتسع لجميع المعاني المستحدثة، وأنهم ما لجؤوا إلى التبذل في التراكيب إلا لاستحالة الترفع فيها؛ فاللغة العربية أرحب صدراً من أن تضيق بهذه المعاني العامة المطروقة بعدما احتملت من دقائق العلوم والمعارف ما لا قبل لغيرها باحتماله، وقدرت من هواجس الصدور، وخوالج النفوس على ما عيَّت به اللغات القادرات.
وليس الشأن في عجز اللغة وضيقها، وإنما الشأن في عجز المشتغلين بها عن الاضطراب في أرجائها، والتغلغل في أعماقها، واقتناعهم من بحرها بهذه البَلَّةِ التي لا تثلج صدراً، ولا تشفي أواماً.
وكل ما يُعَدُّ عليها من الذنوب أنها لا تشتمل على أعلام لبعض هذه الهِنات المستحدثة، وهو في مذهبي أهون الذنوب وأضعفها شأناً، ما دمنا نعرف وجه الحيلة في علاجه بالاشتقاق إن وجدنا السبيل إليه، أو التعريب إن عجزنا عن الاشتقاق، فالأمر أهون من أن نحار فيه، وأحقر من أن نقضي أعمارنا في العراك ببابه، والمناظرة في اختيار أقرب الطرق إليه، وأجداها عليه.
واعلم أنه لا بدَّ من حسن الاختيار فيما تريد أن تزاوله من المنشآت العربية، فليس كل متقدم ينفعك، ولا كل متأخر يضرك، ولا أحسبك إلا واقفاً بين يدي هذا الأمر موقف الحيرة والاضطراب؛ لأن حسن الاختيار طِلْبةٌ تتعثر بين يديها الآمال، وتتقطع دونها أعناق الرجال؛ فالجأ في ذلك إلى فطاحل الأدباء الذين تعرف ويعرف الناس منهم ذوقاً سليماً، وقريحة صافية، وملكة في الأدب كمصفاة الذهب، فإن فعلت وكنت ممن وهبهم الله ذكاء وفطنة وقريحة خصبة لينة صالحة لنماء ما يلقى إليها من البذور الطيبة _ عُدْتَ وبين جنبيك ملكة في البيان زاهرة، يتناثر منها منثور الأدب ومنظومه تناثُرَ الوردِ والأنوار من حديقة الأزهار.


الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _
الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه( )
للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين

حقيقة الشعر:
الكلام إما نثر، وهو ما يُلقى من غير قصد إلى تقييده بوزن، ولا يلزم بناؤه على حرف معين تنتهي به جمله.
وإما منظوم، وهو الكلام الذي يُصاغ في أوزانٍ خاصة، وتبنى قِطَعُه على حرف خاص يختاره الناظم ويلتزمه في آخر كل قطعة منه، وهذا هو فن الشعر.
ورأي بعض الأدباء أن من المنظوم ما لا يختلف عن الكلام العادي إلا بهيئة الوزن والتزام القافية، فلا يحسن أن تجعل ميزة الشعر شيئاً يعود إلى مقدار الحروف، وأشكالها، والتزام حرف منها في آخر كل قطعة منه دون أن تكون له خاصة تميزه عن غيره من جهة المعنى؛ فزادوا في بيانه قولهم: من شأنه أن يُحَبِّبَ إلى النفوس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرِّه إليها ما قصد تكريهه إليها، وتحبيبُه الأشياء أو تكريهُها بوسيلة ما يشتمل عليه من حسن التخييل.
فالكلام الموزون المقفى الذي يحبب إلى النفوس شيئاً، أويكرِّهه إليها بوسيلة الحجة التي يصوغها العقل، وتجري عليها قوانين المنطق _ لا يسمى شعراً على وجه الحقيقة، لأنه خالٍ من روح الشعر الذي هو حسن التخييل.
والحق أن الشعر ما يقصد به حمل النفوس على فعل الشيء أو اعتقاده، أو صرفها عن فعله أو عن اعتقاده، من جهة ما يشتمل عليه من حسن التخييل أو براعة البيان، ومن هنا دخل في الفنون الجميلة، ولا جمال في المنظوم إلا أن يكون في معناه غرابة، أو في تركيب ألفاظه براعة.
فالكلام الموزون المقفى إنما يكون حفياً باسم الشعر متى بدى فيه وجهٌ من حسن الصَّنعة، بحيث يكون هذا الحسن زائداً على أصل المعنى الذي يقصد بالإفادة أولاً، ولا فرق بين أن يكون أثر البراعة في التخييل، أو أثر البراعة في ترتيب المعاني وإيرادها في ألفاظ مؤتلفة سنيَّة.
ولا ننسى أن للنفس عند سماع الكلام الموزون حالاً من الارتياح غير حالها عند سماعه منثوراً، يدل لهذا الجُمَلُ البليغة المرسلة إذا تُصُرِّفَ فيها بنحو التقديم والتأخير حتى وافقت وزناً من الأوزان المألوفة؛ فإن ارتياح النفس لها بعد هذا التصرف يكون أوفر.
ومن أمثلة ما جرى فيه التخييل البارع قول أبي زيد عبد الرحمن الفنداقي الأندلسي من قصيدة ألقاها بين يدي إدريس بن يحيى، أحد أمراء الأندلس:
ومصابيح الدجى قد طفئت
في بقايا من سواد الليل جونْ

وكأن الظل مِسكٌ في الثرى
وكأن الطل درٌّ في الغصونْ

والندى يقطر من نرجسه
كدموع أسكبتهنَّ الجفونْ


والثريا قد هوت من أفقها


كقضيب زاهر من ياسمينْ







وانبرى جنح الدجى عن صبحه
كغراب طار عن بيضٍ كنينْ

فلو تحدث الشاعر عن انجلاء الليل، وطلوع الصبح، وانبساط الظل، ونزول الطل وتساقط الندى، وهويِّ الثريا من أفقها بالعبارات المجردة عن مثل هذا التخييل لما اهتزت النفوس لها هذا الاهتزاز البالغ.
ومن أمثلة الشعر الذي جاءه الجمال من حسن ترتيب معانيه وبراعة نسجه، قول أبي العلاء المعري:
كم بودرت غادةٌ كعاب


وعمرت أمها العجوزُ








أحرزها الوالدان خوفاً
والقبر حرز لها حريز


يجوز أن تبطئ المنايا
والخلد في الدهر لا يجوز


فمعاني هذه الأبيات يستوي في معرفتها القرويّ والبدوي، كما قال الجاحظ في البيان والتبيين، ومن الذي لا يدري أن داعي الموت كثيراً ما يبادر الفتاة، ويدع أمها وهي عجوز، وأن المنايا قد تبطئ عن بعض الأشخاص فتطول أعمارهم، وأن الخلود في الدنيا غير مطموع فيه ؟
ولكن الشاعر صاغ هذه المعاني في سلك التناسب، وأبرزها في ثوب قشيب من الألفاظ العذبة، والنسج الحكيم؛ فكان لها _ وهي في ائتلافها، وزخرف أثوابها _ وقْعُ ما تبتهج له النفوس ابتهاجها لمعان جديدة لم تخطر لها من قبل على بال.
ومن الشعر ما هو باطل، وهو الذي وصف الله _ تعالى _ أصحابه بقوله: [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ]... الآية الشعراء.
ومنه ما هو حق، وهو المشار إليه بقوله ": =إن من الشعر حكمة+.
وسائل البراعة فيه:
لا يَطُوع الشعر البارع إلا لمن يردد نظره على كثير من الأشعار البليغة، ويملأ منها حافظته، ثم يأخذ قريحته بالتمرين على النظمِ الفينةَ بعد الفينةِ؛ فهذان ركنان لتربية ملكة الشعر، وترقيتها.
فإذا أتيح للشاعر مع هذا جودةُ هواءِ المنازل التي يتقلب فيها، وحسنُ مناظرها، ووثق بأن في قومه من يقبل على الشعر، ويقدر مراتب الشعراء _ لم يلبث أن يأتي بما يسترقُّ الأسماع، ويسحر الألباب.
وشأنُ مَنْ يزاول العلوم ذات المباحث العميقة، والقوانين الكثيرة أن لا يبلغ الذروة في صناعة القريض؛ ذلك أن الناشئ الذي يقبل على طلب العلوم إقبالَ مَنْ يرومُ الرسوخ في فهمها، والغوص على أسرارها _ لا يجد من الوقت ما يصرفه في حفظ المقدار الكافي من أشعار البلغاء، وفي تمرين قريحته على النظم تمريناً يصعد بها إلى الذروة.
وإذا صرف من وقته في الحفظ والتمرين ما فيه الكفاية وجد من قريحته المعنية بالبحث عن الحقائق العلمية ما يبطئ به عن اختراع معان خيالية بديعة.
ونظر ابن خلدون في وجه قصور العلماء عن التناهي في صناعة الشعر، وأبدى أن السبب ما يسبق إليهم من حفظ المتون العلمية؛ فإن عبارات هذه المتون _ وإن كانت على وقف العربية _ لا يراعى فيها قانون البلاغة.
وامتلاءُ الذهن من الكلام النازل عن البلاغة، لا يخلو من أن يكون له أثر في النظم؛ فيقصر به عن المرتبة العالية من الفصاحة، فلو انبعثت قريحته في فضاء واسع من الخيال، واستطاعت اختراع صور غريبة لخدشت تلك المحفوظاتُ ملكةَ فصاحته، فيخرج الشعر وفي ألفاظه أو في نسج جُمَلِه ما يتجافى عنه الذوق، فلا تُتَلَقَّى تلك الصور بالارتياح وإن كانت في نفسها غريبة.
فالتوغل في العلوم يضايق ملكة الشعر، وأشد ما يضايقها العلوم النظرية، كالمنطق، والكلام والفلسفة، والفقه، ولا سيما ما يُعنى صاحبه بالبحث في طرق الاستنباط، ويتعلم كيف يطبق الأصول على الوقائع الخارجية.
وعلوم النحو والصرف والبيان معدودة في وسائل إحكام صنعة الشعر، ومتى دُرِسَتْ على طريقة التوسع في مسائل الخلاف، ومناقشة الآراء والأدلة والعبارات _ أصبحت في خدش ملكة الشعر كالمباحث الفلسفية أو الفقهية.
وقد يكون في الرجل قوةُ الشاعرية فيهجُرُها، فتضعف حتى لا تواتيه عندما يهم باستدرارها.
قال أبو القاسم الأندلسي: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر، فقال: إني أغبطكم على قول الشعر؛ فإن خاطري لا يوافقني على قوله على تحقيقي في العلوم التي هي موادّه، فقال له رجل: فما قلت قط شيئاً منه ؟ قال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيباً


وخضب الشيب أولى أن يعابا









ولم أخضِب مخافة هجر خلٍّ
ولا عيباً خشيت ولا عتابا



ولكن المشيب بدا ذميماً
فصيرت الخضاب له عقابا


فهذه الأبيات تدل على أن في أبي علي الفارسي مبدأَ نظم الشعر، وعدمُ مواتاة الشعر له عندما يهم بنظمه ناشئٌ من عدم إقباله على هذه القوة بالتربية والتهذيب.
الارتياح للشعر:
ترتاح النفس لصور من المعاني يصنعها الخيال، أو تخرج في ثوب قشيب من حسن البيان، ذلك الارتياح لذة الشعر الذي هو صنع الألمعية المتلألئة، والتخيل الواسع، والذوق الصحيح.
ولا أظن أن في الناس من لا يلذ الشعر البديع متى أحسّ معانيه، ووقعت في ذهنه بادية الوجوه كما كانت في ذهن مصوّرها.
وإنما المشاهد أن الناس يتفاوتون في الارتياح للشعر على قدر تفاوتهم في صفاء الذوق، وتقدير ما في معانيه من غرابة وحسن التئام، أو تقدير ما في ألفاظه من حسن السبك وجودة التركيب.
فإذا رأيت الرجل يسمع الشعر البارع، ولا تلوح عليه أمارة الارتياح لسماعه، فلأنه لم يحس ما فيه من إبداع وجودة صنعة.
وكثيراً ما يعيب الناقد صورة معنى خيالي حيث لا يحس الناحية التي فعل فيها الخيال البارع فعلته.
أورد بعض الكاتبين في الأدب قول الشاعر:
كالطيف يأبى دخول الجفن منفتحاً


وليس يدخله إلا إذا انطبقا










وعابه بقوله: إن الطيف لا يدخل الجفن، وإنما يتخيل إلى النفس.
ولو اعتاد هذا الكاتب النظر إلى الصور الخيالية من مسالكها اللطيفة، لما أتعب فكره في البحث عن الباب الذي يدخل من الطيف المتخيل للنفس في صورة المرئي رأي العين.
يصفو الذوق؛ فيحس براعة الشعر ولطف مسلكه؛ فتأخذ النفس من شدة الإعجاب به حالة ربما عبروا عنها بالإغماء.
أنشد عمرو بن سالم المالقي، في مجلس أبي محمد عبد الوهاب، أبياتاً لبعض الأندلسيين، منها:
ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم


فتقلدوا شهب النجوم عقودا











فأخذ أبا محمد حال من الإعجاب بهذه الأبيات حتى تصبب عرقاً، وقال: إني مما يقهرني ولا أملك نفسي عنده الشعر المطبوع.
وروى حماد بن إسحاق، أن أباه قال له: كان العباس بن الأحنف، إذا سمع شيئاً استحسنه أطرفني به، وأفعل معه مثل ذلك، فجاءني يوماً ووقف بين البابين، وأنشد لابن الدمينة:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد


لقد زادني مسراك وجداً على وجد












إلخ الأبيات، ثم ترنّح ساعة وقال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا البيت! فقلت: لا، ارفق بنفسك.
وكان سعيد بن المسيب ماراً ببعض أزقة البصرة فسمع منشداً ينشد قصيدة لمحمد بن عبد الله النميري يقول فيها:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذ مشت


به زينب في نسوة خَفِرات













يخبئن أطراف البنان من التقى
ويخرجن جنح الليل معتجرات


فضرب سعيد برجله الأرض، وقال: هذا _ والله _ يلذ سماعه.
وصام أبو السائب المخزومي يوماً، فلما صلى المغرب وقدمت له المائدة خطر بقلبه بيتا جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا


وشلاً بعينك لا يزال مَعيناً















غَيَّضْنَ من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا




فاشتد ارتياحه لهما، حتى حلف أن لا يفطر في تلك الليلة إلا على هذين البيتين.
وكثيراً ما يكون ارتياح الأمير لبيت واحد سبباً في إغناء الشاعر ودفع مظلمته، نقرأ في أخبار ابن شرف أن أحد عمال المعتصم ناقشه في قرية له، فورد ابن شرف على المعتصم شاكياً هذا العامل، وأنشد بين يديه قصيدة في الغرض، ولما بلغ قوله:
لم يبق للجور في أيامهم أثر




إلا الذي في عيون الغيد من حور
















قال المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها من بيت؟ قال: فيها خمسون بيتاً، فقال له: أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقّع له بها، وعزل عنها كل والٍ.
وكيف ترى ابتهاج أبي عمرو بن العلاء، حين سمع قول بشار:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم


ونفى عني الكرى طيف ألم















روِّحي عني قليلاً واعلمي
أنني يا عبدُ من لحم ودم


إن في برديّ جسماً ناحلاً
لو توكأت عليه لانهدم


لا شك أن ابتهاجه لسماعه كان بالغاً ما يمكن أن يبلغ، ينبئك بهذا أنه سُئل عن أبرع الناس بيتاً، فقال: الذي يقول: لم يطل ليلي، وأنشد الأبيات الثلاثة.
العلماء والشعر:
في العلماء من يلذ استطلاع الحقائق إلى حد أن يستغرق أوقاته في البحث العلمي، ويرغب عن أن يصرف في صناعة الشعر، أو تذوّق بلاغته ولو ساعة من شهر، حكى المقري أنه أنشد بحضرة العلامة محمد بن إبراهيم الأبلي قول ابن الرومي:
أفنى وأعمى ذا الطبيبُ بطبه
وبكُحْله الأحياءَ والبصراءَ
















فإذا مررت رأيت من عميانه
جمعاً على أمواته قرّاءَ


قال: فاستعادني الأبيات، حتى عجبت منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر، ثم قال: أظننت أنني استحسنت الشعر؟ إنما تعرفت منه أن العميان كانوا في ذلك الزمان يقرأون على المقابر، فإني كنت أرى ذلك حديث العهد؛ فاستفدت التاريخ.
وفي العلماء من يأخذ الشعر البارع بمجامع قلبه، ويجد في نفسه قوةً على نظمه، فيضرب مع الشعراء بسهم، ليزين عمله بهذا الفن الجميل.
وسبْقُ الشعراء المتجردين للشعر وحده في هذه الحلبة لا يثني العلماء عن تعاطيه؛ نظراً إلى أنه فن من فنون الأدب الجميلة، وقد يتخذ وسيلة إلى *** خير أو دفع أذى.
والتاريخ يحدثنا أن في أعلام العربية من كانوا يجيدون صناعة القريض، كابن دريد، الذي كانوا يصفونه بأنه أعلم الشعراء وأشعر العلماء، ومن مختارات شعره الأبيات العينية التي يقول فيها:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه
فليس له من شيب فوديه وازع


















ومثل الإمام النحوي أبي الحسين علي بن أحمد بن حمدون، ومن جيد شعره:
تناءت ديار قد ألفتُ وجيرةٌ
فهل لي إلى عهد الوصال إيابُ



















وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى
ودون مرادي أبحر وهضاب


مضى زمني والشيب حل بمفرقي
وأبعد شيء أن يُردَّ شباب


ويحدثنا أن في رجال الفقه من يجيد التخيل، ويحسن صياغة الكلام المنظوم، كالقاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي الذي قال فيه أبو العلاء المعري:
والمالكي ابن نصر زار في سفر
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا





















إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً
وينشر الملك الضليل إن شعرا




ومن نظم هذا القاضي:
متى تصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقت البحار من الركايا























ومن يَثْنِ الأصاغر عن مراد
وقد جلس الأكابر في الزوايا






وإنَّ ترفّعَ الوضعاءِ يوماً
على الرفعاء من إحدى البلايا


إذا استوت الأصاغر والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا


ويحدثنا بأن في علماء الحديث من يجيد صنع الشعر، مثل الحافظ سليمان ابن موسى الكلاعي؛ فإن له من الشعر ما يشبه أن يكون عربياً مطبوعاً، ومما قال:
أحن إلى نجد ومن حل في نجد
وماذا الذي يغني حنينيَ أو يجدي
























وقد أوطنوها وادعين وخلفوا
مُحِبَّهُمُ رهن الصبابة والوجد







وضاقت عليّ الأرض حتى كأنها
وشاحٌ بِخَصرٍ أو سوارٌ على زند


ونجد للقاضي عياض _وهو من علماء الحديث والفقه_ شعراً ذاهباً في التخييل إلى حد بعيد ومما قال:
انظر إلى الزرعِ وخاماتُه
تحكي وقد ماست أمام الرياح









كتيبة خضراء مهزومة
شقائق النعمان فيها جراح




ويحدثنا أن في علماء المنطق والرياضيات من يصنع صوراً خيالية، ويبرزها في ألفاظ عذبة رقيقة، مثل أبي بكر بن الصائغ الأندلسي، ومن نظمه البديع قوله:
ضربوا الخيام على أقاحي روضة
خطر النسيم بها ففاح عبيرا











وتركت قلبي سار بين حمولهم
دامي الكلوم يسوق تلك العيرا


لا والذي جعل الغصون معاطفاً
لهمُ وصاغ من الأقاح ثغورا


ما مر بي ريح الصبا من بعدهم
إلا شهقت له فعاد سعيرا






يبرع بعض العلماء في الشعر، ولكن فحول الشعراء من غير العلماء يكون جيد أشعارهم أكثر، ونَفَسهم في الشعر أطول، وقرائحهم إلى المعاني الغربية أسرع.
التجديد في الشعر:
يجري على ألسنة المحاضرين، وأقلام الكتب حديث التجديد في الشعر، ولسنا ممن يتجافى عن رأي التجديد؛ إذ التجديد سنة من سنن الشعراء النابغين، ولا سيما شعراء ينشؤون أو ينزلون في بلاد عامرة بمظاهر المدينة، وإنما نريد بحث ما يعنى بكلمة التجديد، حتى نصل إلى مافيه إصلاح الشعر، ونتحامى هدم ناحية من نواحي اللغة الفصحى.
للشعر مقاييسُ، وقوافٍ، ومعانٍ، وألفاظٌ، وأساليبُ، وفنونٌ.
أما المقاييس فقد نظم العرب في ستة عشر مقياساً، وهي المدونة في كتب العروض وما زال الشعراء يصوغون أشعارهم على هذه المقاييس إلى عهد الدولة العباسية، وفي ذلك العهد حدثت موازين خارجة عن الموازين السالفة، ووجدت كما تجد الأزجال في هذا العهد من يعجب بها، ويلذ سماعها.
ومن الموشحات الأندلسية ما يختلف في أشطار القصيدة بالطول والقصر اختلافاً بيّناً، كقول أبي الحسن بن سهل:
كحل الدجى يجري
من مقلة الفجر
على الصباح











ومعصم النهر
في حلل خضر
من البطاح


ومن هذا القبيل موشحة ابن ال****، التي دخل بها على أعجاز قصيدة ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا













ومما يقول في الموشحة:
يا جيرة بانت
عن مغرم صب



لعهده خانت
من غير ما ذنب


ما هكذا كانت
عوائد العرب


لا تحسبوا البُعدا
يغير العهدا
إذ طالما غيّر النأي المحبينا




وإذا كان الأدباء في العصور الماضية لم يَقْصُروا شعرهم على المقاييس المعروفة فأحدثوا مقاييس جديدة _ فلا نكره لأديب أن يصوغ الشعر في مقياسٍ محدث متى وثق من موافقته لأذواق الناس، وارتياحهم لحركاته وسكناته.
وأما القافية فقد ألزمها العرب على النحو المعروف في أشعارهم، حتى اخترع الأدباء الموشحات، فأخذت القافية هيئة غير هيئتها الأولى، كما رأيتها في المثُل التي أوردناها آنفاً.
وفي التزام القافية على الوجه الذي اختاره العرب سابقاً، وعلى نحو ما أحدثه الأدباء من بعد _ دلالةٌ على البراعة، ومحافظةٌ على وجه من الوجوه التي يمتاز بها المنظوم على المنثور.
وأما المعاني فللشاعر أن يذهب فيها كل مذهب، وله أن يأخذ في التشبيه والاستعارات كل مأخذ، فيرسل خياله فيما احتوته الحافظة من المعاني القديمة والحديثة، والطبيعية والصناعية، ويؤلف منها ما شاء من الصور الخيالية، مراعياً أذواق الطوائف التي يريد إثارة عواطفها نحو الشيء أو صرفها عنه.
وما زال فحول الشعراء في كل عصر يبتكرون المعاني، وينتزعون من مظاهر المدينة المتجددة صوراً يبرعون في صنعها، فلشعراء العصر العباسي بالشرق، أو شعراء الأندلس بالغرب معانٍ وتخيلاتٌ لم يطرقها الشعراء في الجاهلية، أو في صدر الإسلام، أو عهد الدولة الأموية.
وقع هذا التجديد من فحول شعرائنا، وكانوا على شعور من الحاجة إليه، ونبه أدباؤنا على هذا الشعور فيما كتبوا قديماً.
قال ابن سعيد، يفاخر أهل القيروان بشعراء الأندلس: = وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خَلَقُهُ في الأسماع جديداً، وكَلِيلُه في الأفكار حديداً، فأغرب أحسن إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب؟+
وإذا لم تُجِدْ قرائح شعراء عصر أو بلد بمعان جديدة، ورأيناهم لا يزيدون عن أن يرددوا معاني أسلافهم_ فلضعف ملكاتهم الشعرية، وقصورها عن أن تخرج للناس ثمراً جديداً.
وأما الألفاظ، فحقها أن يراعى فيها ما ثبت عن العرب، وما تقتضيه قوانين الصرف، وما تضعه المجامع العلمية على حسب ما تدعو إليه حاجة التعبير عن المعاني المحدثة.
والألفاظ الجديرة بأن يصاغ منها الشعر هي الألفاظ التي لا يخفى المراد منها على أكثر من يقصد استمالة عواطفهم إلى الشيء أو صرفها عنه.
ولا يكفي لجواز استعماله اللفظ في القصيدة خلوُّه من تنافر الحروف، وموافقته للوضع العربي، ووجوده في كتب اللغة القريبة التناول؛ إذ ليس كل لفظ يتحقق فيه شرط الفصاحة يصلح للشعر، بل وراء الفصاحة شيء آخر هو مراعاة حال قراء الشعر؛ فيصاغ لهم في ألفاظ تطرق أسماعهم، فتحضر معانيها في أذهانهم؛ فلو هُجِرَتْ ألفاظ في عصر من العصور، أو قل استعمالها بحيث لا يصل إلى معانيها إلا بعد الرجوع إلى كتاب من كتب اللغة، وشاعت ألفاظ ترادفها بحيث تكون أسرع بالمعنى إلى ذهن المخاطب _ كان من حق الشاعر اختيارُ الألفاظ التي يكون بها المعنى أقرب إلى الذهن، ولا سيما ألفاظ تساوي الألفاظ المهجورة أو النادرة الاستعمال في خفة النطق، وحسن تأليف حروفها.
فطبيعة الشعر تستدعي التجديد في الألفاظ على النحو الذي وصفنا، فالشاعر المجيد لا يجمد على الألفاظ التي استعملها الشعراء في عصور ماضية، ثم قل دورانها في كلام البلغاء من بعد.
وإذا لم يكتف الشاعر في خدمة اللغة بحفظ مذاهب بلاغتها، وفنون بيانها، وأراد أن يكون له نصيب في إحياء ما هجرته الألسنة من كلماتها العذبة السائغة _ ففي استطاعته أن يأتي إلى الكلمة التي تختفي معانيها على أكثر القراء، ويوردها حيث لا يفوتهم فهم المراد من البيت، والارتياح لما فيه من حسن التخييل.
فلو أصبحت كلمةُ =امتشق+ مثلاً غيرَ جاريةٍ في استعمال الشعراء في عصر _ لما كان على شاعر أراد إحياءها من حرج في استعمالها حيث ينبه مساق الكلام على المراد منها، كما استعملها العزازي في قوله:
والبدر نحو الغروب أسرع
كهارب ناله فرَقُ











والبرق بين السحاب يلمع
كصارم حين يُمْتَشَقُ






ومن ذا يسمع هذا البيت ولا يفهم أن القصد تشبيه حال البرق عند لمعانه بحال السيف عند تجريده من قرابه؟
وأما الأساليب فيراعى فيها قوانين النحو والبيان المسلَّمة، فلا نقبل من الشاعر أن يقدم خبر =إن+ مثلاً عليها، فيقول =كاتب إنَّ زيداً+ بدعوى التجديد في الأسلوب، ولا يحسن منع أن يتكئ على علة التجديد، ويسقط حرف العطف في نحو =لا ورحمك الله+ أو يدع الكلمات والجمل التي توضع في أثناء الكلام، فتكسو البيت لطفاً، وتدفع عنه أوهاماً يَفْقِدُ بها المعنى قوته، أو ينقلب بها إلى غير مراد، إلى ما يشاكل هذه التصرفات التي تخرج بالشعر العربي عن حدود البلاغة وحسن البيان.
وللشاعر أن يتخذ من الأساليب بعد رعاية قوانين النحو والبيان ما يشاء.
وقد اختلفت أساليب الشعراء في دائرة قانون اللغة الصحيح اختلافاً واضحاً، حتى إن الألمعي الدارس لأشعار الفحول من الشعراء في عصور متعددة _ يكاد يعرف من أسلوب القصيدة الشاعرَ الذي قالها، أو العصرَ الذي قيلت فيه.
وأما فنون الشعر _ أعني الأغراض العامة التي توجه إليها الشاعر بالنظم، نحو تهذيب النفوس، وإصلاح الاجتماع، والحماسة والفخر، والمديح، والهجاء، والوصف، والنسيب، والاستعطاف، والاعتذار _ فقد نظم فيها العرب كثيراً، وسلكوا فيها طرقاً بديعة.
ومن الشعراء من يبرع في فن أو فنون، كما يبرع عمر بن أبي ربيعة في فن الغزل، والمتنبي في إرسال الحكمة.
ومن العصور ما يشيع فيه بعض فنون الشعر أكثر مما سواه، كالعصر الذي يحمي فيه وطيس الحروب؛ فإنه يغلب فيه الحماسة والفخر، والعصر الذي يشيع فيه الفسوق يغلب فيه النسيب ووصف الخمور.
وإذا غلب فن من الفنون وجد رواجاً حتى عند من لا ناقة له في ذلك الفن ولا جمل، فتسمع الحماسة مثلاً في شعر الجبان الذي =إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً+( ) وتسمع الغزل ممن لم يحمل قلبه صبابة، ووصف الخمر ممن لا يعرف للخمر رائحة.
أما عصرنا هذا، ففيه إباحية وإلحاد، فلا عجب أن نرى من الشعر الرفيع ما تنبذه مجالس أهل الفضل، ولا عجب أن نرى من الشعر المارق من الدين ما يلقي بالمستضعفين في تهلكة، وإننا اليوم في حركة علمية اجتماعية، تنادي كل طائفة منا لأن تسعفها بما لديها من قوة.
ولكثير من شعرائنا في تقوية هذه الحركة مواقف محمودة، وأملنا أن يكون الفن الذي يُعرف به الشعر في هذا العصر فنَّ استنهاضِ الهمم، والصعود به إلى ذروة العز والمجد، فنَّ تقويمِ الأخلاق، وإصلاح الحياتين: العلمية والمدنية.










حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية

43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
45_ مجلس رسول الله ": للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور


القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي( )
للشيخ العلامة محمد رشيد رضا( )

التحقيق في صفة حال محمد " من أول نشأته، وإعداد الله _ تعالى _ إياه لنبوته ورسالته: هو أنه خلقه كامل الفطرة؛ ليبعثه بدين الفطرة، وأنَّه خَلَقَهُ كامل العقل الاستقلالي الهيولاني( )؛ ليبعثه متمماً لمكارم الأخلاق، وأنه بُغِّض إليه الوثنية وخرافات أهلها ورذائلهم من صغر سنه، وحبب إليه العزلة حتى لا تأنسَ نفسه بشيء مما يتنافسون فيه من الشهوات واللذات البدنية، أو منكرات القوة الوحشية، كسفك الدماء، والبغي على الناس، أو المطامع الدنيئة كأكل أموال الناس بالباطل؛ ليبعثه مصلحاً لما فسد من أَنْفُسِ الناس، ومزكِّياً لهم بالتأسِّي به، وجعله المثلَ البشريَّ الأعلى؛ لتنفيذ ما يوجه إليه من الشرع الأعلى.
فكان من عفَّته أنْ سَلَخَ مِنْ سني شبابه وفراغه خمساً وعشرين سنة مع زوجته خديجة كانت في عشر منها كهلةً نَصَفاً أمَّ أولاد، وفي خمسة عشر منها عجوزاً يائسة من النسل، فتوفيت في الخامسة والستين وهي أحب الناس إليه، وظل يذكرها، ويفضِّلها على جميع من تزوج بهن من بعدها، حتى عائشة بنت الصديق على جمالها، وحداثتها، وذكائها، وكمال استعدادها للتبليغ عنه، ومكانة والدها العليا في أصحابه.
وظل طول عمره يكره سفك الدماء ولو بالحق، فكان على شجاعته الكاملة يقود أصحابه؛ لقتال أعداء الله وأعدائه المعتدين عليه وعليهم؛ لأجل صدهم عن دينه، ولكنه لم يقتل بيده إلا رجلاً واحداً منهم هو أبي بن خلف كان موطِّناً نفسه على قتله" فهجم عليه وهو مُدَجَّجٌ بالحديد من مِغْفَر ودرع، فلم يجد" بداً من قتله، فطعنه في ترقوته من خلل الدرع والمغفر فقتله.
وظل طول عمره ثابتاً على أخلاقه، من الزهد والجود والإيثار، فكان بعدما أفاء الله عليه من غنائم المشركين واليهود يؤثر التقشف، وشظف العيش على نعمته، مع إباحة شرعه لأكل الطيبات، ونهيه عن تركها؛ تديناً.
وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله، مع إباحة دينه للزينة، وأمره بها عند كل مسجد، وكان يساعد أهل بيته على خدمة الدار.
أكمل الله استعداده الفطري الوهبي، لا الكسبي؛ للبعثة بإكمال دين النبيين والمرسلين، والتشريع الكافي الكافل؛ لإصلاح جميع البشر إلى يوم الدين، وجعله حجة على جميع العالمين بأن أنشأه كأكثر قومه أُمِّياً، وصرفه في أُمِّيته عن اكتساب أي شيء من علوم البشر من قومه العرب الأميين ومن أهل الكتاب، حتى إنه لم يجعل له أدنى عناية بما يتفاخر به قومه من فصاحة اللسان، وبلاغة البيان من شعر، وخطابة، ومفاخرة، ومنافرة( )؛ إذ كانوا يؤمُّون أسواق موسم الحج وأشهرها عكاظ من جميع النواحي؛ لإظهار بلاغتهم وبراعتهم، فكان ذلك أعظم الأسباب لارتقاء لغتهم، واتساع معارفهم، وكثرة الحكمة في شعرهم، فكان من الغريب أن يزهد محمد " في مشاركتهم فيه بنفسه، وفي روايته لما عساه يسمعه منه.
وقد سمع بعد النبوة زهاء مائة قافية من شعر أمية بن الصلت فقال: =إن كاد ليسلم+، وقال:=آمن شعره وكفر قلبه+، وقال: =إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر حكماً+ رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس.
وأما قوله: =إن من البيان لسحراً+ فقد رواه مالك، وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عمر.
قلنا: إن الله _ تعالى _ جعل استعداد محمد " للنبوة والرسالة فطرياً وإلهامياً لم يكن فيه شيءٌ من كسبه بعلم، ولا عمل لساني، ولا نفسي، وإنه لم يُرْوَ عنه أنه كان يرجوها، كما رُوي عن أمية بن أبي الصلت، بل أخبر الله عنه أنه لم يكن يرجوها، ولكن رُوي عن خديجة _رضي الله عنها _ أنها لما سمعت من غلامها ميسرة أخبار أمانته، وفضائله، وكراماته، وما قاله بحيرى الراهب فيه _ تعلَّق أملُها بأن يكون هو النبي الذي يتحدثون عنه، ولكن هذه الروايات لا يصل شيء منها إلى درجة المسند الصحيح، كحديث بدء الوحي.
فإن قيل: إنه يقوِّيها حَلِفُها بالله أن الله _تعالى_ لا يُخزيه أبداً، قلنا: إنها عللت ذلك بما ذكرته من فضائله، ورأت أنها في حاجة إلى استفتاء ابن عمها ورقة في شأنه.
وأما اختلاؤه " وتعبده في الغار عام الوحي فلا شك في أنه كان عملاً كسبياً مقوياً لذلك الاستعداد الوَهْبي، ولذلك الاستعداد السلبي، من العزلة، وعدم مشاركة المشركين في شيء من عباداتهم، ولا عاداتهم.
ولكنه لم يكن يقصد به الاستعداد للنبوة؛ لأنه لو كان لأجلها لاعتقد حين رأى الملك، أو عَقِبَ رؤيته حصولَ مأموله، وتحقق رجائه، ولم يَخَفْ منه على نفسه.
وإنما كان الباعثُ لهذا الاختلاء والتحنث اشتدادَ الوحشة من سوء حال الناس، والهرب منها إلى الأنس بالله _ تعالى _ والرجاء في هدايته إلى المخرج منها، كما بسطه شيخُنا الأستاذ الإمام( ) في تفسير قوله _تعالى_:[وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى](الضحى:7) وما يفسره من قوله _عز وجل_: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ](الشورى:52_53) وألم به في رسالة التوحيد إلماماً مختصراً مفيداً، فقال:
=من السنن المعروفة أن يتيماً فقيراً أمياً مِثْلَه تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه، لاسيما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده؛ فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده( ).
ولكنَّ الأمر لم يَجْرِ على سنته، بل بُغِّضتْ إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعالجته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة.
وما جاء في الكتاب من قوله: [وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى] لا يُفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم قبل الخلق العظيم، حاش لله، إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هي الحيرة تُلِم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيَّه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته+ أ. هـ.
أقول: وجملة القول أن استعداد محمد" للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله _تعالى_ روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كلِّ ما في العالم من التقاليد الدينية، والأعمال الوراثية والعادات المنكرة، إلى أن تجلى فيها الوحي الإلهي بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه؛ لتجديد دين الله المطلق الذي كان يُرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة، بما يناسب حالهم واستعدادهم، وأراد إكمال الدين به، فجعله خاتم النبيين، وجعل رسالته عامة دائمة، لا يحتاجون بعدها إلى وحي آخر.



عبرة الهجرة ( ) لمصطفى لطفي المنفلوطي

إن في أخلاق النبي " وسجاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بشرية ما يغنيه عن خارقة تأتيه من الأرض أو السماء، أو الماء أو الهواء.
إن ما كان يبهر العرب من معجزات علمه، وحلمه، وصبره، واحتماله، وتواضعه، وإيثاره، وصدقه، وإخلاصه _ أكثر مما كان يبهرهم من معجزات تسبيح الحصى وانشقاق القمر، ومشي الشجر، ولين الحجر؛ وذلك لأنه ما كان يريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى، من الشبه بينها، وبين عرافة العرافين، وكهانة الكهنة، وسحر *****ة، فلولا صفاته النفسية، وغرائزه، وكمالاته ما نهضت له الخوارق بكل ما يريده، ولا تركت له المعجزات في نفوس العرب ذلك الأثر الذي تركته؛ ذلك هو معنى قوله _تعالى_: [وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]آل عمران: 159.
كان " شجاع القلب، فلم يهب أن يدعو إلى التوحيد قوماً مشركين يعلم أنهم غلاظ جفاة، شرسون، متنمرون، يغضبون لدينهم غضبهم لأعراضهم، ويحبون آلهتهم حبهم لأبنائهم.
كان على ثقة من نجاح دعوته، فكان يقول لقريش _ أشد ما كانوا هزءاً به وسخرية_: =يا معشر قريش والله لا يأتي عليكم غير قليل؛ حتى تعرفوا ما تنكرون، وتحبوا ما أنتم له كارهون+.
كان حليماً سمح الأخلاق؛ فلم يزعجه أن كان قومه يؤذونه، ويزدرونه، ويشعثون( ) منه، ويضعون التراب على رأسه، ويلقون على ظهره أمعاء الشاة، وسلى( ) الجزور، وهو في صلاته، بل كان يقول: =اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون+.
كان واسع الأمل، كبير الهمة، صلب النفس، لبث في قومه ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله فلا يلبي دعوته إلا الرجل بعد الرجل، فلم يبلغ الملل من نفسه، ولم يخلص اليأس إلى قلبه، فكان يقول: =والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك دونه فيه ما تركته+.
وما زال هذا شأنه حتى علم أن مكة لن تكون مبعث الدعوة، ولا مطلع تلك الشمس المشرقة، فهاجر إلى المدينة؛ فانتقل الإسلام بانتقاله من السكون إلى الحركة، ومن طور الخفاء إلى طور الظهور، لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنها أكبر مظهر من مظاهره.
لقد لقي " في هجرته عناءً كثيراً ومشقةً عظمى؛ فإن قومه كانوا يكرهون مهاجرته لا ضناً به، بل مخافة أن يجد في دار هجرته من الأعوان والأنصار ما لم يجد بينهم، كأنما يشعرون بأنه طالب حق، وأن طالب الحق لابد أن يجد بين المحقين أعواناً وأنصاراً، فوضعوا عليه العيون والجواسيس؛ فخرج من بينهم ليلة الهجرة متنكراً بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي بن أبي طالب ÷ عبثاً بهم، وتضليلاً لهم عن اللحاق به.
ومشى هو وصاحبه أبو بكر ÷ يتسلقان الصخور، ويتسربان في الأغوار والكهوف، ويلوذان بأكناف الشعاب والهضاب، حتى انقطع عنهما، وتم لهما ما أرادا بفضل الصبر والثبات على الحق.
إن حياة النبي " أعظم مثال يجب أن يحتذيه المسلمون للوصول إلى التخلق بأشرفِ الأخلاق، والتحلي بأكرمِ الخصال، وأحسنُ مدرسة يجب أن يتعلموا فيها كيف يكون الصدق في القول، والإخلاص في العمل، والثبات على الرأي _ وسيلةً إلى النجاح، وكيف يكون الجهاد في سبيل الحق سبباً في علوه على الباطل.
لا حاجة لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرومان، وعلماء الإفرنج؛ فلدينا في تاريخنا حياة شريفة مملوءة بالجد والعمل، والبر والثبات، والحب والرحمة، والحكمة والسياسة، والشرف الحقيقي، والإنسانية الكاملة، وهي حياة نبينا " وحسبنا بها وكفى.


مجلس رسول الله "( )لفضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور

احتفاف العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلة من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم.
وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمة الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إنْ نفعت حيناً أضرت أزماناً، وإن راجت عند طوائف عُدَّتْ عند الأكثرين بطلاناً، وفي هاته الأصناف معتاد وغير معتاد، وبينها مراتب كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفطن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلاَّفها.
وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنْيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خلوه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء.
ولَكَثْرُ ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلف، لما يثقل عليهم التظاهر به؛ مجاراةً لأوهام التُّبَّاع أولي المدارك البسيطة؛ حذراً من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة.
فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول: =مكره أخوك لا بطل+ فلا غرو أن كان المتوسمون منذ القدم تقوم لهم من صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ منبئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس كما قال:
ولما أن رأيت بني جُوَيْن
جلوساً ليس بينهم جليس

يئست من التي قد جئت أبغي
إليهم إنني رجل يؤوس

وإننا إذا تتبعنا ما يعد من هيئات المجالس أحوال كمالٍ حقَّاً أو وهماً نجد منها المتضاد الذي إن اشتمل المجلس على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل، ونجد بعضها غير متضاد بحيث يمكن اجتماعه كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة مع إقامة الإنصاف؛ فقد كان مجلس سليمان _عليه السلام_ مكسوَّاً بفخامة الملك، وهو مع ذلك منبع لآثار النبوة والحكمة، وكانت مدرسة أفلاطون الحكيم محفوفة بمظاهر الرفاهية والترف وهي مناخ كل أستاذ حكيم.
فأما الأوصافُ المتضادةُ فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عما يضاد الحق منها، وأما غير المتضادة فلا يُعد تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمَّاً إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.
تجرى أشكال الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام؛ لتلقي مراد الله منهم، فيسن لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحْرِياء( )؛ لنفوذ مراد الله فيهم؛ فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظ لها في التأثير الخلقي، أو التشريعي، ولا تحط من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتعين على قبول دعوته بين العموم البسطاء؛ لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحقَّ؛ فإن بني إسرائيل لما فَتَنَتْهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى: [اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ] غضب عليهم رسولهم، ووبخهم على ذلك.
ولما بهرتهم مظاهر الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مروا بهم في تيههم، والذين جاوروا بلادهم وقالوا لنبيهم شمويل: [ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لم ير نبيهم في ذلك بأساً؛ إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهم؛ فأقام لهم شاول ملكاً، ثم خلفه من الملوك من كان له وصف النبوة مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنْقِصُ كماله النبوي.
وأظهر حجة على ذلك أن ملكة سبأ ما دانت له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت: [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ].
ثم هي لما وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبْهَتَها ودخلت الصرح الممرد فحسبته لجة _ هنالك قالت: [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
وكذلك فرعون موسى كان مما منعه أن يؤمن بموسى أنه لم ير عليه آثار العظمة الزائفة؛ إذ قال في تعليل كفره به: [فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ] وهي شعار الملوك في عرفهم.
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ شاهد عمر حين مقدمه الشامَ فخامةَ إمارةِ معاويةَ هنالك فقال له: =أَكُسْرَوَيَّةٌ( ) يا معاوية؟!+.
فقال معاوية: =إننا بجوار عدو فإذا لم يروا منا مثل هذا هان أمرنا عليهم+.
فقال عمر حينئذ: =خدعة أريب، أو اجتهاد مصيب لا آمرك ولا أنهاك+.
الآن تهيأ لنا أن نفيض القول في صفة مجلس رسول الله " ومتعلقاته، وهو مبحث جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به.
ومن العجب أن ذكر هذا المجلس الشريف ورد في القرآن، قال الله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا].
قال جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم: المراد بالمجلس في الآية هو مجلس رسول الله، وسأذكر ذلك في المبحث المناسب له.
ثم إني لم أر لأحد من الباحثين في السيرة من ذكر هذا المجلس سوى عياض في كتاب الشفاء؛ فإنه ذكره بكلمة واحدة في غرض آخر؛ إذ قال في فصل زيارة القبر الشريف هذه العبارة: =قال إسحاق بن إبراهيم( ) الفقيه: لم يزل مِنْ شأن مَنْ حجَّ المرورُ بالمدينة، والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله، وروضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه+ ا _هـ.
فكان حقَّاً علينا أن نخصه بمقال أتقصَّى فيه ما تناثر في خلال كتب الحديث والسيرة؛ فيجيء بحثاً أُنُفاً( ) يبهج من كان بسيرة رسول الله كلفاً.
* صفة مجلس الرسول _عليه السلام _:
إن رسول الله هو أكمل البشر، وإن أصحابه هم أفضل أصحاب الرسل، وأفضل قوم تقوَّمت بهم جامعةٌ بشريةٌ حسبما بينته في مقال المدينة الفاضلة( ) المنشور في الجزء العاشر من المجلد التاسع من مجلة الهداية الإسلامية، فأراد الله _تعالى_ أن يكون أعظم المصلحين وأفضل المرسلين مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان، وأن يجرد عن وسائل الخِلابة والاسترهاب؛ فتكون دعوتُه أكملَ الدعوات، وعِظَتُه أبلغَ العظات كما كان هو أكمل الدعاة والواعظين، وفي ذلك حكم جمة يحضرني الآن منها خمس:
الحكمة الأولى: أن لا يكون جلالُ قَدْرِه في النفوس ونفوذُ أمره في الملأ محتاجاً إلى معونة بوسيلة من الوسائل المكملة للتأثير الذاتي النفساني، بل يكون تأثيره الذاتي كافياً في نفوذ آثاره في قلوب أتباعه؛ إذ كانت نفسُه الشريفةُ أكملَ نفسٍ برزت في عالم الوجود الحادث، فتكون أغنى النفوس عن التوسل بغير صفاتها الذاتية؛ إذ لا نقص في تأثير نفسه.
من أجل ذلك ادخر الله لرسوله التأييد بأوضح الدلائل، وأغناها عن العوارض التي تصطاد النفوس، وتسترهب العيون؛ حتى لا يكون شأنه جارياً على الشؤون المألوفة.
ولعل هذا مما يلوح إليه قوله _تعالى_: [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ].
أي هذه دعوة الحق المحض الغَنِيَّةُ عن البهرجةِ الزائلة والله أعلم؛ فيكون هذا من المعجزات الخفية التي هي آيات للمتوسمين على كُرور الأيام والسنين.
الحكمة الثانية: أن يكون الرسول غيرَ مشارك لأحوال أصحاب السيادة الباطلة من الجبابرة والطغاة؛ حتى لا يكون من دواعي إيمان بعض الفرق به وطاعتهم له ما بهرهم من تلك الزخارف، كحال الذين استكبروا من قوم نوح إذ قالوا: [ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ].
وهذا معنى قول رسول الله ": =خيرت بين أن أكون نبيَّاً عبداً أو نبيَّاً ملكاً فاخترت أن أكون نبيَّاً عبداً +.
الحكمة الثالثة: أن يحصل له _ مع ذلك _ أعظمُ جلال في نفوس أعدائه بله أوليائه؛ فيكون فيه دليل على أن جلاله مستمد من عناية الله _ تعالى _ وتأييده.
روى الترمذي أن قيلة بنت خرمة جاءت رسول الله وهو في المسجد قاعداً القرفصاءَ قالت: =فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق+.
فقولها: المتخشع في الجلسة أَوْمَأَ إلى أن شأن المتخشع في المعتاد ألا يرهب، وهي قد أَرْعَدَتْ منه؛ رهبة.
ووصف كعب بن زهير رسول الله حينما دخل عليه المسجد في أصحابه مؤمناً تائباً وكان كعب يومئذ أقرب عهداً بالشرك وأوغل في معرفة مظاهر ملوك العرب وسادتهم؛ إذ هو الشاعر ابن الشاعر؛ فإذا هو يقول بين يدي رسول الله يصف مجلسه:
لقد أقوم مقاماً لو أقوم به
أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظل يرعد إلا أن يكون له
من الرسول بإذن الله تنويل

ثم يقول في صفة الرسول:
لَذاك أهيبُ عندي إذ أُكَلِّمُه
وقيل: إنك منسوب ومسؤول

من خادر من ليوث الأسد مسكنه
من بطن عَثَّرَ غِيلٌ دونه غيلُ

الحكمة الرابعة: أن رسول الله بعث بين قوم اعتادوا من سادتهم وكبرائهم أن يكونوا محفوفين بمظاهر الأبهة والفخامة، والرسول سيد الأمة، وقد جاء بإبطال قوانين سادتهم وكبرائهم؛ فناسب أن يشفع ذلك بتجرده عن عوايد سادتهم؛ ليريهم أن الكمال والبر ليس في المظاهر المحسوسة، ولكنه في الكمالات النفسية، وأن الكمال _ كما يحصل بالتخلق والتحلي _ يحصل بالتجرد والتخلي، ولذلك قال رسول الله: =أما أنا فآكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد+.
الحكمة الخامسة: أن مجلس رسول الله هو مصدر الدين الموسوم ببساطة الفطرة؛ فكان من المناسب أن تكون هيئةُ ذلك المصدرِ على بساطة الفطرة؛ ليحصل التماثل بين الحالِّ والمحل، ولتكون أحوال الرسول مظاهرَ كمالٍ ماثلةً لجميع الأجيال على اختلاف المدارك والأذواق؛ ليكون التاريخ شاهداً على ما لرسول الله من الكمال الحق، الذي لا تختلف فيه مدارك الخلق؛ فإن الفخامة _ وإن كانت تبهر الدهماء_ فالبساطة تُبهج نفوس الحكماء، وإن بينها وبين ناموس الفطرة أشدَّ انتماء.
* مكان مجلس الرسول:
إن من مارس الحديث والسيرة لا يَشُكُّ في أن مجلس رسول الله الذي يلتف حوله فيه أصحابه، وتجرى فيه معظم أعماله في شؤون المسلمين _ إنما كان بمسجده، وأن ما عداه من الأمكنة التي ورد في الآثار حلوله فيها إنما هي مقاعد كان يحل فيها قبل البعثة، وبعدها قبل الهجرة، وبعدها قبل أن ينتظم أمر المسلمين، أو بعد ذلك فيما بعد الهجرة؛ لعوارض تعرض من زيارة، أو ضيافة، أو عيادة، أو قضاء مصالح، أو نحو ذلك؛ فقد جلس قبل البعثة وهو بمكة في دار ابن جُدعان، وفي المسجد الحرام، وآوى إلى غار حراء يَتَحَنَّث بإلهام من الله _تعالى_ استئناساً بالوحي، وجلس بعد البعثة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وفي شعب أبي طالب مدة القطيعة، وسكن دار أبي أيوب الأنصاري عند مقدمه المدينة، وجلس بمسجد قباء قبل بناء المسجد النبوي، ولم يلبث أن بنى مسجده؛ فكان مجلسه بَعْدُ في ذلك المسجد فيما عدا أحوالاً تعرض مثل خروجه إلى بني عمرو بن عوف؛ للإصلاح بينهم.
وقد أرشدنا إلى ذلك ما في الصحيح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: =توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله يومي هذا، ولأكونن معه، فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج+ إلخ.
فقوله فجئت المسجد، فسألت عنه ينبئ بأن مَظِنَّةَ لقاءِ الرسول هي المسجد.
ثم إن تعيين مكان جلوسه من المسجد لم يَجْرِ له ذكر في كلامهم.
والذي يظهر لي أنه كان يلزم مكاناً معيناً للجلوس؛ لينتظره عنده أصحابه والقادمون إليه.
والظاهر أن هذا المكان المعين هو ما بين المنبر وحجرة عائشة _ رضي الله عنها _، وهو الملقب بالروضة، ويدل لذلك أربعة أدلة:
الدليل الأول: ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله قال: =ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة+.
وللعلماء في معنى ذلك تأويلات أظهرها والذي مال إليه جمهورهم أنه كلام جرى على طريقة المجاز المرسل؛ فإن ذلك المكانَ لما كان موضع الإرشاد والعلم كان الجلوس فيه سبباً للتنعم برياض الجنة؛ فأطلق على ذلك المكان أنه روضة من رياض الجنة بإطلاق اسم المسبب على السبب.
أو جرى على طريق الاستعارة بأن شَبَّه ما يصدر في ذلك المكان من الإرشاد والتشريع والعلم والموعظة والحكمة المنعشة للأرواح بما في رياض الجنة من الثمار والأزهار والأنهار ذات الإنعاش الخالد، فأطلق اسم المشبه به على المشبه.
وفي هذا إنباء بأن موضع الروضة مجلس رسول الله الذي كان فيه معظم إرشاده وتعليمه الناس.
الدليل الثاني: أنا نجد أحاديث كثيرة روتها عائشة _رضي الله عنها_ تتضمن ما دار بين رسول الله وبين سائليه، ولم نجد مثل ذلك لبقية أمهات المؤمنين؛ فعلمنا أن ذلك انفردت به عائشة؛ من أجل قرب بيتها من مجلس الرسول، وقد كان بيتها بقرب الروضة.
الدليل الثالث: قوله": =خذوا شطر دينكم عن عائشة+.
وهو كلام جار مجرى البلاغة في غزارة علمها بالدين، ومن جملة أسباب ذلك اطلاعها على ما يجري في مجلس رسول الله، وبذلك امتازت على بقية الأزواج.
الدليل الرابع: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: =لقد رأيتني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله وحجرة عائشة؛ فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي يرى أن بي جنوناً وما بي جنون، وما هو إلا الجوع+.
مع ما رواه البخاري وغيره أن أبا هريرة قال: =يقول الناس أكثر أبو هريرة، وإن إخواننا المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت ألزم رسول الله على شبع بطني؛ فأسمع ما لا يسمعون، وأشهد ما لا يشهدون+.
فينتج من ذلك أن مقام أبي هريرة كان في الروضة، وأن ملازمته رسول الله كانت في ذلك المقام، وأن الروضة هي مجلس رسول الله ".
هذا وقد رأيت في كلام شهاب الدين الخفاجي في شرحه على شفاء عياض كلمة تقتضي الجزم بأن مجلس رسول الله هو الروضة؛ فإنه لما بلغ إلى قول عياض: =لم يزل من شأن مَنْ حج المرورُ بالمدينة والقصد إلى التبرك برؤية مسجد رسول الله وروضته ومنبره وقبره ومجلسه+ إلخ... قال: =ومجلسه أي موضع جلوسه في الروضة المأثور ا _ هـ.+ ولم أقف على مستنده الصريح فيما جزم به.
* كيفية التئام مسجد الرسول وخروجه إليه:
كان أصحاب رسول الله إذا قصدوا مسجده يحضرون المكان الذي اعتاد الجلوس فيه، فإذا قدموا قبل خروج الرسول يجلسون ينتظرونه حتى إذا خرج رسول الله كانوا يقومون له، فنهاهم عن ذلك، روى أبو أمامة قال: =خرج علينا رسول الله فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً+ فصار القيام منسوخاً على الأصح.
وعندما يخرج رسول الله على أصحابه يبقون جلوساً؛ فلا يرفع أحد منهم بصره إلى رسول الله إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه، ويبتسم إليهما، كذا في الشفاء.
وفي الشفاء أنه كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم.
والظاهر أن معنى ذلك أنه حين يخرج إليهم لا يتخطى رقابهم، ولكن يجلس حيث انتهى به المجلس؛ ففي صحيح البخاري عن أبي واقد الليثي أن رسول الله بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان منهم إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله _ أي من كلامه _ قال: =ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه+.
وفي أسباب النزول والتفسير أن رسول الله كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، وأن ناساً منهم جاؤوا إلى مجلسه فلم يجدوا موضعاً فقاموا مواجهين له ولم يوسع لهم أحد، فقال رسول الله لبعض من حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان ويا فلان، وفي ذلك نزل قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ] الآية.
وسيأتي تفصيله في ذكر آداب مجلسه.
وربما وقف السامع إلى حديث رسول الله. وفي البخاري: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، وأخرج حديث أبي موسى الأشعري: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله؟ فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: =من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا+، قال الراوي: وما رفع رأسه إليه إلا أن السائل كان قائماً.
وكان الملازمون مجلسَ رسول الله " أصحابَه من الرجال.
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه قال: =قال النساء للنبي غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً لنفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن+...إلخ.
وظاهر ترجمة البخاري لهذا الحديث أن اليومَ المجعولَ للنساء لم يكن يوماً مفرداً وحيداً، بل جعل لهن نوبة من الأيام؛ فيحتمل أنه جعل لهن يوماً في الأسبوع، أو في الشهر، أو بعد مدة غير معينة يعين لهن موعده من قبل، والله أعلم.
* هيئة المجلس الرسولي:
تدل الآثار على أن مجلس رسول الله " كان على صورة الحلقة الواحدة، أو الحِلَق المتداخلة كما ورد في حديث أبي واقد الليثي في صحيح البخاري؛ إذ قال فيه: =فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم+.
وقد تقدم آنفاً، بل صرح بعض الرواة بأن أصحاب رسول الله "كانوا يجلسون حوله حِلَقاً.
أما رسول الله "فكان مجلسه في وسطهم؛ ففي الصحيح عن أنس ابن مالك÷أن ضماماً بن ثعلبة السعدي ÷لما دخل المسجد قال: أيكم محمد؟ قال أنس والنبي متكئ بين ظهرانيهم، وسيأتي الحديث، ومعنى بين ظهرانيهم أنه في وسطهم.
ومن الغريب ما ذكره القرطبي في كتاب المفهم على صحيح مسلم عن مسند البزار عن عمر بن الخطاب ÷ قال: =كان النبي " يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أهو هو حتى يسأل، فطلبنا لرسول الله "أن نجعل له مجلساً كي يعرفه الغريب، فبنينا دكاناً من طين يجلس عليه+ ا_هـ.
وهذا غريب، إذ لم يذكر هذا الدكان فيما ذكروه من تفصيل صفة المسجد النبوي في الكتب المؤلفة في ذلك.
وكانت هيئة جلوس رسول الله "في مجلسه غالباً الاحتباء، فقد ذكر الترمذي في كتاب الشمائل عن أبي سعيد الخدري ÷=كان رسول الله "إذا جلس في المجلس احتبى بيديه+ ا_هـ.
وقول الراوي: كان يفعل، يدل على أنه السُّنةُ المتكررة.
والاحتباء هو الجلوس وإيقاف الساقين، فتجعل الفخذان تجاه البطن بإلصاق، ويلف الثوب على الساقين والظهر، فإذا أراد المحتبي أن يقوم أزال الثوب.
وأما الاحتباء باليدين هو أن يجعل المحتبي يديه يشد بهما رجليه عوضاً عن الثوب، فإذا قام قالوا حلَّ حُِبوته (بكسر الحاء وضمها).
وكان الاحتباء أكثر جلوس العرب، وربما جلس رسول الله "القُرْفُصَاء _بضم القاف وسكون الراء بالمد والقصر_ وهي الاحتباء باليدين، وربما جعلت اليدان تحت الإبطين وهي جلسة الأعراب والمتواضعين.
وقد وُصِف جلوس رسول الله " القرفصاء في حديث قيلة بنت مخرمة _رضي الله عنها_ وقد تقدم آنفاً، وربما اتكأ رسول الله " في مجلسه في المسجد.
وفي الصحيح عن أبي بكرة ÷ أن رسول الله " قال: =ألا أحدثكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور...الخ.
وفي حديث جابر بن سمرة ÷ رأيت رسول الله " متكئاً على يساره وربما اتكأ على يمينه، وفي حديث جابر بن سمرة ÷ أن رسول الله " جلس متربعاً.
ويؤخذ ذلك من حديث جبريل في الإيمان والإسلام من صحيح مسلم.
وقد تجعل له وسادة، روى الترمذي عن جابر بن سمرة ÷أنه رأى رسول الله " متكئاً على وسادة سوداء.
وعددُ جُلساء رسول الله " لا ينضبط، بل كان يختلف باختلاف الأيام وأوقات النهار، فربما اشتمل المجلس على أربعين رجلاً كما ورد في الصحيح من حديث أنس بن مالك ÷ قال: =أرسلني أبو طلحة الأنصاري ÷أدعو له رسول الله " خامس خمسة لطعام صنعه لرسول الله " فوجدت النبي " في المسجد معه ناس فقمت، فقال: أأرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم، قال: لطعام؟ قلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا وكانوا نحو الأربعين+.
وربما كان مجلسه يشتمل على عشرة، ففي الصحيح عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله " إذ أتى بجمار نخلة فقال النبي " : =إن من الشجرة لما بركته كبركة المسلم+، فأردت أن أقول هي النخلة ثم التفت، فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكتُّ+... إلخ.
* ما كان يجري في مجلس رسول ":
نبعت ينابيع الهدى والحكمة والتشريع من مجلس رسول الله " ومن منبره، ولقد كان أكثر ما رواه أصحابه عنه مما سمعوه منه في مجلسه؛ لذلك يكثر أن تجد في الأحاديث المروية عن الصحابة أن يقول الصحابي: =بينما نحن جلوس عند رسول الله "+.
وكان يقع التحاكم عند رسول الله " في مجلسه، وقد حكم فيه بين المسلمين كثيراً، وبين اليهود في قصة الرجم؛ إذ جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا فأمر بهما، فرجما في موضع الجنائز من المسجد.
وكانت تفد عليه الوفود وهو في مجلسه، ويأتيه سفراء المشركين من أهل مكة، ويَعْتَوِرُه العُفاة، وأصحاب الحاجات.
في الشفاء أن أعرابيَّاً جاء يطلب من النبي " شيئاً فأعطاه ثم قال له: أأحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم رسول الله " أَنْ كُفُّوا، ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده، فقال له: أأحسنت إليك؟ قال: نعم.
ثم هو _ أيضاً _ مجلس أدب ينشد فيه الشعر وتضرب فيه الأمثال.
ولقد أنشد كعب بن زهير قصيدته المشهورة فلما بلغ إلى وصف راحلته فقال:
قنواء في حرتيها للبصير بها

عِتْقٌ مبينٌ وفي الخدين تسهيل

فقال رسول الله " لأصحابه: ما حرتاها؟ فقال بعضهم: عيناها، وسكت بعضهم، فقال رسول الله ": هما أذناها.
ولما بلغ كعب قوله في مدح المهاجرين:
لا يقع الطعن إلا في نحورهم
وما لهم عن حياض الموت تهليل

نظر رسول الله "إلى من حوله من قريش نظر من يومئ إليهم أن اسمعوا هذا المدح.
وروى الترمذي عن جابر بن سمرة ÷ قال: جالست رسول الله "أكثر من مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم معهم.
وقد ورد في الأثر أن أصحاب رسول الله " إذا دخلوا عليه كانوا لا يفترقون إلا عن ذَواق، ويخرجون أدلة.
للعلماء اختلاف في تأويله، فحمله بعضهم على ظاهره، أي لا يفترقون إلا بعد أن يطعموا طعاماً قليلاً؛ ولذلك عبر عنه بذَواق، وهو بفتح الذال الشيء المَذُوق من تمر أو نحوه أو ماء.
وقد ورد في حديث عبد الله بن عمر _ رضي الله عنهما _ أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله "إذ أتى بِجُمَّار نخلة...إلخ. أي أتى به ليؤكل في مجلسه، ولذلك ترجم البخاري هذا الحديث: باب أكل الجمار، وفي حديث الموطأ عن أبي هريرة ÷: جاء رجل إلى رسول الله "يذكر أنه وقع على أهله في نهار رمضان إلى أن قال: فبينما نحن على ذلك إذ أُتي النبي "بعرق فيه تمر... إلخ.
والعَرَِق بفتح العين وفتح الراء ويجوز كسرها هو المكتل أي الزنبيل.
وتأوله الأنباري، وابن الأثير، وغير واحد أنه أراد أنهم لا يتفرقون إلا عن علم تعلموه يَقُوْم لأنفسهم مقامَ الطعامِ والشراب للأجسام في الانتعاش والالتذاذ؛ فجرى الكلام على طريقة الاستعارة.
* وقت المجلس الرسولي:
أحسب أن معظم جلوس رسول الله " للناس كان في أوقات تفرغ معظم الصحابة من العمل، فكان يجلس لهم بعد صلاة الصبح كما يشهد لذلك حديث كعب بن مالك ÷ وتوبته، قال كعب: =وأتى رسول الله " وهو في مجلسه بعد الصلاة ثم قال: فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر، وانطلقت إلى رسول الله " حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله " جالس حوله الناس... إلخ+.
وكذلك حديث أبي موسى الأشعري ÷ المتقدم إذ يقول: توضأت يوماً وخرجت من بيتي فقلت: لألزمن رسول الله " يومي هذا وأكون معه فجئت المسجد... إذ لا شك أن ذلك وقت صلاة الصبح، وما كان رسول الله" يستغرق الصباح كله في المجلس فإن أصحابه كانوا يذهبون إلى أعمالهم وحاجاتهم، ولأن رسول الله " كان يدخل بيوت أزواجه، فقد قالت عائشة _رضي الله عنها_ كان يكون في بيته في مَهَنَةِ أهله.
وفي حديث علي ÷ من رواية الترمذي ورواية عياض: كان دخوله لنفسه فكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئاً.
أي كان له في بيته وقت يجلس إليه فيه خاصة أصحابه ومن له حاجة خاصة.
ومعنى يرد ذلك على العامة أنه تحصل منه منفعة للعامة بما يرويه الخاصة من علمه للناس، وفي هذا دليل على أن معظم ما عدا وقت دخوله إلى منزله كان وقت مجلسه إلا إذا عرضت حاجة يذهب إليها.
* آداب مجلس رسول الله:
كيف لا يكون مجلس يحتله رسول الله " ميدان تسابق الآداب إلى غاياتها، وجوَّاً ترفرف فيه الكمالات راقبةً إلى سماواتها.
فإن صاحبه هو الذي أدبه ربه بأحسن تأديب، وجلساءه هم أولئك الغُرُّ المناجيب، وناهيك بأن ورد بعض آدابه في الكتاب المجيد، قال الله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ].
قال الواحدي، وابن عطية عن مقاتل وقتادة وزيد بن أسلم: كان النبي " يجلس في المسجد فجلس يوماً وكان في المجلس ضيق؛ إذ كان الناس يتنافسون في القرب من رسول الله "، وفي سماع كلامه، والنظر إليه، وكان رسول الله " يكرم أهل بدر، فجاء أناس من أهل بدر فلم يجدوا مكاناً في المجلس فقاموا وِجَاهَ النبي"على أرجلهم يرجون أن يوسع الناس لهم، فلم يوسع لهم أحد، فأقام رسول الله " أناساً بقدر من جاء من النفر البدريين، فعرف رسول الله " الكراهية في وجوه الذين أقامهم فنزلت الآية.
فقوله: [إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَلِسِ] فيما إذا كان في المجلس ضيق، فيتفسح الناس بدون أن يقوم أحد، وقوله: [وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا] أي إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا عن المجلس فافعلوا، أي إذا أمركم الرسول " في مجلسه بالقيام فلا تتحرجوا، وهو ضرب من التفسح.
وقيل التفسح يكون بالتوسعة من قعود أو من قيام، فهما داخلان في قوله: تفسحوا، والنشوز هو أن يؤمروا بالانفضاض عن المجلس، فإذا أمروا بذلك فلا يتحرجوا؛ لأن رسول الله " يحب أحياناً الانفراد بأمور المسلمين؛ فربما جلس إليه القوم فأطالوا؛ لأن كل أحد يحب أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي "، وكل ذلك من فرط محبتهم إياه، وحرصهم على تلقي هداه.
ومن آدابه المذكورة في الكتاب المجيد ما في قوله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ]، وقوله: [ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً].
قال علماء التفسير: نزلت هاتان الآيتان بسبب محاورة جرت بين أبي بكر وعمر _ رضي الله عنهما _ بين يدي رسول الله " في مجلسه، وذلك حين قدم وفد بني تميم أشار أبو بكر ÷ على النبي "أن يؤمَّ على بني تميم القعقاع بن معبد، فقال عمر ÷ بل أمِّر عليهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماديا، وارتفعت أصواتهما، فنزل القرآن بهذه الآية، قالوا: فكان أبو بكر بعد ذلك لا يكلم رسول الله "إلا كأخي السرار _ أي كصاحب السر والمسارة _ وكان عمر ÷ بعد ذلك إذا كلم رسول الله " لا يكاد يسمعه حتى إن رسول الله " لَيَسْتَفْهِمه.
ومن آداب مجلسه أن أصحابه يكونون فيه على غاية التؤدة والسكينة؛ فقد روى أصحاب السنن عن أسامة بن شريك ÷أن رسول الله "إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، ومثله في حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله ".
ومعنى كأنما على رؤوسهم الطير: أي في حالة السكون؛ لأن الطائر ينفر من أدنى تحرك.
وفي حديث هند بن أبي هالة _ رضي الله عنها _: كان رسول الله "يعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب أحد أن أحداً أكرم عليه منه.
وفيه أن مجلسه مجلس وقار، وحلم، وحياء، وخير، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته.
ومعنى لا تؤبن فيه الحرم: أي لا تذكر فيه حرمات الناس بسوء، يقال أبَنه إذا ذكره بسوء، والمراد بالحرم هنا أعراض الناس وما يحرِّمون تناوله منهم، ومعنى لا تثنى فلتاته: لا تعاد، مأخوذٌ من التثنية وهي الإعادة، والفلتات جمع فلتة وهي الزلة من القول والفعل إذا جرت على غير قصد بغتة؛ يعني أن أهل ذلك المجلس أهل حفظ للسر، وإعراض عن اللغو، فلو صدرت من أحد فلتة لم يتناقلها جلساؤه بالتسميع والتشنيع، وهذا أدب عربي رفيع، وفي هذا المعنى قال وداك بن ثميل من شعراء الحماسة:
وأحلام عاد لا يخاف جليسهم
إذا نطق العوّارَ غربُ لسان





مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية

46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي
49_ موت أم: للأديب مصطفى صادق الرافعي
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي





-الأستاذ أحمد أمين 16
-الشيخ علي الطنطاوي 23
-العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور 34
-العلامة أحمد تيمور باشا 42
-العلامة الشيخ محمد الخضر حسين 51
-د. زكي مبارك 69
-الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي 72
-العلامة محب الدين الخطيب 92
-العلامة محمود شاكر 108
-العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 121
-الأديب مصطفى صادق الرافعي 171
-العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار 154
-الأديب عباس محمود العقاد 245
-أمير البيان شكيب أرسلان 264
-العلامة الشيخ أحمد شاكر 275
-العلامة الشيخ محمد رشيد رضا 336




المقدمة 3
-نبذة عن تاريخ المقالة 3
-المقالة في العصر الحديث 4
-موضوعات المقالة: 4
1_ المقالة الدينية 4
2_ المقالة الاجتماعية 4
3_ المقالة السياسية 4
4_ المقالة النقدية 4
5_ المقالة الوصفية 5
-تقسيم آخر للمقالة: 5
1_ المقالة الذاتية 5
2_ المقالة الموضوعية 5
-الفروق بين مقالة الصحيفة ومقالة المجلة 6
-الفترة الذهبية للمقالة 6
-سبب إخراج هذه المجموعة 7
-فكرة عامة عن هذه المجموعة 7
-مجمل ما اشتملت عليه هذه المجموعة 9
-مسرد بعنوانات الموضوعات والمقالات في هذه المجموعة 10
أولاً: مقالات في السعادة 15
1_ ابتسم للحياة: للأستاذ أحمد أمين 16
2_ السعادة: الشيخ علي الطنطاوي 23
3_ اللذة مع الحكمة: للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور 34
-رأيان في اللذة 35
-انقسام اللذة بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية وعقلية ومركبة منهما ... 35
-الملك الناصر وحاله مع السعادة 37
-حال الحكيم مع السعادة 38
-جاءت شريعة الإسلام في آدابها على الحكمة الفطرية 39
-العاقل لا يسمح لنفسه باقتضاء لذتها الحسية 39
-أولئك هم السعداء 40
ثانياً: مقالات في الأخلاق والمروءات والسلوك 41
4_ أخلاق العرب وعاداتهم: للعلامة أحمد تيمور باشا 42
5_ أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة: للأستاذ أحمد أمين 45
6_ الإنصاف الأدبي: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين 51
-الغرض من البحث 53
-منبت الإنصاف الأدبي 54
-للغلو في حب الذات فرعان 54
-منشأ الحسد والحرص 55
-قلة الإنصاف تبعد ما بين الأقارب والأصدقاء 55
-قلةُ الإنصافِ تَجُرُّ إلى التقاطعِ 56
-قلةُ الإنصاف تسقط احترامك من العيون 56
-قلةُ الإنصافِ تُسْقط احترامك من القلوبِ 57
-قصة للمنذر بن سعيد مع أبي جعفر النحاس 57
-قلة الإنصاف تحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً 57
-قصة للزجاج مع المبرد 58
-قلة الإنصاف تحدث في العلم فساداً كبيراً 58
- قلة الإنصاف تخذل العلم 58
-شذرة في تاريخ العلامة محمد بن عبدالسلام 59
-التعصب للمذهب 59
-مناظرة بين الإمام مالك وأبي يوسف 60
-إنصاف الرجل لأعدائه وخصومه 60
-نموذجٌ من إنصاف علي بن أبي طالب 60
-إنصاف الرجل من هو أكبر منه سناً 61
-إنصاف الرجل لأقرانه، ومن هم أحدث منه سناً 61
-نموذجٌ عالٍ من إنصاف الأساتذة، وحسن تعاملهم مع طلابهم 61
-نماذج رائعة من إنصاف الصحابة، وحسن تعاملهم مع الخلاف 62
-نماذج من اختلاف السلف 63
-العناد قبيح 64
-شذرات من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بخصلة حمد 64
-إذا لم ينصفك الرجل ... 65
-لا يحارب الرجل خصومه بمثل الاعتصام بالفضيلة 65
-واجب التربية على الإنصاف 65
7_ علم الأخلاق: للشيخ علي فكري 66
-مفهوم علم الأخلاق 66
-متى تكون الأفعال خلقاً للإنسان؟ 66
-الأخلاق إما حسنة أو سيئة 67
-شأن العاقل الكامل أن يختار الأفضل 67
-آفة عقل الإنسان 67
-إلى ماذا تقود قوَّةُ العقلِ وضعفُه؟ 67
-أمور أكسبت الأمة العربية السيادة 68
8_ أخلاق الناس: د.زكي مبارك 69
9_ الوفاء: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي 72
10_ الشرف: للأستاذ أحمد أمين 77
11_ مضار الإسراف: للعلامة محمد الخضر حسين 82
- تقدير الإسراف 82
-ضابط الإسراف 82
- الإسراف يُفضي إلى الفاقة 82
- الإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة 83
- الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن 83
- الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور 84
- الإسراف في الترف يذهب بالأمانة 84
- الإسراف في الترف يمسك الأيدي عن فعل الخير 85
- الإسراف في الترف له أثرٌ كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق 85
- الإسراف في الترف له أثر في الصحة 85
- الإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم 86
-التحذير من الإسراف في الترف لا يعني أن يكون الناس على سنة واحدة 87
-هداية القرآن الكريم في الاقتصاد 87
-الدَّين وأثره 88
-متى تكون فضيلة الاقتصاد 88
-الشكوى من إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى 90
-التربية على ترك الإسراف في الترف 90
ثالثاً: مقالات في العمل والهمة والنبوغ 91
12_ قوة العرب المعطلة: للعلامة محب الدين الخطيب 92
13_ معركة الحياة كيف نفوز فيها: للأستاذ أحمد أمين 98
14_ النبوغ: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي 102
15_ يوم البعث: للعلامة محمود شاكر 108

رابعاً: مقالات في الشباب
117
16_ التربية الدينية والشباب: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين 118
17_ الشباب المحمدي: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 121
18_ حديث إلى الشباب: للأستاذ أحمد أمين 124
- طريق المستقبل 125
- صعوبات الشباب 126
- كيف يبني الشاب نفسه؟ 127
- لماذا يفشل الشاب 129
خامساً: مقالات في المرأة 131
19_ تحرير المرأة: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي 132
20_ مستودع الذخائر: للأستاذ أحمد أمين 136
21_ اختلاط الجنسين في نظر الإسلام: للشيخ محمد الخضر حسين 141
22_ أمهات المؤمنين: للشيخ محمد بهجة البيطار 154
- النساء في عصر النبوة 154
- إحدى أمهات المؤمنين وفتاة في القرن العشرين 156
- من أخذ عنها من الصحابة 157
- تلاميذها من كبار التابعين 157
- من روى عنها من آل بيتها 157
- حكمة تعدد أمهات المؤمنين بعد الهجرة 158
- الحكمة في تزوجه " بعد الهجرة ببضع نسوة في بضع سنين 159
سادساً: مقالات في العادات والعبادات 163
23_ الناس والعادات: للشيخ علي محفوظ 164
24_ فلسفة الصيام: للأديب مصطفى صادق الرافعي 171
25_ لبيك اللهم لبيك: للشيخ محب الدين الخطيب 181
26_ روح المجالس: للأستاذ أحمد أمين 184
سابعاً: مقالات في السياسة والاجتماع 189
27_ الدهاء في السياسة: للعلامة محمد الخضر حسين 190
-مفهوم الدهاء 190
-يقوم الدهاء على فطرة الذكاء 190
-السياسة فنون شتى 191
-من يملك ميزة الدهاء؟ 192
-أناة الرئيس ورصانته ... 192
-مناقشة مقولة ابن خلدون =إنَّ العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلْك+ 193
-السياسة تنافي الإفراط في معاضدة الأشياع والأحلاف 195
28_ القضاء العادل في الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين 198
-مقدمة في إحاطة الإسلام بضروب السعادة هداية وتعليماً 198
-الخصمان بين يدي القاضي 198
-العواطف التي تثور في القاضي حال النظر في القضية 199
-عناية الشريعة بالعدل في القضاء 199
-وصف الإسلام ما في العدل من فوز 202
- تقوى الله تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة 203
-نماذج في سير عدل بعض القضاة 203
-الإسلام يلقن القاضي أنه مستقل ليس لأحد عليه من سبيل، مع نماذج لأحوال القضاة في ذلك 205
-الرئيس الناصح يكبر القاضيَ الذي يأنس منه استقامة 206
-الرئيس العادل يعجب بالعالم الذي دلته التجربة على استقامته عند الحكم 206
-صعوبة القضاء، وتأبي أكثر العلماء أن يقبلوا ولايته 207
-للرئيس أن يُجْبِر على ولاية القضاء من كان أهلاً لذلك 208
-قصة في الاعتزاز بالعلم والزهد في المناصب 209
- عناية الإسلام بالقضاء رَفَعَتْهُ إلى درجة أفضل الطاعات 209
- إعداد القضاة الأكفياء 210
29_ الإسلام والمسلمون: للأستاذ أحمد أمين 211
30_ شرعة الحرب في الإسلام: للعلامة محمد البشير الإبراهيمي 217
- من لوازم الحرب سفك الدماء 217
- الدماء المحترمة 217
- أول حق يكتسبه المسلم بإسلامه, أو الذمي 217
- القتال لم يشرع في القرآن بصيغة شرع 218
-من أحكام الحرب في الإسلام 219
-تحريم الإسلام التعذيب، والتشويه، والمُثلة 219
-الوصاية بالأسير 219
-وصية أبي بكر ÷ للجيش هي الكلمة الجامعة... 220
-السلم في الإسلام 220
31_ المجاهدون الأولون: لمحب الدين الخطيب 222
ثامناً: مقالات في الإصلاح والدعوة إلى الله 229
32_ دمعة على الإسلام: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي 230
33_ الله أكبر: للأديب مصطفى صادق الرافعي 236
34_ الأذان: للأديب عباس محمود العقاد 245
35_ العلماء والإصلاح: للشيخ محمد الخضر حسين 255
تاسعاً: مقالات في العلم والتحقيق والطب 263
36_ التاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم: لأمير البيان شكيب أرسلان 264
37_ تصحيح الكتب: للعلامة الشيخ أحمد شاكر 275
38_ احترام الأفكار: للعلامة محمد الطاهر بن عاشور 283
39_ الطب في نظر الإسلام: للعلامة محمد الخضر حسين 293
- التوكل والأخذ بالأسباب يلتقيان في نفس واحدة 293
-عناية الإسلام بالطب 294
-هل يُحمل ما وقع في الأحاديث الصحيحة في شأن الطب على أنه مشروع 297
-مظاهر عناية أمراء الإسلام بالطب 301
أولها: تقريب الأطباء على اختلاف مللهم 301
ثانيها: نقل كتب الطب إلى العربية 302
ثالثها: ***** الطب عن أن يتعاطاه غير أهله 302
رابعها: بناء المستشفيات 303
شدة عنايتهم بمداواة المرضى، وتوفير وسائل الراحة لهم 303
عاشراً: مقالات في اللغة والأدب 307
40_ لغة الضاد: للأستاذ محمد صادق عنبر 308
41_ البيان: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي 311
42_ الشعر _ حقيقته _ وسائل البراعة فيه _الارتياح له _ تحلي العلماء به _ التجديد فيه: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين 317
-حقيقة الشعر 317
- وسائل البراعة فيه 320
- الارتياح للشعر 322
- العلماء والشعر 325
- التجديد في الشعر 328
حادي عشر: مقالات في السيرة النبوية 335
43_ القول الحق في استعداد محمد " للنبوة والوحي: للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا 336
44_ عبرة الهجرة: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي 342
45_ مجلس رسول الله": للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور 345
-مظاهر العظمة ونواحيها في أعين الناظرين والتُّبَّاع 345
-المجادلة التاريخية العظيمة بين عُمَرَ ومعاوية _ رضي الله عنهما _ 347
- صفة مجلس الرسول _عليه السلام _ 349
-الحِكَمُ من كون الرسول " مقصوراً على التأييد بالدلائل الحقة الباقية على الزمان 349
-الحكمة الأولى 349
-الحكمة الثانية 350
-الحكمة الثالثة 350
-الحكمة الرابعة 351
-الحكمة الخامسة 351
- مكان مجلس الرسول 352
-الأدلة على كون مجلس رسول الله " ما بين المنبر وحجرة عائشة 353
-الدليل الأول 353
-الدليل الثاني 353
-الدليل الثالث 353
-الدليل الرابع 354
-كيفية التئام مسجد الرسول وخروجه إليه 354
- هيئة المجلس الرسولي 356
- ما كان يجري في مجلس رسول الله " 359
- وقت المجلس الرسولي 361
- آداب مجلس رسول الله 362

ثاني عشر: مقالات في المشاعر والعواطف الإنسانية
367
46_ ضبط العواطف: للأستاذ أحمد أمين 368
-اختلاف الأمم في ضبط العواطف 368
-من مظاهر العواطف الخوفُ من الأمور الصغيرة 368
-أثر حدَّةِ العواطف وشدة الانفعال على الأمة 368
-المثقفون _ في جملتهم _ أضبط لعواطفهم من غيرهم في جملتهم 370
-أكثر الناس يسيرون وراء عواطفهم 371
-يتطلب ضبطُ العواطف كظمَ الغيظِ عند دواعي الغضب... 371
-ضبطُ العواطف في الفرد يُكتسب بالمران والتَّعوُّدِ 372
-تربية هذا الخلق في الأمةِ _ أولاً _ في يد الرأي العام 372
-وهو _ ثانياً _ في يد القادة ... 372
47_ الصداقة: للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين 373
- ما هي الصداقة؟ 373
- صداقة المنفعة 373
- صداقة اللذة 373
- صداقة الفضيلة 374
- الصداقة فضيلة 374
- الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء 375
- الاستكثار من الأصدقاء 375
- علامة الصداقة الفاضلة 376
- الصداقة تقوم على التشابه 379
- البعد من صداقة غير الفضلاء 379
- الاحتراس من الصديق 380
- والقول الفصل في الاحتراس من الصديق 380
- هل الصداقة اختيارية؟ 380
- دعوى أن الصداقة الخالصة مفقودة 381
- الصديق المخلص عزيز 382
- الإغماض عن عثرات الأصدقاء 383
- معاملة الأصدقاء بالمثل 384
- عتاب الأصدقاء 385
- كتم السر عن الأصدقاء 386
- أثر البعد في الصداقة 388
- الصداقة صلة بين الشعوب 388
48_ الأربعون: للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي 390
49_ موت أم: للأديب مصطفى صادق الرافعي 396
50_ مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة: للعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 402
فهرس الأعلام المترجم لهم 413
المحتويات 415



المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مقالات, لكبار, الحديث, العربية, العصر, كتاب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مقالات لكبار كتاب العربية في العصر الحديث
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الصياغة الفقهية في العصر الحديث قراءة ومراجعة عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 09-09-2018 07:19 AM
العرب وتراث فارس في العصر الحديث Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-21-2013 04:22 PM
مطاردة قراصنة العصر الحديث في الملاذات الضريبية Eng.Jordan أخبار اقتصادية 0 02-10-2012 02:06 PM
حمل كتاب مقامات الحريري Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-02-2012 10:48 PM
أوروبا وفلسطين من الحروب الصليبية إلى العصر الحديث Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 01-29-2012 07:35 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:36 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59