#1  
قديم 01-04-2021, 09:37 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,101
افتراضي أنوار الربيع في أنواع البديع


http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



الكتاب: أنوار الربيع في أنواع البديع
المؤلف: صدر الدين المدني، علي بن أحمد بن محمد معصوم الحسني الحسيني، المعروف بعلي خان بن ميرزا أحمد، الشهير بابن معصوم (المتوفى: 1119هـ)
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]
مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله بديع السموات والأرض. والصلاة على نبيه وآله الهادين إلى السنة والفرض.
يا من أنشأ بديع الوجود بحسن ابتدائه، فلباه كل ببراعة الاستهلال عند سماع ندائه. ويا من خلق الإنسان علمه البيان فنطق بتوحيده اللسان بأفصح تبيان.
إن أزهى ما تدبجت به دبياجة الأرقام والطروس، وأبهى ما تبرجت به خطب الكلام تبرج الغادة العروس: حمدك الذي نرجو بتوشيعه حسن التخلص من شبهات الإبهام وشكرك الذي نؤمل بتوشيحه تقييد النعم الجسام وحسن الختام.
والصلاة والسلام على نبيك الذي ارتضيت رسالته وبلاغه وأيدته منك بدلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وعلى آله السراة الأئمة الذين قلدت بتشريع طاعتهم رقاب الأمة صلاة وسلاماً يفوح نشرهما فيفوق المسك الأذفر ويلوح بشرهما فيفوت الصبح إذا أسفر.
وبعد: فإن العبد الفقير إلى ربه الغني علياً صدر الدين المدني ابن أحمد نظام الدين الحسيني أنالهما الله من فضله السني يقول: ما الدرر في أسلاكها تتحلى بها الترائب والنحور ولا الدراري في أفلاكها تتجلى بها غياهب الديجور بأزهى من فرائد الفضائل تتزين بها صدور الصدور وأبهى من زواهر العلوم تسفر في أفق سمائها أسفار البدور إلا وأن علم العربية واقع منها موقع البدر من الكواكب وظاهر من بينها ظهور الملك بين المواكب كيف لا وافتقار ما سواه إليه غير محتاج إلى إقامة البرهان عليه.
هذا وأني منذ استروحت روح التوفيق لخدمة العلم الشريف وتظللت من حر هواجر الجهل بمديد ظله الوريف لم أزل راتعاً في رياض فنونه البهية الورود كارعاً من حياض عيونه الشهية الورود أتفكه بثمارها تارةً وألتهي بأزهارها طوراً وأقبس من مطالعها نوراً واجتني من خمائلها نوراً لاسيما فن البديع الذي طابق اسمه مسماه فلله قدرة الرفيع ما أعلى رتبته وأسماه فطالما استمطرت من نظمه ونثره وأغزر ديمة وكانا لي على مر الزمان كندماني - جذيمة. فبينا أنا يوم أسرح طرف الطرف في شرح بديعية ابن حجة وأروح مروح الفكر في مهيع تلك المحجة إذ بعذبة اللسان تنوس بمطلع قصيدة بديعية وغلبة الجنان تجوس بأبدع فكرة لوذعية فاستبشرت بهذه الإشارة واستطرت فرحاً لهذه البشارة علماً بأنها إشارة ممن رصعت البديعيات بمديحه وهبت عليها نسمات القبول من مهاب ريحه صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وعظم وكرم فنظمت هذه البديعية التي فاقت بديعية ابن حجة فلو أدركها لما قامت له معها على تزكية نفسه حجة وقد التزمت فيها ما التزمه هو والعز الموصلي قبله من التورية باسم النوع في كل بيت فصار كل بيت منها لأهل الأدب قبلة.
ثم عن لي أن اشرحها شرحاً حافلاً يكون بإبراز مخدرات معانيها كافلاً وأورد فيها جملة من البديعيات ليتأمل الناظر في هذا المضمار مجرى السوابق ويميز بثاقب نظره بين اللاحق منها والسابق وليكن على ذكر مما قاله أبو العباس المبرد في الكامل وهو القائل المحق: ليس لقدم العهد يفضل القائل ولا لحدثاته يهتضم المصيب بل يعطى كل ما يستحق وسميته:
أنوار الربيع في أنواع البديع والله أسأل أن يوفق لإتمامه ويشفع حسن ابتدائه بحسن ختامه مقدمة: البديع لغة فعيل من البدع بالكسر وهو الذي يكون أولاً من كل شيء وهو يرد بمنى مفعل: اسم مفعول ومن الأول اسمه تعالى البديع أي الذي فطر الخلق مبتدعاً لأعلى مثال سبق.
واختلف في نقل اسم العلم اسم هذا العلم إلى الاصطلاح من أي المعنيين هو.
فقيل من بديع بمعنى مفعل اسم فاعل لا بداعه في التراكيب غرابة وإعجاب وفي النفوس طرباً وارتياحاً وقيل من بديع بمعنى مفعل اسم مفعول وأصله في الحبال وذلك أن يبتدي فتل الحبل جديداً ليس من قوى حبل نكث ثم غزل ثم أعيد فتله فأطلق في الكلام على الألفاظ المستطرفة التي لم تجر العادة بمثلها ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل بديع وأن كثر وتكرر.
(1/1)
________________________________________
وحد بأنه علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة وأول من أخترعه وسماه بهذه التسمية عبد الله بن المعتز العباسي قال في صدر كتابه وما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف وألفته في سنة أربع وسبعين ومأتين فمن أحب أن يقتدي بنا ويقتص على هذه فليفعل ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئاً إلى البديع وأرتأى غير رأينا فله اختياره.
قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته وكان جملة ما جمع منها سبعة عشر نوعاً.
وعاصره قدامة بن جعفر الكاتب فجمع منها عشرين نوعاً توارد معه على سبعة منها وسلم له ثلاثة عشر فتكامل لهما ثلاثون نوعاً ثم اقتدى بهما الناس في التأليف فكان غاية ما جمع منها أبو هلال العسكري سبعة وثلاثين نوعاً ثم جمع منها ابن رشيق القيرواني مثلها وأضاف إليها خمسة وستين باباً في فضائل الشعر وصفاته وأغراضه وعيوبه وسرقاته وغير ذلك من أنساب الشعراء وأحوالهم مما لا تعلق له بالبديع وتلاهما شرف الدين التيفاشي فبلغ بها السبعين.
ثم تصدى لها الشيخ زكي الدين ابن أبي الأصبع فأوصلها إلى التسعين وأضاف إليها من مستخرجاته ثلاثين سلم له منها عشرون وباقيها مسبوق إليه ومتداخل عليه وكتابه المسمى التحرير أصح كتاب ألف في هذا العالم لأنه لم يتكل على النقل دون النقد ولم يختلف عليه في إلا مواضع يسيرة لو لأنعم النظر فيه لم تفته وسأذكرها في أماكنها وليس من الباقين إلا من غير بعض القواعد أو بدلا أكثر السماء والشواهد.
وذكر بن الأصبع انه لم يؤلف كتابه المذكور غلا بعد الوقوف على الأربعين كتاباً في هذا العلم أو بعضه وعددها في صدر كتابه فأنهيت الكتاب مطالعةً واطلعت مما لم يقف عليه مما كان قبله وما ألف بعده ثلاثين كتاباً فجمعت ما وجدت في كتب العلماء وأضفت إليه أنواعاً استخرجتها من أشعار القدماء وعزمت أن أؤلف كتاباً محيطاً بجلها إذ لا سبيل إلى الإحاطة بكلها فعرضت لي علة طالت مدتها وامتدت شدتها واتفق لي أن رأيت في المنام رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاني المدح ويعدني البرء من السقام فعدلت عن تأليف إلى نظم القصيدة تجمع فيها أشتات البديع وتتطرز بمدح مجده الرفيع فنظمت مائة وخمسة وأربعين بيتا في بحر البسيط تشمل على مائه وواحد وخمسين نوعاً من محاسنه ومن عد جملة من أصناف التجنيس بنوع واحد كانت عنده العدة: مائة وأربعين نوعا فأن في السبعة البيت الأوائل منها أثني عشراً نوعاً وجعلت كل بيت منها مثالا شاهدا لذلك النوع وربما اتفق في البيت الواحد منها النوعين والثلاثة بحسب انسجام القريحة في النظم والمعتمد منها على ما أسس البيت عليه ثم أخليتها من الأنواع التي اخترعتها واقتصرت على نظم الجملة التي جمعتها لا سلم من شقاق جاهل حاسد أو عالم معاند فمن شاقق راجعته إلى النقل ومن وافق وكلته إلى شاهد العقل - انتهى كاتم الصفي.
قلت: كنت أطن أن أول من نظم أنواع البديع على هذا الأسلوب فضمن كل بيت نوع وانقاد له شموس هذا المرام طوعا هو الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى حتى وقفت في ترجمة الشيخ علي بن عثمان بن علي بن سليمان أمين الدين السليماني الاربلي الصوفي الشاعر على قصيدة لامية له نظم فيها جملة من أنواع البديع وضمن كل بيت منها ونوعا منه أولها الجناس التام والمطرف وهو:
بعض هذا الدلال والإدلال ... حال بالهجر والتجنب حالي
ثم قال في الجناس المصحف والمركب
جرت إذا حزت ربع قلبي وإذ ... لالي صبرت أكثرت من إذلالي
فعلمت أن الشيخ صفي الدين لم يكن أبا عذر هذا المرام ولا أول من نظم جواهر العقد في نظام فإن الشيخ أمين الدين المذكور توفي قبل يولد الشيخ صفي الدين الحلي بسبع سنين وذلك أن وفاة الشيخ أمين الدين في سنة سبعين وستمائة ولادة الشيخ صفي الدين في سنة سبع وسبعين وستمائة
(1/2)
________________________________________
وأما نظم أنواع البديع على هذا الوزن والروي، الذي نظم عليه الشيخ صفي الدين، فلا أتحقق أيضاً أن الشيخ صفي الدين، هو أول من نظم عليه، فإنه كان معاصراً للشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي الهواري، المعروف بشمس الدين بن جابر الأندلسي الأعمى، صاحب البديعة المعروفة ببديعية العميان، ولا أعلم من السابق منهما إلى نظم بديعته على هذا الأسلوب. وإن كان الشيخ صفي الدين قد حاز قصبات السبق في مضمار براعة هذا المطلوب. فإن ابن جابر، لم يستوف الأنواع التي نظمها الشيخ صفي الدين بل أخل بنحو سبعين نوعاً من الأنواع. وكلاهما لم يلتزما التورية باسم النوع البديعي.
وأول من التزم ذلك: الشيخ عز الدين الموصلي. ثم تلاه الشيخ تقي الدين أبو بكر بن علي بن عبد الله الحموي، المعروف بابن حجة. والتزم ما التزمه الشيخ عز الدين، وزاد عليه في أكثر الأبيات بحسن النظم والانسجام. إلا أن لذلك فضل المتقدم على المتأخر، والمبتدع على المتبع، وقل من التزم بعدهما هذا الالتزام، وما ذلك إلا لصعوبة هذا المرام.
وقد علمت أن عدة أبيات بديعية الصفي: مائة وخمسة وأربعون بيتاً. وأما بديعية ابن حجة فعدتها: مائة وواحد وأربعون بيتاً وبديعتي هذه عدتها: مائة وسبعة وأربعون بيتاً، بزيادة نوعين من البديع لم يذكرهما الصفي.
وقد يسر الله سبحانه نظمها في مدة يسيرة، وهي اثنتا عشرة ليلة وذلك من ذي القعدة الحرام، أحد شهور سنة سبع وسبعين وألف. والحمد لله سبحانه على فضله الجليل، وإحسانه الجزيل. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ما لمع موردٌ بمائه، وبلقع بآله. وهذا حين أنصّ عروس البديعية في أريكة شرحها، وأسكنها من مشيدات المباني في علية صرحها، ليجتني ناظر الناظر، من ثمرات روضها الناضر، فما هي إلا روضة تفجرت من خلالها الأنهار، وخميلة تفتقت في مروجها الأزهار. وقد احتوى هذا الشرح، من فرائد الفوائد، وصلات العوائد، على ما يروق السمع والبصر، ويفوق كل مطول ومختصر. فمن نظر إليه بعين العدل والإنصاف وتنكب طريق التعصب والاعتساف، علم أن معدن الجوهر ليس كمعدن الزجاج. (وما يستوي البحران هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه وهذا ملحٌ أجاجٌ)
فإن يك أصناف القلائد جمة ... فما يتساوى درها وعقيقها
على أني لا أبريء نفسي، ولا أدعي العصمة لفهمي وحدسي فإن الجواد قد يكبو، والصارم قد ينبو، والإنسان محل النسيان.

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء فخراً أن تعد معائبه
والله سبحانه أسأل أن يلبسه حلل الثناء الفاخرة، ويثيبني به جميل الذكر في الأولى وجزيل الأجر في الآخرة.

حسن الابتداء وبراعة الاستهلال
حسن ابتدائي بذكري جيرة الحرم ... له براعة شوق يستهل دمي
قال أهل البيان، من البلاغة حسن الابتداء، ويسمى براعة المطلع. وهو أن يتألق المتكلم في أول كلامه، ويأتي بأعذب الألفاظ، وأجزلها وأرقها وأسلسها وأحسنها، نظماً وسبكاً، وأصحتها مبنيٌ، وأوضحها معنىً وأخلاها من الحشو، والركة والتعقيد، والتقديم والتأخير الملبس والذي لا يناسب.
قالوا: وقد أتت فواتح السور من القرآن المجيد على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها، كالتحميدات، وحروف الهجاء، والنداء وغير ذلك. ويعتبر في مطلع القصيدة زيادة على ما ذكر أن لا يكون متعلقاً بما بعده من الأبيات، وأن يناسب بين قسميه أتم المناسبة، بحيث لا يكون أحد الشطرين أجنبياً عن الآخر لفظاَ ومعنىً. فإذا اجتمعت هذه الشروط في مطلع القصيدة، كان غاية في بابه. وقد نبه مشايخ هذا الفن، على أن ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيما يورده من كلامه في أربعة مواضع، أولها: المطلع، لأنه أول ما يقرع الأذن ويصافح الذهن، فإن كان حسناً جامعاً للشروط التي ذكروها في حسن الابتداء، أقبل السامع على الكلام فوعي جميعه، وإن كانت حالة عن الضد من ذلك، مجَّه السمع، وزجّه القلب ونبت عنه النفس، وإن كان الباقي في غاية الحسن. والموضع الثاني: المخلص. والثالث: حسن الطلب. والرابع: الختام وسيأتي الكلام عليها في مواضعها، إذا أفضت النوبة إليها، إنشاء الله تعالى.
وكثيراً ما يستشهد أرباب هذا الفن في هذا الباب بقول امرئ القيس:
قفا نبك على ذكرى حبيبٍ ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
(1/3)
________________________________________
قالوا: وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر ****** والمنزل في مصراع واحد، ومع ذلك، فقد انتقده الحذاق، بعدم المناسبة بين شطريه لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ، وسهولة السبك، وكثرة المعاني وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك. قال ابن المعتز: قول النابغة: -
كليني لهمٍ يا أمية ناسب ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
مقدم عليه لأن امرئ القيس وإن بالغ في الشطر الأول، لكن قصر في الثاني، حيث أتى بمعانٍ قليلة في ألفاظ كثيرة غريبة. والنابغة راعي التناسب.
ومن محاسن الابتداء قول بشار بن برد:
أبى طَلل بالجزع أن يتكلما ... وماذا عليه لو أجاب متيما
وقول الحسن بن هاني:
لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم
وقول أبي تمام:
لا أنتِ أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار
وقول البحتري:
بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق
وقول أبي الطيب:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
وقل أبي العلاء المعري:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعواناً على السهر
وقول القاضي التنوخي:
أسير وقلبي في هواكَ أسير ... وجادي ركابي لوعة وزفير
وقول الشريف الرضي (ره) :
بالجد لا بالمساعي يبلغ الشرف ... تمشي الجدود بأقوامٍ وإن وقفوا
وقوله:
ردوا الغليل لقلبي المشغوف ... وخذوا الكرى عن ناظري المطروف
وقوله:
أراقب من طيف ****** وصالا ... ويأبى خيال أن يزور خيالا
وقوله:
ألا ليت أذيال الغيوم السواجم ... تجرّ على تلك الربى والمعالمِ
وقول تلميذه مهيار بن مرزويه الكاتب رحمه الله تعالى:
لو كنت دانيت المودة قاصيا ... رد الجنائب يوم بن فؤاديا
وقوله:
حمام اللو رفقاً به فهو لبه ... جواداً رهانٍ نوحكنٌ ونحبه
وقوله:
أشاقك من حسناء وهنا طروقها ... نعم كل حاجات النفوس تشوقها
وقول الأديب الشاعر أبي العباس محمد بن أحمد الأبيوردي:
أهذه خطرات الربرب العين ... أم الغصون على أنقاء يبرين
وقوله:
تجنَّ علينا طيفها حين أرسلا ... وهل يتجن الحب إلا ليعجلا
وقوله:
كتمنا الهوى وكففنا الحنينا ... فلم يلق ذو صبوة ما لقينا
وما أحسن ما قال بعده:
وأنتم تبثون سر الغرام ... طوراً شمالا وطوراً يمينا
ولما تناديتم بالرحيل ... لم يترك الدمع سراً مصونا
أمنتم على السر منا القلوب ... فهلا أتهمتم عليه العيونا
ومما استحسنه صاحب اليتيمة من مطالع أبي الطيب.

فديناك من ربعٍ وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
وما أحسن قوله بعده:
وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا ... فؤاداً لعرفان الرسوم ولالبا
نزلنا عن الأكور نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلمَّ به ركبا
قال ابن بسام في الذخيرة: أول من بكى الربع واستبكى، ووقف واستوقف: الملك الضليل حيث يقول:
(قفا نبك على ذكرى حبيب ومنزل)
ثم جاء أبو الطيب، فنزل وترجل، ومشى في آثار الديار، حيث يقول (نزلنا على الأكوار) البيت وما قبله.
ثم جاء أبو العلاء المعري فلم يقنع بهذه الكرامة، حتى خشع ومجد حيث يقول:
تحية كسرى في السناء وتبع ... لربعك لا أرضى تحية أربع
وهذه البيت من محاسن الابتداء أيضاً.
قلت: كأن ابن بسام غفل عن مطلع المتنبي، فإن كرامته فيه للربع أعظم من كرامة أبي العلاء، لأن أبا الطيب فداه بنفسه حيث قال: (فديناك من ربع وإن زدتنا كربا) . ولا شك أن التفدية أعظم من الخشوع والسجود في التحية.
ومن محاسن الابتداء قول ابن النبيه:
يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم وهي بعد البعد ما نزحت
وقول الشيخ جمال الدين بن نباته:
بدا ورنت لواحظه دلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا
وقول الشيخ صفي الدين الحلي:
قفي ودعينا وشك التفرق ... فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي
وقول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض:
ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
(1/4)
________________________________________
وقول الشيخ عفيف الدين التلمساني:
لا تلم صبوتي فمن حب يصبو ... إنما يرحم المحب المحب
وقوله:
لولا الحمى وظباء بالحمى عرب ... ما كان في البارق النجدي لي أرب
وقول الحاجري:
لا غرو أن لعبت بي الأشواق ... هي رامة ونسيمها الخفاق
وكان شيخنا محمد بن علي الشامي يطرب لهذا المطلع غاية الطرب، ويقول: هكذا فلتكن المطالع: وقوله أيضاً:
لك أن تشوقني إلى أوطاني ... وعليَّ أن أبكي بدمع قان
وقول سيدي الوالد:
سلا هل سلا قلبي عن البان والرند ... وعن أثلاث جانب العلم
وقوله: نسيم نجد شذا صبحاً فآصالا=بنشر ما أرج الجرعاء فالضالا وقوله: هبت نسائم آصال وأسحار=تروي أحاديث أخداني وسماري وقوله:
ذلك البان والحمى والمصلى ... فقف الركب ساعة تنملى
وقول القاضي أحمد بن عيسى المرشدي:
فيروزج أم وشام الغادة الرود ... يبدو على سمط در منه منضود
وملخص هذه القصيدة غاية في بابه أيضاً، وسيأتي إنشاده هنالك إنشاء الله تعالى.
وقوله شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
رفت شمائلة فقلت نسيم ... وزكت خلائقه فقلت شميم
وما ألطف قوله بعده:
قصر الكلام على الملام وإنما ... للحظ في وجناته تكليم
شرقت معاطفه بأمواه الصبي ... وجرى عليه بضاضة ونعيم
قد كاد تشربه العيون لطافة ... لكن سيف لحاظه مسموم
وقوله:
أرقت وصحبي بالفلاة هجود ... وقد مدّ للظلام وجيد
وأبعدت في المرمى فقال لي الهوى ... رويدك يا شامي أين تريد
أهذا ولما يبعد العهد بيننا ... إلا كل شيء لا ينال بعيد
وقوله القاضي الفاضل في زمانه، القاضي تاج الدين المالكي أمام المالكية بالمسجد الحرام المتوفى سنة ( ... ) .
وقول الشيخ الفاضل الأديب الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب:
أشمس الضحى لا بل محياك أجمل ... وغصن النقا لا بل قوامك أعدل
وقول الأديب الأريب حسين بن الجزري الشامي من أهل العصر:
هلما نحييها ربى وربوعا ... وحثا نسقيها دماً ودموعا
وعوجا على وادي الطلول وعرجا ... معي واندباني والطلول جميعا
ومن مطالعي التي تنظم في هذا السلك قولي:
سريرة شوقٍ في الهوى من أذاعها ... ومهجة صب بالنوى من أضاعها
وقولي:
رويدك حادي العيس أين تريد ... أما هذه حزوي وتلك زرود
وقولي:
هاتا أعيدا لي حديثي القديم ... أيام وسمي بالتصابي وسيم
وعللاني بنسيم الصبا ... إن كان يستشفي عليلا سقيم
وقولي وهو مطلع قصيدة علوية:
سفرت أميمة ليلة النفر ... كالبدر أو أبهى من البدر
وقلت بعده:
نزلت مني ترمي الجمار وقد ... رمت القلوب هناك بالجمر
وتنسكب تبغي الثواب وهل ... في قتل ضيف الله من أجر
إن حاولت أجراً فقد كسبت ... بالحج أضعافاً من الوزر
نحرت لواحظها الحجيج كما ... نحر الحجيج بهيمة النحر
فهذه جملة مقنعة من محاسن المطالع للمتقدمين والمتأخرين وأهل العصر. وقد جمعت الشروط المتقدمة في براعة المطلع. وليتأمل الناظر في مناسبة الشطرين فيها، وملائمة ألفاظهما ومعانيها، وليحذ حذوها. فإن الغرض من ذلك، إرشاد المبتدي وتنبيه المنتهي إلى الطريق التي ينبغي له سلوكها، واقتفاء آثار فحول الشعراء فيها. واعلم، أن المتأخرين فرعوا على حسن الابتداء: براعة الاستهلال.
وهو أن يكون أول الكلام دالاً على ما يناسب حال المتكلم، متضمناً لما سيق الكلام لأجله من غير تصريح بل بألطف إشارة يدركها الذوق السليم. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن المقفع، على ما نقل عنه أبو عثمان الجاحظ، في كتاب البيان والتبيين، في كلام له في تفسير البلاغة حيث قال: ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك. كما أن خير أبيات الشعر: البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته.
(1/5)
________________________________________
قال الجاحظ: كان يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح وخطبة العيد وخطبة الصلح، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ويشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت. قالوا: والعلم الأسنى في ذلك، سورة الفتح، التي هي مطلع القرآن فإنها مشتملة على جميع مقاصده.
كما قال البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو القاسم بن حبيب، ثنا محمد بن صالح صبيح، عن الحسن قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم المفصل الأربعة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة.
وقد وجه ذلك، بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن، وقامت بها الأديان أربعة: الأصول، ومداره على معرفة الله وصفاته. وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم، ومعرفة النبوات، وإليه الإشارة، بالذين أنعمت عليهم، ومعرفة المعاد، وإليه الإشارة، بمالك يوم الدين، وعلم العبادات، وإليه الإشارة، بإياك نعبد، وعلم السلوك وهو حمل النفس على الآداب الشرعية، والانقياد لرب البرب، وإليه الإشارة، بإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم، وعلم القصص وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ليعلم المطلع على ذلك، سعادة الله وشقاوة من عصاه، وإليه الإشارة بقوله: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة، وكذلك أول سورة اقرأ، فإنها مشتملة على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال، لكونها أول ما أنزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة والبدء فيها باسم الله، وفيه الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذاتٍ، وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: علم الإنسان ما لم يعلم، ولهذا قيل: إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.
وقال الزنجاني في الفوائد الغيثية: وأحسن براعة الاستهلال موقعاً، وأبلغها معنى، فواتح صور كلام الله، سيما حروف التهجي، فإنها توقظ السامعين للإصغاء إلى ما يرد بعدها، لأنهم إذا سمعوها من النبي الأمي علموا أنها والمتلو بعدها من جهة الوحي. وفيها تنبيه على أن المتلو عليهم من جنس ما ينظمون منه كلامهم، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
تذنيب في تفسير الجويني: ابتدأت الفاتحة بقوله: الحمد لله رب العالمين، فوصف بأنه مالك جميع المخلوقات. وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر، لم يوصف بذلك، بل بفرد من أفراد صفاته وهو خلق السماوات والأرض، والظلمات والنور في الأنعام، وأنزل الكتاب في الكهف، وملك ما في السماوات والأرض في سبأ، وخلقهما في فاطر. لأن الفاتحة أم القرآن ومطلعه، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها وأشملها.
وفي تذكرة الشيخ تاج الدين السبكي: سئل الإمام ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، والكهف بالتحميد؟ فأجاب: بأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد، نحو: فسبح بحمد ربك، سبحان الله والحمد لله. وأجاب ابن الزملكاني: بأن سورة سبحان، لما اشتملت على الإسراء الذي كذب المشركون به النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (، وتكذيبه تكذيب لله تعالى، أتى بسبحان، لتنزيه الله عما نسب إليه من الكذب. وسورة الكهف، لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف، وتأخر الوحي، نزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة.
إذا علمت ذلك، فاعلم: أن براعة الاستهلال في مطلع القصيدة هو كونه دالاً على ما بنيت عليه من مدح، أو هجاء، أو تهنئة، أو عتب؛ أو غير ذلك. فإذا جمع المطلع بين حسن الابتداء، وبراعة الاستهلال، كان هو الغاية التي لا يدركها إلا مصلي هذه الحلبة، والحالب من أشطر البلاغة أو فر حلبه.
والبراعة: مصدر، قولهم برع الرجل براعة، أي فاق أصحابه في العلم وغيره.
(1/6)
________________________________________
والاستهلال، يطلق على معان كل منها مشتمل على نوع افتتاح.
فاستهل: رأى الهلال. واستهل المولود. صاح في أول زمان الولادة.
واستهلت السماء: جادت بالهلل بفتحتين وهو أول المطر. وكل من هذه المعاني مناسب للنقل منه إلى المعنى الاصطلاحي، وإن خصه بعضهم بالنقل من المعنى الثاني، قال: وإنما سمي هذا النوع الاستهلال، لأن المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به.
فمن براتة الاستهلال التي يفهم من إشاراتها إنها تهنية بالفتح والظفر على العدو قول أبي تمام يهنئ المعتصم بالله بفتح عمورية، وكان المنجمون زعموا أنها لا تفتح في هذا الوقت:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لأسود الصفاح في ... متونهن جلاء الشك والريب
وقول أبي محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الخازن يهنئ الصاحب بن عباد بسبطه الشريف أبي الحسن عباد بن علي الحسني. وهو مما يشعر بقرينه الذوق أنه يريد التهنئة بمولود:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا
وكان الصاحب بن عباد لما أتته البشارة بسبطه المذكور أنشأ يقول:
الحمد لله حمداً دائماً أبدا ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فقال أبو محمد الخازن قصيدته التي ذكرنا مطلعها، وما أحسن قوله فيها:
وكادت الغادة الهيفاء من طرب ... تعطي مبشرها الأرهاف والغيدا
ومن معانيه الغريبة فيها قوله:
لم يتخذ ولداً إلا مبالغة ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
ومن البراعات التي تشعر بأنها تهنئة بالنصر على الأعداء، قول خالي القاضي زيد بن محسن بن الحسين بن الحسن بالظفر على أهل عمد:
العز تحت ظلال السمر والقضب ... يوم الوغى ومسامي البيض لم تخب
ومما يشعر بالتهنئة بالقدوم قول سيدي ومولاي الوالد مهنئاً سلطان مكة المذكورة بقدومه الطائف الميمون وحلول به:
قد أقبل السعد بالأفراح يبتدر ... والدهر يرتاح مختالاً ويفتحر
ومن أحسن البراعات وألطفها براعة مهيار بن مرزويه الكاتب فإنها مما يضرب بها المثل في براعة الاستهلال.
وكان من أمره، أنه اتفق أن بعض الوشاة وشى به في أمر محال اتصل بحضرة الملك ركن الدين أبي طاهر، فاقتضى أن استدعى إلى داره، واعتقل ليلة على كشف الصورة اعتقالاً جميلاً، ثم انكشفت له البراءة من أبطال الساعي، وأفرج عنه إفراجاً مبيناً. فقال يمدح الملك المذكور، ويعرض بالساعي، وأنشدها بحضرته يوم عيد الفطر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.

أما وهواها عذرة وتنصلا ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا
وما ألطف ما قال بعده:
سعى جهده لكن تجاوز حده ... وكثر فارتابت ولو شاء قللا
فقال ولم تقبل ولكن أسبه ... على أنه ما قال إلا لتقبلا
وطارحها أني سلوت فهل يرى ...
له الويل
مثلي عن هوى مثلها سلا
أأنقض طوعاً حبها عن جوانحي ... وإن كان حبا للجوانح مثقلا
أبى الله والقلب الوفي بعهده ... والفٌ إذا عُد الهوى كان أولا
فأبرز التنصيل مما رمي به في معرض التغزل والنسيب. وهذه القصيدة كلها غرر، ودرر. ولولا خوف الإطالة لأثبتها برمتها؛ فإنها قليلة الوجود ولكن لا بد من ذكر شيء منها: فمنها في الغزل:
أيا صاحبي نجواي يوم (سويقة) ... أناة وإن لم تسعدا فتجملا
سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصوقل الترائب أكحلا
أأنتِ أمرت البدر أن يصدع الدجى ... وعلمت غضن البان أن يتميلا
وحرمت يوم البين وقفة ساعةٍ ... على عاشق ظن الوداع محللا
جمعت عليه حرقة الدمع والجوى ... وما اجتمع الداءان إلا ليقتلا
هبي لي عيني واحتملي كلفة الأسى ... على القلب أن القلب اصبر للبلا
أراك بوجه الشمس والبعد بيننا ... فاقنع تشبيهاً بها وتمثلا
وأذكر عذبا من رضابك مسكراً ... فما أشرب الصهباء إلا تعللا
هنيئاً لحب المالكية أنه ... رخيص له ما عزَّ مني وما غلا
تعلقتها غراً وليداً وناشئا ... وشبت وناشي حبها ما تكهلا
ووحدها في الحب قلبي فما له ... وإن وجد الإبدال، أن يتبدلا
(1/7)
________________________________________
رعى الله قلبي ما أبر بمن جفا ... واصبره في النائبات وأحملا
وكرم عهدي للصديق فإنه ... قليل على الحالات أن يتحولا
رحم الله مهياراً ما ألطف عبارته وأدق إشارته، وطريقته الغرامية لا يسلكها أحد إلا تشبها، فإنها شيء قد تفرد به، ولم يشق فيها غباره سابق ولا لاحق. ووقعت هذه القصيدة من ممدوحه موقعاً عظيماً، حتى إنه لسروره بها، تقدم إلى السمار والمحدثين بحفظها.
ومما وقع لي أنا من البراعات التي يفهم منها أن المقصود الاستعطاف وطلب القرب والوصل، بعد البعد والصد قولي وهو مطلع قصيدة امتدحت بها الوالد مستعطفاً له في سنة خمس وسبعين وألف، وهو:
لقد آن أن تثني أبي زمامها ... وتسعف مشتاقاً برد سلامها
ولم أخرج عن براعة الاستهلال، وإبراز الغرض في معرض الغزل والتشبيب، على طريقة مهيار إلى أن تخلصت إلى المدح. وبعد المطلع:
سلام عليها كيف شطت ركابها ... وأنى دنت في سيرها ومقامها
حملت تمادي صدها حين كان لي ... قوي جلد لم أخش بثً التئامها
وكنت أرى أن الصدود مودة ... ستدلي بقربي الود بعد انصرامها فأما فأما وقد أورى الهوى بجوانحي
جوى غلة لم يأن بل أوامها
فلست لعمري بالجيد على النوى ... وهل بعدها للنفس غير حسامها
إذا قلت هذا آن تنعم بالرضا ... يقول العدى هذا أوان انتقامها
أطارحها الواشون أني سلوتها ... وها أنا قد حكمتها قد احتكامها
أبى القلب إلا أوبة لعهودها ... وحفظاً لها في إلها وذمامها
منها:
أحب لريا نشرها كل نفخة ... تمر بنجد أو خزام خزامها
سقى أرض نجد كل وطفاء ديمة ... وما أرضها لولا محط خيامها
أجل وسقى تلك الربوع لأجلها ... واغدق مرعى رندها وبشامها
هوىً أنشأته المالكية لم يزل ... وثيقاً على حل العرى وانفصامها
فهل علمت أن الهوى ذلك الهوى ... وأن فؤادي فيه طوع زمامها
ولم يبق مني الوجد غير حشاشة ... تراد على توزيعها واقتسامها
كفاك فحسبي من زماني خطوبه ... فإن فؤادي عرضة لسهامها
ومن البراعات التي تشعر أن الغرض الرثاء، قول أبي الطيب المتنبي يرثي محمد بن إسحاق التنوخي:
أبي لا علم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور
وقول متنبي الغرب محمد بن هاني الأندلسي يرثي والدة جعفر بن علي ممدوحه:
صهٍ كل آتٍ قريب المدى ... وكل حياة إلى منتهى
وقوله أيضاً يرثيها وقد دام الحزن عليها:
صدق الفناء وكذب العمر ... وجلا الغطاء وبالغ النذر
وقول أبي الحسن علي بن محمد التهامي يرثي ولده أبا الفضل:
حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا قرار
وقال أبي الفرج الساوي في فخر الدولة:
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
ولا يغرركم مني ابتسام ... فقولي مضحك والفعل مبكي
ومما يدل على أن المقصود التهنئة والتعزية، قول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة في تهنئة السلطان الملك الأفضل بسلطنة حماة، وتعزيته بوفادة والده الملك المؤيد، وهو:
هناء محا ذاك العزا المتقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
ثغور ابتسامٍ في ثغور مدامعٍ ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما
ترذ مجاري الدمع والبشر واضحٌ ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى
وبالغ ابن حجة على جاري عادته فيما يعجب به في إطراء هذه الأبيات حتى قال: سبحان المانح، والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه.
وأنا أقول: لو كان أبو نواس لما وقع الشيخ جمال الدين قول هذا الحمى، فضلاً عن أن يدخله، فإن أبا نواس هو السابق إلى هذا المعنى بعينه، حيث قال معزياً لفضل بن الربيع بالرشيد ومهنياً له بخلافة الأمين:
تعز أبا العباس عن خير هالك ... بإكرام حيٍّ كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساوٍ مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
ومن براعاتي في الرثاء قولي في مرثية الحسين بن علي عليهما السلام:
كل نجم سيعتريه أفول ... وقصارى سفر البقاء القفول
(1/8)
________________________________________
لا حق إثر سابق والليالي ... بالمقادير راحلات نزول
ومن ذلك قول أبي تمام يرثي محمد بن حميد الطوسي:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعينٍ بم يفض ماؤها عذر
وهذه القصيدة هي التي قال أبو دلف العجلي فيها لأبي تمام: وددت والله أنها لك فيّ، فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي، وأكون المقدم قبله. فقال: إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر.
ومن البراعات التي يفهم منها الرثاء، وأن المرثي هاشمي أيضاً زيادة على ذلك، قول مهيار الديلمي يرثي أستاذه الشريف الرضي:
من جب غارب هاشم وسنامها ... ولوى لويا واستنزل مقامها
وغزا قريشاً بالبطاح فلفها ... بيدٍ وقوض عزها وخيامها
وأناخ في مضرٍ بكلكل خسفه ... يستام فاحتملت له ما سامها
من حل مكة فاستباح حريمها ... والبيت يشهد واستحل حرامها
ومضى بيثرب مزعجاً ما شاء من ... تلك القبور الطاهرات عظامها
يبكي النبي ويستهيج لفاطمٍ ... بالطف في أبنائها أيامها
الدين ممنوع الحمى من راعه ... والدار عالية البنا من رامها
أتناكرت أيدي الرجال سيوفها ... فاستسلمت أم أنكرت إسلامها
أم غلل ذا الحسبين حامي ذودها ... قدر أراح على العدو سهامها
وما أحسن قوله منها:
بكر النعي من الرضي بمالكٍ ... غاياتها متعودٍ أقدامها
كلح الصباح بموته عن ليلة ... نفضت على وجه الصباح ظلامها
صدع الحمام صفاة آل محمد ... صدع الرداء به وحل نظامها
بالفارس العلوي شق غبارها ... والناطق العربي شق كلامها
سلب العشيرة يومه مصباحها ... مصلاحها عما لها علامها
برهان حجتها التي بهرت به ... أعداءها وتقدمت أعمامها
وشقت هذه المرثية على جماعة ممن كان يحسد الرضي رضي الله عنه على الفضل في حياته، أن يرثي بمثلها بعد وفاته، فرثاه بقصيدة أخرى ومطلعها في براعة الاستهلال كالأولى، وهو:
أقريش لا لفمٍ أراك ولا يدِ ... فتواكلي غاض الندى وخلا الندي
وما زلت معجباً بقوله منها:
بكر النعي فقال أودى خيرها ... إن كان يصدق فالرضي هو الردي
وبراعات الاستهلال في المراثي، أكثر منها في غيرها، يشهد بذلك الاستقراء. ولنكتف في النظم منها بهذا المقدار. وأما ما وقع منها في النثر فكثير جداً، خصوصاً في خطب المتأخرين. وفي ديباجة هذا الشرح ما يقنع الطالب، فلا حاجة بنا إلى التطويل، بإثبات شيء من النثر.
وإذا قد ذكرنا جملة مقنعة من محاسن المطالع، فلنذكر جملة من مستهجناتها، ليحترز الناظر عن الوقوع في مثلها: قيل ما سمع أشد مباينة من قسمي بيت جميل في قوله:
ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... نسائكم هل يقتل الرجل الحب
حكى صاحب الأغاني عن الهيثم بن عدي قال: قال لي صالح بن حسان يوماً: ما نصف بيت كأنه أعرابي في شملة، والآخر كأنه مخنث يتفكك؟ قلت: لا أدري، قال: أجلتك حولاً، قلت: لو أجلتني عشرة ما عرفت، قال أف لك، قد كنت أحسبك أجود ذهناً من هذا، قلت: فما هو؟ قال: قول جميل:
ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... هذا كلام أعرابي، ثم قال
نسائكم هل يقتل الرجل الحب ... كأنه والله من مخنثي العقيق.
قال شيخ الأدب صلاح الدين الصفدي بعد نقله ذلك قلت: علم الله لولا إيراد النادرة، لاستحييت أن أكتب النصف الثاني، لأنه محلول إلى الغاية. والناس به قول الآخر:
مات الخليفة أيها الثقلان ... فكأنما أفطرت في رمضان
ويقولون في الأول عزى الثقلين، ثم إنه حل في الثاني. وأقول: إنه ليس بينهما نسبة في الانحلال. وقول جميل: إنما يحسن من مثل فريدة جارية الواثق، فإنها صنعت فيه لحناً وغنت به، وكانت بارعة الجمال. فإذا سمع منها كان مناسباً. وإلى بيت جميل أشار ابن نفاذة في قوله:
أهجرٌ وصد وافتراق وغربة ... وبين فيا لله كم يحمل الصبا
فقل لمحب نبه الركب سائلا ... ونام نعم قد يقتل الرجل الحب
انتهى كلام الصفدي.
(1/9)
________________________________________
ورأيت في معاهد التنصيص لعبد الرحيم العباسي: نسبة كلام صالح بن حسان الذي قال للهيثم بن عدي في بيت جميل للرشيد أنه قال للمفضل الضبي، وهو سهو منه واشتباه عليه بحكاية أخرى، وهي: ما حكاه المفضل الضبي، إن الرشيد قال له: دلني على بيت أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي، وجودة الموعظة، وآخره بقراط في معرفة الدواء. فقال له يا أمير المؤمنين: لقد هولت عليَّ. فقال هذا قول أبي نؤاس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
ومن لطيف الانتقاد في المناسبة بين الشطرين ما حكي: إن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله:
وأطول شوقاه إلى ثغور ... ملأى من الشهد والرحيق
عنها أخذت الذي تراه ... يعذب من شعري الرقيق
لما ورد إلى الديار الشامية، اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير وتطفل على موائد طريقته الغرامية، وسأله الإرشاد إلى سلوكها، فقال: طالع ديواني الحاجري والتلعفري، وأكثر المطالعة فيهما، وراجعني بعد ذلك. فغاب عنه مدة، وأكثر من مطالعة الديوانين حتى علق بحفظه غالبهما، ثم اجتمع به بعد ذلك، وتذاكر في الغراميات، فأنشده الصاحب بهاء الدين في غضون المحاضرة: (يا بان وادي الأعرج) ، وقال له: أجز هذا. فأفكر قليلاً وقال: (سقيت غيث الأدمع) ، فقال: والله حسن، ولكن الأقرب إلى الطريقة الغرامية أن تقول: (هل ملت من شوقٍ معي) . ومثل هذه المناسبة لا يدركها إلا مثل بهاء الدين زهير.
قال أبو منصور الثعالبي في اليتيمة: ولأبي الطيب ابتداءات ليست هي لعمر من أحرار الكلام وغرره، بل هي كما نعاها عليه العائبون مستبشعة لا يرفع السمع لها حجابه ولا يفتح له بابه كقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من (هذي) وهو غير جائز عند النحويين، حتى ذكر الرسيس والنسيس فأخذ بطرفي الثقل والبرد.
قلت: أجيب عن حذف علامة النداء من (هذي) : بأن (هذي) مفعول مطلق، لا منادى أي برزت لنا هذي البرزة. وعلى كل تقدير، فهذا المطلع من مستهجنات المطالع.
قال: ومن مطالعه التي تكلف لها اللفظ المعقد، والترتيب المتعسف لغير معنى بديع يفي ترفه وغرابته بالتعب في استخراجه، وتقوم فائدة الانتفاع به بإزاء التأذي بسماعه، قوله:
وفائكما كالربع أشجاء طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
قال الصاحب ابن عبد رحمه الله تعالى: ومن عنوان قصائده الذي يحير الإفهام، ويجمع من الحساب ما لا يدرك بالاريثماطيقي وبالأعداد الموضوعة للموسيقى قوله:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد
وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصلك سمعه بهذه الألفاظ والمعاني المنبوذة، أي هزة تبقى هناك، وأي أريحية تثبت هنا. وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني، حتى احتيج في الاعتذار له والتصفح عنه إلى كلام لا يستأهله هذا البيت، ولا يتسع له هذا الباب.
قال: ومن افتتاحاته العجيبة، قوله لسيف الدولة في التسلية عن المصيبة:
لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب
لا أدري ما يحزن سيف الدولة إذا أخذ المتنبي بنصيب من القلق.
قال الثعالبي: ومن ابتداءاته الشنيعة التي تنكرها الأسماع قوله:
ملث القطر أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا
وقوله:
إثلث فأنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
ومن مطالع أبي تمام التي استهجنها أبو الطيب المتنبي قوله:
خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين
ومن المطالع التي لم تجمع الشروط المتقدمة، قول أبي تمام أيضاً:
أما أنه لولا الخليط المودع ... وربع عفا عن مصيف ومربع
فإنه ليس مستقلاً بنفسه بل متعلق بالبيت الذي يليه؛ لأنه لم يأت بجواب (لولا) إلا فيه حيث قال:
لو أن دهراً رد رجع جوابي ... أو كف من شأويه طول عتاب
فإنه يتعلق بما بعده أيضاً، لمكان جواب (لو) وهو قوله:
لعذلته في دمنتين بأمرةٍ ... ممحوتين لزينب ورباب
ومثل ذلك قول أبي عبادة البحتري:
(1/10)
________________________________________
إن رق لي قلبك مما ألاق ... من فرط تعذيب وطول اشتياق
فإنه لم يأت بجواب الشرط، ولا ما يحسن السكوت على مطلعه، ولا تتم الفائدة به.
ومثله قوله أيضاً:
حلفت لها بالله يوم التفرق ... وبالوجد من قلبي لها المتعلق
فإنه لم يأت بجواب القسم الذي يتم الكلام به إلا في البيت الثاني حيث قال:
وبالعهد ما البذل القليل بضائع ... لدي ولا العهد القديم بمخلق
وقد تقدم إن من الشروط حسن الابتداء، أن لا يكون المطلع متعلقاً بما بعده.
ومن غريب النقد، ما حكاه ابن ظافر قال: صنعت بالشام سنة سبع وثمانين وخمسمائة قصيدة في الملك الأفضل أبي الحسن علي بن الملك الناصر نور الدين أولها:
دعها ولا تحبس زمام المقود ... تطوي بأيديها بساط الفدفد
وأنشدتها لمن كان بالعسكر من أصحابنا المنتسبين إلى الأدب، فما منهم إلا من بذل جهده في نقدها، ورمى بأفلاذ كبده فيها، ثم حملتها إلى حضرته، فصادفت قبولا. واتفق بعد ذلك أن أنشدتها ابن إلا - التكريتي، فلما أنشدته البيت الأول قال: ما كان يؤمنك إذا أخذ بدرجها في يده، وفتحه، فوجد أول ما فيها (دعها) أن يلقيها من يده وتقول: قد فعلت، ألست كنت تفتضح؟ قال: بلى والله ولكن قد وقى الله. وهكذا فليكن النقد.
واعلم أنه يجب على الناظم والناثر النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين والتجنب لما يكرهون سماعه، ويتطيرون منه خصوصاً الملوك؛ ومن يتصل بهم. فإنهم أشد الناس تطيراً من المكروهات؛ وعثرة الناظم في ذلك لا تقال.
فمن ذلك ما وقع لابن مقاتل الضرير أحد شعراء الجبال في مطلع القصيدة من الرجز أنشدها للداعي إلى الحق العلوي الثائر بطبرستان، وهو قوله:
(موعد أحبابك بالفرقة غد) . فقال له: بل موعد أحابك يا أعمى ولك المثل السوء. وحكي أيضاً أنه دخل عليه في يوم مهرجان وأنشده قوله:
لا تقل بشرى وقل لي بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان
فتطير به الداعي وقال: أعمى يبتدئ بهذا يوم المهرجان. فأمر ببطحه وضربه خمسين عصا. وقال: إصلاح أدبه أبلغ من ثوابه.
ومثل ذلك ما وقع للبحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها: (لك الويل من ليلٍ تقاصر آخره) . فقال له: بل لك الويل والخزي.
ودخل أبو نؤاس على الفضل بن يحيى فأنشده قصيدته التي أولها:
أربع البلى أن الخشوع لباد ... عليك وإني لم أخنك ودادي
فتطير الفضل من هذا الابتداء، فلما انتهى إلى قوله فيها:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد
واستحكم تطيره واشمأز وقال: نعيت إلينا أنفسنا. فلم يمض إلا أسبوع حتى نزلت بهم النازلة. وقد قيل والله اعلم: إن أبا نواس قصد التشاؤم لهم، وكان في نفسه من جعفر.
وقصة إسحاق بن إبراهيم الموصلي. في هذا الباب مما لا يكاد يقضي العجب منها: وذلك أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان، فشرع في إنشاد قصيدة مطلعها:
يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع، وأمر بهدم القصر على الفور. هذا مع يقظة إسحاق وشهرته بحسن المحاضرة، وطول خدمته للخلفاء، مع أنه قيل: أحسن ابتداءٍ ابتدأ به مولد قول إسحاق الموصلي:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل
قال الأديب أبو جعفر الألبري رفيق ابن جابر صاحب البديعة السابق الذكر، وهو البصير وابن جابر الأعمى، في شرح بديعية رفيقة المذكور: وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي، كيف جاء إلى قصر مشيد، ومحل سرور جديد فخاطبه به الطلول البالية؛ والمنازل الدارسة الخالية، فقال: (يا دار غيرك البلى ومحاك) . فاحزن في موضع السرور، وأجرى كلامه على عكس الأمور. وانظر إلى قول القطامي:
أنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
فانظر كيف جاء إلى طلل بال، ورسمٍ خال، فاحسن حين حياه؛ ودعا له بالسلامة، كالمستبهج برؤيا محياه. فلم يذكر دروس الطلل وبلاه، حتى آنس السامع بأوفى التحية، وأزكى السلامة. والذي فتح هذا الباب، وأطنب فيه غاية الأطناب: صاحب اللواء، ومقدم الشعراء حيث قال:
(1/11)
________________________________________
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيدٌ مخلد ... قليل هموم ما يبيت بأوجال
قيل وهذا البيت الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة. لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لا توجد إلا في الجنة. انتهى.
ومما يعيب على أبي الطيب استفتاحه قصيدة في مدح ملك، يريد أن يلقاه بها أول لقية بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسن المنايا أن يكون أمانيا
قال الثعالبي: وفي الابتداء بذكر الموت والمنايا، ما فيه من الطيرة التي ينفر منها السوق فضلاً عن الملوك.
حكى الصاحب قال: ذكر الأستاذ الرئيس يوماً الشعر فقال: إن أول ما يحتاج فيه إلى التأنق حسن المطلع. فإن ابن أبي الثياب أنشدني في يوم نيروز قصيدة ابتداؤها: (أقبرونيا طلت ثراك يد الطل) . فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر. انتهى كلامه.
قلت: والناس يستحسنون قول أبي الطيب في مفتتح قصيدته اللامية التي مدح بها كافور وهو:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ويعدونه من براعة الاستهلال، لما كان بناؤه على الاعتذار عن حمل تقدمه. والذي أراه أن هذه المواجهة، مما يستثقلها السامع، فعدها في هذا السلك أولى من ذكرها في براعة الاستهلال.
وروى أبو علي حسن بن سعد الكاتب قال: أنشدني أبو المناقب الشاعر عيدية في الملك الأفضل أولها: (نهنيك كلا بل نهني بك الدهرا) . فقلت له: الابتداء هكذا مما يتطير به. وذكر له خبر ابن مقاتل فوافقني على ما قلته، وغير الابتداء فقال-
(نهنيك والأولى نهني بك الدهرا) .
وحكى أن شاعراً أنشد الشريف فخر الدولة ابن أبي الحسن نقيب الطالبين قصيدة يهنيه فيها بشهر رمضان. وكان الشريف يتأذى بالصوم لمرض يجده وكان أولها (أيا منابك كلها رمضان) . فقال الشريف: طوال والله مشومة علي مكروهة مبغضة إلي. وحرمه ولم يعطه شيئاً.
ولما أنشد جرير، عبد الملك بن مروان قوله: (أتصحو أم فؤادك غير صاح) . قال له عبد الملك: بل فؤادك يا بن الفاعلة.
وكذلك لما أنشده ذو الرمة: (ما بال عينيك فيها الماء ينسكب) . وكان بعين عبد الملك مرض لا تزال عينه تدمع منه. فقال له: ما سؤالك عن هذا يا جاهل. وأمر بإخراجه. وكذلك فعل ابنه هشام بأبي النجم لما أنشده:
صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول.
وكان هشام إنما يعرف بالأحوال، فظن أن عرضه به فأمر بإخراجه وطرده.
ولما قدم الشيخ الأديب الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب وافداً على الوالد بالديار الهندية في سنة ثلاث وسبعين وألف، كان أول قصيدة امتدحه بها، قصيدة مفتتحها قوله:
لك الخير لا زيد يدوم ولا عمر ... ولا ماء يبقى في الدنان ولا خمر
فلم يبق في المجلس من يتعلق بأطراف الأدب إلا وأنكر هذا المطلع وقال: هذا بافتتاح مرثية أولى منه بافتتاح مدحةٍ. ولم يكن من عادة الوالد أن يتطير بشيء من الطيرة؛ فلم يعبأ بذلك.
إذا عرفت هذا؛ فمن الواجب على الشاعر والكاتب وغيرهما أن يفتتح كلامه بما يتفاءل به السامع؛ ويطيب به وقته.
ومن غريب ما يحكى في أمر التفاؤل هنا؛ ما حكاه أبو الحسن الباخرزي في كتابه دمية القصر؛ قال: من أعجب ما اتفق لي مع عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري: إني داعتبه في بعض الأوقات قبل وزارته بأبيات مفتتحها:
أقبل من كندرٍ مسيخرة ... للنحس في وجهه علامات
قال: فضرب الدهر ضربانه، حتى صار العيوق مكانه. وألقيت إليه مقاليد الممالك، واستتبت به مراتب الدولة في تلك المسالك. وتصرفت بي أحوال إدانتي إلى ديوان الرسائل بالعراق، فدخل الديوان يوماً وأنا قريب العهد بالانتظام فيه. فلما وقع بصره علي، أثبت صورتي، وأقراه تذكر العهد القديم سورتي. فاقبل علي وقال: أنت صاحب أقبل؟ يشير إلى الأبيات التي مازحته بها، فقلت: نعم أيد الله سيدنا، فقال: قد تفاءلت بأبياتك إذ كانت مفتتحة بلفظ الإقبال، مؤذنة بفراغ البال. وأومض لي في وجهه من مخائل الاستبشار ما حملني على التوسل إليه بهجوه في بعض ما مدحته به من الأشعار، وقلت فيه من قصيدة:
أتيح إقباله إذ قلت أقبل من ... واها لا قبالة الوافي بما ضمنا
(1/12)
________________________________________
وتعجب الحاضرون من هجو صار وسيلة إلى المهجو، وصار ذلك غرة في جبين كرمه، وطرازاً على كم فضله. انتهى. فهم من التفاؤل بهذه المثابة.
وكان) صلى الله عليه وآله وسلم (يحب الفال الصالح، والاسم الحسن ويكره الطيرة - بكسر الطاء وفتح الياء - وهي التشاؤم. وقال) صلى الله عليه وآله وسلم (: ليس منا من تطير أو تطير له. ونزل) صلى الله عليه وآله وسلم (، على كلثوم بن الهدم، فصاح بغلام: يا نجيح؛ فقال) صلى الله عليه وآله وسلم (: أنجحت يا كلثوم. وقال) صلى الله عليه وآله وسلم (لتاجر أراد الخروج وفي القمر محاق: (تريد أن تمحق تجارتك؟ استقبل هذا الشهر بالخروج) . وسمع) صلى الله عليه وآله وسلم (رجلاً يقول: يا حسن، فقال: (أخذنا فالك من فيك) .
تنبيه: قال الدميري في حياة الحيوان: إنما أحب النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (الفال، لأن الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء. قالوا: يا رسول الله، لا يسلم أحد منا من الطيرة، والحسد؛ والظن؛ فما تصنع: قال: (إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تتحقق) .
واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف. وأما من لا يبال به لم يعبأ به فلا يضره البتة، لا سيما أن قال عند رؤية ما يتطير منه، أو سماعه؛ ما روي عن النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (: (اللهم لا طير إلا طيرك ولا خيرك إلا خيرك ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) . وأما من كان معنياً بها فهي أسرع إليه من السيل إلى منحدره، تفتح له أبواب الوسواس فيما يسمعه ويراه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة. في اللفظ والمعنى، ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه معيشته. فليتوكل الإنسان على الله في جميع أموره، ولا يتكل على سواء. وذلك لأن الناس في التوكل على أحوال شتى. متوكل على نفسه أو على ماله. أو على جاهه أو على سلطانه، أو على غلته، أو على الناس؛ أو على ذاهب يوشك أن ينقطع وكل مستند إلى حي يموت. فنزه الله نبيه عن ذلك، وأمره أن يتوكل على الحي الذي لا يموت.
ومن غريب ما يحكى من أمر التطير: ما حكاه محمد بن راشد. قال أخبرني إبراهيم بن المهدي، أنه كان مع الأمين بمدينة المنصور، قال: فطلبني ليلة فأتيت، فقال: ما ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر وضوئه في الماء، فهل لك في الشراب؟ قلت: شأنك، فشربنا، ثم دعا بجارية اسمها ضعف؛ فتطيرت من اسمها؛ فأمرها أن تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي.

كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم
فتطير بذلك وقال: غني غير هذا، فغنت:
أبكي فراقك عيني فأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم ... حتى أأوب وما في مقلتي ماء
فقال لها: لعنك الله، أما تعرفين غير هذه، فقالت: ظننت أنك تحب هذا. ثم غنت:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
ألا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها: قومي لعنك الله، فقامت فلتت في قدح بلور له قيمة فكسرته. فقال: ويحك يا إبراهيم، أما ترى، والله ما أظن أمري إلا قرب. فقلت: بل يطيل الله عمرك، ويعز ملكك فسمعت صوتاً من دجلة قضي الأمر الذي فيه تستفتيان فوثب محمد مغتماً، وقتل بعد ليلة أو ليلتين.
وحكى صاحب كتاب الهفوات: إن أرطاة بن سهية دخل على عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام، فرآه عبد الملك شيخاً كبيراً، فاستنشده فيما قاله في طول عمره فأنشده:
رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبقي المنية حين تأتي ... على سن ابن آدم من مزيد
وأعلم أنها ستكر حتى ... توفي نذرها بأبي الوليد
(1/13)
________________________________________
قال: فارتاع عبد الملك، وظن أنه عناه لأنه كان يكنى أبا الوليد، وعلم أيضاً أرطأة بسهوه وزلته فقال: يا أمير المؤمنين إني أكنى بأبي الوليد وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلاً.
وحكي أنه لما بنى أبو العباس السفاح داره بالأنبار دخل عليه عبد الله بن الحسين بن الحسن) عليه السلام (فتمثل بهذا البيت حين رأى السفاح:
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليلة
فتغير وجه السفاح، فاعتذر إليه عبد الله بأنه جرى على لسانه. فما مر عليه أيام حتى مات.
ومن عجيب ما يحكى في التطير أيضاً: أن السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب، لما خرج من القاهرة إلى جهة البلاد الشامية، أقام ظاهرة البلد لتجتمع العساكر، وعنده الأعيان من الدولة والعلماء والأدباء، فأخذ كل واحد يقول شيئاً في الوداع والفراق. وكان في الحاضرين معلم أولاده، فأخرج رأسه من بين الحاضرين، وأشار إلى السلطان منشداً:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فانقبض السلطان والناس، وتطيروا من ذلك. وكان الأمر على ما قال: فإنه لم يعد بعدها إلى مصر، واشتغل بالبلاد الشرقية؛ وفتوح القدس والسواحل إلى أن مات رحمه الله تعالى.
تنبيهان: (الأول) - قال أهل البيان: إذا لم يراع المتكلم افتتاح كلامه بما يتفاءل به فلا أقل من أن يحترز عما يتطير به، بل ينبغي اجتناب ذلك حتى في أثناء الكلام، ولا يقصر على مفتتحه.
روي أنه لما أنشد الصاحب بن عباد عضد الدولة قصيدته الملقبة باللاكنية (لكثرة ما فيها من لفظة لكن) وأولها:
أشبب لكن بالمعالي أشبب ... وأنسب لكن بالمفاخر أنسب
ولي صبوة لكن إلى حضرة العلى ... وبي ظمأ لكن من العز أشرب
فلما بلغ إلى قوله فيها:
ضممت على أبناء تغلب تاءها ... فتغلب ما مر الجديدان تغلب
قال عضد الدولة: يكفي الله تطيرا من قول تغلب.
قيل: ومما يتعجب منه في هذا الباب قول مهيار الديلمي على جلالة قدره واتقاد خاطره وحسن تخيله:
وإنك مذخور لإحياء دولة ... إذا هي ماتت كان في يدك النشر
كيف يقول لممدوحه: بأن تنشر يده. وكذلك قوله يتغزل:
في صدرها حجر صدارها ... ماء يشف وبانة تتعطف
فقوله: في صدرها حجر مع أبشع لفظ لما فيه من إيهام الدعاء عليها.
وكذلك قول ابن قلاقس:
بطلاقة أبدت بصفحة وجهه ... وضح الصباح لمن له عينان
حيث جعل الوضح بوجهه.
(الثاني) : قالوا: ينبغي أن يحترس الناظم مما يتأول عليه ويبادر بالجبة إليه، كما يقيل لأبي تمام حين أنشد: (على مثلها من أربع وملاعب) : لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وكان في أبي تمام حبسة شديدة، فانقطع خجلا.
وأنشد الجعدي بعض الملوك:
لبست أناساً فافنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
فقال: ذلك لشؤمك. فعلى الناظم التنبيه لذلك والاحتراس من الوقوع فيه.
وهذا القدر كاف في التنبيه من سنة الغفلة. والنثر مقيس عليه والله الموفق.
فائدتان. (الأولى) - علم المعاني والبيان والبديع: يستشهد فيه بكلام المولدين وغيرهم، لأنه يرجع إلى العقل، والعرب وغيرهم فيه سواء.
وقال ابن جني: المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ.
قال ابن رشيق في العمدة: الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين، لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا، وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض. فإنهم حضروا الحواضر. وتفننوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان مادلتهم عليه بداهة العقول من فضل التشبيه ونحوه.
ومن هنا ما يحكى عن ابن الرومي: إن لائماً لامه وقال له لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئاً من شعره أعجز عنه.
فأنشده في صفة الهلال:
أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه
مداهن من ذهب=فيها بقايا غاليه فقال: واغوثاه، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ذاك يصف ماعون بيته لأنه من أبناء الخلفاء وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به، امدح هذا مرة، وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، واستعطف هذا طوراً. انتهى.
(1/14)
________________________________________
(الثانية) - قال ابن حجة: يتعين على الناظم أن يحتشم في الغزل الذي يصدر به المديح النبوي، ويتأدب ويتضاءل، ويشبب مطرباً بذكر سلع ورامة، وسفح العقيق، والعذيب والغوير؛ ولعلع؛ وأكتاف حاجر ويطرح ذكر محاسن الرد؛ والتغزل في ثقل الردف؛ ورقة الخصر. وبياض الساق وحمرة الخد، وخضرة العذار؛ وما أشبه ذلك. وقل من سلك هذا الطريق من أهل الأدب.
وبراعة الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى في هذا الباب من أحسن البراعات وأحشمها وهو قوله:
إذن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... واقر السلام على عرب بذي سلم
فالتشبيب بذكر سلع والسؤال عن جيرة العلم، والسلام على عرب بذي سلم، لا يشكل على من عنده أدنى ذوق؛ إن هذه البراعة صدرت لمديح نبوي.
ومطلع البردة أيضاً في هذا الباب من أحسن البراعات وهو:
أمن: تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
فمزج دمعه بدمه عندما تذكر جيران بذي سلم، من ألطف الإشارات إلى أن القصيدة نبوية. انتهى كلامه.
ومطلع بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانشر طيب الكلم
وتعقبه ابن حجة: بأن هذه براعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده، بل أطلق التصريح ونثر المدح ونشر طيب الكلم. والبديعية لا بد لها من براعة وحسن مخلص وحسن ختام. فإذا كان مطلع القصيدة مبنياً على تصريح المدح، لم يبق لحسن التخلص محل ولا موضع. انتهى.
ومطلع بديعية عز الدين الموصلي قوله:
براعة تستهل الدمع في العلم ... عبارة عن نداء المفرد العلم
ومطلع بديعية ابن حجة قوله:
لي في ابتداء مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم
قلت: فيه قصر (الابتدا) وحقه المد، لأنه مصدر ابتدأ يبتدئ، وهو ضرورة. وارتكاب الضرورة في الابتداء خصوصاً مطلع البديعية، لا يخفى ما فيه. وهو كما قال الثعالبي في يتيمة الدهر: جرى أمره على ما تقول العامة: أول الدن دردي.
ومطلع بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله - وقد التزم التورية باسم النوع:
حسن ابتداء مديحي حي ذي سلم ... أبدى براعة الاستهلال في العلم
أقول: قد علمت أن الاستهلال يطلق على معان، ولم يعين المراد منه. والظاهر أنه أراد ببراعة الاستهلال، والمعنى الاصطلاحي، بقرينة حسن الابتداء، وحينئذ فلا تورية في ذلك، وإن أراد بها غير ذلك، كان عليه البيان.
ومطلع بديعيتي قد تقدم ذكره، لكن سرد المطالع جملة أوجب أعادته هنا، وهو:
حسن ابتدائي بذكري جيرة الحرم ... له براعة شوق يستهل دمي
براعة الاستهلال في هذا المطلع أظهر من أن ينبه عليها. وسهولة ألفاظه وصحة سبكه وتناسب قسميه أوضح من أن يشار إليها. وتزكية النفس كما فعل ابن حجة، أمر نهى عنه النقل، ومنع منه العقل ولله در القائل:
وما أعجبتني قسط دعوى عرضة ... وإن قام في تصديقها ألف شاهد
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... قليل الدعاوى وهو جم الفوائد
ومطلع بديعية إسماعيل المقرئ قوله ولم يلتزم التورية باسم النوع:
شارفت ذرعاً فذرعن مائها الشبم ... وجزت نملى فنم لا خوف في الحرم
تعدية (ذر) ب (عن) لا يصح إلا على تضمينه معنى، تنح. وقد قال الله سبحانه: ثم ذرهم في خوضهم - يلعبون ولم يسمع ذر عنه. والتضمني لا ينقاس كما نص عليه العلامة أبو حيان، وارتكاب مثل هذا في المطلع خصوصاً مطلع بديعية منافٍ للشروط التي قرّروها فيه، وقد نظم جماعة من المتأخرين بديعيات يعرفها من وقف عليها، ويحق أن ينشد فيها:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلس
ولعل الواقف على هذا الكلام يرميني بسوء ظنه، وينسبني إلى التحامل على المتأخرين من أهل الأدب، ودعوى التفرد بفنه، فعل المعجب بفهمه وحدسه، القادح لغيره، المادح لنفسه. وأنا أعوذ بالله من التزيد في المقال؛ فإنها عثرة لا تقال.
فمن تلك البديعيات بديعية الكفعمي رحمه الله ومطلعها:
إن جئت سلمىً فسل من في خيامهم ... ومن سكن منسكاً عن دميتي ودمي.
(1/15)
________________________________________
ففي صرفه (سلمى) وتسكينه آخر الفعل الماضي ما يغني عن الكلام على بقية ما فيه. ومن كان هذا مبلغه من النحو فالسكوت أولى به ولا نطول بذكر جميع هذه البديعية. فالمطلع يدل على ما بعده. وما كان الغرض من إثباته إلا إقامة البينة على ما ذكره، وليس المقصود بهذا كله تتبع العثرات والعياذ بالله، بل تنبيه الطالب على اجتناب الوقوع في مثل ذلك. ومن لم يستطع شيئاً فليدعه كما قيل:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
ولنقتصر على هذا المجال من الكلام على حسن الابتداء وبراعة الاستهلال.

الجناس المركب والمطلق
دعي وعجبي وعج بي بالرسوم ودع ... مركب الجهل واعقل مطلق الرسم
الجناس والتجنيس والمجانسة والتجانس: كلها ألفاظ مشتقة من الجنس. فالجناس مصدر جانس، والتجنيس تفعيل من الجنس، والمجانسة مفاعلة منه. لأن إحدى الكلمتين إذا شابهت الأخرى وقع بينهما مفاعلة الجنسية، والتجانس مصدر تجانس الشيئان: إذا دخلا تحت جنس واحد.
وحكي عن الخليل: بهذا يجانس هذا أي يشاكله، ونص عليه في التهذيب أيضاً. قال الجوهري في الصحاح: زعم ابن دريد: إن الأصمعي كان يدفع قول العامة: هذا مجانس لهذا، ويقول: إنه مولد، وكذا في ذيل الفصيح للموفق البغدادي. قال الأصمعي: قول الناس: المجانسة والتجنيس، مولد وليس من كلام العرب، ورده صاحب القاموس: بأن الأصمعي واضع كتاب الأجناس في اللغة، وهو أول من جاء بهذا اللقب.
وحد الجناس في الاصطلاح: تشابه الكلمتين في اللفظ، أي في التلفظ. قال في سر الصناعة: ولم أر من ذكر فائدته، وخطر لي أنها الميل إلى الإصغاء إليه. فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاء إليها. ولأن اللفظ المذكور إذا حمل على معنى، ثم جاء والمراد به معنى آخر، كان للنفس تشوق إليه. انتهى. والعبارة الثانية قاصرة عن بعض أنواع الجناس قاله في عروس الأفراح.
وهو أنواع، وجملة ما ذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته منها اثنا عشر نوعا. ومنهم من زاد، ومنهم من نقص؛ ونحن ذكرنا ما ذكره الصفي؛ ورتتناه حسبما رتبه.
فمن أنواعه الجناس المركب والجناس المطلق: أما الجناس المركب - فهو ما تماثل ركناه وكان أحدهما كلمة مفردة والآخر مركباً من كلمتين فصاعداً، وهو على ثلاثة أنواع، أحدهما: الجناس المقرون. ويسمى المتشابه، وهو ما اتفق ركناه لفظاً وخطا، كقول أبي الفتح البستي:
إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذا هبه
وقول أبي جعفر الاسكافي:
فرشت لشيبي أجل البساط ... فلم يستطب مجلساً غير رأسي
فقلت لنفسي لا تنكريه=فكم للمشيب كراسي كراسي وقول أبي حفص عمر الحاكم المطوعي:
يا خادماً يملك مني خادما ... قد صير الدنيا علي خاتما
كم من دما صب صببت ظالما ... أخادما أصبحت أم أخادما
وقوله أيضاً:
ألا يا سيدا خلقت يداه ... لثروة معدمٍ أو يسرعان
مضى العسر الذي قاسيت فاعدل=إلى يسرين نحوك يسرعان
عسى ما عسى من عود شملي يكتسي ... بعودهم بعد التسلب أوراقا
فلم يصف لي من بعد قط مورد ... ولا لذلي عيش وإن طاب أوراقا
ومنه قول الحصري:
رب سهل على فتاتي فتاتي ... لترى هل سلافتاها فتاها
علمته جفونها آي سحر ... ما تلاها في حبها مذ تلاها
وقول شمسويه البصيري:
ناظراه بما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
وقولي في مطلع قصيدة مناجاة:
قف طالبا فضل الإله وسائلاً ... واجعل فواضله إليه وسائلا
وقولي أيضاً في مطلع أخرى:
تراءت سليمى وهي كالبدر أو أسنى ... فضاء فضاءُ الربع من ضوئها وهنا
وقول الآخر:
بعدت وقد أضرمت ما بين أضلعي ... ببعدك ناراً حشو قلبي وقودها
وكلفت نفسي قطع بيداء لوعة ... تكل بها هوج المطي وقودها
وقول الآخر:
صلوا مغرماً من أجلكم واصل الضنا ... وفي حبكم طيب الرقاد فقد فقد
أثار الهوى نارا تشب بقلبه ... ومن لي بإطفاء الغرام وقد وقد
وقول الآخر:
قلت لبدر التم لما غدا ... معتجبا من حسن أوصافه
إن شئت أن تسرق من حسنه ... فلذ به يا بدر أوصافه
وقول الآخر:
(1/16)
________________________________________
بكيت فيروزا على بعده ... فأصبحت عيناي فيروزجا
وجاء من بشرني مسرعا ... وقال لي يهنيك فيروزجا
وقول الآخر:
رب سفيه جليس سوءٍ ... مفترس عرضنا بنابه
يقدح فينا بكل سوءٍ ... وكل ما قاله بنابه
وقول الآخر:
رأيتك تكويني بميسم ذلة ... كأنك قد أصبحت علة تكويني
وتلويني الحق الذي أنت أهله ... وتخرج من أمري إلى كل تلوين
وقول الآخر:
بعدت فأما الطرف مني فساهر ... لشوقي وأما الطرف منك فراقد
فسل عن سهادي أنجم الليل أنها ... ستشهد لي يوماً بذاك الفراقد
وقول الآخر:
تفرق قلبي في هواه فعنده ... فريق وعندي شعبة وفريق
إذا ظمأت نفسي أقول له اسقني ... وإن لم يكن ماء لديك فريق
وهذا النوع لم يذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته.
والنوع الثاني، الجناس المفروق - وهو ما اتفق ركناه لفظاً لا خطا، وخص باسم المفروق لافتراق الركنين في الخط، وهو الذي نظمه الصفي. ومن أمثلته، قول الحاكم المطوعي:
لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغة في تهذيبها
فمتى عرضت الشعر غير مهذب ... عدوة مثل وساوسٍ تهذي بها
وقول المعتمد بن عباد - وقد قالت له بعض خطاياه بأغمات: يا مولاي لقد هنا هنا-:
قلت لقد هنا هنا ... مولاي أين جاهنا
قلت لها إلهنا ... صيرنا إلى هنا
وقول أبي الفتح البستي:
إن هز أقلامه يوما ليعلمها ... أنساك كل كمي هز عامله
وان أقر على رقٍ أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
وقوله من أبيات:
يرمي سهاماً أن أسر المقت لي ... بالكيد لا يقصد غير المقتل
وقول أبي الفضل الميكالي:
لقد راعني بدر الدجى بصدوده ... ووكل أجفاني برعي كواكبه
فبا جزعي مهلا عساه يعود لي ... ويا كبدي صبرا على ما كواك به
وقول ابن جابر:
أيها العاذل في حبي لها ... خل نفسي في هواها تحترق
ما الذي ضرك مني بعد ما ... صار قلبي من هواها تحت رق
وقول الصاحب قوام الدين القمي:
مات الكرام ومروا وانقضوا ومضوا ... ومات في أثرهم تلك الكرامات
وخلفوني في قوم ذوي سفهٍ ... لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا
وقول أبي الفضل أيضاً:
وكل غنى يتيه به غني ... فمرتجع بموت أو زوال
وهب جدي زوى لي الأرض طرا ... أليس الموت يزوي ما زوى لي
وقول ابن أسد الفارقي:
غدونا بآمالٍ ورحنا بخيبةٍ ... أماتت لنا أفهامنا والقرائحا
فلا تلق منا غاديا نحو حاجةٍ ... فتسأله عن حاجةٍ والق رائحا
وكقول أبي الفتح البستي:
أأروم في أيام غيرك بسطة ... في الجاه لي أني لعين الجاهل
وقول محمد بن سليمان بن قطرش:
يا قوم ما بي مرض واحد ... لكن بي عدة أمراض
ولست أدري مع ذا كله ... أساخط مولاي أم راضي
وقلت أنا في ذلك أيضاً:
أيا بانيا عليا القصور مؤملا ... أماناً من الدنيا ونيل أماني
أقل البنا فالدهر يوم وليلة ... عجولان للأعمار ينتهبان
وقل للذي لا ينتهي عن بنائها ... متى يأتي أمر الله ينته بان
وقال أبو الحسن الباخرزي:
لولا سعيد لنضت سعدها ... مجالس العلم وتدريسها
شمس يعم الخالق إشراقه=وغره لو كنت تدري سسها وقال آخر من دوبيت:
هذا زمن الربيع قم فانتبه ... فالراح تزيل كلما أنت به
وقول أبي سعيد عبد الرحمن بن محمد دوست من شعراء اليتيمة:
وشادن نادمت في مجلس ... قد أمطرت راحا أبا يقه
طلبت ورداً فأبى خده ... ورمت راح فأبى ريقه
وقوله أيضاً:
وشادن قلت له ... هل لك في المنادمه
فقال رب عاشقٍ ... سفكت بالمنى دمه
وقول بعضهم وأجاد:
لي مدمع وصبي به ... من فيضه وصبيبه
وجوىً غدا ولهي به ... من حره ولهيبه
ناديت من أسرى به ... بحياة من أسري به
صل مدنفاً تجري به ... بلواه في تجريبه
وقول الشيخ العميد أبي سهل بن الحسن:
عجبت من الأقلام لم تبد خضرة ... وباشرن منه كفه والأناملا
(1/17)
________________________________________
لو أن الورى كانوا كلاماً وأحرفا ... لكان نعم منهم وباقي الأنام لا
وقول الآخر:
أمير كله كرم سعدنا ... بأخذ المجد منه واقتباسه
يحاكي النيل حين يروم نيلا ... ويحكي باسلاً في وقت باسه
وقول الآخر:
يا من تدل بمقلة ... وأناملٍ من عندم
كفي جعلت لك الفدا=ألحاظ عينك عن دم وقول الآخر:
لا خير في العلم إذا لم يكن ... حظ من المال أو الجاه لي
والعلم إن لم أك ذا ثروة ... أنزلني منزلة الجاهل
وقول الآخر:
يا من يقول الشعر غير مهذب ... ويسومني التكليف في تهذيبه
لو أن كل الخلق فيك مساعدي ... لعجزت عن تهذيب ما تهذي به
وقول الباخرزي:
أصبحت عبداً لشمس ... ولست من عبد شمس
إني لأعشق ستي ... وحق من شق خمس
هيفاء تترك يومي ... بالهجر حاسد أمسي
ولا تبالي جفاء ... أسر قلبي أم سي
النوع الثالث: الجناس المرفو، وهو ما كان أحد ركنيه مستقلاً، والآخر مرفو من كلمة أخرى. ولم ينظمه الصفي أيضاً. ومثاله قول الحريري:
ولا تله عن تذكار ذنبك وأبكه ... بدمع يحاكي المزن حال مصابه
ومثل لعينيك الحمام ووقعه ... وروعة ملقاه ومطعم صابه
وقوله أيضاً:
وإن قصارى مسكن الحي حفرة ... سينزلها مستنزلاً عن قبابه
فواها لعبد ساءه سوء فعله ... وأبدي التلافي قبل إغلاقه بابه
وقول الآخر:
كف عن الناس إذا شئت أن ... تسلم من قول جهول سفيه
من قذف الناس بما فيهم ... يقذفه الناس بما ليس فيه
وقول آخر:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... خمرة تترك الحليم سفيها
لست أدري من رقة وصفاء ... هي في كأسها أم الكأس فيها
وقولي:
إذا أصبحت ذا طرب ولهوٍ ... تعاقر راحة أو شرب راح
فقل لي كيف ترجوا الرشيد يومياً ... وما لك عن ضلالك من براح
وقول بعضهم:
دعوني ورسمي في العفاف فإنني ... جعلت عفافي في حياتي ديدني
وأعظم من قطع اليدين على الفتى ... صنيعة بر نالها من يدي دني
وقول أبي الحسن الباخرزي:
أنا القادم بأرضك رحله ... فإن زرته بدلت بالخاء قافه
أحبك قبل الالتقاء فإن يذب ... أخو صبوة شوقاً إلى الملتقى فهو
انتهى الكلام على الجناس المركب وأقسامه. قال ابن الحجة: وهنا بحث لطيف وهو أنه قد تقرر أن ركني الجناس يتفقان في اللفظ، ويختلفان في المعنى، لأنه نوع لفظي لا معنوي، وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع. والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة. فإذا جعلت الجناس تورية انحصر المعنيان في ركن واحد، وخلصت من عقادة الجناس. وأنا أذكر المثالين، قال صاحب الجناس المركب:
اعن العقيق سألت برقا أومضا ... أأقام حادٍ بالركائب أومضا
وقال صاحب التورية:
وإذا تبسم ضاحكاً لم ألتفت ... أن عاد برقا في الدياجي أومضا
وقال في الجناس التام: وإذا راجعت النظر في كلامهم وجدت غالب ما نظموه من التورية جناسا تاماً. فمن ذلك قول الشيخ صدر الدين ال**** في الدوبيت:
كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حكتها المقل
والآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل
ففي تحد وتعتقل، جناسان تامان، إذا أبطلت الاشتراك وأبرزت كلا من الركنين في موضعه على طريق من له رغبة في الجناس. انتهى.
وأنا أقول: إن هذا الكلام الذي قرره لا يختص بالتورية، بل يجير في الاستخدام على طريقة ابن مالك أيضاً كقول المعري:
تلك ماذية وما لذباب الصيف والسيف عندها من نصيب
وهذا خروج من الاصطلاح، وقول بالاقتراح. لأن الجناس لا بد فيه من أن يكون ركناه المتفقان في اللفظ، المختلفان في المعنى، موجودين في اللفظ، وإلا لم يسم جناساً عندهم كما هو صريح حدهم له، وكلام ابن حجة ليس بحجة. فإن هذا الذي ذكره شيء لا يعرفه أرباب البديع ولا نص عليه أحد منهم، فلا يلتفت إليه.
(1/18)
________________________________________
وأما الجناس المطلق - وسماه جماعة كالسكاكي وغيره، تجنيس المشابهة - فهو ما اختلف ركناه في الحروف والحركات، وجمع بين لفظيهما المشابهة، وهو ما يشبه الاشتقاق ولي باشتقاق، وذلك بان يوجد في كل من اللفظين جميع ما في الآخر من الحروف أو أكثر، لكن لا يرجعان في المعنى إلى أصل واحد. وبهذا يفرق بينه وبين المشتق. فإن المشتق يرجع معنى ركنيه إلى أصل واحد. قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته: وقد غلط أكثر المؤلفين في المشتق، وعدوه تجنيساً، وليس من أصناف التجنيس. انتهى.
ولنمثل لكل من القسمين ليتضح الفرق بينهما كما الاتضاح. فالمشتق كقول الله: (فأقم جهك للدين القيم) فإن الركنين مشتقان من قام ويقوم، فهما راجعان إلى معنى واحد. وقوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) فإنهما مشتقان من ربا يربو، بمعنى زاد ونما، وقوله) صلى الله عليه وآله وسلم (: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً، وقول الشاعر:
وذلكم أن ذل الجار حالفكم ... وإن أنفكم لا يعرف الأنفا
وقول الآخر:
ونرتاب بالأيام عند سكونها ... وما أرتاب بالأيام غير مريب
وما الدهر في حال السكون بساكن ... ولكنه مستجمع لوثوب
وقول أبي العلاء المعري: ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا=تجاهلت حتى قيل أني جاهل وقول صاحب البردة:
ظلمت سنة من أحيى الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ألم
وما ألطف قول كشاجم في خادم أسود يعرف بالظلم:
يا مشبها في فعله لونه ... لم تحظ ما أوجبت القسمة
فعلك من لونك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمة
لأن كليهما يرجعان إلى معنى الستر. فإن الظالم يستر الحق، والظلمة تستر المحسومات. وقال) صلى الله عليه وآله وسلم (فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر: الظلم ظلمات يوم القيامة. ومن محاسن أبي الحسن علي بن الحسين الباخرزي قوله في هذا النوع:
عاينت طيف الذي أهوى فقلت له ... كيف اهتديت وجنح الليل مسدول
فقلت أبصرت ناراً من جوانحكم ... يضيء منها لدى السارين قنديل
فقلت نار الهوى معنى وليس لها ... نور يضيء فماذا القول مقبول
فقال نسبتنا في الأمر واحدة ... أنا الخيال ونار الشوق تخييل
فنبه على الاشتقاق في قوله (نسبتنا في الأمر واحدة) . وقلت أنا في ذلك منبهاً على الاشتقاق بصريح اللفظ:
والأماني كالمنايا وأن نا ... زع غر فالاشتقاق دليل
والجناس المطلق، كقوله تعالى: (يا أسفي على يوسف) فإن الأسف ويوسف لا يرجعان إلى أصل واحد. وقوله تعالى: (قال إني لعملكم من القالين) فإن قال من القول، والقالين من القلى. وقوله) صلى الله عليه وآله وسلم (- فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة: أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله. فإن أسلم لم تسم من المسالمة، ولا غفار من المغفرة ولا عصية - تصغير عصا - من العصيان، بل هي أسماء قبائل مرتجلة، لم يلاحظ في وضعها تلك المعاني بخلاف نحو هاشم؛ فإنه سمي به لما هشم الثريد لقومه في عام محل وقع بمكة. ومن أمثلته في الشعر قول النعمان بن بشير لمعاوية بن أبي سفيان:
ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم
وقول الآخر:
عرب تراهم أعجمين عن القرى ... متنزلين عن الضيوف النزل
فأقمت بين الأزد غير مزود ... ورحلت عن خولان غير مخول
وقول الآخر:
صل الراح بالراحات وأقدح مسرة ... بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش أوزاراً فأوراق كرمها ... أكف غدت تستغفر الله للذنب
الشاهد في البيت الأول، وما أحسن ما استعمل الاستغفار في البيت الثاني. وقول القاضي الأرجاني:
وفي الحي كل كليل اللحاظ ... يطالعنا من خصاص الكلل
وقول أبي فراس الحارث بن حمدان:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمائله
ألوي بعزمي أصداغ لوين به ... وغال قلبي بما تحوي غلائله
وفيه شاهد الاشتقاق والجناس المطلق كما لا يخفى.
وقولي من أبيات:
اطرح زنادك لا تستوره قبسا ... لا يقدح الزند من في كفه القدح
وقولي من قصيدة:
(1/19)
________________________________________
خاطرت في هواك مهجة صب ... هويت منك ذابلاً خطارا
ومنها:
لا تلمني فما التصابي بعار ... قبل يسترجع الصبا ما أعارا
وقولي من قصيدة أخرى وفي البيت الأول الاشتقاق، وفي الذين بعده الجناس المطلق:
ولائم لام على حبه ... جهلاً بأمر الحب وهو المليم
يروم مني الغدر فيه وما ... ذمام ودي في الهوى بالذميم
صم صدى العاذل في حب في ... أسكنته في مهجتي في الصميم
وقول الآخر:
إن فصل الربيع فصل مليح ... تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء
وقول بعضهم:
بجانب الكرخ من بغداد عن لنا ... ظبي ينفره عن وصلنا تفر
ظفيرتاه على قتلي تظافرتا ... يا من رأى شاعراً أودى به الشعر
وقول الآخر:
إذا أعطشتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعاً وريا
فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
وقول الشيخ العميد:
إذا بلغ الحوادث منتهاها ... فرج بعيدها الفرج المطلا
فكم كرب تولى إذا توالى ... وخطب قد تجلا حين جلا
وقول الآخر:
رب خود عرفت في عرفات ... سلبتني بحسنها حسناتي
لم أنل في منى منى النفس لكن ... خفت بالخيف أن تكون وفاتي
وقول المعري:
لا تنزلي بلوى الشقائق فاللوى ... ألوى المواعد والشقيق شقاق
تنبيه: - علم بالأمثلة المذكورة أنه ليس المراد بما يشبه الاشتقاق في الجناس المطلق، الاشتقاق الكبير، لأن الاشتقاق الكبير، هو الاتفاق في حروف الأصول من غير رعاية ترتيب، مثل، القمر والرقم والمرق، ونحو ذلك. والأسف ويوسف؛ وقال والقالين ليس من هذا القبيل، وهو ظاهر نبه عليه السعد التفتازاني في شرح التلخيص.
إذا عرفت هذا فالشيخ صفي الدين (ره) جمع بين الجناس المركب والمطلق في المطلع فقال:
إذن جئت سلعاً فسل عن جيرة العلم ... واقر السلام على عرب بذي سلم
فالمركب في قوله: (سلعا) و (سل عن) ، والمطلق في (السلام) و (السلم) .
وابن جابر جاء المركب في بيت، وبالمطلق في بيت، فقال في المركب:
دع عنك وسل ما بالعقيق جرى ... وأم سلعا وسل عن أهله القدم
وقال في المطلق:
جار الزمان فكفوا جوره وكفوا ... وهل أضام لدى عرب على أضم
قال ابن حجة: المطلق في (أضام) و (أضم) . وأما (جار) و (جوره) فمشتق، ولكن لم يخف ما في البيتين من الثقل مع خفة الالتزام. انتهى. قلت: وهو - أعني المطلق - في (كفوا) و (كفوا) أيضاً كما هو ظاهر.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
فحي سلمى وسل ما ركبت بشذا ... قد أطلقته أمام الحي من أمم
فأتى بالنوعين في بيت واحد، وورى بالاسمين من جنس الغزل.
وبيت ابن حجة قوله - وحذا فيه حذو الموصلي-:
بالله سربي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم
والشيخ عبد القادر الطبري لم يذكر في بديعيته إلا الجناس المركب، وأما المطلق فلم يجر له ذكراً فقال:
فأم سلعاً وسل عن أهله فهم ... قد ركبوا في الحشا ناراً ببعدهم
وبيت بديعيتي هو:
دعني وعجبي وعج بي بالرسوم ودع ... مركب الجهل واعقل مطلق الرسم
وبيت بديعيتي هو:
دعني وعجبي بي بالرسوم ودع ... مركب الجهل واعقل مطلق الرسم
فالمركب في (عجبي) و (عج بي) والمطلق في (الرسوم) و (الرسم) فالرسوم: الآثار، والمراد هنا آثار الديار بقرينة المقام. والرسم: صفة للأينق التي تمشي الرسيم، وهو نوع من سير الإبل، فحذف الموصوف وأبقى الصفة وهو كثير الوقوع في فصيح الكلام، قال تعالى (وعندهم قاصرات الطرف) أي حور قاصرات الطرف (وألنا له الحديد أن اعمل سابغاتٍ) أي دروعاً سابغات. والعجب بالضم: الزهو والكبر. وعاج يعوج، أي أقام بالمكان ووقف. والجهل المركب: خلاف البسيط، فإن المركب هو عدم العلم مع اعتقاده، فهو مركب من الجهل والجهل بالجهل. والبسيط، هو عدم العلم فقط. قال بعضهم:
قال حمار الحكيم يوماً ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وراكبي جاهل مركب
(1/20)
________________________________________
وعقل الناقة: شد وظيفها إلى ذراعها، والخطاب للحادي به أو رفيقه. يقول: دعني وزهوي. أي تيهي وفخري بهم، وأقم بي آثار ديارهم، ودع الجهل المركب - يعني جهله - بحقيقة حاله أو حالهم، وادعاه معرفته لها. كأنه عذله على تيهه بهم، فخاطبه بهذا القول، واعقل هنالك مطلق الأينق الرسم، فلا تتجاوزه، فإنه محط الرحال، ومطمح نظر الآمال.
والشيخ إسماعيل المقري لم يذكر الجناس المطلق أيضاً، وذكر الجناس المركب في المطلع في موضعين وقد تقدم ذكره.

الجناس الملفق
بانوا فهان دمي عندي فها ندمي ... على ملفق صبري بعد بعدهم
من أنواع الجناس: الجناس الملفق وهو ألطفها موقعاً في القلوب وأحلاها ذوقاً في الأسماع وأصعبها مسلكاً. وحده أن يكون كل من ركنيه مركباً من كلمتين فصاعداً. وهذا هو الفرق بينه وبين المركب، وقل من أفراده عنه إلا المحققين كالحاتمي وابن رشيق وأمثالهما. ومن أمثلته في الشعر، قول الحاكم المطوعي:
أرى مجلس السلطان تفضى عفاته ... إلى روض مجد بالسماح مجود
وكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجود في مجالس جود
وكان الصلاح الصفدي مولعا بهذا النمط منه، فنظم فيه شيئاً كثيراً، وجاء بالغث أكثر من السمين. فمن ذلك قوله:
ولما نأيتم لم أزل مترقبا ... قدومكم في غدوة ومساء
وأين إذا كان الفراق معاندي ... مطالع ناءٍ من مطال عناء
وقوله:
وساق غدا يسقي بكأس وطرفه ... يجرد أسيافاً لغير كفاح
إذا جرح العشاق قالوا أقمت في ... مدارج راحٍ أم مدار جراح
وقوله:
بكيت على نفسي لنوح حمائم ... وجدت لها عندي هدية هاد
تنوب إذا ناحت على الأيك في الدجى ... مناب رشاد في منابر شاد
وقوله:
متى تصنع المعروف ترق إلى العلى ... وتلق سعوداً في ازدياد سعود
وإن تغرس الإحسان تجن الثمار من ... مغار سعود لا مغارس عود
وقوله:
ومجلس أقوام تطوف عليهم ... كؤوس الحميا في مدار سعود
تجادلت الأوتار في جنباته ... فأضحى الندامى في مدارس عود
وقوله:
ومن على غيري سقام وصحة ... ولم ير قان مثل ذي يرقان
قال ابن حجة: رأيت بخط الشيخ بدر الدين البشتكي تحت هذا البيت: وإن من ذلك مبلغه من النظم لجدير أن يقعد مع صغار المتأدبين. انتهى.
قلت: نعم من كان هذا مبلغه من النظم فهو جدير بما قال. وأما الشيخ صلاح الدين، فمحاسن نظمه لا تخفى؛ وشمعة أدبه كالصبح لا تقط ولا تطفي، وكم له من نثر وشعرهما من سحر البيان، أو بيان *****، ولا يلزم من ركة هذا المقدار من نظمه انحطاط مقدار الناظم. وابن حجة لم يزل يتحامل عليه، ويشير بالنقص إليه. ولئن قال البدر البشتكي في الصفدي ما قال، فقد قال في ابن حجة أيضاً لما شاب وصبغ لحيته بالحناء أشنع مقال وهو قوله:
صقيع دعاويه لا تنتهي ... ويخطي الصواب ولا يشعر
تأملت فيه وفي ذقنه ... فلم أدر أيهما احمر
وأحسن ما نظمه الشيخ صلاح الدين في هذا الباب قوله:
رعى الله عهداً مضى بالحمى ... بلغت الأماني به في أمان
وأيام أنسٍ تقضت بكم ... كأحلام عان بأحلى معان
ولعزة وقوع هذا النوع سومح فيه باختلاف الحركات. ومن أحسن ما وقع منه قول القاضي عبد الباقي بن أبي حصين وقد ولي القضاء بالمعرة وهو ابن عشرين، وأقام في مدة خمس سنين:
وليت الحكم خمساً وهي خمسٌ ... لعمري والصبا في العنفوان
فلم تضع الأعادي قدر شاني ... ولا قالوا فلان قد رشاني
قلت: هكذا عزا ابن حجة هذين البيتين للقاضي عبد الباقي المذكور والله أعلم لمن هما. وقوله (وهي خمس) بضم الخاء، أي خمس عمره يشير إلى أن عمره في ذلك الوقت خمس وعشرون سنة.
وأكثر أصحاب البديعيات عيال علي أبي الفتح البستي في قوله في هذا النوع:
إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
فلم أنفك من ندمي ... وليس بنافع ندمي
ومنه قوله أيضاً:
أنت الأمير وإن لم تؤت منشوراً ... والملك بعدك أن لم تؤتمن شورى
وقوله أيضاً:
قد مر أمس ولم يعبأ به أحد ... من التواء ببؤس مر أم رغد
وعندي اليوم قوت استعف به ... وإن بقيت غدا أصلحت أمر غدِ
(1/21)
________________________________________
وقول بعضهم:
وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من حقها أن تهي
وأنكرت نفسك لما كبرت ... فلا هي أنت ولا أنت هي
وقول أبي الفضل الميكالي:
لنا صديق له حقوق ... راحتنا في أذى قفاه
ما ذاق من كسبه ولكن ... أذى قفاه أذاق فاه
ومن لطيفه قول ابن القيسراني في مدح خطيب:
شرح المنبر صدرا ... لتلقيك رحيبا
أترى ضمخ طيبا ... منك أم ضم خطيبا
وقول بعضهم في دوبيت:
هذا زمن الربيع والكاسب فيه ... من نادمه ****** والكأس بفيه
والغبن نصيب كل من نمس فيه ... والدهر يقول كل من نم سفيه
وقول الصفي الحلي فيه:
العيد أتى ومن تعشقت بعيد ... ما أصنع بعد منية القلب بعيد
ما العيش كذا لكن من عاش رغيد ... من غازل غزلانا ومن عاشر غيد
وأما بيت بديعيته فهو: فقد ضمنت وجود الدمع من عدم=لما جرى من عيوني إذ وشى ندمي قال ابن حجة: هذا البيت فيه الجناس الملفق على الصنعة، وتسميته على الشروط المذكورة، ولكن عجزت لعقادة تركيبه عن الطيران بأجنحة الفهم من أن أحوم له على معنى. ونظرت بعد ذلك في شرحه، فوجدته قد قال: إن لفظة (ملفق) صفة للجار والمجرور في قولي (فحي سلمى وسل ما ركبت بشذا) ، يعني أن الشذا الذي أطلقته سلمى أمام الحي، كان ملفقاً، انتهى. قال بعضهم: وهذا الحل برسام حاد.
وبيت ابن حجة قوله:
ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي ... يسعى معي فسعى لكن أراق دمي
ولا يخفى أن معنى هذا البيت لا يرجع إلى طائل بل هو من السخافة على جانب، وقد استسمن منه ناظمه ذا ورم، ونفخ في غير ضرم على جاري عادته في نظمه ونثره، والمرء مفتون بولده وشعره.
وبيت الشيخ عبد القادر الطبري:
لفقت عزمي للقيام أفوز به ... لكن أرى قدمي سعياً أراق دمي
أقول: استعارة التلفيق للعزم للقيا الأحباب غير لائقة بالمحب الصادق وأين هو من قول الآخر:
وركبت للأهوال كل عظيمة ... شوقاً إليك لعلنا أن نلتقي
أو قول الآخر:
يا ليل ما جئتكم زائراً ... إلا وخلت الأرض تطوي لي
ولا انثنى عزمي عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي
وبيت بديعيتي قولي:
بانوا فهان دمي عندي فها ندمي ... على ملفق صبري بعد بعدهم
ألفاظ هذا البيت ومعناه من الوضوح بحيث لا يفتقر إلى التصدي لشرحه، وأما انسجامه وحسن معناه فموكول إلى ذوق الناظر وأنصافه، فلا حاجة إلى تعداد أوصافه.
وبيت شرف الدين المقري قوله:
قد كلمتني النوى وكل متني من وخدٍ هرى قدمي حتى هراق دمي
ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به.

الجناس المذيل واللاحق
وذيل الدم دمعي يوم فرقتهم ... وراح حبي بلبي لاحقاً بهم
من أنواع الجناس: المذيل واللاحق.
أما المذل فهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفاً في آخره، فصار له كالذيل كقول أبي تمام:
يمدون من أيدٍ عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضبِ
عواص جمع عاصية من عصاه: ضربه بالعصا. وعواصم من عصمه: حفظه وحماه. وقواض من قضى عليه: حكم. وقواضب من قضبة: قطعه.
وقول الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان صلاح الدين يوسف:
أما آن للسعد الذي أنا طالب ... لإدراكه يوماً يرى وهو طالبي
ترى هل يريني الدهر أيد شيعتي ... تمكن يوماً من نواصي النواصب
وقول المعتمد بن عباد وقد كتب به إلى صاحب له يدعوه إلى مجلس أنس:
أيها الصاحب الذي فارقت عي ... ني ونفسي منه السنا والسناء
نحن في المجلس الذي يهب الرا ... حة والمسمع الغنى والغناء
تتعاطى التي تنسي من اللذ ... ة والرقة الهوى والهواء
فأته تلق راحة ومحيا ... قد أعدا لك الحياة والحياء
وقول ابن المشرف المارديني من قصيدة:
هلال في بروج السعد سار ... غزال في مروج العز سارح
وقول محمد بن أحمد اليوسفي:
فيا يومها كم من مناف منافق ... ويا ليلها كم من مواف موافق
وقول أبي الحسن محمد بن طلحة: وللمجد أعلام سوام سوابغ=إليه وأقدام رواس رواسب وقول المعري:
ورب مساتر بهواك عزت ... سرائره وكل هوى هوان
وقولي في مطلع قطعة خمرية:
(1/22)
________________________________________
طلب نشر الصبا ووقت الصباح ... وزمان الصبا ووصل الصباح
فاسقني الراح يا نديمي ودعني ... أتلهى ما بين روح وراح
وقولي من أخرى وهو من أوائل نظمي:
قسماً بخصرك وهو واهٍ واهن ... وبروض خدك وهو زاهٍ زاهر
إني لأهوى ما تحب وإنما ... أنا فيك بين الناس شاكٍ شاكر
وقول بهاء الدين محمد بن عبد الله المحب الطبري:
أراني اليوم للأحباب شاكٍ ... وقدما كنت للأحباب شاكر
وما لي منهم أصبحت باكٍ ... أباكر بالمدامع كل باكر
نهاري لا يزال القلب ساهٍ ... وليلي لا يزال الطرف ساهر
أذاقوني عناداً طعم صاب ... وقالوا كن على الهجران صابر
وها قلبي إلى الأحباب صاغ ... يميل إلى رضاهم وهو صاغر
أحن إلى لقاهم كل عام ... وأرجو وصلهم في شعب عامر
أهيل الجود مقصد كل حاج ... وليس لهم عن الإحسان حاجر
سقى ربعاً حماهم كل غادٍ ... وصين جمالهم من كل غادر
وقد تكون الزيادة في آخر المذيل بحرفين، ويخصه بعضهم حينئذ باسم المرفل.
كقول حسان بن ثابت:
وكنا متى يغز النبي قبيلة ... نصل جانبيه بالقنا والقنابل
وقول النابغة: لها نار جنٍ بعد أنس تحولوا=وزال بهم صرف النوى والنوائب.
وقوله من الرثاء:
فيا لك من حزم وعزم طواهما ... جديد الردى تحت الصفا والصائح
وقول الشيخ حسين الطبيب في ختام قصيدة مدح بها الوالد:
تدوم دوام الفرقدين على المدى ... إذا لحقت بالمادحين المدائح
وجرى على لسان قلمي عند وصولي إلى هنا هذا البيت:
قد نال غايات المنى المنافق ... مذ آذتنا بالنوى النواعق
ومن أرق ما سمع من هذا النوع قول الخنساء:
إن البكاء هو الشفاء ... من الجوى بين الجوانح
ذكرت بمعنى هذا البيت ما حكاه أحمد بن سليمان بن وهب قال: بكيت يوماً لفرقة بعض الآلاف بين يدي الحسن بن وهب عمي، فنهاني بعض من حضر، فقال لي عمي:
ابكِ فما أنفع ما في البكا ... لأنه للحزن تسهيل
وهو إذا أنت تأملته ... نحزن على الخدين محلول
وأما الجناس اللاحق - فهو ما أبدل من أحد ركنيه حرف بحرف آخر من غير مخرجه، ولا قريب منه. فإن كان من مخرجه أو قريباً منه سمي مضارعاً. فمن أمثلة اللاحق، قوله تعالى: (إنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد الخمر لشديد) وقول الشاعر:
نظرت الكثيب الأجرع الفرد مرة ... فرد إلي الطرف يدمى ويدمع
وقول بعضهم:
أخوك على المعاش معين صدق ... وما لك لمعاش وللمعاد
وقول البديع الهمداني:
يا غلام الكأس فاليأ ... س من الناس مريح
وقول ابن جابر:
يكفي الأنام بسيبه وبسيفه ... عند المكارم والمكاره دائما
وقول الصفي الحلي:
بيض دعاهن الغبي كواعبا ... ولو استبان الرشد قال كواكبا
وقول أبي فراس بن حمدان:
غني النفس لم يعقل ... خير من غني المال
وفضل الناس في الأنفس ... ليس الفضل في الحال
وقول ابن الفياض كاتب سيف الدولة:
وما بقيت من اللذات إلا ... منادمة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتي قمر منير=يجول بخده ماء الشباب وقولي:
قد طلع البدر في كواكبه ... كالملك يختال في مواكبه
والليل يسعى به إلى أمدٍ ... كالطرف يستن تحت راكبه
وقولي من أبيات تقدم مطلعها في الجناس المذيل:
برح اليوم عن هواي خفاه ... ما لقلبي عن الهوى من براح
فاسقنيها وداوِ قرح فؤادي ... واجتنب مزجها بماء قراحِ
وقولي من قطعة خمرية مطلعها:
قم هاتها في جنح ليل دامس ... راح حكت في الراح شعلة قابس
زفت إلى ماء السماء فأصبحت ... تهزو بكل مهاة خدرٍ عانسِ
ماذا على من قابلته ببشرها ... أن لا يقابلها بوجهٍ عابس
ومنها وفيه أيضاً شاهد لما نحن فيه:
طابت مغارسها قبورك في يدي ... جانٍ حنى تلك الكروم وغارس
قف إن وقفت بحانها حينا ودع=عنك الوقوف بكل ربع دارس ومن محاسن هذه القطعة قولي فيها:
رقت فلولا الكاس لم تبصر لها ... جسما ولم تلمس براحة لامس
(1/23)
________________________________________
فكأنها عند المزاج لطافة ... وهم يخيله توهم هاجس
ومن أحسن ما يستشهد به لهذا النوع قول الصفي الحلي من قصيدة:
وبارق كسقيط الزند مقتدحا ... له يد لزناد الشوق قد قدحت
بدا فأذكرني أرض الصراة وقد ... تكللت بالكلا والشيح واتشحت
والريح نافحة والسحب سافحة ... والغدر طافحة والورق قد صدحت
الشاهد في البيت الثالث فقط، وفي الأول الاشتقاق والجناس المذيل وفي الثاني الجناس المطلق.
وأما الجناس المضارع، فكقوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) وقوله) صلى الله عليه وآله وسلم (: الخيل معقود بنواصيها الخير، الأجر والمغنم إلى يوم القيامة.
وقول الشريف الرضي) رضي الله عنه (:
لولا تذكر أيامي بذي سلم ... وعند رامة أوطاري وأوطاني
لما قدحت بنار الوجد في كبدي ... ولا بللت بماء الدمع أجفاني
وقوله أيضاً من قصيدة طويلة:
لا يذكر الرمل الأحن مغترب ... له إلى الرمل أوطار وأوطان
وما أحسن قوله بعد هذا البيت:
تهفو إلى البان من قلبي نوازعه ... وما بي البان بل من داره البان
ومنه قول الكافي العمان:
وما خلقت عيون العين أما ... نظرن سوى بلايا للبراي
فاللام والراء والنون من مخرج واحد عند قطرب والجرمي وابن دريد والفراء.
وقول أبي جعفر الرامي من مقصورة له في وصف السيف: مهند كأنما صيقله=أشربه بالهند ماء الهندبا فالميم والباء من مخرج واحد.
وقول الشيخ حسين الطبيب من قصيدة يمدح بها الوالد:
سأكسوك من مكنون نظمي وشائعاً ... تناط بجيد الدهر منها وشائح
والصفي لم ينظم هذا النوع، وقل من فرق بينه وبين اللاحق. ومن الناس من يسمي كل ما اختلف بحرف، جناس التصريف، سواء كان من المخرج أو من غيره.
وبيت الصفي في الجناس المذيل واللاحق قوله:
أبيت والدمع هامٍ هامل سرب ... والجسم من أضم لحمٌ على وضم
وبيت العز الموصلي قوله:
يذيل العذل جار جارح بأذى ... كلاحقٍ ما حق الآثار في الأكم
قال بعضهم: لو عزا أحد هذا البيت والذي قبله - يعني بيته في الجناس الملفق - إلى الجان ما شككت في قوله.
وبيت ابن حجة قوله:
وذيل الهم همل الدمع لي فجرى ... كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم
عدم إطراء ابن حجة لهذا البيت، أبين حجة على ثقله وركنه.
والشيخ عبد القادر الطبري غير الترتيب الذي جرى عليه الشيخ صفي الدين، فقرن المذيل بالمعنوي، واللاحق بالتام. فقال في المذيل:
معنى ابن يتم أبي النعمان كنت لهم ... وذيل الصبر صبا بالغرام عمي
أقول: لم يظهر لي المذيل في هذا البيت. فإن أراد به لفظتي (الصبر) و (صبا) فهذا لاحق لا مذيل. وأم معنى البيت وارتباط شطريه. فقد عجزت عن أن أحوم حوله. وقال في الجناس اللاحق:
يا خير ما تم لي خير يلاحقني ... به ولم يرع شرع الحب كالعجم
الجناس اللاحق ظاهر في هذا البيت، ولكن انظر ما معنى قوله (ولم يرع شرع الحب كالعجم) ؟ وبيت بديعتي هو قولي:
ويل الدم دمعي يوم فرقتهم ... وراح حبي يلبي لاحقاً بهم.
المذيل في قولي (الدم) و (الدمع) واللاحق في (حبي) و (لبي) ومعنى البيت أبين من أن يبين. ولا يخفى ما في تذييل الدمع من اللطف. فإنه كناية عن الدمع قد نزف يوم فراقهم من كثرة البكاء فبكى دما، فكأن الدم صار كالذيل للدمع. وبين شطري البيت أشد الارتباط لفظا ومعنى.
وبيت إسماعيل المقري قوله:
ملا الملام فؤادي ويحكم وكفى ... لا تكثروا تكفروا في لومه بهمِ.
الجناس التام والمطرف
يا زيد زيد المنى مذ تم طرفني ... وقال هم بهمِ تسعد بقربهم
من أنواع الجناس: التام والمطرف.
(1/24)
________________________________________
أما الجناس التامس ويسمى الكامل، فهو ما تماثل ركناه لفظاً وخطا واختلفا معنى من غير تفاوت في تركيبهما ولا اختلاف في حركاتهما، سواء كان من اسمين أو فعلين، أو من اسم وفعل، أو اسم وحرف. فإن كان من نوع واحد سمي مماثلاً، أو من نوعين سمي مستوفى. وهذا الجناس من أكمل أصناف التجنيس وأرفعها رتبة، وأولها في الترتيب الأصلي، وشاهده من القرآن الكريم، قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعةٍ) قيل: وليس في القرآن العظيم من صنف التام غير هذه الآية. وقول بعضهم: أن في كونها من الجناس التام نظراً لكون الساعة الأولى التي بمعنى القيامة، منقولة من الساعة الثانية التي هي جزء من أجزاء الجديدين، ليس بشيء. لأن النقل لا يضر ويكفي في ذلك اختلاف المعنى. وقد استخرج ابن حجر من القرآن جناساً آخر تاماً وهو قوله تعالى: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) فالأبصار في الآية الأولى جمع البصر الذي هو النظر، وفي الآية الثانية جمع البصر الذي هو العقل.
ومن الشعر قول ابن الرومي:
للسود في السود آثار تركن بها ... وقعاً من البيض يثني أعين البيض
وقول الراجز:
يا عامر بن مالك يا عما ... أفنيت عما وجبرت عما
أراد بالعم الأول أخا أبيه، وبالثاني الجمع الكثير. يقول: أفنيت قوماً وجبرت آخرين.
وقول الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى ... إذا رحل الجيران عند الغروب
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا ... ودمع عيني كفيض الغروب
بانوا وفيهم طفلة حرة ... تفتر عن مثل أقاح الغروب
فالغرب الأول: غروب الشمس، والثاني: جمع غرب وهو الدلو العظيمة المملوءة، والثالث: جمع غرب وهو الوهدة المنخفضة. وقول أبي العلاء المعري، ونبه على الجناس فيه مع التغزل البديع:
معانيك شتى والعبارة واحد ... فطرفك مغتال وزندك مغتال
فمغتال الأول، من اغتاله بمعنى أهلكه، والثاني بمعنى الغيل بالفتح وهو الساعد الريان الممتلي، وقوله أيضاً:
لم تلق غيرك إنساناً نلوذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا
وزعم الحاتمي أن أفضل تجنيس وقع لمحدث، قول عبد الله بن طاهر ذي اليمينين:
وإني للثغر المخوف لكالي ... وللثغر يجري ظلمه لرشوف
ومنه قول الغزي:
وخز الأسنة والخضوع لناقص ... أمان عند ذوي النهي مران
والرأي أن تختار فيما دونه ال ... مران وخز أسنة المران
وقول أبي الفتح البستي:
يا أكثر الناس إحساناً إلى الناس ... وأحسن الناس أعراضاً عن الناسي
نسيت وعدك والنسيان مغتفر ... فاعذر فأول ناسٍ أول الناس
وقولي في مطلع قصيدة:
يا هماماً له المعالي قصور ... لا تلمني أن عن مني قصور
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
أيهٍ بذكر معاهد وأناس ... طابت بذكر حديثهم أنفاسي
أذكرنني حيث الأحبة جيرة ... حالي بهم حالي وكاسي كاسي
وقولي من مطلع قصيدة:
إليك فقلبي لا تقر بلابله ... إذا ما شدت فرع الغصون بلابله
وقلت بعد المطلع:
تهيج له ذكرى حبيب مفارق ... زرود وحزوى والعقيق منازله
سقاهن صوب الدمع مني ووبله ... منازل لا صوب الغمام ووابله
بحل بها من لا أصرح باسمه ... غزال على بعد المزار أغازله
تقسمه للحسن عبلٌ ودفة ... فرن وشاحاه وصمت خلاخله
وما أنا بالناسي ليالي بالحمى ... تقضت وورد العيش صفو مناهله
ليالي لاظبي الصريم مصارم ... ولا ضاق ذرعاً بالصدود مواصله
وكم عاذل قلبي وقد لج في الهوى ... وما عادل في شرعة الحب عاذله
يلومونه جهلاً عليه وإنما ... له وعليه بره وغوائله
فلله قلب قد تمادى صبابة ... على اللوم لا تنفك تغلي مراجله
وبالحلة الفيحاء من أبرق الحمى ... رداح حماها من قنا الخط ذابله
تميس كما ماس الرديني مائداً ... وتهتز عجباً مثل ما اهتز عامله
مهفهفة الكشحين طاوية الحشا ... فما مائد الغصن الرطيب ومائله
تعلقتها عصر الشبيبة والصبا ... وما علقت بي من زماني حبائله
(1/25)
________________________________________
حذرت عليها آجل البعد والنوى ... فعاجلني من فادح البين عاجله
إلى الله يا أسماء نفسا تقطعت ... عليك غراماً لا أزال أزاوله
وخطب بعاد كلما قلت هذه ... أواخره كرت علي أوائله
وقولي من قصيدة وهي من أوائل نظمي:
من لصب شفه جور النوى ... كلما أوجعه التذكار أنا
وإذا هبت صبا نجدٍ صبا ... قلبه شوقاً إلى نجدٍ وحنا
وقول أبي تمام: ما ماتِ من كرم الزمان فإنه=يحيا لدى يحيى بن عبد الله وقول محمد بن عبد الله بن يحيى كناسة الأسدي الكوفي وهو ابن أخت إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى.

وسميته يحيى ليحيا ولم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل
وقول ابن فضالة المجاشعي القيرواني وقيل ابن شرف:
إن تلقك الغربة في معشر ... قد أجمعوا فيك على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
وقول سيدنا العلامة السيد ماجد بن هاشم البحراني المتوفى سنة ثمان وعشرين وألف رحمه الله تعالى.

وأحوى أطار القلب مني وما انطوى ... عليه جناحا مضرحي ولا نسر
عققنا العلا إن سامنا دلج السرى=إليه إلى أحقاف قاف ولا نسر وقوله أيضاً:
وذي هيف ما الورد يوما ببالغ ... مدى وجنتيه في احمرار ولا نشر
برئنا من الإسلام أن سيم وصله ... علينا بما فوق النفوس ولا نشر
وقوله أيضاً:
يعز جناب الظبي أن قسته به ... وما هو منه في سكون ولا نفر
فرتنا ظبا الأعداء إن قال قائل ... فروا كل جيب في هواه ولا نفر
وقلت أنا معارضاً له في ذلك:
وأهيف قد قدَّ القلب بقده ... وما هو عند حدي سنان ولا نصل
صلتنا لظى الهيجاء إن سامنا هوى ... على حبه صلي النفوس ولا نصل
وقلت أيضاً:
ومزر بضوء الشمس لم نر وجهه ... ولا ماثلته في علو ولا نبل
بلينا جوى إن رام منا تذللا ... بلاء نفوس في هواه ولا نبل
ومنه قول أبي سهل سعد بن عبد الله التكملي:
ألا قالت إمامة إذا رأتني ... وماء الوجه بالجادي شيبا
تعرتك الهموم فقلت حقا=هموم تجعل الولدان شيبا وقول أبي سهل النيلي:
من وجهه يطلع نجم المشتري ... ياقوته يثمر شهداً فاشتر
يا من له باللحظ سيف الأشتر ... إذا وجدت الحر عبداً فاشتر
وقول أبي منصور اللخيمي:
ودعت إلفي وفي يدي يده ... مثل غريق به تمسكت
فرحت عنه وراحتي عطرت ... كأنني بعده تمسكت
ونظم الصفي الحلي هذا الجناس أحسن من هذا فقال:
غيري بحبل هواكم يتمسك ... وأنا الذي بترابكم يتمسك
وقال آخر: وأعظم الناس ظلماً من كلفت به=لأنه زاهد في راغب فيه
***** في عينيه والروح في يده ... والورد في خده والند في فيه
وما ألطف قول القائل:
أقول لطبي مر بي وهو راتع ... أأنت أخو ليلى فقال يقال
فقلت يقال المستقيل من الهوى ... إذا مسه ضر فقال يقال
وذكر الثعالبي في اليتيمة: إن البيت الأول للمجنون والثاني لأبي الحسن بن أحمد بن رامين مجيزاً به بيت المجنون والله أعلم.
وللمطوعي في أبي منصور الثعالبي:
كلام أبي منصور فيه عذوبة ... ينوب عن الماء الزلال بمن يظمأ
فنزوى متى نروي بدائع نظمه ... ونظما إذا لم نرو يوماً له نظما
وقال آخر وأجاد:
إذا ما نازعتك الحرص نفس ... فأمسكها عن الشهوات أمسك
ولا تحرص ليوم أنت فيه=وعد فرزق يومك رزق أمسك وقول أبي العلاء المعري:
وأقتال حرب يفقد السلم عندهم ... على غيرهم أمضي القضاء وأقتال
وقول الأديب الماموني:
لي على الناس فضل نظم ونثر ... من أباه هجرته وأباه
وإذا ما أتى صفقت قفاه ... وقفا من أعانه وقفاء
رحم الله من أراد محالا ... فنهاه عن المحال نهاء
وقول الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب:
فوا خجلتا إن كان في الدمع قلة ... إذا جمع العشاق موعدنا غدا
أفاق الألي علاطيتهم خمرة الصبا ... وراح فؤادي مغرماً مثلما غدا
وقول الآخر:
مضى عصر الشباب كلمح برق ... وعصر الشيب بالأكدار شيبا
(1/26)
________________________________________
وما أعددت قبل الموت زادا ... ليوم يجعل الولدان شيبا
وقول الآخر:
قد أصبح آخر الهوى أوله ... فالعاذل في هواك مالي وله
بالله عليك خل ما أوله ... وارحم دنفاً لدى حشاه وله
ولا بأس هنا بإيراد قصيدة الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن أصبغ الأزدي اللغوي في نظم ما اشترك في اسم العجوز، فإنها من هذا النوع مع ما اشتملت عليه من الفائدة، وقد جعلها مشترك بين اثنتين وستين معنى، وفسر معانيها الشيخ أثير الدين أبو حيان النحوي وهي:
ألا تب من معاطات العجوز ... ونهنه عن مواطات العجوز
ولا تركب عجوزاً في عجوزٍ ... ولا روعٍ ولا تك بالعجوز
وإن أزمت بأقوام عجوز ... فعش فيها بأبوال العجوز
وإن تزر العجوز بلا عجوز ... فقطره على متن العجوز
وإن غاضت عجوز بني زيادٍ ... غداة غد لها أهل العجوز
وما إن للعجوز إذا ألمت ... سوى استعمال أدمغة العجوز
وإن جلد العجوز جلدت يوما ... به أحد أفاق من العجوز
وهي للعجوز شراع بر ... ولذ قبل العجوز على العجوز
وكانت طسم تقري في عجوز ... مكللة بأسنمة العجوز
وما يهدي العجوز إلى عجوز ... أحب إليه من ريح العجوز
وإن بدت القلادة من عجوز ... فبعها بالنضار وبالعجوز
وإن حملت عجوزكم عجوزاً ... جلت صدء العجوز عن العجوز
ومن أكل العجوز بلا عجوز ... فانذره بإقبال العجوز
وإن بزغت عجوز في عجوز ... فشك عجوز زينب بالعجوز
وإن عبثت بسر حكم عجوز ... فذدها عن أولئك بالعجوز
وكم عبد تفرد في عجوز ... رجاء الفوز في يوم العجوز
وإن لحقتك في الشعري عجوز ... فمل عنها إلى ظل العجوز
وإن بلغ العجوز إليك نقداً ... فحررها بوزنك بالعجوز
وسر نحو العجوز بقصد صدق ... فقصد الصدق أنفع للعجوز
ومن يولي العجوز قلا وهجرا ... فذاك أعز من بيض العجوز
ومن ربط العجوز على عجوز ... أضر بمن يجوز على العجوز
وفي سيتي عجوزكم اضطراب ... فسوهما وصد جأب العجوز
وقد ناط الإمام بنا عجوزاً ... وسرنا تحت خافقة العجوز
وما للمرأ آنس من عجوز ... إذا ما حم من رب العجوز
وطلق ذي العجوز وكن مجداً ... على تحصيل هاتيك العجوز
فكم فوق العجوز من استجابت ... لدعوته ملائكة العجوز
علته من عرى التقوى عجوز ... تطنب بالأمان من العجوز
سألت الله يبقي لي عجوزاً ... ويكفيني تباريح العجوز
قلت بقي للعجوز معان أخرى لم ينظمها الشيخ، فنظمتها بتوفيق الله تعالى فقلت:
ومن ركب العجوز فلا يبالي ... إذا ما اضطر من أكل العجوز
ولا تخلي عجوزك من سهام ... إذا ما استطعت أعمال العجوز
وكلم أمسى عجوز في عجوز ... بمرتبة أجل من العجوز
ورب فتى يرى نقع العجوز ... بمفرقه أجل من العجوز
ولا ترج الجسيم فكم عجوز ... لعمر الله أجدى من عجوز
ولا ترم الصغير فكل عضب ... لقبضته افتقار للعجوز
عسى عدل يزول الجور منه ... وترعى الشاة فيه مع العجوز
وقد جمع الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن الشيخ أبي الحسن علي بن تمام السبكي معاني العين في قصيدة نظمها في أخيه قاضي القضاة جمال الدين حسين، يهنيه بالتدريس في بعض المدارس. وكتب مقابل كل واحدة تفسيرها وهي:
هنيئاً قد أقر الله عيني ... فلا رمت العدى أهلي بعين
وقد وافى المبشر لي فأكرم ... بخير ربيئة وافى وعين
يخبرني بأن أخي أتاه ... مناه وسعده من كل عين
فلو سمح الزمان لكنت أعطي ... له ما فيه من ورق وعين
ألا يا شامة الشام افتخاراً ... بمن بسناه يغشو كل عين
فتى إن عدت الأعيان قالت ... له الأيام إنك أنت عيني
وحبركم حوى من بحر علم ... يروي الطالبين بكل عين
ويلقي في العلوم لكل وفد ... غزير فوائد كغدير عين
وواسطة لعقد بني أبيه ... كأوسط لفظة تدعى بعين
وقاض أمره في الناس ماض ... فلا يخشى من استقبال عين
(1/27)
________________________________________
وينصب بينهم قسطاس حق ... خلت من كل تطفيف وعين
له نواران من ورع وعلم ... تخالهما كبدر دجى وعين
بصير عدله ذا المطل عدلا ... ويجعل كل ذي شخص وعين
ويحجب من تأمله صبيا ... كما حجب الغزالة ضوء عين
لئن شرفت دمشق به ومصر ... فقد سارت محاسنه لعين
وتعظم كل أرض حل فيها ... ولو حقرت حقارة رأس عين
يجود بكل ما في راحتيه ... إذا بخلت بنو الدنيا بعين
ويوسع للورى بادي القرى إن ... مزادة غيره شحت بعين
وعم نداه في شرقٍ وغرب ... فلم يحوج إلى شاق وعين
جمال الدين فضلك ليس يحصى ... فدونك قطرة من سحب عين
برغمي أن أهني من بعاد ... وحقي أن أجيء لكم بعين
ومذ سفه المعيشة غيبتني ... وراسك لم أفز فيها بعين
ولو أستطيع جئت ولو جثيا ... على ركبي إليك بكل عين
ولولا ما أروم من التلاقي ... لأذهب بينكم نفسي وعيني
وكنت كعين قطر سال قدما ... فما أزكى وأحسن سيل عين
متى ألقاكم من عين شمس ... وقد حلت ركابكم بعين
وهن أخاك تاج الدين عني ... فإن كليكما خلي وعيني
وقوماً وادعياً لأبيكما إذ ... لنا منه أبر أب وعين
به زكت الفورع وطاب منه ... غصون أخرجتها خير عين
فدام بقاؤه ما لاح برق ... وأطرب صوت قمري وعين
ولا زالت أعاديه تردى ... بكل مذلة وبكل عين
ومن ينظر إليه بعين سوء ... يقابله الإله بكل عين
وقد جمعت معاني العين طرأ ... قصيدي لم تدع معنى لعين
فلو عاش الخليل لقال هذي ... معان ما رأتها قط عين
وقد ضاقت قوافيها وركت ... وذلك لالتزام لفظ عين
ولو لم التزم هذي لفاقت ... قصد أديب أرض الجامعين
ولولا ذا لطاب لها ختام ... بذكر مليكها القاضي حسين
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في رشف الزلال: والهلال اسم مشترك فقال:
أٌول وربما نفع المقال ... إليك سهيل إذا طلع الهلال
تكاثرني بآلات المعاني ... وكيف يكاثر البحر الهلال
أتطمع أن تنال المجد قبلي ... وانى يسبق النجب الهلال
وتبسم حين تبصرني نفاقاً ... وشخصي في جوانحك الهلال
وتبطن شرة في لين مس ... كما لانت مع اللمس الهلال
وتنتظر الرزايا بي ولكن ... عليك تدور بالشر الهلال
كأن وجوههم في كل مثوى ... وفرط صلابة في الهلال
وأعراضاً أذيلت للأهاجي ... كما يبدو على القدم الهلال
وما تغني الكتائب عن صدوع ... بها أن يرأب الصدع الهلال
وأعجب كيف يكرمكم كتاب ... وأعجب من لبيبكم الهلال
وقد زاد على ذلك الإمام شرف الدين ابن بنت أبي سعيد القاهري فعدها سبعة عشر فقال:
إن شعري قد حط سعري حتى ... صار قدري كمثل قدر الهلال
ثم نحوي جر المكاره نحوي ... فاعتراني منها كلسع الهلال
وأصول الفروع وصولي ... لمرامي فبعده كالهلال
وأصول الكلام منها كلامي ... فتخلفت في الورى كهلال
ثم حرزي قد جر حرزي حتى ... ربط الذل بي كربط الهلال
وعروضي قد حط قدر عروضي ... فرماني صحبي كرمي الهلال
ثم ظبي لأجله زال طيبي ... وأتاني بمثل طعن الهلال
وبياني قد جث كسب بناني ... بعد صيدي به كصيد الهلال
ثم نثري مثل النثار ومنه ... خف رزقي عني بمثل الهلال
علم الأنساب حال الأنساب عني (كذا) ... فأتى الدهر لي بطحن الهلال
ثم خطى قد حط حظي حتى ... فاتني في الورى جميع الهلال
وكذا الرمل أثقل الرأس مني ... وكساني ثوبا كمثل الهلال
ونجومي تحت التخوم رمتني ... بعد وردي كود الهلال (كذا)
ولقد كنت أنشر العلم دهراً ... لست فيه مواجراً كالهلال
فتركت العلوم مما دهاني ... بعد سبقي كل الورى في الهلال
وتصوفت إذ سبقت البرايا ... بخشوع وفقتهم في الهلال
ثم إني زهدت في الزهد أيضاً ... بعد أن كنت لاحقاً بالهلال
وما أحسن قول الحريري في مقاماته في هذا النوع:
(1/28)
________________________________________
لا تبك ألفا نأى ولا دارا ... ودر مع الدهر كيفما دارا
واتخذ الناس كلهم سكنا ... ومثل الأرض كلها دارا
واصبر على خلق من تعاشره ... وداره فاللبيب من دارى
ولا تضع فرصة السرور فما ... تدري أيوماً تعيش أم دارا
واعلم بأن المنون جائلة ... وقد أدارت على الورى دارا
وأقسمت لا تزال قانصة ... ماكر عصرا المحيا وما دارا
وكيف ترجو النجاة من شرك ... لم ينج منه كسرى ولا دارا
وأما الجناس المطرف: فهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر بحرف في طرفه الأول، وهو عكس المذيل. فإن المذيل تكون الزيادة في آخره كما مر، فهي كالمذيل. وقد يسمى هذا الجناس، المردوف، والناقص. وفي تسميته اختلاف كثير، ولكن المطرف أولاها، لأنه مطابق للمسمى، إذا الزيادة فيه كالطرف لأنها في أوله. وخير الأسماء ما طابق المسمى.
وهذه الزيادة قد تكون في أول الركن الثاني، كقوله تعالى: (والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق) وقول البستي: عسى تحظى في غدك برغدك. وقول الأهوازي: من حسنت حاله استحسن محاله.
وقول أبي الحسن الباخرزي:
سأعمر بالشراب شباب عمري ... فترك الشرب قبل الشيب لوم
وأبذل فضل مالي قبل موتي ... فمورث ماله عندي ملوم
وقول الآخر:
يا ناقلاً قول الذي ... في العرض مني قد لغا
أقصر فما اسمعني ... سوء سوى من بلغا
وقول ابن جابر الأندلسي:
فيا راكب الوجناء هل أنت عالم ... فداؤك نفسي كيف تلك المعالم
وقوله أيضاً:
صاد قلبي وصدعني صدودا ... وانثنى يسحب الذوائب سودا
فرأيت الصباح في الليل يبدو ... وشهدت الرشا يصيد الأسودا
وقول الثعالبي:
هذه ليلة لها بهجة الطاوو ... س حسنا واللون الغدافِ
رقد الدهر فانتبهنا وسارقنا حظا من السرور الشافي
بمدام صاف وخل مصاف ... وحبيب واف وسعد مواف
وقول أبي الحسن علي بن الأنجب المالكي:
ولمياء تحيي من تحيي بريقها ... كأن مزاج الراح بالمسك من فيها
وما ذقت فاها غير أني رويته ... عن الثقة المسواك وهو موافيها
وقول أبي الفتح البستي:
يا غزالاً أره ند وصدا ... بعد أن كان للوصال تصدى
بيننا للرقيب سد فلا تج ... مع على ذي الهوى من السد صدا
وقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني:
كبر على العلم يا خليلي ... ومل إلى الجهل ميل هانم
وكن حماراً تكن سعيدا ... فالسعد من طالع البهائم
وقول الآخر:
أيام أنسي قد كانت بقربكم ... بيضاً فحين نأيتم أصبحت سودا
ذممت عيشي مذ فارقت أرضكم ... من بعد ما كان مغبوطاً ومحسودا
وقول المستظهر من خلفاء المغرب:
يا غزالاً نقض العه ... د ولم يوف بوعد
أنسيت العهد إذ بت ... نا على مفرش ورد
ونجوم الليل تسري ... ذهباً في لازورد
وقول أبي الحجاج الأندلسي الداني:
أبى الله إلا أن أفارق منزلا ... يطالعني وجه المنى في سافرا
كأن على الأيام حين غشيته ... يميناً فلم أحلله إلا مسافرا
وقول ذي الوزارتين أبي عبد الله محمد بن الخطيب:
أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذاك الدهر حال بعد حال
وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال
ومن سام الزمان دوام حال ... فقد وقف الرجاء على المحال
وقول شيخنا محمد بن علي الشامي:
قام للناس في العشية سوق ... من فسوق وقام لي ألف سوق
وقد تكون في أول الركن الأول، كقول أبي علي الحسين بن أبي الطيب الباخرزي، وهو والد الأديب أبي الحسن علي الباخرزي المشهور صابح دمية القصر: أنزه المناظر والمجالس، ما سار فيه ناظر الجالس.
وقول البستي: اشتغل عن لذاتك، بعمارة ذاتك. وقوله:
أبا العباس لا تحسب بأني ... لشيبي من حلي الأشعار عار
فلي طبع كسلسال معين ... زلال من ذرى الأحجار جار
إذا ما أكبت الأدوار زندي ... فلي زند على الأدوار وار
وقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني:
وكم سبقت منه إلي عوارف ... ثنائي من تلك العوارف وارف
(1/29)
________________________________________
وكم غرر من بره ولطائف ... لشكري على تلك اللطائف طائف
وقول الصفدي:
تذكرت عيشا مر حلواً بكم فهل ... لأيامنا تلك الذواهب واهب
وما انصرفت آمال نفسي لغيركم ... ولا أنا عن دعوى الرغائب غائب
سأصبر كرهاً في الهوى غير طائع ... لعل زماني بالحبائب آيب
وقول أبي الحسن الباخرزي وفيه شاهد للنوعين:
فترت لواحظك المراض ولم تزل ... تلك الفواتر في القلوب فواتكا
اليوم أجهر بالعتاب فكم وكم ... أسبلت أذيالي على هفواتكا
وإذا التفت إلى هواك أفادني ... برد السلو تذكري جفواتكا
يا من وفاتي في فوات وصاله ... فت الحسان فوات قبل فواتكا
وقول الآخر:
لأديمن مديح المصطفى ... فعلى من في الله قوى طمعه
فعسى أنعم في الدنيا به ... وعسى يحشرني الله معه
وقول الآخر:
إنما هذه الحياة متاع ... فالجهول الجهول من يصطفيها
ما مضى فات والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أنت فيها
وقولي من قصيدة مرثية في الحسين بن علي عليهما السلام:
يا مصاباً قد جرع القلب صابا ... كل صبر إلا عليك جميل
ومن بديع ما وقع من هذا النوع في النثر قولهم: النبيذ بغير النغم غم وبغير الدسم سم. وقول بعض الفضلاء في ذم الدنيا: إن قبلت بلت، أو أدبرت برت، أو واصلت صلت، أو أيسرت سرت، أو أطنبت نبت أو أسفت سفت، أو عاونت ونت، أو نوهت وهت.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله:
من شأنه حمل أعباء الهوى كمدا ... إذا همى شأنه بالدمع لم يلم
فالتام في قوله: (شانه) و (شانه) . والمطرف في قوله: (لم) (يلم) .
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
مذ تم للعين أنس حين طرفها ... مرأى ****** ببذل العين لم ألم
وبيت ابن حجة قوله:
يا سعد ما تم لي سعد يطرفني ... بقربهم وقليل الحظ لم يلم
وبيت بديعيتي هو قولي:
يا زيد زيد المنى مذ تم طرفني ... وقال هم بهم تسعد بقربهم
التام في قولي (زيد) و (زيد) . فالأول علم، والثاني بمعنى المزيد.
والمطرف في موضعين من عجز البيت، أحدهما في (هم) و (بهم) ، والثاني في (بهم) و (بقربهم) . والمعنى: إن مزيد المنى مذ تم ووصل إلى حد لا زيادة عليه، أطرفه برحاء وصلهم، وقال له: جن عشقاً بهم فإنك تسعد بقربهم وتحظى بوصلهم. والهيام بالضم كالجنون من العشق.
وقد تقدم أن الشيخ عبد القادر قرن اللاحق بالتام، ومر إنشاد البيت المشتمل عليهما وهو قوله:
يا خير ما تم لي خير يلاحقني ... به ولم يرع شرع الحب كالعجم
فالتام في قوله (خير) و (خير) . ولا خفاء في أن هذا الصدر نسخ به صدر بيت ابن حجة، ولو عاش لما صبر له على هذه السرقة الفاحشة. وقرن الجناس المطرف باللفظي والمقلوب، وسيأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
وبيت المقري قوله:
فدمعي السائل المحروم سائله ... وسائلي نحوكم يا جيرة العلم
الجناس المصحف والمحرف
كم عاذل عادل عنهم يصحف لي ... ما حرفته وشاة الظلم في الظلم
من أنواع الجناس: المصحف والمحرف. فالمصحف هو ما تماثل ركناه في الحروف. وتخالفا في النقط، كقوله تعالى: (والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) وقوله تعالى: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) وقوله تعالى: (قل إن لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا) .
وقوله) صلى الله عليه وآله وسلم (لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب) عليه السلام (: قصر ثوبك فإنه أنق وأبقى وأتقى.
وقول أمير المؤمنين) عليه السلام (فيما كتب به إلى معاوية: غرك عزك فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك، فعلك بهذا تهدا.
وقول بعض السلف: لو كنت تاجراً ما اخترت غير العطر. إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه.
وقوله: من سعادة جدك، وقوفك عند حدك.
وقوله: اجهل الناس من كان للإخوان مذلاً، وعلى السلطان مدلا.
وقول أبي الفتح البستي: إذا ما بقي ما قاتك، فلا تأس على ما فاتك.
وقوله: طوبى لمن عقله يغنيه عما لا يعنيه.
وقول أبي علي الباخرزي: العذل على البذل فعل النذل.
(1/30)
________________________________________
ومن لطيف ما يحكى في هذا الباب؛ ما ذكر أن أحمد بن أبي خالد عرض القصص يوماً بين أيدي المأمون فمر بقصة مكتوب عليها: فلان اليزيدي؛ فصحفه وقال: الثريدي. فضحك المأمون وقال يا غلام، ثريدة ضخمة لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً، فخجل أحمد وقال: والله ما أنا جائع يا أمير المؤمنين ولكن صاحب هذه الرقعة أحمق، وضع علي يائه ثلاث نقط كأثا في القدر. فقال المأمون: عد عن هذا فإن النقط شهود زور، والجوع اضطرك إلى ذكر الثريد. فلما أتى بالثريد احتشم أحمد من أكله، فقال المأمون: بحقي عليك إلا ما أكلت منه، فترك القصص ومال إلى الصحفة، فأكل قليلاً ثم دعا بالماء. فغسل يده منه ورجع إلى القصص، فمر بقصة عليها مكتوب: فلان الحمصي، فقرأ، الخبيصي، فضحك المأمون وقال: يا غلام، جام خبيص؛ فإن غذاء أبي العباس كان أبتر، فخجل وقال: يا أمير المؤمنين، صاحب هذه القصة أحمق من الأول، فتح الميم فصارت كأنها سنان. قال دع عنك، فلولا حمق هذا والأول مت جوعاً. فأتى عليك إلا ما ملت نحوه، فانحرف إليه وأكل منه، ثم غسل يديه وانصرف إلى القصص فاحترز في قراءتها، وتثبت في حروفها، فما حرف حرفاً حتى أتى على آخرها.
وقول أبي الحسن الأهوازي: من أحسن الاختبار أحسن الاختيار.
وقوله: من فعل ما شاء، لقي ما ساء.
ومثاله من النظم قول بعضهم:
يقو العدو ويصغي الصدي ... ق وشر من القائل القابل
وقول البحتري:
ولم يكن المغتر بالله إذا سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه
وقول أبي فراس بن حمدان:
من بحر جودك أغترف ... وبفضل علمك أعترف
وما ألطف قول البهاء زهير:
وأعجبني التجنيس بيني وبينه ... فلما تبدى اشنبا رحت أشيبا
ومنه قول أبي الطيب ونبه على التصحيف:
جرى الخلف إلا فيك أنك واحد ... وأنك ليث والملوك ذياب
وأنك إن قويست صحف قارئ ... ذياباً فلم يخطئ وقال ذباب
ومثل قول أبي نواس يهجو أبان اللاحقي:
صحف أمك إذا سم ... تك في المهد أبانا
قد علمنا ما أرادت ... لم ترد إلا أتانا
وما أحسن قول الصفي الحلي:
وذي مرح عارضته في طريقه ... فلما رآني قال امض لشانكا
فقلت له فال سعيد مبشر=بتصحيفه أني أمص لسانكا وقول الصفدي فيمن أهدى إليه سكراً:
جائني برك الذي جعل الغي ... ث له حاسداً وفيه تفكر
فاقتسمنا التصحيف لفظاً ومعنى ... لك مني شكر ولي منك سكر
تنبيه: قال المعري: أصل التصحيف، أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب.
قال المطرزي: والتصحيف أن يقرأ الشيء على خلاف ما أراده كاتبه أو على غير ما اصطلحوا عليه. انتهى.
واصطلح الأدباء على تقسيمه إلى قسمين: أحدهما التصحيف المنظم، وهو المذكور في البديعيات، وقد مر مثاله. والثاني التصحيف المضطرب.
قال الفخر الرازي في نهايته: وهو الذي لا بد فيه من فصل الحروف المتصلة، أو وصل الحروف المنقطعة، مثل قولهم: ست خصال، تفسيره: شيخ ضال.
قال السكاكي في المفتاح: وقف رجل على الحسن البصري فقال: اعتمر، أخرج، أبادر؟. فقال الحسن: كذبوا عليه، ما كان ذاك. أراد السائل: أعثمان أخرج أبا ذر؟.
وحكي أن المعتصم قال لطباخه: حاسب رشيد، فقال مقراض. أراد (?اشت رسيد) يعني: أدرك غداؤك؟ - بالفارسية - وأراد بالمقراض: لا.
وقال المتوكل يوماً ليحيى بن ماسويه الطبيب: بعت بيتي بقصرين - أي تعشيت فضرني - فقال له: أخر العدى - أي أخر الغداء-. وغاب عن الصاحب ندماؤه ليلة فقال: سمسم، أراد: بيت من بتم.
وكان أبو طلحة قسوة بن محمد من أولع الناس بالتصحيفات، فقال له أبو أحمد الكاتب يوماً: إن أخرجت لي مصحفاً أسألك عنه، وصلتك بمائة دينار، فقال: أرجو أن لا أقصر في إخراجه. فقال أبو أحمد: في تنور هيثم جمد. فوقف حمار أبي طلحة وتلبد طبعه فقال: إن رأى الشيخ أن يبلعني ريقي، ويمهلني يوماً فعل. قال: قد أمهلتك سنة. فحال الحول. ولم يقطع شعرة، فلم أقر بعجزه سأله أن يبينه له فقال له: هو اسمك، قسورة بن محمد، فازداد خجله وأسفه. وعلى ذكر أبي طلحة، فإنه كان كوسجا وفيه يقول اللحام:
ويك أبا طلحة ما تستحي ... بلغت ستين ولم تلتح
(1/31)
________________________________________
وكان في حضرته بعض أصحابه يقرأ القرآن فوصل إلى قوله تعالى: (كأنهم حمر مستنفرة) فلم يجسر على ذكر قسورة، فقال: فرت من الشيخ أطال الله بقاه.
لطيفة: من التصاحيف المستحسنة ما ذكره صاحب المحاضرات: إن حما الراوية، كان لا يحسن القرآن، فقيل له لو قرأت القرآن فأخذ المصحف، ولم يزل إلا في أربعة مواضع كلها مناسبة للمعنى (قال عذابي أصيب به من أساء) فصحف الياء المثناة من تحت بالباء الموحدة. (ج) (ومن الشجر ومما يغرسون) فصحف العين المهملة بالمعجمة والشين المعجمة بالمهملة. (د) (بل الذين كفروا في غرة وشقاق) فصحف العين المهملة بالمعجمة والزاي بالراء المهملة. وقد ذكرت جملة مقنعة من مستحسنات التصحيف في الرسالة التي ألفتها في المعمى، فمن أرد ذلك فعليه بها.
والجناس المحرف: - هو ما تماثل ركناه في الحرف، وتغايراً في الحركات، سواء كانا من اسمين أو فعلين، أو اسم وفعل وغير ذلك، كقوله تعالى: (ولقد أرسلنا فيهم منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) .
وقوله) صلى الله عليه وآله وسلم (: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي.
وقول الأهوازي: أعيا الناس من أطال الخطبة وأساء الخطبة.
وقولهم رطب الرطب، ضرب من الضرب.
وقول أبي تمام:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
وقول أبي العلاء المعري:
لغير زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمالٍ فاذكري ابن سبيل
وقوله:
والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيتٍ من الشعر أو بيت من الشَعر
وقول الآخر:
قلب وقُلب في يدي ... ك معذب ومنعم
ظمآن يطلب قطرة ... تشفي صداه وتفعم
وقول ابن جابر الأندلسي: حل عقد الصبر مني عقدها=إذ سبت قلبي بما في قلبها وقول الآخر، وفي البيت الأول شاهد للمصحف أيضاً:
لا ترم من مماذق الود خيرا ... فبعيد من السراب الشراب
رونق كالحباب يعلو على الما ... ء ولكن تحت الحباب الحباب
عذبت في النفاق السنة القو ... م وفي الألسن العذاب العذاب
وزعم بعضهم أن منه قول ابن عبدون:
الشعر خطة خسف ... لكل طالب عرف
للشيخ عيبة عيب ... وللفتى ظِرف ظَرف
وليس كذلك بل هو من الجناس التام، فإن الظرف على وزه فلس بمعنى الوعاء، وبمعنى الكياسة معاً، وما اشتهر من أن الظرف بمعنى الكياسة بالضم فغلط.
ومنه قول الآخر:
ظننت به الجميل فجبت أرضاً ... إليه كهنتي طولا وعرضا
فلما جئته ألفيت شخصاً ... حمى عرضاً له وأباح عرضا
وقول أبي القاسم السلمي:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما ... بالطوُّل والطَّول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطَّول ليلى وإن جادت به بخلا
وقول المطراني:
أخو الهوى يستطيل الليل من سهر ... والليل من طوله جار على قدر
ليل الهوى سنة في الهجر مدته ... لكنه سِنة في الوصل من قصرِ
وقول أبي بكر الخوارزمي:
يا شادنا مت قبله ... قد صار في الحسنِ قبلَه.
أمنن علي بقُلبه
ومثله قول الشيخ عبد الرحمن المشردي:
من كان صاحب قدر ... أو كان صاحب قدره
فليتخذ من نضار ... لطابة الأنس قدره
فالشيء يزداد ظرفاً ... إن ناسب الشيء قدره
وقولي في مطلع قصيدة:
اسقياني على اقتراح العذارى ... واعذرني فقد خلعت العذارا
وقلت بعده:
شمس راح من كفَ خود رداح ... شخصت فيهما العيون حيارى
أشرقت في الكؤوس نوراً وقدما ... عبدتها المجوس في الدن ونارا
اجلواها والدهر طلق المحيا ... والقماري تنادم الأقمارا
في عذارى كأنهن رياض ... ورياض كأنهن عذارى
لا تلوما فما التصابي بعار ... قبل يسترجع الصبا ما أعارا
ودعاني مجاهراً في غرامي ... إن داعي الهوى دعاني جهارا
أمعيراً الظبي شبا وغرارا ... لحظه والظبا رنا وأحورارا
ما لقلبي يزيد فيك غراماً ... كلما زدت عن هواه نفارا
أي قلبي مما هام فيك ولكن ... زاد قلبي بحبك استهتارا
خاطرت في هواك مهجة صب ... هويت منك ذابلاً خطارا
(1/32)
________________________________________
من يباريك يا منى النفس حسناً ... لا وعينيك لست ممن يبارا
رب ليل قصرته بلقاه ... وليالي الهنا تكون قصارا
رضته بالمدام حتى إذا ما ... تركته لا يستبد اختيارا
نلت ما شئت من هواه ولولا ... عفة الحب لارتكبت العارا
وقد اشتملت هذه القطعة على جملة من أنواع الجناس كما لا يخفى.
وبيت الشيخ صفي الدين في الجناسين المذكورين قوله:
من لي بكل غرير من ظبائهم ... عزيز حسن يداوي الكلم بالكلم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
هل من تقي نقي حين صحف لي ... محرف القول زان الحكم بالحكمِ
وبيت ابن حجة قوله:
هل من يقي ويفي أن صحفوا عذلي ... وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم
وبيت الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
عزيز دمعي غزير منذ صحف من ... تحريفه زاد منه الحكم بالحكمِ
هذا البيت يجري فيه ما قاله ابن حجة في بيت عز الدين الموصلي: أما التصحيف والتحريف فيه فظاهر. وأما المعنى فالسريرة عند الله.
وبيت بديعيتي هو قولي:
كم عاذل عادل عنهم يصحف لي ... ما حرفته وشاة الظلم في الظلم
وبيت إسماعيل المقري قوله:
أكثرت يا شوق من سوق الهموم إلى ... قلب من الهم لا يخلو ولا الهمم
أما التصحيف في هذا البيت فظاهر، وأما التحريف فقال الناظم في شرحه: هو في (الهم) و (الهمم) . فإن الهم على وزن الكلم، لكنه أدغمت الميم في الميم لما تماثلتا فهما ميمان. انتهى.
قلت: هذا صحيح لو ساعده اصطلاح البديعين. ولكن ليس الأمر كما توهم. قال صاحب التلخيص: والحرف المشدد في هذا الباب في حكم المخفف. قال التفتازاني في شرحه: لما كان المشدد يرتفع اللسان عنه دفعة واحدة، كحرف واحد، عد حرفاً واحدا. انتهى. نعم يحسب المشدد بحرفين في اصطلاح الصرفيين والعروضيين. فاعلم ذلك.

الجناس اللفظي والمقلوب
ظنوا سلوي إذ ظنوا فما لفظوا ... بذكر أنس مضى للقلب في أضم
من أنواع الجناس: اللفظي والمقلوب. أما الجناس اللفظي فهو ما تماثل ركناه وتجانسا خطاً، وخلف أحدهما الآخر بإبدال حرف فيه مناسبة لفظية، كما يكتب بالضاد والظاء وشاهد من القرآن الكريم قوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) فالأولى من النضارة وهي النعمة والحسن. والثاني من النظر.
ومثله قوله الصفي الحلي في مطلع قصيدة نبوية:
كفى البدر حسناً أن يقال نظيرها ... فيزها ولكنا بذاك نضيرها
وحسب غصون البان أن قوامها ... يميس به ميادها ونضيرها
وقول بعض المغاربة:
عطف القضيب على النسيم تميلا ... والنهر موشى الخمائل والحلى
تركته أعطاف الغصون مظللا ... ولنا عن النهج القويم مضللا
وألحقوا بذلك ما يكتب بالهاء والتاء، أو بالتنوين والنون.
فالأول كقول البستي:
إذا جلست إلى قوم لتؤنسهم ... بما تحدث من ماض ومن آت
فلا تعيدن حديثاً أن طبعهم ... موكل بمعاداة المعادات
والثاني كقول الباخرزي:
أروح وفي الحلق مني شجى ... وأغدو وفي القلبي مني شجن
وقول الأرجاني:
وبيض الهند من وجدي هواز ... بإحدى البيض من عليا هوازن
وقول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني:
أحسن خلق الله وجهاً وفما ... إن لم يكن أحق بالحسن فمن
حكى الغزال مقلة ولفتة ... من ذا رآه مقبلاً ولا افتتن
وعارض الشيخ صفي الدين بيت الأرجاني بقصيدة أولها:
لسيري في الفلا والليل داج ... وكري في الوغى والنقع داجن
وحملي مرهف الحدين ظام ... لحامله وجود النصر ضامن
في هذا البيت شاهد على ما نحن فيه من جهتين. وبعده:
وهزي ذابلاً للخيل مارٍ ... يلين بهزه صدرا ومارن
وركضي أدهم ال***اب صاف ... خفيف الجري يوم السلم صافن
وخطوي تحت راية ليث غاب ... بسطوته لصرف الدهر غابن
شديد البأس ذي أمر مطاع ... مضارب كل قوم أو مطاعن
أحب إلي من تغريد شاد ... وكأس مدامة من كف شادن
إلى آخر القصيدة. وعارض بيتي التلمساني بقصيدة أولها:
كم قد أفضنا من دموع ودما ... على رسوم للديار ودمن
وكم قضينا للبكاء منسكاً ... لما تذكرنا بهن من سكن
(1/33)
________________________________________
معاهداً تحدث للصبر فناً ... إن ناحت الورق بها على فنن
تذكارها أورث في الحلق شجى ... وفي الحشا قرحاً وفي القلب شجن
لله أيام لنا على منى ... فكم لها عندي أياد ومنن
كم كان فيها من فتاة وفتى ... كل لقلب المستهام قد فتن
وتتمتها في ديوانه: وهذا النوع قليل جداً، وأصعب مسالكه ما كان بالضاد والظاء، لأجل إبدال الحرف الذي في المناسبة اللفظية.
وأما الجناس المقلوب، ويسمى جناس العكس أيضاً، فهو ما تساوت حروف ركنيه عدداً، وتخالفت ترتيباً، كقوله تعالى حكاية عن هارون: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) وقول النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (: اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا.
ومن لطيف هذا النوع ما حكاه الثعالبي في اليتيمة عن أبي الحسين بن فارس قال: كنت عند الأستاذ، يعني أبا الفتح بن محمد بن العميد، في ويوم شديد الحر، فرمت الشمس بجمرات الهاجرة، فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه؟ فلم أحر جواباً، لأني لم أفطن لما أراد. ولما كان بعد هنيئة أقبل رسول الأستاذ الرئيس - يعني ابن العميد - يستدعيني إلى مجلسه. قمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم ضاحكاً إلي وقال: ما قول الشيخ في قلبه؟ فبهت وسكت، وما زلت أفكر حتى انتهيت إلى أنه أراد الخيش. وكان من يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه أتاه بتلك اللفظة في تلك الساعة، فدعاني ولفرط سروره بها أراد مجاراتي فيها. انتهى.
وأراد بالخيش، مروحة الخيش وهي شبيهة بشراع السفينة، تعلق بالسقف، ويتروح بها في الصيف، وترش بالماء أو الماء ورد لتكون أبرد. وتعلق بحبل يراد به حركتها، فإذا أراد الرجل النوم جذبها بحبلها، فتذهب بطول البيت وتجيء، فيهب على الإنسان منها نسيم بارد طيب الرائحة، فيذهب عنه أذى الحر ويستطيب النوم، وهي فوقه ذاهبة جائية، وتستعمل ببلاد العراق.
ويقال أن أول من أحدثها هارون الرشيد، وذلك أنه دخل يوماً على أخته علية بنت المهدي. في يوم قيظ. فألفاه قد صبغت ثيابها بزعفران وصندل ونشرتها على الحبال لتجف، فجلس الرشيد قريباً من الثياب المنشورة فصارت الريح تمر على الثياب فتحمل منها نشراً طيباً، فوجد لذلك راحة من الحر واستطابه، فأمر أن يصنع له مثل ذلك.
ومن شواهد هذا النوع من النظم قول العباس بن الأحنف:
حسامك فيه للأحباب فتح ... ورمحك منه للأعداء حتف
ومن غاباته قول عبد الله بن رواحة يمدح النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (:
تحمل الناقة الادماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما
ومنه قول أبي تمام:
بيض الصفائح لأسود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والربيع
وقول ابن حيوس:
تلقى بها الرواد روضاً زاهراً ... وتصادف الوارد حوضاً مفعما
وقول القاضي أبي بكر عبد الله بن أحمد البستي:
حكاني بهار الروض لما ألفته ... وكل مشوق للبهار مصاحب
فقلت له ما بال لونك شاحباً ... فقال لأني حين أقلب راهب
وزاد على هذا المعنى ابن رشيق فقال:
يا حسن ما سمي البهار به ... لو تركته قيافة القائف
قلبته راهباً فأشعرني ... خوفاً وتأويل راهب خائف
وقول أبي عبد الله الغواص:
من عذيري من عذول في قمر ... قامر القلب هواه فقمر
قمر لم يبق مني حبه ... وهواه غير مقلبو قمر
ومثله قول قمر الدولة:
اجملي يا جمل إني ... رجل ما فيه قلبه
أو يكن ذاك فإني ... قمر ما فيه قلبه
وقول الآخر:
فقالت ترى ما بالذي أنت قانع ... به من هوانا معكوس قانع
وقول ابن العفيف مع زيادة التورية:
اسكرني باللحظ والمقلة ال ... كحلاء والوجنة والكاس
ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاس
وأخذ بعضهم هذا المعنى وزاده قلباً وطباقاً فقال:
قلت مستعطفاً لساق سقاني ... من طلا نيل مصر أطيب كاس
أنت أشهى إلي منه ولكن ... قلبه لين وقلبك قاس
ومثله قول الصلاح الصفدي:
قلب الدن من أحب فأضحت ... نفح الند من حمياه تهدى
قال لي أعجب فقلت غير عجيب ... كل دن قلبته صار ندا
وقوله أيضاً:
قلت وقد سرت في الظلام وقد ... أهمني منه فقد أيناسي
(1/34)
________________________________________
كيف يطير الفؤاد من جزع ... وكل سار فقلبه راس
وقول أبي نصير أحمد بن الحسن الباخرزي:
من عاذري من عاذل قال لي ... ويحك كم تعشق يا مغرم
وآلم القلب ولا غرو إذ ... كل ملوم قلبه مولم
وأخذ بعد المتأخرين المتقدمين على عصرنا بقليل هذا المصراع، وجعله صدراً لعجز البيت الأخر من بيتي ابن العفيف، أما عمداً أو اتفاقاً فقال:
كل ملوم قلبه مولم ... وكل ساق قلبه قاسِ
ومنه قول النيلي:
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنك البعادُ
وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع عادوا
وما ألطف قول الوداعي في مليح ينتف:
تعشقت ظبياً ناعس الطرف ناعما ... إلى أن تبدا الشعر والشعر ألوان
فقالوا أفق من حبه فهو ناتف ... فقلت عكستم إنما هو فتان
وبديع يقول ابن نباتة في الأمير بهرام:
قيل كل القلوب من ... رهبة الحرب تضطرب
قلت هذا تخرص ... قلب بهرام ما رهب
وقول الآخر:
وألفيتهم يستعرضون حوائجاً ... إليهم ولو كانت عليهم جوائحا
وقول أبي القاسم الهرندي:
إن بين الضلوع مني ناراً ... تتلظى فكيف لي أن أطيقا
فبحقي عليك يا من سقاني ... ارحيقا سقيتني أم حريقا
وقول الآخر:
قلت لما لاح لي من ... ها شعاع وبريق
أشقيق أم عقيق ... أم حريق أم رحيق
ومن الغايات في هذا الباب قول القائل:
لبق أقبل فيه هيف ... كلما أملك إن غنى هبه
ومثله قول بعضهم نثراً: أرض خضرا فيها أهيف وأعلى منه قول سيف الدين المشد:
ليل أضاء هلاله ... أنى يضيء بكوكبِ
وهذا مما لا يستحيل بالانعكاس. وسيأتي الكلام عليه في محله إن شاء الله تعالى.
وما أحسن قول ابن جابر الأندلسي:
بين نعمان وسلع ملأ ... ليس منهم لمحبٍ ألمُ
كلفي منهم ببدر حل في ... فلك العلياء فاعرف من هم
وقوله أيضاً:
قد بان عذري في مليح له ... لحظ رشا يلحظ عن ذعرِ
إني على الهجر مطيع له ... ممتثل في السر والجهر
وقوله أيضاً:
أبدا أبسط خدي أدبا ... لكم يا أهل ذاك العلمِ
أملي أني أرى ربعكم ... فبه يذهب عني ألمي
وقتل أنا مع زيادة التورية:
ورب ساق قلبه قلبه ... أفديه من قاس ومن ساقِ
تحارب العشاق في حسنه ... فقامت الحرب على ساق
وأحسن ما في هذا الباب أن يكون أول البيت كلمة مقاويها قافيته كقول بعضهم:
رقت شمائل قاتلي ... فلذاك روحي لا تفر
رد ****** جوابه ... فكأنه في اللفظ در
ومثله قول الصلاح الصفدي:
رضت فؤادي غادة ... ما كنت أحسبها تضر
ردت سؤالي خائباً ... فمدامعي أبداً تدر
وقول آخر:
أهديت شيئاً يقول لولا ... أحدوثة الفال والتبر
كرسي تفاءل فيه لما ... رأيت مقلوبه يسرك
تنبيه - لم يعتبر أكثر علماء البديع في الجناس المقلوب، قلب الحروف من كل وجه، بل اكتفوا بقلب حرف واحد أو حرفين أو حرفين من أحد الركنين كما رأيت، فيسمون كلاً مما كان أحد ركنيه عكس الآخر كما في (كرسي) و (يسرك) وما كان أحد الركنين منه مخالفاً ترتيب الآخر ببعض حروفه مقلوباً، ومنهم من فرق بين الأول والثاني، فخص الأول باسم المقلوب وجناس العكس، والثاني بجناس التصريف وقلب البعض.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين في الجناس اللفظي والمقلوب قوله:
بكل قد نضير لا نظير له ... ما ينقضي أملي منه ولا ألمي
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
لفظي حضي على حظي يمانعه ... مقلوب معنى ملا الأحشاء بالألمِ
قال ابن حجة: أما قوله: مقلوب معنى، فما دخل معناه إلى القلب؟.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قد فاض دمعي وفاظ القلب إذا سمعا ... لفظي عذل ملا الأسماع بالألم
قال في الشرح: شاهد الجناس اللفظي في البيت قولي (فاض) و (فاظ) فإن الأول من فيض الماء، والثاني من التلف. انتهى.
(1/35)
________________________________________
أقول: قال في القاموس في مادة (ف اض) فاض الماء يفيض فيضاً وفيوضاً بالضم والكسر، وفيوضة وفيضانا: كثر حتى سال كالوادي: وصدر بالسر باح، والرجل فيضاً وفيوضا: مات ونفسه خرجت روحه. انتهى. وقال في مادة (فاظ) - فاظ فوظاً وفواظا: مات، كفاظ فيظا وفيوظة وفيظانا محركة وفيوظا، وأفاظه الله، وفاظ نفسه: قاءها. وإذا ذكروا نفسه، ففاضت بالضاد. انتهى. إذا علمت هذا، فقوله فاظ القلب لا يتعين كونه بالظاء المشالة حتى يتعين فيه الجناس اللفظي، بل لو كتب بالضاد أو نطق به كذلك جاز، فيكون حينئذ من الجناس التام، لا من اللفظي، فيحصل الاشتباه فهو محذور. فالأولى اجتناب مثل هذا خصوصاً في البديعية.
وعلى ذلك فما ألطف قول أبي الحسن الباخرزي:
رعى الله أحبابنا الظاعنين ... وإن ضيعوا فيَّ شرط الحفاظ
فأحشاء أحبابهم بعدهم ... من النار مملوءة بالشواظ
فدمع يفيض ونفس تفيض ... وصبر يغاض وصب يغاظِ
وفي المصراع الأخير شاهد لما نحن فيه.
والشيخ عبد القادر الطبري جمع بين اللفظي والمقلوب والمطرف فقال:
قد غاض لفظي وغاظ القلب نقهته ... عن ربح حبر يتطرف فلم يلم
أنواع الجناس الثلاثة في هذا البيت، وأما معناه فالعلم عند الله تعالى.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ظنوا سلوي إذ ضنوا فما لفظوا ... بذكر أنس مضى للقلب في أضم
اللظفي في (ظنوا) و (ضنوا) فالأول بالظاء المشالة: من الظن الذي هو خلاف اليقين، والثاني بالضاد: من الضن وهو البخل، وقرئ قوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين) بالوجهين.
فبالظاء المشالة، بمعنى متهم، وهو من الظنة بالكسر، أي التهمة، وهي راجعة إلى الظن، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي. وبالضاد، بمعنى بخيل من الضن الذي هو البخل، أي لا يبخل بالوحي، فيزوي بعضه غير مبلغه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه، وهي قراءة نافع وعاصم وحمزة وابن عامر.
وشاهد الجناس المقلوب في البيت قولي: (مضى) و (أضم) ، فإن أضم مقلوب مضى. قال في القاموس وإضم كعنب: جبل والوادي الذي فيه المدينة المنورة) صلى الله عليه وسلم (على ساكنها وآله. عند المدينة يسمى القناة، ومن أعلى منها عند السد يسمى الشضاة، ثم ما كان أسفل ذلك يسمى أضما. انتهى.
والمعنى أنهم ظنوا سلوى عنهم حين بخلوا بوصلهم عليَّ، فلم يجروا على لسانهم زمان الوصل والأنس الذي مر لي معهم في ذلك المحل. ولم يزل الشعراء، يذكرون هذا الوضع في أشعارهم.
قال الشريف الرضي عليه من الله الرضا:
يشي بنا الطيب أحياناً وآونة ... يضيئنا البرق مجتازاً على اضم
وقال صاحب البردة:
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من اضم
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
يا حاظر الوصل باد غير حاضره ... ما دائم سقمي إن كنت من قسمي
الجناس المعنوي
قدري أبو حسن يا معنوي بهم ... ووصف حالي ابنه حال بحبهم
من أنواع الجناس، الجناس المعنوي، وهو قسمان: تجنيس إضمار وتجنيس إشارة.
فتجنيس الإضمار هو أن يضمر المتكلم ركني الجناس ويظهر في اللفظ ما يرادف أحد الركنين، ليدل على ما أضمره، فإن تعذر المرادف، أتى بلفظ فيه إشارة لطيفة تدل على ذلك المضمر، كقول أبي بكر بن عبدون وقد اصطبح بخمرة وترك بعضها إلى الليل فصار خلا:
ألا في سبيل اللهو كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابتِ
حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأمست كجسم الشنفرى بعد ثابت
بنت بسطام بن قيس اسمها الصهباء، وقوله: كجسم الشنفرى بعد ثابت، أشار به إلى قول الشنفرى يرثي خاله تأبط شراً واسمه ثابت:
فاسقنيها أيا سواد بن عمرو ... إن جسمي من بعد خالي بخل
(1/36)
________________________________________
والخّل: النحيف المهزول. فصح معه جناسان مضمران في صدر البيت وعجزه. فالأول (صهباء وصهباء) والثاني في (خلّ وخلَ) ولم يسمع في هذه الصناعة أحسن من هذين البيتين، وقل من ذكر هذا النوع، وهو عزيز الوجود جداً، وأكثر من ألف في المعاني والبيان أغفل ذكره، فسلم يذكره الساكي في مفتاحه، ولا القزويني في تلخيصه ولا إيضاحه، ولا ابن رشيق في العمدة، ولا ابن أبي الأصبع في تحريره، على تبحره، ولا ابن منقذ في كتابه. وإنما نظمه الشيخ صفي الدين في بديعيته، لأنها نتيجة سبعين كتاباً في هذا الفن، كما ذكره في شرحها. واقتصر عليه فلم ينظم تجنيس الإشارة لأنها بالنسبة إلى هذا القسم كلا شيء، فهي كما قيل: في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل.
قال ابن حجة: كان شيخنا علاء الدين القضامي يقول: ما أعلم لبيت أبي بكر بن عبدون في إضمار الركنين ثانياً، غير بيت الشيخ صفي الدين ولو لم يفتح ابن عبدون هذا الباب في بيته، ما حصل للشيخ صفي الدين دخول إلى نظم هذا النوع. انتهى.
قلت: هذا عدم إطلاع من شيخ ابن حجة المذكور. وليس ابن عبدون أول من اخترع هذا النوع حتى يكون هو الفاتح لهذا الباب، فقد وقع في شعر أبي العلاء أحمد بن سليمان المعري هذا الجناس بعينه، وصح معه في بيت واحد جناسان مضمران، كما صحا مع ابن عبدون في بيته المتقدم ذكره. المعري أقدم من ابن عبدون بأكثر من مائة عام.
وبيت المعري هو قوله:
نهارهم ابن يعفر في ضحاه ... وليلة جارهم بنت المحلق
فابن يعفر هو الأسود، وبنت المحلق اسمها ليلى، أي ليلة جارهم مظلمة. يقال: ليلاء وليلى، أي طويلة شديدة الظلام، فتم معه الجناسان المضمران. وله أيضاً.

هزت إليك من القد ابن ذي يزن ... ولاحظتك بهاروت على عجلِ
أرتك عمَّ رسول الله منتقباً=أبا حذيفة يحكي أو أبا جملِ ابن ذي يزن هو سف الملك المشهور، وعمُّ رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم (: العباس، وحذيفة وجمل ابنا بدر، ففي كل ذلك جناس معنوي. ومن العجب أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال في شرح لامية العجم وفي كتابه المسمى بجنان الجناس لما اعترضه الجناس المعنوي: هذا النوع باطل، وأورد منه في تذكرته أبياتاً جارية على ما شرطه أرباب هذا الفن فيه، ومما أورد بيت المعري المذكور.
وقول بعضهم يهجو إنساناً:
على أبوابه في كل حين ... لسائله أخو عمرو بن ود
اسم أخيه: ضبة.

أخو لخم أعارك منه ثوبا ... هنيئاً بالقميص المستجد
أخو لخم اسمه جذام.

وقد ألقى كساء أبي عبيد ... عليك فصرت أكسى أهل نجد
أبو عبيد يلقب بالأبرص
أراد أبوك أمك حتى زفت ... فلم توجد لأمك بنت سعدِ
بنت سعد اسمها عذرة.

أراني الله جسمك في خفاء ... وعينك مثل بشار بن بردِ
أي عمياء لأن بشاراً كان أعمى. فهذه الأبيات طرفة في هذا الباب فمن كتب بخطه هذه الأبيات كيف ينكر هذا النوع، ولعله خفي عليه معناه أولاً ثم ظهر له فيما بعد والله أعلم.
ومنه قول بعضهم وفيه أربع جناسات:
بابي قدار منك وابن زرارة ... أدنيت حتف المستهام العاني
لو أنّ كان أبو معاذ قلبه ... ما كان في البلوى أبا حسانِ
أبو قدار اسمه سالف، وابن زرارة اسمه حاجب، وأبو معاذ اسمه جبل، وأبو حسان اسمه ثابت. يعني بسالف منك وحاجب أدنيت حتف المستهام الأسير فلو أن قلبه كان جبلاً لما كان ثابتاً. فصح معه في كل بيت جناسان مضمران.
ومن ذلك ما يحكى أن بعضهم سئل عن معشوق له فقال: أبو سفيان، فقيل له: استعن عليه بنت بسطام. أراد أن صخر، والآخر أراد أنه يسقيه صهباء، فنظم ذلك بعض الشعراء فقال:
ولم أنسه إذ زار بعد أزوراره ... فبت نديم البدر في ليلة البدرِ
وكان أبو سفيان حتى تولعت ... بابنة بسطام فبتنا إلى الفجر
خليفة بغداد الموفى ثلاثة ... وعشرين والموفي الثلاثة في مصر
أراد المطيع والحاكم، يعني بات مطيعاً لي، وبت حاكماً عليه.
وللباخرزي:
لم يخل مذ أعرضت عن جانبي ... حلقي وقلبي من شجىً أو شجنْ
ما غير سلسالك وردي ولو ... حزَّ وريدي بابنه ذو يزن
أراد بسيف.
ولأبي الحسن الجزار:
يا أخا مالك ويا من له الخن ... ساء أخت ويا أبا لمعاذِ
(1/37)
________________________________________
أرد متمماً وصخراً وجبلاً.
ولبعض المغاربة:
كأبي الأمين برأيه وكجده ... أنى توجه وابن يحيى في الندى
أراد الرشيد والمهدي وجعفر.
وحكي أن السلطان أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد صاحب أفريقية عرض مرة أجناده وكان فيهم أمرد وسيم، اسم جده النعمان، فسأله السلطان عن اسمه وأعجبه حسنه، فخجل واحمر وجهه فازداد حسناً. فقال السلطان:
(كلمته فكلمت صفحة خده) وسأل من الحاضرين الإجازة فلم يأتوا بشيء فقال السلطان مجيزاً لشطره (فتفتحت فيه شقائق جده) .
وكان المتوكل مضحكان يسمى أحدهما بعرة والآخر شعرة، فسأل شعرة بعرة: ما فعل فلان في حاجتك؟ فقال: ما فتني ولا قطعتك. يشير إلى المثل المشهور: ما فت بعرة ولا قطع شعرة، يضرب للرجل الذي لا يقضي حاجة.
وما أحسن قول بدر الدين ابن الطحان في تخميس بديعية الصفي:
وفاحم كأبي المقداد ذي فنن ... وخاطري كأخي الخنساء لم يكنِ
أراد الأسود وصخر.

وللمؤلف عفا الله عنه في والده:
على باب ابن معصوم انخنا ... ففزنا بالنجاء وبالنجاحِ
هو ابن عطاء المعطي كثيرا ... لنا من جوده ابن أبي رباح
فابن عطاء اسمه واصل، وابن أبي رباح اسمه عطاء. والمعنى: هو واصل ولنا من جوده عطاء.
وبيت بديعيته الشيخ صفي الدين قوله:
وكل لحظ باسم ابن ذي يزن ... في فتكه بالعنى أو أبي هرم
وابن ذي يزن اسمه سيف، وأبو هرم اسمه سنان، ففيه جناسان مضمران.
وابن جابر لم ينظم هذا النوع في بديعيته، وذكره رفيقه في شرحها.
والشيخ عز الدين الموصلي، جنح إلى تجنيس الإشارة لسهولة مأخذه وترك نظم هذا النوع. وسيأتي ذكره بيته في محله. والظاهر أنه عمل بقول القائل كما قال ابن حجة:
إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشيم
وبيت ابن حجة: أبا معاذ أخا الخنسا كنت لهم=يا معنوي فهدوني بجورهم أبو معاذ اسمه جبل، وأخو الخنساء اسمه صخر، ففيه أيضاً جناسان مضمران على حد ما تقدم، غير أن هذا مأخوذ برمته من قول البهاء زهير المصري، يهجو ثقيلاً:
وجاهل طال به عنائي ... لازمني وذاك من شقائي
أبغض للعين من الأقذاء ... أثقل من شماتة الأعداء
فهو إذا رأته عين الرائي ... أبو معاذ وأخو الخنساء
والبهاء زهير أقدم عصراً من ابن حجة، فذهب تبجحه بذلك ضائعاً.
وبيت الشيخ عبد القادر الطبري مر إنشاده في الجناس المذيل والكلام عليه وسرد البديعيات باعث على إعادته هنا وهو:
معنى ابن تيم أبي النعمان كنت لهم ... وذيل الصبر صبا بالغرام عمي
ابن تيم اسمه سعدان، أراد به تيم بن مرة، ويحتمل أن يكون أراد به غيره، وأبو النعمان اسمه المنذر. وقد أظهرت فيما تقدم عجزي عن فهم معنى هذا البيت. ولم يقع لي شرح هذه البديعية، حتى أراجع ما قاله الناظم إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه.
وبيت بديعيتي قولي:
قدري أبو حسن يا معنوي بهم ... ووصف حالي ابنه حال بحبهم
أردت علياً وحسناً، أي قدري علي بهم، ووصف حال حسن، فحصل جناسان دل عليهما كنايات الألفاظ الظاهرة، أحدهما في صدر البيت وهو (عليّ وعليّ) والثاني في عجزه وهو (حسن وحسن) .
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
لو كان قلبي أبا سفيان وانقلبت ... هند أباه لأضحى قلب جدهم
قال في الشرح: معناه لو كان قلبي أبا سفيان أي صخر - فإن اسم أبي سفيان صخر - وانقلبت هند، أباه أي حرباً لي - فإن اسم أبيه حرب - لأضحى قلبه جدهم، أي قلب أمية مصغرة - فإن اسم جدهم أمية - وهو تصغير أمة. وإن شئت جعلت قلب بمعنى مقلوب، فإن مقلوب أمية هيما، أي لأضحى هيما بمعنى هائماً، فإنه يقال فيه: هايم وهيم، وإن شئت جعلته مقلوب لفظة جدهم، فإن مقلوبها مهدج بكسر الميم وإسكان الهاء وفتح الدال، أي كثر الحنين، قال في الصحاح: والهدجة حنين الناقة على ولدها وقد هدجت فهي مهداج، انتهى. ويجوز في مهداج مهدج، والله أعلم هذا نصه.
قلت: غفر الله للشيخ قد كان في أحد هذه المعاني كفاية عن ذكر الباقي وما جهد القلب حتى يتحمل كل هذا.
(1/38)
________________________________________
وتجنيس الإشارة - ويسمى تجنيس الكناية، هو أن يذكر أحد ركني الجناس في اللفظ ويشار إلى الآخر بلفظ يدل عليه من صفة أو عكس أو تصحيف أو لفظ يرادفه أو نحو ذلك. وسبب ورود هذا النوع، أن الشاعر يقصد للمجانسة بين لفظين، فلا يساعده الوزن إبرازهما في اللفظ، فيضمر أحدهما ويشير إلى الثاني بما يدل عليه.
ومثاله قول الشماخ:
وما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقفةٍ حرونِ
يطيف بها الرواة وتتقيهم ... بأوعال معطفة القرونِ
أراد أن يجانس بين أروى اسم محبوبته وبين أروى بمعنى الكثير من أنثى الوعول، فلم يطعه الوزن، فعدل عن ذكرها إلى صفاتها التي تدل عليها. والموفقة المشددة ثم الفاء: التي في يديها حمرة تخالف سائرها. والحرون بفتح الحاء المهملة وضم الراء المهملة: التي لا تبرح أعلى الجبل من الصيد.
وقد صرح أبو العلاء المعري بهذا الجناس في قوله:
أروى النياق كأروى النيق يعصمها ... ضرب يضل به السرحان مبهوتا
ومن ذلك قوله الآخر:
حلقت لحية موسى باسمه ... وبهارون إذا ما قلبا
أراد أن يقول: لحية موسى بموسى، فلم يوافقه الوزن، فاضمر الركن الثاني، وأشار إليه بما يدل عليه وهو قوله: باسمه.
وقول الآخر:
وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ندي
فكنى عن العقارب بمقلوب البراقع، ولا شك أن بين اللفظ المصرح به والمكنى عنه تجانسا.
ومنه قول امرأة من عقيل، وقد أراد قومها الرحيل عن بني ثهلان، وتوجه جماعة يحضرون الإبل:
فما مكثنا ... دام الجمال عليكما

بثهلان إلا أن تشد الأباعر
أرادت أن تجانس بين الجَمال والجِمال فلم يساعدها الوزن ولا القافية، فأضمرت الركن الثاني، وأشارت إليه بما يدل عليه وهو الأباعر الذي هو مرادف الجِمال.
ومثله قول شرف الدين الحلاوي:
وبدت نظائر ثغره في قرطه ... فتشابها متخالفين فأشكلا
فرأيت تحت البدر سالفة الطلى ... ورأيت فوق الدر مسكرة الطلا
قصد المجانسة بين سالفة الطلى وسلافة الطلا، فعصاه الوزن فعدل إلى قوله: مسكرة الطِلا وهي مرادفة للسلافة. قال ابن حجة: وهذا النوع لا يتفق في الكلام المنثور. انتهى.
قلت: إنما قال ذلك لما تقدم من أن سبب ورود هذا النوع عدم مساعدة الوزن للشاعر على إبراز ركني الجناس في اللفظ، والنثر ليس فيه وزن يمنع من ذلك.
وقد تقدم أن الشيخ عز الدين لم ينظم من الجناس المعنوي إلا هذا القسم، وهو الذي أوجب تأخير بيته عن المناظرة، وهنا محل إثبات بيته وهو:
وكافر نعم الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن المعنوي عمي
الكافر في الأصل اسم فاعل، من كفر الشيء، إذا ستره. وسمي الكافر كافراً لأنه ستر نعمة الله عليه، أي سترها بجحدانه لوجوده، ثم أطلق على ضد المسلم، وكفر النعمة: جحدها وسترها. ويسمى الليل كافراً لأنه يستر المحسوسات.
وما ألطف قول البهاء زهير:
يا ليل طل يا هجر دم ... إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد ... إن صح أن الليل كافر
فالشيخ عز الدين أرد أن يجانس بين كافر النعمة، أي جاحدها، وبين كافر بمعنى الليل، فأظهر أحد الركنين في اللفظ، وهو قوله: وكافر نعم الإحسان، وأضمر الركن الثاني، وأشار إليه بما يدل عليه وهو الظلمة، لأنها مرادفة له، فظهر جناس الإشارة بين (كافر وكافر) . وتعقبه ابن حجة: بأن الوزن ما عصاه حتى عدل إلى المرادف، فلو أراد أن يبرز الركنين لكان الوزن داخلاً تحت طاعته إذا قال:
وكافر نعم الإحسان في عذل ... لكافر الليل عن ذا المعنوي عمي
انتهى.
تتمة - ومن أنواع الجناس: المشوش، وهو ما تجاذبه طرفان من الصنعة، فلا يمكن إطلاق اسم أحدهما عليه، كقولهم: فلان مليح البلاغة، لبيق البراعة، فإنه لو كانت عينا الكلمتين متحدتين مثلاً، لكان جناس تصحيف، أو لاماهما متحدتين لكان جناساً مضارعاً، فلما لم يكن كذلك بقي مذبذباً.
ومثاله في النظم قول أبي فراس بن حمدان:
لطيرتي في الصداع نالت ... فوق منال الصداع مني
وجدت فيه اتفاق سوء ... صدعني مثل صد عني
فلولا تشديد نون عني لكان جناساً مركباً، أو كان (صد عني) كلمة واحدة، لكان جناساً محرفاً.
(1/39)
________________________________________
واعلم أن أرباب البديع اختلفوا في أقسام الجناس، وأسمائها اختلافاً كثيراً، واستيفاء ذلك هنا يقضي إلى الإطناب والإسهاب. وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم الشيخ صفي الدين الحلي، ألف فيه كتاباً سماه الدر النفيس في أجناس التجنيس، والشيخ صلاح الدين الصفدي ألف فيه كتابه المسمى بجنان الجناس. فمن أراد بسط القول فيه فعليه بهما.
تنبيه - قال أبو المكارم ناصر الدين المطرزي في شرح المقامات: اعلم أن أنواع الجناس لا تستحسن حتى يساعد اللفظ المعنى، ولا تستلذ حتى تكون عذبة الإصدار والإيراد، سهلة سلسلة المقاد، ولا تبرع حتى يساوي مطلعها مقطعها، ولا تملح حتى يوازي مصنوعها مطبوعها، مع مراعاة النظائر، وتمكن القرائن، وإلا فما قلق في أماكنه، ونبا عن مواقعه، فبمعزل عن الرضا عند علماء البيان، وبمكان من البشاعة لدى أرباب النثر وأصحاب النظم. فإذا أردت أن تستوفي أقسام المحاسن، وتجتنب أنواع المشائن، فأرسل المعاني على سجيتها ودعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد، لم تكتس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأما أن تصنع في نفسك أنه لا بد لك من تجنيس أو تسجيع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه على خطر من الخطأ.
فإن ساعدك الجد كما ساعد طاهراً البصري في قوله:
ناظراه بما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
وأبا تمام في قوله:
وأنجدتم من بعد اتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجدِ
فذاك وإلا أطلقت لسان العتب، وأرخيت عنان الذم، وأفضي بك طلب الإحسان من حيث لم تحسنه إلى أشنع القبح، وأوقعك الولوع بالثناء عليك في ورطة القدح، وانقلب إحسانك إساءة، وتحول سرورك مساءة. انتهى.
وقال الشيخ الأديب صلاح الدين الصفدي، في شرحه لامية العجم: الجناس وإن كان من أنواع البديع، ولكن بعض صوره مستثقل، كقول ابن الفارض:
أما لك من صد أمالك عن صد ... لظلمك ظلماً منك ميل لعطفةِ
فرُحن بحزن جازعات بعيدما ... فرحن بحزن الجزع بي لشبيبتي
فانظر إلى استثقال هذا البيت الأول لما فيه من جناس التحريف في (صد وصدٍ) والأول من الصدود، والثاني من الصدي، أي عطشان، وفي (ظلم وظُلم) الأول بالفتح، وهو الريف؛ والثاني بالضم وهو الجور مع التقديم والتأخير الذي يحتاج إقليدس، حتى يستخرج ترتيبه على خط مستقيم، والتقدير فيه: أمالك ميل لعطفة عن صد، أمالك ظلماً منك عن صد لظلمك. فأمالك الأولى، مركبة من همزة الاستفهام، وما النافية، ولام الجر؛ وكاف الخطاب, وأما البيت الثاني، ففي (فرحن) مرتين، الأولى (الفاء) فاء العطف و (رحن) فعل ماض من الرواح لجماعة الإناث. والثانية فعل ماض من الفرح لجماعة الإناث. وفيه (الحزن) مرتين، الأولى بضم الحاء ضد الفرح، والثانية بفتح الحاء، من حزن الأرض، ضد السهل. ولهذه الألفاظ التي عقدها عقد الميزان لأجل الجناس، صار كلامه وحشياً من العوام، بل من بعض الخواص الذين لم يتمهروا في الأدب، وقل أن تجد من ديوانه نسخة صحيحة. وأكثر ما يساعد الأفاضل على تصحيح ألفاظه وزن الشعر، كما في قوله (صد وصد) الأولى مشددة، والثانية مخففة، وكما في قوله أيضاً:
وإذا أذى ألمٍ المّ بخاطري ... فشذا أعيشاب الحجاز دوائي
فانظر إلى هذا، لا يستقيم الكلام إلا بمراعاة الوزن، فإنه يضطر الواقف إلى أن يجعل الأول من الألم، والثاني من الإلمام، ولهذا جاء جناس العماد الكاتب في الشعر أخف منه في النثر، لأن الوزن يضع كل كلمة في مكانها.
ومن الجناس المستثقل: جناس التصحيف، كقول ابن الفارض أيضاً:
وما اخترت حتى اخترت حبك مذهباً ... فواحيرتي إن لم يكن فيك خيرتي
وجذ بسيف العزم سوف فإن تجد ... تجد نفساً فالنفس إن جدت جدت
(1/40)
________________________________________
في البيت الأول، اخترت: من الخيرة واخترت الثانية: من الاختيار. وفي الثاني، تجد الأولى: من الجود؛ والثانية: من الوجدان. وهذه الأشياء لا يخفى على الذوق السليم ما فيها من الاستثقال. ولم أقل هذا الكلام جهلاً بمقدار الشيخ شرف الدين بن الفارض، وأنه لم يكن من الفصحاء، ألا ترى قصائده التي أخلاها من الجناس مثل الميميتين والجيمية، واللامية؛ والمهموزة، وغيرها ما أرقها وأحلاها. والجناس إذا كثر في الكلام مُل، اللهم إلا أن يكون سهل التركيب، ليس على المتكلم فيه كلفة. انتهى كلامه.
وقال الشيخ شهاب الدين محمود: إنما يحسن الجناس إذا أتى في الكلام عفواً من غير كد، ولا بعد، ولا ميل إلى جانب الركة، ولا يكون كقول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاوٍ مشل شلولٌ شلشل شول
ولا كقول مسلم بن الوليد:
سلت وسلت ثم سلَّ سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
انتهى.
ومثل هذين البيتين قول أبي الطيب المتنبي:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهم قلاقل
قال ابن حجة: هذا البيت حكمت علي أبي الطيب به المقادير.
قال الثعالبي: قال ليس سهل بن المرزبان يوماً: إن من الشعراء من شلشل، ومنهم من سلسل، ومنهم من قلقل، يشر إلى الأبيات الثلاثة. فقال الثعالبي: إني أخاف أن أكون رابع الشعراء، أراد قول الشاعر:
الشعراء فاعلمن أربعة ... فشاعر يجري ولا يجرى معه
وشاعر من حقه أن ترفعه ... وشاعر من حقه أن تسمعه
قال الثعالبي: ثم إني قلت بعد ذلك بحين:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فأنف البلابل باحتساء بلابل
والله أعلم.

الاستطراد
أجروا سوابق دمعي في محبتهم ... واستطردوها كخيل يوم مزدحم
الاستطراد في اللغة: مصدر استطراد الفارس لقرنه، إذا طرد فرسه بين يديه، يوهمه الفرار، ثم يعطف عليه على غرة منه، وهو ضرب من المكيدة. وفي الاصطلاح، هو أن يكون الناظم أو الناثر آخذاً في غرض من أغراض الكلام، من غزل أو مدح أو وصف أو غير ذلك، فيخرج منه إلى غرض آخر.
وقال ابن أبي الحديد: الاستطراد، هو أن تخرج بعد تمهيد ما تريد أن تمهده إلى الأمر الذي تروم ذكره، فتذكره وكأنك غير قاصد لذكره بالذات، بل قد حصل ووقع ذكره بالعرض من غير قصد، ثم تدعه وتتركه وتعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده كالمقبل عليه وكالملغي لما استطردت بذكره.
فمن ذلك قول البحتري وهو يصف فرساً:
واغر في الزمن البهيم محجل ... قد رحت منه على أغر محجلِ
كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكلِ
يهوي كما هوت العقاب وقد رأت ... صيداً وينتصب انتصاب الأجدل
ما إن يعوف قذى ولو أوردته ... يوماً خلائق حمدوية الأحول
ذنب كما سحب الرشاء يذب عن ... عرف وعرفه كالقناع المسبل
جذلان ينفض عذرة في غرة ... يفقٍ تسيل حجولها في جندل
كالرائح النشوان أكثر مشية ... عرضاً على السنن البعيد الأطول
هزج الصهيل كأن في نغماته ... نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك القلوب فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى ****** المقبل
ألا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الأحول الكاتب، وكأنه لم يقصد لذلك ولا أراده، وإنما جرته القافية، ثم ترك ذكره وعاد إلى وصف الفرس ولو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة منذ افتتحها إلا على ذكره، ولذلك أتى بها على روي اللام لكان صادقاً، فهذا هو الاستطراد. ومن الفرق بينه وبين التخلص، أنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح أو المهجو تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه من المديح والهجاء بيتاً بعد بيت حتى تنقضي القصيدة. وفي الاستطراد يمر ذكر الأمر الذي استطردت به مروراً كالبرق الخاطف، ثم تتركه وتنساه وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصد قصد ذاك، وإنما عرض عروضاً، لم يقصد بذكر الأول التوصل إليه، ثم يعود إلى ما كان فيه، فإن لم يعد فهو تخلص. وهذا هو الفرق بينه وبين المخلص. وأحسن ما سمع في مثاله قول السمؤل، بل قيل أنه أول شاهد ورد في هذا النوع:
وأنا لقوم لا نرى الموت سبة ... إذا ما رأته عامر وسلولُ
(1/41)
________________________________________
فاستطرد من الفخر بالشجاعة إلى هجو أعدائه، ثم عاد إلى ما كان عليه من الافتخار فقال:
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكره آجالهم فتطولُ
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
إلى آخر القصيدة.
ومثله قول الآخر:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأس وإن كان من جرم
فخرج من الوعظ إلى الهجو المؤلم في قبيلة جرم. ووقع منه في القرآن العظيم آيات، منها في سورة لقمان، قوله تعالى: (وإذا قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنت تعملون) . فاستطرد من حكاية وصية لقمان لابنه وصيته سبحانه لعباده، لما بينهما من المناسبة، ثم عاد إلى ما كان عليه من وصية لقمان لابنه فقال: (يا بني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردلٍ) إلى آخر الآيات. ومنها في سورة الشعراء، حيث حكى قول إبراهيم: (ولا تخزني يوم يبعثون) فاستطرد إلى وصف المعاد بقوله: (يوم لا ينفع مال ولا بنون) إلى آخره، ثم عاد إلى ذكر الأنبياء والأمم. ومثل كثير فيه يظهر عند التتبع.
ومما وقع في الشعر قول الشريف الرضي عليه من الله الرضا:
أبونا الذي أبدى بصفين سيفه ... ضغاء ابن هند والقنا يتقصف
ومن قبل ما أبلى ببدرٍ وغيرهما ... ولا موقف إلا له فيه موقفُ
ورثنا رسول الله علوي مجده ... ومعظم ما ضم الصفا والمعرف
وعند رجال إن جل تراثه ... قضيب محلى أو رداء مفوف
يريدون أن نلقي إليهم أكفنا ... ومن دمنا أيديهم الدهر تنطف
فلله ما أقسى ضمائر قومنا ... لقد جاوزوا حد العقوق وأسرفوا
يضنون أن تعطى نصيباً من العلا ... وقد عاجلوا دين العلى وتسلفوا
فاستطرد من الافتخار إلى الشكوى من بني العباس وجورهم، ثم عاد إلى غرضه من الافتخار فقال:
وهذا أبي الأدنى الذي تعرفونه ... مقدم مجد أول ومخلف
مؤلف ما بين الملوك إذا هفوا ... وأشفوا على حز الرقاب وأشرفروا
إلى آخر القصيدة وهي من محاسن قصائده. وأراد بالقضيب والرداء في قوله: قضيب محلى أو رداء مفوف، قضيب النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (وبردته، اللذين كان الخلفاء يتوارثونهما. قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: أما القضيب فهو السيف الذي نحله علياً) عليه السلام (في مرضه، وليس بذي الفقار، بل هو سيف آخر. وأما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير، ثم صار هذا السيف وهذه البردة إلى الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ. انتهى.
وقول الأبيوردي:
وواش يسر الحقد واللحظ ناطق ... به وعلى الشحناء تطوى ترائبه
وشى بسليمي مظهراً لي نصيحة ... ومن نصحاء المرء من هو كاذبه
ورشح من هنا وهنا حديثه ... ليخدعني والليل يغتال خاطبه
فقربته مني ولم يدر أنه ... إذا عد مجد ليس منن يقاربه
وأرعيته سمعي ليحسب أنني ... سريع إلى الأمر الذي هو طالبه
ولو رام عمرو والمغيرة غيرتي ... لاعيتهما فليحذر الشر جالبه
أراد عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة لأنهما كانا أدهى دهاة العرب وأمكرها.

وما الصقر مني حين يرسل نظرة ... وتصدقه عيناه فيما يراقبه
ولا الأسد الضاري يريد شكيمتي ... وإن دميت عند الدفاع مخالبه
فاستطرد من وصف الواشي وذمه إلى وصف نفسه بالحزم والعقل وتقرب النظر والفراسة والشجاعة، ثم عاد إلى الواشي فقال:
فقلت له لما تبين أنني ... فتى الحي لا يشقى به من يصاحبه
أتعذلني ... فاهاً لفيك
على الهوى
لأرمي بالحبل الذي أنت قاضبه
وأهجر من أغرى إذا عبته به ... جعلت فداء الذي أنت عائبه
ومنه قولي:
وافي وافق الدجى بالزهر متشح ... والنجم يخفي لرائيه ويتضحُ
والبدر يرفل في ظلمائه مرحاً ... وضرة البدر عندي زانها المرح
(1/42)
________________________________________
مهفهف تستخف الراح راحته ... ويثقل السكر عطفيه فيرتنح
بدا يطوف بها حمراء ساطعة ... في جبهة الليل من لالائها وضح
فاطرح زنادك لا تستورده قبساً ... لا يقدح الزند من في كفه القدح
وافي بها أسرة في المجد راسية ... لا يستفزهم حزن ولا فرح
هم سمام العدى إن غارة عرضت ... وهم غمام الندى والفضل إن سمحوا
تخفي وجوههم الأقمار إن سفروا ... وتخجل السحب أيديهم إذا منحوا
مالوا إلى فرص اللذات من أمم ... ولم يميلوا عن العليا ولا جنحوا
فاستطرد من وصف الساقي والخمر إلى وصف ندمائه بالرجاحة والشجاعة والسماحة والصاحبة، ثم عاد إلى ما كان عليه من وصف الساقي فقال:
وبات يمنحني من دونهم منحا ... كانت أماني نفسي والهوى منح
وقلت بعده:
وذات حسن إذا ميطت براقعها ... فالشمس داهشة والبدر مفتضح
عاتبتها بعدما مال الحديث بها ... عتباً يمازحه من دلها ملح
فأعرضت ثم لانت بعد قسوتها ... حتى إذا لم يكن للوصل مطرح
أغضت وأرضت بما أهوى وعفتنا ... تأبى لنا مأثماً في الحب يجترح
فلم نزل لابسي ثوب العفاف إلى ... أن كاد يظهر في فرح الدجى جلح
قامت وقمت وفي أثوابنا أرج ... من الوصال وفي أكبادنا قرح
ما أصعب الحب في خطب وأبرحه ... بذي العفاف وإن أخفى الذي يضح
وأورد ابن حجة من شواهد الاستطراد قول حسان بن ثابت:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا رأس طمرة ولجسام
قال: فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحارث بن هشام. والحارث هذا هو أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، ومات يوم اليرموك بالشام. انتهى.
وأنا أقول: ليس هذا من الاستطراد في شيء، بل هو تخلص البتة، لأن الاستطراد يشترط فيه العود إلى الكلام الأولى كما تقدم، وحسان لم يعد إلى ما كان عليه من ذكر العاذلة، بل أتم القصيدة مستمراً على ذكر هزيمة الحارث بن هشام والإيقاع بقومه في يوم بدر. ولنذكر ما قبل البيتين مما يتعلق بهما، وما بعدهما إلى آخر القصيدة حتى يعلم صحة ما ذكرناه.
قال حسان:
يا من لعاذلة تلوم سفاحة ... ولقد عصيت على الهوى لوامي
بكرت علي بسحرة بعد الكرى ... وتقارب من حادث الأيام
زعمت بأن المرء يكرب عمره ... حدث لمعتكر من الأصرام
يقول: زعمت أن الرجل يقرب أجله الفقر، فأمرتني بالإمساك، والمعتكر المال الكثير، والأصرام جمع صرمة بكسر الصاد المهملة، وهي القطعة من الإبل، ما بين العشرين إلى الثلاثين، وقيل غير ذلك.

إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
تذر العناجيج الجياد بقفزة ... مر الدموك بمحصد ورجام
العناجيج: جياد الخيل والإبل. قال شارح الديوان: أراد بالدموك البكرة وهي الخشبة المستديرة التي يستقي عليها، يريد أنها تسرع سرعان الكبرة. والمحصد: الحيل المحكم الفتل. والرجامان: قرنا البئر اللتان تكون بينهما البكرة.
ملأت به الفرجين فارمدت به=وثوى أحبته بشر مقام يريد ملأت به الفرس فرجيها، وهو ما بين رجليها عدوا. وأرمدت: أسرعت.

وبنو أبيه ورهطه في معرك ... نصر الإله به ذوي الإسلام
طحنتهم والله ينفذ أمره ... حرب يشب سعيرها بضرام
لولا الإله وجريها لتركنه ... جزر السباع ودسنه بحوامي
الحوامي: ميامن الحافر ومياسره.

من كل مأسور يشد صفاده ... صقر إذا لاقى الكتيبة حامي
ومجدل لا يستجيب لدعوة ... حتى تزول شوامخ الأعلام
ومرنح فيه الأسنة شرعا ... كالجفر غير مقابل الأعمام
الجفر: الجدي، والمقابل الذي أبوه وأمه من قبيلة واحدة، أو الكريم النسب من قبل أبويه.

من صلب خندف ماجد أعراقه ... بخلت به بيضاء ذات تمام
هذا آخر القصيدة فأين الاستطراد الذي ذكره ابن حجة؟ وقد قال هو: الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول، وقطع الكلام بعد المستطرد به.
(1/43)
________________________________________
ولما بلغت هذه القصيدة الحارث بن هشام قال، وهو أحسن ما قيل في الاعتذار عن الفرار:
الله أعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبدِ
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
وقد ذكر ابن حجة وغيره أبياتاً كثيرة، وعدوها من الاستطراد لا يعلم هل عاد الشاعر فيها إلى ما ابتدأ فيه من الكلام أم لا، فلا يقطع بكونها من هذا الباب حتى يعلم ذلك.
قال ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على المثل السائر: ومما زعم صاحب كتاب المثل السائر أنه استطراد قول بعض شعراء الموصل يمدح الأمي قرواش بن المقلد وقد أمره أن يعبث بهجو وزيره سليمان بن فهد وحاجبه أبي جابر، ومغنيه البرقعيدي، في ليلة من ليالي الشتاء، وأراد بذلك الدعابة والولع بهم وهم في مجلس الشراب:
وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أبلق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه
إلى أن بدى ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
وليس من الاستطراد في شيء، لأن الشاعر قصد هجاء كل واحد منهم ووضع الأبيات لذلك، ومضمون الأبيات كله مقصود له، فكيف يكون استطراد؟. انتهى.
قلت: وقد أورد هذه الأبيات القاضي ابن خلكان في تاريخه في ترجمة المقلد بن المسيب قال: ومن جملة شعراء دمية القصر، الطاهر الجزري وقد مدح قرواشاً بقوله وهو في نهاية الحسن في باب الاستطراد، ثم أورد الأبيات وقال بعدها: ولشرف الدين بن عنين الشاعر على هذا الأسلوب في فقيهين كانا بدمشق، ينبز أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس وهو:
البغل والجاموس في جدليهما ... قد أصبحا عظة لكل مناظرِ
برزا عشية ليلة فتباحثا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر
لم يتقنا غير الصياح كأنما ... لقنا جدال المرتضى ابن عساكر
لفظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر
اثنان مالهما وحقك ثالث ... إلا رقاعة مذلويه الشاعر
ولقد حكى لي بعض الأصحاب، أنه سأل ابن عنين عن أبيات الطاهر الجزري وأنه استحسن البناء عليها، فحلف أنه ما كان سمعها والله أعلم.
ومذلويه المذكور لقب كان ينبز به الرشيد عبد الرحمن بن بدر النابلسي الشاعر المعروف. انتهى كلام ابن خلكان.
قلت: وفي قول ابن أبي الحديد: إن الأبيات المذكورة ليست من الاستطراد في شيء، نظر، فقد قال القزويني في الإيضاح: الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به، لم يقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني، كقول الحماسي:
وأنا لقوم ما نرى الموت سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
ثم قال: وقد يكون الثاني هو المقصود فيذكر الأول قبله ليتوصل إليه كقول أبي اسحاق الصابي:
إن كنت خنتك في المودة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلى ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لو أن حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
قال: ولا بأس أن يسمى هذا إبهام الاستطراد. انتهى.
فالأبيات التي أنكر ابن أبي الحديد كونها من الاستطراد من هذا القبيل فاعلم.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته من هذا القبيل أيضاً وهو:
كأن آناء ليلي في تطاولها ... تسويف كاذب آمالي بقربهم
فإنه قدم أداة التشبيه ليتوصل إلى ما قصده من ذم كاذب الآمال.
وكذلك بيت ابن جابر الأندلسي في بديعيته وهو:
قد أفصح الضب تصديقاً ببعثته ... إفصاح قس وفهم القوم لم يهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
يستطرد الشوق خيل الدمع سابقه ... فيفضل السحب فضل العرب للعجمِ
قال ابن حجة: الشيخ عز الدين أحرز قصبات السبق باستطراده هنا على الشيخ صفي الدين والعميان، مع التزامه تسمية النوع المورى به من جنس الغزل، ومراعاة جانب الرقة ونظم الاستطراد على الشرط المذكور.
وبيت ابن حجة قوله:
واستطردوا خيل صبري عنهم فكبت ... قصرت كليالينا بوصلهم
(1/44)
________________________________________
أقول: ابن حجة استطرد خيل أفكاره في هذا البيت ليلحق الشيخ عز الدين لكنها كبت وقصرت، وما ذاك إلا أنه استعار لصبره خيلا، وهي استعارة مستهجنة جداً، بالنسبة إلى رقة التشبيب، وأين هي من استعارتها للدمع، فإنها كادتا أن تكونا ضدين. وإذا نظرت إلى اشتقاق الخيل وأنه من الخيلاء، زادك ذلك استهجاناً لها، ولم تزل الشعراء تصف أنفسها في تشبيبها وغزلها بقلة الصبر وعدمه. حتى جاء هذا الرجل، فأثبت لنفسه صبراً من أحبابه، ولم يكفه ذلك، حتى استعار له خيلاً، ثم يقول: هذا البيت غريب ولا بد لأهل الأدب من تأهيل غريبه. وأما استطراده فيه، فإنه وإن كان قصد به وصف ليالي وصلهم بالقصر، لكن السامع إذا سمع هذا البيت لا يتبادر إلى فهمه إلا أنه قصد ذمها حيث شبهها بخيل صبره التي كبت وقصرت. اللهم أنا نعوذ بك من سنة الغفلة.
وبيت الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
واستطرد الحب خيل الوصل سابقة ... بفضل ود كفضل الملك للخدمِ
هذا البيت ممسوخ الألفاظ من بيت الشيخ عز الدين الموصلي، وأما معناه فهو من البرودة في الغاية القصوى. وفضل الملك للخدم كالسماء فوقنا والأرض تحتنا، فما معنى الاستطراد إليه. وما الغرض من ذلك؟.
وبيت بديعيتي هو:
أجروا سوابق دمعي في محبتهم ... واستطردوها كخيلي يوم مزدحمِ
الاستطراد في هذه البيت من الغزل إلى الحماسة، وفي تشبيه سوابق الدمع بالخيل من المناسبة ما لا يخفى.
وبيت الشيخ إسماعيل المقري قوله:
هجرتني هجر عذالي منازلهم ... لشغلهم بي فلم أهدأ ولم أنم
هذا الاستطراد من قبيل استطراد الشيخ صفي الدين وابن جابر وهو النوع الثاني منه.

الاستعارة
ذوى وريق شبابي في الغرام بهم ... من استعارة نار الشوق والألم
اعلم أن الكلام في الاستعارة وأنواعها مما أطلق البيانيون فيه أعنه الأقلام، حتى أفردها بعضهم بالتأليف، وليس الغرض هنا استقصاء ذلك وإنما المقصود تقريبها إلى الإفهام، بتعريف يزيل عنها الإبهام، وذكر أقسامها باختصار، مع إثبات شيء مما وقع منها في محاسن النظم والنثر.
قالوا: زوّج المجاز بالتشبيه فتولد بنيهما الاستعارة، فهي مجاز علاقته المشابهة.
ويقال في تعريفها: اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي، كأسد في قولنا: رأيت أسداً يرمي، فأسد استعارة، لأنه لفظ استعمل في شجاع شبه بالأسد الذي هو الحيوان المفترس. وكثيراً ما تطلق الاستعارة على فعل المتكلم، أعني استعمال اسم المشبه به في المشبه، فيكون بمعنى الصدر ويكون المتكلم مستعيراً، والمعنى المشبه به مستعاراً منه، والمعنى المشبه مستعاراً له، واللفظ المشبه به مستعاراً.
وقال بعضهم: حقيقة الاستعارة، أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك إظهار الخفي، أو إيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو حصول المبالغة أو المجموع. فمثال إظهار الخفي قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب) فإن حقيقته: وإنه في أصل الكتاب، فاستعر لفظ الأم للأصل، لأن الأولاد تنشأ من الأم، كما تنشأ الفروع من الأصول، وحكمة ذلك تمثل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئياً، فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان، وذلك أبلغ في البيان.
ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جلياً، قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل) فإن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة. فاستعير للذل أولاً جانب، ثم للجانب جناح. وتقدير الاستعارة القريبة: واخفض لهما جانب الذل، أي اخفض جانبك ذلاً، وحكمة الاستعارة في هذا، جعل ما ليس بمرئي مرئياً، لأجل حسن البيان. ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين، بحيث لا يبقى الولد من الذل لهما والاستكانة ممكناً، احتيج في الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير لفظ الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب، لأن من يميل جانبه إلى الجهة السفلى أدنى ميل، صدق عليه أنه خفض جانبه، والمراد خفض يلصق الجنب بالأرض، ولا يحصل ذلك إلا بذكر الجناح كالطائر. ومثال المبالغة (وفجرنا الأرض عيوناً) وحقيقته وفجرنا عيون الأرض، ولو عبر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيوناً. انتهى.
(1/45)
________________________________________
واختلف في الاستعارة هل هي مجاز عقلي أو لغوي؟ فقيل: بالأول. بمعنى أن التصرف فيها أمر عقلي لا لغوي، لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد إدعاء دخوله في جنس المشبه به، فكان استعمالها فيما وضعت له فتكون حقيقة لغوية، ليس فيها غير نقل الاسم وحده، وليس نقل الاسم المجرد استعارة، لأنه لا بلاغة فيه، بدليل الإعلام المنقولة فلم يبق إلا أن يكون مجازاً عقلياً. وقيل بالثاني الجمهور، لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا لأعم منهما، فاسد في قولك: رأيت أسداً يرمي، موضوع للسبع ولا للشجاع، ولا لمعنى أعم منهما كالحيوان الجريء مثلاً ليكون إطلاقه عليهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما.
وأركان الاستعارة ثلاثة: مستعار منه، ومستعار له، ومستعار، وقد تقدم بيانها.
وأقسامها كثيرة باعتبارات. فتتقسم باعتبار المستعار منه، والمستعار له، والوجه الجامع لهما إلى خمسة أقسام.
أحدها، استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، ومثاله قوله تعالى (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوارٌ) فإن المستعار منه ولد البقرة، والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حلي القبط التي سبكتها نار السامري، عند إلقائه فيها التربة التي أخذتها من موطئ حيزوم فرس جبرئل) عليه السلام (، والوجه الجامع لهما الشكل، والجميع حسي، فشيئاً لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلاً قليلاً بجامع التتابع على طريق التدريج، وكل ذلك محسوس. وقول الشاعر:
وورد جني طالعتنا خدوده ... ببشرٍ ونشر يبعثان على السكرِ
فالمستعار منه الوجنات الحمر، والمستعار له ورق الورد، بجامع الحمرة والجميع محسوس.
الثاني، استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي، وهي ألطف من الأولى، ومثاله قوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) فإن المستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسيان، والجامع لهما ما يعقل من ترتب أمر على آخر، وحصوله عقب حصوله كترتب ظهور اللحم على الكشط، وظهور الظلمة على كشف الضوء، والترتب أمر عقلي.
الثالث استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي. قيل: وهي ألطف الاستعارات ومثاله قوله تعالى: (من بعثنا من مرقدنا هذا) فإن المستعار منه الرقاد، والمستعار له الموت، والجامع بينهما عدم ظهور الفعل، والجميع عقلي.
الرابع استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي، ومثاله قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) فإن المستعار منه صدع الزجاجة، وهو كسرها وهي حسي، والمستعار له تبليغ الرسالة وهو عقلي، والجامع لهما التأثير وهو عقلي أيضاً.
الخامس استعارة معقول لمحسوس بوجه عقلي، ومثاله قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء) فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسية والمستعار منه التكبر وهو عقلي، والجامع الاستعلاء المفرط وهو عقلي أيضاً.
وتنقسم باعتبار اللفظ إلى أصلية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس، كأسد وقيام وقعود، ومنه آية العجل. وتبعية، وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم الجنس كالفعل والمشتقات، كسائر الآيات السابقة، وكالحروف نحو قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا) شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب علته الغائية عليه، كالمحبة والتبني ونحو ذلك، ثم استعمل في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به.
وتنقسم باعتبار الطرفين إلى وفاقية وعنادية، لأن اجتماع الطرفين في شيء إن كان ممكناً سميت وفاقية نحو وأحيينا، في قوله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه) أي ضالاً فهديناه. استعير الأحياء وهو جعل الشيء حياً للهداية التي هي الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب، والأحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء، وإن كان ممتنعاً سميت عنادية، وذلك كاستعارة المعدوم للموجود لانتفاء النفع به كما في العدوم. ولا شك أن اجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع، وذلك كاستعارة اسم الميت للحي الجاهل، فإن الموت والحياة ممتنع اجتماعهما.
ومن العنادية التهكمية والتمليحية، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض نحو قوله تعالى: (فبشرهم بعذابٍ أليمٍ) أي أنذرهم. استعيرت البشارة التي هي الأخبار بما يسر، للإنذار الذي هو ضده، بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم، وكذا قولك: رأيت أسداً، وأنت تريد جباناً على سبيل التمليح والطرافة.
(1/46)
________________________________________
وتنقسم باعتبار الجامع إلى عامية، وهي المبتذلة لظهور الجامع فيها، نحو رأيت أسداً يرمي، وخاصية وهي الغريبة التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة. والاستعارات الواردة في التنزيل كلها من هذا القبيل.
ومنه قول طفيل الغنوي:
وجعلت كوري فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل
وموضع اللطف والغرابة منه أنه استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام، مع أن الشحم يقتات.
ثم الغرابة قد تكون في نفس الشبه، بأن يكون نفس التشبيه غريباً كقول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرساً له، بأنه مؤدب، وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود:
عودته فيما أزور حبائبي ... إهماله وكذاك كل مخاطر
فإذا أحتبي قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر
شبه هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج بهيئة وقوع الثوب في موقعه من ركبة المحتبي، فجاءت الاستعارة غريبة لغرابة الشبه.
وقد تحصل الغرابة بتصرف في الاستعارة العامة.
كقول كثير عزة وقيل غيره:
ولما قضينا من مني كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
استعار سيلان السيول الواقعة في الأباطح لسير الإبل يسراً حثيثاً في غاية السرعة المشتملة على لين وسلاسة، والتشبيه فيها ظاهر عامي لكنه تصرف فيه بما أفاده اللطف والغرابة حين أسند الفعل وهو (سالت) إلى الأباطح دون المطي أو أعناقها، حتى أفاد أن الأباطح امتلأت من الإبل. وأدخل الأعناق في السير، لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهر أن غالباً في الأعناق، ويتبين أمرهما في الهوادي، وسائر الأجزاء يستند إليها في الحركة، ويتبعها في الثقل والخفة.
ومثل هذه الاستعارة في الحسن وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير
أراد أنه مطاع في الحي، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول. تجيء من ههنا وههنا، وتنصب من هذا المسيل وذاك، حتى يغص بها الوادي ويطفح منها، وهذا التشبيه ظاهر معروف أيضاً، ولكن حسن التصرف فيه إفادة الغرابة بإسناد الفعل إلى الشعاب دون الأنصار أو الوجوه، حتى أفاد أن الشعاب امتلأت من الرجال، وكما أن إدخال الأعناق في السير، أكد الدقة والغرابة في الأول، أكدها هنا تعدية الفعل إلى ضمير الممدوح بعلى، لأنه يؤكد مقصوده من كونه مطاعاً.
وكذا في قوله:
فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدعص
فإن تشبيه القوام بالقضيب، والردف بالدعص تشبيه عامي مبتذل، لكن وصفه الأول بالعجلة والثاني بالبطء أفاده غرابة ولطفاً.
وقد يكون وجه التشبيه في الاستعارة منتزعاً من عدة أمور فتسمى الاستعارة تمثيلية، والعلم في ذلك ما كتبه الوليد بن يزيد لما بويع بالخلافة إلى مروان بن محمد وقد بلغه أنه متوقف في بيعته له: أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا، فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فشبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلاً، وتارة لا يريده فيؤخر أخرى، فاستعمال الكلام الدال على هذه الصورة في تلك، ووجه الشبه وهو الإقدام تارة والإحجام تارة أخرى منتزع من عدة أمور كما ترى.
وإذا تحقق معنى الاستعارة حساً أو عقلاً، سميت تحقيقية، لتحقيق معناها في الحس أو العقل؛ فالأول كقوله: لدى أسد شاكي السلاح؛ فإن الأسد مستعار للرجل الشجاع، وهو أمر متحقق حساً، والثاني كقوله تعالى: (وأنزلنا إليكم نوراً) فإن النور مستعار للبيان الواضح، وهو أمر متحقق عقلاً.
(1/47)
________________________________________
وقد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، فيسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية، ومكنياً عنها، لأنه لم يصرح به بل دل عليه بذكر خواصه ولوازمه، ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به استعارة تخيلية، لأن قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه به أو قوامه في وجه التشبيه ليتخيل أن المشبه من جنس المشبه به.
ثم ذلك الأمر المختص بالمشبه به على ضربين، أحدهما ما لا يكمل وجه التشبيه في المشبه به بدونه، والثاني ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه.
فالأول كقول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
شبه المنية في نفسه بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفاع ضرار، ولا رقة لمرحوم، ولا بقيا على ذي فضيلة، فأثبت لها الأظفار التي لا يكمل ذلك الاغتيال في السبع بدونها تحقيقاً للمبالغة في التشبيه، فتشبيه المنية بالسبع استعارة بالكناية وإثبات الأظفار للمنية، استعارة تخييلية.
والثاني كقول العتبي:
فلئن نطقت بشكر برك مفصحاً ... فلسان حالي بالشكاية أنطق
شبه الحال بإنسان متكلم بالدلالة على المقصود، وهذا هو الاستعارة بالكناية، ثم أثبت للحال اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان المتكلم وهذه الاستعارة التخييلية. وبينه وبين السكالي في ذلك نزاع لا يتسع المجال لبيانه، وكتبهما كافلة بذلك، فمن أراده فعليه بها.
واعلم أن الاستعارة تنقسم باعتبار آخر - غير اعتبار اللفظ والطرفين والجامع - إلى ثلاثة أقسام: مطلقة ومجردة ومرشحة.
فالمطلقة، هي ما لم تقرن بصفة ولا تفريع كلام مما يلائم المستعار أو المستعار منه نحو عندي أسد، والمراد بالصفة، الصفة المعنوية لا النعت.
والمجردة هي ما قرن بما يلائم المستعار كقول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... علقت بضحكته رقاب المالِ
فإنه استعار الرداء للعطاء، لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه، ثم وصفه بالغمر الذي يلائم العطاء لا الرداء، فنظر إلى المستعار له تجريداً للاستعارة.
والمرشحة هي ما قرن بما يلايم المستعار منه كقوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) فإنه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم قرنها بما يلائم الاشتراء من الربح والتجارة، فنظر إلى المستعار منه.
وقد يجتمع التجريد والترشيح كقول زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم
فقوله: شاكي السلاح تجريد، لأنه قرن بما يلائم المستعار له أعني الرجل الشجاع. وقوله: مقذف إلى آخر البيت ترشيح، لأن هذه الصفة إنما تلائم المستعار منه، أعني الأسد الحقيقي.
والترشيح أبلغ من الإطلاق والتجريد، ومن جمع التجريد والترشيح لاشتماله على تحقيق المبالغة في التشبيه، لأن في الاستعارة مبالغة فيه، فترشيحها وتزيينها بما يلائم المستعار منه تحقيق لذلك وتقوية له، ومبنى الاستعارة على تناسي التشبيه وإدعاء أن المستعار له عين المستعار منه لا شيء مشبه به، حتى أنه يبنى على علو القدر ما يبنى على علو المكان.
كقول أبي تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء
فإن استعار الصعود لعلو القدر ثم بنى عليه ما يبنى على علو المكان والارتقاء إلى السماء، فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصمم على إنكاره فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه.
وكقوله أيضاً:
خدم العلي فخدمنه وهي التي ... لا تخدم الأقوام ما لم تخدمِ
وإذا ارتقى من قلةٍ في سؤدد ... قالت له الأخرى بلغت تقدم
وقول ابن الرومي:
يا آل نوبخت لا عدمتكم ... ولا تبدلت بعدكم بدلا
إن صح علم النجوم فهو لكم ... حقاً إذا ما سواكم انتحلا
كم عالم فيكم وليس بأن ... قاس ولكمن بأن رقى فعلا
أعلاكم في السماء مجدكم ... فلستم تجهلون ما جهلا
شافهتم البدر في السؤال عن الأمر إلى أن بلغتم زحلا
ونحو ذلك ما وقع من التعجب في قول ابن العميد أو غيره:
(1/48)
________________________________________
قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمسِ
والنهي عنه في قول ابن طباطبا:
لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زره أزراره على القمر
وقول الآخر:
ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحياناً فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها
ونحو ذلك قول الشريف الرضي:
كيف لا تبلى غلالته ... وهو بدر وهي كتانُ
وكلما بعدت الاستعارة في التفريع تجريداً كان أو ترشيحاً زاد حسنهما ألا ترى إلى الأبيوردي حيث قال:
وفي الحدوج الغوادي كل غانية ... يروى مؤزرها والخصر ظمآن
كيف نبذ استعارة الغصون للقدود وراءه ظهرياً، وبنى على الفرع وهو (يروى) و (ظمآن) .
وكذا قول أبي العلاء المعري في السيف:
ما كنت أحسب جفناً قبل مسكنه ... في الجفن بطوى على نار ولا نهر
ولا ظننت صغار النمل يمكنها ... مشي على اللج أو سعي على السعر
فلولا أن طرائق السيف هي الماء والنار بعينهما إدعاء، لما كان لنفي الحسبان فائدة، إذا لا استبعاد في اجتماع شيئين يشبهان الماء والنار. ولولا أن فرنده هو النمل بعينه، لما صح المشي والسعي على اللج والسعر وحسب التعجب منها.
وقال العزي:
فبت الثم عينيها ومن عجب ... أني أقبل أسيافاً سفكن دمي
وقال أبو الطيب:
كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
واعلم أن لحسن الاستعارة شروطاً، أن لم تصادفها عريت من الحسن وربما اكتسيت قبحاً، فحسن كل من الاستعارة التحقيقية والتمثيلية، برعاية جهات حسن التشبيه. كأن يكون وجه الشبه شاملاً للطرفين، وافياً بما علق به من الغرض ونحو ذلك مما يذكر في باب التشبيه، وبأن لا تشم رائحة التشبيه من جهة اللفظ، لأنه يبطل الغرض من الاستعارة. أعني إدعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، والحاقة به، لما في التشبيه من الدلالة على كون المشبه به أقوى من الشبه كما قيل:
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك ... فقاعدة التشبيه نقصان ما يحكي
وقلت أنا من قصيدة:
من أين للظبي أن يحكي ترائبها ... ولو تشبه ما حاكٍ كمحكي
ولذلك يوصي أن يكون ما به المشابهة بين الطرفين جلياً بنفسه، أو بسبب عرف أو اصطلاح خاص لئلا يصير كل منها ألغازاً، كما لو قيل في التحقيقية: رأيت أسداً وأريد إنسان أبخر، وفي التمثيلية: رأيت إبلاً مائه لا تجد في راحلة. يريد أن المرضي المنتجب في عزة وجوده كالنجية التي لا توجد في كثير من الإبل. وهذا يظهر أن كلاً من التحقيقية والتمثيلية لا يجيئان في كل ما يجيء به التشبيه.
ومما يتصل بهذا أنه إذا قوي الشبه بين الطرفين بحيث صار الفرع كأنه الأصل، لم يحسن التشبيه وتعينت الاستعارة في ذلك، كالنور إذا شبه العلم به، والظلمة شبهت الشبهة بها، فإذا فهمت مسألة تقول: حصل في قلبي نور ولا تقول كأن نوراً حصل في قلبي. وكذا إذا وقعت في شبهة تقول: وقعت في ظلمة، ولا تقول: كأني وقعت في ظلمة.
والاستعارة المكنى عنها كالتحقيقية، في أن حسنها برعاية حسن التشبيه لأنها تشبيه مضمر في النفس.
وأما التخيلية فحسنها بحسب حسن المكنى عنها، لأنها لا تكون إلا تابعة لها عند الخطيب كما تقدم.
واستهجن من الاستعارات قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
إذ ليس بظهر للملام شبه بشيء له مائع مستكره كالحنظل أو الحوض الأجن ماؤه حتى يشبه به ويضاف إليه الماء ويرشح بالسقي.
قيل: كأنه توهم للملام - بلا ملاحظة - تشبيه بذي مائع مستكره شيئاً رقيقاً به قوام سريانه في النفس وتأثيره فيها، وأطلق عليه اسم الماء ورشح هذا الإطلاق بذكر السقي، ومع هذا لا يخفى كونه سمجاً مستهجناً.
ويحكى أن بعض الظرفاء المعاصرين لأبي تمام لما سمع قوله هذا، جهز له كوزاً وقال: ابعث لي في هذا قليلاً من ماء الملام، فقال أبو تمام أبعث لي ريشة من جناح الذل حتى أبعث لك قليلاً من ماء الملام.
فإن صح ذلك فقد أخطأ أبو تمام، لأن استعارة الجناح للذل في غاية الحسن كما تقدم بيانه، وأين هي من ماء الملام.
ومثل هذه الاستعارة قول المتنبي:
(1/49)
________________________________________
وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل
البنين، وذلك أن البنين لا يسمون شيئاً تكون الحلواء من لوازمه.
وأقبح من هاتين الاستعارتين من قبح الألفاظ قول ابن المعتز:
(كل يوم يبول زب السحاب) .
وأحسن ما قيل في العذر عن بيت أبي تمام: قول المرزوقي: إنما ذكر ماء الملام لما قال بعده: ماء بكائي على طريقة المشاكلة.
وهذا محل إيراد شيء مما وقع من محاسن الاستعارة نثراً ونظماً.
أما النثر فمن محاسنه، قول الحسن بن وهب: شربت البارحة على وجه السماء وعقد الثريا ونطاق الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحقني قميص الشمس.
وقول الصاحب بن عباد في استزارة: غداً يا سيدي ينحسر الصيام، ويطيب المدام، فلا بد من أن نقيم أسواق الإنس نافقة، وننشر أعلام السرور خافقة، فبالفتوة أنها قسم للظراف، تفرض حسن الإسعاف، لما بادرتنا ولو على جناح الرياح والسلام.
وقوله أيضاً رحمه الله في مثل ذلك: نحن يا سيدي، في مجلس غني إلا عنك، شاكر إلا منك، قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت خدود الورد، وتجعدت أصداغ البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وتفتقت فارات النارنج، ونطقت السنة العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس. وقام منادي الطرب، وطلعت كواكب الندمان، وامتدت سماء الند. فبحياتي عليك إلا ما حضرت، لنحصل بك في جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد.
وقول أبي نصر العتبي: هذا يوم قد رقت غلائل صحوه، وغنجت شمائل جوه، وضحكت ثغور رياضه، واضطربت زرد النسيم فوق حياضه وفاحت مجامر الأزهار، وانتثرت قلائد الأغصان، عن فرائد الأنوار؛ وقامت خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، ودارت أفلاك الراح بشموس الأقداح، وسيبنا العقل في مرج الجنون، وخلعنا العذار بأيدي المجون.
وقول الآخر: ولقد عرق بالندى جبين النسيم، وابتل جناح الهواء، وضربت خيمة الغمام، واغرورقت مقلة السماء، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق.
وما أحسن قول القاضي الفاضل معتذراً عن كتاب كتبه لبعض أصحابه ليلاً: كتبها المملوك وقد عمشت عين السراج، وشابت لمة الدواة، وكل خاطر السكين، وضاق صدر الورقة.
وقول علي بن ظافر: بت ليلة في منزل اعترفت له مشيدات القصور بالانخفاض والقصور، والبدر قد محا خضاب الظلماء، وجلاً محياه في زرقة قناع السماء، وكسى الجدران ثياباً من فضة، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه، والروض قد ابتسم محياه، ووشت بأسرار محاسنه رياه، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميلها، وغصبها مباسم نورها فقبلها، وعندنا مغن قد وقع على تفضيله الإجماع، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع، إن بدا، فالشمس طالعة، أو شدا، فالورق ساجعة، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه، وقابله فقلنا: البدر قابل عيوقه، وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب، ويستجيش عليه تلويح بارقة الموشى بالذهب، ويديم حرقته وسهده، ويبذل في الطاقة طاقته وجهده. فتارة يضمخه بخلوقه، وتارة يحليه بعقيقه، وآونة يكسوه أُواب شقيقه. فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصاح، واستيقظ نائم الصباح.
وما أحسن قول ابن زيدون يحكي أو اجتماعه بمعشوقته ولادة بنت المستكفي قال: كنت في أيام الشباب هائماً بغادة أرى الحياة متعلقة بقربها، ولا يزيدني امتناعها إلا اغتباطاً، فلما ساعد القضاء وآن اللقاء، كتبت إلي:
ترفب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل اكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح ... وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر
ثم لما طوى النهار كافوره، ونشر الليل عبيره، أقبلت بقد كالقضيب في ردف كالثيب، وقد أطبقت نرجس المقل على ورد الخجل، فملنا روض مدبج، وظل سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وامتدت سلاسل أنهاره، ودر الطل منشور، وجيب الراح مزرور. فلما شببنا نارها، وأدرت منا ثارها، باح كل منا بحبه، وشكا ما بقلبه، وبتنا بليلة نجتني أقحوان الثغور ونقطف رمان الصدور. فلما نشر الصباح لواءه، وطوى الليل ظلماءه، وأدعتها وأنشأت:
وادع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما أودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك
يا أخ البد سناء وسنا ... حفظ الله زماناً أطلعك
(1/50)
________________________________________
أن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
ومن بديع النثر في هذا النوع قول أبي القاسم عبد الصمد بن علي الطبري، يصف متنزهاً: لله متنزهنا والسماء زرقاء اللباس؛ والشمال ندية الأنفاس، والروض مخضل الأزار، والغيم منحل الأزرار.

كأن السماء تجلو عروساً ... وكأنا من قطره في نثارِ
والربي رابية الأرجاء، شاكرة صنيع الأنواء.

ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة بالفضاءِ
والجبال قد تركت نواصيها الثلوج شيباً، والصحارى قد لبست من نسيج الربيع برداً قشيبا. والكؤوس تدور بيننا بالرحيق، والأباريق تنهل مثل ذوب العقيق، وتفتر عن فار المسك وخد الشقيق. والجيوب تستغيث من أكف العشاق، وسقيط الطل يعبث بالأغصان عبث الدل بالغصون الرشاق والدن يجرح بالمبزال فتل الصائغ طرف الخلخال.

إذا فض عنه الختم فاح بنفسجاً ... وأشق مصباحاً ونور عصفرا
وأما النظم فمن محاسنه قول ابن خفاجة الأندلسي:
وقد جال من جون الغمامة أدهم ... له البرق سوط والشمال عنان
وضمخ ردع الشمس نحر حديقة ... عليه من الطل السقيط جمان
ونمت بأسرار الرياض خميلة ... لها النور ثغر والنسيم لسان
وقوله أيضاً:
وما الأنس إلا في مجاج زجاجة وما العيش إلى في صرير سرير
وإني وإن جئت المشيب لمولع ... بطرة ظل فوق وجه غدير
وقوله أيضاً وهي من محاسن قصائده:
أما والتفات الروض عن أزرق النهر ... وأشرف جيد الغصن عن حلية الزهر
وقد نسيت ريح النعامة فنبهت ... عيون الندامى تحت ريحانة الفجر
وخدر فتاة قد طرقت وإنما ... أبحت به وكر الحمامة للصقر
وقدٍ خلعت البرد عنه وإنما ... نشرت به طي الصحيفة عن سطر
لقد جبت دون الحي كل تنوفة ... يحوم بها نسر السماك على وكر
وخضت ظلام الليل يسود فحمه ... ودست عرين الليث ينظر عن جمر
وجئت ديار الحي والليل مطرف ... منمنم ثوب الأفق بالأنجم الزهر
أشيم بها برق الحديد وربما ... عثرت بأطراف المثقفة السمر
فلم ألق إلا صعدة فوق لامة ... فقلت قضي قد أطل على نهر
ولا شمت إلا غرة فوق أشقر ... فقلت حباب يستدير على خمر
ودون طروق الحي خوضة فتكةٍ ... مورسة السربال دامية الظفر
تطلع في فرع من النقع أسود ... وتسفر عن خد من السف محمر
فسرت وقلب الليل يخفق غيرة ... هناك وعين النجم تنظر عن شزر
فطار إليها بي جناح صبابة ... فطار بها عني جناح من الذعر
فقلت رويداً لا تراعي فإننا ... لنطوي ضلوع الليل منا على سر
وسكنت من نفس تجيش مروعة ... ومسحت عن عطفٍ تمايل مزور
ومزقت جيب الليل عنها وإنما ... رفعت جناح الستر عن بيضة الخدر
وقبلت ما بين المحيا إلى الطلى ... وعانقت ما بين التراقي إلى الخصر
وأطرب سجع الحلي من خيزرانة ... تميل بها الشبيبة والسكر
غزالية الألحاظ ريمية الظلى ... مدامية الألمى حبابية الثغر
تلاقي نسيبي في هواها وأدمعي ... فمن لؤلؤ نظم ومن لؤلؤ نثر
وقد جعلت ليلاً علينا يد الهوى ... رداء عناق مزقته يد الفجر
ولما انجلى ضوء الصباح كأنه ... جناح لواء جددته يد النصر
ولاح مشيب النور في لملم الربى ... ونم على ذيل الصبا نفس الزهر
صددت ودون الحي ستر غمامة ... يشف كما شف الرماد عن الجمر
وقوله:
وكمامة حسر الصباح قناعها ... عن صفحة تندى من الأنهارِ
في أبطح رضعت ثغور إقاحة ... أخلاف كل غمامة مدرار
نثرت بحجر الأرض في يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأزهار
فحللت حيث الماء صفحة ضاحك ... جذل وحيث الشط بدء عذار
والريح تنفض بكرة لمم الربى ... والطل ينضح أوجه الأشجار
متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار
وأراكة سجع الهديل بفرعها ... والصبح يسفر عن جبين نهار
هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة الأنوار
وقول محي الدين بن قرناص:
قد أتينا الرياض حين تجلت ... وتحلت من الندى بجمال
(1/51)
________________________________________
ورأينا خواتم الزهر لما ... سقطت من أنامل الأغصان
وقوله أيضاً:
لقد عقد الربيع نطاق زهر ... يضم لغصنه خصراً نحيلا
ودب مع العشي عذار ظل ... على نهر حكى خداً أسيلا
وقول الآخر:
مجرة جدول وسماء آس ... وأنجم نرجس وشموس وردِ
ورعد مثالث وسحاب كاس ... وبرق مدامة وضباب ند
وقول أمين الدين القواس:
أصغي إلى قول العذول بجملتي ... مستفهماً عنكم بغير ملالِ
لتلقطي زهرات ورد حديثكم ... من بين شوك ملامة العذال
وقول ابن قلاقس:
سرى وجبين الجو بالطل يرشح ... وثوب الغوادي بالبروق موشحُ
وفي طي أبراد النسيم خميلة ... بأعطافها نور المنى يتفتح
تضاحك في مسرى المعاطف عارضاً ... مدامعه في وجنة الروض تسفح
وتوري به كف الصبا زند بارق ... شرارته في فحمة الليل تقدح
باكر إلى اللذات، واركب لها ... نجائب اللهو ذوات المراح
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح
وقول مجير الدين بن تميم:
وليلة بت أسقي في غياهبها ... راحا تسل شبابي من يد الهرمِ
ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم
وقول ابن الساعاتي:
ولولا رواة بل وشاة تخرصوا ... أحاديث ليست في سماع ولا نقلِ
لثمنا ثغور النور في شنب الندى ... خلال جبين النهر في طرر الظل
وقول أبي الحسن المخريطي:
ألا حبذا نوح الحمامة سحرة ... وقد شق جيب الليل عن لبة الفجرِ
وسأل نجيع البرق من ثغرة الدجى ... وخمش ثكل الليل من صفحة البدر
وأعول ناعي الرعد يندب صارخاً ... ويذرف في خد الثرى دمعة القطر
فما كان إلا أن جلا الصبح سنه ... تبسم في خد الثرى دمعة القطر
وجر نسيم الريح ردن غلالة ... تمسح دمع الطل عن صفحة الدهر
فدونكها عذراء زفت لشربها ... وليس لها غير الزجاجة من خدر
فأحسن من ثغر تبسم أشنب ... دموع حباب الماء في وجنة الخمر
بحيث غناء الرعد يطرب والحيا ... يسقي وخوط البان يرقص من سكر
وعزم المعتمد بن عباد على إرسال حظاياه من قرطبة إلى أشبيلية، فخرج معهن يشيعهن، فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، فودعهن ورجع فأنشد:
سايرتهم والليل عقل ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما
فوقفت ثم مودعاً وتسلمت ... مني يد الأصباح تلك الأنجما
كان الوزير أبو جعفر أحمد بن طلحة الكاتب المغربي لا يخلي أكثر شعره من بديع الاستعارة، وكان شديد التهور كثير الطيش، ذاهباً بنفسه كل مذهب. قال ابن سعيد صاحب القدح المعلى: سمعته مرة وهو في محفل يقول: تقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي، وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه، فأهوى له شخص له قحة وإقدام فقال: يا أبا جعفر فأرنا برهان ذلك، ما أظنك تعني إلا نفسك. قال: نعم، ولم لا، وأنا الذي أقول ما لم يتنبه له متقدم ولا يهتدي لمثله متأخراً:
يا هل ترى أظرف من يومنا ... قلد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها ... مرقصة كل قضيب وريق
والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق
فلم ينصفوه في الإحسان، وردوه من الغيظ إلى أضيق مكان. فقلت له: يا سيدي هذا هو ***** الحلال، فبالله إلا مازدتني من هذا النمط.
فأنشد:
أدرها فالسماء بدت عروساً ... مضمخة الملابس بالغوالي
وخد الروض أحمره صقيل ... وجفن النهر كحل بالظلال
وجيد الغصن يشرق في لآلٍ ... تضيء بهن أكناف الليالي
فقلت زد وعد: فعاد والارتياح قد ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه وأنشد:
لله نهر عندما زرته ... عاين طرفي منه سحراً حلال
إذا أصبح الظل به ليلة ... وجال فيه الغصن شبه الخيال
فقلت زد فأنشد:
فلما ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جددت ذكراً
أراد لقاءكم إنسان عيني ... فمد له المنام عليه جسراً
فقلت له أيه فقال:
ولما أن رأى إنسان عيني ... بحصن الخد منه غريق ماءِ
أقام له العذار عليه جسراً ... كما مد الظلام على الضياء
(1/52)
________________________________________
فقلت أعد فأعاد، وقال: حسبك لئلا تكثر عليك المعاني فلا تقوم بحق قيمتها.
ثم أنشد:
هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فرداً بغير شبيهِ
فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائم فيه
انتهى.
ومن طريف هذا النوع قول السري الرفاء:
أسلاسل البرق الذي لحظ الثرى ... وهنا فوشح روضه بسلاسل
أذكرتنا النشوات في ظل الصبا ... والعيش في سنة الزمان الغافل
أيام أستر صبوتي في كاشح ... عمداً وأسرق لذتي من عاذل
وقوله أيضاً:
وصاحب يقدح لي ... نار السرور بالقدحْ
في روضة قد لبست ... من لؤلؤ الطل سبح
يألفني حمامها ... مغتبقاً ومصطبح
أوقظه بالعزف أو ... يوقظني إذا صدح
والجو في ممسك ... طرازه قوس قزح
يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح
وقوله أيضاً:
يوم خلعت به عذاري ... فعريت من حلل الوقارِ
وضحكت فيه إلى الصبا ... والشيب يضحك في عذاري
متلون بيدي لنا طرفاً بأطراف النهار
فهواؤه سكب الرداء ... وغيمه
يبكي فيجمد دمعه ... والبرق يكحله بنار
وقول أبي الحسن على بن أحمد الجوهري من شعراء اليتيمة:
رذ الصباح علينا شملة السحب ... ومدت الريح منها واهي الطنبِ
صك النسيم فراخ الغيث فانزعجت ... ينفض أجنحة من عنبر الزغب
قال الثعالبي: لو لم يقل إلا هذا البيت لكان من أشعر الناس.

تسعى الجنوب بطرف نحوها ثملٍ ... من الندى وفؤاد نحوها طربِ
كفى العواذل أني لا أرى قدحاً=إلا شققت عليه جلدة الطرب وقول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ:
هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدى همهِ
نسيمها يعثر في ذيله ... وزهوها يضحك في كمه
ومثله قولي:
وروضة قابلنا بشرها ... بضاحك النوار بسامهِ
تسحب فيها الريح أذيالها ... وينفخ الورد بأكمامه
وما أظرف قول ابن عمار:
يا ليلة بتنا بها ... في ظل أكتاف النعيمِ
من فوق أكمام الرياض ... وتحت أذيال النسيم
ومثله قول ابن المعتز:
وقد ركضت بنا خيل الملاهي ... وقد طرنا بأجنحة السرورِ
وقول ابن وكيع:
غرد الطير فنبه من نعس ... وأدر كأسك فالعيش خلس
سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من ثوب الغلس
وانجلى عن حلل فضية ... نالها من ظلمة الليل دنس
وطريف قول البدر الذهبي:
ما نظرت مقلتي عجيبا ... كاللوز لما بدا نواره
اشتعل الرأس منه شيبا ... واخضر من بعد ذا عذاره
وقول أبي الحسن العقيلي:
فلما تبدى لنا وجهه ... نهبنا محاسنه بالعيون.
وقول محمد بن عبد الله السلامي:
والكأس للمسكر التبري صائغة ... والماء للحبب الدري نظام
بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا ... كأننا في حجور الروض أيتام
وقوله أيضاً: تبسطنا على الآثام لما=رأينا العفو من ثمر الذنوبِ قيل كل الصاحب بن عباد يستحسن هذا البيت، ويستشهد به كثيراً، وكان يقول: ما درى قائله أي درة رمى بها، وأي غرة سيرها وخلدها.
وطريف قول مجير الدين بن تميم:
كيف السبيل بأن أقبل خد من ... أهوى وقد نامت عيون الحرس
وأصابع المنثور تومئ نحونا ... حسداً وترمقنا عيون النرجس
وما أبدع قول الشريف الرضي في مرثية:
أرسى النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضعُ
ولا يزال جنين النبت ترضعه ... على قبوركم العراصة اللمع
وقد سرق هذا البيت ابن سعد الموصلي سرقة فاحشة فقال من قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق.
مطلعها:
سقى دمشقى وأياماً مضت فيها ... مواطر السحب ساريها وغاديها
والبيت المسروق هو:
ولا يزال جنين النبت ترضعه ... حوامل المزن في أحشا أراضيها
(1/53)
________________________________________
وأما خمرية الشريف الرضي عليه من الله الرضا، التي أسكرت الألباب وانتشت بها قلوب أولي الآداب، فإن استعاراتها كلها بديعة وأبيات لطائفها على غير منيعة. وكان سبب نظمه لها، أنه على وفور شعره، وارتفاع شأنه، وغلاء سعره، لم يكن ينظم في باب الخمريات شيئاً، نزاهة منه وإجلالاً لقدره الشريف عن ذلك، فسأله بعض من يعز عليه من أصحابه القول في ذلك، ليشتمل ديوانه من الشعر على فنونه كما اشتمل على محاسنه وعيونه فقال:
اسقني فاليوم نشوان ... والربى صاد وريانُ
كفلت باللهو وافية ... لك نايات وعيدان
جار وفد الريح فالتطمت ... منه أرواق وأغصان
كل فرع مال جانبه ... فكأن الأصل سكران
وكأن الغصن مكتسياً ... من بياض الطل عريان
كلما قبلت زهرتها ... خلت أن القطر غيران
ومقيل بين أخبية ... قلته والحي قد بانوا
عسكرت فيها السحاب كما ... حط بالبيداء ركبان
في أصحاب مفارشهم ... ثم أنقاء وكثبان
فارتشفنا ريق سارية ... حيث كان الأرض غدران
فاسقني والوصل يألفني=إن يوم البين قرحان
قهوة ما زال يعلق في ... مجتناها المسك والبان
غير سمعي للملام إذا ... صاح شاجي الصوت مرنان
رب بدر بت ألثمه ... صاحياً والبدر نشوان
قدت خيل اللثم أصرفها ... حيث ذاك الجيد ميدان
لي غدير من مقبله ... ومن الصدغين بستان
في قميص الليل عبقة من ... ظن أن الوصل كتمان
كيف لا تبلى غلائله ... وهو بدر وهي كتان
وندامى كالنجوم سطوا ... بالمنى والدهر جذلان
خطروا والخمر تنفضهم ... وذيول القوم أردان
كم تخلت من ضمائرهم ... ثم الباب وأذهان
كل عقل ضاع عن يقظ ... فهو في الكاسات حيران
إنما ضلت عقولهم ... حيث يعيبهن وجدان
فاختلس طعن الزمان ... إنما الأيام أقران
وله أيضاً رضي الله عنه:
أشكو ليالي غير معتبة ... أما من الطول أو من القصر
تطول في هجرهم وتقصر في ... الوصل فما تلتقي على قدر
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء ب*****
وما أرق قوله من أبيات:
آها على نفحات نجد أنها ... رسل الهوى وأدلة الأشواقِ
وما ألطف قول أبي زكريا المغربي:
نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الظل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجهة الصبح لثاما
تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما
حول الزهر كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهن ختاما
يا عليل الريح رفقاً علني ... أشف بالسقم الذي حزت سقاما
أبلغن شوقي غريباً باللوى ... همت في أرض بها حلواً غراما
فرشوا فيها من الدر حصى ... ضربوا فيها من المسك خياما
كنت أشفي غلة من صدكم ... لو أذنتم لجفوني أن تناما
واستعدت الروح من ريح الصبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما
وقول التنوخي وهو من غريب الاستعارة:
ورياض حاكت لهن الثريا ... حللاً كان غزلها للرعودِ
نثر الغيث در دمع عليها ... فتحلت بمثل در العقود
أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
وعيون من نرجس تترائى ... كعيون موصولة للسهود
وكأن الشقيق حين تندا ... ظلمة الصدغ في خدود الغيد
وكأن الندا عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
وقول السيد أبي الحسن علي بن أبي طالب البلخي من أبيات:
وكم قد قضى ليل على أبرق الحمى ... مضيء ويوم بالمسرة مشرقُ
تسرقت فيه اللهو أملس ناعما ... وأطيب أنس المرء ما يتسرق
ويا حسن طيف قد تعرض موهنا ... وقلب الدجا من صولة الصبح يخفق
وقول ابن عمار: أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى=والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استرد الليل منا العنبرا
وقول ابن النبيه:
والنهر خد بالشعاع مورد ... قد دب فيه عذار ظل البانِ
(1/54)
________________________________________
والماء في سوق الغصون خلاخل ... من فضة والزهر كالتيجان
وقول ابن قرناص:
لقد عقد الربيع نطاق زهر ... يضم بغصنه خصراً نحيلا
ودب مع العشي عذار ظل ... على نهر حكى خداً أسيلا
وكلهم قد أخذوا الوجه والعذار من ابن خفاجة حيث قال:
وإني وإن جئت المشيب لمولع ... بطرة ظل فوق وجه غديرِ
وما أحسن قول الشهاب محمد:
إذا الكرى ذر في أجفاننا سنة ... من النعاس منعناها عن الهدبِ
وقول ابن نباتة المصري:
ولما جنى طرفي رياض جمالكم ... جعلت سهادي في عقوبة من جنى
أأحبابنا أن عفتم السفح منزلا ... وأخليتم من جانب الجزع موطنا
فقد حزتموا دمعي عقيقاً ومهجتي ... غضاً وسكنتم من ضلوعي منحنى
وقوله أيضاً:
هذي الحمائم في منابر أيكها ... تملي الغنا والطل يكتب في الورقْ
والقضب تخفض للسلام رؤوسها ... والزهر يرفع زائريه على الحدقْ
وهو أحسن من قول ابن تميم:
إني لأشهد للحمى بفضيلة ... من أجلها أصبحت من عشاقهِ
ما زاره أيام نرجسه فتى ... إلا وأجلسه على أحداقهِ
وقول ماني الموسوس:
دعتني إلى وصلها جهرة ... ولم تدر أني لها أعشقُ
فقمت وللقسم من مفرقي ... إلى قدمي ألسن تنطق
وما أجود قول أبي طاهر البغدادي في نار القرى:
خطرت فكاد الورق تسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبانِ
من معشر نشروا على تاج الربى ... للطارقين ذوائب النيران
وهو مأخوذ من قول الأول:
يبيتون في المشتى خماصاً وعندهم ... من الزاد فضلات تعد لمن يقرى
إذا ضل عنهم طارق رفعوا له ... من النار في الظلماء ألوية حمرا
وقول صردر:
قوم إذا حيا الضيوف جفانهم ... ردت عليهم ألسن النيرانِ
ومنه قول التهامي:
نادته نارك وهي غير فصيحة ... فأتم خفق ذوائب النيرانِ
وقد بالغ مهيار الديلمي في قوله:
ضربوا بمدرجة الطريق قبابهم ... يتقارعون على قرى الضيفانِ
ويكاد موقدهم يجود بنفسه ... حب القرى حطباً على النيران
ومن بديع الاستعارة على سخفه ومجونه قول السعيد بن سناء الملك:
يا هذه لا تستحي ... مني في انكشف المغطى
إن كان كسك قد تثأ ... ب إن أيري قد تمطى
فاستعارة التثأب والتمطي هنا من أحسن الاستعارات. قال ابن جبارة: أنشدني ابن سناء الملك هذا وزادني الإعجاب به، فلما عدت إلى البيت، أخذت جزء من البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي، فوجدت فيه، أن بغدادية قالت الأخرى: خرجت اليوم إلى العيد؟ قالت أي وحياتك. قالت لها: فما رأيت؟ قالت: أحراءً تتثأب وأيوراً تتمطى. فلما اجتمعت به قلت لها: قد عرفت وعثرت على الكنز الذي انتهبته، وحكيت لها الحكاية فقال: سيدنا يفتش عن أمري.
ومن طريف الاستعارات قول أبي الوليد بن الجنان الكناني الشاطبي:
هات المدام فقد ناح الحمام على ... فقد الظلام وجيش الصبح في غلبِ
وأعين الزهر من طول البكاء رمدت ... فكحلتها يمين الشمس بالذهبِ
والكأس حلتها حمراء مذهبة ... لكن أزرارها من لؤلؤ الحبب
كم قلت للأفق لما أن بدا صلفا ... بشمسه عندما لاحت من الحجب
إن تهت بالشمس يا أفق السماء فلي ... شمسان خد نديمي وابنة العنب
تم فاسقنيها وثغر الصبح مبتسم ... والليل تبكيه عين الشمس بالشهب
والسحب قد لبست سود الثياب وقد=قامت لترثيه الأطيار في القضب وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
قم هاتها وضمير الليل منشرح ... والبدر في لحبة الظلماء يسبحُ
عجل بها وحجاب الليل منسدل ... من قبل يدري بنا في وكره الصبح
واستضحك الدهر قد طال العبوس به ... لا يضحك الدهر حتى يضحك القدح
فقام والسكر يعطو في مفاصله ... يكاد يقطر من أعطافه المرحُ
يطوف والليل بالجوزاء منتطق=بها علينا رشا بالحسن متشح منها:
فما تبسم في وجه الصبا قدح ... حتى تنفس من جيب الدجى وضحُ
ودعته وجبين الصبح منذلق=وللظلام لسان ليس يجترح
ولا يطيب الهوى يوماً لمغتبقٍ ... حتى يكون له في اليوم مصطبح
(1/55)
________________________________________
وله أيضاً وهو من الشعر الذي تكبو فرسان البلاغة دونه، ويتعثر الساعون خلفه، في أذيال خسرهم، ولا يلحقونه:
طال عمر الدجى علي وعهدي ... بالدياجي قصيرة الأعمارِ
ما احتسيت المدام إلى وغصت ... لهوات الدجى بضوء النهار
حبذا طلعة الربيع وأهلاً ... بمجالي عرائس الأزهار
وزمان البهار لو عاد فيه ... غيسان الشباب عود البهار
ومبيتي إذا نبا بي مبيتي ... في ظلال العريش والنوار
كم تفيأتها فحنت علينا ... حنة الأمهات والأطيار
مرحباً بالمشيب لولا زمان ... غض من وحط من مقداري
لو وفى الصبا ولو عمر حين ... يا زماني أخذت منك بثاري
هذه من القوافي التي عناها بقوله من أخرى على الوزن دون القافية:
وقواف لو ساعد الجد نيطت ... موضع الدر من رقاب الغواني
سائرات بيوتهن على الأل ... سن سير الأمثال في البلدان
قصدٌ كالفرند في صفحة الده ... ر أو كالشنوف في الآذان
عاصيات على الطباع ذلول ... يتغنى بهن في الركبان
وقوله أيضاً فيما نحن فيه:
أرقت لبارق في جو راسي ... جرضت لصوب عارضه بريقي
هدته النائبات وأي ضيف ... هدت يوم الفراق إلى فروقِ
رفعت له بجنح الليل ناري ... فخاض الليل يعسف في الطريق
وددت ولو بضرب الهام أني ... رعيت له ولو بعض الحقوق
وقول السيد أحمد بن مسعود الحسني:
ألا هبي فقد بكر الندامى ... ومجيء المزج من ظلم الندى ما
وهيمنت القبول فضاع نشر ... روى عن شيح نجد والخزامى
وقد وضعت عذارى المزن طفلاً ... بمهد الروض تغذوه النعامى
وقول القاضي تاج الدين المالكي:
طال المنام على أرجوحة الصغر ... وبالغ الشيب في التحذير بالنذرِ
وجيش ليل الصبا فرت كتيبته ... لما أتى جيش صبح الشيب بالتبر
فاغسل بدمعك جفناً بات مكتحلاً ... بنومه واكتحل من أثمد السهر
وانهض لتصقل مرآة البصيرة من ... غين الغشاء وما للذنب من أثر
إن الذنوب وإن جلت فإن لها ... إتيان ساحة طه سيد البشر
فشد حزم مطايا قصده وانخ ... ببابه والثم الأعتاب واعتفر
ومما وقع لي أنا في باب الاستعارة، قولي وهو صدر قصيدة مدحت بها الوالد رحمه الله تعالى:
برق الحمى لاح مجتازاً على الكثب ... وراح يسحب أذيالاً من السحبِ
أضاء والليل قد مدت غياهبه ... فأنجاب عن لهب يذكو وعن ذهب
فما تحدر دمع المزن من فرقٍ ... حتى تبسم ثغر الروض من طرب
وغنت الورق في الأفنان مطربة ... وهزت الريح أعطافاً من القضب
والصبح خيم في الآفاق عسكره ... والليل أزمع من خوف على الهرب
فقلت للصحب قوموا للصبوح بنا ... يا طيب مصطبح فيه ومصطحب
واستضحكوا الدهر عن لهو فقد ضحكت=كأس المدامة عن ثغر من الحبب وقلت بعده:
فقام يسعى بها الساقي مشعشة ... كأنها حلب العناب لا العنبِ
حمراء تسطع نوراً في زجاجتها ... كالشمس في البدر تجلو ظلمة الكرب
وراح يثني قواماً زانه هيف ... بمعطف من قضيب البان مقتضب
في فتية يتجلى بينهم مرحاً ... كأنه البدر بين الأنجم الشهب
مهفهف القدِّ معسول اللمى ثمل ... يتيه بالحسن من عجب ومن عجب
لا يمزج الكأس إلا من مراشفه ... فأطرب لما شئت من خمر ومن ضرب
قد أمكنت فرص اللذات فاقض بها ... ما فات منك وبادر نهزة الغلب
واغنم زمانك ما صافاك منتهبا ... أيام صفوك نهباً من يد النوب
ولا تشب مورداً للأنس فزت به=بذكر ما قد مضى في سالف الحقب
إن الزمان على الحالين منقلب ... وهل رأيت زماناً غير منقلب
وإنما المرء من وفته همته ... حظيه في الدهر من جد ومن لعب
كم قلبتني ليالي في تصرفها ... فكنت قرة عين الفضل والأدب
تزيدني نوب الأيام مكرمة ... كأنني الذهب الإبريز في اللهب
لا أستريب بعين الحق أدفعه ... ولا أراب بغين الشك والريب
لقد طلبت العلى حتى انتهيت إلى ما لا ينال فكانت منتهى أربي
وتخلصت إلى المدح بقولي:
(1/56)
________________________________________
حسبي من الشرف العليا أرومته ... إن انتمى لنظام الدين في حسبن
هذا أبي حين يعزى سيدٌ لأبٍ ... هيهات ما للورى يا دهر مثل أبي
قطب عليه رحى العلياء دائرة ... وهل تدور الرحى إلا على القطب
كالليث والغيث في عزم وفي كرم ... والزهر والدهر في بشر وفي غضب
مسلك تهب آلاف راحته ... فكم أغاثت بجدواها من التعب
أضحت به الهند للألباب سالبة ... كأنها هند ذات الظلم والشنب
ومن الموشحات التي اشتملت على بديع الاستعارة قول شهاب العزازي:
يا ليلة الوصل وكأس العقار ... دو استتار
علمتماني كيف خلع العذارْ
اغتنم اللذة قبل الذهابْ
وجر أذيا الصبا والشباب
وأشرب فقد طابت كؤوس الشراب
على خدود تنبت الجلنار ... ذات احمرار
طرزها الحسن بآس العذار
الراح لا شك حياة النفوس
فحل منها عاطلات الكؤوس
واستجلها بين الندامى عروس
تجلى على خطابها في أزار ... من النضار
حبابها قام مقام النثار
أما ترى وجه الهنا قد بدا
وطائر الأسحار قد غردا
والروض قد وشاه قطر الندا
فكلمل اللهو بكأس تدار ... على افترار
مباسم الأزهار غب القطار
إجن من الوصل ثمار المنى
وواصل الكأس بما أمكنا
مع طيب الريقة حلو الجنى
بمقلة أفتك من ذي الفقار ... ذات أحورار
منصورة الأجفان بالانكسار
زار وقد حل عقود الجفا
وافتر عن ثغر الرضا والوفا
يا ليلة أنعم فيها وزار ... شمس النهار
حييت من بين الليالي القصار
ولنقف من النظم على هذه الغاية، ففيه للطالب كفاية إن شاء الله تعالى.
خاتمة - من المهم الفرق بين الاستعارة والتشبيه المحذوف الأداة، نحو زيد أسد. قال الزمخشري في قوله تعالى: (صم بكم عمي) فإن قلت: هل يسمى ما في الآية الاستعارة؟ قلت: مختلف فيه والحففون على تسمية تشبيهاً بليغاً لا استعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. وإنما تطلق الاستعارة، حيث يطوي ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلواً عنه، صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام. ومن ثم ترى المفلقين من *****ة يتناسبون التشبيه ويضربون عنه صفحاً.
وعلله السكاكي بأن من شرط الاستعارة، إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر، وتناسي التشبيه وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز كونه استعارة، وتابعه صاحب الإيضاح.
قال في عروس الأفراح: وما قالاه ممنوع، وليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر.
قال: بل لو عكس ذلك وقيل: لا بد من عدم صلاحيته لكان أقرب لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة، فإن لم تكن قرينة امتنع صرفه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة، أما لفظية أو معنوية، نحو زيد أسد، فالأخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقية.
قال: والذي نختاره، إن نحو زيد أسد قسمان، تارة يقصد به التشبيه فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة، فلا تكون مقدرة، ويكون الأسد مستعملاً في حقيقته، وذكر زيد والأخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة قرينة صارفة إلى الاستعارة دالة عليها، فإن قامت قرينة على حذف الأداة صرنا إليه، وإن لم تقم، فنحن بين إضمار واستعارة، والاستعارة أولى، فيصار إليها.
وممن صرح بهذا الفرق، عبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة.
وكذا قال حازم: الفرق بينهما إن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه. فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف، لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه، قال في الإتقان.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين في نوع الاستعارة قوله:
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم
وبيت ابن جابر الأندلسي قوله:
تقول صحبي وسفن العيس خائضة ... بحر السراب وعين القيظ لم تنم
قال ابن حجة: بيت الشيخ صفي الدين وبيت ابن جابر لم يحسن السكوت عليهما، إذ لم تنم بهما الفائدة، فإن بيت الشيخ صفي الدين متعلق بما قبله، وبيت ابن جابر متعلق بما بعده.
(1/57)
________________________________________
وبيت الشيخ عز الدين صالح للتجريد وهو:
دع المعاصي فشيب الرأس مشتعل ... بالاستعارة من أزواجها العقمِ
قال المذكور: لو بلغت ما عسى أن أقرل في قوله: من أزواجها العقم: ما يرعب السامع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وكان غرس التمني يانعاً فذوى ... بالاستعارة من نيران هجرهمِ
وبيت بديعية الطبري قوله:
خوافي الحب أورتها قوادمه ... من استعارة نار الهجر مع سدمِ
مساوي هذا البيت ظاهرة على كل مبتدئ، فما ظنك بغيره؟.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ذوى وريق شبابي في الغرام بهم ... من استعارة نار الشوق والألمِ
هذا البيت وبيت ابن حجة فرسا رهان في هذه الحلبة.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
إن لم أصغ ناظماً عقداً فرائده ... وسائط كلها من جوهر الكلمِ
المقابلة
ولوا بسخط وعنف نازحين وقد ... قابلتهم بالرضا والرفق من أمم
المقابلة - هي أن يأتي المتكلم بلفظين متوافقين فأكثر، ثم بأضدادها أو غيرها على الترتيب، وهذا أحد الفرقين بينهما وبين المطابقة. والمراد بالتوافق خلاف التقابل، لا أنا يكونا متناسبين ومتماثلين، فإن ذلك غير مشروط كما سيجيء من الأمثلة.
قال زكي الدين بن أبي الإصبع: والفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين: أحدهما إن الطباق لا يكون إلا بالأضداد، والمقابلة تكون بالأضداد وبغيرها، ولكن الأضداد أعلى رتبة وأعظم موقعاً.
والثاني، إن الطباق لا يكون إلا بين ضدين فقط، والمقابلة لا تكون إلا بما زاد من الأربعة إلى العشرة. انتهى.
قال الشيخ صفي الدين: وكلما كثر عددها كانت أبلغ. انتهى.
وزاد السكاكي في تعريف المقابلة قيداً آخر فقال: هي أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وضديهما، ثم إذا شرطت هنا شرطاً، شرطت هناك ضده كقوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى) فإنه لما جعل التيسير مشتركاً بين الإعطاء والإتقاء والتصديق، جعل ضده وهو التعسير المعبر عنه بقوله: فسنيسره للعسرى، مشتركاً بين أضدادها وهي: البخل والاستغناء والتكذيب.
فإن قلت: كون البخل ضد الإعطاء، والتكذيب ضد التصديق ظاهر فما وجه كون الاستغناء ضد التقي؟ قلت: هو مبني على اعتبار ما يلزم الاستغناء من ترك الإتقاء، إذ المراد باستغنى، إنه زهد فيما عند الله ولم يرغب فيه، بمنزلة الشيء المستغنى عنه، فترك الإتقاء واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة، فلم يتق الله ولم يحذر المعاصي وإتباع الهوى. ثم هذا القيد الذي زاده السكالي، لم يعتبره الأكثرون لأنهم عدواً من المقابلة قول أبي دلامة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر وألافلاس بالرجل
قالوا: قابل بين الحسن والقبح والدين والكفر والدنيا والإفلاس. ومع ذلك فالقيد المذكورة معدوم فيه، لأنه اشترط في الدين والدنيا الاجتماع ولم يشترط في الإفلاس والكفر ضده، فلا يكون هذا البيت عند السكالي من المقابلة.
وقسم بعضهم المقابلة إلى ثلاثة أنواع: نظيري ونقيضي وخلافي. مثال الأول، قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) فإنهما جميعاً من باب الرقاد المقابل باليقظة في آية (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود) وهذا مثال الثاني، فإنهما نقيضان. ومثال الثالث مقابلة الشر في قوله تعالى: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) فإنهما خلافان لا نقيضان، فإن نقيض الشر الخير، ونقيض الرشد الغي. انتهى.
وهذا تقسيم غريب، قل من ذكره، ولعل قائله تفرد به.
تنبيهان: الأول- ظاهر كلام جماعة إن المقابلة لا تكون إلا بالأضداد كالمطابقة فيبطل الفرق الأول من الفرقين المذكورين بين المطابقة والمقابلة.
الثاني - قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: المقابلة أن يأتي الناظم بأشياء متعددة في صدر البيت، ثم يقابل كل شيء منها بضده في العجز، على الترتيب أو بغير الضد. انتهى.
وظاهر هذا أن المقابلة في النظم لا تكون إلا بين ألفاظ صدر البيت وعجزه. وليس كذلك، بل قد تكون في كل من صدر البيت وعجزه، بأن يأتي بلفظين ويقابل منهما بضده أو غيره في الصدر، وكذا في العجز كقول الطغرائي:
(1/58)
________________________________________
حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة اليأس منه رقة الغزلِ
فإنه قابل الحلو والفكاهة، وهي المزح، بالمر والجد على الترتيب في صدر البيت، وقابل الشدة واليأس بالرقة والغزل على الترتيب في عجز البيت فظهر أن كلام الشيخ صفي الدين مبني على الغالب دون التحقيق والله أعلم.
مثال مقابلة اثنين باثنين - قوله تعالى: (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً) .
وقول النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا الخرق في شيء إلا شأنه.
وقول الذبياني:
فتىَ تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء إلا عاديا
وقوله الآخر:
فوا عجبا كيف اتفقنا فناصح ... وفيَّ ومطوي على الغل غادرُ
فإن الغل ضد النصح، والغدر ضد الوفاء ومن لطيف ذلك، ما حكي عن محمد بن عمران الطلحي، إذ قال له المنصور: بلغني أنك بخيل، فقال: يا أمير المؤمنين ما أجمد في حقٍ ولا أذوب في باطل.
ومثال مقابلة ثلاثة بثلاثة قول أبي الطيب المتنبي:
فلا الجود يفني المال والجد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجد مدبرُ
وقول الآخر في المعنى:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الخلق طرا إنها تنقلبُ
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب
وقول أبي تمام:
يا أمة كان قبح الجور يسخطها ... دهراً فأصبح حسن العدل يرضيها
وقول شهاب الدين محمود:
يا راكباً يفري جواد الفلا ... على أمون جسرة أو جوادْ
يسري فتبيديه ظهور الربى=طوراً فتخفيه بطون الوهاد وقول الآخر وفي كل من البيتين مقابلة ثلاثة بثلاثة:
يفر جبان القوم عن ابن أمه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبهْ
ويرزق معروف الكريم عدوه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه
ومنه قول الشيخ صفي الدين الحلي في راقص:
ورَّنح الرقص منه عطفاً ... حف به اللطف والدخولُ
فعطفه داخل خفيف ... وردفه خارج ثقيل
فقابل العطف بالردف، والداخل بالخارج، والخفيف بالثقيل. وليس هذا من مقابلة اثنين باثنين كما زعم ابن حجة.
ومثال مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى - الآيتين - وقد تقدم ذكرهما وبيان المقابلة فيهما.
وقول غرس الدين الأربلي:
تسر لئيماً مكرمات تعزه ... وتبكي كريما حادثات تهينُهُ
ومثال مقابلة خمسة بخمسة قول أبي الطيب المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثني وبياض الصبح يغري بي
قالوا: قابل خمسة بخمسة، والمقابلة الخامسة بين (لي) و (بي) ، قال الخطيب القزويني: وفيه نظر، لأن الباء واللام فيهما صلتا الفعل فهما من تمامهما، قال: وضد الليل المحض هو النهار، لا الصبح.
وقد أخذ بعضهم قول أبي الطيب أخذاً مليحاً فقال:
أقلي النهار إذا أضاء صباحه ... وأظلّ انتظر الظلام الدامسا
فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكاً ... والليل يرثي لي فيدبر عابسا
قال الصفدي: وهو مقابلة خمسة بخمسة. انتهى.
قلت: والنظر المذكور وارد عليه مع الأغراض.
وعدوا من مقابلة خمسة بخمسة قول الثعالبي:
عذيري من الأيام مدت صروفها ... إلى وجه من أهوى يد النسخ والمحوِ
وأبدت بوجهي طالعات أرى بها ... سهام أبي يحيى يسددها نحوي
فذاك سواد الخط ينهى عن الهوى ... وهذا بياض الحظ أمر بالصحوِ
ومن يرى المقابلة بين صلتي الفعل فهو عنده من مقابلة ستة بستة.
ومثال مقابلة ستة بستة، ما أنشده الصاحب شرف الدين مستوفي أربل لغيره، وهو:
على رأس عبدٍ تاج عز يزينه ... وفي رجل حر قيد ذل يشينهُ
قال الصلاح الصفدي: هذا أبلغ ما يمكن أن ينظم في هذا المعنى. فإن أكثر ما عد الناس في باب المقابلة بيت أبي الطيب لأنه قابل فيه بين خمسة، وهذا قابل فيه بين ستة والله أعلم.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين قوله:
كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهمِ
قال في الشرح: فيه مقابلة، كان بصار، والرضا بالسخط، والدنو بالبعد، ولفظةِ من بعن، لأنها تخالفها أيضاً، وخواطرهم بجوارهم، فهذه عشرة متقابلة من غير حشو.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
(1/59)
________________________________________
بواطئ فوق خد الصبح مشتهر ... وطائر تحت ذيل الليل مكتتمِ
والمقابلة في هذا بين خمسة أيضاً.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
ليل الشباب وحسن الوصل قابله ... صبح المشيب وقبح الهجر واندمي
المقابلة في هذا البيت بين أربعة. قال ابن حجة: وأتى بلفظة قابلة اضطراراً لتسمية النوع، وأما قوله: واندمي، فقافية مستدعاة أجنبية من المقابلة، فإنه لم يؤهلها لمقابلة ضده، ولا لغيره بل تركها بمنزلة الأجانب. انتهى.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ... ولوا غضاباً فوا حزني لغيظهمِ
هذا البيت فيه المقابلة بي أربعة أيضاً، وهي ظاهرة، وقافيته متمكنة غير أنه فصل بين الجملتين، والوصل فيهما متعين لاتفاقهما في الخبرية لفظاً ومعنى، ووجود الجامع بينهما وهو التضاد، فكان حقه أن يقول: فولوا غضاباً، ولا يخفى ما في البيت من الغلق وعدم الانسجام بسبب هذا الفصل.
وبيت الطبري قوله:
وحسن وصل وسلم القرب قابله ... بقبح هجر وحرب البعد للتهمِ
لفظة (قابله) هنا مثلها في بيت الموصلي.
وبيت بديعيتي قولي:
ولوا بسخط وعنف نازحين وقد ... قابلتهم بالرضا والرفق من أممِ
المقابلة فيه بين أربعة، وجميعها أضداد كما لا يخفى.
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
قد بكى الجفن حزناً بعد بعدهم ... كضحك ثغري سروراً عند قربهمِ
المقابلة فيه بين خمسة لكنها بالأضداد وغيرها.

وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي الاستخدام في اللغة، استفعال من الخدمة، وأما اصطلاحاً فلهم فيه عبارتان: إحداهما أن يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مراداً به أحد معانيه، ثم يؤتى بضمير مراداً به المعنى الآخر، أو بضميرين مراداً بأحدهما أحد المعاني وبالآخر المعنى الآخر.
فالأول كقول جرير -: -
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
أرد بالسماء: الغيث، وبالضمير الراجع من رعيناه: النبت.
والثاني كقول البحتري:
فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوبِ
فالغضا أرض لبني كلاب، وواد بنجد، وشجر معروف، فأراد بأحد الضميرين الراجعين إلى الغضا وهو المجرور في الساكنية: أحد المكانين، وبالآخر وهو المنصوب في شبوه: الشجر، أي أوقدوا ناراً الغضا بين جوانح وقلوب. وهذه طريقة الخطيب في الإيضاح والتلخيص، ومن تبعه، وعليها مشى أكثر الناس وأصحاب البديعيات.
الثانية - أن يؤتى بلفظ مشترك بين معنيين، ثم بلفظيين يخدم كل واحد منهما معنى من ذينك المعنيين، وهذه طريقة بدر الدين بن مالك في المصباح، ومشى عليها زكي الدين بن أبي الإصبع، ومثل له بقوله تعالى: (لكل أجلٍ كتاب. يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فلفظ كتاب يحتمل الأجل المحتوم، والكتاب المكتوب وقد توسط بين لفظي أجل ويمحو، فلفظة أجل تخدم المعنى الأول ويمحو يخدم الثاني.
قال الحافظ السيوطي في الإتقان: قيل: ولم يقع في القرآن على طريقة صاحب الإيضاح شيء من الاستخدام. وقد استخرجت بفكري آيات على طريقته، منها وهي أظهرها قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان في سلالة من طين) فإن المراد به آدم، ثم أعاد الضمير عليه مراداً به ولده، فقال (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) ومنها قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم) ثم قال (قد سألهاش قوم من قبلكم) أي أشياء أخر، لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سأل عنها الصحابة فنهوا عن سؤالها. انتهى.
قال بن حجة والطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد، وهو استعمال المعنيين بضمير وبغير ضمير، وهذا هو الفرق بين التورية والاستخدام، فإن المراد في التورية أحد المعنيين، وفي الاستخدام كل منهما مراد. انتهى.
وهذان نوعان أعني التورية والاستخدام أشرف أنواع البديع وهما سيان عند بعضهم، وفضل بعضهم الاستخدام عليها فقال: إنه أعلى رتبة وأحلى موقعاً في الأذواق السليمة.
(1/60)
________________________________________
قال الشيخ صفي الدين في شرح بديعيته: وهذا - يعني الاستخدام - نوع عزيز الوقوع معتاص على الناظم شديد الالتباس بالتورية، قلما تكلفه بليغ وصح معه بشروطه لصعوبته وقلة انقياده وميله إلى جانب التورية، ولذلك لم يرد منه في أمثلة كتب المؤلفين سوى بيتين، وفي كل منهما نظر.
أحدهما قول البحتري:
فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوبِ
والنظر في اشتراك لفظة الغضا، فإن علماء البديع اشترطوا أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكاً أصلياً، والاشتراك في لفظة ألغضا ليس بأصلي، ولكن أحد المعنيين منقول من الآخر، لأن الغضا في الحقيقة هو الشجر، وسمي وادي الغضا لكثرة نبته فيه، وسمي جمر الغضا لقوة ناره فكلاهما منقول من أصل واحد.
وأما البيت الآخر فقول المعري:
وفقيه ألفاظه شدن للنعما ... ن ما لم يشده شعر زيادِ
وهذا بيت من مرثية له في فقيه حنفي والنعمان اسم أبي حنيفة، وزياد هو النابغة وكان يمدح النعمان بن المنذر، فالمراد بالبيت أن ألفاظ هذا الفقيه شادت لأبي حنيفة من حسن الذكر ما لم يشده شعر زياد للنعمان بن المنذر. والنظر الذي فيه من حيث أن من شروط الضمير في الاستخدام أن يكون عائداً إلى اللفظة المشتركة ليستخدم به معناها الآخر، كما قال البحتري: شبوه والضمير عائد إلى الغضا، وهذا جعل الضمير في يشده عائداً إلى لفظة ما، وهي نكرة موصوفة، فيبقى طيب الذكر الذي لم يشده شعر زياد لا يعلم لمن هو، لأن الضمير لا يعود إلى النعمان، ويمكن الاعتذار له على تأويل النجاة وهو بعيد. انتهى كلام الصفي.
وأراد بالتأويل أن يقال: إن التقدير، ما لم يشده له، فيعود الضمير على النعمان بهذا التقدير، ووجه بعده عدم وجود هذا الضمير في اللفظ وفي كل من هذين النظرين اللذين أوردهما على البيتين بحث.
أما نظره الأول في بيت البحتري فإنما يتوجه أن لو أراد الناظم بالغضا وادي الغضا فحذف المضاف واكتفى بالمضاف إليه، وليس كذلك، بل لفظتا الغضا وحدهما اسم لمكانين. قال في القاموس: والغضا أرض لبني كلاب وواد بنجد، فيكون الغضا علماً لكل من هذين المكانين، ولو كان الاسم وادي الغضا لقال: وادي الغضا بأرض بني كلاب وواد بنجد، فصح أن الغضا مشترك بين الشجر وبين كونه علماً لكل واحد من هذين المكانين اشتراكاً أصلياً. لا يقال: لعله إنما سمي هذان المكانان بالغضا لكثرة نبت الغضا فيهما مبالغة، لأنا نقول: هذا يحتاج إلى إثبات أن الواضع إنما سمي هذين المكانين بهذا الاسم لهذا السبب ودون ذلك خرط القتاد، ولغة العرب وسيعة، والألفاظ المشتركة فيها كثيرة، فمن أين لنا القطع بذلك واللغة لا تثبت بالعقل؟ وأما النظر الثاني الذي أورده على بيت المعري فإنما يتوجه على كونه من الاستخدام الذي هو طريقة صاحب الإيضاح.
وأما إذا جعلناه على طريقة صاحب المصباح فلا، لأنه لم يشترط عود الضمير على لفظة الاستخدام، فيكون لفظة فقيه في البيت يخدم لفظة النعمان الذي هو أبو حنيفة، وشعر زياد يخدم النعمان الذي هو ممدوحه وهو النعمان بن المنذر. فصح كونه استخداماً على هذه الطريقة دون الأولى فاعلم ذلك والله أعلم.
وقد استخدم كثير من الشعراء لفظة الغضا، فقال ابن أي حصينة:
أما والذي حج الملبون بيته ... فمن ساجد الله فيه وراكعِ
لقد جرعتني كأس بين مريرة ... من البعد سلمى بين تلك الأرجاع
وحلت بأكناف الغضا فكأنما ... حشت ناره بين الحشا والأضالع
وعدواً منه قول ابن قلاقس:
حلت مطاياهم بملتف الغضا ... فكأنما شبوه في الأكبادِ
وقول البدر بن لؤلؤ الذهبي:
أحمامة الوادي بشرقي الغضا ... إن كنت مسعدة الكئيب فرجعي
فلقد تقاسمنا الغضا فغصونه ... في راحتيك وجمره في أضلعي
وعند أن النظر الذي أورده الصفي على بيت البحتري يرد على هذين الاستخدامين.
ومن استخدام البديع قول ابن الوردي:
ورب غزالة طلعت ... بقلبي وهو مرعاها
نصبت لها شباكاً من ... نضار ثم صدناها
وقالت لي وقد صرنا ... إلى عين قصدناها
بذلت العين فأكحلها ... بطلعتها ومجراها
(1/61)
________________________________________
ففي البيت الأول استخدام، وفي البيت الرابع أربعة استخدامات، ومعناها بذلت الذهب فأكحل عينك بطلعة عين الشمس، ومجرى العين من الماء، لأنه وطأ لهذه المعاني في الأبيات المتقدمة، وأتى بالبيت الرابع فتنزل جملة على ما تفصل.
قال الصفدي: وهذا أبلغ ما سمعته في الاستخدام. وما عرفت لغيره هذه العدة في هذا الوزن القصير، وهذا يدل على الفكر الصحيح والتخيل التام.
قلت: وقد جمع ابن مليك الحموي أيضاً أربع استخدامات في العين.
فقال في بيت واحد من مديح نبوي:
فكم رد من عين وجاد بنيلها ... ولولاه ما ضاءت ولم تك تعذبُ
وقال أيضاً في مثل ذلك:
كم رد من عين وجاد بها وكم ... ضاءت به وشفى بها من صادِ
وبديع قول الصفي الحلي:
إذا لم أبرقع بالحيا وجه عفتي ... فلا أشبهته راحتي في التكرم
ولا كنت ممن يكسر الجفن في الوغى ... إذا أنا لم أغضضه عن غير محرم
وقول بعض المتأخرين:
وللغزالة شيء من تلفته ... ونورها من ضيا خديه مكتسب
وقول ابن نباتة المصري:
إذا لم تفض عيني العقيق فلا رأت ... منازله بالقرب تبهى وتبهرُ
وإن لم تواصل غادة السفح مقلتي ... فلا عادها عيش بمغناه أخضر.
وأخذ هذين الاستخدامين الشيخ عبد الرحيم العباسي صاحب معاهد التنصيص على شواهد التلخيص أخذاً مجحفاً وأضافهما إلى استخدام البحتري فقال:
تمر الصبا عفواً على ساكني الغضا ... وفي أضلعي نيرانه تتسعر
فتذكرني عهد العقيق وأدمعي ... تساقطه والشيء بالشيء يذكر
وتورث عيني السفح حتى ترى به ... معالم للأحباب تزها وتزهر
وله أيضاً:
وإني للثغر المخوف لكاليء ... نعم وله من كل غيداء راشفُ
وهذا أيضاً مأخوذ من قول عبد الله بن طاهر ذي اليمينين: وإني للثغر المخوف لكاليء=وللثغر يجري ظلمه لرشوفُ وهذه الأمثلة كلها جارية على طريقة صاحب الإيضاح في الاستخدام.
وأما الأمثلة على طريقة بدر الدين بن مالك، فمنها قول أبي العلاء يصف درعا:
نثرة من ضمانها للقنا الخط ... ي عند اللقاء نثر الكعوبِ
مثل وشي الوليد لانت وإن كا ... نت من الصنع مثل وشي حبيب
تلك ماذية وما لذباب الص ... يف والسيف عندها من نصيب
فالذباب مشترك بين طرف السيف وبين الطائر المعروف، فلفظ السيف يخدم المعنى الأول، لفظ الصيف يخدم المعنى الثاني.
وقول السراج الوراق:
دع الهوينا وانتصب واكتسب ... واكدح فنفس المرء كداحه
وكن عن الراحة في معزل=فالصفع موجود مع الراحه فالراحة تطلق على الاستراحة وعلى الكف، وقد تقدمها من القرائن ما يخدم المعنيين، فالانتصاب والكدح يخدم المعنى الأول، والصفح يخدم المعنى الثاني، ولا يخفى أن الطريقة الأولى أحسن موقعاً وألطف مورداً من هذه الطريقة، وقد تقدم أن أصحاب البديعيات إنما جروا على تلك الطريقة دون هذه.
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله:
من كل أبلج واري يوم قرى ... مشمر عنه يوم الحرب مصطلمِ
أراد بالزند: الزناد، بقرينه الواري يوم القرى، وبالضمير الراجع من (عنه) العضو الذي تحت العضد، بقرينة مشمر عنه يوم الحرب.
وبيت ابن جابر الأندلسي قوله:
إن الغضا لست أنسى أهله فهم ... شبوه بين ضلوعي يوم بينهمِ
قال ابن حجة: لو عاش البحتري ما صبر لابن جابر على هذه السرقة، فإنه أخذ لفظة ومعناه وضميره، وما اختشى من الجرح ولا سلم من النقد.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
والعين قرت بهم لما بها سمحوا ... واستخدموا من الأعدا فلم تنمِ
قال ابن حجة: قوله: والعين قرت بهم لما بها سمحوا، في غاية الحسن فإنه أتى بالاستخدام وعود الضمير في شطر البيت مع الانسجام والرقة، واستخدم العين الناظرة، وعين المال. وأما قوله في الشطر الثاني: واستخدموها من الأعدا فلم تنم، ما أعلم ما المراد به، فإن الاستخدام في العين التي هي الجارحة قد تقدم، والذي يظهر لي أن اضطراره إلى تسمية النوع الجأه إلى ذلك. انتهى.
(1/62)
________________________________________
وأنا أقول: إن الذي استحسنه من الشطر الأول ليس بشيء من جهة المعنى وإن كان حسناً من جهة اللفظ، لأن قوله: لما بها سمحوا يعني بعين المال، لا يناسب الغزل، فإن السماح بالمال يكون من جانب المحب لا من جانب المحبوب، وهذا يليق أن يقال في صفة ممدوح طلب صلته، لا محبوب طلب وصله. وأما قول ابن حجة: لا أعلم ما المراد بقوله: واستخدموها من الأعدا، فجدير أن لا يعلم، وما ظهر له خلاف الصواب، وتسرع إلى الانتقاد في غير محله، فإن الضمير في قوله: واستخدموها، راجع إلى العين بمعنى الربيئة وهو طليعة القوم الذي يبعث ليطلع طلع العدو، بقرينة قوله: من الأعداء، وهو من معاني العين، والمعنى: أنهم استخدموا ربيئتهم حذراً من الأعداء فلم تنم. والله أعلم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
واستخدموا العين مني وهي جارية ... وكم سمحت بها أيام عسرهمِِ
الشطر الأول منه حسن بديع، والذي أوجب حسنه، التورية في جارية بعد قوله: استخدموها، وأما الشطر الثاني، فأردت الكلام عليه ولكني رأيت الشيخ أبا العباس أحمد بن إبراهيم العلوي سبقني إلى ذلك فقال: لو أنه قال: وكم سمحت بها طوعاً لأمرهم لكان أنسب وأولى من نسبه العسر إلى أيام أحبابه، فإن في نسبة ذلك إليهم ما لا يخفى على الأديب الفطن من البشاعة. انتهى.
وبيت بديعية الطبري:
واستخدموا العين تجري مخافتها ... أنفقتها فيهم أوقفتها بهمِ

هذا البيت فيه أربع استخدامات، ولكن لا يخفى ما فيه من التعقيد والركة.
وبيت بديعيتي هو قولي:
وإن هم استخدموا عيني لرعيهم ... أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي
أردت بالعين، الباصرة، بقرينة قولي: لرعيهم، وبالضمير في بذلها، المال، بقرينة البذل، وأنت إن نظرت إلى مفهوم قولي: فالسعد من خدمي، ولحظت ما يفهمه قول ابن حجة: وكم سمحت بها أيام عمرهم، من المنة عليهم بذلك ظهر لك بين المعنيين الفرق الجلي، وحكمت بتقديم علي.
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
أقر عيناً وأجراها ندى وأبا ... ها عسجداً وحكاها في دجى الظلمِ
هذا البيت مدرج، وآخر الشطر الأول من الألف من قوله: وأبا، وأراد بالعين الباصرة، وبالضمير في أجراها، العين الجارية، وفي أباها، الذهب، لأنه) صلى الله عليه وآله وسلم (عرضت عليه الجبال ذهباً فأباها، وفي حكاها، الشمس، فاستخدم العين لأربعة معان ولكن في قوله: في دجى الظلم، قصور ظاهر، لأنه كان ينبغي أن يقول: في الضحى لا في دجى الظلم حتى تتم المشابهة، ولا يكون المشبه دون المشبه به، أستغفر الله من ذلك والله أعلم.

الافتنان
إن افتنانهم في الحسن هيمني ... قدما وقد وطئت فرق السها قدمي
الافتنان - هو الإتيان بفنين مختلفين من فنون الكلام في بيت واحد فأكثر، مثل النسيب والحماسة، والمدح والهجو، والتهنية والتعزية، ولا يختص بالنظم، بل يكون في النثر أيضاً كقوله تعالى: (كل من عليها فانٍ. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) فإنه جمع بين الفخر والتعزية، فعزى سبحانه جميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة وسائر أصناف ما هو قابل للحياة، وتمدح بالبقاء بعد فناء الموجودات في عشر لفظات، مع وصفه ذاته بعد انفراده بالبقاء، بالجلال والإكرام.
ومنه ما حكي أنه لما مات معاوية اجتمع الناس بباب يزيد لعنة الله، فلم يعرف أحد ما يقول، ولم يقدروا على الجمع بين التعزية والتهنية، حتى أتى عبد الله بن همام السلولي فدخل فقال ليزيد: آجرك الله على الرزية، وبارك لك في العطية، وأعانك على الرعية، فقد رزيت عظيماً؛ وأعطيت جسيماً، فاشكر الله على ما أعطيت، واصبر على ما رزيت، فقد فقدت الخليفة، وأعطيت الخلافة، ففارقت خليلا، ووهبت جليلا، أن قضى معاوية ووليت الرياسة، وأعطيت السياسة، فأورده الله موارد السرور، ووفقك لمصالح الأمور.
ثم أنشد:
فاصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا
لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت فلا نسمع بمعناكا
ففتح للناس باب القول.
فقال أبو نواس يعزي الفضل عن الرشيد ويهنيه بالأمين:
تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائنُ
(1/63)
________________________________________
حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساوٍ مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
وتبعه أبو تمام بالقصيدة التي أولها: ما للدموع تروم كل مرام، بقوله للواثق ويهنيه بالخلافة ويعزيه بالمعتصم. صرف القول فيها كيف شاء وأطنب كما أراد، واحتج وأسهب، وتقدم فيها على كل من سلك هذه الطريقة من الشعر.
يقول فيها:
لله أي حياة انبعثت لنا ... يوم الخميس وبعد أي حمامِ
أودى بخير أمام اضطربت به ... شعب الرجال وقام خير إمامِ
تلك الرزية لا رزية مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام
إن أصبحت هضبات قدسَ أزالها ... قدرٌ فما زالت هضاب شمام
أو يفتقد ذو النون في الهيجا فقد ... دفع الإله لنا من الصمصام
أوجب منا غارب غدرا فقد ... رحنا بأتمك ذروة وسنام
هل غير بؤسي ساعة ألبستها=بنداك ما لبست من الأنعام
نقض كرجع الطرف قد أبرمته ... يا بن الخلائف أيما إبرام
ما أن رأى الأقوام شمساً قبلها ... أفلت ولم تعقبهم بظلام
أكرم بيومهم الذي ملكتهم ... في صدره وبعامهم من عام
وأراد ابن الزيات مجاراته فعلم من نفسه التقصير فاقتصر على قوله:
قد قلت إذا غيبوك واصطفقت ... عليك أيدٍ بالترب والطينِ
أذهب فنعم المعين كنت على ... الدنيا ونعم الظهير للدين
لن يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
والجمع بين التهنية والتعزية في باب الافتنان أصعب مسلكاً من الجمع بين غيرهما من فنون الكلام، لشدة ما بينهما من التناقض.
ومن رائق ذلك قول أبي الفتيان محمد بن حيوس، يخاطب نصر بن محمود صاحب حلب مهنياً له بالملك، ومعزياً له في أبيه، وهي في قصيدة طويلة جيدة:
صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ... على أنه لولاك لم يكن الصبرُ
عسرانا ببوسي لا يماثلها الأسى ... تقارن نعمى لا يقابلها الشكر
وما أحسن قوله فيها:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت مادب عن ناظر شفرُ
يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر
وأما ما افتن به الشاعر من النسب والحماسة، فمنه قول عنترة:
إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئمِ
فأول البيت نسيب وآخره حماسة، والمستلئم: الذي يلبس لبس لأمة حربه، وهي الدرع، وما أحسن مقابلته به قناع المرأة.
ومنه قول عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، الملقب والده بذي اليمينين، وزير المأمون:
نحن قوم تذيبنا الحدق النج ... ل على أننا نذيب الحديدا
طوع أيدي الغرام تقتادنا الغي ... د ونقتاد بالطعان الأسودا
نملك الصيد ثم تملكنا البي ... ض المصونات أعيناً وخدودا
تتقي سخطنا الأسود ونخشى ... سخطة الخشف حين يبدي الصدودا
فترانا يوم الكريهة أحرا ... راً وفي السلم للحسان عبيدا
وقول أبي دلف العجلي:
أحبك يا ظلوم وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبانِ
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان
وقول أبي فراس بن حمدان:
هوانا غريب شزب الخيل والقنا ... لنا كتب والباترات رسائلُ
أغرن على قلبي بخيل من الهوى ... وطارد عنهن الغزال المغازل
بأسهم لفظ لم تركب نصالها ... وأسياف لحظ ما جلتها الصياقل
وقائع قتلى الحب فيها كثيرة ... ولم يشتهر سيف ولا هز ذابل
أراميتي كل السهام مصيبة ... وأنت لي الرامي وكلي مقاتل
وإني لمقدام وعندك هائب ... وفي الحي سحبان وعندك بأقل
وقوله من قصيدة مطلعها:
لعل خيال العامرية زائر ... فيسعد مهجور ويسعد هاجرُ
وإني على طول الشماس على الصبا=أحن وتصبيني إليه الجآذر منها:
فيا نفس ما لاقيت من لاعج الهوى ... ويا قلب ما جرت عليك النواظر
ويا عفتي ما لي وما لك كلما ... هممت بأمرهم بي منك زاجر
كأن الحجا والصون والفضل والتقى ... لدى لربات الخدور ضرائر
وكم ليلة خضت الأسنة نحوها ... ولا هدأت عين ولا نام سامر
(1/64)
________________________________________
تقول إذا ما جئتها متدرعاً ... أزائر شوقٍ أنت أم أنت ثائر
فقلت لها كلا ولكن زيارة ... تخاض حتوف دونها ومحاذر
فلما خلونا يعلم الله وحده ... لقد كرمت نجوى وعفت سرائر
وبت يظن الناس فيّ ظنونهم ... وثوبي مما رجم الناس طاهر
وقوله وقد أصابته طعنة في خده:
لما رأت أثر السنان بخده ... ظلت تقابله بوجه عابسِ
خلف السنان به مواقع لثمها ... بئس الخلافة للمحب البائسٍ
وقوله أيضاً:
ورب ديار بالعوالي منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجرُ
وحي رددت الخيل حتى ملكته ... هزيما وردتني البراقع والخمر
وساحبة الأذيال نحوي رأيتها ... فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله ... وأبت ولم يكشف لأبياتها ستر
ومنه قول امرئ القيس:
فبتنا نذود الوحش عنا كأننا ... قتيلان لم يعرف لنا الناس مضجعا
تجافى عن المأثور بيني وبينها ... وترخي علي السابري المضلعا
إذا أخذتها هزة الروح أمسكت ... بمنكب مقدام على الهول أروعا
قال الشريف المرتضى علم الهدى رضوان الله عليه في رسالة له: رأيت قوماً من متعمقي أصحاب المعاني يقولون: أراد بالمأثور، السيف، وعنى أنه كان مقلداً سيفاً حال مضاجعته لها، وأنها كانت تتجافى عنه اشتغالاً به. ثم قال: والذي يقوي في ظني أن امرء القيس لم يعن هذا المعنى وإنما عنى أنها تتجافى عن الحديث المأثور بيني وبينها من الوشايات والسعايات، التي يقصد بها الوشاة تفريق الشمل، وإنها تعرض عن ذلك كله، وتطرحه وتقبل على ضمي واعتناقي وإدخالي معها في غطاء واحد. قال ولفظة مأثور تصلح للحديث وللسيف عن القطع. ثم قال: ولم أجد بين امرئ القيس وأبي الطيب من ألم بهذا المعنى.
قال أبو الطيب:
وقد طرقت فتاة الحي مرتدياً ... بصاحب غير عز هاةٍ ولا غزلِ
فبات بين تراقينا ندافعه ... وليس يعلم بالشكوى ولا القبل
قال: وما وجدت لأحد من الشعراء بين أبي الطيب وبين أخي الرضي رضي الله عنه شيئاً في هذا المعنى، ووجدت له رحمه الله أبياتاً جيدة، وهي هذه:
تضاجعني الحسناء والسيف دونها ... ضجيعان لي والعضب أدناها عني
إذا دنت البيضاء مني لحاجة ... أبي الأبيض الماضي فما طلها عني
وإن نام لي في الجفن إنسان ناظر ... تيقض عني ناظر لي في الجفن
أغرت فتاة الحي مما ألفته ... أغلله بين الشعار من الطبن
فقالت هبوه ليلة الخوف ضمه ... فما عذره في ضمه ليلة الأمن
قال (وهذه الأبيات استوفت هذا المعنى واستوعبته واستغرقته) وأطنب في نعتها. ثم قال: (ويمضي في ديوان شعري نظم هذا المعنى في أقطاع) . أثبتها في رسالته المذكورة، لكنها تقصر عن رتبة قطعة أخيه.
فمن أحسنها قوله:
لما اعتنقنا ليلة الرمل ... ومضاجعي ما بيننا نصلي
قالت أما ترضى ضجيعك من ... جسمي الرطيب ومعصمي الطفل
إلا احتملت فراق نصلك ذا ... في هذه الظلماء من أجلي
انظر إلى ضيق العناق بنا ... تنظر إلى عقد بلا حل
لا بيننا يجري العقار ولا ... فضل به لمدبة النمل
فأجبتها أني أخاف إذا ... فطنوا بنا أهلوك أو أهلي
عديه مثل تميمة نصبت ... كيلا نصاب بأعين نجل
إني أخاف العار يلصق بي ... يوماً ولا أخشى من القتل
ثم أثبت إقطاعاً أخر خارجة عما نحن فيه، وأطنب الكلام في ذكر محاسنها وبيان ما اشتملت عليه من النكت بياناً طويلاً.
قلت: ولما وقفت على ذلك عن لي أن أنظم هذا المعنى فاستعنت بالله تعالى ونظمته وزدت فيه زيادة لطيفة، لم يسبقني إليها أحد، فقلت ولم أخرج عما نحن فيه من الافتنان:
ولقد طرقت الحي من سعد ... تحت الدجى كالخادر الوردِ
في ليلة مدت غياهبها ... من فرعها كالفاحم الجعد
والصبح يستهدي لمطلعه ... نجم الدجنة وهو لا يهدي
ومصاحبي من ليس يخفرني ... ماضي الضريبة مرهب الحد
وسريت معتسفاً أنص على ... عبل المقلد مشرف نهد
لا أهتدي والليل معتكر ... ألا بنشر المسك والند
حتى اقتحمت الخدر مجترئاً ... أدلي بعهد الحب والود
(1/65)
________________________________________
فتنبهت مرتاعة فزعا ... ريا المخلخل طفلة الخد
قالت من المقتول قلت لها ... من قد قتلت بلوعة الصد
قالت قتيل هواي قلت أجل ... قالت أجلك عن جفا الرد
فوقفت مهري غير مرتقب ... ونزلت عن نهدٍ إلى نهد
ودنوت منها وهي عاتبة ... أبدي العتاب لها كما تبدي
ثم اعتنقنا وهي مغضية ... عني وبات وسادها زندي
وضممت سيفي بيننا فغدت ... غيري تدفعه على عمد
حتى إذا ضاق العناق بنا ... ضما يذوب له حصى العقد
قالت فديتك دعه ناحية ... يغنيك ضم الرمح من قدي
وقلت في ذلك أيضاً وزدت في زيادة أخرى:
وليلة عانقت في جنحها ... ثالثة الشمس وبدر التمامْ
فلم يطب لي ضمها ساعة ... حتى ضممت السيف عند المنام
فاستنكرت ضمي له بيننا ... وقد صفا الوصل وطاب اللزام
قالت فدتك النفس من حازم ... ما تصنع الآن بهذا الحسام
يغنيك عنه لا خشيت العدى ... مهند اللحظ ورمح القوام
ذكرت بقول أبي الطيب: وقد طرقت فتات الحي مرتدياً - البيتين - ما حكاه لي سيدي الوالد رحمه الله تعالى في بعض منادماته قال: كان بعض الناس ممن أدركته يكثر التمثل بشعر أبي الطيب من غير أن يفهم المعنى، فأنشد يوماً هذين البيتين مترنماً بهما، فسأله بعض الحاضرين، ما عنى بقوله (فبات بين تراقينا ندفعه) ؟ فقال: عنى فرساً، فقال: لو كان فرساً لكسر تراقيك، وتراقيها وأنتما تدفعانه.
وقريب من ذلك ما حكاه صاحب الأغاني، قال: كان الأقيشر عنيناً لا يأتي النساء وكان يصف ضد ذلك من نفسه، فجلس إليه يوماً رجل من قيس.
فأنشده الأقيشر:
ولقد أروح بمشرف ذي ميعة ... عسر المكرة ماؤه يتفصدُ
مرح يطير من المراح لعابه ... ويكاد جلد أهابه يتقدد
ثم قال للرجل: أتبصر الشعر؟ قال: نعم. قال: فما وصفت؟ قال: فرساً، قال: أفكنت لو رأيته تركبه؟ قال: أي والله واثني عطفه، فكشف الأقيشر عن أيره فقال هذا وصفت فقم فأركبه، فوثب الرجل عن مجلسه وهو يقول: قبحك الله من جليس سائر اليوم.
رجع. ومن الافتنان بالنسيب والمدح: قول القزاز الأندلسي في ابن صمادح، وهو غريب:
نفى الحب عن مقلتي الكرى ... كما قد نفى عن يدي العدمْ
فقد قر حبك في خاطري ... كما قر في راحتيك الكرم
وفرَّ سلوك من فكرتي ... كما فر عن عرضه كل ذم
فحبي ومفخره باقيان ... لا يذهبان بطول القدم
فأبقى لي الحب خال وخد ... وأبقى له الفخر خال وعم
ومن الافتنان بالهجو والمدح، قول ربيعة في يزيد بن حاتم، يفضله على يزيد بن أسيد [وكان] في لسانه تمتمة، فعرض بها في هذه الأبيات:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتمِ
فهم الفتى الأزدي أتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم
وهذا من أشد أنواع الهجاء، وهو الذي يسمى بالمقذع.
تنبيه - ذكر ابن أبي الإصبع في كتابه المسمى بتحرير التجبير نوعاً يسمى التمزيج - بالجيم - ولم ينظمه أصحاب البديعيات، وهر قريب من الافتنان، غير أن بينهما فرقاً دقيقاً، وهو أن الافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من فنون الكلام، والتمزيج يكون بالجمع بين الفنون والمعاني.
ومن أمثلته قول الشريف الرضي عليه من الله الرضا جامعاً بين الحماسة والمدح والهجو تعريضاً لا تصريحاً.
فقال وأغرب في المقال:
ما مقامي على الهوان وعندي ... مقول صارم وأنف حمي
وإباء محلق بي من الضي ... م كما راغ طائر وحشي
أي عذر له إلى المجد إن ذل غلام في غمده المشرفي
ألبس الذل في ديار الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيد النا ... س جميعاً محمد وعلي
أن ذلي بذلك الجو عز ... وأوامي بذلك النقع ري
قد يذل العزيز ما لم يشمر ... لانطلاق وقد يضام الأبي
إن شراً علي إسراع عزمي ... في طلاب العلي وحظي بطي
أرضي بالأذى ولم يقف العز ... م قصوراً ولم تعز المطي
(1/66)
________________________________________
تاركاً أسرتي رجوعاً إلى حي ... ث غديري قذٍ ورعيي وبي
كالذي يخبط الظلام وقد أق ... مر من خلفه النهار المضي
فتحسم أولاً ومدح الخليفة العلوي بمصر، ومت إليه بالنسب وعرض بهجاء بني العباس، ولما ظهرت هذه الأبيات وبلغت القادر بالله، أقامته وأقعدته، وبلغت منه كل مبلغ، فعقد مجلساً أحضر فيه أبا أحمد الطاهر الموسوي والد الرضي، وابنه أبا القاسم المرتضى، وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء، وأبرز إليهم هذه الأبيات، وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء، وأبرز إليهم هذه الأبيات، وقال الحاجب للنقيب أبي أحمد: قل لولدك محمد - يعني الرضي -: أي هو أن قد أقام عليه عندنا؟ وأي ضمي رآه من جهتنا؟ وأي ذلك أصابه في ملكنا؟ وما الذي يعمل معه صاحب مصر لو ذهب إليه؟. أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا؟ ألم نوله النقابة؟ ألم نوله المظالم؟ ألم نستخلفه على الحرمين والحجاز؟ وجعلناه أمير الحجيج؟ فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا؟ وهل كان لو حصل عنده إلا واحداً من أفناء الطالبيين؟. فقال النقيب أبو أحمد، أن هذا الشعر مما لم نسمعه منه ولا رأيناه بخطه، ولا يبعد أن يكون بعض أعداء الرضي عزاء إليه. فقال القادر بالله: إن كان كذلك فليكتب الآن محضر يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر، ويكتب محمد خطه فيه. فكتب محضر بذلك، شهد فيه جميع من حضر في المجلس، منهم النقيب أبو أحمد، وابنه المرتضى، وحمل المحضر إلى الرضي ليكتب عليه خطه، حمله إليه أبوه وأخوه فامتنع من سطر خطه وأقسم أنه لي من شعره، وأنه لا يعرفه، فأجبره أبوه على أن يسطر خطه في المحضر، فلم يفعل وقال: أخاف دعاة المصريين وغيلتهم. فقال أبوه: وا عجبا تجاف من بينك وبينه ستماءة فرسخ ولا تخاف من بينك وبينه ستة أذرع؟ وحلف أن لا يكلمه، وكذلك أخوه المرتضى. فعل ذلك تقية وخوفاً من القادر بالله وتسكيناً له. ولما انتهى الأمر إلى القادر سكت عنه على غل أضمره له، وبعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة والله أعلم.
ووقع لي أنا في ذلك قصيدة اشتملت على نسبي وشكوى وفخر وحماسة وحكمة، ولا بأس بإثباتها هنا فإنها من أمثلة هذا النوع وهي:
لك الخير أن جزت اللوى والمطاليا ... فحي ربوعاً منذ دهر خواليا
وقف سائلاً عن أهلها أين يمموا ... وإن لم تجد فيها محبباً وداعيا
وعج أولا نحو المعاهد ثانيا ... زمام المطايا واسأل العهد ثانيا
فإن تلفها من ساكنيها عواطلا ... فعهدي بها مر الليالي حواليا
تحل بها غيد غوان كأنما ... نظمن على جيد الزمان لئاليا
يرنحن من هيف القدود ذوابلا ... وينضين من دعج اللحاظ مواضيا
ويبدين من غر الوجوه أهلة ... وينشرن من سود الفروع لياليا
تحكمن قسراً في القلوب فلن ترى ... فؤاد محب من هواهن خاليا
قضت بهواهن الليالي وما قضت ... ديون الهوى حتى سئمنا التقاضيا
أطعت الصبا في حبهن مدى الصبا ... فلما انقضى استبدلت عنه التصابيا
نعم قد حلا ذاك الزمان وقد خلا ... على مثله فلبيك من كان باكيا
وثم صبابات من الشوق لن تزل ... تؤجج وجداً بين جنبي واريا
ولكنني أبدي التجلد في الهوى ... وأظهر سلواناً وما كنت ساليا
قصارى النوى والهجر أن يتصرما ... فيمسي قصي الدار والود دانيا
صبرت على حكم الزمان وذو الحجا ... ينال بعون الصبر ما كان راجيا
وقلت لعل الدهر يثني عنانه ... فاثني عن لوم الزمان شاكيا
ولو أجدت الشكوى شكوت وإنما ... رأيت صروف الدهر لم تشك شاكيا
فليت رجالاً كنت أملت نفعهم ... تولوا كفافاً لا عليَّ ولا ليا
ولو أنني يوم الصفاء أتقيتهم ... تقاة الأعادي ما خشيت الأعاديا
ولكنهم أبدوا وفاقاً واضمروا ... نفاقاً وجروا للبلاء الدواهيا
فأغضيت عنهم لا أريد عتابهم ... ليقضي أمر الله ما كان قاضيا
ولي شيمة في وجنة الدهر شامة ... تنير على رغم الصباح الديايا
يؤازرها من هاشم ومحمد ... مفاخر لا تبقي من الفخر باقيا
سبقت إلى غايات مجد تقطعت ... رقاب أناس دونها من روائيا
وزدت على دهري وسني لم تكن ... تزيد على العشرين إلا ثمانيا
(1/67)
________________________________________
وما وثقت نفسي بخل من الورى ... أكان صديقاً أم عدواً مداجيا
ولا خانني صبري ولا خف حادث ... بعزمي إذا ما الخطب ألقى المراسيا
وليس الفتى ذو الحزم من كان مولعا ... بشكوى الليالي والليالي كما هيا
ولكن فتى الفتيان من راح معرضا ... عن الدهر لا يرجو قريباً ونائيا
وإني لأخفي الوجد صبراً على الأسى ... ويبدي ضعيف الرأي ما كان خافيا
وأطوي الحشا طي السجل على الجوى ... فما علمت قوت من الوجد ما بيا
أصول بقلب لوذعي ومقول ... يفل شباه المشرفي اليمانيا
وأنظم من حر الكلام قوافيا ... تكون لآثار المعالي قوافيا
ونزهت شعري من هجاء ومدحة ... ولولا الهوى ما كنت أطري الغوانيا
ولست أعد الشعر فخراً وإنني ... لأنظم منه ما يفوق الدراريا
ولكنني أحمي الشعر فخراً، وأتقي ... عداي وأرمي قاصداً من رمانيا
وإن رميت لي فخراً عددت من العلى ... مزايا عظاماً لا عظاماً بواليا
على أنني من هاشم في صميمها ... وحسبك بيتاً في ذرى المجد ساميا
ولنكتف من أمثلة هذا النوع بهذه النبذة.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في نون الافتنان قوله:
ما كنت قبل ظبا الألحاظ قط أرى ... سيفاً أراق دمي إلا على قدمي
قال ابن حجة: كان المطلوب من الشيخ صفي الدين في هذا النوع غير هذا النظم مع عدم تكلفه بتسمية النوع. انتهى.
قلت: ما أحق لسان حال الشيخ صفي الدين أن ينشد:
وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياءُ
وليت شعري ما الذي أنكره من هذا البيت حتى يتعقبه بهذا الكلام، ولقد جاء فيه بأحسن التشبيب وأعظم الحماسة.
وحماسته هذه تشير بطرف خفي إلى قول الآخر:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وابن جابر الأندلسي لم ينظم هذا النوع في بديعيته.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
كان افتناني ثغراً راق مبسمه ... صار افتناني بثغر غير سفك دمي
هذا أيضاً افتنان بالنسيب والحماسة.
وبيت ابن حجة قوله:
تغزلي وافتناني في شمائلهم ... أضحى رثا لاصطباري بعد بعدهمِ
قال ناظمه: الجمع في افتنان هذا البيت بين النسب الخالص والتعزية. انتهى. يعني بالتعزية النعي لأنه نعي اصطباره في الشطر الثاني، وفي كون هذا افتناناً نظر، لأن هذا في الحقيقة راجع إلى النسيب أيضاً، والافتنان ينبغي أن يكون بالجمع بين فنين مختلفين حقيقة. ثم إن في هذا البيت من قبح الفال ما تنبو عنه الأسماع وتنفر منه الطباع، فإنه ما يأتي قوله: لاصطباري إلا وقد رسخ في السمع، وقر في القلب أن تغزله وافتنانه في شمائل أحبابه أضحى رثاء، نعوذ بالله من ذلك، وما أورده هذا المصرع إلا بغية على الشيخ صفي الدين، فإنه لا بد للباغي من مصرع.
وبيت الطبري قوله:
تبسموا مذ تفننت المديح لهم ... فلا يغرك منهم ثغر مبتسمِ
الافتنان في هذا البيت بالجمع بين المدح والهجاء الذي هو من نوع النزاهة، وهو حسن جداً.
وبيت بديعيتي هو قولي:
إن افتنانهم في الحسن هيمني ... قدما وقد وطئت فرق السها قدمي
الافتنان في هذا البيت ظاهر، وهو الجمع بين النسيب والفخر.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
ألان مني الهوى ما لا يلينه ... صرف الليالي وبأس السيف والقلمِ
الافتنان فيه بالجمع بين الغزل والحماسة.

اللف والنشر
لفي ونشري انتهائي مبدئي شغفي ... معهم لديهم إليهم منهم بهمِ
اللف والنشر هو أن تذكر متعدداً، أما تفصيلاً بالنص على كل واحد أو إجمالاً، بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد، وهذا هو اللف. ثم تذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم من غير تعيين، أشياء بأن السامع يرد كل واحد إلى ما يليق به، وهذا هو النشر.
فالأول وهو ذكر المتعدد تفصيلاً ضربان:
(1/68)
________________________________________
أحدهما: ما كان النشر فيه على ترتيب اللف، بأن يكون الأول من النشر للأول من اللف، والثاني للثاني، وهكذا على الترتيب، وهذا الضرب هو الأكثر في هذا النوع والأشهر فيه، ومثاله قوله تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) ذكر الليل والنهار على التفصيل، ثم ذكر ما لليل وهو السكون فيه، وما للنهار وهو الابتغاء من فضل الله على الترتيب.
وقول الشاعر:
الست أنت الذي من ورد وجنته ... وورد نعمته أجني وأغترفُ
وقول البهاء زهير:
ولي فيك قلب بالغرام مقيد ... له خبر يرويه طرفي مطلقا
ومن فرط وجدي في لماه وثغره ... أعلل قلبي بالعذيب وبالنقا
وقول ابن نباتة:
سألته عن قومه فانثنى ... يعجب من إسراف دمعي السخي
وأبصر المسك وبدر الدجى ... فقال ذا خالي وهذا أخي
وقول السيد أحمد المغربي من شعراء العصر:
إذا طال قرن أو تعرض مارق ... فهذا له قد وهذا له قط
فالقد: الشق طولاً، والقط: القطع عرضاً.
وبديع قول ابن مكنسة:
والسكر في وجنته وطرفه ... يفتح ورداً ويغض نرجسا
وقول مؤلفه عفا الله عنه، وفي كل من الأبيات الثلاثة شاهد له نحن فيه:
أفديه من رشأ تبدى واختفى ... كالبدر عند طلوعه ومغيبهِ
يجفو ويعتب معرضاً متدللا ... ويصد معتذراً بخوف رقيبه
نفسي الفداء له فقد حسن الهوى ... فيه وطاب بحسنه وبطيبه
ما شاء فليصنع فقلبي طوعه ... ودع العذول يلج في تأنيبه
وقوله أيضاً:
يا بريق الحياة ويا عذب البا ... ن لقد هجتما لقلبي وجدا
زدتماني شوقاً لظبي غرير ... حين أشبهتماه ثغراً وقدا
وبعده:
هكذا كل مغرم إن شرى البر ... ق وهز النسيم باناً ورندا
يستجد الأشواق وجداً ويز ... داد بتذكاره على الوقد وقدا
لا أخص النسيم والبرق والبا ... ن وإن جددت لشوقي عهدا
كل ما في الوجود يصبي المعنى ... بهوى ذلك الجمال المفدى
ولابن حيوس بين ثلاثة وثلاثة:
ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه
ومثله قول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجومْ
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم
وقول الآخر:
ورد ومسك ودر ... خد وخال وثغرُ
لحظ وجفن وغنج ... سيف ونبل وسحر
شعر وقد ووجه ... ليل وغصن وبدر
وقول حمدة ويقال حمدونة بنت زياد المؤدب وهي خنساء المغرب، شاعرة الأندلس، وهو من عجيب شعرها:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وليس لهم عند وعندك من ثارِ
وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالماء والسيف والنار
ومنهم من يزعم أن هذه الأبيات لمهجة بنت عبد الرحمن الغرناطية، وكونها لحمدة أشهر.
قال الرعيني بعد ذكر هذه الأبيات: كانت حمدة هذه من ذوي الألباب وفحول أهل الآداب، حتى أن بعض المنسلين تعلق بهذه الأهداب، وادعى نظم هذه الأبيات لما فيها من المعاني والألفاظ العذاب. وما غره في ذلك إلا بعد دارها، وخلو هذه الأبيات المشرقية من أخبارها، وقد تلبس بعضهم أيضاً بشعارها وادعى غير هذا من أشعارها.
وهو قولها:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميمِ
حللنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... الذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
تروع حصاة حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلد المشرقية للمنازي من شعرائهم، وركبوا التعصب في جادة إدعائهم، وهي أبيات لم يحكها غير لسانها، ولا رقم بردتها غير إحسانها، ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس، أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظ الموجود.
(1/69)
________________________________________
نقل الحافظ اليغموري: أن أبا نصر المنازي واسمه أحمد بن يوسف دخل على أبي العلاء المعري في جماعة من أهل الأدب، فأنشد كل واحد من شعره ما تيسر.
فأنشد المنازي: (وقانا لفحة الرمضاء وادٍ) - الأبيات - فقال أبو العلاء: أنت أشعر من بالشام، ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد فدخل أبو نصر المنازي عليه في جماعة من أهل الأدب ببغداد، وأبو العلاء لا يعرف منهم أحداً، فأنشد كل واحد ما حضره من شعره.
حتى جاءت نوبة المنازي فأنشد:
لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحى
شجى قلبي الخلي فقيل غنى ... وبرح بالشجي فقيل ناحا
وكم للشوق في أحشاء صب ... إذا اندملت أجد لها جراحا
ضعيف الصبر عنك وإن تقادى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحى
كذاك بنو الهوى سكرى صحاة ... كأحداق المها مرضى صحاحا
فقال أبو العلاء: ومن بالعراق، عطفاً على قوله: من بالشام، والله أعلم بصحة ذلك.
ومن اللف والنشر بين ثلاثة وثلاثة. قول الشيخ محمد باقشير من أهل العصر في بياع زيت جميل الصورة:
أفديه زياتاً رنا وانثنى ... كالبدر كالشادن كالسمهري
أحسن ما تبصر بدر الدجى ... يلعب بالميزان والمشتري
وفي البيت الثاني من البديع مراعاة النظير والتورية في محلين، ولله دره في هذين البيتين فلقد حاز بهما قصبات السبق في ميدان البلاغة، وأعجز صاغة القريض بحسن هذه الصياغة.
ومن غريب ما يحكى: أن الشيخ المذكور لم يكن يذوق من العربية شيئاً، وإنما نظمه من سليقة تفرغ في قوالب الكلام إبداعه وإحسانه، وتحمله على أن ينشد (ولست بنجوي يلوك لسانه) فيأتي من بديع النظم بما يشنف الآذان، ويهجم على القلوب من دون استئذان، فيبهر العقول بما يقول ويبهج النفوس بشعر المأنوس. ولا بأس بإثبات شيء منه هنا، ليكون شاهداً على ما ذكرناه، فمنه قوله يهجو جارية له سوداء مداعباً، وكتبها إلى السيد أحمد بن مسعود بن حسن الحسيني.

أبت صروب القضا المحتوم والقدر ... إلا أشابة صفو العيش بالكدرِ
وإن من نكد الأيام أن قربت ... دار ****** ولكن شط عن نظري
بي من سطا البين ما لو بالجبال غدت ... عهنا وبالسبعة الأفلاك لم تدر
نوى الأحبة والشوق الشديد وبي ... جوى تجدده مهما انقضى فكري
وزادني الدهر هماً لا يعادله ... هم بسمراء ألهتني عن السمر
زنجية من بنات الزنج تحسبها ... حظي تجسم جثماناً من البشر
كأن قامتها ليلي ومنخرها ... ذيلي وحسبك من طول ومن قصر
لها يد ألفت خطف الكسار ولو ... أمست تحوط بالهندية البتر
تسطو على القرص سطوي غير ذي جبن ... لو أنه بين ناب الليث والظفر
كم غادرتني من جوع ومن سغب ... حزناً أعض بنان النادم الحصر
ورب يوم غدا موتي يجر عني ... كاساته فيه حتى عيل مصطبري
أروضها تارة عتباً وأزجرها ... طوراً فلم ينهها عتبي ومزدجري
وربما أفحمتني القول قائلة ... ما لو أدرت جواباً عنه لم أحر
تخشى الردى وبنود المجد خافقة ... على ابن مسعود فرع الفرع من مضر
ليث القساطل جرار الجحافل محطا ... م الذوابل أمن الخائف ألحذر
وقوله في التشبيب:
ألآل ما أرى أم حبب ... أم أقاح لا ولكن شنبُ
حرمت وهي حلال قد جرى ... في خلال الطلع منها الضرب
ما درى بارق ذياك اللمى ... أن لي قلباً به يلتهب
دع لما قد نقل الراوي لنا ... عن لماه ما روته الكتب
آه ما أعذبه من مبسم ... وهو لو جاد به لي أعذب
ليت لو أن منالاً منه لي ... غير أن البرق منه خلب
جؤذر يرنو بعيني أغيد ... من مها الرمل أغن أغلب
هز عطفيه فلم يدر النقا ... أقنا ما هزها أم قضب
ومحيا كلف الحسن به ... فغدا ينشد أين المذهب
رق فاستعبد ألباب الورى ... فله في كل قلب ملعب
يا لها من نعمة في ضمنها ... مهلك هان وعز المطلب
وقوله في مليح اسمه قاسم:
يا من أبى إلا الجفا قسمة ... للصب آهٍ إن قسا الراحمُ
ما الصد كالوصل ولكنها ... ظلامة جار بها قاسم
(1/70)
________________________________________
ولنكتف منه بهذا المقدار وله كل معنى مليح، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين وألف بمكة المشرفة، وهي مولده ومنشؤه وموطنه.
رجع. ومنه بين أربعة وأربعة قول بعضهم:
ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والوهجِ
وقول ابن خفاجة وليس لها في الحسن نظير:
ومهفهف طاوي الحشا ... خنث المعاطف والنظرْ
ملأ العيون بصورة ... تليت محاسنها سور
فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر
فضح الغزالة والغما ... مة والحمامة والقمر
وهذه الأبيات عارض بها قول أبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة:
يا من يمر ولا تمر ... به القلوب من الفرق
بعمامة من خده ... أو خده منها استرقْ
فكأنه وكأنها ... قمر تعمم بالشفق
فإذا بدا وإذا انثنى ... وإذا شدا وإذا نطق
شغل الخواطر والجوا ... رح والمسامع والحدق
ولا يخفى أن أبيات ابن خفاجة تفوق هذه بترتيب اللف والنشر وتزيد عليها زيادة العشرين على العشر.
ومنه بين خمسة وخمسة.
قول أبي جعفر الأندلسي رفيق بن جابر وشارح بديعيته:
ملك يجيء بخمسة من خمسة ... كفي الحسود بها فمات لما به
من وجهه ووقاره وجواده ... وحسامه بيديه يوم ضرا به
قمر على رضوى تسير به الصبا ... والبرق يلمع من خلال سحابه
وقول أبي محمد بن حزم الأندلسي:
خلوت بها والسراح ثالثة لنا ... وجنح الظلام الليل قد مد واعتلج
فتاة عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج
كأني وهي والكأس والخمر والدجى ... حيا وثرى كالبدر والتبر والسبج
ولابن جابر ناظم البديعية بن ستة وستة:
إن شئت ظبياً أو هلالاً أو دمى ... أو زهر غصن في الكثيب الأملدِ
فللحظها ولوجهها ولشعرها ... ولخدها والقد والردف أقصد
وقلت أنا في ذلك:
الصبح والليل وشمس الضحى ... والدهر والدر ولين القضيبْ
في الفرق والطرة والوجه وال ... خدين والثغر وقد ******
ولنجم الدين البارزي بين سبعة وسبعة:
يقطع بالسكين بطيخة ضحى ... على طبق في مجلس لا صاحبهْ
كبدر ببرق د شما أهلة ... لدى هالة في الأفق بين كواكبه
كل من ألفاظ النشر في البيت الثاني من هذين البيتين راجع إلى منصوص في البيت الأول، إلا الأهلة فإنه راجع إلى الأشطار المفهومة من قوله: يقطع.
وسبق إلى هذا المعنى ابن قلاقس حيث قال:
أتانا الغلام ببطيخة ... وسكينة أحكموها صقالا
فقسم بالبرق شمس الضحى ... وأعطى لكل هلال هلال
وقال آخر:
ولما بدا ما بيننا منية النفس ... يحزز بالسكين صفراء كالورسِ
توهمت بدر التم قد أهلة ... على أنجم بالبرق من كرة الشمس
ولابن مقاتل الحموي بين ثمانية وثمانية:
خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وثغر وأرياق ولحن ومعربِ
كورد وسوسان وبان ونرجس ... وكأس وجريال وجنك ومضرب
وللصفي الحلي:
وظبي بقفر فوق طرف مفوق ... بقوس رمى في النقع وحشا بأسهمِ
كبدر بأفق فوق برق بكفه ... هلال رمى في الليل جنا بأنجم
ولبعضهم بين عشرة وعشرة:
شعر جبين محيا معطف كفل ... صدغ فم وجنات ناظر ثغرُ
ليل صباح هلال بانة ونقا ... آس أقاح شقيق نرجس در
ولابن جابر بين اثني عشرة واثني عشرة:
فروع سنى قد كلام فم لمى ... حلى عنق ثغر شذى مقلة خدُّ
دجى قمر غصن جنى خاتم طلا ... نجوم رشا در كبى نرجس ورد
وجل القصد هنا أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو وعقادة التركيب جامعاً بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة، وهنا انقضى الكلام على اللف والنشر المرتب.
والضرب الثاني مما ذكر فيه المتعدد تفصيلاً، هو ما كان فيه النشر على غير ترتيب اللف، وهو إما أن يكون الأول من النشر للآخر من اللف، والثاني لما قبله، وهكذا على الترتيب، ويسمى معكوس الترتيب.
كقول ابن حيوس:
كيف أسلو وأنت حقف وغصن ... وغزال لحظاً وقداً وردفا
(1/71)
________________________________________
فاللحظ للغزال والقد للغصن والردف للحقف، وهو النقا من الرمل، أو لا يكون كذلك، وليسم مختلط الترتيب، واللف والنشر المشوش، ولم يذكروا له من النظم مثالاً.
فقلت ممثلاً له:
حكيت الدجى والصبح والغصن والنقا ... قواماً وأردافاً وفرعاً ورونقا
وأخجلت حسنا طلعة البدر والرشا ... وورق الحمى لحظاً ووجهاً ومنطقا
والثاني - وهو ذكر المتعدد إجمالاً، قسم واحد، لا يتبين فيه ترتيب ولا عكس، مثاله قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى. فلف بين الفريقين إجمالاً في قوله: وقالوا، فإن الضمير فيه لليهود والنصارى، وإنما سوغه ثبوت العناد بين اليهود والنصارى، أو التضليل كل فريق صاحبه فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة، فوثق بالعقل في أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس.
ومنه قول طرفة بن العبد وهو بالطاء والراء المهملتين المفتوحتين. ومنهم من يقول: طرفة بضم الطاء المهملة. وهو تحريف بحت فاحذره:
فلولا ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنباً ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة نحت الخباء المعمد
الجد: السعد. وقوله: لم أحفل، أي لم أبال، والعود جمع عائد وهو الزائر في المرض، يعني لم أبال متى قام عودي من عندي آيسين من حياتي. والشربة هنا: الخمر، وكميت: فيها حمرة وبياض. وتعل: تمزج. وتزبد: تصير عليها رغوة، يريد أن يباكر شرب الخمر قبل انتباه العواذل. والكر: العطف. والمضاف - بضم الميم وفتح الضاد المعجمة -: ألذي أحيط به في الحرب. ومجنبا - بالجيم -: فرساً في رجله تجنيب، وهو انحناء وتوتير مستحب في أرجل الخيل. والشيد: الذئب. والغضا: شجر. والمتورد: الذي صار لونه أحمر من دم الفرائس. والدجن: الباس الغيم آفاق السماء. والبهكنة: المرأة السمينة الناعمة. والمعمد: المرفوع بالعمد.
ولأبي حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن حسين بن أبي الحديد المعتزلي، ومولده بالمدائن يوم السبت سنة ست وثمانين وخمسمائة:
لولا ثلاث لم أخف صرعتي ... ليست كما قال فتى العبدِ
أن أنصر التوحيد والعدل في ... كل مكان باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعا ... بخلوة أحلى من الشهد
وإن أتيه الدهر كبرا على ... كل لئيم أصغر الخد
لذاك أهوى لا فتاةٍ ولا ... خمر ولا ذي ميعة نهد
ولضياء الدين أبي جعفر أحمد بن صابر القيسي الطاهري:
لولا ثلاث هن والله من ... أكبر آمالي في الدنيا
حج لبيت الله أرجو به ... أن يقبل التوبة والسعيا
والعلم تحصيلاً ونشراً إذا ... رويت أوسعت الورى ريا
وأهل ود أسأل الله أن ... يمتع بالبقيا إلى اللقيا
ما كنت أخشى الموت أنى أتى ... بل لم أكن ألتذ بالمحيا
وللشيخ أثير الدين أبي حيان النحوي:
أما أنه لولا ثلاث أحبها ... تمنيت أني لا أعد من الأحيا
فمنها رجائي أن أفوز بتوبة ... تكفر لي ذنباً وتنجح لي سعيا
ومنهن صوتي النفس عن كل جاهل ... لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا
ومنهن أخذي للحديث إذا الورى ... نسوا سنة المختار واتبعوا ألرأيا
أتترك نصاً للرسول وتقتدي ... بشخص لقد بدلت بالرشد الغيا
وللشيخ صلاح الدين الصفدي على وزن أبيات ابن أبي الحديد ورويه:
لولا ثلاث هن أقصى المنى ... لم أهب الموت الذي يردي
تكميل ذاتي بالعوم التي ... تنفعني إن صرت في لحدي
والسعي في رد الحقوق التي ... لصاحب نلت به قصدي
وأن أرى الأعداء في صرعة ... لقيتها في جمعهم وحدي
فبعدها اليوم الذي حم لي ... عندي استوى في القرب والبعد
(1/72)
________________________________________
تنبيه - قال الحافظ السيوطي في الإتقان: قد يكون الإجمال في النشر لا في اللف، بأن يؤتى بمتعدد، ثم يلفظ يشتمل على متعدد يصلح لها كقوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل. انتهى. فعلى هذا يكون ذكر المتعدد إجمالاً قسمين، أحدهما ما كان فيه الإجمال في اللف والثاني ما كأن فيه الإجمال في النشر، وإذا ثبت ذلك كانت الفذلكة أيضاً من القسم الإجمالي الذي وقع فيه الإجمال في النشر، لأنها عكس ما تقدم من الأمثلة لذكر المتعدد إجمالاً في اللف فأعلم.
وأرباب البديعيات لم ينظموا إلا اللف والنشر المرتب، لأنه هو أشهر أقسامه وأعلاها رتبة عند علماء البديع.
وبيت الشيخ صفي الدين قوله:
وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهم بهمِ
هذا البيت غاية في بابه لما اشتمل عليه من السهولة والرقة وعدم الحشو.
وابن جابر لم ينظم هذا النوع إلا في بيتين مع عقادة التركيب وهما:
حيث الذي إن بدا في قومه وحبا ... عفاته ورمى الأعداء بالنقمِ
والبدر في شبهه والغيث جاد الذي ... محل وليث الشرى قد جال في الغنم
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
نشر ويسر وبشر من شذا وندى ... وأوجه فتعرف طي نشرهمِ
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
فالطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهممِ
لا يخفى ما في هذا البيت من الثقل الذي يخف عنده رضوى، ومعناه من الركاكة في الغاية القصوى، ولا أعظم من نشر العظم في هذا النظم، فإن الأسماع لا تسيغه، والعز الموصلي وإن لم يكن لقوله: فتعرف طي نشرهم نص في اللف، بل هو فضلة أتى به لتسمية النوع، لكنه على كل حال أخف على السمع من هذا البيت لفظاً ومعنى، وأحسن منه تشييداً ومبنى.
وبيت الطبري قوله:
لفي ونشري اعتمادي لوعتي ولهي ... فيهم إليهم عليهم منهم بهمِ
وبيت بديعيتي هو قولي:
لفي ونشري انتهائي مبدئي شغفي ... معهم لديهم إليه منهم بهمِ
في هذين البيتين وهما فرساً رهان في هذا الميدان، رد على ابن حجة حيث قال: لو التزم الشيخ صفي الدين إن يسمى هذا النوع لتجافت عليه تلك الرقة، وهذان مع التزام التسمية ملكاً من حسن الانسجام والسهولة رقه، فلو أدركهما ابن حجة لقامت عليه الحجة.
وبيت المقري قوله:
سقمي دموعي نحولي خمرتي معه ... في اللحظ والعقد والأحشا وريق فمِ
الالتفاف
ما أسعد الظبي لو يحيك لحاظهم ... أو كنت يا ظبي تعزى لالتفاتهمِ
الالتفات - مأخوذي من التفات الإنسان من يمينه إلى شماله، ومن شماله إلى يمينه، وهو عند الجمهور: التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة، أعني: التكلم والخطاب والغيبة، بعد التعبير عنه بطريق آخر منها.
وقال السكاكي: هو أما ذلك أو أن يكون مقتضى الظاهر التعبير عنه بطريق منها، فعدل إلى الآخر. فهو عنده أعم، فكل التفات عند الجمهور التفات عنده من غير عكس.
فقول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقدِ
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني ... وخبرني عن أبي الأسود
فيه عند السكالي ثلاث التفاتات، أحدهما في (ليلك) ، لأنه خطاب ومقتضى الظاهر (ليلي) بالتكلم، والثاني في (باتَ) لأنه غيبة ومقتضى الظاهر (بت) بالتكلم أيضاً، والثالث في (جاءني) لأنه تكلم ومقتضى الظاهر (جاءك) بالخطاب. وعند الجمهور فيه التفاتان وهما الثاني والثالث وأما الأول فليس عندهم بالتفاف، لأنه لم يقع بعد التعبير عنه بطريق آخر من الطرق الثلاثة بخلاف الآخرين.
(1/73)
________________________________________
قال في المفتاح: والعرب يستكثرون من الالتفات، ويرون الكلام إن انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القلوب عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه، واملأ باستدرار إصغائه، وهم أحرياء بذلك، أليس قري الأضياف سجيتهم، ونحر العشار للضيف دأبهم وهجيراتهم؟ - لا مزقت أيدي الأدوار لهم أديماً ولا أباحت لهم حريما - أفتراهم يحسنون قري الأشباح فلا يخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم، ولا يحسنون قرى الأرواح فلا يخالفون بين أسلوب وأسلوب، وإيراد وإيراد؟ فإن الكلام المفيد عند الإنسان - لكن بالمعنى لا بالصورة - أشهى غذاء لروحه، وأطيب قرى لها. انتهى.
وهذا الوجه وهو إفادة التطرية لنشاط السامع هو فائدته العامة، وقد يختص كل موقع بنكت ولطائف باختلاف محله. وأقسامه ستة، حاصلة من ضرب الطريق الثلاثة في الاثنين، لأن كلا من الطرق الثلاثة ينقل إلى الآخرين.
أحدهما الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ومثاله قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) إلى قوله (إياك نعبد وإياك نستعين) فالتفت من الغيبة إلى الخطاب، والنكتة فيه أن العبد إذا ذكر الحقيقة بالحمد عن قلبٍ حاضر، ثم ذكر صفاته التي كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال، وآخرها (مالك يوم الدين) المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء، يجد من نفسه حاملاً لا يقدر على دفعه، على خطاب من هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.
ومن أمثلته في الشعر قول ربيعة بن مقروم:
تهدمت الحياض فلم يغادر ... لحوض من نصائبه إزاءُ
لخولة إذ هم مغنى وأهلي ... وأهلك ساكنون وهم رتاءُ
ففي قوله وأهلك التفات من الغيبة إلى الخطاب. والنصائب: حجارة تنصب حول الحوض. والإزاء: مصب الماء إلى الحوض. ورتاء، أي متقابلة.
وقول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوع ... سقيت الغيث أيتها الخيامُ
وقول أبي العلاء المعري:
هي قالت لما رأت شيب رأسي ... وأرادت تنكراً وأزوارارا
أنا بدر وقد بدا الصبح في را ... سك والصبح يطرد الأقمار
لستِ بدراً وإنما أنت شمس ... لا ترى في الدجى وتبدو نهارا
وقول شريف الرضي) رضي الله عنه (:
مَن شافعي وذنوبي عندها الكبر ... إن البياض لذنب ليس يغتفرُ
راحت تريح عليك الهم صاحية ... وعند قلبك من غي الهوى سكر
رأت بياضك مسوداً مطالعه ... ما فيه للحب لا عين ولا أثرُ
وأي ذنب للون راق منظره ... إذا أراك خلاف الصبغة الأثر
وما عليك ونفسي فيك واحدة ... إذا تلون في ألوانه الشعر
وقول أبي الحسن التهامي:
أهدت لنا من خدها ورضابها ... ورداً تحيينا به وشمولا
ورداً إذا ما شم زاد غضاضة ... ولو أنه كالورد زاد ذبولا
وجلت لنا برداً يشهي برده ... نفس الحصور العابد التقبيلا
لم أنسها تشكو الفراق بأدمع ... ما اعتدن في الخد الأسيل سبيلا
فرأيت سيف اللحظ ليس بمغمد ... من تحت أدمعها ولا مسلولا
إن دام دمعك فاحذري غرقا به ... فإذا توالى القطر صار سيولا
حطي النقاب لعل سرح لحاظنا ... في روض وجهك يرتعين قليلا
لما اتنقبت حسبت وجهك شعلة ... خلل النقاب وخلته قنديلا
وقول شيخنا محمد بن علي الشامي:
زعمت بثينة إن قلبك قد سلا ... من لي بقلب مثل قلبك قلبِ
وفي هذا البيت التفاتان، أحدهما من الخطاب إلى التكلم، والثاني من الغيبة إلى الخطاب، وهو ما نحن فيه. وعلى رأي السكالي، فيه ثلاث التفاتات كما لا يخفى.
وما أحسن قوله بعده:
قد كنت آمل أن تموت صبابتي ... حتى نظرت إليك يا ابنة يعربِ
فطربت ما لم تطربي ورغبت ما ... لم ترغبي ورهبت ما لم ترهبي
وقول الشيخ حسين الطبيب من قصيدة يمدح بها الوالد:
خليلي عوجاً بي على أيمن الحمى ... لعل سماحاً بالوصال تسامحُ
سواء علي الموت أم شطت النوى ... بسمحاء أم حز الوريدين ذابح
تجنبتها لا عن ملال ولا قلى ... ولكن مصاب يصدع القلب فادح
وإن رمت أسلو حبها حال دونه ... رسيس جوى ضمت عليه الجوانح
قضى الله يا سمحاء بالبين بينا ... إلا كل ما يقضي به الله صالح
(1/74)
________________________________________
حنانيك أنت الداء والبرء إنما ... يفوز ويشقى فيك دان ونازحُ
من الاتفاق الغريب إن هذه الأبيات جرت على لسان الشيخ المذكور مجرى الفأل، فقضى الله سبحانه بالبين بين الشيخ وبين فتاته سماح المتغزل فيها بهذه الأبيات، فتوفى بعد نظمه هذه القصيدة بأيام يسيرة.
الثاني الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وهو عكس الأول، ومثاله قوله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) والأصل بكم، ونكتته العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم، التعجب من كفرهم وفعلهم، واستدعاء الإنكار منهم عليهم، فلو استمر على خطابهم لفاتت هذه الفائدة، وقيل فيها غير ذلك.
ومن أمثلته في الشعر قول النابغة الذبياني:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرمِ
كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلمِ
وقول بعضهم:
أن يكن مسك الليالي بصرف ... فهو مثل الحسام يجلو صقلُ
وقول البحتري:
ضمان على عينيك إني لا أسلو ... وإن فؤادي من جوى بك لا يخلو
ولو شئت يوم الجزع بل غليله ... محب بوصل منك أن أمكن الوصل
وما النائل المطلوب منك بمعوز ... لديك بل الإسعاف بعوز والبذل
أطاع لها دل غرير وواضح ... شتيت وقد مرهف وشوى خدل
وألحاظ عين ما علقن بفارغ ... فخلينه حتى يكون له شغل
وعندي أحشاء تساق صبابة ... إليها وقلب من هوى غيرها غفل
وقول الشريف الرضي يخاطب الخلفاء العباسيين:
ردوا تراث محمد ردوا ... ليس القضيب لكم ولا البرد
هل أعرقت فيكم كفاطمة ... أم هل لكم كمحمد جد
جل افتخارهم بأنهم ... عند الخصام مصاقع لد
إن الخلائف والأولى فخروا ... بهم علينا قبل أو بعد
شرفوا بنا ولجدنا خلقوا ... فهم صنائعنا إذا عدوا
الثالث - الالتفات من الغيبة إلى التكلم، ومثاله قوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميتٍ) والأصل (فساقه) . قال الزمخشري: وفائدته في هذه الآية وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وإنه لا يدخل تحت قدرة أحد.
ومن أمثلته في الشعر قول مهيار بن مرزويه الكاتب:
حمام اللوى رفقاً به فهو لبه ... جواد رهان نوحكن ونحبهُ
أعمداً تهيجن أمرأ بأن أنسه ... وأسلمه حتى أخوه وصحبه
أمر ومهري مغرمين على اللوى ... فأسأله أو كان ينطق تربه
وقول الحاجري:
أهل لك في إعانة مستهام ... يقاد إلى الغرام بلا زمامِ
تعرض بالخيام على زرود ... فراح وقلبه بين الخيام
عريب البر كيف أبيح قتلي ... أليس العرب تعرف بالذمام
وقول شهاب الدين التلعفري:
لا تقولوا سلا ومل هوانا ... وتسلى عنا بحب سوانا
كيف يسلوكم ويصبر عنكم ... من يرى سيئاتكم إحسانا
قسماً بعد بعدكم وجفاكم ... لم يفارق لي البكا أجفانا
وقوله:
خل الشجي وقلبه وكلومه ... فعلام تعذله وفيم تلومهُ
هذا عتابك قد أطلت حديثه ... وهوى فؤادي قد يراه قديمه
وقولي وهو صدر قصيدة مدحت بها الوالد، مهنئاً له بالنيروز ستة إحدى وسبعين:
من لحزين كلفٍ موجع ... قد شفه الشوق إلى الأربعِ
ما لي وللأربع ما لم تكن ... ربوع سلمى ربة البرقع
لم أنس عصراً قد تقضى بها ... وجمعنا إذ هو لم يصدع
بكيت يوم البين وجداً فلم ... أبق لذكرى الوصل من أدمعي
فهل لذاك الشمل من ناظمٍ ... أم هل لذاك العصر من مرجع
الرابع - الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وهو عكس الذي قبله، ومثاله قوله تعالى: (إني رسول الله إليكم جميعا) إلى قوله: (فآمنوا بالله ورسوله) والأصل (وبي) فعل عنه لنكتتين، أحدهما دفع التهمة عن نفسه بالمعصية لها، والأخرى تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص والمتلوة.
ومن أمثلته في الشعر قول عبد الهل بن طاهر:
وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي ... أخشى عقوبة مالك الأملاكِ
(1/75)
________________________________________
ماذا عليك ... دفنت قلبك في الثرى
من أن أكون خليفة المسواك
أيجوز عندك أن يكون متيماً ... دنفاً بحبك دون عود أراك
وقو مهيار الديلمي:
أنذرتني أم سعد أن سعداً ... لم يزل ينهد لي بالشر نهدا
ما على قومك إن صار لهم ... أحد الأحرار من أجلك عبدا
فيه التفاتان، أحدهما من الغيبة إلى الخطاب، والثاني من التكلم إلى الغيبة وهو ما نحن فيه لأن الأصل (ما على قومها إن صرت لهم عبدا) والنكتة في العدول ظاهرة.
ومنها قول كثير عزة وهو من مختار كلامه:
لقد هجرت سعدي وطال صدودها ... وعاود عيني دمعها وسهودها
وكنت إذا ما جئت سعدي بأرضها ... أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة تعيدها
منعمة لم تلق بؤساً وشقوة ... هي الخلد في الدنيا لمن يستفيدها
هي الخلد ما دامت لا هلك جارة ... وهل دام في الدنيا لنفس خلودها
فتلك التي أصفيتها بمودتي ... وليداً ولما تستبن لي نهودها
وقد قتلت نفساً بغير بمودتي ... وليس لها عقل ولا من يقيدها
الأصل (وقد قتلتني) فعدل عن ذلك لتهويل أمره تلميحاً إلى قوله تعالى: (من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) ، فلو استمر على التكلم لفاتت هذه النكتة.
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
أحيي هواه وهواه قاتلي ... ما أربح الشامي لو أودى بهِ
وحشي قلبي ضل عنه ريمه ... فظل يفلي البيد في طلابه
عجلان ما أخنى عليه قلبه=لو أنه في كفه دحى به الخامس - الالتفات من الخطاب إلى التكلم، ولم يقع في القرآن، قال الحافظ السيوطي في الإتقان: ومثل له بعضهم بقوله: (فاقض ما أنت قاضٍ) ثم قال: (إنا آمنا بربنا) وهذا المثال لا يصح، لأن شرط الالتفاف أن يكون المراد به واحداً. انتهى.
ومن أمثلته في الشعر قول علقمة بن عبدة:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حال مشيبُ
تكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعاد عواد بيننا وخطوب
فالتفت من الخطاب في (طحابك) إلى التكلم في (تكلفني) ، وطحابك أي ذهب بك. وشط وليها، أي بعد قربها وعهدها.
وقول القطامي:
نأتك بليلى نية لم تقارب ... وما حب ليلى من فؤادي بذاهبِ
وقول أبي فراس بن حمدان:
وقوفك بالديار عليك عار ... وقد رد الشباب المستعارُ
أبعد الأربعين محرمات ... تمادٍ في الصبابة واغترارُ
نزعت عن الصبا إلا بقايا ... يحقرها على الشيب الوقارُ
وطار الليل بي ولرب دهر ... نعمت به لياليه قصار
وما أحسن قوله بعده:
وندماني السريع إلى ندائي ... على عجلٍ وأقداحي الكبارُ
عسفت بها عواري الليالي ... أحق الخيل بالركض المعارُ
وكم من ليلة لم أروَ منها ... حييت لها وأرقني أدكار
قضاني الدين ما طله وأوفى ... إلي بها الفؤاد المستطار
فبت أعل خمراً من رضاب ... لها سكر وليس لها خمار
إلى أن رق ثوب الليل عنا ... وقالت قم فقد برد السوار
وولت تسرق اللحظات نحوي ... بملتفت كما التفت الصوار
دنا ذاك الصباح فلست أدري ... أشوق كان منه أم ضرار
فقد عاديت ضوء الصبح حتى=لطرفي عن طالعه أزورارُ ومنها قولي وهو من أوائل نظمي:
ذاك الحجاز وهذه كثبانه ... فاحفظ فؤادك أن رنت غزلانهُ
واسفح دموعك إن مرت بسفحه ... شغفاً به إن الدموع جمانه
وسل المنازل عن هوى قضيته ... هل عائد ذاك الهوى وزمانه
لهفي على ذاك الزمان وأهله ... وسقاه من صوب الحيا هتانه
إذا كان حبل الوصل متصلاً بنا ... والعيش مورقة به أغصانه
وإذ المعاهد مشرقات بالمنى ... والربع مغنى لم تبن سكانه
وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
أجدك شايعت الحنين المرجعا ... وغازلت غزلاناً على الخيف رتعا
وطالعت أقماراً على وجرة النقا ... وقد كنت أنهى العين أن تتطلعا
وما ألطف قوله بعده:
ولم أر مثل الغيد أعصى على الهوى ... ولا مثل قلبي للصبابة أطوعا
(1/76)
________________________________________
ومن شيمي والصبر مني شيمة ... متى أرم أطلالاً بعيني تدمعا
وقور على يأس الهوى ورجائه ... فما أتحسى الهم ألا تجرعا
خليلي مالي كلما هب بارق ... تكاد حصاة القلب أن تتصدعا
طوى الهجر أسباب المودة بيننا ... فلم يبق في قوس التصبر منزعا
لي الله كم أغضى الجفون على القذى ... وأطوي على القلب الضلوع توجعا
السادس - الالتفات من التكلم إلى الخطاب، وهو عكس الذي قبله ومثاله قوله تعالى: (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) الأصل (وإليه أرجع) فالتفت من التكلم إلى الخطاب ونكتته أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه، وهو يريد نصح قومه تلطفاً وإعلاماً أنه يريد لهم ما يريد لنفسه، ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله، كذا قال غير واحد. واعترض بأن هذا إنما يصح أن لو قصد الإخبار عن نفسه في كلا الجملتين. وليس بمتعين، لجوار أن يريد بقوله: ترجعون، المخاطبين لأنفسه. وأجيب: بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكاري، لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يعبده غير ذلك الراجع، فالمعنى: كيف لا أعبد من إليه رجوعي، وإنما عدل عن قوله: وإليه أرجع، إلى واليه ترجعون، لأنه داخل فيهم؛ ومع ذلك أفاد فائدة حسنة وهي؛ تنبيههم على أنه مثلهم في وجوب عبادة من إليه الرجوع.
ومن أمثلته في الشعر قول مجنون ليلى:
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم انثنى ... على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا
وقوله أيضاً:
تمر الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا ... ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
إذا هبت الريح الشمال فإنما ... جواي بما تهدى إلي جنوبها
قريبة عهد ب****** وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث حل حبيبها
وحسب الليالي أن طرحنك مطرحاً ... بدار قلىً تمسي وأنت غريبها
وقول عروة بن حزام صاحب عفراء:
أقول لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن داويتني لأريبُ
فوا كبدي أمست رفاتاً كأنما ... يلذعها بالموقدات طبيب
عشية لا عفراء منك بعيدة ... فتسلو ولا عفراء منك قريب
وقوله أيضاً:
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفياني
فما تركا من حيلة يعلمانها ... ولا شربة إلا وقد سقياني
ورشا على وجهي من الماء ساعة ... وقاما مع العواد يبتدران
وقالا شفاك الله والله ما لنا ... بما ضمنت منك الضلوع يدان
فويلي على عفراء ويل كأنه ... على الصدر والأحشاء حد سنان
فيا رب أنت المستعان على الذي ... تحملت من عفراء منذ زمان
فعفراء أوفى الناس عندي مودة ... وعفراء عني المعرض المتواني
أفي كل يوم أنت رام بلادها ... بعينين إنسانا هما غرقان
فالتفت من التكلم إلى خطاب نفسه، ليتأتي له الإنكار ويخرج الكلام مخرج العذل. فلو استمر على التكلم فاته ذلك.
ومنها قول الصردر:
ومعنف في الوجد قلت له أتئد ... فالدمع دمعي والحنين حنيني
ما نافعي إذ كان ليس بنافعي ... جاه الصبا وشفاعة العشرين
لا تطرقن خجلاً للومة لائم ... ما أنت أول حازم مفتون
فهذه جملة أقسام الالتفات الست وأمثلتها، وهنا تنبيهان: أحدهما - ذكر صدر الأفاضل في ضرام السقط: إن من شرط الالتفات أن يكون المخاطب بالكلام في الحالين واحداً، كقوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فإن ما قبل هذا الكلام وإن لم يخاطب به الله من حيث الظاهر، فهو بمنزلة المخاطب به لأن ذلك يجري من العبد مع الله لامع غيره.
بخلاف قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاحِ
أغثني يا فداك أبي وأمي ... بسببٍ منك اتك ذو ارتياح
فإنه ليس من الالتفات في شيء، لأن المخاطب بالبيت الأول امرأته، وبالبيت الثاني هو الخليفة. انتهى.
فهذا أخص من تفسير الجمهور، لأن البيتين عندهم من الالتفات، لأنه عبر عن الخليفة أولاً بطريق الغيبة، وثانياً بطريق الخطاب.
وقال الصدر المذكور في قول أبي العلاء:
(1/77)
________________________________________
هل يزجرنكم رسالة مرسلٍ ... أم ليس ينفع في أولاك ألوكُ
إنه إضراب عن خطاب بني كنانة إلى الإخبار عنهم، وإن كان يرى من قبل الالتفات فليس منه، لأن المخاطب بهل يزجرنكم من نبو كنانة، وبقوله: أولاك أنت. انتهى.
وهو عند الجمهور التفات من الخطاب في (يزجرنكم) إلى الغيبة في (أولاك) بمعنى أولئك.
الثاني - قد يطلق الالتفات على معنيين آخرين، أحدهما - تعقيب الكلام بجملة مستقلة متلافية له في المعنى، على طريق المثل والدعاء أو نحوهما كما في قوله تعالى: (وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) وقوله تعالى: (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم) .
وقول جرير:
أتنسى يوم تصقل عارضيها ... بفرع بشامة سقي البشامُ
قال إسحاق الموصلي: قال لي الأصمعي: أتعرف التفات جرير؟ قلت: وما هو؟ فأنشدني البيت ثم قال: أما تراه مقبلاً على شعره إذا التفت إلى البشام فدعا له.
ويسمى ما عقب بجملة مستقلة على طريق المثل، التمثيل، وسيأتي ذكره منفرداً في بيت من البديعية إنشاء الله تعالى.
الثاني أن تذكر معنى فتتوهم أن السامع اختلجه شيء فتلتفت إلى كلام تزيل اختلاجه، ثم ترجع إلى مقصودك، كقول ابن ميادة:
فلا صرمه يبدو في اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه
كأنه لما قال: فلا صرمه يبدو، قيل له: وما تصنع به؟ فأجاب بقوله: وفي اليأس راحة. ويسمى هذا الاعتراض، وسيأتي والله أعلم: وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
وعاذل رام بالتعنيف يرشدني ... عدمت رشدك هل أسمعت ذا صممِ
وابن جابر الأندلسي لم ينظم هذا النوع في بديعيته.
وبيت الموصلي قوله:
وما التفت لشان حج في شغفي ... ما أنت للركن من وجدي بملتزمِ
وبيت ابن حجة قوله:
وما أروني التفاتاً عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدري بالتفاتهمِ
وقد أطنب ناظمه في مدحه وإطرائه، فلنذكر ما أطراه به، ثم تتكلم عليه: قال: إنه البيت الذي حظيت من بابه بالفتح، وناده الغير من وراء حجراته، وتغايرت ظباء الصريم، وهو في سرب بديعه على حسن التفاته؛ وودت ربوع البديعيات أن تسكن منها في بيت، ولكن راودته التي هي في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب؛ وقالت: هيت. ولقد أنصف الحريري في المقامة الحلوانية عند إيراد الجامع لمشبهات الثغر بقوله: يا رواة القريض، وأساة القول المريض أن خلاصة الجوهر، تظهر بالسبك، ويد الحق تصدع رداء الشك. قلت: وأنا ماش في غرض بيت بديعيتي على هذا السنن، وأرجو أن يكون بحسن التفاته في مرآة الذوق مثل الغزال نظرة ولفتة. وفيه التورية بتسمية النوع، وقد برزت في أحسن قوالبها. ومراعاة النظيرة في الملائمة بين الالتفات والظبي، والنفرة والانسجام، الذي أخذ بمجامع القلوب رقة. والتمكن الذي ما تمكنت قافية باستقرارها في بيت كتمكين قافيته. والسهولة التي عدها التيفاشي في باب الظرافة، وناهيك بظرافة هذا البيت. والتوشيح وهو الذي يكون معنى أول الكلام دالاً على آخره. فقد اشتمل هذا البيت على ثمانية أنواع من البديع مع عدم التكلف. انتهى.
وأنا أقول: ما زال الأدباء يستظرفون ويتعجبون ويضحكون من طريقة أبي الحسن علي بن هارون المنجم، حال إنشاده شعره حتى جاء هذا المتشدق ابن حجة، فزاد عليه وأربى بشيء كثير، فإن هذاك كان يتبجح ويتكلم بلسانه، ثم ينقضي الكلام. وهذا قاله: بفمه وأثبته في كتابه بقلمه، فخلده على مر الزمان؛ أضحوكة لأولي الألباب والأذهان.
وطريقة ابن النجم المشار إليها هي: ما حكاه الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى، في كتاب الروزنامجة، الذي كتبه إلى أستاذه ابن العميد إياه كونه ببغداد.
قال: استدعاني الأستاذ أبو محمد - يعني الوزير المهلبي - فحضرت وابنا المنجم في مجلسه، وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد لأحضره؛ فأنشدا وجوداً بعد تشبيب طويل، وحديث كثير. فإن لأبي الحسن رسماً أخشى تكذيب سيدنا أن شرحته، وعتابه أن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيد أحب إلي من أن أكون في رتبة مقصر.
(1/78)
________________________________________
يبتدي فيقول ببحة عجيبة، بعد إرسال دموعه وتردد الزفرات في حلقه واستدعائه - من جؤذار غلامه - منديل عبراته: والله والله وإلا فإيمان البيعة تلزمه بحلها وحرامها، وطلاقها وعتاقتها، وما ينقلب إليه حزام وعبيدة لوجه الله أحرار إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله، أو أتفق من عهد أبي دؤاد الأيادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله. بلى عيبه أن محاسنه تتابعت، وبدائعه ترادفت. فقد كان في الحق أن يكون كل بيت منه في ديوان بجمله ويسود به شاعره.
ثم ينشد، فإذا بلغ بيتاً تعجب من نفسه فيه وقال: أيها الوزير، من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هارون بن علي بن يحيى أبي منصور المنجم جليس الخلفاء، وأنيس الوزراء.
ثم ينشد الابن والأب يعوذه ويهتز له؛ ويقول: أبو عبد الله؛ استودعته الله؛ ولي عهدي؛ وخليفتي من بعدي؛ لو اشتجر اثنان بين مصر وخراسان لما رضيت لفصل ما بينهما سواء؛ وأمتعنا الله به ورعاه.
وحديثه عجب؛ إن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته. انتهى.
وإطراء ابن حجة لبيته قريب من هذا، وبعض المعاني متوافقة، وهذا المعنى مكروه للشاعر.
قال نصر الله ابن الأثير في كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب: يكره الشاعر أن يكون معجباً بنفسه مثنياً على شعره وإن كان مجيداً؛ إلا أن يريد ترغيب ممدوح أو ترهيبه، وقد جوز له ذلك مسامحة. انتهى.
ونرجع إلى بيت ابن حجة فنقول: في كونه من التفات نظر، لأنهم اشترطوا في الالتفات أن يكون المراد به واحداً كما تقدم عن الحافظ السيوطي في الإتقان، ويعطيه حدهم له أيضاً. والالتفات في بيته ليس كذلك لأنه أخبر أولاً من أحبابه أنهم لم يروه التفاتاً، ثم خاطب الظبي. وليس هذا من الالتفات المصطلح عليه عند الجمهور، نعم لم أخبر عن الظبي أولاً ثم خاطبه كان التفاتاً.
كما وقع في بتي بديعيتي وهو:
ما أسعد الظبي لو يحيك لحاظهم ... أو كنت يا ظبي تعزى لالتفاتهمِ
فذهب كلام ابن حجة في إطراء بيته ضائعاً، وهذا آفة العجب نعوذ بالله منه.
وبيت بديعية الطبري قوله:
قالوا وما التفتوا من بعند نفرتهم ... فلا تلمهم فما نفع بلومهمِ
هذا البيت عامر من الركة، ومقول القول في البيت الذي بعده، وهو بيت الكلام الجامع؛ وسيأتي إنشاده في محله؛ وهذا أعني كون البيت متعلقاً بغيره قبيح في البديعية؛ لأنهم قالوا: ينبغي أن يكون كل بيت منها مستبداً بمعناه، ليكون شاهداً على النوع الذي اشتمل عليه، من غير أن يحتاج إلى إنشاد سواه.
وبيت بديعية المقري قوله:
بين تولى فولى القلب ناحية ... أخرى عدمتك من وال ومن حكمِ
قوله: بين تولى، يعني من الولاية، وقوله: فولى القلب يعني؛ فر؛ فالمخاطب بقوله: عدمتك، هو البين، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب.

الاستدراك
أمثلت عودهم بعد العتاب وقد ... عادوا ولكن إلى استدراك صدهمِ
الاستدراك - هو رفع توهم يتولد من الكلام السابق رفعاً شبيهاً بالاستثناء، وهو معنى لكن.
ويشترط فيه هنا زيادة نكتة طريفة على معنى الاستدراك، لتحسنه وتدخله في البديع، وإلا فلا يعد منه؛ وهو قسمان. قسم يتقدم الاستدراك تقرير وتوكيد؛ أما لظفاً أو معنى لما أخبر به المتكلم، وهذا هو الأكثر الذي بنى عليه فحول أرباب البديعيات أبياتهم، وقسم لا يتقدمه ذلك.
فالأول كقول أبي الحسن بن فضال النحوي على ما في ربيع الأبرار للزمخشري، وقيل لابن الرومي:
وإخوان تخذتهم دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالوا قد سعينا كل سعي ... لقد صدقوا ولكن في فساد
ونسب بعضهم هذه الأبيات إلى علي) عليه السلام (، وزعم أنه قالها في شأن طلحة والزبير. قال الشيخ حسين الطبيب في شرح شواهد المطول: وليس عليها طلاوة كلامه) عليه السلام (.
وقال صاحب القاموس: قال المازني: لم يصح أن علياً) عليه السلام (تكلم بشيء من الشعر غير هذين البيتين، وصوبه الزمخشري وهما:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
وذات ودقين: الداهية كأنها ذات وجهين:
(1/79)
________________________________________
وقول القاضي الأرجاني:
غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة من اللحم العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما
أخذه آخر فقال:
شكوت صبابتي يوماً إليها ... وما قاسيت من ألم الغرامِ
فقالت أنت عندي مثل عيني ... لقد صدقت ولكن في السقام
واختصر الشيخ عبد الرحيم العباس بيتي الأرجاني فقال:
غالطتني حين قالت ... والدوى يبرى العظاما
أنت عندي مثل عيني ... صدقت لكن سقاما
وله أيضاً في هذا النوع:
طلبت خصماً فلاذ مني ... بظلمة سفلة مغابِ
وقال ذا في حمى كليب=يصدق لكن من الكلاب ومنه قول ابن أبي حجلة:
شكوت إلى ******ة سوء حظي ... وما ألقه من ألم البعادِ
فقالت أنت حظك مثل عيني ... فقلت نعم ولكن في السواد
وقول صدر الدين بن ال****:
وبي من قسا قلباً ولان معاطفا ... إذا قلت أدناني يضاعف تبعيدي
أقر برق إذ أقول أنا له ... وكم قالها يوماً ولكن لتهديدي
وقول هبة الله بن سناء الملك:
أسر لطول أسري في يديه ... فيغضب إذ أسر لطول أسري
سألت الله أن يبلى بعشقٍ ... فأصبح عاشقاً لكن لهجري
وقال نور الدين الأسعردي عندما عمي آخر عمره:
سألت الله يختم لي بخير ... فعجله ولكن في عيوني
قال ابن أبي الإصبع: ولم أسمع في هذا الباب أحسن من قول أبي دويدة المغربي يخاطب رجلاً أودع بعض القضاة ما لا فادعى القاضي ضياعه:
إن قال ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو نعي
أو قال وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع
وقال ابن أبي حجلة وأجاد:
رؤساء ما من جاءهم بقصيدة ... كانت جوائزهم عليها شكرهُ
وإذا طلبت وظيفة من قائم ... فأبشر فقد ولاك ولكن ظهرهُ
وقول بعض الحنابلة:
يحجون بالمال الذي يجمعونه ... حراماً إلى البيت العتيق الحرامِ
ويزعم كل أن تحط ذنوبهم ... تحط ولكن فوقهم في جهنم
والقسم الثاني - وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقدير ولا توكيد كقول زهير:
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
والزيادة فيه أنه لو اقتصر على صدر البيت، لكان مدحاً أيضاً، لكن ربما توهم متوهم أن ماله موفور وهي صفة ذم، فاستدرك بما يزيل هذا الاحتمال وتخلص الكلام إلى المدح الذي لا يشوبه به شائبة ذم.
ومنه قول المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوالُ
ولا يخفى ما في هذا الاستدراك من الحسن والنكتة الزائدة على الاستدراك، إلا على من حجب عن ذوق البديع.
ومثله قول شيخنا العلامة محمد الشامي:
قسمت صفايا الود بيني وبينه ... سواء ولكني حفظت وضيعا
وقد تقدم أن أصحاب البديعيات إنما بنوا أبياتهم على القسم الأول، لأنه أعلى طبقة وأحلى مذاقاً، وأرشق عبارة من قسيمه.
والشيخ صفي الدين الحلي حاز قصبات السبق في هذه الحلبة، وجاء بما حسدت السمع على حسن نظمه اللبة وبيته:
رجوت أن يرجعوا يوماً وقد رجعوا ... عند العتاب ولكن من وفا ذممي
فإنه قرر ما أخبر به قبل الاستدراك، وأكده بقوله: وقد رجعوا؛ والتنكيت الرائع في قوله: عن وفا ذممي، المتعلق برجعوا، وقوله: عند العتاب تكميل بديعي.
وابن جابر الأندلسي لم ينظم هذا النوع في بديعيته.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
فكم حميت بالاستدراك ذا أسف ... لكن على المشتهى والبرء من سقمي
قال ابن حجة: أما هذا البيت فإنه متعلق البناء مع عقادة التركيب. انتهى. وقال غيره: بل لا مفهوم له.
وبيت ابن حجة قوله:
قالوا نرى لك لحماً بعد فرقتنا ... فقلت مستدركاً لكن على وضمِ
هذا البيت معمور بالبرودة لفظاً ومعنى؛ على أن قوله: مستدركاً؛ لا يفيد معنى زائداً غير تسمية النوع.
وبيت بديعية الطبري قوله:
واستدركوا الود منهم مخلصين به ... لكن لغير وما راعوا جزا خدمي
وبيت بديعيتي هو قولي:
أملت عودهم بعد العتاب وقد ... عادوا ولكن إلى استدراك صدهمِ
(1/80)
________________________________________
كل ما تقدم من الكلام على بيت الشيخ صفي الدين من التقرير والتنكيت والتكميل فهو جار في هذا البيت.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
قالوا مرضت فهل عادوا فقلت نعم ... لكن من العهد والإيفاء بالذممِ
1 @أنوار الربيع في أنواع البديع
تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني. حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر. الجزء الثاني الإبهام.
قالوا وقد أبهموا إذ بان مكتتمي ... في حبهم بان لكن أي مكتتم.
الإبهام- بالباء الموحدة، وسماه بعضهم: التوجيه، ومحتمل الضدين وهو عبارة عن أن يقول المتكلم كلاما محتملا لمعنيين متضادين، لا يتميز أحدهما عن الآخر، كالمديح والهجاء وغيرهما، ولا يأتي بعده ما يميز المراد منها، قصد للإبهام.
وزاد بعضهم: وينبغي أن يكون المراد، أنه إذا جرد عن القرائن ولم ينظر إلى القائل والمقول فيه، كان احتماله للمعنيين على السوية، كما سيلوح في أكثر الأمثلة.
ومثاله في القرآن العظيم قوله تعالى عن اليهود "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين".
قال صاحب الكشاف: قوله: غير مسمع، حال من المخاطب، أي اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذم، أي اسمع منا مدعوا عليك، بلا سمعت، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم: لا سمعت، دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب على ما تدعوا إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك لا تسمع شيئاً، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب.
ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع، مفعول اسمع، أي اسمع كلاما غير مسمع مكروها. من قولك: اسمع فلان فلانا، إذا سبه. وكذلك قولهم: راعنا، يحتمل راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل شبه كلمة عبرانية وسريانية كانوا يتسابون بها وهي راعينا، فكانوا سخرية بالدين وهزوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير والإكرام.
فإن قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذو الوجهين، بعدما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به. انتهى.
ومثاله من الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر عنده شريح بن الحضرمي وهو من الصابة: ذاك رجل لا يتوسد القرآن. فيحتمل وجهين ذكرهما تغلب عن ابن الأعرابي، أحدهما المدح وهو أنه لأصنام الليل حتى يتوسد القرآن معه فيكون مدحا. والثاني الذم، وهو أنه ينام ولا يتوسده معه أي لا يحفظه، فيكون ذما.
ومثله قول عبد الملك بن مروان، وقد ذكر ذاكر عنده عمر بن الخطاب: اقصر من ذكره فهو طعن على الأئمة وحسرة على الأمة. فيحتمل الذم، وهو أن ذكره وعده من الأئمة فهو طعن عليهم بمشاركته لهم في الإمامة، وحسرة على الأمة المأمورين بمتابعته. ويحتمل المدح وهو أن كل من قاس سيرة أمراء الزمان بسيرته طعن عليهم، وكل من فكر ونظر فيما كان عليه من التشقيف وترك الدنيا، تحسر على ما فات من الأمة.
ومثاله من الشعر قول بعضهم، وقيل أنه بشار، يروى أنه فصل قباء عند خياط أعور اسمه عمرو أو زيد كما في تحرير التحبير لابن أبي الإصبع، فقال الخياط على سبيل العبث به: سآتيك به لا تدري أقباء هو أم دواج، فقال له: إن فعلت ذلك لأنظمن فيك بيتا لا يعلم أحد ممن سمعه لك أم عليك.
ففعل الخياط فقال هو:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء.
قلت شعرا ليس يدري ... أمديح أم هجاء.
فإن قيل أنه قصد التساوي بين عينيه في العمى فقد صح، وإن قيل أنه قصد التساوي بينهما في الإبصار صح.
(1/81)
________________________________________
ومثله ما حكي أن جعيفران الموسوس تقدم إلى يوسف الأعور القاضي بسر من رأى في حكومة، في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه وقضى عليه، فقال: أراني الله أيها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه وأمر برده إلى داره. فلما رجع أطعمه ووهب له دراهم، ثم دعا به فقال له: ما أردت بدعائك، أردت أن يرد اله علي من بصري ما ذهب؟ فقال له: لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك لأنت المجنون، لا أنا، اخبرني كم من أعور رأيته قد عمي؟ فقال: كثير، فقال: هل رأيت أعور قد صح قط؟ قال: لا، قال: فكيف توهمت علي الغلط؟ . فضحك منه وصرفه.
ومن شواهده أيضاً قول محمد بن حازم الباهلي في الحسن بن سهل حين تزوج المأمون بابنته بوران:
بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن.
يابن هارون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من.
فلا يعلم مل أراد ببنت من، في الرفعة، أو في الحقارة؟ ولذلك لما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: والله ما ندري أخيرا أراد أم شرا.
وأكثر من ألف في البديع لم يعرف قائل هذين البيتين، ونسبوهما إلى بعض الشعراء، وقائلهما محمد بن حازم المذكور على ما في وفيات الأعيان للقاضي ابن خلكان، وبعض شروح المقامات.
وكان محمد بن حازم هذا شاعرا مطبوعا؛ من شعراء الدولة العباسية مولده ومنشأه البصرة، وسكن بغداد، وكان كثير الهجاء للناس. ساقط الهمة. مر به بعض الأمراء وهو جالس على باب داره، فلم يسلم عليه سلاما يرضيه وكان من باهله أيضاً.
فقال فيه:
وباهلي من بني وائل ... أدرك ما لا بعد افلاس.
قطب في وجهي خوف القرى ... تقطيب درغام لدى الباس.
وأظهر التيه فتايهته ... تيه امرءٍ لم يشق بالناس.
أعرته أعراض مستكبر ... في موكب مر بكناس.
ومن شعره يمدح الشباب ويذم الشيب. قال ابن الأعرابي: وهو أحسن ما قاله المحدثون في ذلك:
لاحين صبر فخّل الدمع ينهمل ... فقد الشباب بيوم المرء متصل.
سقيا ورعيا لأيام الشباب وإن ... لم يبق منك له رسم ولا طلل.
جر الزمان ذيولا في مفارقه ... وللزمان على إحسانه علل.
وربما جر أذيال الصبا مرحا ... وبين برديه غصن ناعم خضل.
يصبي الغواني ويزهاه بشرته ... شرخ الشباب وثوب حالك رجل.
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل.
كفاك بالشيب عيبا عند غانية ... وبالشباب شفيعا أيها الرجل.
بان الشباب وولى عنك باطله ... فليس يحسن منك اللهو والغزل.
أما الغواني فقد أعرضن عنك قلى ... وكان إعراضهن الدل والخجل.
أعرنك الهجر ما ناحت مطوقة ... فلا وصال ولا عهد ولا رسل.
ليت المنايا أصابتني بأسهمها ... فكن يبكين عهدي قبل أكتهل.
عهد الشباب لقد أبقيت لي حزنا ... ما جد ذكرك إلا جد لي ثكل.
إن المشيب إذ ما حل رائده ... في منهل جاء يقفو أثره الأجل.
وقال له القاضي يحيى بن أكثم: ما عيب شعرك غلا أنك لا تطيل. فقال:
أبلى لي أن أطيل الشعر قصدي ... إلى المعنى وعلمي بالصواب.
وإيجازي بمختصر قريب ... حذفت به الفضول من الجواب.
فأبعثهن أربعة وخمسا ... بألفاظ مثقفة عذاب.
خوالد ما حدا ليل نهارا ... وما حسن الصبا بأخي الشباب.
وهن إذا وسمت بهن قوما ... كأطواق الحمائم في الرقاب.
وهن إذا أقمت مسافرات ... تهاداها الرواة مع الركاب.
وكان يقول: لم يبق على شيء من اللذات إلا بيع السنانير من اللذة، قال: يعجبني أن تجيء العجوز الرعناء تخاصمني وتقول: هذا سنوري سرق مني، فأخاصمها وأشتمها وتشتمني، وأغيظها فأعضها، وأنشد:
صل خمرة بخمار ... وصل خمار بخمرة.
وخذ بحظك من ذا ... وذا إلى أين تدري.
فقال له: إلى أين ويحك؟ فقال: إلى النار يا أحمق.
وحدث عن نفسه، قال: عرضت لي حاجة في عسكر الحسن بن سهل، فأتيته وقد كنت قلت شعرا، فلما دخلت على محمد بن سعيد بن مسلم، فانتسبت له فعرفني، فقال لي: ما قلت في الأمير؟ قلت: ما قلت فيه شيئا بعد، فقال له رجل كان معي: بلى قال أبياتا.
فسألني أن أنشده فأنشدته قولي:
وقالوا لو مدحت فتى كريما ... فقلت وكيف لي بفتى كريم.
(1/82)
________________________________________
بلوت الناس مذ خمسين عاما ... وحسبك بالمجرب من عليم.
فما أحد يعد ليوم خيرٍ ... ولا أحد يعود على حميم.
ويعجبني الفتى وأظن خيرا ... فأكشف من عن رجل لئيم.
تقيل بعضهم بعضا فأضحوا ... بني أبوين قدوا من أديم.
وطاف الناس بالحسن بن سهل ... طوافهم بزمزم والحطيم.
وقالوا سيدٌ يعطي جزيلاً ... ويكشف كربة الرجل الكظيم.
فقلت مضى بذم القوم شعري ... وقد يؤتى البريء من السقيم.
وخبر تترجمه ظنون ... بأشفى من معاينة الحليم.
فجئت وللأمور مبشرات ... ولن يخفى الأغر من البهيم.
فإن يك ما ينشر عنه حقا ... رجعت بأهبة الرجل المقيم.
وإن يك غير ذاك حمدت ربي ... وزال الشك عن رجل حكيم.
وما الآمال تعطفني عليه ... ولكن الكريم أخو الكريم.
قال: فلما أنشدته هذا الشعر قال لي: أبمثل هذا الشعر تلقى الأمير؟ والله لو كان نظيرك ما يجوز أن تخاطبه بمثل هذا؛ قلت: لذلك قلت لك: إني لم أمدحه بعد، ولكني سأمدحه، قال: افعل وأنزلني عنده. ودخل على الحسن فأخبره بخبري، فأمر بإدخالي إليه من غير مدح، وأمرني أن أنشد الشعر وقال: قد قنعنا منك بهذا القدر إذا لم تدخلنا بجملة من ذممت فأنشدته إياه فضحك وقال: ويحك ما لك وللناس؟ حسبك الآن، فقلت قد وهبتهم للأمير، فقال: قد قبلت وأنا أطالبك بالوفاء، ثم وصلني فأجزل وكساني فقلت في ذلك وأنشدته:
وهبت الناس للحسن بن سهل ... فعوضني الجزيل من الثواب.
وقال دع الهجاء وقل جميلا ... فإن القصد أقرب للصواب.
فقلت له برئت إليك منهم ... فليتهم بمنقطع التراب.
ولولا نعمة الحسن بن سهل ... علي لسمتهم سوء العذاب.
بشعر تعجب الشعراء منه ... يشبهه بالهجاء وبالعتاب.
أكيدهم مكايدة الأعادي ... وأختلهم مخاتلة الذئاب.
بلوت خيارهم فبلوت قوما ... كهولهم أخس من الشباب.
وما مسخوا كلابا غير أني ... رأيت القوم أشباه الكلاب.
فضحك، فقال: ويحك من الآن ابتدأت تهجوهم؟ فقلت: هذه بقيت طفحت على قلبي وأنا كاف عنهم ما أبقى الله الأمير.
وأخباره ونكته كثيرة، فلنكتف منها بهذا القدر. وإنما تعرضنا لترجمته لكون بيتيه المذكورين في زواج المأمون ببوران بنت الحسن من أحسن شواهد هذا النوع، بل قيل أنه ليس للسلف ولا المتأخرين فيه غيرهما، وغير البيت المتعلق بالخياط.
وقد ظفرت أنا ببيت لبعض السلف يصدق عليهم حدهم للإبهام، ولم يستشهد به أحد من البديعيين قيما أعلم.
وهو قول الشاعر:
ويرغب أن يبني المعالي خالد ... ويرغب أن يرضى صنيع الألائم.
فإن هذا يحتمل المدح والذم لأنه إن قدر (في) أولا و (عن) ثانيا فمدح، وإن عكس فذم، إذ يقال: رغب فيه، ورغب عنه.
ولهذا اشترط ابن مالك في حذف الجار مع أن، وأن تعيين الجار ليؤمن اللبس، قال: فلا يقال: رغبت أن تفعل، إذ لا يدري هل التقدير: في أن تفعل، أو عن تفعل.
واستشكله ابن هشام في الأوضح بقوله تعالى "وترغبون أن تنكحوهن" لحذف الجار، مع أن المفسرين اختلفوا في المراد.
وأجاب في المغني: بأنه إنما حذف الجار للقرينة المعينة، وإنما اختلف العلماء في المقدر من الحرفيين في الآية لاختلافهم في سبب نزولها، فالاختلاف في الحقيقة إنما هو في القرينة.
وأجاب المرادي بذلك، وبأنه أراد الإبهام ليرتدع من يرغب فيهن لجمالهن ومالهن، ومن يرغب عنهن لدمامتهن وفقرهن.
واستحسنه بعضهم، قال: لأن من شرط أمن اللبس يقول: إذ خيف اللبس لم يجز الحذف، وعند إرادة الإبهام لا يخاف اللبس فيجوز الحذف لأجلها. انتهى وهو في محله.
ومن لطيف الإبهام ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان قال لعقيل بن أبي طالب عليه السلام: إن أخاك عليا قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر، قال أفعل، فصعد المنبر فقال بعد أن حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس قد أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان فالعنوه لعنة الله عليه، ثم نزل.
فقال له معاوية: إنك لم تبين من لعنت بيني وبينه، فقال: والله لا زدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام على نية المتكلم.
(1/83)
________________________________________
وغلط ابن حجة فعد من هذا النوع قصة سليمان بن كثير مع أبي مسلم الخراساني وقال: إنها من أغرب ما نقل من شواهد الإبهام التي ما يليق بغيره وهي: أن أبا مسلم قال لسليمان: بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى ذكري فقلت: اللهم سود وجهه، واقطع رأسه، واسقني من دمه، فقال: نعم قلت ذلك ونحن جلوس تحت كرم وحصرم. فاستحسن أبو مسلم ذلك منه. وهذا مما أخطأ فيه ابن حجة الصواب، بل هذا المثال كما قاله بعض الفضلاء المتأخرين ممن تقدم عصرنا بقليل: من نوع المواربة- براء مهملة فباء موحدة- وحقيقتها كما سيأتي، أن يقول المتكلم قولا يتضمن الإنكار عليه، ثم يستحضر بحذقه وجها من الوجوه التي يمكن التخلص بها من تلك المؤاخذة، إما بتحريف كلمة أو بتصحيفها أو بزيادة أو نقص أو غير ذلك.
واشتقاقها من ورب العرق إذ فسد، فكأن المتكلم قد أفسد ظاهر كلامه بما أبدأه من تأويل باطنه، وبه ظهر أن القصة المذكورة لا يصح أن يمثل بها لغير المواربة، لما اشتملت عليه من إفساد سليمان بن كثير ظاهر كلامه بتأويله بما لا يخطر ببال، ولا يتبادر إلى ذهن، من إرجاع ضمائره إلى الحصرم، ولا يعد إبهاما لاشتراطنا في حده استواء معنييه في احتمال أن يكون كل منهما مقصودا فاعلم.
وعد ابن الأثير في المثل السائر من الإبهام قول أبي الطيب المتنبي في كافور:
فمالك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان.
ومالك تختار القسي وإنما ... عن السعد يرمي دونك الملوان.
قال: فإن هذا لا يحتمل المدح والذم، بل هو بالذم أشبه، لأنه يقول: إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا أفضل فيه، لأن السعادة ينالها الخامل والجاهل ومن لا يستحقها. قال: وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا الفن في القصائد الكافوريات.
وتعقبه ابن أبي الحديد في الفلك الدائر فقال: إن الناس وقع لهم واقع طريف مع المتنبي، وكن أصله الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني، فإنه نبه المتنبي على شيء من هذا الباب لم يكن قصده ولا خطر بباله، فضحك المتنبي ولم يكن ذلك لبغضه لكافور وحقده عليه. فصار قيه حديث طويل وزعم أن من جاء بعده أن المتنبي كان يقصد ذلك، ويمدحه بالشعر الموجه الذي يحتمل المدح والذم، ومنهم من يزعم أن كافورا كان يتفطن لذلك ويغضي عنه، وينقلون هذا هن المتنبي، وما كان ذلك قط ولا وقع شيء منه ولا قصد أبو الطيب نحو ذلك أصلاً.
فأما هذان البيتان فقد قال في سيف الدولة مثلهما كثرا، نحو قوله له: ولقد رمت بالسعادة بعضاً=من نفوس العدى فأدركت كُلا ونحو قوله له:
إذا سمعت الأعداء في كيد جدِّه ... سعى جدّه في سعي محنق.
قال: وهذه الرواية أولى من رواية من روى (سعى مجده في جده) لأن قوله بعده:
وما ينصر الفضل المبين على العدى ... إذ لم يكن فضل السعيد الموفق.
يؤكد ما ذكرناه.
ونحو قوله له:
لو لم تكن تجري على أسيافه ... مهجاتهم لجرت على إقباله.
ونحو قوله له:
هم يطلبون فما أدركوا ... وهم يدعون فمن يقبل.
وهم يتمنون ما يشتهون ... ومن دونه جدك المقبل.
وقد قال لعضد الدولة أبي شجاع، وهو أعظم ملكا من سيف الدولة وأشد بأسا وأكثر انتقادا للشعر وهو يذكر هزيمة وهوذان عن عسكر ركن الدولة أبيه:
وليت يومي فناء عسكره ... ولم تكن دانيا ولا شاهد.
ولم يغب غائب خليفته ... جيش أبيه وجده الصاعد.
وقال له في هذه القصيدة وقد صرح أنه يقهر الأعداء بالجد فقط، والخطاب مع وهوذان:
وأنى شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا.
يشرديمن فناخسر عني ... قنا الأعداء والطعن الدراكا.
وقال لغيرهما من ممدوحيه:
نفذ القضاء بما أردت كأنه ... لك كلما أزمعت شيئا أزمعا.
وأطاعك الدهر العصي كأنه ... عبد إذا ناديت رد مسرعا.
ولكن سيف الدولة لما اشتهر إخلاص أبي الطيب في ولائه عدل الناس عن هذا الشعر الذي يتضمن ذكر الجد والحظ، فلم يذكروه ولم يجعلوه موجها متوسطا بين المدح والذم، وقالوا ذلك في كافور لمكان تقصيره بأبي الطيب، وانحراف كل واحد منهما عن صاحبه، ومجاهرة أبي الطيب له بعد مفارقته بالهجاء. ولو تأملت الأشعار كلها وأردت أن تستنبط منها ما يمكن أن يكون هجاء لقدرت.
(1/84)
________________________________________
هذا السيد الحميري من الشيعة العلوية لا يختلف في ذلك اثنان، وقال أبو عمر الزاهد في كتابه الياقوتة: أن بعض الشيعة أنشد أبا مجالد قول السيد:
أقسم بالله وآلائه ... والمرء عما قال مسؤول.
أن علي بن أبي طالب ... على الهدى والبر مجبول.
وأنه كان الإمام الذي ... له على الأمة تفضيل.
كان إذا الحرب مرتها القنا ... وأحجمت عنها البهاليل.
يمشي إلى الروع وفي كفه ... أبيض ماضي الحد مصقول.
مشي العفرنى بين أشباله ... أصحره للقنص الغيل.
ذاك الذي سلم في ليلة ... عليه ميكال وجبريل.
ميكال في ألف وجبريل في ... ألف ويتلوهم سرافيل.
في يوم بدر مددا كلهم ... كأنهم طير أبابيل.
فقال له أبو مجال في هذا: إن الشاعر لم يمدح صاحبك في موضعين، أحدهما أنه زعم أن عليا مجبول على البر والهدى، ومن جبل على أمر لم يمدح عليه، لأته لم يكسبه بسعيه. والثاني أنه أيد في حروبه بالملائكة، ولا فضيلة له إذن في الظفر، لأن أبا حية النميري لو أيد بهؤلاء لقهر الأعداء وغلبهم.
قال ابن أبي الحديد: واعلم أن الشعراء مازالت على قديم الدهر وحديثه يمدحون الرئيس بعلو جده ومساعدة الأقدار له، ومطاوعة الأفلاك والكواكب والدهر لإرادته، وأقوالهم في هذا أكثر من أن تورد وتملى. وكان الأصل في إكثارهم من ذلك أن يملأوا أسماع أعداء الممدوح وخصومه، ويوقروا في صدورهم أو يثبتوا في نفوسهم أنه منصور من السماء، وأنه محوط بالعناية الإلهية، وأن الكواكب تساعده، والأقضية والأقدار تجري على مراده فيوقعوا الرعب منه في الصدور والخوف في القلوب إلى أن ينخذل من يناويه من غير حرب ولا كيد.
وقد روي ان ملك الصين قد عرض عسكره على الإسكندر فاستعظمه ورأى ما هاله، فقال له: قد كنت قادرا على أن أصادمك بهذه العساكر العظيمة، لكني رأيت الأفلاك ناصرة لك، فرأيت أن لا أحارب من تنصره ثم أعطاه الطاعة، ودفع إليه الأتاوة.
انتهى كلام ابن أبي الحديد، ولم يتعرض للرد على ابن أبي مجاهد في كتابه المذكور. ولعمري لقد أخطأت أست أبي مجال الحفرة، ولم يصب سهمه الثغرة. وقد عرضت كلامه هذا الذي هجر به، على شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي العاملي عامله الله بإحسانه وكساه حلة رضوانه، طالبا منه الرد عليه، فأجاب على جاري عادته فيما يجيب بما شفى النفس وأزال اللبس، وشحن كلامه بدرر الفوائد وغرر الفرائد، فقال ما نصه: الجواب عن الشبهة الأولى- أنه إذ قيل: فلان مجبول على الخير، لا يصح أن يراد به ما هو ظاهر اللفظ، من أن الخير غريزة فيه قد طبع عليها كما طبع الإنسان على غريزة العقل، وامتاز بها عن سائر البهائم، وطبع الحيوان على غريزة الحياة وفارق الجمادات والنباتات، وإلا لشاركه فيها جميع مشاركته في الماهية النوعية والجنسية، ولم يدخل تحت قدرته واختياره، لأن لوازم الماهيات ليست بجعل جاعل وراء جاعل الذات، فلا بد أن يصرف عنه إلى معنى يناسبه، ويختلف ذلك باختلاف المراتب والدرجات.
فإن كان صاحبه من أصحاب اليمين صح أن يراد به أن كلا من جوهر نفسه وطينة بدنه، مجبول حقيقة على قابليته، فإن النفس في بدء خلقها قابل محض لاشيء معها بالفعل، والمادة الأولى مبدأ القوة والاستعداد ولكن النفس القدسية والطينة الطيبة لشرف جوهريهما أقبل للطرف الأشرف من كل متقابلين.
ثم يتدرج الإنسان بعد الخلق الثاني، وهي النشأة الدنيوية للاستعداد للتحلي بالفضائل، والتخلي من الرذائل، والمواضبة على الأعمال المستحسنة والمجانبة للأفعال المستهجنة شيئا فشيئا بسهولة لتهيؤ الأسباب وتوفر المعدات من توفيقات إلهية وألطاف ربانية، على حسب وسع قابليته، فربما كانت غاية وسع قابليته أن يوكل الله به روح الإيمان، وربما كانت ساحة قابليته أوسع، فأيده مع روح الإيمان بروح القدس، لا لمجرد بخت واتفاق، بل لابد مع علمه تعالى بما طبع عليه من القابلية الذاتية، أن يعلم انتفاعه به فيما يؤل إليه من السعادة الأبدية، المستحقة بالأعمال والطاعات الاختيارية.
(1/85)
________________________________________
فإن الألطاف إنما تجري بحسب القابليات، وعلى طبق المصالح، ليكون اللطف ناجعا فيه، إذ التكليف وإن أوجب فعل اللطف بالعبد، ولكن الحكمة تقتضي ألا يفعله الله بمن علم أن له فيه لطفا. ولهذا قال تعالى في قوم غلبت عليهم شقوتهم "ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم".
قال جار الله: لو علم في هؤلاء الصم البكم انتفاعا باللطف للطف بهم. وعلم تعالى أن لأمير المؤمنين عليه السلام في العصمة لطفا فعصمه، ثم كلما تم له استعداد فعل أوجبته الإرادة وأبرزته القدرة من مكمن القوة على مجلى الفعل، إن علمه الله تعالى وشاء وقدره وقضاه وأمضاه. فظهر أن هذه الألطاف ليست عللا تاما للطاعات، ولا مؤثرات مستقلة فيها، بحيث لا يكون لقدرة العبد فيها تأثير، فيخرج بها عن حيز الاختيار، ويدخل في باب الاضطرار، ولا يكون له سعي ولا كسب فيما يأتي ويذر- كما زعمه هذا المطبوع على قلبه- وإنما هي معدات ومباد قريبة، والجزء الأخير من العلة التامة هي الإرادة الموجبة لما هو راجح في معيار العقل من الطرفين.
ومن هنا فسر سيدنا المرتضى رضي الله تعالى عنه العصمة بأنها اللطف الذي يفعله الله بالعبد فيختار عنده إيثار الطاعة والامتناع عن المعصية، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه، وكون الفاعل موجبا في قبول فعل لكونه مفطورا عليه لا ينافي كونه مختارا في إخراجه من القوة إلى الفعل، وبهذا تنحل عقدة التشكيك فيما ورد في طينة المؤمن وطينة الكافر، بأنه يستلزم الجبر، حتى أنكر صحة ذلك بعض من لم يعض في العلم بضرس قاطع.
واعلم أن هذا الشاعر قد شبه رسوخ ملكتي التقى والبر في النفس بالانطباع على الغرائز بجامع عدم الانفكاك عنها، ثم استعار للمشتبه اسم المشبه به، واشتق منه صيغة المفعول على سبيل الاستعارة التبعية، أو أضمر في النفس تشبه التقى والبر الراسخين في النفس بالغرائز التي يطبع عليها، وأومأ إلى التشبيه بأن أثبت للمشبه لازما من لوازم المشبه به وهو الجبل على طريق الاستعارة المكنية والتخيل. أو سمى قابلية التقى والبر التي جبل عليها باسميهما، من باب تسمية الشيء باسم ما من شأنه أن يؤول إليه، على نهج المجاز المرسل.
ومع التنزيل عن هذه المرتبة فالإيجاب في غريزة من الغرائز الفاضلة إنما ينافي استحقاق الحمد عليها استحقاق المدح بها. ومع التنزيل عن هذه المرتبة أيضاً من أين يلزم أن يكون وصف صاحبها بها هجوا له؟ وهل في وصف الشمس بالضياء ذم لها؟ أو في إطراء إنسان بالعقل إزراء عليه لولا نصب أبي مجالد؟ .
والجواب عن الشبهة الثانية مسبوق بتمهيد مقدمة وهي: إن أهل القبلة قد اختلفوا في حقيقة نزول الملائكة يوم بدر، فقال الجمهور: نزلوا من السماء إلى الأرض كما ينزل الإنسان من الموضع العالي إلى الموضع السافل، ونزله أصحاب المعاني على ما يناسب نزول المجردات من عالم العقل إلى عالم الخيال، فيكون التأييد بهم من باب تقوية الأرواح لإمداد الأشباح.
(1/86)
________________________________________
ثم اختلف الأولون فقال الأكثرون منهم: نزلوا وقاتلوا، وقال الباقون: نزلوا ولم يقاتلوا، وجعلوا قوله تعالى "فاضربوا فؤق الأعناق" أمرا للمسلمين لا الملائكة، وتمسكوا به لأنه لو حارب واحد من الملائكة جميع البشر لاستأصلهم ببعض قوته. فإن جبرائيل عليه السلام اقتلع مدائن قوم لوط ورفعها على خافقة من جناحه حتى بلغ بها السماء، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فما عسى تبلغ قوة ألف رجل من قريش ليحتاج في مقاومتها إلى ألف ملك من ملائكة السماء، مضافين إلى ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً من بني آدم؟ وإنما كان نزولهم ليكثروا سواد المسلمين في أعين المشركين، إذ كانوا يرونهم في بدء الحال قليلين، كما قال تعالى "ويقللكم في أعينهم" ليطمع المشركون فيهم، ويجترؤا على حربهم، فلما نشبت الحرب فيهم كثرهم الله تعالى بالملائكة في أعينهم ليفروا، ولأنهم كانوا يتصورون لهم في صور من يعرفونهم من البشر، ويقولون لهم ما جرت العادة به أن يقال في تثبيت القلوب في الحرب وذلك قوله تعالى "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا"، وحينئذ بعدم القول بعدم النزول إلى عالم الحس أو القول به مع عدم القتال فالشبهة ساقطة، وعلى القول به أيضاً إنما تفوته فضيلة الظفر لو لم يغن في مجاهدة الفرسان ومجالدة الأقران عن سائر من حضر من الملائكة والبشر. وهب أنها فاتته، أليس التأييد في نفسه فضيلة لا تقاس بها فضيلة؟ ورب فضيلة تركت لما هو أفضل منها. ألم يكن الله تعالى قادرا على قبض أرواح العباد لا بيد عزرائيل؟ وعلى إهلاك من أهلك من الأمم لا على يد جبرائيل؟ وعلى إحصاء أعمال العباد من دون كتابة الصحف؟ بلى كان قادرا على ذلك كله، ولكن بحصول المطلوب بنفوذ الأمر من القادر المطاع من إظهار الجلال والجبروت ما لا يحاط به نطاق العقل بل تسخير المدبرات من آثار التمكن والاقتدار ما ليس في وسع دائرة المباشرة. ومع الإغماض عن ذلك كله من أين يتطرق إليه النقص لو شاركته الملائكة في قهر الأعداء؟ أو استقلت به دونه حتى يكون وصفه هجوا له؟ وإنما يتطرق النقص إلى من تقاعد عن الحرب حيث تمس الحاجة إلى القيام بها جبنا، أو تقاعس عنها حيث تدعو الضرورة إلى الإقدام عليها فرقا. ولعمري لقد عشي بصر أبي مجال حتى رأى الحسنة سيئة والمنقبة مثلبة قوله تعالى "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".
هذا ما جرى به القلم على يد أقل العباد محمد بن علي الشامي العاملي عصمه الله من الخلل والخطل في القول والعمل في سنة ثمانين وألف. انتهى كلامه رفع مقامه.
وأبو حية النميري الذي ذكره أبو مجالد كان من أجبن خلق الله. حكى جار له قال: كان لأبي حية سيف ليس بينه وبين العصى فرق، وكان يسميه لعاب المنية. فأشرفت ليلة عليه فرأيته قد أضناه وهو واقف على باب داره- وقد سمع في بيته حسا- وهو يقول: أيها المغتري بنا والمجتري علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، إنني والله أن أدع لك بني نمير، جاءتك بخيلها ورجلها، فاخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك. ثم فتح الباب على حذر ووجل شديد، فإذا كلب قد خرج فقال: الحمد الله الذي أرانا كلبا وكفانا حربا.
رجع إلى الإبهام- ومما قيل أن أبا الطيب قصد فيه الإبهام قوله في مدح كافور:
ويغنيك عما ينسب الناس إنه ... إليك تتناهى المكرمات وتنسب.
قال الخطيب لهذا البيت باطن وهو سخرية، يريد أنه لا نسب لك لأنك عبد.
وقوله:
وما طربي لما رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب.
قال الواحدي وغيره: هذا البيت يشبه الاستهزاء به، لأنه يقول: طربت على رؤيتك كما يطرب الإنسان على رؤية القرود، وما يستملحه ويضحك منه. قال ابن جني: لما قرأت على أبي الطيب هذا لبيت قلت له: أجعلت الرجل أبازنة؟ فضحك لذلك.
وقوله فيه:
يدل بمعنى واحد كل فاخر ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا.
قال أبو الفتح: لما قرأت هذا البيت ضحكت وضحك أبو الطيب وعرف مطلوبي.
وقوله منها:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعراقيين والياً
(1/87)
________________________________________
قال أبو الفتح: هذا ظاهره أن من رآك أفاد منك كسب المعالي. وباطنه أن من رآك على ما بك من النقص وقد صرت إلى الملك ضاق صدره أن يقصر عما بلغته وأن لا يتجاوز ذلك إلى كسب المكارم، وكذلك إذا رآك راجل لا يستكثر لنفسه أن يرجع واليا على العراقيين.
ومثل هذا البيت قوله أيضاً فيه:
يضيق على من راءه العذر أن يرى ... ضعيف المساعي أو قليل التكرم
فإن ظاهره أن من رآه لم يكن له عذر أن يكون ضعيف المسعاة قليل التكرم, يعني منه يتعلم هذه الأشياء، فمن رآه ولم يتعلم منه فهو غير معذور. وباطنه أن مثله في خسته ولؤم أصله إذا كانت مسعاة وتكرم فلا عذر لأحد بعده في تركه.
كما قال الآخر:
لا تيأسن من الإمارة بعدما ... خفق اللواء على عمامة جرولِ
هذا كلام ابن جني والحق ما قاله ابن أبي الحديد: أن المتنبي لم يكن يقصد شيئاً من ذلك قط ولا خطر له أصلا، كيف ولو كان كذلك لناقض كلامه بعضه بعضا، لأن له في كافور من المدح ما لا يشوبه شيء من هذه التأويلات الباردة، والله أعلم بحقائق الأمور.
ومن لطيف الإبهام في النثر، قول القاضي تاج الدين المالكي، غمام المالكية بالمسجد الحرام، في تقريظ له على تصدير وتعجيز للشيخ تقي الدين السنجاري لقصيدة أبي الطيب المتنبي التي مطلعها (أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل) . ولم يكن الشيخ تقي الدين المذكور ممن له قدم في الأدب ولا قدم في الحسب، وهو: وقفت على هذا التصدير والتعجيز فإذا منشئه قد أجاد في النظم والإنشاء، وما كل من أخذ القلم ومشى، ووقف بعجيب تصرفه بين معوج المعاني وطابق.
وكأنه قصد الرد على الطغرائي في قوله: وهل يطابق معوج بمعتدل. ومنه: فقصد أن يسبك درر الأسلاك، ويتصرف فيها تصرف الملاك، أو المنجم الماهر في دراري الأفلاك، فانتبذت خشية منه مكانا قصيا وقالت لعلمها بقدرته على تصرفه كيف شاء "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا". انتهى.
انظر ما أحسن هذا الإبهام الذي تعقد عليه الخناصر.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
ليت المنية حالت دون نصحك لي ... فيستريح كلانا من أذى التهم.
هذا البيت كما قال ابن حجة ليس له نظير في أبيات البديعيات، فإنه اشتمل على الرقة والسهولة والانسجام، وما زاده حسنا إلا تقويته ب (ليت) التي استعان بها الشاعر في إبهام بيته على زيد الخياط.
فإن الشيخ صفي الدين لما قال لعاذلته (ليت المنية حالت دون نصحك لي) حسن إبهامه بقوله (فيستريح كلانا من أذى التهم) ، فصار الأمر مبهما بينه وبين العاذل.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
أبهمت نصحي مشيرا بالأصابع لي ... ليت الوجود رمى الإبهام بالعدم.
قال ابن حجة وهذا الإبهام هنا يشار إليه بالأصابع، فإنه أجاد فيه إلى الغاية ولم يتفق له في نظم بديعيته بيت نظيره، فإنه جمع بين الانسجام والتصدير والتورية البارزة في أحسن القوالب بتسمية النوع ونوع الإبهام الذي هو المقصود. ولعمري انه بالغ في عطف القلوب بهذا ***** الحلال. انتهى.
وأنا أقول: الذي أراه أن هذا البيت ليس من الإبهام الاصطلاحي في شيء، بل هو من الاستخدام على طريقة ابن مالك. لأن الإبهام كما تقدم، أن يقول المتكلم كلاما محتملا لمعنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر، ولذلك سماه بعضهم محتمل الضدين، ولا تضاد هنا بين إرادة الإبهام الذي هو مصدر أبهم الأمر، وبين الإبهام الذي هو أكبر الأصابع.
قال العلامة التفتازاني في مختصر المطول عند قول الماثن في تعريف هذا النوع: هو إيراد الكلام محتملا لمعنيين مختلفين أي متباينين متضادين ولا يكفي مجرد احتمال معنيين مختلفين. انتهى.
وهذا يدل صريحاً على أن هذا البيت ليس من الإبهام بشيء، وإنما قلنا إنه من الاستخدام على طريقة ابن مالك، لأنه داخل في حده، وذلك أن الاستخدام على طريقته كما مر أن يؤتى بلفظ مشترك بين معنيين ثم بلفظين يخدم كل واحد منهما معنى من دينك المعنيين، وهذا البيت كذلك فإن لفظ الإبهام يطلق على المعنيين المذكورين، ولفظ أبهمت يخدم الإبهام بمعنى المصدر، ولفظ الأصابع يخدم الإبهام الذي هو أكبر الأصابع.
وهذا الكلام بعينه يجري في بديعية ابن حجة:
وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي.
(1/88)
________________________________________
فإنه لا تضاد فيه بين إرادة البهيم بمعنى بهيم الليل وبين العاذل، بل هو من الاستخدام على الطريقة المذكورة، فلفظ الليل يخدم البهيم بمعنى الأسود، ولفظ إبهام عذلي يخدم البهيم بمعنى العاذل. فلا يغرنك قوله في شرحه: أن الإبهام هنا بين بهيم الليل وبين العاذل، فإن اشتراك البهيم صالح لهما ولكن لم يحصل التميز لأحدهما عن الآخر كما وقع عليه الشرط بل الأمر بينهما مبهم لا يعلم من هو المقصود منهما. انتهى.
فإن هذا الإبهام الذي ذكره لغوي لا اصطلاحي، إذ اشترط تضاد المعنيين في حد الإبهام الاصطلاحي لم يختلف في كتاب من كتب البديع وأمثلتهم له كلها جارية على ذلك، والله أعلم.
والطبري جمع بين الإبهام والتهكم في بيت واحد فقال: أذقت إبهام ما يرضى الفؤاد فسد=تهكما أنت ذو عز وذو عظم.
الإبهام في قوله: يرضي الفؤاد، فإنه إن قيل: فؤاد العاشق، صح، أو العاذل، صح.
وبيت بديعيتي:
قالوا وقد أبهموا إذ بان مكتتمي ... في حبهم بان لكن أي مكتتم.
الإبهام في هذا البيت على حده في بيت ابن حازم المتعلق بزواج المأمون من بوران بنت الحسن المقدم ذكره وهو:
يا بن هارون قد ظفر ... ت ولكن ببنت من.
فإنه لا يعلم بما أراد ببنت من، في الحقارة، أو في الرفعة؟. وهنا كذلك، فإن قولهم: بان لكن أي مكتتم، لا يعلم ما أرادوا به، هل هو إعجاب به؛ أو احتقار له؟ فالأمر مبهم بين هذين المعنيين المتضادين محتمل لكل منهما على السواء، لا يتميز أحدهما عن الآخر.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري من هذا القبيل أيضاً وهو:
ما مثلهم في العلى هيهات أين هم ... وأين منصبهم في القدر والعظم.
قال ناظمه في شرحه: ما مثلهم في العلى محتمل، إنه أراد: لا نظير لهم في علوهم ومجدهم؛ ويحتمل أنه أراد: أن مثلهم لا يكون في العلى.
وكذلك قوله: هيهات أين هم وأين منصبهم في القدر والعظم، يحتمل أن سؤاله سؤال تفخيم وتعظيم، ويحتمل أنه أراد: الاحتقار والإعلام أنهم بحيث يفتش عليهم فلا يوجدون والله أعلم.
وابن جابر الأندلسي لم ينظم نوع الإبهام في بديعيته.

الطباق.
إن أدن ينأوا وما قلبي كقلبهم ... وهل يطابق مصدوع بملتئم
الطباق ويسمى المطابقة والتطبيق والتضاد والتكافؤ- وهو الجمع بين معنيين متضادين، أي معنيين متقابلين في الجملة، قالوا: ولا مناسبة بين معنى المطابقة لغة، ومعناها اصطلاحا، فإنها في اللغة الموافقة، يقال: طابقت بين الشيئين: إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر، وطابق الفرس في جريه: إذا وضع رجليه مكان يديه، والجمع بين الضدين ليس موافقة.
قال ابن الأثير في المثل السائر: ولا أعلم من أي شيء اشتقوا هذا الاسم، ولا وجه للمناسبة بينه وبين مسماه، ولعلهم قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن. انتهى.
واغرب ابن أبي الحديد في قوله: الطبق في التحريك في اللغة، هو المشقة، قال الله سبحانه وتعالى "لتركبن طبقا عن طبق" أي مشقة بعد مشقة، فلما كان الجمع بين الضدين على الحقيقة شاقا بل متعذرا، ومن عادتهم أن تعطى الألفاظ حكم الحقائق في أنفسها توسعا، سموا كل كلام جمع فيه الضدين مطابقة وطباقا. انتهى.
وقال السعد التفتازاني في شرح المفتاح: إنما سمي هذا النوع مطابقة لأن في ذكر المعنيين المتضادين معا توفيقا، وإيقاع توافق بين ما هو في غاية التخالف كذكر الأحياء مع الإماتة، والإبكاء مع الضحك ونحو ذلك. انتهى.
وكأن ابن الأثير ظهر له وجه المناسبة فيما بعد فقال في كفاية الطالب: المطابقة هي عند الجمهور: الجمع بين المعنى وضده، ومعناها أن يأتلف في اللفظ ما يضاد في المعنى، وكأن كل واحد منهما وافق الكلام فسمي طباقا.
قال: وذكر الأصمعي المطابقة في الشعر فقال: أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع وأنشد:
وخيل تطابقن بالدراعين ... طباق الكلاب يطأن الهراشا
الهراش كحطام الشوك، ولذلك خص الوطأ فيه، لأن الكلب إذا مشى فيه رأى أين يضع يده فيضع رجله موضعها، وفي ذوات الأربع ما لم تجاوز رجله موضع يده، وقد يطابق من ثقل يحمله، أو شيء يتقيه، وقد يطابق بعضها على كل حال.
قال: وأحسن بيت قيل في ذلك لزهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا.
(1/89)
________________________________________
وقال الخليل: يقال: طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حد واحد وألصقتهما.
وقدامة يسمي المطابقة تكافؤا، والطباق عنده اجتماع المعنيين في لفظة مكررة، وأنشد عليه قول الأودي:
وأقطع الهوجل مستأنساً ... بهوجل عيرانة عنتريس.
فهوجل الأول: المفازة البعيدة. والثاني: الناقة بها هوج من سرعتها وهذا عند سائر أهل هذا العلم تجنيس مستوفي. وقد يجمع بين قول الخليل وقدامة، بأن يجعل الشيئان في كلام الخليل المعنيين، والحد الواحد اللفظة ويكون مطابقة اللفظة للمعنى أي موافقته، ومنه قولهم: فلان يطابق فلانا على كذا أن يوافقه ويساعده، فيكون مذهب قدامة أن اللفظة وافقت معنى ثم وافقت معنى آخر. انتهى كلام ابن الأثير.
وجمعه بين قول الخليل وقدامة ليس بصواب، فقد قال الأخفش: ممن قال أن المطابقة اشتراك المعنيين في لفظ واحد، فقد خالف الخليل والأصمعي، فقيل له: أو كانا يعرفان ذلك؟ فقال سبحان الله، من كان أعلم منهما بطيبه وخبيثه؟. انتهى.
وما أحسن ما أتى في الجواب بالطباق بين الطيب والخبيث، وعلى هذا فتفسير الخليل المذكور للمطابقة لغوي لا اصطلاحي.
والطباق قسمان، حقيقي ومجازي، ويخص بعضهم الثاني باسم التكافؤ. وكل منهما إما لفظي أو معنوي، وإما طباق إيجاب أو طباق سلب. فالطباق الحقيقي- ما كان بألفاظ الحقيقة، سواء كان من اسمين أو فعلين أو حرفين، كقوله تعالى: (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) وقوله تعالى: (وما يسوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور) وقوله تعالى: (وإنه هو أضحك وأبكى وأنه هو آمات وأحيا) وقوله تعالى: (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) .
وقول الني صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.
وقل أبي صخر الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
وقول ابن الدمينة:
لأن سائني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت بالك
وقول كثير عزة:
وواله ما قاربت إلا تباعدت ... بصرم ولا أكثرت إلا أقلت
وقول أبي الحسن التهامي:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
ومن لطيف قول الأرجاني:
وقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى
وقول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب أنهم ... لا يغدرون ولا يفنون لجار
يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار
وفي البيت الأول مع الطباق تكميل حسن، إذ لو اقتصرت على قوله: لا يغدرون، لاحتمل الكلام المدح، إذ ترك العذر قد يكون عن عفة، فقال: ولا يفنون، ليفيد أنه للعجز، كما أن ترك الوفاء للؤم، وحصل مع ذلك إيغال حسن لأنه لو وقف على قوله: ولا يفون، لتم المعنى، لكنه لما احتاج إلى القافية أفاد بها معنى زائدا، حيث قال: لجار، لأن ترك الوفاء للجار أشد قبحا من تركه لغيره.
والطباق بالحروف كقوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) .
وقول الشاعر:
على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا عليَّ ولا ليا
وقول الآخر:
ويوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر.
والطباق المجازي- ما كان بألفاظ المجاز، كذا قالوا، والذي أراه: أنه يشترط فيه أن يكون المعنيان المجازيان متقابلين أيضاً، وإلا دخل فيه إيهام الطباق- وهو الجمع بين معنيين غير متقابلين أيضاً، عبر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقيان، وقد جعلوه نوعا أخر غير المجازي.
فمثال الطباق المجازي قوله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه) أي ضالاً فهديناه، فالموت والإحياء متقابل معناهما المجازيان، وهما الضلال والهدى، ومعناهما الحقيقيان المعروفان.
ومثله قول علي عليه السلام: احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. قال ابن أبي الحديد: ليس يعني بالجوع والشبع ما يتعارفه الناس وإنما المراد: احذروا صولة الكريم إذا ضيم وامتهن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم. انتهى.
فعبر عن الضيم بالجوع، وعن الإكرام بالشبع، وهو مجاز، وكلا معنييهما متقابلان، الحقيقان والمجازيان.
وقول التهامي:
(1/90)
________________________________________
لقد المكارم بعد موت ... وشاد بناءها بعد انهدام.
فالإحياء والموت، والشيد والانهدام متقابلة معانيها الحقيقة والمجازية إذ المراد: أنه أعطى بعد أن منع الناس كلهم.
ومنه قولي:
يهلك المال بالعطاء ويحيا ... ميت فضل فاعجب لمحيٍ مميت.
ومثال إيهام الطباق قول دعبل:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى.
فضحك المشيب هنا عبارة عن ظهوره ظهورا تاما، ولا تقابل بين البكي وظهور المشيب، لكنه عبر عنه بالضحك الذي يكون معناه الحقيقي مضاد لمعنى البكاء.
وقول ابن رشيق:
وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج.
فإن التقابل غنما هو في معنيي الإطفاء والإيقاد الحقيقيين، وأما المجازيان فلا، لأن إطفاء الشمس عبارة عن إثارة العجاج حتى غطى على الشمس، وإيقاد نجوم العوالي عبارة عن تشريع أسنة رماحهم، ولا مضادة بين هذين المعنيين. وغلط ابن حجة في عده هذا البيت من التكافؤ.
ويعجبني من هذا النوع قول أبي العرب المغربي:
من كل مشتمل بمنصل عزمه ... ذي همة يطأ السماء همام.
نشوان من خمر الكرى صاحي الندى ... ريان من ماء المحامد ظام.
فالتقابل في هذا أيضاً بين المعاني الحقيقة لا المجازية كما لا يخفى. وأما الطباق المعنوي فهو متقابلة الشيء بضده في المعنى لا اللفظ، كقوله تعالى: (إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) معناه: ربنا ليعلم إنا لصادقون، وقوله تعالى: (جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رفعا للمبني قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء.
وقول المقنع الكندي:
لهم جل مالي أن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا.
فقوله: إن تتابع، في قوة قوله: إن كثر، والكثرة ضد القلة، فهو إذن طباق بالمعنى لا باللفظ.
وقول هدبة بن الخشرم:
فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقا لم يقيد.
فإن معناها، فإن تقتلوني مقيدا، وهو ضد الطلق، فطابق بينهما في المعنى. وطباق الإيجاب كجميع ما تقدم من الأمثلة.
وأما طباق السلب، فهو الجمع بين فعلي مصدر واحد، مثبت ومنفي أو أمر ونهي، كقوله تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقوله "أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا" وقوله "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" فالمطابقة بين هذه الآيات حاصلة بين إثبات العلم ونفيه. وقوله تعالى "فلا تخشوا الناس واخشون" فالمطابقة حاصلة بين النهي عن الخشية والأمر بها.
ومثاله من الشعر قول امرئ القيس:
جزعت ولم أجزع من البين مشفقا ... وعزيت قلبا بالكواعب مولعا.
وقول آخر:
وننكر عن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول.
وقول البحتري:
يقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم.
وقول أبي الطيب:
ولقد علمت وما علمت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا.
ومن المستطرف في ذلك قول بعضهم:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا.
رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا.
فالمطابقة بين ذلك كله بين الإيجاب والسلب.
ومن الطباق نوع يسمى الطباق الخفي، والملحق بالطباق، وهو الجمع بين معنيين يتعلق أحدهما بما يقابل الآخر، نوع تعلق مثل السببية واللزوم كقوله تعالى: "أشداء على الكفار رحماء بينهم" فإن الرحمة وإن لم تكن مقابلة للشدة لكنها مسببة عن اللين الذي هو ضد الشدة، وقوله تعالى "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" فإن ابتغاء الفضل وإن لم يكن مقابلا للسكون لكنه يستلزم الحركة المضادة للسكون، ومنه قوله تعالى "اغرقوا فأدخلوا نارا" لأن إدخال النار يستلزم الإحراق المضاد للإغراق، وقيل لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين النار والماء.
قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة من القرآن.
قال ابن المعتز: من أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة" لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة.
ومن أمثلته في الشعر قول التهامي:
(1/91)
________________________________________
والهون في ظل الهوينا كامن ... وجلالة الأخطار في الأخطار.
فإن جلالة الأخطار وإن لم تكن مقابلة للهون، لكنها لازمة للعز المقابل للهون.
وقول الآخر:
وجهه غاية الجمال ولكن ... فعله غاية لكل قبيح.
فإن ضد الجمال الدمامة، لكنها لما كانت تستلزم القبح طابقه بينه وبين الجمال.
وكذا قول الطغرائي:
وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل.
لأن المعوج إنما يطابقه المستقيم، والمعتدل يطابقه المائل، لكن الاعتدال لازم للمستقيم المطابق للمعوج.
وأما قول أبي الطيب:
لمن تطلب الدنيا إذ لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم.
فاتفقوا على أنه طباقه بين المحب والمجرم فاسد، لأن المجرم ليس ضد المحب، وإنما ضده المبغض، وأما طباقه بين السرور والإساءة، فقد يقال من الملحق بالطباق، لان من أحسن إلى شخص فقد سره.
وفساد المطابقة أمر محذور.
وعد منه ابن الأثير في كفاية الطلب قول زهير:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل.
قال: فإن الحلم ليس بضد الجهل والخنا، وإنما ضده السفه والطيش، وضد الجهل العلم أو المعرفة وما شاكلها. انتهى.
ووقع هذا للتهامي في قوله:
ولربما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في يمنى بغير يسار.
على أنه ما جهل المطابقة بين الجهل والعلم في قوله:
ومن الرجال معالم ومجاهل ... ومن النجوم غوامض ودراري.
وممن طابق بين السفه والحلم، والجهل والعلم، أبو تمام في قوله:
سفيه الرمح جاهله إذا ما ... بدى فضل السفيه على الحليم.
وقوله:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدي الفتى من دهره وهو عالم.
وقال الشريف الرضي:
خطط يجبن المش......جع أو يسفهن الحليما.
وقال:
رأيت المال يرفع من سفيه ... وعدم المال ينقص من حليم.
ومقابلة النقص بالرفعة من الملحق بالطباق للزومه الضعة المقابلة لها.
وقال أيضاً:
في رفقة لا يستطيل سفيهها ... أبدا ولا يدري المقال حليمها.
قال الصفدي: وعدم المطابقة في شعر أبي الطيب كثير، من ذلك قوله:
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
فإن القرة ضدها السخنة، والقذى ضد الجلاء.
قوله أيضاً:
ولم يعظم لنقص كان فيه ... ولم يزل الأمير ولن يزالا
فإن العظم ضد الحقارة، والنقص ضد الكمال، فلو قال: ولم يكمل لنقص كان فيه، كان أصنع. انتهى.
قلت: ويجاب عنه أنه من الملحق بالطباق لاستلزام النقص الحقارة.
قال: وكذا قوله:
وإنه المشير عليك في بضلةٍ ... والحر ممتحن بأولاد الزنا.
فإن الحر ضده اللئيم. انتهى.
ومنه قوله:
رأيتك في الذين أرى ملوكا ... كأنك مستقيم في محال.
حكى أبو الحسن الواحدي في شرحه قال: قال أبو الحسن محمد بن أحمد المعروف بالشاعر المغربي: كان سيف الدولة يسر بمن يحفظ شعر المتنبي، فأنشدته يوما (رأيتك في الذين أرى ملوكا) وكان أبو الطيب حاضرا، فقلت: هذا لبيت والذي يتلوه لم يسبق إليه، فقال سيف الدولة: كذا حدثني الثقة، أن أبا الفضل محمد بن الحسين قال كما قلت.
فأعجب المتنبي واهتز، فأردت أن أحركه فقلت: إلا إن في أحدهما عيبا في الصنعة، فالتفت إلي التفات حنق وقال: ما هو؟ فقلت: قولك: مستقيم في محال، والمحال ليس ضد الاستقامة، وإنما ضدها الاعوجاج، فقال الأمير: هب أن القصيدة جيمية وقلت: كأنك مستقيم في اعوجاج، فكيف تعمل في تغيير البيت الثاني وهو:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن البيض بعد دم الدجاج.
فضحك وضرب بيده وقال: حسن مع هذه السرعة، إلا أن يصلح أن يباع في سوق الطير، لا مما يمدح به أمثالنا يا أبا الحسن. انتهى.
تنبيه- جعل الخطيب القزويني في الإيضاح والتلخيص، من أنواع المطابقة التدبيج ومثل له.
بقول أبي تمام:
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر.
ومنع بعضهم كون مطلق التدبيج من الطباق، وقال: ليس في الألوان ما تحصل به المطابقة غير البياض والسواد، لأنهما ضدان بخلاف غيرهما.
قال ابن الأثير: وقد زعم بعضهم أن أفضل مطابقة وقعت قول ابن كلثوم:
(1/92)
________________________________________
أنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا.
وليس كما زعم، لأن الناس متفقون على أن جميع المخلوقات مخالف وموافق ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو في سبيل المسامحة.
قال الرماني وغيره: السواد والبياض ضدان، وسائر الألوان يضاد كل واحد منها صاحبه، إلا أن البياض هو ضد السواد على الحقيقة، لأن كل واحد منهما كلما قوي زاد بعدا من صاحبه، وما بينهما من الألوان كلما قوي زاد قربا من السواد، فإذا ضعف زاد قربا من البياض، ولأن البياض منصبغ لا يصبغ، والسواد صابغ لا يتصبغ، وليس سائر الألوان كذلك، لأنها تصبغ، وهذا ظاهر فمن شك فيه لا يعد من العقلاء فضلا عن العلماء. انتهى كلام ابن الأثير.
والحق أن التدبيج داخل في تفسير الطباق لما بين اللونين من التقابل، فإنهم فسروا المتضادين في حد الطباق بالمعنيين المتقابلين في الجملة.
قال السعد التفتازاني: يعني ليس المراد بالمتضادين، الأمرين الوجوديين المتواردين على محل واد بينهما غاية الخلاف، كالسواد والبياض، بل أعم من ذلك، وهو ما يكون بينها تقابل وتناف في الجملة وفي بعض الأحوال، سواء كان التقابل حقيقيا أو اعتباريا، وسواء كان تقابل التضاد أو تقابل الإيجاب والسلب، أو تقابل العدم والملكة، أو تقابل التضايف، أو ما يشبه شيئا من. انتهى.
وعلى هذا فبين كل لونين من الألوان غير البياض والسواد تقابل، وإن لم يكن تقابل التضاد فهو داخل في الطباق، وسيأتي الكلام على التدبيج مستوفي في محله إن شاء الله تعالى.
تتميم- أحسن الطباق ما ترشح بنوع آخر من البديع يكسوه طلاوة وبهجة لا توجد عند فقده، وإلا فمجرد مطابقة الضد بالضد ليس تحته كبير أمر، وما وقع في القرآن العظيم منه أكثره مشتمل على ما ذكرناه كقوله تعالى: "هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً" فقابل بين الخوف والطمع مع التقسيم البديع، إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع والأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين وقوله تعالى: "له الحمد في الأولى والآخرة" فإن فيه مع المطابقة إدماجا لأن الغرض من هذه الآية تفرده تعالى بوصف الحمد، وأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء، وسيأتي عليها مزيد كلام في نوع الإدماج إن شاء الله تعالى. وكذلك قوله تعالى: "تولج الليل في النهار تولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب" فترشحت المطابقة فيها بالعكس الذي لا يدرك لو جازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير القدرة الإلهية، فإن في العطف بقوله: وترزق من تشاء بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال التي لا يقدر عليها غيره، قادر على أن يرزق من يشاء من عباده بغير حساب، وهذا من مبالغة التكميل المشحونة بالقدرة الربانية، وقوله تعالى: "جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" فإن فيه المطابقة بين الليل والنهار اللف والنشر المرتب، فإن السكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار، وأنت إذا تأملت ما وقع في كلام الله تعالى من هذا النوع، رأيته جميعه أو أكثره من هذا القبيل.
وأما أمثلته في الشعر فمن بديعة يقول أبي الطيب المتنبي:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان.
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني.
فإنه رشح الطباق بالتورية التي كسته بهجة كان عاريا عنها، والطباق بين قوله: قيسي ويماني، لان العداوة بين قيس ويمن معلومة، والتورية في قوله: يماني، لأنه أراد السيف فورى به عن الرجل المنسوب إلى اليمن.
ومثاله قول الصاحب بن عباد يرثي كثير بن أحمد الوزير:
يقولون قد أودى كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل.
فقلت دعوني والعلى نبكه معا ... فمثل كثير في الأنام قليل.
وأبو العلاء المعري كساه ديباجة الجمع مع التقسيم في قوله:
لا تطويا السر عني يوم نائبة ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر.
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر.
والقاضي الأرجاني ضوع أرجه في اللف والنشر المرتب في قوله:
تعلق بين الوصل والهجر مهجتي ... فلا أربى في الحب أقضي ولا نحبي.
وهذا البيت من قصيدة جيدة له مطلعها:
(1/93)
________________________________________
أسائل عنها الركب وهي مع الركب ... واطلبها من ناظري وهي في القلب.
وبعده البيت المستشهد به وبعده:
فلله ربع من أميمة عاطل ... توشحه الأنداء باللؤلؤ الرطب.
رميت محيا دارهم عن صبابة ... بسافحة الإنسان سافحة الغرب.
أروي بها خدي وفي القلب غلتي ... وقد يتخطى الغيث أمكنة الجدب.
فسر نتعلل بالحديث عن الهوى ... ونسند إلى أحبابنا أثر الحب.
ولا تتعجب أني عشت بعدهم ... فإنهم روحي وقد سكنوا قلبي.
وحرف تجوب القاع والوهد والربى ... كحرف مديم الرفع والجر والنصب.
نجائب يقدحن الحصى كل ليلة ... كأن بأيديها مصابيح للركب.
ومن المطابقة باللف والنشر المرتب أيضاً قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
يا روض ذي الأثل من شرقي كاظمة ... قد عاود القلب من ذكراك أشجانا.
أوسعت عيني دموعا والحشا حرقا ... فكيف ألفت أماها ونيرانا.
وما أحسن قوله بعده وهو من المرقص المطرب:
أشم منك نسيما لست أعرفه ... أظن ظمياء جرت فيك أردانا.
ومنها:
ألقاك والقلب صاح من رجيع هوى ... وأنثني عنك بالأشواق نشوانا.
وما تداويت من قرح على كبدي ... ولا سقاني راقي الحب سلوانا.
ومن المطابقة على الوجه المذكور قوله أيضاً:
تلذ عيني وقلبي منك في ألم ... فالقلب في مأتم والعين في عرس.
وقوله في المعنى أيضاً:
قلبي وطرفي منك هذا في حمى ... قيظ وهذا في رياض ربيع.
وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعنى، فقال أبو تمام:
أفي الحق أن يضحى بقلبي مأتم ... من الحب والبلوى وعيناي في عرس.
وقول المتنبي:
حشاي على جمر ذكي من الهوى ... وعيناي في روض من الحسن ترتع.
وقال آخر وهو شاهد لما نحن فيه من المطابقة باللف والنشر غير أنه معكوس الترتيب:
تصلى الفؤاد بنور من محاسنها ... فالعين في جنة والقلب في نار.
وأبو تمام رفع طبقة المطابقة بالاستعارة في قوله:
وأحسن من نور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المطالب.
وألبسها حلة المشاكلة وملكها رق الاستعارة في قوله:
فتى عنده خير الثواب وشره ... ومنه الإباء المر والكرم العذب.
وأما المتأخر ون فأكثروا من إبرازها في أشعار التورية التي هي أعلى وأحلى أنواع البديع على القول المتصور.
فمن ذلك قول الصاحب فخر الدين بن مكانس في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
يا بن عم النبي إن إناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا.
أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إمامي ومن سواك مجاز.
وقول جمال الدين بن نباتة:
يا غائبين تعللنا لغيبتهم ... بطيب عيش ولا والله لم يطب.
ذكرت والكأس في كفي لياليكم ... فالكأس في راحة والقلب في تعب.
وقوله:
إني إذا آنست همسا طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه.
ودعوت ألفاظ ****** وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه.
وقول العفيف التلمساني:
وفي الحي هيفاء المعاطف لو بدت ... مع البان كان الورق فيها تغننت.
عجبت لها في حسنها إذا تفردت ... لآية معنى بعده قد تثنت.
وقول الصالح الصفدي:
وأهيف حاز قدا ... قد حار فيه المعنى.
تراه في الحسن فردا ... لكنه يتثنى.
وقول البدر الذهبي:
وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربى.
يتكسر الماء الزلزال على الحصى ... فإذا غدا بين الرياض تشعبا.
وقول السراج الوراق:
وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد.
بنت عليها المعالي من ذوائبها ... بيتا من الشعر لم يمدد بأوتاد.
وأوقدت وجناتها النار لا القرى ... لكن لأفئدة منا وأكبادا.
فلو بدت لحسان الحضر قمن لها ... على الرؤوس وقلن الفضل للباد.
وقول ابن حجر:
خليلي ولى العمر منا ولم تنب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا.
فحتى متى بنبي بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا.
وقوله:
أتى من أحيبابي رسول فقال لي ... تذلل وهن واخضع تغز برضانا.
(1/94)
________________________________________
فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا.
وقول البدر الذهب:
يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدا كيف أسلو.
يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو.
وقول ابن سناء الملك:
وفي الحي من صيرتها نصب خاطري ... فما أذنت في نازل الشوق بالرفع
تنيه بفرع منه أصل بليتي ... ولم أرى أصلا قط يعزى إلى فرع
وقول مؤلفه عفا الله عنه:
إلى الله مما يقاسي المحب ... بليلي وما نال في الحب نيلا
قضى العمر بين بكى واشتياق ... فيبكي نهارا ويشتاق ليلا
وقول بدر الدماميني:
أمنيتي أنت يا مليحا ... ما مثله في الوجود ثاني.
فكيف يبدي جفاك خوفا ... وأنت لي غاية الأماني.
قوله:
وعزيز الجمال أوجب ذلي ... وهواه علي أصبح فرضا.
فهو في الحسن والجمال سماء ... صرت يا صاح منه بالذل أرضا
ولنكتف من ذلك بهذا المقدار، خوف السأم من الإكثار.
والشيخ صفي الدين الحلي جاء بالمطابقة محلاة باللف والنشر، وبيته:
وطال ليلي وأجفاني به قصرت ... عن الرقاد فلم أصبح ولم أنم
وغلط ابن حجة في قوله: إن المطابقة فيه مجردة، فإن قوله: فلم أصبح راجع إلى طول الليل، وقوله: ولم أنم، راجع إلى قصر الأجفان، وهذا هو اللف والنشر المرتب.
وبين بديعية ابن جابر الأندلسي، المطابقة فيه مجردة، وهو:
وأسهر إذا نام جفنا وامض حيث ونى ... واسمح إذا شح نفسا واسران يقم.
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
أبكي فيضحك عن در مطابق ... حتى تشابه منثور بمنتظم.
قال ابن حجة: لعمري أن بيت الصفي والعميان يتنزلان عند هذا البيت العامر من المحاسن منزلة الأطلال البالية، فإن الشيخ عز الدين جمع فيه بين تسمية النوع من جنس الغزل وبين غرابة المعنى وحسن الانسجام، ورقة التشبيب وبديع اللف والنشر، ولم يأت كل منهما بغير مجرد المطابقة. وأما قول العميان في آخر بيته: واسر أن يقم، فهو من بقية ما سقط من حجارة البيت. انتهى.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علو في طباقهم.
والشيخ عبد القادر الطبري أغار على بيت العز الموصلي فهدمه وعمره بالركة والعقادة فقال:
يبكي المحب وّذا المحبوب يضحك عن ... در فطابق منثورا بمنتظم.
ما أقبح قوله: وذا المحبوب.
وبيت بديعيتي هو:
إن أدنوا ينأوا وما قلبي كقلبهم ... وهل يطابق مصدوع بملتئم.
المطابقة هنا مرشحة بالتذييل وهو قولي: وما قلبي كقلبهم، فإنه لما أخبر عن نأيهم إذا دنا ذيله بقوله: وما قلبي كقلبكم، يعني أن قلبي واجد بهم مشغوف بحبهم، فهو يهوى الدنو منهم، وليس كذلك قلبهم؛ فهم ينأون تعززا وتدللا كما هو شأن المحبوب مع المحب، والمعشوق مع العاشق. ثم اتبع ذلك بحسن التعليل مدمجا في التمثيل، فإنه مثل قلبه بالظرف المصدوع وقلبهم بالملتئم، وأخرج الكلام مخرج المثل السائر، والتعليل فيه ظاهر؛ وفيه مع ذلك بديع اللف والنشر والتورية بتسمية النوع من جنس الغزل، والله أعلم.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري منحوت من الجبال وهو:
أحييت وجدي وأفنيت العزا وسا ... ء الود حزني وسر المعتدي سقمي.
الشيخ أكثر من المطابقة في هذا البيت، لكنها من الكثرة الكثرة التي لا تعجب.

إرسال المثل.
أرسلت إذ لذ لي حبيّهم مثلا ... وقد يكون نقيع السم في الدسم.
إرسال المثل- من لطائف أنواع البديع وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر في بيت أو بعضه بما يجري مجرى المثل السائر، من حكمة أو نعت أو غير ذلك، مما يحسن التمثيل به.
(1/95)
________________________________________
وقد عقد جعفر بن شمس الخلافة في كتاب الآداب يايا في ألفاظ من القرآن جارية مجرى المثل، وأورد في ذلك قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (والآن حصحص الحق) (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) (وذلك بما قدمت يداك) (قضي الأمر الذي به تستفتيان) (أليس الصبح بقريب) (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) (ولكل نبأ مستقر) (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (قل كل يعمل عل شاكلته) (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) (وكل نفس بما كسبت رهينة) (وما على الرسول إلا البلاغ) (وما على المحسنين من سبيل) (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة) (الآن وقد عصيت قبل) (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) (ولا ينبئك مثل خبير) (كل حزب بما لديهم فرحون) (وقليل من عبادي الشكور) (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (ولا يستوي الخبيث والطيب) زفي ألفاظ أخر.
ومن ذلك في الحديث النبوي قوله عليه السلام: لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين. آفة العلم النسيان وإضاعته أن تحدث به غير أهله. الحزم سوء الظن. الحياء من الإيمان. لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. الظلم ظلمات يوم القيامة. طائر كل إنسان في عنقه. ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها. الحكمة ضالة المؤمن. المرء مع من أحب. الصبر عند الصدمة الأولى. الشاهد يرى مالا يرى الغائب. البلاء موكل بالقول. حليف القوم منهم. الآمر بالمعروف كفاعله. خير الأمور أوساطها. ومن ذلك بكثير.
ومنه في الحديث العلوي قوله عليه السلام: الناس أعداء ما جهلوا. المنية ولا الدنية. رد الحجر من حيث جاء فإن الشر لا يدفعه إلا الشر. صحة الجسد من قلة الحسد. قد أضاء الصبح لذي عينين. كم من أكلة تمنع أكلات. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. من ملك استأثر. لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان. لكل أمر عاقبة حلوة أ, مرة. المرء مخبوء تحت لسانه. قلة العيال أحد اليسارين. الهم نصف الهرم. إضاعة الفرصة غصة. قيمة كل امرء ما يحسن. فقد الأحبة غربة. من حذرك كمن بشرك. من أطال الأمل أساء العمل. رب قول أنفذ من صول. الغيبة جهد العاجز. من لم يعط قاعدا لم يعط قائما. من طلب شيئا ناله أو بعضه. وهو في كلامه عليه السلام كثير جدا.
ومن أمثلته في الشعر قول امرئ القيس بن حجر الكندي:
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل.
وقوله:
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما حل العقاب.
وقوله:
قد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب.
وقوله:
إذا المرء يحزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان.
وقوله:
فأنك لم يفخر عليك كعاجز ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب.
وقول زهير بن أبي سلمى:
ولم لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم.
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفوه ومن لا يتق الشتم يشتم.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم.
ومن يكن ذا فضل ويبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى عن الناس تعلم.
وقوله:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل.
وقوله:
والستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر.
وقول النابغة الذبياني:
نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا مقام على زأرٍ من الأسد.
وقوله:
فلست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب.
وقوله:
الرفق يمن والأناة سعادة ... فاستأن في أمر تلاق نجاحا.
واليأس عما فات يعقب راحة ... ولرب مطمعة تعود ذباحا.
فاستبق ودك للصديق ولا تكن ... قتبا يعضُّ بغارب ملحاحا.
وقول أوس بن حجر الأسدي:
ولست بخابيء لغد طعاماً ... حذار غد لكل غد طعام.
وقول بشر بن أبي خازم:
أمل ترى أن طول العهد يسلي ... وينسي مثلما نسيت جذام.
وقوله:
يكن لك في قومي يد يشكرونها ... وأيدي الندى في الصالحين قروض.
وقول الأفوه الأودي:
البيت لا يبتنى إلا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد.
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا.
(1/96)
________________________________________
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا.
إذا تولى سراة الناس أمرهم ... نما على ذلك أمر القوم وازدادوا.
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد.
أمارة الغي أن تلقى الجميع لدى ... الإبرام للأمر والأذناب أكتاد.
كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد.
أعطوا غواتهم جهلا مقادتهم ... فكلهم في حبال الغي منقاد.
وقول عبيد بن الأبرص:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب.
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب.
وقوله:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد.
وقوله:
الخير لا يأتي على عجل ... والشر يسبق سيله مطره.
وقول المرقش الجاهلي:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما.
أخوك الذي إن أحوجتك ملمة ... من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما.
وليس أخوك بالذي إن تشعبث ... عليك أمور ظل يلحاك دائما.
وقول طرف بن العبد.

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
وكان الني صلى الله عليه وآله وسلم إذا استبطأ الخبر تمثل بقول طرفة فيقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار. إنها كلمة نبي.
وقوله:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
وقوله:
قد يبعث الأمر الصغير كبيره ... حتى تظل له الدماء تصبب.
وقوله:
وأعلم علما أنه ليس بالظن انه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل.
وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل.
وقول المتلمس واسمه جرير بن عبد المسيح:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد.
وحفظ المال خير من بغاه ... وجول في البلاد بغير زاد.
وقوله في الإغضاء عن ذنوب الأقرباء:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما.
وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما.
وقوله في الامتناع عن الذل:
ولا يقيم على ذل يراد به ... إلا لاذلان غير الحي والوتد.
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يأوي له أحد.
وقول علقمة بن عبده:
وكل حصن وإن دامت سلامته ... على دعائمه لا شك مهدوم.
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشؤوم.
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم.
وقول أبي داؤد الأيادي:
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فرش واصطنع عند الذين بهم ترمي.
وقول حاتم الطائي:
إذا لزم الناس البيوت رأيتهم ... عماة عن الأخبار خرق المكاسب.
وقوله يخاطب امرأته ماوية:
أماوي إن المال غائد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر.
وقوله أيضاً:
وأنت إذا أعطيت بطنه سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا.
وقوله أيضاً:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وقال عمرو بن كلثوم:
وإن غدا وإن اليوم رهن ... وبعد غدا بما لا تعلمينا.
وقول عنترة بن شداد:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثة لنفس المنعم.
وقوله:
إن العدو على العدو لقائل ... ما أن له علم وما لم يعلم.
وقول الأضبط بن قريع:
لكل هم من الهموم سعة ... والصبح والمسي لا بقاء معه.
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه.
لا تحقرن الفقير علن أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه.
وصل حبال البعيدان وصل ال ... حبل أقص القريب إن قطعه.
واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينا بعيشه نفعه.
وقول عدي بن زيد العبادي:
كفى واعظا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي.
عن المرء لا تسأل وأسأل عن قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على الحر من وقع الحسام المهند.
وقوله في حبس النعمان بن منذر:
(1/97)
________________________________________
أبلغ عني النعمان مألكا ... انه قد طال حبسي وانتظاري.
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري.
وقوله:
فهل من خالد إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار.
وقول المثقب العبدي:
لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء نعم.
حسن قبل نعم قولك لا ... وقبيح قول لا بعد نعم.
إن لا بعد نعم فاحشة ... فتلافاه إذا خفت الندم.
واعلم أن الذم نقص للفتى ... ومتى لا تتقي الذم تذم.
إن شر الناس من يكشر لي ... حين يلقاني وإن غبت شتم.
وقوله:
وكلام سيء قد وقرت ... عنه إذناي وما بي من صمم.
فتعديت خشاة أن يرى ... جاهل ما بي كما كان زعم.
ولبعض الصفح والإعراض عن ... ذي الخنى أبقى وإن كان ظلم.
وقول الممزق العبدي:
هون عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي.
وقول أفنون التغلبي:
كان بعض الكهان أنذره بهلاكه من لدغة تصيبه، وكان يتحرز منها بجهده ولا ينام إلا على ظهر راحلته. فبينما هو ذات ليلة على ناقة له وهي ترعى، إذ التوت حية على مشفرها فاضطربت، فرمت بها إليه فلدغته، فقال في وقته:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي ... إذا هو ام يجعل له الله واقيا.
ثم خرا ميتا لساعته.
وقول أحيحة بن الجلاح:
استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال.
إني مقيم على الزوراء أعمرها ... إن ****** إلى الإخوان ذو المال.
وقوله:
وما يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل.
وقول الأعشى واسمه ميمون بن قيس:
وإن القريب من يقرب نفسه ... لعمر أبيك الخير لا من تنسبا.
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرا ومسحبا.
وتفن منه الصالحات وإن يسيء ... يكن ما أساء الناس في رأس كبكبا.
وقوله:
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضايرها ما أطت الإبل.
كناطح نخلة يوما ليقلعها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
وقوله:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا.
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذي كان أرصدا.
وقول لبيد بن ربيعة:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل.
وقيل لبشار بن برد: أخبرنا عن أجود بيت قالته العرب، فقال: إن تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد.
ولكن أحسن كل الإحسان لبيد في قوله:
أكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل.
وإذا رمت رحيلا فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل.
وقوله:
وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بد يوما أن ترد الودائع.
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع.
لعمرك ما يدري المسافر هل له ... نجاح ولا يدري متى هو راجع.
أتجزع مما أحدث الدهر للفتى ... وأي كريم لم تصله القوارع.
وقول كعب بن زهير بن أبي سلمى:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت لئيما أو أصابك جاهل.
وقول النمر بن تولب:
يود الفتى طول السلامة جاهدا ... وكيف يرى طول السلامة تفعل.
وقوله:
خاطر بنفسك كي تنال رغيبة ... إن القعود مع العيال قبيح.
إن المخاطر مالك أو هالك ... والجد يجدي مرة فيريح.
وقوله:
ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذي يهب الرغائب فارغب.
لا تغضبن على امرئ في ماله ... وعلى كرائم أصل مالك فاغضب.
وقول حسان بن ثابت:
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهن لطيب الراح الفداء.
وقوله:
رب حلم أضاعه عدم المال ... وجهل غطى عليه النعيم.
ما أبالي أنب بالحزن تيس ... أم لحاني بظهر غيب لئيم.
وقول الحطيئة واسمه جرول:
وقد مريتكم لو أن درتكم ... يوما يجيء بها مسحي وابساسي.
أزمعت يأسا مريحا من نوالكم ... ولن ترى طاردا لحر كاليأس.
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب العرف بين الله والناس.
(1/98)
________________________________________
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فأنت لعمري طاعم كاسي.
وقول أبو ذؤيب الهذلي:
أمن المنون وريبة تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع.
بتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع.
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع.
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع.
وقول تميم بن مقبل:
فأخلف وأتلف إنما المال عارة ... وكله مع الدهر الذي هو آكله.
وأيسر مفقود وأهون هالك ... على الحي من لا يبلغ الحي نائله.
وقوله:
خليلي لا تستعجلا وانظرا غدا ... عسى أن يكون الرفق في الأمر أرشدا.
وقوله:
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما.
وقول النجاشي الحارثي:
إني امرؤ قلما أثني على أحد ... حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر.
لا تمدحن امرءاً حتى تجربه ... ولا تذمن من لم يبله الخبر.
وقول عمر بن معدي كرب:
إذا لم تستطع أمرا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع.
وقوله:
ليس الجمال بمؤزر ... فاعلم وإن رديت بردا.
إن الجمال مآثر ... ومناقب أورثن مجدا.
وقول عمر بن الأهتم:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق.
وقول سحيم عبد بن الحسحاس:
عميرة ودع إن ترخلت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا.
وقوله:
أشعار عبد بن الحسحاس قمن له ... يوم الفخار مقام الأصل والزرق.
وقال معن بن أوس:
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول.
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل.
وقوله:
اعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني.
اعلمه الرواية كل يوم ... فلما قال قافية هجاني.
وقوله:
هل الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزية مال أو فراق حبيب.
وقول أبي الأسود الدؤلي:
وإن أحق الناس إن كنت مادحا ... بمدحك من أعطاك والوجه الوفر.
وقوله:
لا تهني بعد إذ أكرمتني ... فشديد حالة منتزعة.
لا يكن برقك برقا خلبا ... إن خير البرق ما الغيث معه.
وقول زفر بن الحارث:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا.
وقول المتوكل الليثي:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم.
فهناك تعذر أن وعظت ويقتدي ... بالقول منك وينفع التعليم.
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم.
وقول يزيد بن مفزع:
لهفي على الآمر الذي ... كانت عواقبه ندامة.
العبد يقرع بالعصى ... والحر تكفيه الملامة.
وقول الفرزدق:
يمضي أخوك فلا تلقى له خلفا ... والمال بعد ذهاب المال يكتسب.
وقوله:
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا.
وقول جرير بن الخطفي:
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للئام نصور.
وقوله:
وابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس.
وقوله:
إني لأرجوا منك خيرا عاجلا ... والنفس مولعة بحب العاجل.
وقول الأخطل:
إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالعرِّ يكمن حينا ثم ينتشر.
وقوله:
وأقسم المجد حقا لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر.
وقوله:
وهل ظنون أمريء إلا كأسهمه ... والنبل غن هي تخطي تارة تصب.
وقوله:
والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال.
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال.
وقول القطامي من أبياته:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه إتباعا.
ومعصية الشفيق عليك مما ... يزيدك مرة منه استماعا.
وقوله:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل.
وربما فات بعض القوم أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا.
(1/99)
________________________________________
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي ولام المخطي الهبل.
وقوله:
وإذا يصيبك ... والحوادث جمة

حدث زواك إلى أخيك الأوثق.
وقال الطرماح بن حكيم:
لقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل.
وإني شقي باللئام ولن ترى ... شقيا بهم إلا كريم الشمائل.
وقول الكميت بن زيد:
فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها ... ويا حاطبا في حبل غيرك تحطب.
وقوله:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا ... فلا رأي للمضطر إلا ركوبها.
وقول الصلتان العبدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبي ... ر مرور الغداة وكر العشي.
إذا ليلة هرمت أختها ... أتى بعد ذلك يوم فتي.
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجات من عاش لا تنقضي.
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي.
وقول عي بن الرقاع:
وإذا نظرت إلى أميري زادني ... ضنا به نظري إلى الأمراء.
والقوم أشباه بين حلومهم ... بون كذاك تفاضل الأشياء.
بل ما رأيت جبال أرض تستوي ... فيما غشيت ولا نجوم سماء.
والبرق منه وابل متتابع ... جود وآخر لا يجود بماء.
وقال كثير صاحب عزة:
ومن يغمض عينيه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب.
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة ... يجدها ولا يسلم الدهر له صاحب.
وقال عملا بن عبد الله بن أبي ربيعة:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد.
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد.
وقول ابن ميادة:
ما عاتب المرء اللبيب كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح.
وقول عبد الله بن معاوية:
وأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... وأن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا.
وعين الرضا من كل عيب كليلة ... ألا أن عين السخط تبدي المسا ويا.
وقول إبراهيم بن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى رداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع.
وقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي تعاتبه.
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه ... مقارف ذنب تارة وجانبه.
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه.
وقوله:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم.
ومنها:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأس نصيح أو نصاحة حازم.
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم.
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم.
وخل الهوينا للضعيف ولا تكن ... نؤوما فإن الحزم ليس بنائم.
وحارب إذا لم تعطى إلا ظلامة ... شبا الحرب خير من قبول المظالم.
وقوله:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج.
وقول ابن العتاهية:
إن الشباب حجة التصابي ... روائح الجنة في الشباب.
وقوله:
أنت ما استغنيت عن صا ... حبك الدهر أخوه.
فإن احتجت إليه ... ساعة مجك فوه.
إنما يعرف ذا الفضل ... من الناس ذووه.
وقوله:
وما الموت إلا زحلة غير أنها ... من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي.
وقوله:
لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمره.
وقوله:
صار جدا ما مزحت به ... رب جد جره لعب.
وقوله:
كفى حزنا إن الجود مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل.
وقول سلم بن عمرو الخاسر:
من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور.
لولا منى العاشقين ماتوا ... غما وبعض المنى غرور.
وقوله:
لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد عن الخبر.
وقول منصور النمري:
أرى شيب الرجال من الغواني ... بموقع شيبهن من الرجال.
وقوله:
أقلل عتاب من استربت بوده ... ليست تنال مودة بقتال.
وقوله:
إن المنية والفراق لواحد ... أو توأمان ترضعا بلبان.
وقول محمد بن يسير البصري:
لا تيأسن وإن طالت مطالبه ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا.
(1/100)
________________________________________
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ.
هيئ لرجلك قبل الوطي موضعها ... فمن علا عن غرة زلجا.
وقول العتابي:
قلت للفرقدين والليل ملق ... سود أكنافه على الآفاق.
ابقيا ما استطعتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم فراق.
وقال أشجع بن عمرو:
سبق القضاء بكل ما هو كائن ... فليجهد المتقلب المحتال.
وقوله:
رأي سرى وعيون الناس هاجعة ... ما أخر الحزم رأي قدم الحذرا.
وقوله:
لابد للمشتاق من ذكر الوطن ... واليأس والسلوة من بعد الحزن.
وقول ابن الشيص:
كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دواني.
وكالسيف أن لا ينته لأن متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان.
ليس الفتى بجماله وثيابه ... إن الجواد بماله يدعى الفتى.
وقوله:
فاصبر لعادتنا التي عودتنا ... أولا فأرشدنا إلى من نذهب.
وقوله:
بعثت إليك نصائحي ومودتي ... قبل اللقاء تشاهد الأرواح.
وعلى القلوب من القلوب دلائل ... بالود قبل تباين الأشباح.
وقول أبي يعقوب الخريمي:
إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فبعض الشيء من بعض قريب.
وقوله:
وأعددته ذخرا لكل ملمة ... وسهم الرزايا بالذخائر مولع.
وقول الحكم بن قنبر:
ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل.
مقالة الذم إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل.
وقول أخيه عبد الله بن قنبر:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداء.
وقول الجلاح واسمه عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل.
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل.
ويقال أنها للسمو أل بن عاديا وهو الحق.
وقول صالح بن عبد القدوس:
لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه.
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه.
إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذي الضنا عاد إلى نكسه.
وقوله:
وأن عناء أن تفهم جاهلا ... ويحسب جهلا أنه منك أفهم.
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم.
وقول المؤمل بن أميل:
الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر.
هذا له ثمر حلو مذاقته ... وإذا يمر فلا يحلو له ثمر.
وقوله:
وأرى الليالي ما طوت من شرتي ... ردته في عظتي وفي إفهامي.
وعلمت أن المرء من سنن الردى ... حيث الرمية من سهام الرامي.
وقول محمد بن أبي زرعة:
لا ملوم مستقصر أنت في البر ولكن مستعطف مزداد.
قد يهز الحسام وهو حسام ... ويحث الجواد وهو جواد.
وقوله:
لا يؤنسنك أن تراني ضاحكا ... كم ضحكة فيها عبوس كامن.
وقول الحمدوني:
إذا ما اتقيت على قرحة ... فكل بلاء بها مولع.
وقوله:
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من ****** القليل.
وقول دعبل بن علي:
سأقضي بيت يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الرواية حامله.
يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله.
وقوله:
ما أعجب الدهر في تصرفه ... والدهر لا تنقضي عجائبه.
فكم رأينا من الدهر من أسد ... بالت على رأسه ثعالبه.
وقول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
إن ابتداء العرف مجد سامق ... والمجد كل المجد في استتمامه.
هذا الهلال يروق أبصار الورى ... حسنا وليس كحسنة لتمامه.
وقوله:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد.
أم تر أن الشمس زيدت محبة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد.
وقوله:
وأن أولى البرايا أن تواسيه ... وقت السرور لمن واساك في الحزن.
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن.
وقوله:
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله.
وقوله:
(1/101)
________________________________________
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدي الفتى في دهره وهو عالم.
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذن من جهلهن البهائم.
وقول البحتري:
واعلم بأن الغيث ليس بنافع ... للناس ما لم يأت في إبانه.
وقوله:
وإذا ما الشريف لم يتواضع ... للأخلاء فهو عين الوضيع.
وقوله:
شرق وغرب تجد من صاحب عوضا ... فالأرض من تربة والناس من رجل.
وربما حرم الغازون غنمهم ... في غزوهم وأصابوا الغنم في القفل.
وقول علي بن الجهم:
هي النفس ما حملتها تتحمل ... وللدهر أيام تجور وتعدل.
وعاقبة الصب الجميل جميلة ... وأحسن أخلاق الرجال التفضل.
ولا عار أن زالت عن الحر نعمة ... ولكن عارا أن يزول التجمل.
وقله في الحبس:
قال حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد.
أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبرا وأوباش السباع تردد.
وقول أحمد بن قير:
سر من عاش ماله فإذا ... حاسبه الله سره الإعدام.
وقوله:
أرى الدهر يخلقني كلما ... لبست من الدهر ثوبا جديدا.
وقوله:
ليت شعري كيف أغفلني ... ملك ما خاب آمله.
رب أمر سر أخوه ... بعد ما ساءت أوائله.
وقول أحمد بن أبي طاهر:
حسب الفتى أن يكون ذا حسب ... من نفسه ليس حسبه حسبه.
ليس الذي يبتدي به نسب ... مثل الذي ينتهي به نسبه.
وقوله أيضاً:
ودين الفتى بين التماسك والنهى ... ودنيا الفتى بين الهوى والتغزل.
وقول أبي هفان:
أرى الدهر يجفوني ونفسي عزيزة ... وليس معي زهد فأسطو على دهري.
وقالوا وراء النهر للرزق مطلب ... فقلت وراء السد خير من الفقر.
وقول ابن الرومي:
إن لله غير مرعاك مرعى ... ترتعيه وغير مائك ماء.
إن لله بالبرية لطفا ... سبق الأمهات والآباء.
وقوله:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب.
فإن الداء أكثر ما تراه ... يحول من الطعام أو الشراب.
وقول عبد الله بن المعتز:
وكم نعمة لله في طي نقمة ... ترجى ومكروه حلا بعد امرار.
وكل ما تهوى النفس من بنافع ... وكل ما تخشى النفوس بضرار.
وقوله:
إن مفتاح الذي تطلبه ... بيد الأرزاق فاصبر واتكل.
فرغ الله من الرزق ومن ... مدة العمر من وقت الآجل.
وقوله:
سواء على الأيام حفظ وإغفال ... وتارك سعي واحتيال محتال.
ولاهم إلا سيف يفتح قفله ... ولا حال إلا للفتى عندها حال.
وقوله:
إذا كنت في ثروة من غنى ... فأنت المسود في العالم.
وحسبك من نسب صورة ... تخبر أنك من آدم.
وقول منصور الفقيه التميمي:
الناس بحر عميق ... والبعد منهم سفينه.
وقد نصحتك فانظر ... لنفسك المستكينة.
وقول أبي فراس لحمداني:
معللتي بالوعد والموت دونه ... إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
ومنها:
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوما بسوءته عمرو.
ومنها:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر.
ونحن أناس لا توسط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر.
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر.
وله من قصيدة:
ومن مذهبي حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب.
(وله من أخرى) :
كذاك الوداد المحض لا يرتجى له ... ثواب ولا يخشى عليه عقاب.
ومنها:
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة ... فليس له إلا الفراق عتاب.
إذا لم أجد من خلة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب.
ومنها:
وما كل فعال يجازي بمثله ... ولا كل قوال لدي يجاب.
وله من أخرى:
بنوا الدنيا إذا ماتوا سواء ... ولو عمر المعمر ألف عام.
وقول الشريف الرضي من قصيدة:
وما يعلو على قلل المعالي ... أحق من المعرق في العلاء.
ومنها:
(1/102)
________________________________________
ورب أخ خليق بالتقالي ... ومغترب جدير بالصفاء.
وله من أخرى:
وتفرق البعداء بعد مودة ... صعب فكيف تفرق القرباء.
وله من أخرى:
لو رجعنا إلى العقول يقينا ... لرأينا الممات في الميلاد.
وله من أخرى:
يا ليت أني ما اقتنيتك صاحبا ... كم قينة ***ت أسى لفؤادي.
ومنها:
برد القلوب بمن نحب بقاءه ... مما يجر حرارة الأكباد.
وله من أخرى:
ومن يسأل الركبان عن حال غائب ... فلا بد أن يلقى بشيرا وناعيا.
وله من أخرى:
وأفجع الناس من ولت حبائبه ... ولا عناق ولا ضم ولا قبل.
ومنها:
ومن لم يعظه بياض الشيب أدركه ... في غرة حتفه المقدور والأجل.
من أخطأته سهام الموت قيده ... طول السنين فلا لهو ولا جذل.
وضاق من نفسه ما كان متسعا ... حتى الرجاء وحتى العزم والأمل.
وللرجال أحاديث فاحسنها ... ما نمق الجود لا ما نمق البخل.
ومنها:
ليس المعاد إلى الدنيا بمتفق ... ولا رجوع لمن يمضي به الأجل.
وكيف نأمل أن تبقى الحياة لنا ... وغير راجعة أيامنا الأول.
غيره: وما أحسن أن يعذر المرء نفسه=وليس له من سائر الناس عاذر.
آخر: وما ينفع الأصل من هاشم=إذا كانت النفس من باهله.
آخر:
فنذل الرجال كنذل النبات ... فلا للثمار ولا للحطب.
آخر:
لا يغرس الشر غارس أبدا ... إلا اجتنى من ثماره ندما.
فهذه نبذة من الأمثال للمتقدمين والمتأخرين، وقد ألف في ذلك جماعة منهم: ابن أبي الأصبع، له كتاب الأمثال؛ ابتدأ فيه بذكر ما وقع في الكتاب العزيز من الأمثال، والحق بها أمثال دواوين الإسلام، وختم الجميع بذكر أمثال العامة. وذكر في كتابه المسمى بتحرير التحبير: أنه استخرج أمثال أبي تمام من شعره، فوجدها تسعين نصيفاً وثلثمائة بيت وأربعة وخمسين بيتا واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي، فوجدها مائة نصيف وثلاثة وسبعين نصيفاً، وأربعمائة بيت؛ ولكنه أخرج من أمثال أبي الطيب ما ولده من أمثال أبي تمام، ومدار الناس الآن على أمثال أبي الطيب المتنبي دون غيرها غالبا. وقد جمع منها ابن حجة في شرح بديعيته جملة حسنة، ولكني وقفت للصاحب كافي الكفاءة إسماعيل بن عباد رحمه الله تعالى على رسالة جمع فيها أمثال أبي الطيب السائرة لمخدومه فخر الدولة، ووجد بخط فخر الدولة على نسخة الأصل علامات على رؤوس بعض الأبيات، وهي علامات ما اختاره من الأمثال. وقد رأيت أن أثبت الرسالة المذكورة بعينها؛ وأثبت العلامات المزورة لفخر الدولة؛ وهي خاء معجمة؛ علامة الانتخاب. وإنما نقلتها على ما هي عليه تعجبا من جودة نقده؛ ودلالة اختياره على أنه اختيار الملوك وذوي الهمم العالية؛ وبالله التوفيق ومنه الهداية إلى سوء الطريق.

الأمثال السائرة. من شعر المتنبي جمعها الصاحب كافي الكفاءة لمخدومه فخر الدولة قال الصاحب كافي الكفاءة إسماعيل بن عباد رحمه الله تعالى: الحمد لله الذي ضرب الأمثال للناس "لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" وصلى الله على أفصح العرب وسر عبد المطلب، صلى الله عليه وعلى آله أخيار الأمم، وأنوار الظلم، كم مثل ضرب فيه الحجة الواضحة؛ والحكمة البالغة. ثم إن الله قد أحيا بالأمير السيد شاهنشاه فخر الدولة، وفلك الأمة أطال الله بقاه، ونصر لواه داثر العلوم والآداب؛ وأقام برأيه ورايته أسواقهما، وكانت في يد الكساد بل الذهاب. فهو يقدم على المعرفة، ويقرب على التبصرة، لا كالملوك الذين يقال لهم:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.
(1/103)
________________________________________
ومن نعم الله- أدام الله النعم لديه- إن الله قرن ألفاظه بفصل المقال، ووشح كلامه بضرب الأمثال، هي لب اللب، يضع فيه الهناء مواضع النقب. وهذا الشاعر مع تميزه وبراعته وتبريزه في صناعته، له في الأمثال خصوصا مذهب سبق به أمثاله. فأمليت ما صدر عن ديوانه من مثل واقع في فنه، بارع في معناه ولفظه، ليكون تذكرة في المجلس العالي؛ تلحظها العين العالية، وتعيها الأذن الواعية. ثم إن أمر أعلى الله أمره، أمليت- بمشيئة الله- ما وقع من الأمثال؛ في كل ديوان جاهلي أو مخضرم أو إسلامي، فما أجد من الأدباء من عمل في ذلك كتابا مقنعا، أو جمعا مسبعا. قرن الله السعادات بأيامه والمناجح بأعلامه.
قال المتنبي:
فعد بها لا عدمتها أبدا ... خير صلات الكريم أعودها.
إني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وان حرصت غرور.
صبرا بني إسحاق عليه تكرما ... إن العظيم على العظيم صبور.
يممت شاسع دارهم عن نية ... إن المحب على البعاد يزور.
فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش في أرب النفوس.
خ أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد يا أبا دلف.
خ لو سكناي فيه منقصة ... لم يكن الدر ساكن الصدف.
خ غير اختيار قبلت برك بي ... والسجن والقيد يا أبا دلف.
خ إذا قيل رفقا للحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل.
يفنى الكلام ولا يحيط بوصفكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفد.
يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم ... بجبهة العير يفدى حافر الفرس.
خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا.
وما الكرام الطريف وإن تقوى ... بمنتصف من الكرم التلاد.
وإن الجرح يفثي بعد حين ... إذا كان البناء على فساد.
يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم.
هم لا موالهم وليس لهم ... والعار يبقى والجرح يلتئم.
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام.
وما أنا نهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام.
خليلك أنت لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام.
ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنب عنق صيقله الحسام.
وسبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام.
ولو لم يرع غلا مستحق ... لرتبتهم أسامهم المسام.
ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتال.
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام.
وقبض نواله شرف وعز ... وقبض نوال بعض القوم ذام.
أقامت في الرقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام.
وما الفضة البيضاء والتبر واحد ... نفوعان للمكدي وبينهما صرف.
وزارك بي دون الملوك تحرج ... إذا عن بحر لم يجز لي التيمم.
ولكن عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء.
خ ولن حبا خامر القلب في الصبا ... يزيد على مر الزمان ويشتد.
خ وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد.
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل.
أبلغ ما يطلب النجاح به ال ... طبع وعند العمق الزلل.
ومن يك ذا فم مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا.
ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا.
خ الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشق ما أعلنا.
خ وانه المشير عليك في بضلة ... والحر ممتحن بأولاد الزنا.
خ ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعر بئس المقتنى.
لعنت مقارنة اللئيم فإنها ... ضيف يجر من الندامة ضيفا.
وأنفس ما للفتى لبه ... وذو اللب يكره إنفاقه.
لا افتخار إلا لمن لا يضام ... مدرك أو محارب لا ينام.
خ ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام.
خ كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لا جيء إليها اللئام.
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام.
(1/104)
________________________________________
إن بعضا من القريض هذاء ... ليس شيئا وبعضه أحكام.
وربما فارق الإنسان مهجته ... يوم الوغى غير قال خشية العار.
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلوا من الهم أخلاهم من الفطن.
فقر الجهول إلى عقل بلا أدب ... فقر الحمار إلى رأس بلا رسن.
لا تعجبن مضيما حسن بزته ... وهل يروق دفينا جودة الكفن.
غلى مثل ما كان الفتى يرجع الفتى ... يعود كما يبدي ويكري كما أرمى.
إنعم ولذ فللأمور أواخر ... أبدا كما كانت لهن أوائل.
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل.
خ في الناس أمثلة تدور حياتها ... كمماتها ومماتها كحياتها.
خ ولا ينفع إلا مكان غير سخاؤه ... وهل نافع لولا الأكف القنا السمر.
ضروب الناس عشاق ضروبا ... فاعذرهم أشفهم حبيبا.
خ ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد.
وأكبر نفسي عن جزاء بغيبة ... وكل اغتياب جهد من لا له جهد.
فما في سجاياكم منازعة العلى ... ولا في طباع التربة المسك والند.
خ من الحلم أن يستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم.
خ إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي تغني الكريم المناصب.
لو كان يمكنني سفرت عن الصبا ... فالشيب قبل الأوان تلثم.
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق ... ينسى الذي يولى وعاف يندم.
لا تخدعنك من عدو دمعة ... وارحم شبابك من عدو يرحم.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم.
يؤذي القليل من اللئام بطبعه ... من لا يقل كما يقل ويلؤم.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم.
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم.
والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم.
خ ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم.
أفعال من تلد الكريم كريمة ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم.
خ ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره الغماما.
خ فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم.
خ يرى الجبناء أن العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم.
خ وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم.
خ وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم.
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم.
كلام أكثر من تلقى ومنظره ... مما يشق على الأذهان والحدق.
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس إن الحمام مر المذاق.
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق.
والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق.
ومن قبل النطاح وقبل يلني ... تبين لك النعاج من الكباش.
خ ويظهر الجهل بي وأعرفه ... والدر در برغم من جهله.
فصرت كالسيف حامدا يده ... لا يحمد السيف كل من حمله.
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بان تسعدا والدمع أشفاه ساجمه.
وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه.
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه.
وما خضب الناس البياض لأنه ... قبيح ولكن أحسن الشعر فاحمه.
وما كل سيف يقطع الهام حده ... وتقطع لزبات الزمان مكارمه.
خ وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام.
فكثير من الشجاع التوقي ... وكثير من البليغ السلام.
خ ولو جاز الخلود خلدت فردا ... ولكن ليس للدنيا خليل.
خ ومن لم يعشق الدنيا قليل ... ولكن لا سبيل إلى وصال.
خ نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال.
خ ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال.
(1/105)
________________________________________
خ وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال.
خ فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال.
إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل.
خ يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل.
خذوا ما أتاكم به واغنموا ... فإن الغنيمة في العاجل.
خ أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطعن عند محبيهم كا القبل.
ولا يجير عليه الدهر بغيته ... ولا تحصن درع مهجة البطل.
بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... كما تضر رياح الورد بالجعل.
إذا ما تأملت الزمان وصرفه ... تيقنت أن الموت ضرب من القتل.
هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل خلو الحسناء إلا أذى البعل.
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل.
وربما قالت العيون وقد ... تصدق فيها ويكذب النظر.
أعاذك الله من سهامهم ... ومخطئ من رميه القمر.
وإذا وكلت إلى كريم رأيه ... في الجود بأن مذيقه من محضه.
إن الرياح إذا عمدن لناظر ... أغناه مقبلها عن استعجاله.
دون الحلاوة في الزمان مرارة ... لا تختطى إلا على أهواله.
وهل تغني الرسائل في عدو=إذا ما لم يكن ظبي رقاقا.

وإن جزعنا له فلا عجب ... ذا الجزر في البحر غير معهود.
فما ترجى النفوس من زمن ... أحمد حاليه غير محمود.
من يعرف الشمس لا ينكر مطالعها ... أو يبصر الخيل لا يستكرم الرمكا.
خ وما ذاك بخل بالنفوس على القنا ... ولكن صدم الشر بالشر أحزم.
أهل الحفيظة إلا أن تجربهم ... وفي التجارب بعد الغي يجتدع.
ليس الجمال لوجه صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع.
والمشرفية ما زالت مشرفة ... دواء كل كريم أوهي الوجع.
خ لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق ... فليس يأكل إلا الميت الضبع.
خ من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع.
خ فقد يظن شجاعا من به خرق ... وقد يظن جبانا من به زمع.
إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع.
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى ... وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا.
خ وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد.
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد.
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد.
فإن قليل الحب بالعقل صالح ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد.
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب.
وللترك للإحسان خير لمحسن ... إذا جعل الإحسان غير ربيب.
فرب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب.
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب.
خ أعيذها نظرات منك صادقة ... إن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم.
خ وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم.
خ إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم.
إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم.
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهي ذمم.
شر البلاد مكان لا صديق به ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم.
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم.
وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه ... محا الذنب كل المحو من جاء تائبا.
وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللقاء كمشتاق بلا أمل.
والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل.
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل.
إ كنت ترضى بأن يعطوا الجزى بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول.
خ لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل.
لأن حلمك حلم لا تكلفه ... ليس التكحل في العينين كا لكحل.
وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسد طريق العارض الهطل.
(1/106)
________________________________________
خ وليس يصح في الإفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل.
خ وما كمد الحساد شيئا قصدته ... ولكنه من يزحم البحر يغرق.
خ وإطراق طرف العين ليس بنافع ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق.
خ ومن كنت بحرا له يا علي لا يقبل الدر الإكبارا.
ليالي بعد الظاعنينا شكول ... طوال وليل العاشقين طويل.
وبتن بحصن الران رزحى من الوجى ... وكل عزيز للأمير ذليل.
فإن تكن الأيام أبصرن صولة ... فقد علم الأيام كيف تصول.
أبدري ما أرابك من يريب ... وهل ترقى إلى الفلك الخطوب.
يجشمك الزمان أذى وحبا ... وقد يؤذى من المقة ******.
خ لكل أمريء من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدى.
خ وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.
ووضع الندى في وضع السيف بالعلي ... مضر كوضع السيف في موضع الندى.
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجدا الإحسان قيدا تقيدا.
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لاتشاكل.
وما تركوك معصية ولكن ... يعاف الورد والموت الشراب.
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب.
خ وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب.
خ وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب.
خ وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم.
تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما يأخذن منك غوارم.
ومن طلب الفتح الجليل فإنما ... مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم.
أينكر ريح الليث حتى يذوقه ... وقد عرفت ريح الليوث البهائم.
وما تنفع الخيل الكرام ولاالقنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام.
فإن كنت لا تعطي الذمام طواعة ... فعوذ الأعاذي بالكريم ذمام.
وشر الحمامين الزؤامين عيشة ... يذل الذي يختارها ويضارم.
خ وما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق.
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق.
وما يوجع الحرمان من كف حارم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق.
ولو لم يبق لم تعش البقايا ... وفي الماضي لمن بقى اعتبار.
لعل بينهم لبنيك جند ... فأول قرح الخيل المهار.
وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في ذلة العبدان عار.
لك إلف يجره وإذا ما ... كرم الأصل كان للألف أصلا.
إن خير الدموع عينا لدمع ... بعثته رعاية فاستهلا.
وإذا لم تجد من الناس كفؤا ... ذات خدر تمنت الموت بعلا.
ولذيذ الحياة أنفس للنف ... س وأشهى من أن تمل وأحلى.
وإذا الشيخ قال أفٍّ فما مل حياة وإنما الضعف ملا.
آلة العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولا.
أبدا تسترد ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا.
وهي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا ولا تتمم وصلا.
كل دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين عنها تخلى.
رب أمر أتاك لا تحمد الفعال فيه وتحمد الإفعالا.
والعيان الجلي يحدث للظن ... زوالا وللمراد انفعالا.
وإذا ما حلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا.
أقسموا لا رأوك إلا بقلب ... طالما غرت العيون الرجالا.
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا.
من أراد التماس شيء غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا.
كل غاد لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا.
ورفلت في حلل الثناء وإنما ... عدم الثناء نهاية الإعدام.
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني.
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران.
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان.
(1/107)
________________________________________
وتوهموا لعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان.
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ... ماذا يزيدك في إقسامك القسم.
لا تطلبن كريما بعد رؤيته ... إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا.
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم.
وما عاقني غير قول الوشاة ... وإن الوشايات طرق الكذب.
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب.
وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل عين دليل.
زودينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حال تحول.
إن تراني أدمت بعد بياض ... فحميد من القنا الذبول.
وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من رده تعليل.
ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول.
غدرت يا موت كم أفنيت من عدد ... بمن أصبت وكم أسكت من لجب.
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب.
وعاد في طلب المتروك تاركه ... أنا لنغفل والأيام في الطلب.
فلا تنلك الليالي أن أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بالغرب.
ولا يعن عدوا أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب.
وإن سررن بمحبوب فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجب.
وربما احتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمرٍ غير محتسب.
وما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أرب إلا إلى أرب.
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب.
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب.
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب.
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا.
تمنيتها لما تمنيت أن أرى ... صديقاً فاعيا أو عدواً مداحيا.
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ... ولا تنفى حتى تكون ضواريا.
فإن دموع العين غدر بربها ... إذا كن أثر الغادرين جواريا.
إذا الجود لم يرزق خلاص من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا.
وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا.
خلقت الوفا لو رحلت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا.
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا.
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب.
فما الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب.
أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه ... فما طلبي منها حبيبا ترده.
وأسرع مفعول فعلت تغيرا ... تكلف شيء في طباعك ضده.
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده.
خ فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده.
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده.
وما الصارم الهندي إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده.
وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذلم أبجل عنده وأكرم.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق مل يعتاده من توهم.
أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... واعرفها في فعله والتكلم.
وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلما على الجهل يندم.
وإن بذل الإنسان لي جود عابس ... جزيت بجود الباذل المتبسم.
وما كل هاو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال له بمتمم.
ولم أرج إلا أهل ذاك ومن يرد ... مواطر من غير السحائب يظلم.
فأحسن وجه في الورى وجه محسن=وأيمن كف في الورى كف منعم.

خ وأشرفهم من كان أشرف همة ... وأكثر إقداماً على كل معظم.
خ لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور صديق أو إساءة مجرم.
ولكن ما يمضي من الدهر فائت ... فجد لي بحظ البادر المتغنم.
إنما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوى في الفؤاد.
قد يصيب الفتى المشير ولم يج ... هد ويشوي الصواب بع اجتهاد.
(1/108)
________________________________________
وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقدم الميلاد.
خ وإطاعتك أسد دهرك والطا ... عة ليست خلائق الآساد.
وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في صدور الصعاد.
كيف لاي ترك الطريق لسيل ... ضيق عن أتيه كل واد.
خ وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في أعين من لا يجرب.
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب.
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب.
وكل أمريء يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب.
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب.
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب.
وقد يترك النفس التي لا تهابه ... ويخترم النفس التي تتهيب.
فما يديم سرور ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن.
يا من نعيت على بعد بمجلسه ... كل بما زعم الناعون مرتهن.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا.
ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجعانا.
خ وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأن ... فس سهل فيها إذا هو كانا.
فإن يك إنسانا مضى لسبيله ... فإن المنايا غاية الحيوان.
قال الزمان قولا له فاسمعه ... إن الزمان على الإمساك عذال.
القاتل السيف في جسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجال.
يروعهم منه دهر صرفه أبدا ... مجاهر وصروف الدهر تغتال.
خ لطفت رأيك في وصلي وتكرمتي ... عن الكريم على العلياء يحتال.
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال.
وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كل ماشية بالرجل شملال.
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال.
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال.
ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام.
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام.
خ وآنف من أخي لأبي وأمي ... إذا لم أجده من الكرام.
أرى الأجداد تغلبها كثيرا ... على الأولاد أخلاق اللئام.
عجبت لمن له قد وحد ... وينبو نبوة العضب الكهام.
ومن يجد المطي إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام.
ولم أرى في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام.
ويصدق وعدها والوعد شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام.
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام.
وللسر منه موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب.
وما العشق إلا غرة وطماعة ... يعرض قلب نفسه فيصاب.
وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للزجاج ركاب.
خ أعز مكان في الدنيا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب.
خ أيا أسدا في جسمه روح ضيغم ... وكم أسد أرواحهن كلاب.
وقد تحدث الأيام عندك شيمة ... وتنعمر الأوقات وهي يباب.
ولكنك الدنيا إلي حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب.
أنوك من عبد ومن عرسه ... من حكم العبد على نفسه.
ما من يرى أنك في وعده ... كمن يرى أنك في حبسه.
ولا يرجى الخير عند امرئ ... مرت يد النخاس في رأسه.
فقل ما يلؤم في ثوبه ... إلا الذي يلؤم في غرسه.
خ لاشيء أقبح من فحل له ذكر ... تقوده أمة ليست لها رحم.
وإذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم.
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أني بما أنا باك منه محسود.
جود الرجال من الأيدي وجودهم ... من اللسان فلا كانوا ولا الجود.
العبد ليس لحر صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الحر مولود.
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد.
(1/109)
________________________________________
إن امرءاً أمة حبلى تدبره ... لمستضام سخين العين مفؤود.
خ من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد.
خ أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود.
خ وذاك أن الفحول الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود.
فتى زان في عيني أقصى قبيلة ... وكم سيد في حلة لا يزينها.
وما كل منة قال قولا وفي ... وما كل من سيم خسفا أبى.
ولابد للقلب من آلة ... ورأي يصدع صم الصفا.
وكل طريق أتاه الفتى ... على قدر الرجل فيه الخطى.
خ لقد كنت أحسب قبل الخصي أن الرؤوس محل النهى.
خ فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النهى كلها في الخصى.
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما ل يرى.
خ الحزن يقلق والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصي طيع.
خ إني لا أجبن من فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع.
خ ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع.
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى فيها وما يتوقع.
ولمن يغالط في الحقيقة نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع.
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع.
بأبي الوحيد وجيشه متكاثر ... يبكي ومن شر السلاح الأدمع.
وإذا حصلت من السلاح على البكا ... فحشاك رعن به وخدك تقرع.
خ قبحا لوجهك يا زمان فإنه ... وجه له من كل قبيح برقع.
ومن ضاقت الأرض على نفسه ... حرى أن يضيق بها جسمه.
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر والمم.
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم.
خ حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم.
توهم القوم أن العجز قربنا ... وفي التقريب ما يدعو إلى التهم.
خ ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم.
هون على بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم.
ولا تشك إلى خلق فتشتمه ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم.
وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم.
غاض الوفاء فما تلقاه في عدة ... وأعوز الصق في الإخبار والقسم.
إن أوحشتك المعالي ... فإنها دار غربة.
كدعواك كل يدعي صحة العقل ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل.
دريني أنل مالا ينال من العلي ... فصعب العلي في الصعب والسهل في السهل.
خ تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولابد دون الشهد من إبر النحل.
وليس الذي يتبع الوبل رائدا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل.
وما أنا ممن يدعي الشوق قلبه ... ويحتج في ترك الزيارة بالشغل.
تحاذر هزل المال وهي ذليلة ... وأشهد أن الذل شر من الهزل.
قد كنت أحذر بينهم من قبله ... لو كان ينفع حاذرا أن يحذرا.
إن في الموج للغريق لعذرا ... واضحا أن يفوته تعداده.
ما سمعنا بمن أحب العطايا ... وأشتهي أن يكون فيها فؤاده.
خ وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القد.
خ وليس حياء الوجه في الذئب شيمة ... ولكنه من شيمة الأسد الورد.
خ يعللنا هذا الزمان بذا الوعد ... ويخدع عما في يديه من النقد.
كل جريح ترجى سلامته ... إلا فؤادا دهته عيناها.
وخل زيا لمن يحققه ... ما كل دام جبينه عابد.
لابد للإنسان من ضجعة ... لا تقلب المضجع عن جنبه.
ينسى بها ما كان من عجبه ... وما أذاق الموت من كربه.
نحن بنوا الموتى فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه.
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هي من كسبه.
لو أفكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه.
لم ير قرن الشمس في شرقه ... فشكت الأنفس في غربة.
يموت راع الضان في جهله ... ميتة جالينوس في طبه.
خ وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه.
(1/110)
________________________________________
خ وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه.
فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه.
ما كان عندي أن بدر الدجى ... يوحشه المفقود من شهبه.
إن النفوس عدد الآجال ... ورب قبح وحلى ثقال.
أحسن منها الحسن في المعطال ... فخر النفس بالنفس والأفعال.
من قبله بالعم والأحوال.
هذا أخر ما استخرجه الصاحب كافي الكفاة رحمه الله تعالى من شعر المتنبي من الأمثال، وإنما أثبتناها برمتها هنا لتكون عمد لأهل الإنشاء وغيرهم إذا أوردوها في ترسلاتهم وكلامهم وشواهدهم على اختلاف أنواعها فإن المدار عليها كما ذكرناها سابقا، وليس ذلك لعمري مخصوصا بأمثاله فقط، بل جميع شعره يتداوله أصناف الناس، في فنون الأغراض، كما قال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر: ليست اليوم مجالس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الإنس ولا أقلام كتاب الرسائل؛ أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل؛ ولا لحون المغنين والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين. انتهى.
وقال ابن رشيد العمدة: ليس في المولدين أشهر اسماً من الحسن ابن هاني؛ ثم حبيب والبحتري؛ ويقال أنهما أخملا خمسمائة شاعر في زمانهما كلهم مجيد؛ ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز؛ ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا. انتهى.
ولأبي الفضل أحمد بن محمد بن يزيد السكري المروزي من شعراء اليتيمة مزدوجة ترجم فيها أمثالا للفرس، منها قوله:
أحسن ما في ضفة الليل وجد ... الليل حبلى ليس يدري ما تلد.
من مثل الفرس ذوي الأبصار ... الثوب رهن في يد القصار.
إن البعير يبغض الخشاشا ... لكنه في أنفه ما عاشا.
نال الحمار بالسقوط في الوحل ... ما كن يهوى ونجى من العمل.
نحن على الشرط القديم المشترط ... لا الزق منشق ولا العير سقط.
في المثل السائر للحمار ... قد ينفق الحمار للبيطار.
العنز لا يسمن إلا بالعلف ... لا يسمن العنز بقول ذي لطف.
البحر غمر الماء في العيان ... والكلب يروي منه باللسان.
لا تك من نصحي ذا ارتياب ... ما بعتك الهرة في الجراب.
من لم يكن في بيته طعام ... فماله في محفل مقام.
منيتني الإحسان دع إحسانك ... اترك بحشو الله باذنجانك.
كان يقال من أتى خوانا ... من غير أن يدعى إليه هانا.
وكان الشاعر المذكور مولع بنقل أمثال الفرس إلى العربية، فمن ذلك قوله في غير المزدوجة:
إذا الماء فوق غريق طما ... فقاب قناة وألف سوا.
إذا وضعت على الرأس التراب فضع ... من أعظم التل أن النفع منه يقع.
في كل مستحسن عيب بلا ريب ... ما يسم الذهب الإبريز من عيب.
ما كنت لو أكرمت أستقصي ... لا يهرب الكلب من القرص.
طلب الأعظم من بيت الكلاب ... كطلاب الماء في لمع السراب.
هو الثعلب الرواغ في مهمه سلك ... يرى إليه فيه ما أن يرى الشبك.
من مثل الفرس سار في الناس ... التين يسقي بعلة الآس.
تبختر إخفاء لما فيه من عرج ... وليس له فيما تكلفه فرج.
ولأبي عبد الله الأبيودري قصيدة ترجم فيها أمثال الفرس، منها قوله:
صيامي إذا أفطرت بالسحت ضلة ... وعلمي إذا لم يجد ضرب من الجهل.
وتزكيتي مالا جمعت من الربا ... رياء وبعض الجود أخزى من البخل.
كسارقة الرمان من كرم جارها ... تعود به المرضى وتطمع من الفضل.
ألا رب ذئب مر بالقوم خاويا ... فقالوا علاه البهر من كثرة الآكل.
وكم عقعق قد رام مشية قبجة ... فأنسى ممشاه ولم يمش كالحجل.
ولبعض الأدباء قصيدة أيضاً في ذلك، منها:
ما أقبح الشيطان لكنه ... ليس كما ينقش أو يذكر.
يكفي قليل الماء رطب الثرى ... والطين رطبا بله أيسر.
إلى شفا النار أماشي أخي ... كنني أن خاضها أصدر.
أنتهز الفرصة في حينها ... وألتقط الجوز إذ ينثر.
يطلب أصل المرء من فعله ... ففعله عن أصله يخبر.
كم ماكر حاق به مكره ... وواقع في بعض ما يحفر.
فررت من قطر غلى مشغب ... علي بالوابل يثعنجر.
(1/111)
________________________________________
أن تأت عورا فتعاور لهم ... وقل أتاكم رجل أعور.
خذه بموت يغتنم عنده ال ... لحمى فلا يشكو ولا يجأر.
الكلب لا يذكر في مجلس ... ألا تراءى عندما يذكر.
هذا ما اختره منها جاحظ نيسابور في يتيمة الدهر؛ وما أردنا بإثبات ذلك إلا التفنن في الأمثال. وأما المثال الواقعة في أشعار العرب؛ فأكثر من أن تحصى؛ وأوفر من أن تستقصى؛ وقد ذكرنا منها ما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
تنبيه- قال العلامة الزمخشري في الكشاف: المثل في أصل كلامهم، بمعنى المثل وهو النظير، يقال: مثل وممثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه؛ ثم قيل للقول الممثل مضربه بمورده: مثل. ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في خبيئات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق؛ حتى تريك الخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن؛ والغائب كأنه مشاهد؛ وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبي. ولمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين؛ وفي سائر كتبه أمثاله؛ وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام الأنبياء عليهم السلام والحكماء، قال الله تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) ومن سور الإنجيل سورة الأمثال. ولم يضربوا مثلا، ولا رأوه أهلا للتيسر، ولا جديرا بالقبول؛ إلا قوله فيه غرابة من بعض الوجوه؛ ومن ثم حوفظ عليه؛ وحمي عن التغيير. انتهى.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى في هذا النوع قوله:
رجوتكم نصحاء في الشدائد لي ... لضعف رشدي فاستسمنت ذا ورم.
فقوله: استسمنت ذا ورم، من الأمثال السائرة، يضرب لمن يخيب الرجاء فيه. قال الحريري في المقامة الثانية: لقد استسمنت يا هذا ذا ورم ونفخت في غير ضرم. وأشار إليه المتنبي في قوله:
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
أنوار بهجته إرسالها مثلا ... تلوح أشهر من نار على علم.
فقوله: أشهر من نار على علم، من الأمثال السائرة؛ يضرب للبالغ من الشهرة غايتها. ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية ابن حجة:
وكم تمثلت إذا أرخوا شعورهم ... وقلت بالله خلو الرقص في الظلم.
فارقص في الظلم من الأمثال، لكنه مثل عامي لا يؤثر عن العرب؛ على أنه ليس هذا مضربه؛ فإن هذا المثل غنما يضرب لمن يفعل الشيء عبثا في غير محله، بحيث لا ينتفع به. كقول البهاء زهير:
يا أيها الباذل مجهوده ... في خدمة أف لها خدمه.
إلى متى في تعب ضائع ... بدون هذا تؤكل اللقمة.
تشقى ومن تشقى له غافل ... كأنك الراقص في الظلمة.
فتراه كيف تمثل به لمن يذهب فعله ضائعا. وأما التمثيل به حال إرخاء الأحباب للشعور فلا وجه له، فإن إرخاء الشعور أمر مستحسن من الحبائب والأحباء، لم يفعل في غير موقعه حتى يمثل له الرقص في الظلم، فقوله في شرحه: أن قولي لهم بعد إرخاء الشعور: خلوا الرقص في الظلم، لا يخفى على حذاق الأدب؛ أنما لاحظ فيه تشبيه الشعور بالظلم، ولم يتألم مضرب المثل؛ فأخطأ الصواب ولم يشعر.
والشيخ عبد القادر الطبري انتحل بيت الشيخ عز الدين الموصل فقال:
كما لهم ظاهر إرسالهم مثلا ... يلوح أشهر من نار على علم.
وبيت بديعيتي قولي:
أرسلت إذ لذ لي حبيهم مثلا ... وقد يكون نقيع السم في الدسم.
فالسم في الدسم من المثال السائرة، يضرب للمحبوب يكون فيه المكروه. قال صاحب البردة:
كم حسنت لذة للمرء قاتلة ... من حيث لم يدر أن السم في الدسم.
وبيت الشيخ إسماعيل المقري قوله:
طالت مسافة الليل لا منامة به ... ولا منام لمقروح على ألم.
بسقم عينيك اسقم كل جارحة ... فرب داء دفين صح بالسقم.
هذا هو قول أبي الطيب (فربما صحت الأجسام بالعلل) .

التخيير.
تخيير قلبي أضناني بهم ومحا ... مني الوجود والجاني إلى الندم.
التخيير هو أن يأت الشاعر ببيت يسوغ أن يقفى بقواف متعددة، فيختار منه قافية مرجحة على سائرها، تدل على حسن اختياره، لكونها أنسب وأمكن من غيرها.
كقول الحريري:
(1/112)
________________________________________
إن الغريب طويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ماله قوت.
فأنه يسوغ أن يقال في قافيته: ماله مال، ماله نسب، ماله صفد، ماله أحد؛ ماله قوت. فإذا نظرت إلى هذه القوافي، وجدت قوله: ماله قوت؛ أبلغ من الجميع؛ لكونها أدل على الفاقة؛ وأظهر في شكوى الحال من غيرها.
وذكر ابن حجة في هذا النوع آية من كتاب الله تعالى؛ وعدها منه وهو غير صواب؛ بل هي من نوع التمكين قطعا؛ إذ مفهوم التغيير أنه يسوغ أن يؤتى في مكان الفاصلة بفاصلة أخرى؛ لولا ما حظر الشرع من ذلك؛ وليس كذلك؛ فإن القرآن العظيم نزل على أكمل الوجوه لفظا ومعنى، بحيث لا يمكن لأحد أن يغير فيه حرفا واحدا، وإن خفي على بعض الحكماء وجه الحكمة في بعض الألفاظ والفواصل، وتوهم انه يمكن تغييرها، فهو من غباوته وجهله بمواقع الألفاظ. والآية التي أعدها ابن حجة من هذا النوع عدها غيره من التمكين، وسنذكر شيئا من ذلك في نوع من التمكين، عند إفضاء النوبة إليه مع مشيئة الله تعالى.
ولم يسمع في هذا النوع الطف من أبيات ديك الجن:
قولي لطيفك ينثني عن مضجعي عند المنام ... عند الرقاد عند الهجوع عند الهجود عند الوسن.
فعسى أنام فتنطفي نار تأجج في عظامي ... في فؤادي في ضلوعي في كبودي في البدن.
جسد تقلبه الأكف على الفراش من السقام ... من القتاد من الدموع من الوقود من الحزن.
أما أنا فكما علمت فهل لوصلك دوام ... من معاد من رجوع من وجود من ثمن.
فهذه القوافي المثبتة حيال كل بيت، يناسب كل منه المعنى، لكن الأولى أولى.
وذكر الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح اللامية أن ابن الذروي نظم قصيدة مطلعها:
نوى اطلعت منه القفار البسابس ... نخيل مطي طلعهن أوانس.
وهي تزيد على العشرين بيتا، جعل لكل بيت أربعا وعشرين قافية وهذه القصيدة تنشد أربعا وعشرين قصيدة، وهذا غاية في القدرة.
وصنع أبو القاسم علي بن منجب المعروف بابن الصيرفي بيتين وهما:
لما غدوت مليك الأرض أفضل من ... جلت مفاخره عن كل إطراء.
تناثرت أدوات النطق فيك على ... ما يصنع الناس من نظم وإنشاء.
ثم أنه روى البيتين على جميع حروف المعجم.
وأما الشعر الذي على قافيتين فكثير جدا من ذلك قول ابن الرومي:
لم تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد يوضع.
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لا فسح مما كان فيه وأرغد وأوسع.
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها يهدد يفزع.
ولسيف الدين قصيدة على هذا النط أولها:
أسقني الراح قد تجلى النهار (الظلام) وتغنى على الأراك الهزاز ... الحمام.
وبدا الروض في ثياب من الزهر شذاها بنفسج وعرار وثمام.
فاسقنيها مثل الورود احمرارا ... وكثغر ****** فيه افترار ابتسام.
قهوة لزة رحيق شول ... قرقف لذة سلاف عقار مدام.
من يدي أوطف الجفون غرير ... زانه الخصر واللمى والعذار والقوام.
بدر تم يلوح في زي ظبي ... قصرت عن صفاته الأفكار الإفهام.
ثم أنه سار على هذا النموذج غلى تمام احد وعشرين بيتا.
ولأبي قاسم محمد بن جزى المغربي:
أيا من كففت النفس عنه تعففا ... وفي النفس من شوقي إليه غرام لهيب.
إلا إنما صبري كصبر وإنما ... على النفس من تقوى الإله لجام رقيب.
ومما يناسب ذكره هنا، ما روى أصحاب الحديث من حيث محمد بن كعب القوظي، قال: بينما عمر بن الخطاب جالسا إذ مر به رجل، فقيل: يا أمير المؤمنين، هذا سواد بن قارب الذي أتاه رأيه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم، قال: أنت على ما أنت من الكهانة؟ فغضب، فقال عمر: سبحان الله، ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه، فاخبرني بإتيانك رأيك بظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: بينما أنا ذات ليلة نائم، إذ أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد القارب. فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، أنه قد بعث رسول من لوي بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته.
ثم انشأ يقولك
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس باقتابه.
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها.
(1/113)
________________________________________
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قدامها كأكذابها.
قلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا. ولما كانت الليلة الثانية، أتاني فضربه برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب، واسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، أنه قد بعث رسول من لوي غالب يدعو إلى الله وعبادته.
ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها.
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن ككفارها.
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليسد قدامها كأدبارها.
قلت دعني أنام فإني أمسيت ناعسا. فلما كانت الليلة الثالثة، أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، واسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، انه قد بعث رسول من لوي بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته.
ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسه ... وشدها العيس بأحلاسها.
تهوي غلى مكة تبغي الهدى ... ما طاهر الجن كأنجاسها.
فارحل إلى الصفوة من بني هاشم ... وارم بعينيك إلى رأسها.
قال: فرحلت ناقتي وأتيت المدينة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حوله، فأنشأت أقول:
أتاني نجي بين هدو ورقدة ... ولم أك فيما قد بلوت بكاذب.
ثلاث ليلا قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لوي بن غالب.
فشمرت عن ذيلي الأزرار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب.
فأشهد أن الله لا رب غيره ... وانك مأمون على كل غالب.
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب.
قال: ففرح رسول الله صلى عليه وآله وسلم وأصحابه بمقالتي، فوثب عمر بن الخطاب فالتزمه وقال: كنت اشتهي أن أسمع هذا الحديث منك، فهل يأتيك اليوم؟ قال: أما مذ قرأت القرآن فلا.
والذعلب، بذال معجمة مكسورة، فعين مهملة ساكنة، فلام موحدة: الناقة السريعة.
وليسدي الوالد متع الله بحياته بيتان من هذا القبيل وهما:
طابة طابت بشرب الظب ... ي زاهي الخد معسول اللمى الشفاه.
يا له من منهل عذب يزي ... ل الكرب بل يروي الظما الظماه.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى قوله:
عدمت صحة جسمي إذ وثقت بهم ... فما حصلت على شيء سوى الندم.
فإنه لذكر (عدمته) في صدر البيت، يليق أن يكون قافيته (العدم) ولذكر (الصحة) ، يليق بها (السقم والألم) ولذكر (الوثوق) يليق بها (الندم والسأم) ، والأول أرجح، قاله في شرحه.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي هو قوله:
تخيير قلبي هوى السادات صح به ... عهدي وغني لحزني ثابت الألم.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقم.
لو قال هذا البيت بعض صغار المتأدبين، لا ستهجن منه، فإنه معمور بالركة التي تتلو عندها الإسماع (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) ولا أعجب من شغف ناظمه به وإعجابه.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
فمذ تخيرت لي مما وثقت وقد ... أعريت قلبي نحولا زاد في المي.
معنى هذا البيت يحتاج في فهمه إلى التوقيف من ناظمه؛ وإلا فالإفهام معترفة في التقصير عن أن تحوم حوله.
وبيت بديعيتي قولي:
تخيير قلبي أضناني بهم ومحا ... مني الوجود والجاني غلى الندم.
فذكر (الضنى) يليق به (السقم والألم) وذكر (الوجود) يليق به (العدم) وذكرهما معا يليق بهم (السأم) ولكن (الندم) أولى لمناسبة التخيير الذي مبنى البيت عليه لفظا ومعنى.
وبين بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
من لي بعيش حلا الزمان به ... وعاضني عنه زادا زاد في نهمي.
قال في شرحه: كان يمكنه أن يقول: زاد في المي، زاد في قرمي، زاد في ضرمي؛ ونحو ذلك.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فإن فيه لهيب الشوق مضطرم ... وكيف يخلو فؤاد الصب من ضرم.
قال ناظمه: كان ينساغ أن يقول: من سقمي، من ألم، ونحو ذلك؛ فكان ذكر (الضرم) أولى لكونه أقوى حرا من (السقم والألم) ولن فيه رد العجز على الصدر.

النزاهة.
راموا النزاهة عن هجو وقد فعلوا ... ما ليس يرضاه حفظ العهد والذمم.
(1/114)
________________________________________
النزاهة ضرب من الهجو، غير أنه يتعين أن يكون بألفاظه منزهة عن الفحش والسخف، وهو معنى قول أبي عمرو بن العلاء: خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها، فلا يقبح بمثلها.
كقول أوس:
إذا ناقة شدت برحل ونمرق ... إلى حسن بعدي فضل ضلالها.
واختار ثعلب مثل قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعب بلغت ولا كلابا.
قال ابن الأثير: وبين المذهبين تناسب، إلا أن بيت جرير أهجي، لما فيه منم التفصيل.
قال الحافظ السيوطي وغيره: جميع هجاء القرآن من نوع النزاهة، فمنه قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون) فإن ألفاظ ذم هؤلاء المخبر عنهم بهذا الخبر، أتت منزهة عما يقع في الهجاء من فحش.
وقالوا: أحسن ما وقع في هذا الباب قول جرير أيضاً:
ولو ترمى بلؤم بني كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسار.
ولبس النهار بني كليب ... لدنس لؤمهم وضح النهار.
وما يغدو عزيز بني كليب ... ليطلب حاجة الإبجار.
وقول أبي تمام يهجو صالح بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:
يا أكرم الناس آباء ومفتخرا ... وألأم الناس مبلوا ومختبرا.
تغضي الرجال إذا آباؤه ذكروا=لهم ويغضي لهم أن فعله ذكرا.
وقول الخوارزمي في الصاحب بن عباد: لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت=كفاه يوما ولا تذممه إن حرما.

فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ولا يمنع لا بخلا ولا كرما.
فأجابه الصاحب بعد موته:
أقول لركب من خراسان قافل ... أمات خوارزميكم قيل لي نعم.
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم.
وقول ابن المعتز:
فأما الذي محصيهم فمكثر ... وأما الذي يطريهم فمقلل.
وقول البحتري:
له همة لو يجمع الله شملها ... على الناس لم تجمع لمكرمة شمل.
له حسب لو كان للشمس لم تبن ... وللماء لم يعذب وللنجم لم يعل.
وقول البديع الهمذاني:
غني رأيت من المكارم حظكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا.
وإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا.
وقول يوسف بن حمويه من شعراء اليتيمية:
إذا ما جئت أحمد مستميحا ... فلا يغررك منظره الأنيق.
له لطف وليس لديه عرف ... كبارقة تروق ولا تريق.
فما يخشى العدو له بعيدا ... كما بالوعد لا يثق الصديق.
فائدة- قال ابن بسام في الذخيرة: الهجاء ينقسم إلى قسمين، فقسم يسمونه هجاء الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا مقذعا، وهجوا مستشبعا، وهو طأطأ قديما من الأوائل، وثل عروش القبائل؛ غنما هو توبيخ وتعيير؛ وتقديم وتأخير؛ كقول النجاشي في بني عجلان؛ وشهرة شعره منعتني عن ذكره؛ واستعدوا عليه عمر بن الخطاب؛ وأنشده قول النجاشي فيهم؛ ودرء الحد بالشبهات.
وفعل ذلك الزبرقان، حين شكا الحطيئة، وسأله أن ينشده ما قاله فيه فأنشده قوله:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.
فسال عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أود بما قال له حمر النعم. وقال حسان: لم يهجه ولكن سلح عليه؛ فهم عمر بعقابه؛ ثم استعطفه بشعره المشهور.
وقال عبد الملك بن مروان يوما: أحسابكم يا بني أمية؛ فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وإن الأعشى قال في:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا.
ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنفعل هذا نحن بجارتنا؟ ودعا عليه. فما ظنك بشيء يبكي علقمة بن علاثة؟ وقد كان عندهم إذا ضرب بالسيف ما قال حس.
وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء؟ وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها.
ولما قال جرير: فغض الطرف إنك من نمير=فلا كعبا بلغت ولا كلابا.
(1/115)
________________________________________
أطفأ مصباحه ونام؛ وقد كان بات ليلته يتململ؛ لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه؛ قال الراعي: فخرجنا من البصرة؛ فما وردنا من مياه العرب؛ إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه؛ حتى أتينا حاضر بني نمير؛ فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون: قبحكم الله وقبح ما جئتم به.
والقسم الثاني- هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول: إذا هجوتم فاضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتا، ولا عيرت به قبيلة. انتهى.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله يخاطب العاذل:
ٍحسبي بذكرك لي ذما ومنقصة ... فيما نطقت فلا تنقص ولا تذم.
قال ابن حجة: هذا البيت شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة، وليته استضاء بما قاله جرير، ومشى على سننه.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت عز الدين الموصلي قوله يخاطب العذول:
لقد تفيهقت بالتشديق عن عذلي ... كيف النزاهة عن ذا الأشدق الخصم.
قال ابن حجة: قد تقر أن النزاهة هجو، ولكن شرطوا ألا ينظموا هجوها إلا بألفاظ لا تنفر منها العذراء في خدرها، وألفاظ عز الدين تنفر منها الجان فكيف حال العذراء. وحاصل القضية أنه نزه ألفاظه عن النزاهة ولم يتفيهق ولم يتشدق غيره، وما أحقه بقول القائل:
وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي عن المعنى ولكن يقرقع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
نزهت لفظي عن فحش وقلت لهم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم.
هذا البيت فيه النزاهة على وفق شروطها، غير أن لفظة الفحش فيه فاحشة.
والشيخ عبد القادر الطبري شن الغارة على بيت ابن حجة فقال:
نزهت قولي عن ذم فهم عرب ... بقال في حيهم يا غرابة الذمم.
حشمة النزاهة في هذا البيت أوضح من أن تخفى.
وبيت الشيخ إسماعيل المقري في بديعيته قوله:
شكلان في حمق معلوم اجتما ... عادا لأصل وخيم غير ذي كرم.
قال ناظمه: إن هذا البيت فيه النزاهة والتورية في موضعين، فإن قوله: (معلوم) يحتمل أنه أراد ضد المجهول، ويحتمل مع لوم، أي شكلان في حمق معه لوم؛ وقوله: (وخيم) يحتمل انه وصف الأصل بالوخامة وعدم الصحة؛ فيكون الواو أصلية؛ ويحتمل أن الواو عاطفة للخيم بمعنى السجية على الأصل. انتهى.
والذي أقوله: انه إذا وزنت هذه التورية بعقادة تركيب هذا البيت وقلق ألفاظه وخصوصا صدره؛ خفت التورية ورجحت؛ غير أن ذلك ليس بمستنكر من الشيخ فإنه له عادة.

الهزل المراد به الجد.
هازلت بالجد عذالي فقلت لهم ... أكثرتم العذل فاخشوا كظة البشم.
هذا نوع من البديع لطيف المسلك رشيق المأخذ؛ وهو عبارة عن أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه، فيخرج مقصوده مخرج الهزل المعجب والمجون المطرب، هكذا قالوا. وأرى أنه لا يختص بالمدح والذم، بل كل مقصد أخرجه المتكلم هذا المخرج عد من هذا النوع، سواء كان مدحا, أو ذما، أو غزلا أو شكوى، أو اعتذارا أو سؤالا أو غير ذلك.
وشاهده في الهجو، قول أبي نواس من قصيدة يهجو بها تميما:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد عن ذلك كيف أكلك للضب.
فقوله: (كيف أكلك للضب) هزل، والمراد هنا الجد، لأن المقصود التعيير بأكل الضب، فإن تميما يكثرون من أكله.
وكان الحيص بيص الشاعر تميما، واسمه سعد بن محمد، وكان فيه تيه وتعاظم، وكان لا يخاطب أحدا إلا بالكلام العربي، ولا يلبس إلا زي العرب، ويتقلد سيفا؛ فعمل فيه أبو القاسم الفضل.
وقيل الرئيس علي بن عيسى الأعرابي الموصلي:
كمك تبادى وكم تطول طرطو ... رك ما فيك شعرة من تميم.
فكل الضب واقرض الحنظل اليأ ... بس واشرب ما شئت بول الظليم.
ليس ذا وجه من يضيف ولا يق ... ري ولا يدفع الأذى عن حريم.
فأجابه الحيص بيص بوقوله:
لا تدع من عظيم قدر وإن كن ... ت مشارا إليه بالتعاظم.
فالشريف الكريم ينقص قدرا ... بالتعدي على الشريف الكريم.
ولع الخمر بالعقول رمى الخم ... ر بتنجيسها وبالتحريم.
قالوا: والفاتح لهذا الباب أعني نوع الهزل يراد به الجد، امرؤ القيس في قوله:
وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بان الفتى يهذي وليس بفعال.
قال ابن أبي الأصبع: ما رأيت أحسن من قوله ملتفتا: (وإن كان بعلها) .
(1/116)
________________________________________
قال ابن الأثير: ومن مليحه قول أبي العتاهية:
أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر.
سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... فإن لم تفق منه رقيناك بالسور.
وأنشد ابن المعتز لأبي العتاهية أيضاً في هذا النوع:
أرقيك أرقيك باسم الله أرقيكا ... من بخل نفسك عل الله يشفيك.
ما سلم كفك إلا من يناوئها=ولا عدوك إلا من يرجيك.
ومنه قول أبي عبد الله حسين بن أحمد بن الحجاج، وقد حصل في دعوة رجل، فأخر طعامه إلى المساء، وجعل يجيء ويذهب في داره:
يا ذاهبا في داره جائيا ... بغير ما معنى ولا فائدة.
قد جن أضيافك من جوعهم ... فقرأ عليهم سور المائدة.
ومن لطيفة قول اللحام في أبي طلحة قسورة بن محمد وكان كوسجا:
ويك يا أبا طلحة مل تستحي ... بلغت ستين ولم تلتح.
ومنه في غير الهجو قول الشريف أبي يعلي ابن الهبارية:
يقول أبو سعيد إذ رآني ... عفيفا منذ عام ما شربت.
على يد أي شيخ تبت قل لي ... فقلت على يد الإفلاس تبت.
فإن هذه ظاهره المجون والخلاعة، والمراد هنا الجد، لأن المقصود شكوى الإفلاس.
وفي معناه للهباء زهير:
قالوا فلان قد غدا تائبا ... واليوم قد صلى مع الناس.
قلت متى كان وأتى له ... وكيف ينسى لذة الكاس.
أمس بهذي العين أبصرته ... سكران بين الورد والآس.
ورحت عن توبته سائلا ... وجدتها توبة إفلاس.
وقول أبي نواس في النسيب:
الجار أبلاني لا الجاره ... بحسن وجه مستوى الداره.
أبيت من وجد به مدنفا ... كأنما السعت جراره.
كفى بلاء حب من لا أرى ... ونحن في حيه وفي حاره.
أنا الذي أصلى بنار الهوى ... وحدي والعشاق نظاره.
تلعب الحب بقلبي كما ... تلعب السنور بالفاره.
ومن طريف هذا النوع قول بديع الزمان المهذاني لمستميح عاوده مرارا وقال له: لما لا تجود بالذهب في الإحسان كمثل الأشجار في الثمار، سبيله إذا أتى بالحسنى، أن يرفه من سنة إلى سنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتولع بالجود، ولكن هذا الخلق النفيس، لا يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم، لا يحتمله الغريم؛ ولا قرابة بين الذهب والأدب فلم قرنت بينهما؟ والأدي لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولي مع الأدب نادرة، جهدت في هذه الأيام بالطباخ أن يطبخ من رائية الشماخ فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتاب فلم يقبل، واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت من شعر الكميت ألف ومائتي بيت فلم يغن، ولو دفعت أرجوزة العجاج في ثمن السكباج ما عدمتها عندي، ولكن ليست تنفع فما أصنع، فإن كنت تحسب إختلافك إلي إفضالا علي، فراحتي في أن لا تطرح ساحتي، وفرجي في أن لا تجيز ومنه أيضاً رقعة كتبها الوزير لسان الدين بن الخطيب، إلى أبي عبد الله بن محمد قاسم السديد، وقد فوض إليه النظر في أمور الحسبة ببلده وهي:
يا أيها المحتسب الجزل ... ومن لديه الجد والهزل.
تهنيك والشكر لمولى الورى ... ولاية ليس له عزل.
(1/117)
________________________________________
كتبت أيها المحتسب، المنتمي إلى النزاهة المنتسب، أهنيك ببلوغ تمنيك فكأنني بك وقد طافت بركابك الباعة، ولزم أمرك السمع والطاعة، وارتفعت في مصانعتك الطماعة، وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة، ونهضت تقعد وتقيم؛ وسطوتك الريح العقيم، وبين يديك القسطاس المستقيم. ولا بد من شرك ينصب، وجماعة على ذي جاه تعصب. فإن غضضت طرفك، أمنت عن الولاية صرفك، وإن كففن كفك، حفك العز فيمن حفك. فكن لقالي الجبينة قاليا، ولحوت السلة ساليا. وابد للدقيق الحواري زهد حواري، وازهد فيما بأيدي الناس من العواري، وسر في اجتناب الحلوى على السبيل السوي. وارفض في الشوى دواعي الهوى، وكن على الهراس، وصاحب ثريد الرأس، صاحب مراس، شدي البأس، وثب على طبيخ الأعراس؛ ليثا مرهوب الافتراس. وأدب أطفال الفسوق في السوق، سيما من كان قبل البلوغ والبسوق، وصمم على استخراج الحقوق. والناس أصناف، فمنه خسيس يطمع منك في أكله، ومستعد عليك بوكزة أو ركلة. وحاسد في مطية تركب، وعطية تسكب. فاخفض للحاسد جناحك وسدد إلى حربه رماحك، أسبع الخسيس مرقة فأنه خنق، ودس له فيها عظما لعله يختنق. واحفر لشريرهم حفرة عميقة، فإن العدو حقيق. حتى إذا حصل، وأولياء الشيطان فانجح. والحق أقوى، وأن تعفوا أقرب إلى التقوى. سددك الله إلى غرض التوفيق، وأعلقك من الحق السبب الوثيق، وجعل قدومك مقررنا برخص اللحم والزيت والدقيق. انتهت.
وله أيضاً رسالة من هذا النوع، خاطب بها ابن خلدون صبيحة ابتنائه بسرية رومية، وقد اشتملت على مبدعات لطيفة، واحماضات ظريفة، وهي:
أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره.
واجتنب الشك إذا جئته ... جنبك الرحمن ما تكره.
سيدي لا زلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج. أخبرني، كيف كانت الحال؟ وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال؟ واحكم بمردود المراودة والاكتحال؟ وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الاتنحال؟ وحصحص الحق وذهب المحال؟ وقد طولعت بكل بشرى وبشر وزفت هند منك إلى بشر؟ فلله من عشية تمتعت من الربع بفرش موشية، وابتذلت منها أي وسادة وحشية وق أقبل ظبي الكناس من الديماس، ومطوق الحمام من الحمام. وقد حسنت الوجه الجميل التطرية، وأزيلت من الفرع الأثيث الإبرية، وصقلت الخدود فكأنها الأمرية. وسلط الدلك على الجلود، وأغريت نورة بالشعر المولود. وعادت الأعضاء يزل عنها اللمس، ولا تنالها البنان الخمس. والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم، والقلب يرمى من الكف الرقيم، بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم، فيقول: إني سقيم. وقد تفتح ورد الخفر؛ وحكم لزنجي الضفيرة بالضفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق ببناه دخان العود الرطيب. وأقبلت الغادة، يهديه اليمن وتزفها السعادة؛ وهي تمشي على استحيا وقد ضاع طيب الريا، وراق حسن المحيا. حتى إذا نزع الخف، وقبلت الأكف، وصخب المزمار؛ وتجاوب الدف والطار وذاع الأرج، وارتفع الحرج؛ وتجووز اللوى والمنعرج؛ ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت؛ وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل:
ومرت فقالت متى نلتقي ... فهش اشتياقا إلى الخبيث.
وكاد يمزق سربال ... فقلت إليك يساق الحديث.
فلما انسدل جنح الظلام، وانتصف من غريم العشاء الأخيرة فريضة السلام، وخاطت خيوط المنام عيون المنام، تأتى دنو الجلسة، ومسارقة الخلسة. ثم عض النهد؛ وقبلة الفم والخد، وإرسال اليد من النجد غلى الوهد، وكانت الأمالة القليلة قبل المد. ثم الإفاضة فيما ينشط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم أعمال المسير إلى السرير.

وصرنا إلى الحسنى وروقنا كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال.
(1/118)
________________________________________
هذا بعد منازعة للأطواق يسيره، يراها الغيد منم حسن السيرة. ثم شرع في حل التكة، ونزع الشكة، وتهيئة الأرض العزاز عمل السكة. ثم كان الوحى والاستعجال، وحمي الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطبع العفيف، وتوتر التقبيل وكان الأخذ الوبيل؛ وامتاز الأنوك من النبيل، ومنها جائر وعلى الله قصد السبيل. فيالها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق. وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانعة، وطال التراوغ والتزاور، وشكي التحاور، وهنالك تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخس أو تربح الأموال. فمن عصا تنقلب ثعباناً مبيناً، ونونة تصير تنيناً، وبطل لم يهله المعرك الهائل، والوهم الزائل؛ ولا حال بينه وبين قرنه الحائل، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض. ثم شق الصف، وقد خضب الكف، بعد أن كان يصيب البوسى بطعنته ويبوء بمقت الله ولعنته.

طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها.
وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقع فاستراح البال وتشوف إلى مذهب الثنوية، من لم يكن للتوحيد بمبال، وكثر السؤال عن البال بما بال، وجعل الجريح يقول- وقد نظر إلى دمه يسيل على قدمه:
إني له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول حملته في سفكه تعبا.
ومن سنان عاد عنانا، وشجاع صار جبانا. كلما شبته شائبة ريبه، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحية؛ وماتت الغريزة الحية. وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأمر ويغلب الحصر، ويجف اللعاب، ويظهر ألعاب، ويخفق الفؤاد، ويكبو الجواد، ويسيل العرق؛ ويشتد الكرب الأرق؛ وينشأ في محل الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق؛ ويقوى اللجاج ويعظم الخرق، فلا تزيد الحال الأشدة، ولا تعرف تلك الجانحة المؤمنة الأردة.

إذا لم يكن عون من لله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده.
فكم مغرى بطول اللبث، وهو من الخبث، يؤمل الكرة؛ ليزيل المعمرة؛ ويستنصر الخيال؛ ويعمل باليد الاحتيال.

إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت.
ومعتذر بمرض أصابه، جرعه أوصابه، ووجع طرقه؛ *** أرقه وخطيب ارتج عليه أحيانا؛ فقال سيحدث الله بعد عسرا يسرا، وبعد عي بيانا. اللهم إننا نعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغفلت أقفالها، ولم تتسم بالنجيع أغفالها، ومن معرات الأقدار، والنكول عن الإبكار، ومن النزول عن البطون والسرير، والجوانح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدرر. ولا تجعلنا ممن يستحي من البكر بالغداة، وتلعم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أوجال، وأعملت روية وارتجال.
فمن قائل:
أرفعه طورا على إصبعي ... ورأسه مضطرب أسفله.
كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله.
وقائل:
أيحسدني إبليس دائن أصبحا ... برجلي وراسي دملا وزكاما.
فليتهما كانا به وزايده ... رخاوة أير لا يطيق قياما.
إذا نهضت للنيك أرباب معشر ... توسد إحدى خصيتيه فناما.
وقائل:
أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به خبت من أير وغالتك داهيه.
إذا لم يكن للأير بخت تعذرت ... عليه وجوه النيك من كل ناحية.
وقائل:
تعقف فوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركية ملتف.
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف.
وقائل:
تكرش أيري بعد ما كان أملسا ... وكان غنيا من قواه فأفلسا.
وصار جوابي للمها إن مررن بي ... مضى الوصل الأمنية تبعث الأسى.
وقائل:
بنفسي من حييته فاستخف بي ... ولم يخطر الهجران يوما على بالي.
وقابلني بالبعد والنجه بعدما ... حطت به رحلي وجردت سربالي.
وما أرتجي من مؤثر فوق دكة ... عرضت له شيئا من الحشف البالي.
(1/119)
________________________________________
هموم لا تزال تبكى، وعلل الدهر تشكى؛ وأحاديث تقص وتحكى. فإن كنت أعزك الله من النمط الأول ولم تق: (وهل عند رسم دارس من معول) . فقد جنيت الثمر، واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة؛ واخرج على قومك في ثياب الزينة، واستبشر بالوفود، وعرف المسمع عارفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود؛ واجن رمان النهود من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود. وإن كانت الأخرى فاخف الكمد، وأرض الثمد، وانتظر الأمد؛ واكذب التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهم الرشوة؛ وتقلد المغالطة وارتكب؛ وجيء على قميصه بدم كذب؛ واستنجد الرحمن؛ واستعن على أمرك بالكتمان.

لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء.
فلرحمة المتوجعين حزازة ... في القلب مثل شماتة الأعداء.
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طبق وما همى وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى. واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكنك الفرصة؛ وترفع إليك القصة. ولا تسرع إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن غمام، واللبانات تلين وتجمح؛ والمآرب تدنو وتنزح وتحزن ثم تسمح. وكم من شجاع خام، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق؛ والله عز وجل يجعلها خلة موصولة وشملا أكنافه بالخير مشمولة، وبينة أركانها بركائب اليمن مأهولة، حتى تكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه؛ وتضفو عليه نعم باريه؛ ما طورد قنيص واقتحم عيص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص والسلام.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله:
أشبعت نفسك من ذمي فهاضك ما ... تلقى وأكثر موت الناس بالتخم.
فقوله: (أكثر موت الناس بالتخم) كناية يهزؤون بها على من يفرط في المآكل اللذيذة ويخص بها نفسه.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلس قوله:
قل للصباح إذا ما لاح نورهم ... إن كان عندك هذا النور فابتسم.
قال ابن حجة: لم أر في هذا البيت هزلا يراد به الجد.
قلت: ومثل هذا ما أنشده رفيقه له في شرح بديعيته المذكورة، وادعى فيه أنه من هذا النوع: تزعم يا بدر مساوتها=ولست أبدي لك تفنيدا.

إن كان ما تزعم عارض لنا ... مقلتها واحك لنا الجيدا.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
هزل أريد به جد عتابك لي ... كما كتمت بياض الشيب بالكتم.
هذا أيضاً لا يظهر فيه شاهد البيت المذكور.

وبيت ابن حجة في بديعيته قوله:
والبين هازلني بالجد حين أرى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم.
أقول: الهزل في هذا البيت ظاهر، ولكن لا حقيقة له، وقد علمت أنه لا بد فيه من الجد؛ وإلا لم يكن من هذا النوع أصلا.
وبيت بديعية الطبري قوله:
أكثرت هزلك جدا لي فحسبك لا ... تكن كهيلة ذات العار في الغنم.
قال في القاموس: هيلة عنزة لامرأة؛ كان من أساء إليها درت له؛ ومن أحسن إليها نطحته؛ ومنه المثل: هيل خير حالبيك تنطحين.
وبيت بديعيتي قولي:
هازلت بالجد عزالي فقلت لهم ... أكثرتم العذل فاخشوا كظة البشم.
الهزل في هذا البيت على حده في بيت الصفي، فإن الكظة بالكسر شيء يعتري من امتلاء الطعام؛ والبشم، هو التخمة، والمراد هنا الجد؛ لأن المقصود منعهم عن كثرة العذل.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
ما أنت يا عاذلي والحب تنكره ... فخص بنا في حدود القول والكلم.
قال ناظمه في شرحه: يقول: ما أنت من رجال الحب، غنما أنت ممن يعرف حدود القول والكلم، فخض بنا فيما أنت من أهله، ودع الحب فله رجال لست منهم. انتهى.
قلت: لم يظهر لي من البيت ولا من شرحه شاهد النوع؛ فإنه لم يزد على أن جعل عاذله عارفا بالعربية، جاهلا بالحب؛ فتأمله.
وبيت بديعية العلوي قوله:
أخاف لومك إن شاهدت نورهم ... يجني عليك فإن السم في الدسم.
قال ناظمه: الشاهد في قولنا: إن السم في الدسم؛ وهي كلمة تخرج مخرج الهزل وهو جد؛ لأن أكثر ما يكون السم في الدسم. انتهى.
قلت قد تقدم أن السم في الدسم من الأمثال؛ وليست من الهزل في شيء؛ على أن إيراده هنا لا معنى له؛ بل هو موهم لذم أحبابه؛ والله أعلم.

التهكم.
تهكما قلت للواشين لي بهم ... لقد هديتم لفصل القول الحكم.
(1/120)
________________________________________
قال في القاموس: التهكم: التهدم في البئر ونحوها، والاستهزاء، والطعن المتدارك، والتبختر، والغضب الشديد؛ والتندم على الأمر الفائت والمطر الكثير الذي لا يطاق، والتغني. انتهى.
والمقصود هنا: المعنى الثاني وهو الاستهزاء، وفي كونه منقولا من التهدم- ما قال بعضهم- أو الغضب- كما قال آخرون- نظر، لأنه قد ورد التهكم بمعنى الاستهزاء في اللغة، فأي داع إلى كونه منقولا من معنى أخر؟ نعم في الاصطلاح أخص منه في اللغة، لأنه في اللغة بمعنى الاستهزاء مطلقا، وفي الاصطلاح هو الخطاب بلفظ الإجلال في موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير؛ والوعد في مكان الوعيد، والعذر في موضع اللوم؛ والمدح في معرض السخرية، ونحو ذلك.
فمن الخطاب بلفظ الإجلال في موضع التحقير، قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) ومن البشارة في موضع التحذير، قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) وقوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) ومن الوعد في موضع الوعيد، قوله تعالى: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) وهذا ضد الإغاثة.
ومن العذر في موضع اللوم، قول ابن أبي الحديد:
عذرتكما إن الحمام لمبغض ... وان حياة النفس للنفس محبوب.
ومن أمثلة هذا النوع في الشعر، قول ابن الرومي:
فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل.
وقول أبي بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة:
أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من نصائحه اللطيفه.
تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه.
وقول جاسوس الملك في الوزير أبي القاسم الجرجاني، وكان أقطع اليدين من المرافق:
وأقمت نفسك في الثقاة ... وهبك فيما قلت صادق.
فمن الأمانة والتقى ... قطعت يداك من المرافق.
وقول بعضهم:
بجيش يناطح زهر النجو ... م إذا ما طلعت به أسفلا.
وقول المتنبي في كافور: من علم الأسود المخصى مكرمة=أقومه البيض أم آباؤه الصيد.
وقول ابن الذروي في ابن أبي حصينة وكان أحدب، وهو من شاهد المدح في معرض السخرية:
يا أخي كيف غيرتنا الليالي ... وأحالت ما بيننا بالمحال.
حاش الله أن أصافي خليلا ... فيراني في وده ذا اختلال.
زعموا أنني نظمت هجاء ... معربا فيك عن شيع القتال.
كذبوا إنما وصفت الذي حز ... ت من فضلها والبها والكمال.
لا تظنن حدبة الظهر عيبا ... وهي في الحسن من صفات الهلال.
وكذاك القسي محدودبات ... وهي أنكى من الظبى والعوالي.
وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي الجمال.
وأرى الانحناء في مخلب البازي ولم يعد مخلب الرئبال.
كون الله حدبة إن شئ ... ت من الفضل أو من الأفضال.
فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر رمال.
ما رأتها النساء إلا تمنت ... أنها حلية لكل الرجال.
وأبو الغصن أنت لا شك فيه ... وهو رب القوام ذو الاعتدال.
عد إلى ودنا القديم ولا ... تضع لقيل من الوشاة وقال.
وتذكر لياليا حين ولت ... أودعت حسنها عقود اللآلي.
أترى بالرجال يجمع شملي ... أم رجائي مخيب وابتهالي.
وإذا لم يكن من الهجر بد ... فعسى أن تزورنا في الخيال.
ولأبي الفتح ابن دانيال قصيدة في رجل أحدب على هذا النمط، وأنا أفضلها على هذه القصيدة وأرى الاستشهاد بها أقعد من تلك في هذا النوع وهي:
قسما بحسن قوامك الفتان ... يا أوحد الأمراء في الحدبان.
أنت الحسام زها برونق حدبة ... فزها على الخطية المران.
يا مخجلا شكل الهلال يقده ... حاشاك أن تعزى إلى نقصان.
وممايلاً قد القضيب إذا مشى ... من حدبتيه يميس كالريان.
ما عاب قامتك الحسود جهالة ... إلا أجبت مقاله ببيان.
هل يحسن الجو كان إلا أن يرى ... مع أكره في حلبة الميدان.
أو هل يزين المتن إلا ردفه ... حسنا فكيف بمن له ردفان.
والعود أحدب وهو ألهى مطرب ... والقد سمعت بنغمة العيدان.
وكذا سفين البحر لولا حدبة ... في ظهره لم يقو للطوفان.
(1/121)
________________________________________
وإذا اكتسى الإنسان قيل تمثلا ... في المدح قامت حدبة الإنسان.
يفديك في الحدبان كل مكوبج ... يمشي الهوينا مشية السرطان.
متجمع الكتفين اقنص قد بدا ... في هيبة المتشجع الصفعان.
وإذ قد ذكرنا هاتين القصيدتين في صفة الأحدب، فلنذكر ما حضرنا في معنى ذلك وإن كان خارجا من النوع، ليقترن بما قبله، وينضم إلى ما في معناه، فإنما هذا الكتاب مجموع أدب، ولابد فيه من الاستطراد، فنقول: أين هذه الصفات المذكورة.
من قول ابن عنين في القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني وكان أحدب:
حاشى لعبد الرحيم سيدنا ال ... قاضي مما يقوله السفل.
يكذب من قال أن حدبته ... في ظهره من عبيده حبل.
ومن بدائع ابن خفاجة الأندلسي في ساق أسود أحدب:
وكاس أنس قد جلتها المنى ... فباتت النفس بها معرسه.
طاف بها أسود محدودب ... يطرب من يلهو به مجلسه.
فخلته من سبج ربوة ... قد أنبت من ذهب نرجسه.
ولعبد الله بن الطباخ في أحدب:
قصرت أخادعه وغاض قذاله ... فكأنه متوقع أن يصفعا.
وكأنه قد ذاق صفعا مرة ... وأحس ثانية بها فتجمعا.
ويحكى أن الأسعد بن مماتي دخل على القاضي الفاضل يوما، فوجد غلى جانبه أترجة غريبة الشكل، فجعل يرمقها بطرفه، فقال له القاضي: أراك تطيل النظر إليها، قال: أتعجب من شكلها، وبديع خلقها. فقال القاضي: وأيضا لها نسبة بنا، فقال: سبحان الله، وخجل، ثم قال: إنما أطلت النظر إليها لأني نظمت فيها بيتين، قال: وما هما؟ فأنشد:
لله بل للحسن أترجة ... قد أذكرتنا بجنان النعيم.
كأنها قد جمعت نفسها ... من هيبة الفاضل عبد الرحيم.
فأعجبه ذلك وزال ما كان عنده، ثم خرج الأسعد فذكر القصة لبعض إخوانه الظرفاء فقال: أحمد الله للذي أنشدتهما من لفظك، ولم تكتبهما إليه، فإنه ربما صحف لفظة (هيبة) بهيئة بالهمز فازداد حنقا.
رجع- ولم أسمع في نوع التهكم أظرف من قول أبي نواس يتهكم على نفسه، وقد أظهر التوبة والإقلاع عن المعاصي على يد الفضل بن الربيع:
أنت يا ابن الربيع علمتني الخي ... ر وعودتنيه والخير عاده.
فارعوى باطلي وراجعني الحل ... م وأحدثت توبة وزهاده.
من خشوع أزينه بنحول ... واصفرار مثل اصفرار الجراده.
التسابيح في ذراعي والمصح ... ف في لبتي مكان القلاده.
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... وتأمل بعينيك السجادة.
تر أثرا من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنه من عبادة.
لو رآها بعض المرائين يوما ... لاشتراها يعدها للشهادة.
ولقد طالما أبيت ولكن ... أدركتني على يديك السعادة.
ومن الحكايات اللطيفة في هذا النوع، أن أبا دلامة دخل على المهدي وسلمة الوصيف واقف بين يديه، فقال أبو دلامة: قد أهديت لك يا أمير المؤمنين مهرا ليس لأحد مثله، فإن رأيت أن تشرفني بقبوله، فأمر بإدخاله إليه؛ فخرج وأدخل فرسه الذي كان تحته، فإذا هو برذون محطم أعجف هرم.
فقال له المهدي: أي شيء ويلك هذا؟ ألم تزعم أنه مهر؟ فقال: أوليس هذا سلمة الوصيف بين يديك، فإنما تسميه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو يعد عندك وصيفا؟ فإن كان سلمة وصيفا فهذا مهر، فجعل سلمة يشتمه، والمهدي يضحك، ثم قال سلمة: ويحك إن لهذه منه أخوات، وإن أتى بمثلها في محفل؛ فضحك؛ فقال أبو دلامة: أي والله يا أمير المؤمنين؛ لأفضحنه، فليس أحد في مواليك إلا وصلني غيره، فإني ما شربت له الماء قط. ثم إن المهدي أصلح بينهما. وهذا من التهكم الذي يعد من النوادر.

تنبيهان الأول- قال ابن حجة: هذا النوع أعني التهكم؛ ذكر ابن أبي الإصبع في كتابه التحرير: إنه من مخترعاته، ولم يره في كتب من تقدمه من أئمة البديع والعميان لم ينظموه في بديعيتهم وقنع الشهاب محمود (في كتابه المسمى بحسن التوسل) من أشجار معاليه بالشميم، فإنه ذكر بعض شواهده، ولم يأت له بحمد تمشي الإفهام فيه إلى صراط مستقيم، لكن ابن أبي الإصبع أزال بكارة أشكاله فكان أبا عذرته، وأرضع الأذواق لبانة فهمه، فكان فارس حلبته. انتهى.
(1/122)
________________________________________
أقول: قول أبي الإصبع: إن هذا النوع من مخترعاته، إن أراد أول من عده من أنواع البديع وذكره في كتابه فمسلم، وإن أراد أنه أول من اخترعه وسماه بهذا الاسم فليس بصحيح، فإن كتب المتقدمين في علم البيان لا يكاد يخلو كتاب منها من هذا النوع، لكنهم يذكرونه في بحث الاستعارة عند ذكر الاستعارة التهكمية، وهذا جار الله الزمخشري، أقدم من ابن الإصبع بمائة سنت، نص على هذا النوع باسمه في كشافه، فقال في تأويل قوله تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" تهكم، فإن المعقباب هم الحرس من حول السلطان، يحفظونه بزعمه من أمر الله، على سبيل التهكم فإنهم لا يحفظونه إذا جاء، والله أعلم. ولا أظن أن ابن الإصبع أراد بقوله أنه من مخترعاته إلا ما ذكرناه أولا، فإن مثله لا يخفى عليه هذا المقدار وإنما نبهنا على ذلك لئلا يتوهم من كلامه أنه من مخترعاته بالمعنى الثاني والله أعلم. وقول ابن أبي حجة: فكان أبا عذرته، فيه غلط لفظي، فإن العذرة إذا أضيفت حذفت تاؤها إجماعا، فيقال: أبو عذرها، كما يقال: ليت شعري، وأقام الصلاة.
قال بعضهم:
ثلاثة تحذف تاءآتها ... مضافة عند جميع النحاة.
منها إذا قيل أبو عذرها ... وليت شعري وأقام الصلاة.
ولا يحتمل أن يكون الغلط من الناسخ، لأن السجعة في القرينة الثانية وهي قوله: فارس حلبته، ينتفي معها هذا الاحتمال.
الثاني-الفرق بين هذا النوع، وبين النوع الذي قبله، هو الهزل الذي يراد به الجد، إن هذا ظاهره جد، وباطنه هزل، وذاك بالعكس. والفرق بينه وبين الهجاء في معرض المدح، فإن ظاهره لا يدل إلا على المدح، حتى يقترن به ما يفهم أن المقصود الهجو، وهذا الفرق أحسن من غيره، فإنه أوفى بالمراد.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
محضت لي النصح إحسانا إلي بلا ... غش وقلدتني الأنعام فاحتكم.
قال ابن حجة: لم يظهر لي من هذا البيت غير صريح المدح والشكر، ولم أجد فيه لفظة تدل على الحقارة والاستهزاء، ولا على الوعد في موضع الوعيد، ولم يشر في بيته إلى نوع من هذه الأنواع. انتهى.
أقول: قد عدوا من التهكم قوله تعالى- حكاية عن قوم شعيب مخاطبين له- "إنك لأنت الحليم الرشيد" وظاهره أنه ليس في هذا لفظة تدل على الحقارة، وإنما أفهم التهكم المقام، وكذا بيت الصفي الحلي؛ فإنه خطاب للعاذل؛ والعاشق لا يخاطب عاذله بمثل هذه الألفاظ إلا متهكما مستهزئا به فاعلم.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
لقد تهكمت فيما قد منحتك من ... قولي بأنك ذو عز وذو كرم.
وابن جابر الأندلسي لم ينظم هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم.
قال ناظمه في شرحه: فخاطب العذول هنا بلفظ العز والشمم، بعد قولنا: ذل؛ ووقوف العاذل في موقف المذلة؛ هو التهكم بعينه. انتهى.
أقول: لا يخفى أن التهكم إنما هو الكلام الذي يواجه به المتهكم عليه ويخاطب، والكلام الذي تهكم به ابن حجة على عاذله، وخاطبه به هو قوله: (أنت ذو عز ذو شمم) فقط، وأما سائر البيت، فحكاية حال، وإخبار بأنه إنما خاطبه بذلك حال ذله؛ وليس البيت كله خطابا للعاذل، فالسامع له حال مخاطبته لعاذله: بأنك ذو عز وذو شمم، لا يظهر له غير صريح المدح لكنه يفهم من المقال أن هذا استهزاء به، وليس في اللفظ ما يشير إلى انه تهكم. فقد وقع فيما انتقد به على الصفي بعينه، فتأمله فإنه نقد دقيق.
وبيت الطبري تقدم إنشاده في نوع الإبهام، فإنه جمع بينه وبين التهكم في بيت واحد، على أنه أخذ مصراع التهكم من بيت ابن حجة فقال:
أذقت إبهام ما يرضي الفؤاد فسد ... تهكما أنت ذو عز وذو عظم.
وبيت بديعيتي قولي:
تهكما قلت للواشين لي بهم ... لقد هديتم لفصل القول والحكم.
فخاطب الواشين هو عين التهكم.
وبيت بديعية شرف الدين إسماعيل المقري قوله:
بالغت في النصح لا شك يداك فزد ... فكلما زدت نصحا زدت في التهم.
القول بالموجب.
قالوا وقد زخرفوا قولا بموجبه ... فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم.
(1/123)
________________________________________
هذا نوع من البيع غريب المعنى؛ لطيف المبنى؛ راجح الوزن في معيار البلاغة، مفرغ الحسن في قالب الصياغة، وهو الأسلوب الحكيم رضيعا لبان، فرسا رهان؛ حتى زعم بعضهم أن أحدهما عين الأخر، وليس كذلك، بل بينهما فرق كما سنبينه فيما بعد، مع مشيئة الله تعالى.
ولهم في تعريف هذا النوع عبارات مختلفة، فقال ابن أبي الأصبع: انه عبارة أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام أخر، فيعمد المخاطب إلى كلمة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظها ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب، لأن حقيقته، رد الخصم كلام خصمه من فحوى كلامه. وقال بعضهم: هو أن تخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم، أ, تقول بالصفة الموجبة للحكم، ولكت تثبتها لغير من أثبتها المتكلم. انتهى.
قال في عروس الأفراح: وهو قريب من القول بالموجب المذكور في الأصول والجدل، وهو تسليم الليل مع بقاء النزاع. انتهى.
وقسمه الخطيب في التلخيص؛ والإيضاح؛ إلى ضربين؛ أحدهما- أن تقع صفة في كلام الغير؛ كناية عن شيء أثبت له الحكم؛ فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء؛ من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم له وانتفائه عنه، كقوله: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن إلا عز منها إلا ذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) . فأنهم كنوا بالأعز عن فريقهم، وبالإذل عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز الإخراج، فأثبت الله سبحانه وتعالى في الرد عليهم صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ من غير تعرض لثبوت الإخراج للموصوفين بصفة العزة؛ ولا لنفيه عنهم.
والثاني- حمل كلام وقع في كلام الغير على خلاف مراده؛ مما يتحمله بذكر متعلقه.
كقوله:
قد ثقلت إذا أتيت مرارا ... قال ثقلت كاهلي بالأيادي.
قلت طولت قال لا بل تطول ... ت وأبرمت قلت حبل ودادي.
والاستشهاد بقوله: (ثقلت) و (أبرمت) دون قوله: (طولت) .
ومنه قول القاضي الأرجاني:
غالطتني إذا كست جسمي الضنا ... كسوة أعرت من اللحم العظاما.
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما.
انتهى كلام الخطيب في الإيضاح.
قال الحافظ السيوطي: ولم أرى من أورد لهذا الضرب مثالا من القرآن وقد ظفرت بآية منه، وهي قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل إذن خير لكم) . انتهى.
وسبقه إلى ذلك الطيبي في التبيان، فقال بعد تلاوة الآية: كأنه قيل نعم، هو أذن ولكن نعم الأذن، أي هو أذن ما قلتم، إلا أنه أذن خير لا أذن سوء؛ فسلم لهم قولهم فيهم؛ إلا أنه فسره بما هو مدح له، وإن كان قصدوا به المذمة، ولا شيء أبلغ في الرد من هذا الأسلوب، لأن فيه إطماعا في الموافقة، وكرا إلى إجابتهم في الإبطال، وهو كالقول في بالموجب في الأصول. انتهى.
والأذن: الرجل الذي يصدق كل ما سمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كأن جملته أذن سامعة.
قلت: وهذا الضرب الثاني من هذا النوع، هو الذي نظمه أرباب البديعيات وتداوله أهل الأدب؛ وحذاق البديع أخلوا هذا النوع من لفظه (لكن) وخصوا بها نوع الاستدراك، ليحصل الفرق بينهما.
ومن عجيب هذا النوع؛ ما حكاه الشريف المرتضى علم الهدى في الغرر والدرر، قال: روي أنه لما نزل خالد بن الوليد على الحيرة، وتحن منه أهلها، أرسل إليهم أن بعثوا إلي رجلا من عقلائهم، وذوي أنسابكم، فبعثوا إليه عبد المسيح بن بقيلة، فأقبل يمشي حتى دنا من خالد بن الوليد، فقال: أنعم صباحا أيها الملك، قال: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، فمن أين أقصي أثرك أيها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي، فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل لا عقلت، قال: أي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، إني أسأله عن الشيء وينحو في غيره، قال: ما أنبائك إلا عما سألت فسل عما بدا لك.
(1/124)
________________________________________
هذا موضع الشاهد من الخبر، إن خالد بن الوليد قال له: أرب أنتم أم نبيط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبيط استعربنا، قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم، قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها لسفيه نحذر منه، حتى يجيء الحليم ينهاه، قال: كم أتى لك؟ قال: خمسون وثلثمائة سنة، قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرآة من أهل الحيرى تضع مكلتها على رأسها، ولا تزود إلا رغيفا واحدا حتى تأتي الشام، ثم قال أصبحت اليوم خرابا، وذلك دأب الله في العباد والبلاد. قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه، قال له خالد: ما هذا في كفك؟ قال: هذا السم، قال: وما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن كانت الأخرى، لم أكن أول من ساق إليهم ذلا، أشربه وأستريح من الحياة، فإن ما بقي من عمري إلا اليسير، قال خالد: هاته، فأخذه وقال: بسم الله وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء، ثم أكله، فتجللته غشية، ثم ضرب بذقنه في صدره طويلا، ثم عرق وأفاق كأنما نشط من عقال. فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، صانعوا القوم، وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع لهم. فصالحوهم على مائة ألف درهم. انتهى.
ونحو ذلك ما حكي أن رجلا قال لهشام القرطبي: كم تعد؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، لم أرد هذا، كم تعد من السن؟ قال: اثنين وثلاثين، ستة عشر من أعلى، وستة عشر من أسفل، قال: لم أرد هذا كم لك من السنين؟ قال: عظم، قال: أبن لي ابن كم أنت؟ قال: قال: ابن اثنين رجل وامرأة، قال: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء قتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: تقول: كم مضى من عمرك.
ومن هذا النمط، ما حكي: أن المتوكل كان مشرفا من قصره الجعفري فتعرض له أبو العبر؛ وقميصه سراويل، فقال المتوكل: علي بهذا المثلة، فلما مثل بين يديه، قال له أنت شارب؟ قال: لا، بل عنفقة يا أمير المؤمنين، قال: إني واضع في رجلك الأدهم، ونافيك إلى فارس، قال: اجعل في رجلي الأشهب، وانفني إلى راجل؛ قال: أتراني قي قتلك مأثوم؟ قال: لا، بل ماء بصل يا أمير المؤمنين، فضحك منه ووصله.
ولأبي العبر هذا ترجمة في الأغاني، واسمه محمد، من ولد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كان شاعرا متوسطا، يميل إلى الهزل والحماقة، وكان يتباله ويتحامق عمدا، فنفق على الناس، وحصل مالاً عظيماً.
ومن شعره في الجد:
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متهم.
وإذا ما الدهر ضعضعني ... لم يجدني كافر النعم.
قنعت نفسي بما رزقت ... وتناهت في العلى هممي.
ليس لي مال سوى كرمي ... فيه لي أمن من العدم.
قال أبو العيناء: أنشدت أبا العبر قول المأمون:
ما الحب إلا قبلة ... وغمز كف وعضد.
أو كتب فيها رقى ... أنفذ من نفث العقد.
ما الحب إلا هكذا ... إن نكح الحب فسد.
فقال لي كذب المأمون، وأكل من الخرا رطلين بالميزان، ألا قال كما قلت:
وباض الحب في قلبي ... فيا ويلي إذا فرخ.
وما ينفعني حبي ... إذا لم أكنس البربخ.
وإن لم يطرح الأصل ... ع خرجيه على المطبخ.
ثم قال لي: كيف رأيت؟ قلت عجبا من العجب، فقال: ظننت أنك تقول: غير هذا؛ فأبل يدي ثم ارفعها. ثم سكت؛ فبادرت وانصرفت.
وكان يجلس في بيته وتجتمع عنده المجان؛ فيملي عليهم أشعاره ويحدثهم؛ فمن ضحك أمر أن يحبس في الكنيف؛ ولا يخرج حتى يغرم درهمين، ونوادره كثيرة.
رجع- ومن شواهد هذا النوع في النظم قول ابن نباتة:
وملولة في الحب لما أن رأت ... أثر السقام بعظمي المنهاض.
قالت تغيرنا فقلت لها نعم ... أنا بالسقام وأنت بالأعراض.
ولعله من قول الوراق:
قال صديقي ولم يعدني ... وعامل السقم في أثر.
لقد تغيرت يا صديقي ... ويعلم الله من تغير.
وبديع قول أبي المحاسن الشواء في هذا النوع:
ولما أتاني العاذلون ... عدمتهم

وما فيهم إلا للحمي قارض.
قد بهتوا لما رأوني شاحبا ... قالوا به عين فقلت وعارض.
ومنه أخذ ابن النقيب قوله:
وما بي سوى عين نظرت لحسنه ... وذاك لجهلي بالعيون وغرتي.
(1/125)
________________________________________
وقالوا به في الحب عين ونظرة ... لقد صدقوا عين ****** ونظرتي.
وأصله من قول الأول:
وجاءوا إليه بالتعاويذ والرقى ... وصبوا عليه الماء من ألم النكس.
وقالوا به من أعين الجن نظرة ... ولو صدقوا قالوا به نظرة الإنس.
ولمؤلفه عفا الله عنه:
وقالوا به صفراء يرجى زوالها ... لقد صدقوا صفراء من خرد الحبش.
تفوق ضياء البدران في الدجى ... وتزري بضوء الصبح أن تبد في الغش.
وما أبدع قول ابن نباتة:
وتاركة بالحزن قلبي مقيدا ... ودمعي على الخدين وهو طليق.
يقولون قد أخلقت جفنك بالبكا ... نعم إن جفني بالبكاء خليق.
وقول السيد عز الدين المرتضى:
وقالوا سقيم أي ورب محمد ... ورب علي إنني لسقيم.
سقيم جفاه الأقربون فقلبه ... به من ندوب الحادثات كلوم.
وقالوا لها هلا ... وأنت كريمة

وصلت الفتى العذري وهو كريم.
ومالك قد أصبحت لا ترحمينه ... وقلبك فيما يزعمون رحيم.
فقالت لهم حي سليم من الهوى ... بلى إنني من حية لسليم.
وقول الشهاب محمود:
رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا.
فقالت بعيني هذا السقام ... فقلت صدقت وبالخصر أيضاً.
ولأبي عامر الجرجاني:
عذيري من شاطر أغضبوه ... فجرد لي مرهفا فاتكا.
فقال أنا لك يا ابن الحسين ... وهل لي رجاء سوى ذلكا.
ولبعضهم:
قلت للأهيف الذي فضح الغص ... ن كلام الوشاة ما ينبغي لك.
قال قول الوشاة عندي ريح ... قلت أخشى يا غصن أن يستميلك.
وللسراج الوراق:
متمارض جعل التغاشي ... من جنايته سبب.
ويقول ما أنا طيب ... صدق الخبيث وما كذب.
وله:
لقنته العذر عن تر ... ك حاجتي لو تصور.
فقلت أنسيتها والن ... سيان أمر مقدر.
فقال لست بناسٍ ... فقلت مولاي أخبر.
وله:
وقائل قال لي لما رأى تلفني ... لطول وعد وآمال تمنيا.
عواقب الصبر فيما قال أكثرهم ... محمودة قلت أخشى أن تحزينا.
ولشمس الدين محمد التلمساني في شاب اسمه علي يعمل الكوافي:
اسم حبيبي وما يعاني ... قد شغلا خاطري ولبي.
قالوا علي فقلت قدرا ... قالوا كوافي فقلت قلبي.
وللشيخ صلاح الدين الصفدي:
لقد أتيت لصاحبي وسألته ... في قرض دينار لأمر كان.
فأجابني والله داري ما حوت ... عينا فقلت له ولا إنسانا.
وله أيضاً:
وصاحب لما أتاه الغنى ... تاه ونفس المرء طماحه.
وقل هل أبصرت منه يدا ... تشكرها قلت ولا راحه.
وله أيضاً:
صدق قلبي نسمات الصبا ... فيما روت عنكم وما شكا.
وقال لا أخبر منها بما ... جاءت به قلت ولا أذكى.
وله أيضاً:
بدا في الخد عارضه فأضحى ... عليه معنفي باللوم يغري.
وحاول أن يرى مني سلوى ... فقال لقد تعذر قلت صبري.
وللسراج الوراق:
شكا رمدا فقيل الآن كلت ... لواحظه من الفتكات فيينا.
وقالوا سيف مقلته تصدى ... فقلت نعم لقتل العاشقينا.
ولنكتف منه بهذا القدر ففيه للطالب كفاية.
تنبيه: هذا النوع أعني القول بالموجب يشترك هو والأسلوب الحكيم في كون كل منهما من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، ويفترقان باعتبار الغاية، فإن القول بالموجب غايته رد كلام المتكلم وعكس معناه، والأسلوب الحكيم هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له.
أما الأول فكقول القبعثري الخارجي للحجاج لما قال له متوعدا بالقيد: لأحملنك على الأدهم، فقال: مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب. فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد، وأراه بألطف وجه أن امرأ مثله في مسند الإمرة المطاعة وبسطة اليد خليق بأن يصفد لا أن يصفد، وأن يعد لا أن يوعد، وكذا قوله ثانيا: ويلك إنه حديد: لن يكون حديديا خير من أن يكون بليدا. وعن سلوك هذه الطريقة في جواب المخاطب عبر من قال مفتخرا:
(1/126)
________________________________________
أتت تشتكي عند مزاولة القرى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي.
فقلت كأني ما سمعت كلامها ... هم الضيف جدي في قراهم وعجلي.
وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة.
وأما الثاني فكقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) لما قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يستوي ويمتلي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا؟ فأجيبوا بما ترى تنبيها على أن الذي ينفعكم وه أهم بحالكم أن تعلموا منها أوقات الطاعات. وكقوله تعالى: (يسألونك ماذا تنفقون قل أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصارف، تنبيها على أن المهم السؤال عنها، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها، وكل ما فيه خير فهو صالح للإنفاق، فذكر هذا على سبيل التضمن دون القصد. ومثال ذلك أيضاً قول الطبيب الرفيق لمن غلب عليه السوداء إذا طلب الجبن: عليك بمائه، وعليه سؤال الأهلة، ولمن قهرنه الصفراء إذا اشتهى العسل: كله مع الخل، وإليه ينظر سؤال النفقة. وإذا أنت تأملت مواقع هذا النوع أعني الأسلوب الحكيم ظهر لك كمال الفرق بينه وبين القول بالموجب أتم ظهور، وجزمت بخطأ من جعلهما واحدا كابن حجة، فاعلم ذلك والله أعلم.
وبيت بديعية الصفي في نوع القول بالموجب قوله:
قالوا سلوت لبعد الإلف قلت لهم ... سلوت عن صحتي والبرء من سقمي.
قال في شرحه: الشاهد فيه عكس معنى المتكلم من فحوى لفظة سلوت.
ووجدت له أبياتا في ديوانه من هذا النوع وهي:
قالت كحلت الجفون بالوسن ... قلت ارتقابا لطيفك الحسن.
قالت تسليت بعد فرقتنا ... فقلت عن مسكني وعن سكني.
قالت تشاغلت عن محبتنا ... قلت بفرط البكاء والحزن.
قالت تخليت قلت عن جلدي ... قالت تغيرت قلت في بدني.
قالت تخصصت دون صحبتنا ... فقلت بالغبن منك والغبن.
وبيت بديعية ابن جابر أورده بحرف الاستدراك فقال:
كانوا غيوثا لكن للعفات كما ... كانوا ليوثا ولكن في عداتهم.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
قالوا مدام الهوى قولا بموجبه ... تسل قلت شبابي من يد الهرم.
أراد المتكلم بقوله: تسل، إنها تحدث داء السل، فعاكسه المخاطب بسل الشباب من يد الهرم. وهي أحسن من (سلوت) في بيت الحلي غير أن قوله (مدام الهوى قولا بموجبه) فيه من العقادة ملا لا يخفى.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قولي له موجب إذا قال أشفقتهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم.
مراد المتكلم من قوله (تسل) أمر بالسلو، فعاكسه بحمله على أنه من الإسلاء بالنار، غير أن الإسلاء بالنار مهموز؛ يقال: سلأ السمن إذا طبخه؛ والسلو واوي؛ لكن مثل هذا يغتفر.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
قالوا سلو الهوى قولا بموجبه ... يبري فقلت عظامي يوم بينهم.
مراد التكلم بقوله (يبري) من البرء وهو الشفاء من المرض؛ فعاكسه بحمله على البري؛ من برى السهم إذا نحته؛ هذا مراده؛ ولكنه غلط واضح فإن يبري من البرء بمعنى الشفاء مضموم الأول؛ لأنه مضارع أبرأه؛ يقال: برء المريض يبرأ، من باب نفع وتعب، وبرؤ؛ من باب قرب لغة هو في كل ذلك لازم؛ فإذا أريد تعديته قيل: وأبرأه الله ببرئه إبراء؛ بهمزة التعدية مثل أكرمه يكرمه، ولم يسمع براه الله إلا بمعنى خلقه، ويبري من برى السهم مفتوح الأول؛ لأنه متعد بنفسه، يقال: برى السهم والقلم بريا، من باب رمى، فلا يصح فيه القول بالموجب ما لا يخفى. (على أنه) عصب سقف بيت العز الموصلي في مصراعه الأول.
وبيت بديعيتي هو:
قالوا وقد زخرفوا قولا بموجبه ... فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم.
زخرف كلامه: حسنه بترقيش الكذب، والهيام بضم أوله: كالجنون من العشق، واللمم: الجنون؛ والشاهد في قوله (فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم) فإن المتكلم أراد به الفهم، فعاكسه المخاطب بحمل قوله (فهمت) بالتورية على أن الفاء ليست من سنخ الكلمة، بل عاطفة على مقدر و (همت) على أنه فعل ماض من الهيام، ولا خفاء فيما ذلك من الدقة واللطافة.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري:
قالوا الأحبة شكوا في هواك نعم ... شكوا بلا شك أحشائي بلحظهم.
(1/127)
________________________________________
لفظة شكوا مشتركة، فهم أرادوا ضد اليقين، وهو حملها على أنهم أرادوا بها طعنوا.

التسليم.
كم ادعوا صدقهم يوما وما صدقوا ... سلمت ذاك فما أرجو بصدقهم.
التسليم- قال بعضهم هو أن يفرض المتكلم حصول أمر قد نفاه، أو فهم استحالته، أو شرط فيه شرطا مستحيلا، ثم يسلم وقوع ذلك بما يدل على عدم فائدته.
وقال الأكثرون: هو أن يفرض المتكلم فرضا محالا منفيا أو مشروطا بحرف الامتناع، ليكون المذكور ممنوع الوقوع لامتناع وقوع شرطه، ثم يسلم وقوعه تسليما جدليا، ويدل على عدم الفائدة لو وقع.
فالأول أعني المحال المنفي كقوله تعالى: (ما تخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) . فإن معنى الكلام ليس مع الله من إله، ولو سلم أن معه سبحانه إلها لزم من ذلك التسليم، ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، وعلو بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر ولا ينفذ حكم ولا تنتظم أحواله. والواقع خلاف ذلك؛ ففرض إلهين فصاعدا محال لمن يلزم منه المحال.
وهذا القسم هو الذي بنى عليه أرباب البديعيات أبياتهم، لكن ما فرضوه محال ادعاء وليس بمحال حقيقة كما ستراه.
والثاني اعني المشروط بحرف الامتناع مثلوا له بقول الطرماح:
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد.
وهو ليس بكامل الشروط إذ ليس فيه التسليم الجدلي، إنما هو مشروط بحرف الامتناع لا غير. وذكر ابن أبي الأصبع: أن التسليم فيه مقدر؛ وتكلف في تقديره.
وقد نظمت له أنا أمثالا مستوفيا لشروط فقلت:
هم كدروا صفو الوداد وأقبلوا ... يرومون من قلبي البقاء على الود.
يقولون لو تصفو صفونا وهبهم ... وفوا لي بما قالوا فماذا الذي يجدي.
ألم يسمعوا قول الوشاة وجاهروا ... على غير ذنب بالقطيعة والصد.
المثال في البيت الثاني فإنه مشروط بحرف الامتناع وفيه التسليم الجدلي والدلالة على عدم الفائدة، على حد ما ذكروه في التعريف.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
سألت في الحب عذالي فما نصحوا ... وهبه كان فما نفعي بنصحهم.
وهذا من قسم المنفي كما سبقت الإشارة إليه.
وسقط هذا النوع من بديعية ابن حجة وشرحها في النسخ التي حضرتني، وبسقوطه تعذر هنا إيراد بيتي بديعيتي الموصلي، وابن جابر فإنني لم أقف عليهما إلا من شرح بديعية ابن حجة، ولعل الله يظفر بهما فيما بعد؛ فيثبتان مع مشيئة الله تعالى.
وبيت بديعية الطبري قوله:
لم يجد لي عذالهم نفعا أسلمه ... وهبه أجدى فماذا لي بنفعهم.
وبيت بديعيتي هو قولي:
كم أدعوا صدقهم يوما وما صدقوا ... سلمت ذاك فما أرجو بصدقهم.
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
لم يلق أذنا على أذني ملامك لي ... وهبه يلقى فلي قلب أصم عمي.
الاقتباس.
قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وقد ... أوروا بجنبي نارا باقتباسهم.
الاقتباس في اللغة: مصدر اقتبس إذا أخذ من معظم النار شيئا، وذلك المأخوذ قبس بالتحريك، وفي الاصطلاح هو تضمين النظم أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه، بأن لا يقال فيه: قال الله أو نحوه، فإن ذلك حين إذا لا يكون اقتباسا.
قال الحافظ السيوطي: وقد اشتهر عن المالكية تحريمه وتشديد النكير على فاعله. وأما أهل مذهبنا- يعني الشافعية- فلم يتعرض له المتقدمون ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم، واستعمال الشعراء له قديما وحديثا، وقد تعرض له جماعة من المتأخرين، فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه، واستدل بما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله في الصلاة وغيرها: وجهت وجهي إلى آخره، وقوله: اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني ديني واغنني من الفقر. وفي سياق كلام أبي بكر: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وفي آخر حديث لابن عمر: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. انتهى.
وهذا كله إنما يدل على جوازه في مقام المواعظ والثناء والدعاء وفي النثر، ولا دلالة فيه على جوازه في الشعر وبينهما فرق.
(1/128)
________________________________________
فإن القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعرمكروه وفي النثر جائز، واستعمله أيضاً في النثر القاضي عياض في مواضع من خطبة الشفاء.
وقال الشرف إسماعيل المقري صاحب مختصر الروضة وغيره في شرح بديعيته: فما كان منه في الخطب والمواعظ ومدحه صلى الله عليه وآله وسلم فهو مقبول وغيره مردود.
وفي شرح بديعية الشيخ صفي الدين الحلي: الاقتباس ثلاثة أقسام محمود مقبول، ومباح مبذول، ومردود مرذول.
فالأول-ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي وآله عليهم السلام ونحو ذلك.
والثاني-ما كان في الغزل والصفات والقصص والرسائل ونحوها.
والثالث- على ضربين: أحدهما ما نسبه الله تعالى إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية من عماله: "إن إلينا إيابهم ثن إن علينا حسابهم" والآخر تضمين آية كريمة في معرض هزل أو سخف، ونعوذ بالله من ذلك، كقول أحد العصرين:
قالت وقد أعرضت عن غشيانها ... يا جاهلا في حمقه يتناهى.
إن كان لا يرضيك قبلي قبلة ... لأولينك قبلة ترضاها.
انتهى. قال السيوطي: وهذا التقسيم حسن جدا وبه أقول.
وقال الشيخ بهاء الدين السبكي في عروس الأفراح: الورع اجتناب ذلك كله، وأن ينزه عن مثله كلام الله ورسوله، لاسيما إذ أخذ شيء من القرآن وجعل بيتا مصرعا، فإن ذلك ما لا يناسب المتقين، كقوله:
كتب المحبوب سطرا ... في كتاب الله موزون.
لن تنالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون.
وبقي هنا فوائد: الأولى- الصحيح أن المقتبس ليس بقرآن حقيقة بل كلام يماثله، بدليل جواز النقل عن معناه الأصلي، وتغيير يسير كما سيأتي. وذلك في القرآن كفر، وهذا سر قول أصحابنا: لو قرأ الجنب الفاتحة على قصد الثناء جاز، قاله السيرافي. وقال في العروس: المراد بتضمين شيء من القرآن في الاقتباس، أن يذكر كلام وجد نظمه في القرآن؛ أو السنة، مرادا به غير القرآن، فلو أخذ به القرآن كان ذلك من أقبح القبائح، ومن عظائم المعاصي نعوذ بالله منه.
الثانية- الاقتباس على ضربين: ضرب لا ينقل المقتبس فيه عن معناه الأصلي، كقول بعض العصرين- وقد طلب من بعض أصحابه الذين بمكة حبا فاعتذر منه-: -
طلبنا منكم حبا ... أجبتم فيه بالمنع.
عذرناكم لأنكم ... بواد غير ذي زرع.
فإن المراد به مكة المشرفة، وكذلك هو في الآية الشريفة. وضرب ينقل عن معناه الأصلي بناء على أنه ليس بقرآن حقيقة كما مر.
وكقول ابن الرومي:
لئن أخطأت في مدحك ... ما أخطأت في منعي.
لقد أنزلت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع.
فإنه كنى به عن الرجل الذي لا نفع لديه، والمراد به في الآية الشريفة مكة شرفها الله تعالى كما تقدم.
الثالثة-جوزوا تغير لفظ المقتبس بزيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير؛ أو إبدال الظاهر من المضمر، أو نحو ذلك بناء على ما هو الصحيح من أن المراد به غير القرآن كما تقدم.
ومثاله قول أبي تمام في مطلع قصيدة يرثي ابنا له، فيما رواه أبو بكر الصولي عن أبى سليمان النابلسي:
كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا.
أمسى المرجى أبو علي ... موسدا في الثرى يمينا.
حين استوى وانتهى شبابا ... وحقق الرأي والظنونا.
كنت عزيزا به كثيرا ... وكنت صبا به ضنينا.
دافعت إلا المنون عنه ... والمرء لا يدفع المنونا.
وهي قصيدة طويلة، فقوله: إنا إلى الله راجعونا؛ اقتباس لكنه زاد الألف في راجعون على جهة الإشباع، وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله: إنا لله وإن إليه؛ ومراده آية الاسترجاع وهي قوله: "إنا لله وإن إليه راجعون".
قال في عروس الأفراح: وفي تسمية هذا البيت اقتباسا نظر، لأن في هذا اللفظ ليس في الأصل من القرآن. وتعقبه ابن جماعة بأنه اقتباس بالنظر إلى الأصل الذي هذا مغايره، فهو بالنظر إلى هذا، وما المانع من ملاحظة مثل هذا في التسمية. انتهى.
(1/129)
________________________________________
وهذا البيت لم يعرف أحد من أهل البديع الذين استشهدوا به قائله، فعزاه بعضهم إلى بعض الشعراء وعزاه الخطيب في الإيضاح، والتفتازاني في المطول إلى بعض المغاربة، وقال: إنه قاله عند وفاة بعض أصحابه، وليس كذلك. وإنما قال صاحب قلائد العقيان في ترجمة الرئيس أبي عبد الرحمن ابن طاهر: أنه شهد وفاته، وحين قضى دخل عليه الوزير أبو العلاء بن أزرق وهو يبكي ملء عينيه، ويقلب على ما فاته كفيه، وينادي بأعلى صوته أسفا على فوته:
كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا.
انتهى. وهذا لا يدل على أن الوزير المذكور قائله، بل تمثل به، فاعلم. ومما وقع التغير فيه بالزيادة والنقصان وإبدال الظاهر من المضمر والمضمر من الظاهر.
قول عمر الخيام:
سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همة.
فلاح بحكمتي نور الهدى في ... ليال للضلالة مد لهمة.
يريد الجاهلون ليطفؤه ... ويأبى الله إلا أن يتمه.
والآية "يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله غلا أن يتم نوره".
الفائدة الرابعة- المشهور بتخصيص الاقتباس بكونه من القرآن. ومنهم من عد المضمن في الكلام من الحديث اقتباسا أيضاً. وزاد الطيبي: من مسائل الفقه. قال بعضهم: إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه، بل بكون من غيره من العلوم. إذا عرفت ذلك فالخلاف المذكور في جوائز الاقتباس من القرآن وعدمه لا يجري في الحديث، خصوصا وهو تجوز روايته بالمعنى وغير ذلك مما لا يجوز في القرآن، كذا قال بعضهم. وقد رأيت ما قاله الشيخ بهاء الدين السبكي في العرس: من أن الورع أن ينزه عن مثله كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا محل إثبات شيء من أمثلة الاقتباس بأنواعه نثرا ونظما.
فمن الاقتباس من القرآن في النثر، قول ابن نباتة الخطيب، من خطبة له: فيا أيتها الغفلة المطرقون؛ أما أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ مالكم لا تشفقون؟ "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون" وقوله من أخرى في ذكر يوم الحساب: هنالك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، وتقطع الأسباب؛ وتذهب الأحساب، ويمنع الأعتاب؛ ويجمع من حق عليه العقاب، وجب له الثواب، فيضرب "بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" وقول الحريري في مقاماته: فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى "ونهى النفس عن الهوى" وعلم أن الفائز من ارعوى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى".
وممن تقدم في نحو هذا الكلام، فكان إمام هذا المقام: عبد المؤمن الأصبهاني، في رسالة أطباق الذهب؛ وهي مائة مقالة عارض بها أطواق الذهب للزمخشري. وقال في ديباجتها: وهي مائة مقالة صيغت دمالج للعضد ومخانق للجيد، وخلخلت كل واحدة بكلمة من كتاب الله المجيد، وجعلتها كوكبة ثابتة لمغربها، وكلمة باقية في عقبها. فهي لا قدامها عقب، ولختامها مسك عبق؛ ولا أبتغي إلا وجه الله فيما فصلت وقطعت، وما أريد "إلا الإصلاح ما استطعت".
فمما استحسنه منها- وما محاسن شيء كله حسن- قوله وهي المقالة الخامسة:
خليلي هبا طالما قد رقدتما ... إلا تنشدان العهد ما قد فقدتما.
أين إخوان عاشرناهم وخلان؟ أين زيد وعمر وفلان وفلان؟ وأين رشفاء الكؤوس، وقدما بقي نسيم رياهم في النفوس؟ أما يزعنا موت الآباء والأمهات عن أباطيل الترهات؟ ألا إن المرء غافل مطرق، والموت واعظ مفلق، ينادي أقواما تظنهم قياما وهم قعود "وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " تكرهون جرع الحمام فإنه ساقيكم "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم".
وقوله، وهي المقالة السادسة والثمانون: ذكر الله أشرف الأذكار، فاذكروه بالعشي والإبكار، ذكره مقدحة الأرواح الصدية، كالصبا من وجه الأقاحي الندية، فاذكر الله ذكرا كثيرا، وكبره تكبيرا. فإذا أخلصت الذكر فاترك الصوت والحرف؛ وإذا شربت وسكرت فاكسر الطرف. السجود ما جل عن نقرات الجباه؛ والذكر ما خفي عن حركات الشفاه؛ فجهز لطيمة الأثنية إلى حظائر قدسة؛ واذكر ربك في نفسك يذكرك في نفسه، وقل لمن يذكر الله في لسانه تورعا "اذكر ربك في نفسك تضرعا".
(1/130)
________________________________________
وقوله وهي الرابعة والثمانون: رب جائع مطعام، ورب أعزل مقدام ورب حسناء مردودة؛ ورب خرقاء محسودة. أخلاق متعاكسة، وشركاء متشاكسة؛ وأقسام متباعدة "وما أمرنا ألا واحدة" سبب واحد، وأحكام متعددات؛ وقضاء فرد، وأحوال متجددات؛ وقدرة غلباء؛ وأقدار متغايرات؛ وبيضة مكنونة؛ وأفراخ متطايرات، كلمة قدسية تنشيء الإيمان والكفر، كخابية المسيح تخرج الحمر والصفر، وكالشمس بنورها تلون الحبر والياقوت؛ أو كالنجار بقدومه ينحت المهد والتابوت. الدعوة واحدة وإن تباينت كلمات الرسل، والمقصد واحد وإن تقاذفت جهات السبل. ثمار تسقى بماء واحد "ونفضل بعضها على بعض في الأكل".
وقوله وهي المقالة السابعة: طوبى للتقي الخامل، الذي سلم من إشارة الأنامل، وتبا لمن قعد في الصوامع، ليعرف بالأصابع. خزائن الأمناء مكتومة؛ وكنوز الأولياء مختومة. والكامل كامن يتضاءل؛ والناقص قصير يتطاول، والعاقل قبعة، والجاهل طلعة فاقبع قبوع الحيات، وكن في الظلمات كماء الحياة؛ كنزك في التراب، وسيفك في القراب، عف آثارك بالذيل المسحوب، واستر رؤاك بسفعة الشحوب، فالنباهة فتنة؛ والوجاهة محنة؛ كن كنزا مستورا؛ ولا تكن سيفا مشهورا، إ ن الظالم لجدير أن يقبر ولا يحشر، والبالي خليق أن يطوى ولا ينشر. ولو علم الجزل صولة النجار؛ وعضة المنشار؛ لما تطاول شبرا، ولا تخايل كبرا، وسيقول البلبل المعتقل ليتني كنت غرابا "ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا".
وقوله وهي المقالة التاسعة والثلاثين: داهية وما داهية، وما أدراك ما هية: قاض خبيث المأكل، ثقيل الهيكل؛ يملأ الحشا بالرشا؛ ويؤذي جليسه بالجشا؛ ولان يطاع عشوة خير له من أن يأكل رشوة، قبلته عتبة السلطان، وسبلته مدبة الشيطان. قلمه وقود النيران، وخدمه لصوص الجيران يعرف الحق ولا ينفذه، ويرى الغريق ولا ينقذه، ينزع قميص اليتيم في مأتمه وينازع الطفل الصغير في مطعمه. يغمس يده في الميراث؛ وينفعه في المبال والمراث. إذا قسم جعل نفسه أكبر البنين، ويلحق اليتيم بالجنين. فما البغاث في منسر البزاة، ولا الحربي في أسر الغزاة، بأعجز من اليتيم في مخالب القضاة. يحسبهم الجهال صلحاء وهم مراق، ويظنونهم أمناء وهم سراق، يثنون على ذي العثنون؛ ويدعون لذلك المطعون؛ وهم إن عرفتهم حق العرفان، سراحين تعبث بالخرفان. يكتبون الزور وبه تجري أقلامهم، ويكتمون الحق وبه تأمرهم أحلامهم "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم" يلبسون الحق بالباطل، ويلبسون عارا وشنارا؛ و؛ "يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا".
وقوله وهي المقالة الرابعة والتسعون، وفيها اقتباس من الحديث النبوي أيضاً: عواتق الحجال، شقائق الرجال، الرجال قوامون والنساء قواعد، هم أعضاء الدين وهن سواعد؛ ما هن إلا مكاريب زروعهم، وشراسيف ضلوعهم، إلا فارفقوا بهن فإنهن لحم على خوان، واستوصوا بهن خيرا فإنهن عوان. ورجل بلا بعل، كرجل بلا نعل، والعزوبة مفتاح الزنا، والنكاح ملواح الغنى، ومن نكح فقد صفد بعض شياطينه، ومن تزوج فقد حصن نصف دينه ألا فاتقوا الله في النصف الثاني، فإن خراب الدين بشهوتين: شهوة الفرج وهي الكبرى، وشهوة البطن وهي الصغرى، فاعمر الركنين، واحكم الحصنين؛ فإذا فرغت من الرواق والصفة، فلا تهمل السقيفة والأسكفة. واعلم أن الدنيا والآخرة ضرتان، لك إليهما كرتان، إحداهما حرة خريدة، والأخرى أمة مريدة، فاجعل للحرة يومين؛ فإن لها قسمين، وللأمة قسما، فإن لها في كتابك اسما، وأضعف نصيب العقبى، ولا تنسى نصيبك من الدنيا، واحفظ القسمة العادلة، ولاتكن ممن يحبون العاجلة، فالويل كل الويل إن تميلوا كل الميل. واتق الميل بالقلب "فكل أولئك كان عنه مسؤولا" وإن كان ولابد "فللآخرة خير لك من الأولى" فإن اتقيت الزيغ فطلق الدنيا فإنها زائدة "وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة". انتهى.
(1/131)
________________________________________
وقلت أنا على هذا الأسلوب الحكيم، سالكا هذا النهج القويم- وأنا استغفر الله من قول بلا عمل، وأسأله من فضله بلوغ الأمل- مقالة في الإيقاض من سنة الغفلة لسنة الإتعاض: انتبه يا نائم، فقد هبي النسائم، ودع المنام، فقد انقشع الظلام، هذا الصبح قد لاحت تباشيره وهذا النجح فد وافاك بشيره، فحتى متى هذه الغفلة والغرة؟ وإلى متى هذه الفضيحة والمعرة؟ أركونا إلى الدنيا الدنية؟ واشتغالا عن المنية بالأمنية؟ ما أراك إلا قد تورطت، فاعمل لنفسك قبل أن تقول "يا حسرتا على ما فرطت " وذر الكبر والزهو "فما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو" فتبا لمن نسي وفاته، حتى ذهب أمره وفاته، وطوبى لمن عمل لغده؛ ولم يغتر من العيش برغده؛ فكم هذا التسويف يا ماطل؟ والحق لا يدرك بالباطل؛ فلا يغرنك قوم أعرضوا عن العلم والعمل "ذرهم يأكلون ويتمتعوا ويلههم الأمل" إن الذين أمنوا لا يسوفون من يوم إلى يوم ومن عام إلى عام "والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام".
مقالة أخرى في الحث على الأعمال؛ وبيان أن رضى الله سبحانه وتعالى لا ينال بالآمال: من عجيب أمر الإنسان وكل أمره عجيب أن يدعو فيرجو الإجابة، ويدعى فلا يجيب، أليس كما يدين يدان؟ وهل يجزى المرء إلا بما دان؟ عقل في فقار الجهالة هائم، وقلب في تيار الضلالة عائم، يرجو ولا يخاف، إيمان ظاهر؛ وكفر خاف؛ والخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين للطير، إن قص أحدهما سقط في هوة الضير. فيا أيها المغرور بأمله، المسرور بعمله، إنك في حبائل الشيطان واقع، ألما تصح والشيب وازع؟ فانظر لحالك قبل ترحالك، واعمل في يومك لغدك، قبل فوات الأمر من يدك، ولا تكن عن الآخرة باللاه "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله" ولا يعجبنك أمر قوم رضوا من الدنيا الدنية بالدون "إنهم اتخذوا الشياطين من أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ".
مقالة أخرى- في وصف عباد الله الصالحين وأولياؤه الفالحين.
لله در عصابة هم أهل الإصابة، ذاقوا شهد الدهر وصابه، وقاسوا محنة وأوصابه؛ فنبذوا الدنيا وراءهم ظهريا، وامتطوا من عزمهم جملا مهريا يرون ببصائرهم ما لا يرون بأبصارهم، وينتصرون بالله سبحانه لا بأنصارهم هم أعلام الهدى ومعالمه، وأركان التوحيد ودعائمه، أنفسهم في عالم الملكوت سائحة، وقلوبهم في غمار الرهبوت سابحة، نطقهم حكمة وذكر وصمتهم عبرة وفكر، إذا خوطبوا أحسنوا السمع "وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " أكفهم بالبذل مبسوطة، وأوصافهم بالفضل منوطة، يبذلون من المال خلاصه " يرجون تجارة لن تبور" ويخشون يوما يدعى فيه الخاسر بالويل والثبور "يهدون بالحق وبه يعدلون " يأمرون بالصلاح وهم المصلحون "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون".
ولنكتف من محاسن الاقتباس الواقعة في المواعظ بهذه اللمعة المضيئة النبراس، ففيها قناع للمتعظ والواعظ.
ولا بأس بإظهار نور الاقتباس من مشكاة أهل الترسل، ليستضيء الأديب بأنوار اقتباسهم عند التوصل إليه والتوسل. فمن ذلك قول القاضي الفاضل- وهو رئيس هذه الصناعة من غير مناضل- من رسالة يصف، قلعة نجم، وهي من عيون الرسائل: هي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة. فاقدة حياة صالحها الدهر إن لا يحلها بقرعة، نادبة عصمة صافحها الزمن على أن لا يروعها بخلعه، فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لم تطبع بطبع حمص في العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة في الأقارب.
إلى أن قال: فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هواليها طالع؛ وفتحت الأبراج فكانت أبوابا "وسيرت الجبال فكانت سرابا ".
وقوله: ولنا من الجيران من يجور، ويظن أنه إلى الله لن يحور ويصدق وعد الشيطان وما يعده الشيطان إلا الغرور، وتصدر عنه كل عظيمة، ويجهل أن الله عليم بذات الصدور ويظن أنه يرث الأرض وينسى ما كتب الله في الزبور.
وقوله: وينهى وصول كتاب كريم، تفجرت منه ينابيع البراعة، وتبرعت فيه بالحكم أيدي اليراعة، وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب وهطل منه لأوليائه كل صوب ولأعدائه كل شهاب أصيب.
(1/132)
________________________________________
وقوله: كتاب اشتمل على بدائع المعاني وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أنني ما تعبت في استخراج جواهرها، بل سبحت حتى تناولتها وجنحت إلى ما حاولتها، فيا لله من بدائع وروائع، ولطلائف وطرائف؛ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وما يقرط الأسماع ويقرط الألسن.
وقوله: فلو رأيت أطناب الخيم في أعناق الأسارى يساقون بها مقرنين، لحمدت الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، ولقد شابت بخضاب العجاج ما أرسلته رايات الأبرجة من ذوائب مفرقها، وأسلمت وجهها لله وقطعت زنار خندقها.
وقوله: وما عهدته أدام الله سعادته إلا وقد استراحت عواذله، وعرى به أفراس الصبا ورواحله، إلا أن يكون قد عاد إلى ذلك الجج، ومرض قلبه وما على المريض من حرج. وأيما كان، ففي فؤادي إليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسي أسيرة غلة لا أطيقها بل أطيعها، وإني لمشتاق إليك؛ وعاتب عليك، ولكن عتبة لا أذيعها.
وقوله: ورد كتاب لا يجد الشكر عنه محيدا، وآنست القلب الذي كان به وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا غير معطلة وقصرا مشيدا (ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وتلك الغاية ليست في وسعي ولا تعلم نفس إلا ما طرق سمعها؛ وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعي، وهذه الأوابد إلا باعد ما طال لها ذراعي ولا استقل بها ذرعي.
وقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو) فسبحانه جلت قدرته جلاها وقد بلغت القلوب الحناجر، وفرجها وقد بلغت الدموع المحاجر ومن بالسلطان على الخلق، وإقامة ليتم به إنشاء الله دين الحق.
وقوله: - في جواب كتاب بعثه العماد إليه في ورق أحمر، فقطعت العرب الطريق على حامله، وأخذوه ثم أعادوه-: ووصل منها كتاب تأخر جوابه لأن العرب قطعوا طريقه، وعقوا عقيقه، ثم أعادوه وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره؛ ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، فقطف ورده من شوك أيديهم وحيا حياه الذي جل عن واديهم، وحضر منهم حاضر الفضل الذي ما كان الله ليعذبه بالغربة وأنت في بواديهم، وتشرف منه بعقلية الإنس التي ما كان الله ليمتحنها بقتل واديهم ومسألته بأي ذنب قتلت، وأي شفاعة فيك قبلت، فقال: عرفت الأعراب بضاعتها من الفصاحة، وتناجدت أهل نجد فكل صاح وإصباحه، وقالوا: هذه حقائقنا *****ية، وهذه حقائبنا *****ية؛ وهذه عتائدنا السرية محمولة؛ وهذه مواريث قيثنا وقسنا المأمولة، فقيل لهم: إن الفصاحة تنتقل عن الأنساب، وإن العلم يناله فرسان من فارس ولو كان في السحاب، فدعوا عنكم ثمرا علق بشجراته؛ واتركوا نهبا صيح في حجراته (وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) ثم لمته على الشعث؛ وأحللت به بعد الإحرام؛ فاستباح الطيب؛ وحاشاه من الرفث.
ومن ذلك قول العماد الأصبهاني: صدرت هذه البشرى ودماء الفرنج على الأرض وقيل لها: ابلعي، وعجاجها في السماء وقيل لها: أقلعي، وفاض ماء النصال، وغاض ماء الضلال، وهي بشارة اشترك فيها أولياء النعمة؛ ونبئهم أن الماء بينهم قسمة.
وقول الشيخ جمال الدين بن نباتة- في حضيرة القدس-: وكان معنا شخص يلقب بالخلد سكن بيتا حسنا، وغمض عن الرفاق تغميضا في الخلد بينا، فقال مولانا الصاحب: ما تقول في جنة الخلد، وشكا قوم عشرة هذا الرجل؛ فكتبت على ورقتهم: اصبروا على ما تثقلون (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعلمون) .
وقوله في منقل نحاس وهو من غريب الاقتباس: طالما حمدت معاشرته وطابت في الليالي مسامرته؛ واطلع من أفقه نجوما سعيدة القران؛ وتلا على الثلج والريح (يرسل عليكما شواظا من نار ونحاس فلا تنتصران) .
وقول القاضي تاج الدين أحمد بن الأثير: ولم يزل القتال ينوبهم وسهام المنون تصيبهم، وسحابها يصيبهم، والسيوف تغمد في الطلى؛ والرماح تركز في الكلى؛ والمجانيق تذلل سورتتهم؛ وتسكن فورتهم، وتقذفهم من كل جانب دحورا، وتعيد كلا منهم مذموما مدحورا، وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالتسليم، وتنتابهم فما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.
وقول كمال الدين بن العطار في منازلة قلعة: ونقبت النقوب نظام أساساتها فانحلت، وألقيت النار في أحشائها فألقت ما فيها وتخلت. هذا والمناجيق منا ومنهم تارة وتارة، وكفها يرمي من النفط أصابعها بشرر كالقصر وقودها الناس والحجارة.
(1/133)
________________________________________
وقول الشهاب محمود: - في فتح حصن المرقب-: وتخلخلت قواعد ما شيد من أركانه فانحلت، وانشقت سماؤه من الجزع فألقت ما فيها من الأرض وتخلت، ومشت النار من تحتهم وهم لا يشعرون، ونفخ في الصور بل في السور فإذا هم قيام ينظرون. ومنه: فلجأوا إلى الأمان، وتمسك ذل كفرهم بعز الإيمان، وتشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم قد أحيط بهم وجاءهم الموج من كل مكان.
وما ألطف اقتباس أبي طاهر الأصفهاني- في رسالة القوس- إذ قال: وهو صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم؛ إلا ما حملت ظهورها والحوايا أو ما اختلط بعظم.
ومن إنشاء الشيخ عبد الرحمن المرشدي؛ من كتب كتبه غلى الأفندي محمد دراز المكي: على رسلك يا رسول البلاغة؛ ماذا التحدي بهذا المعجز الموجز؛ وعلى مهلك يا نبي البراعة فما منا إلا مذعن معجز (والقلم وما يسطرون) ، (وإن هذا إلا سحر يؤثر) ما هذا قول البشر، (حم والكتاب المبين) ما هذا في زبر الأولين.
ومنه: يا أعد قاض أقيم به عماد الدين (آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) .
قلت: هذا وإن عدهم بعضهم من حسن الاقتباس، إلا أني أراه من القسم المردود، لتجاوزه الحدود.
ومن كتاب له إلى بعض كبراء مصر: فياذا القلم السحار، والكلمة الفائقة لطفا على نسائم الأسحار، أعيذ سطرك وطرسك، بالليل إذا تجلى و (أعوذ برب الفلق) ؛ والليل إذا غسق؛ إذ تقوسم بالإزلام أن يكون غيرك ذا القدح المعلى.
وقوله من كتاب آخر: وأما أحوال العسكر الواردة إلى اليمن، المثيرين بمصر تلك الشرور والفتن، فقد جاؤوا إلى بندرة جدة (وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة) ونزل ميدهم وهو في الغاية من السكينة المتمكنة؛ وأما المتجهز منهم في المركب (المجاهد) فقد ندخ بهم المركب إلى القنفذة، وكادت أن تقع بينهم فتنة وعربذة، وذلك عند وصول الماء إليهم فكادوا أن يقتتلوا، فوصل الخبر إلى الموكول إليه، فقال للرسول: أقر بالري عينهم (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم) فأطفأ الله النار بذلك الماء وسافروا بعد ذلك غلى حيثما.
ومن ذلك قول الأفندي محمد بن حسن دراز المكي- في جواب كتاب إلى الشيخ عبد الرحمن المرشدي- (والنجم إذا هوى) ما ضل يرعاك وما غوى (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى) جل فضلك عن التشبيه، وتعالت نباهتك عن الإيماء والتنبيه، ولقبت بالشرف وأنت الشرف النبيه؛ اقتربت ساعة حسادك يا رب البلاغة ووجهك القمر، وأن يروا آية من فضلك يعرضوا، وقد جاء (جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموا قلمك فيما شجر، ويقولوا لجواهر ألفاظك الرطبة إذا نطق ذو اللفظ اليابس: بفيك الحجر، ويوقنوا بحسن تصرفك في التصنيف الذي فيه أنصفت إذ صنفت، وإذا جمع غمام جموعه لمساجلتك قيل له (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت) انتهى.
هذا غيض من فيض، ولم من يم، والقول في هذا الباب لا ينتهي حتى ينتهي عنه، ولا يقف حتى يوقف عليه، فيا أربا الإنشاء والقريض، ويا أصحاب التصريح والتعريض، اقتبسوا مثل هذه الأنوار المشرقة في أشعاركم وخطبكم (وانبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) .
لطيفة- كان القاضي الشهير الشهيد أبو علي الصيرفي المغربي رجلا ذا وقار، يرجع من التقى بأوقار، وعلى وقاره الذي كان يعرف، ندر له مع بعضهم ما يستظرف، وهو: إن فتى يسمى يوسف لازم معطرا رائحته، ومنظفا ملبسه، ثم غاب لمرض قطعه؛ أو أشغل منعه؛ ولما فرغ؛ أو أبل؛ عاود ذلك النادي والمحل؛ وقبل إفضائه إليه؛ دل طيبه عليه. فقال الشيخ- على سلامته من المجون- (إني لجد ريح يوسف لولا أن تفندون) وهي من طرف نوادره.
ومن لطيف ما يحكى هنا: أن المنصور ولى سليمان بن أميل الموصل وضم إليه ألفا من العجم، وقال له: قد ضممت إليك أف شيطان، تذل بهم الخلق. فعتوا في نواحي الموصل، فكتب إليه المنصور: كفرت النعمة يا سليمان، فأجابه (وما فر سليمان ولكن الشياطين كفروا) فضحك منه وأمده بغيرهم.
ولنصرف الآن عنان اليراعة إلى ما وقع من الاقتباس في أشعار أولي البراعة.
فمن الاقتباس من القرآن قول الأحوص:
إذا رمى عنها سلوة قال شافع ... من الحب ميعاد السرور المقابر.
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سرائر ود يوم تبلى السرائر.
وقول أبي القاسم الرافعي:
(1/134)
________________________________________
الملك لله الذي عنت الوجو ... هـ له وذلت عنده الأرقاب.
متفرد بالملك والسلطان وقد ... خسر الذين يحاربون وخابوا.
دعهم وزعم الملك يوم غرورهم ... فسيعلمون غدا من الكذاب.
وقول أبي عبد الرحمن السلمي:
سل الله من فضله واتقه ... فإن التقى خير ما تكتسب.
ومن يتقي الله يصنع له ... ويرزقه من حيث لا يحتسب.
وقول بديع الزمان الهمذاني:
لآل فريغون في المكربات ... يد أولا واعتذار أخيرا.
إذا ما حللت بمغناهم ... رأيت نعيماً وملكاً كبيراً.
وقول ابن نباتة:
وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى.
أجل نظر في حاجبيه وطرفه ... ترى ***** منه قاب قوسين أو أدنى.
وما ألطف قول ابن عبد الظاهر في معشوقه نسيم:
إن كانت العشاق من أشواقه ... جعلوا النسيم إلى ****** رسولا.
فأنا الذي أتلوا لهم يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا.
وقول ابن سناء الملك في مطلع قصيدة:
رحلوا فلست بسائل عن دارهم ... أنا باخع نفسي على آثارهم.
وقول الخباز البلدي:
سار ****** وخلف القبا ... يبدي العزاء ويضمر الكربا.
قد قلت إذا سار السفين بهم ... والشوق ينهب مهجتي نهبا.
لو أن لي عزا أصول به ... لأخذت كل سفينة غضبا.
وقل الأبيوردي:
وقصائد مثل الرياض أضعتها ... في باخل ضاعت به الأحساب.
فإذا تناشدها الرواة وأبصروا ال ... ممدوح قالوا ساحر كذاب.
وقول محمد الشجاعي:
لا تعاشر معشرا ضلوا الهدى ... فسواء اقبلوا أو أدبوا.
بدت البغضاء من أفواههم ... والذي يخفون منها أكبر.
وقول القاضي منصور الهروي:
ومنتقب بالورد قبلت خده ... وما لفؤادي من هواه خلاص.
فاعرض عني مغضبا قلت لا تجر ... وقبل فمي إن الجروح قصاص.
وقول بعضهم في رجل كان يشرب الخمر، فبكر فذات يوم فسقط على زجاجته فجرحته، وسال دمه:
أجريح كاسات أرقت نجيعها ... طلب الترات يعز منه خلاص.
لا تسفكن دم الزجاجة بعده ... إن الجروح كما علمت قصاص.
وقال شيخ الشيوخ بحماة:
يا نظرة ما جلت لي حسن طلعته ... حتى انقضت وأباتتني على وجل.
عاتبت إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي خلق الإنسان من عجل.
وقول الحافظ بن حجر العسقلاني:
خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما رأوا كالبحر سرعة سيره.
فحسبته لا صون سر هواكم ... حتى يخوضوا في حديث غيره.
وقد سبقه إلى هذا الاقتباس من قال:
أما السماح فقد مضى وقد انقضى ... فتسل عنه ولا تسل عن خيره.
واسكت إذا خاض الورى في ذكره ... حتى يخوضوا في حديث غيره.
وقول محي الدين بن قرناص:
إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين ناظره.
أسكنتهم في مهجتي ... فإذا هم بالساهرة.
وقول بعضهم:
تجرد للحمام عن قشر لؤلؤ ... وألبس من ثوب الملاحة ملبوسا.
وقد جرد الموسى لتزيين رأسه ... فقلت لقد أوتيت سؤالك يا موسى.
قال أبو الحسن البلنسي الصوفي: كان لي صديق أمي لا يقرأ ولا يكتب فعلق فتى، وكان خرج لنزهة، فأثرت الشمس في وجهه، فأعجبه ذلك فأنشأ يقول:
رأيت أحمد لما جاء من سفر ... والشمس قد أثرت في وجهه.
فانظر لما أثرته الشمس في قمر ... والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا.
وما أحسن قول القاضي تاج الدين بن احمد المالكي من فضلاء العصر:
مذ واصل الخل شمس الراح قلت له ... الشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا.
فقال معتذرا لوحيل بينهما ... وافى الخسوف لبدر التم مبتدرا.
يشير إلى ما يزعمه المنجون من أنسب خسوف القمر حيلولة الأرض بينه وبين الشمس.
وقال الأبيوردي:
أردت زيارة الملك المفدى ... لأمدحه وأخذ منه رفدا.
فعبس حاجب فقرأت أما ... من استغنى فأنت له تصدا.
وأحسن من هذا قول الأديب المعروف بالمهتار من شعراء العصر أيضاً مقتبساً لهذه الآية في مليح فقير الحال:
تصد وكم تصدى منك كف ... لمن لم يدر قدرك يا مفدى.
(1/135)
________________________________________
فصدك عن أولي أدب فأما ... من استغنى فأنت له تصدى.
ويعجبني قول بعضهم مواليا:
ليل المعنى قد طال بكم لما جن ... والقلب نحو المنازل والحبائب جن.
وقال لما سكر من غير خمر الدن ... يا من يظنوا سلوي أن بعض الظن.
أفقد جفني لذيذ الوسن ... من لم أزل فيه خليع الرسن.
عذاره المسكي في خده ... أنبته الله نباتا حسن.
وقال أيضاً:
قال جوادي عندما ... همزت همزا أعجزه.
إلى متى تهمزني ... ويل لكل همزة.
وقال أخر:
بدر ظننا وجهه جنة ... فمسنا منه عذاب أليم.
وقد قدر الخال على خده ... ذلك تقدير العزيز العليم.
وقول أبي القاسم بن الحسن الكابني:
إن كنت أزمعت على هجرنا ... من غير ما ذنب فصبر جميل.
وإن تبدلت بنا غيرنا ... فحسبنا الله ونعم ال****.
وما أحسن قول مجير الدين بن تميم في **** بدار القضاء يدعى بالعز:
لا تقرب الشرع إذا لم تكن ... تخبره فهو دقيق جليل.
ووكل العز الذي وجهه ... على نجاح الأمر أقوى دليل.
ولا تمل عنه إلى غيره ... فحسبنا الله ونعم ال****.
وهذا اقتباس بالتورية.
ومثله ما حكي: أن النصير المحامي قال للسراج الوراق: قد امتدحت الصاحب بهاء الدين بقصيدة؛ وهي الليلة تقرأ بين يديه؛ وأشتهي منك أن تزهره لها.
فلما أنشدت قال السراج الوراق بعد الفراغ:
شاقني للنصير شعر بديع ... ولمثلي في الشعر نقد بصير.
ثم لما سمعت باسمك فيه ... قلت نعم المولى ونعم المصير.
ومن بديع الاقتباس بالتورية أيضاً قول القاضي محي الدين بن عبد الظاهر:
بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين.
كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن.
وأخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة بقافيته، ولكن زاده إيضاحا بقوله:
يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال فاتتني ألذ وأجمل.
فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن.
وألم به الشيخ عز الدين الموصلي وما خرج أيضاً عن إيضاحه فقال:
قد سلونا عن المليح بخودٍ ... ذات وجه به الجمال تفنن.
ورجعنا عن التهتك فيه ... ودفعناه بالتي هي أحسن.
ومنه قول ابن نباتة في خادم اسمه كافور:
يا لائمي في خادم لي سيد ... قسما لقد زدت السلو نفورا.
ولقد أدرت على المسامع شربة ... في الحب كان مزاجها كافورا.
ولأبي الفضائل أحمد بن يوسف بن يعقوب قصيدة حسنة اقتبس فيها أكثر سورة مريم عليها السلام، أولها:
لست أنسى الأحباب ما دمت حيا ... إذ نووا للنوى مكانا قصيا.
وتلوا آية الدموع فخروا ... خيفة البين سجدا وبكيا.
وبذكراهم يسبح دمعي ... كلما اشتقت بكرة وعشيا.
وأناجي الإله من فرط حزني ... كمناجاة عبده زكريا.
واختفى نورهم فناديت ربي ... في ظلام الدجى نداء خفيا.
وهن العظم بالبعاد فهب لي ... رب بالقرب من لدنك وليا.
واستجب في الهوى دعائي فإني ... لم أكن بالدعاء منك شقيا.
قد فرى قلبي الفراق وحقا ... كان يوم الفراق شيئا فريا.
ليتني مت قبل هذا وغني ... كنت نسيا يوم النوى منسيا,
وهي نحو من ثلاثين بيتا على هذا النمط.
وما أبدع قول الصاحب عطا ملك في دوبيت:
يا طاقة شعرة براسي انتشبت ... بيضاء تصارفي بها قد ذهبت.
يا واحدة سواد قوم نهبت ... كم من فئة قليلة قد غلبت.
وقال أبو الحسن الباخرزي:
يزني دهري اللئيم كريما ... كان لي والدا وكنت أنا ابنا.
كل شيء يبيد والله باق ... ربنا إننا إليك أنبنا.
وما أصدق قول صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى:
يا عترة المختار يا من بهم ... أرجو نجاتي من عذاب أليم.
حديث حبي لكم سائر ... وسر ودي في هواكم قديم.
قد فزت كل الفوز غذ لم يزل ... سراط ديني بكم مستقيم.
ومن أتى الله بعرفانكم=فقد أتى الله بقلب سليم.
ومن الاقتباس الذي هو غير مقبول، بل هو من المردود المرذول قول ابن النبيه يمدح القاضي الفاضل:
(1/136)
________________________________________
قمت ليل الصدود إلا قليلا ... ثم رتلت ذكركم ترتيلا.
ووصلت السهاد أقبح وصل ... وهجرت الرقاد هجرا جميلا.
مسمعي كل عن سماع عذولي ... حين ألقى عليه قولا ثقيلا.
وفؤادي قد كان بين ضلوعي ... آخذته الأحباب أخذا وبيلا.
قل لرامي الجفون أن لجفني ... في بحار الدموع سبحا طويلا.
ماس عجبا كأنه ما رأى غص ... نا طليحا ولا كثيبا مهيلا.
وحمى عن محبه كأس ثغر ... حين أضحى مزاجها زنجبيلا.
بأن عني فصحت في أثر العي ... س أرحموني وأمهلوني قليلا.
أنا عبد للفاضل بن عي ... قد تبتلت بالثنا تبتيلا.
لا تسمه وعدا بغير نوال ... أنه كان وعده مفعولا.
نعوذ بالله من هذا الكلام. وبعده:
وإذا كان خصمك الدهر وال ... حكم إلى الله فاتخذه ****ا.
إن مدحي له أشد وطاء ... وقريضي أقوى وأقوم قيلا.
جل عن سائر الخلائق قدرا ... فاخترعنا في مدحه التنزيلا.
هذا من المغالاة والإغراق الذي يجر إلى الإخلال بالدين والعياذ بالله تعالى، ومذهب ابن النبيه في ذلك مشهور.
ومن ذلك قول البهاء بن زهير:
وسقاني من ريقه البارد العذ ... ب كؤوسا حوت شرابا طهورا.
بقوارير فضة من ثنايا ... قدروها بلؤلؤ تقديرا.
وغيوم مثل الجنان فما تن ... ظر شمسا فيها ولا زمهريرا.
نصب روض مشى النسيم عليه ... فانبرى سعيه به مشكورا.
أيها الحاسد المنفد إما ... أن تكن شاكرا وإما كفورا.
كيف تجفوا التي يطير بها ... الهم وإن كان شره مستطيرا.
وقول الحاجري:
قالت وقد حاولت منها نظرة ... والقلب في ألم من الخفقان.
انظر إلى القلب الذي تهوي به ... فإن استقر مكانه فستراني.
وقول الأخر:
أوحى إلى عشاقه طرف ... هيهات هيهات لما توعدون.
وردفه ينطق من خلفه ... لمثل ذا فليعمل العاملون.
ومن الاقتباس من الحديث قول الصاحب بن عباد رحمه الله:
قال لي إن رقيبي ... سيء الخلق فداره.
قلت دعني وجهك الجن ... ة خفت بالمكاره.
ولفظ الحديث (خفت الجن بالمكاره وخفت النار بالسهوات) .
وثل ذلك قول ابن قلاقس:
ووالله لولا أنه جنى المنى ... لما كان محفوفا لنا بالمكاره.
وقول ابن نباتة:
عن خده منع الرقي ... ب وبعده داجي عذاره.
واهاً لها من جنة=حفت بأنواع المكاره.
وقول ابن مماتي في جارية صورت في وجهها حية وعقربا بالغالية:
قتيلك ما أذكى الهوى جل ناره ... إلى أن تبدى الخد في جلناره.
رأى حية في وجنتيك وعقربا ... نعم جنة حفت كذا بالمكاره.
واقتبست أنا أخر الحديث فقلت:
لقد ذهبت أنفس العاشقين ... على نار وجنته حسرات.
ولا غور أن أصبحت تشتهي ... فقد حفت النار بالشهوات.
ومنه قول الصاحب بن عباد أيضاً:
أقول وقد رأيت له سحابا ... من الهجرات مقبلة إلينا.
وقد سحت غواديها بهطل ... حوالينا الصدود ولا علينا.
اقتبسه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم استسقى وحصل مطر عظيم (اللهم حوالينا ولا علينا) .
وقول منصور الهروي الأزدي:
فلو كانت الأخلاق تحوى وراثة ... ولو كانت الآراء لا تتشعب.
لأصبح كل الناس قد ضمهم هوى ... وأصبح كل الناس قد ضمهم أب.
ولكنها الأقدار كل ميسر ... لما هو مخلوق وله مقرب.
وقوله الأبله الشاعر البغدادي، وكان يهوى بعض أولاد البغاددة، فعبر على بابه فوجد خلوة فكتب على الباب:
دارك يا بدر الدجى جنة ... بغيرها نفسي ما تلهو.
وقد روي في خبر أنه ... أكثر أهل الجنة البله.
وفي كون هذا اقتباسا نظر لما في حده.
وقول أبي الحسن الباخرزي:
يا حادي العيس رفقا بالقوارير ... وقف فليس بعار وقفة العير.
قف واحتلب ماء عين طالما قطرت=حمر الدموع على البيض المقاصير.
(1/137)
________________________________________
اقتبسه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأنجشة- وكان يحدو بالإبل التي عليها نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع- ياأنجشة رويدك رفقا بالقوارير. قيل: شبه النساء بهن لضعف عزائمهن، وقلة دوامهن على العهد، لأن القوارير يسرع إليها الإنكسار، ولا يقبل الجبر. انتهى.
وليس بشيء، والأولى ما قاله في النهاية: شبههن بالقوارير من الزجاج لأنه يسرع غليها الكسر، وكان أنجشة يحدو وينشد القريض والرجز فلم يأمن أن يصيبهن أو يقع في قلبهن حداؤه فأمر بالكف عنه، وفي المثل: الغنا رقية الزنا. وقيل: إن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت وأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة. انتهى.
وهذا أولى من الأول لدلالة المقام عليه.
ومنه قول أبي الحسن علي بن مفرج المنجم لما احترقت دار ابن صورة بمصر:
أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم.
كذا كل مال أصله من نهاوش ... فعما قليل في نهابر يعدم.
وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم.
اقتبسه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من أصاب مالا من نهوش أهلكه الله في نهابر، والنهاوش بالنون في أوله والشين المعجمة في آخره: المظالم والإجحافات بالناس. والنهابر: المهالك؛ واحدها نهبرة ونهبورة بضم أولها.
ومن قول أبي جعفر الأندلسي:
لا تعاد الناس في أوطانهم ... قلما يرعى غريب في الوطن.
وإذا ما شئت عيش بينهم ... خالط الناس بخلق ذي حسن.
اقتبسه من قله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: اتق الله حيث كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالط الناس بخلق حسن.
وقول شمس الدين محمد بن عبد الكريم الموصلي:
ومنكر قتل شهيد الهوى ... ووجه ينبئ عن حاله.
اللون لون الدم من خده=والريح ريح المسك من خاله.
اقتبسه من قوله عليه السلام في وصف دم الشهيد: اللون لون الدم والريح ريح المسك.
وقول القاضي أحمد بن خلكان: انظر إلى عارضه فوقه=ألحاظه يرسل منها الحتوف.

وشاهد الجنة في خده ... لكنها تحت ظلال السيوف.
اقتبسه من قوله عليه السلام: الجنة تحت ظلا ل السيوف. قال في النهاية: هو كناية عن الدنو من الضراب في الجهاد حتى يعلوه السيف ويصير ظله عليه.
واقتبس ذلك أيضاً لسان الدين بن الخطيب فقال:
أصبح الخد منك جن عدن ... مجتلى أعين وشم أنوف.
ظللته من الجفون سيوف ... جنة الخلد تحت ظل السيوف.
وقول الشيخ جعفر الخطي البحراني:
إني أعجب من هواي وجعلكم ... هجري على عكس القضية دابة.
فكأنكم قلتم ألا من حبنا ... فليستعد لهجرنا ***ابا.
اقتبسه من قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: ألا من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر ***ابا.
ومن الاقتباس من دراية الحديث- قول الشهاب أحمد بن يوسف الرعيني الغرناطي:
نسختي اليوم في المحبة أصل ... فعليها اعتماد كل عميد.
نقلوا مرسل المدامع منها ... وصحيح الهوى بغير مزيد.
قد رواها قبلي جميل وقيس ... حين هاما بكل لحظ وجيد.
وقول شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن صارو البعلي:
ومحدث حسن الحديث غدا به ... وجدي صحيحا والتسلي معضلا.
لو لم يكن صبري ضعيفاً عنه ما ... أجرى الأسى دمعي عليه مسلسلا.
وقول ابن جابر الأندلسي:
أرادت فؤادي للمحبة شاهدا ... فقلت لها هذي دموعي فاسألي.
فقالت لها جرح بخدك بين ... فتلك شهود عندنا لم تعدل.
وغن حديث الدمع عندي مرسل ... وليس على ما أرسلوا من معول.
فيا عجبا من حسنها وهو مالك ... ومرسل دمعي عنده غير معمل.
وقوله أيضاً:
نقل المسواك لي فيما روى ... أن ذاك الريق مسك وعسل.
قلت عمن قال عن ريقته ... قلت هذا خبر صح وجل.
من تبدى جوهريا ثغره ... صح في الحسن لدينا ما نقل.
وقول أبي إسحاق بن الحاج الغرناطي مع التورية:
رعى الله معطار النسيم فإنه ... رأى من غصون البان ما شاء من عطف.
وأبدى حديث الغيث وهو مسلسل ... لذلك لعمري ليس يخلو من الضعف.
وقوله أيضاً:
(1/138)
________________________________________
نظرت إلى روض الجمال بخده ... وسقيت دمعا به العين تكلف.
فصح حديث الحسن عن ورد خده ... وإن كان أضحى وهو راو مضعف.
وللشيخ الحافظ شهاب الدين ابن عباس أحمد بن فرج الإشبيلي قصيدة غريبة اقتبس فيها جميع مصطلحات علم الدراية في ألقاب الحديث وهي من غريب النظم رقة وانسجاما، وضمن أخرها لغزا، وقد شرحها جماعة من أهل المشرق والمغرب، ولا بأس بإيرادها هنا لغرابة أسلوبها وعذوبة ألفاظها وهي:
غرامي صحيح والرجا فيك معضل ... وحزني ودمعي مرسل ومسلسل.
وصبري عنكم يشهد العقل أنه ... ضعيف ومتروك وذلي أجمل.
ولا حسن إلا سماع حديثكم ... مشافهة يملى علي فأنقل.
وأمري وقوف عليك وليس لي ... على أحد إلا عليك المعول.
ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي ... على رغم عذالي ترق وتعدل.
وعذل عذولي منكر لا أسيغه ... وزور وتدليس يرد ويهمل.
أقضي زماني فيك متصل الأسى ... ومنقطعا عما به أتوصل.
وها أنا في أكفان هجرك مدرج ... تكلفني ما لا أطيق فأحمل.
وأجريت دمعي بالدماء مذبحا ... وما هي إلا مهجتي تتحلل.
فمتفق جفني وسهدي وعبرتي ... ومفترق صدري وقلبي المبلبل.
ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ... ومختلف حظي وما منك آمل.
خذ الوجد عني مسندا ومعنعنا ... فغيري بموضوع الهوى يتحيل.
وذي نبذ من مبهم فاعتبر به ... وغامضه إن رمت شرحا فأطول.
عزيز بكم صب ذليل بعزكم ... ومشهور أوصاف المحب التذلل.
غريب يقاسي الذل منه وماله ... وحقك عن دار الهوى متحول.
فرفقا بمقطوع المسالك ماله ... إليك سبيل لا ولا عنك معدل.
ولا زلت في عز منيع ورفعة ... ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل.
أورى بسعدي والرباب وزينب ... وأنت الذي تعنى وأنت المؤمل.
فخذ أولا من آخر ثم أولا ... من النصف منه فهو فيه المكمل.
أبر إذا أقسمت أني بحبه ... أهيم وقلبي بالصبابة يشعل.
وهذه القصيدة دالة على تمكن ناظمها ورسوخ قدمه في الفضل والأدب. وفرح بفتح الراء المهملة وبعدها حاء مهملة، وهكذا يقتضي كلام الصفدي في ضبطه، حيث قال في آخر ترجمته: ولم يزل على حاله حتى أحزن الناس ابن فرح، وتقدم غلى الله وسرح. قال بعض المتأخرين: والذي تلقيناه عن شيوخنا أنه بسكون الراء، وكان مولد الشيخ المذكور صاحب القصيدة سنة خمس وعشرون وستمائة، وتوفي تاسع جمادى الآخرة تسع وتسعين وستماية والله أعلم.
وما أحسن قول الخطيب جند بن الحسن:
روت لي أحاديث الغرام صبابتي ... بإسنادها عن بانة العلم الفرد.
وحدثني مر النسيم عن الحمى ... عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد.
بان غرامي والأسى قد تلازما ... فلن يبرحا حتى أوسد في لحدي.
ومن الاقتباس من علم الفقه: قول المتنبي:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه.
قفي تغرمي الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه.
المعنى أن النظرة الأولى أتلفت مهجتي فلزم أن تغرميها بنظرة ثانية لأن من أتلف شيئا لزم أن يغرمه، ولكن التركيب فيه عقادة وقلق.
وقول الأمير أبي فضل الميكالي:
أقول لشاد في الحسن فرد ... يصيد بلحظة قلب الكمي.
ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأد زكاة منظرك البهي.
وذاك بأن تجود لمستهام ... برجف من مقبلك الشهي.
فقال أبو حنيف لي أمام ... وعندي لا زكاة علي الصبي.
وقد رواها بعضهم على غير هذه القافية فقال:
أقول لشاد في الحسن فرد ... يصيد بلحظة قلب الجليد.
ملكت الحسن أجمع في قوام ... فلا تمنع وجوبا عن وجود.
وذلك أن تجود لمستهام ... برشف من مقبلك البرود.
فقال أبو حنيفة لي أمام ... وعندي لا زكاة على الوليد.
وروى بعضهم فيها زيادة على هذه الصورة:
أقول لشادن في الحسن فرد ... يصيد بلحظة قلب الكمي.
ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأد زكاة منظرك البهي.
فقال أبو حنيفة لي أمام ... يرى أن لا زكاة علي الصبي.
(1/139)
________________________________________
وإن تك مالكي الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي.
فلا تك طالبا من زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي.
وما أعذب قول أبي العلاء المعري:
أيا جارة البيت الممنع جاره ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل.
لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن السبيل.
ومثله قول الأخر:
يا قاتلي بالجفا بحقك لا ... تأخذ على العبد في تهجمه.
عسى زكاة الجمال تخرجها ... على فقير الوصال معدمه.
ومنه قول القاضي عبد الوهاب المالكي:
ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت تعالوا واطلبوا اللعن بالحد.
فقلت لها إني فديتك غاضب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد.
خذيها وكفي عن أثيم ظلامة ... فإن أنت لم ترضي فألف على العد.
فقالت قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد.
فباتت يميني وهي هميان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد.
فقالت ألم أخبر بأنك زاهد ... فقلت لها ما زلت أزهد في الزهد.
وقول بدر الدين بن العز الحنفي:
يا رب إن العيون السود قد فتكت ... فينا وصالت بأسياف من الدعج.
وهذه قصة الشكوى إليك فخذ ... منها القصاص وحننها على المهج.
وقال عثمان بن عبد الرحمن الحنفي:
خذوا بدمي من رام قتلي بلحظه ... ولم يخش حكم الله في قاتل العمد.
وقودا به جهرا وإن كنت عبده ... ليعلم أن الحر يقتل بالعبد.
لما وقف التاج السبكي على هذين البيتين قال: لم أسمع في عمري بأسمج من هذا المقطوع، ولا رأيت قط متغزلاً يصف محبوبته، ثم يقول خذوه بدمي واقتلوه عمدا بمذهبي في المسألة الفلانية، وهذا غلبة التعصب المذهبي على الحب الطبيعي، وليس هذا مذهب ابن حنيفة، لأنه لا يقتل الحر بعبد نفسه، وإنما يقتل العبد بعبد غيره. ولما انتهيت إلى هذا خطر لي هذان البيتان:
لا يأخذ القاضي ****** إذا رمى ... قلبي بسهم اللحظ عند شهوده.
فالحر لا قود عليه بقتله ... عبدا وإني لم أقل عبيده.
انتهى كلام السبكي.
وقال عماد الدين الحنفي معارضا للقاضي عثمان:
أحكامنا إن قال حبي قتلته ... بأسياف الحاظي وقتلتم بعمده.
فلا تقتلوه إنني أنا عبده ... ولا حر في رأي يقاد بعبده.
ولأبي الفتح البستي في هذا المعنى وهو أقدمهم عصرا ومن ديوانه نقلت:
خذوا بدمي هذا الغلام فإنه ... رماني بسهم مقلتيه على عمد.
ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... ولم أر حرا قط يقتل بالعبد.
ومنه قول أبي الفاضل الدرامي، وقيل: القاضي عبد الوهاب المالكي:
يزرع وردا ناضرا ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع.
أمنع أن أقطف أزهاره ... في سنة المتبوع والتابع.
فلم منعتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع.
وقد أجال عن ذلك جماعة من الأدباء، فقال بعض المغاربة:
سلمت أن الحكم ما قلتم ... وهو الذي نص على الشارع.
فكيف تبغي شفتي قطفه ... وغيرها المدعو بالزارع.
وقال الحافظ أبو عبد الله التنسي ثم التلمساني:
في ذي الذي قد قلتم مبحث ... إذ فيه إيهام على السامع.
سلمتم الحكم له مطلقا ... وغير ذا نص عن الشارع.
يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقا والشرع خلافه.
وقال شيخنا حسين بن عبد الصمد العاملي رحمه الله:
لأن أهل الحب في حكمنا ... عبيدنا في شرعنا الواسع.
والعبد لا أملك له عندنا ... فحقه للسيد المانع.
وقال بعض المغاربة على غير رويه:
قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهى به مغربنا والشرق.
غرست ظلما وأردت الجنى ... وما لعرق ظالم حق.
وهذا مما يعين أن الأبيات لأبي الفضل الدرامي وهو:
(1/140)
________________________________________
الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد التميمي الدرامي البغدادي. سمع من جماعة من العلماء ببغداد، وخرج منها رسولا من القائم بأمر الله العباسي إلى صاحب إفريقية المعز بن باديس، واجتمع بأبي العلاء المعري بالمعرة، وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب فقبل عينيه وقال: لله أنت من ناظم، وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب، وخيم عند المأمون بن ذي النون بطليطلة؛ وله فيه مدائح كثيرة، ولم يزل في كنفه إلى أن مات ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من شوال خمس وخمسين وأربعمائة.
ومن فريد شعره قوله:
يا ليل ألا انجليت عن فلق ... طلت ولا صبر لي على الأرق.
جفت لحاظي التغميض فيك فما ... تطبق أجفانها على الحدق.
كأنني صورة ممثلة ... ناظرها الدهر غير منطبق.
رجع- ومنه قول أبي عبد الله محمد بن الفراء الأندلسي:
شكوت إليه بفرط الدنف ... فأنكر من قصتي ما عرف.
وقال الشهود على المدعي ... وأما أنا فعلي الحلف.
فجئنا غلى الحاكم الألمعي ... قاضي المجون وشيخ الظرف.
وكان بصيرا بشرع الهوى ... ويعلم من أين أكل الكتف.
فقلت له اقض ما بيننا ... فقال الشهود على ما تصف.
فقلت له شهدت ادمعي ... فقال إذا شهدت تنتصف.
ففاضت دموعي من حينها ... كفيض السحاب إذا ما يكف.
فحرك رأسا إلينا وقال ... دعوا يا مهاتيك هذا الصلف.
كذا تقتلون مشاهيرنا ... إذا مات هذا فأين الخلف.
وأومى إلى الورد أن يجتنى ... وأومى إلى الريق أن يرتشف.
فلما رآه حبيبي معي ... ولم يختلف بيننا مختلف.
أزال العناد فعانقته ... كأني لام وحبي ألف.
وظلت أعاتبه حتى الجفا ... فقال عفا الله عما سلف.
وقول الشيخ صدر الدين بن ال****:
يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك.
لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية القلب مملوك.
وقوله:
ما الكاس عندي بأطراف الأنامل بل ... بالخمس تقبض لا يحلو لها الهرب.
شججت بالماء منها الرأس موضحة ... فحين أعقلها بالخمس لا عجب.
وقوله:
لم يصب الراووق إلا عندما ... قطع الطريق على الهموم وعاقها.
وقوله:
أرقت دم الراووق حلا لأنني ... رأيت صليبا فوقه فهو مشرك.
وزوجت بنت الكرام بابن غمامة ... فصح على التعليق والشرط أملك.
وقول أبي العلاء المعري:
أن يكرهوا طعم القريض فعذرهم ... باد كحاشية الرداء المعلم.
هم محرمون عن المناقب والعلى ... والشعر طيب لا يحل لمحرم.
وقول علي بن همام:
سيرت ذكرك في البلاد كأنه ... مسك فسامعة يضمخ أو فما.
وأرى الحجيج إذا أرادوا ليلة ... ذكراك أخرج فدية من احرما.
وقول الشهاب أحمد بن يوسف الغرناطي:
حضر العيد يا غزال وقد غب ... ت وذاك المغيب منك حرام.
كيف صومتنا عن الوصل في العي ... د وما حل يوم عيد وصيام.
وفي معناه لابن الدهان البغدادي:
نذر الناس يوم برئك صوما ... غير أنني نذرت وحدي فطرا.
عالما أن يوم برئك عيدا ... لا أرى صومه ولو كان نذرا.
وقول محمد بن جابر الأندلسي صاحب البديعية:
طلبت زكاة الحسن منها فجاوبت ... إليك فهذا ليس تدركه مني.
على ديون للعيون فلا ترم ... زكاة فإن الدين يسقطه عني.
وقول جعفر بن شمس الخرفة:
بنت كرم تجلى لنا وعليها ... تاج در من الحباب وعقد.
حد سكري منها ثمانون كأسا ... والثمانون هن للسكر حد.
وقول ولادة بنت المستكفي:
لحاظنا تجرحكم في الحشى ... ولحظكم يجرحنا في الخدود.
جريح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود.
ومن الاقتباس من أصول الفقه قول شمس الدين محمد التلمساني:
قضاة الحسن ما صنع بطرف ... تمنا مثله الرشأ الربيب.
رمى فأصاب قلبي باجتهاد ... صدقتم كل مجتهد مصيب.
وقل الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يرتضي.
فقلت أما لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي.
(1/141)
________________________________________
يشير إلى المسألة الأصولية وهي أنه إذا تعارض المانع والمقتضى يقدم المانع.
وقول ابن جابر:
جئتها طالبا لسالف وعد ... فأجابت لقد جهلت الطريقة.
إنما موعدي مجاز فقلت الأصل في سائر الكلام الحقيقة.
وقول الشيخ عبد علي بن ناصر الشهير بابن رحمة الحويزي:
وجهك لما قد غدا ظاهرا ... مخبرا عن أصلك الطاهر.
حققت من هذا الذي بان لي ... تطابق الأصل مع الظاهر.
وقوله:
يا هاجري وأنا المحقق حبه ... لحديث حب عن هواه بمعزل.
لو كنت من أهل الأصول وعلمها ... لعلمت باستصحاب حكم الأول.
ومن الاقتباس من علم المنطق قول الشيخ شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني:
للمنطقيين أشتكي أبدا ... عين رقيب فليته هجعا.
حاذرها من أحبه فأبى ... أن نختلي ساعة ونجتمعا.
كيف غدت دائما وما انفصلت ... ما نعمة الجمع والخلو معا.
وقد تعقب الشيخ صلاح الدين الصفدي هذه الأبيات في شرح اللامية: بأن المراد في مثل هذا أن يتعجب مما خرج عن القواعد، وهذه القضية موجودة مستعملة، وذلك قولهم: العدد إما زوج أو فرد، فهذه القضية مانعة الجمع، فإن الفردية والزوجية لا يجتمعان، ومانعة الخلو من أحدهما، فلا معنى للتعجب. انتهى.
وقلده في مثل هذا التعجب جماعة كابن حجة وغيره ممن لا يعرف هذا العلم.
وأنا أقول: إن تعجبه ليس من وجود هذه القضية فقط، بل من وجودها مع عدم انفصالها، ومانعة الجمع والخلو لا تكون إلا منفصلة البتة، للحكم بانفصال أحد النسبتين فيها عن الأخرى؛ كما هو صريح قوله (كيف غدت دائما وما انفصلت) ؛ فالتعجب في محله فاعلم.
ومنه قول المحقق نصير الدين الطوسي رحمه الله تعالى:
مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء ****** متصلة.
تمنعنا الجمع والخلو معا ... وإنما ذاك حكم منفصلة.
وقوله وأجاد ما شاء رحمه الله:
ما لمثال الذي ما زال مشتهرا ... للمنطقيين في الشرط تسديد.
أما رأوا وجه من أهوى وطرته ... الشمس طالعة والليل موجود.
وقلت أنا في ذلك:
تجن واعتب تجد مني بذاك رضا ... والعذر إن شئت مسموع ومقبول.
ولم أواخذك في ذنب ولا عتب ... فالذنب والعتب موضوع ومحمول.
وقلت أيضاً:
والله لو رمت في غرامي ... إلزام من عنه قد نهاني.
أقمت من حاجبي حبيبي ... عليه برهاناً اقتراني.
وقال آخر:
تالله ما لمعذبي في حسنه ... شبه فأي حشا عليه لم يهم.
لام العذار وميم مبسمة على ... ما أدعي من حسنه برهان لم.
وأما الاقتباس من علم النحو فكثير جدا؛ حتى غلب على غالبهم فيه التوجيه.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
وإنما نحن في جيل سواسية ... شر على الحر من سقم على البدن.
حولي بكل مكان منهم حلق ... تخطي إذا جئت في استفهامه بمن.
(من) إنما يستفهم بها عمن يعقل؛ يقول: هؤلاء كالبهائم التي لا تعقل؛ فالاستفهام عنهم (بمن) بأن يقال لهم: من أنتم؛ أو من هم خطأ إنما ينبغي أن يستفهم عنهم (بما) لأن موضوعها لما لا يعقل، فيقال لهم: ما أنتم؛ أو ما هم.
ويحكى أن جريرا لما قال:
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا.
قال له الفرزدق: ولو كان ساكنة قرودا؟ فقال: لو أردت هذا لقلت: ما كانا؛ ولم أقل من كانا.
وروي أن ابن الزبعرى لما سمع قوله تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" قال: لأخصمن محمداً؛ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد المسيح؟ فيكون هؤلاء حصب جهنم؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: ما أجهلك بلغة قومك؛ (ما) لما لا يعقل.
ومنه قول المتنبي:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم.
وقوله:
إذا كان ما ينويه فعلا مضارعا ... مضى قبل أن تلقي عليه الجوازم.
يقول: إذا نويت فعلا أوقعته قبل فوته؛ وقبل أن يقال: لم يفعل=عل؛ وإن يفعل.
وقول أبي العلاء المعري:
فدونكم خفض الحياة فإننا ... نصبنا المطايا بالفلاة على القطع.
وقول نجم الدين الحنفي:
أضمرت في الحب هوى شاد ... مشتغل بالنحو لا ينصف.
(1/142)
________________________________________
وصفت ما أضمرت من حبه ... فقال لي المضمر لا يوصف.
وما أحسن قول أبي المحاسن يوسف بن إسماعيل الشواء:
هاتيك يا صاح ربى لعلع ... ناشدتك الله فعرج معي.
وانزل بنا بين بيوت النقا ... فقد غدت آهلة المربع.
حتى نطيل اليوم وقفا على ال ... ساكن أو عطفا على الموضع.
وقوله وكان كثيرا ما يستعمل هذا النوع في شعره:
وكنا خمسة عشر في التئام ... على رغم الحسود بغير آفة.
فقد أصبحت تنوينا وأضحى ... حبيبي لا تفارقه الإضافة.
وقوله في غلام عقد أحد صدغيه وأرسل الآخر:
أرسل صدغا ولوى قاتلي ... صدغا فأعيا بهما واصفه.
فخلت ذا في خده حية ... تسعى وهذا عقربا واقفة.
ذا ألف ليست لوصل وذا ... واو ولكن ليست العاطفة.
وقوله أيضاً:
هواك يا من له اختيال ... مالي على مثله احتيال.
قسمة أفعاله لحيني ... ثلاثة مالها انتقال.
وعدك مستقبل وصبري ... ماض وشوقي إليك حال.
وقوله أيضاً:
أرى الصفع أورد منه القذالا ... وأوسع من أخدعيه المجالا.
وأسلاه عن حب ذات اللمى ... وإن هي راقت وفاقت جمالا.
لئن كان قد حال ما بينه ... وبين ******ة صفع توالى.
فقد يحدث الظرف بين المضاف ... وبين المضاف إليه انفصالا.
وقوله أيضاً:
وجارة قلت لها ألا ... رعيت في الحب لنا إلا.
وطرفك الأزرق ما باله ... يحث فينا لحظة القتلا.
قالت ألا تقبل طرفا حكى ... لون سنان الرمح والشكلا.
قد عملت إن على أنها ... حرف وقد أشبهت الفعلا.
ومن لطيف ما يحكى هنا، إن شرف الدين بن عنين الشاعر مرض فكتب إلى الملك المعظم صاحب دمشق هذين البيتين:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي.
أنا كالذي احتاج ما تحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي.
فعاده الملك المعظم ومعه خمسمائة دينار، وقال له: أنت (الذي) وأنا (العائد) وهذه (الصلة) .
ونظم هذا المعنى الصفي الحلي يشكر رئيسا عاده في مرضه فقال:
لما رأت علياك أني كالذي ... أبدو فينقصني السقام الزائد.
وافيتني ووفيت لي بمكارم ... فنداك صلة وأنت العائد.
وقال أيضاً: وعلمت أني في محبتك الذي=فنداك لي صلة وبرك عائد.
وما ألطف قول البهاء زهير المصري في ذلك من قصيدة:
يقولون لي أنت الذي سار ذكره ... فمن صادر يثني عليك ووارد.
هبوني كما تزعمون أنا الذي ... فأين صلاتي منكم وعوائدي.
وما أحسن قوله منها:
فعلتم وقلتم واستطلتم وجرتم ... ولست عليكم في الجميع بواحد.
إذا كان هذا بالأقارب فعلكم ... فما الذي أبقيتم للأباعد.
وله في المعنى الأول:
فديت حبيبا زارني متفضلا ... وليس ذاك على التفضل زائدا.
وما كثرت مني إليه رسائل ... ولا مطلت بالوصل منه مواعد.
رآني عليلا في هواه فعاداني ... حبيب له بالمكرمات عوائد.
فمت كمدا يا حاسدي فأنا الذي ... له صلة ممن يحب وعائد.
وقال آخر:
لا تهجروا من لا تعود هجركم ... وهو الذي بلبان وصلكم غذي.
ورفعت مقداره بالإبتدا ... حاشاكم أن تقطعوا صلة الذي.
وقال الشيخ شرف الدين العصامي من فضلاء العصر:
قد ذبت من ألم البعا ... د وسقمي المتزايد.
وأنا الذي موصول حبكم فهل من عائد.
وقال الأمير أمين الدين علي بن عثمان السليماني في المعنى:
وأنا الذي أضنيته وهجرته ... فهل صلة أو عائد منك للذي.
وقال ابن أبي حجلة:
قطع الأحبة عادتي من وصلهم ... فكأن قلبي بالتواصل ما غذي.
فإذا سمعتم في النحاة بعاشق ... منعوه من صلة له فأنا الذي.
وما أحلى قول ابن الوردي:
وشادن يقول لي ... ما المبتدأ وما الخبر.
مثلهما لي مسرعا ... فقلت أنا القمر.
وقوله أيضاً:
وأغيد يسألني ... أيبتدى بالمضمر.
قلت نعم كقولهم ... أنت شبيه القمر.
وقول بعضهم:
يا مانعي القلب إلا عن مودتهم ... وصار في الطرف إلا عنهم نظرة.
(1/143)
________________________________________
صيرتموا خبري في الحب مبتدأً ... وكل معرفة لي في الهوى نكرة.
ومنه أخذ ابن الوردي حيث قال:
أنتم أحباي وقد ... فعلتم فعل العدى.
حتى تركتم خبري ... للعاشقين مبتدا.
وقال آخر: قالوا أحب مليحا ما تأمله=فكيف حل به للسقم تأثير.

فقلت قد يعمل المعنى لقوته ... في ظاهر الاسم رفعا وهو مستور.
وقال القاضي ابن الخطير:
وأهيف أحدث لي نحوه ... تعجبا يعرب عن ظرفه.
علامة التأنيث في لفظه ... وأحرف العلة في طرفه.
وقال آخر:
والله ما من خبر سرني ... إلا وذكراك له مبتدا.
وطالما باسمك في خلوتي ... ناديت واستخدمت حرف الندا.
وقال القاضي الفاضل:
لي عنده دين هل له ... من طالب وفؤادي المرهون.
فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصله التنوين.
وقال أبو الفتح البستي:
عزلت ولم أذنب ولم أك خائنا ... وهذا لإنصاف الوزير خلاف.
حذفت وغير ي مثبت في مكانه ... كأني نون الجمع حين يضاف.
وقال الصفي الحلي:
في روضة نصبت أغصانها فغدا ... ذيل الصبا بين مرفوع ومجرور.
والماء ما بين مصروف وممتنع ... والظل ما بين ممدود ومقصور.
والريح تجري رخاء فوق بحرتها ... ومطلق ماؤها في زي مأسور.
قد جمعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكسير.
وقوله:
فلو استطعت رفعت حالي نحوكم ... لكن رفع الحال ليس يجوز.
وقول الفقيه أبي الحسين بن جبير الشاطبي الغرناطي:
تغير إخوان هذا الزمان ... وكل صديق عراه الخلل.
وكانوا قديما على صحة ... فقد داخلتهم حروف التعليل.
قضيت التعجب من أمرهم ... فصرت أطالع باب البدل.
وقول ابن العفيف:
يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواه ثاني.
لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان.
وقد أورد الصلاح الصفدي على هذين البيتين نقدا حسنا فقال: إن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما وهو الأول، وكلامه يؤدي إلى أن المكسور غيرهما. انتهى.
وتكلف بعضهم في الجواب عنه بأنه يمكن توجيه ذلك، بجعل في للسببية، أي لأي سبب كسرت قلبي، والحال انه ما التقى فيه ساكنان، بسبب سكونه وإخلاده إلى حضيض الاطمئنان وعدم تحركه واضطرابه خوفا من طروق نار الهجر، فيكون إذا أحد الساكنين، ويحسن توجيه السؤال عن كسره بلامين. انتهى.
ونظم بعضهم جوابا للبيتين فقال:
سكنته وهو ذو سكون ... لم يثنه عن هواي ثان.
فكان كسري له قياسا ... لما التقى فيه ساكنان.
وقال مجيبا عنهما أيضاً بعض فضلاء المغرب:
نحلتني طائعا فؤادا ... فصار إذا حزته مكاني.
لا غرور إذا كان لي مضافا ... إني على الكسر فيه باني.
ولأبي الحسن الباخرزي يهجو:
سئلت عن نائك الوزير أبي ... سعد وقد مزقت أسافله.
فقلت دعني فإنه رجل ... مفعول ما لم يسم فاعله.
ومن الاقتباس في علم الصرف قول الباخرزي:
أجدك لا ينفك قلب محبس ... عليك وإبصار إليك شواخص.
فطرفك معتل وجسمك سالم ... وصدغك مهموز وخصرك ناقص.
ومن الاقتباس في علم البيان قول الشيخ عبد علي بن رحمة:
قد قلت للبدر التمام منزلها ... عنه معذب مهجتي تنزيها
أشبهته لما استعرت جماله ... والاستعارة تقتضي التشبيها
وقوله أيضاً:
ولا تعجب لهجر من حبيب ... قريب الدار مرجو الوصال
فحكم الجملتين الفصل حتما ... وبينهما كمال الاتصال
ومن الاقتباس من علم البديع قوله ابن رحمة المذكور أيضاً:
وحوراء العيون إذا تجلت ... لجيش الهم آذن بالشتات
إذا التفت أفادتني نشاطاُ ... وذلك وجه حسن الالتفات
ومن الاقتباس من علم العروض قول أبي نصر الله المصري
وبقلبي من الجفاء مديد ... وبسيط ووافر وطويل
لم أكن عالما بذاك إلى أن ... قطع القلب بالفراق الخليل
وقول الشيخ شهاب الدين بن صارو:
وبي عروضي سريع الجفا ... وجدي به مثل جفاء طويل
قلت له قطعت أسى ... فقال لي التقطيع دأب الخليل
وقال سراج الدين الوراق:
(1/144)
________________________________________
قلت صلني فقد تقيدت في الحب به والإسار في الحب ذل
قال يا من يريد علم القوافي ... لا تغالط ما للمقيد وصل
وقول برهان الدين القيراطي:
ومليح علم الخليل يعاني ... ليته لو غدا خليل خليع
رمت وصلا منه فقال لحاظي ... ناطقات بأحرف التقطيع
أحرف التقطيع التي تتألف منها الأجزاء الموزون بها عشرة يجمعها قولك (لمعت سيوفنا) هذا الذي أشار إليه.
وقول ابن جابر الأندلسي:
سبب خفيف خصرها ووراءه ... من ردفها سبب ثقيل ظاهر
لم يجمع النوعان في تركيبها ... إلا لأن الحسن فيها وافر
وقول ابن العدوي:
بي عروضي مليح ... موتتي فيه حياة
عاذلاتي في هواه ... فاعلاتن فاعلات
وقول بعضهم يهجو:
وجهك يا عمرو فيه طول ... وفي وجوه الكلاب طول
والكلب يحمي عن الموالي ... ولست تحمي ولا تصول
مستفعلن فاعلن فعول ... مستفعلن فأعلن فعول
بيت كما أنت ليس فيه ... شيء سوى أنه فصول
وقول أبي جعفر الألبري رقيق لبن جابر وشارح بديعيته:
دائرة الحب قد تناهت ... فما لها في الهوى مزيد
فبحر شوقي بها طويل ... وبحر دمعي بها مديد
وإن وجدي بها بسيط ... فليفعل الحب ما يريد
وقول بعضهم:
يا كاملا شوقي إليه وافر ... وبسيط وجدي في هواه عزيز
عاملت أسبابي لديك بقطعها ... والقطع في الأسباب ليس يجوز
وقول يحيى الأصيلي:
وبي عروضي إذا ... أبصره لبدر احتجب
أعطافه لصبه ... فاصلة بلا سبب
ومن الاقتباس من علم النجوم قول ابن الساعاتي:
تعجبت من نحولي وهي واصلة ... توهما أنني بالوصل انتفع
وما درت أن خديها ومصطبري ... كجذوة النار منها قرب الشمع
والبدر يكمل حيث الشمس نائية ... عنه ويمحق إذ بالشمس يجتمع
وقول ابن قلاقس يشير إلى أن نور البدر عرضي:
ما أنت والقمر المنير وإن غدا ... ملء العيون وراقهن سواء
للبدر بالعرض الضياء وأنت قد ... جمعت بجوهر ذاتك الأضواء
وقول أبي إسحاق الغزي:
لست أنسى قول سلمى ذات يوم ... ما لهذا المنحني الظهر ومالي
أنا شمس في الضحى وهو هلال ... وكسوف الشمس من قرب الهلال
وفي معناه قول ابن التلميذ:
أشكو إلى الله صاحبا شكا ... تسعفه النفس وهو يعسفها
فنحن كالشمس والهلال معا ... تكسبه النور وهو يكسفها
وقول الطغرائي:
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
وما أحسن ما ضمنه الشيخ صلاح الدين الصفدي فقال:
أفدي حبيبا له في كل جارحة ... مني جراح بسيف اللحظ والمقل
تقول وجنته من تحت شامته ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
ومنه قول الأخر وأجاد:
وصل ****** جنان الخلد اسكنها ... وهجره النار يصليني به النارا
والشمس في القوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وفي الجوزاء إن زارا
ولهذين البيتين حكاية حكاها الخطيب في تاريخه أبي محمد إسماعيل ابن أبي منصور موهوب الجواليقي قال: كنت في حلقة والدي والناس يقرؤن عليه فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي بيتان من الشعر لم أفهم معناهما، وانشد البيتين، فقال له والدي: يا بني هذا من علم النجوم، لا من علم الأدب، ثم قام من الحلقة وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم، ويعرف تسيير الشمس، فنظر في ذلك وعرف ثم جلس في الحلقة. ومعنى البيتين: أن محبوبته إذا لم تزره فليله في غاية طوله، وإذا زارته فليله في غاية قصره، كنى بكون الشمس في القوس عن غاية طول الليل لأن ذلك لا يكون إلا والشمس بهذا البرج، وبكونها في الجوزاء عن غاية قصره، لأن ذلك لا يكون إلا والشمس فيها.
وقول ابن جابر:
يا حسن ليلتنا التي قد زارني ... فيها فأنجز ما مضى من وعده
قومت شمس جماله فوجدتها ... في عقرب الصدغ الذي في خده
وقول أبي الحسن الباخرزي:
أطلعت يا قمري على بصري ... وجها شغلت بحسنه نظري
ونزلت في قلبي ولا عجب ... فالقلب بعض منازل القمر
ومن الاقتباس من علم الهندسة، قول ابن جابر:
(1/145)
________________________________________
محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأن به إقليدسا يتحدث
فعارضه خط استواء وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث
وقول ابن التلميذ أو غيره:
تقسم قلبي في محبة معشر ... بكل فتى منهم هواي منوط
كأن فؤادي مركز وهم له ... محيط وأهوائي إليه خطوط
وقول الشيخ عبد علي بن رحمة رحمه الله:
وفتاة قد أقبلت تتهادى ... بين حور كواعب كالشموس
قلت للهندسي لما تبدت ... مثل هذا يكون شكل العروس
ومن الاقتباس من علم الحساب، قول ابن جابر الأندلسي:
قسم العلم في الغرام بلحظ ... يضرب القلب حين يرسل سهمه
هذه في هواه يا قوم حالي ... ضاع قلبي ما بين ضرب وقسمة
وقول كمال الدين بن النبيه:
خدمت بديوان المحبة ناظرا ... على غرة يا ليتني كنت عاملا
وحاسبت فرط السقم وحدي فلم يكن ... بواقيه إلا أعظما ومفاصلا
وقول بعضهم:
ولقد علمت حساب صبري بعدكم ... ونظمته في هذه الأوراق
وأقمت صبري حاصلا وأصبت ما ... وجبت أضافته إلى العشاق
وخصمت بالمضروب حتى وفره ... فوحقكم ما انساق عندي باق
وقول ابن رحمة:
وإذا جالس الكريم لئيما ... لم يفد غير نقصه من أفاده
مثل ضرب الصحيح بالكسر لا يث ... مر إلا نقصا بغير زيادة
وقوله:
قلت له كسرت قلبي ويدي ... عندك ما قابلتها بنافله
فاجبر وقابل منعما فقال ما ... قرأت علم الجبر والمقابلة
وهذا المقدار كاف في الاقتباس من القرآن والحديث وعلم الفقه وغيره من العلوم، وأكثر الاقتباس من الشواهد المذكورة، ما عدا شواهد القرآن والحديث يدخل في نوع التوجيه، وهو الذي جرى عليه أرباب البديعيات كما سيأتي بيانه في نوع التوجيه إن شاء الله تعالى وأصحاب البديعيات لم يقتبسوا من غير القرآن.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورا على غنمي
اقتبسه من قوله تعالى حكاية عن موسى (هي عصاي أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) .
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ... ولا اقتباس يرى من هذه الأطم
الأطم بضمتين: القصر، وكل حصن مبني بحجارة، وهو صريح في أن الأطم مفرد، فالإشارة إليه (بهذه) غير صحيح، وكأنه توهم أنه جمع فأشار إليه بذلك.
وأحسن اقتباس هذه الآية الشيخ أبو إسحاق الباعوني حيث قال:
إذا رأيت ذوي ظلم فقل لهم ... ستندمون وحاذر أن تساكنهم
كم مثلهم في الورى كانوا جبابرة ... فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم
قافية هذا البيت متداعية، وما أحوجه إليها إلا اسم النوع.
وبيت بديعتي قولي:
قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وقد ... أوروا بجنبي نارا باقتباسهم
تمكين القافية في هذا البيت، واشرق نور الاقتباس فيه مع التورية، لا يخفى على من له أدنى ذوق في الأدب والاقتباس من قوله تعالى في سورة الأنفال (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ولم يذكر ابن حجة بيت بديعية العميان في هذا النوع.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
هم أشدا على الكفار والرحما ... ما بينهم اقتباس الود والسلم
هذا البيت أضعف البيوت، وأوهن من بيت العنكبوت، وابن فصاحة الآية الشريفة من هذا الاقتباس، فأنه اقتبسه من قوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) فانظر إلى هذه البلاغة الشريفة، واقتباس الشيخ منها.

المواربة
هديت يا لائمي فاترك مواربتي ... فليس يحسن إلا ترك ودهم
المواربة - براء مهملة فباء موحدة - في اللغة المداهاة المخاتلة، كذا في القاموس، وفي الحديث: وإن بايعتهم واربوك، أي خادعوك، من الورب وهو الفساد، وقد ورب يرب، ويجوز أن يكون من الإرب وهو الدهاء، وقلبت الهمزة واوا -قاله في النهاية- وقال ابن أبي الإصبع: هي مشتقة من ورب العرق -بفتح الواو والراء- إذا فسد فهو ورب بكسر الراء، كأن المتكلم أفسد مفهوم ظاهر كلامه بما أبداه من تأويل باطنه.
(1/146)
________________________________________
وحقيقة المواربة: أن يقول المتكلم قولا يتضمن ما ينكر عليه فيه بسببه وتتوجه عليه المواخذة فيستحضر بحذقة وجها من الوجوه التي يمكن التخلص به من تلك المؤاخذة، أما بتحريف كلمة أو تصحيفها، أو بزيادة أو نقص، أو غير ذلك من الوجوه. انتهى.
وظاهر أنه لا يتعين نقلها إلى الاصطلاح من الورب بمعنى الفساد بل يجوز أن يكون من المداهات والمخاتلة كما في القاموس، بل هو أنسب بالمعنى الاصطلاحي كما لا يخفى.
قال ابن أبي الإصبع: ومنه قوله تعالى حكاية عن أكبر أولاد يعقوب (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) ولم يسرق، فأتى بالكلام على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد في الراء وكسرتها، انتهى، وهو من المواربة بالتحريف.
وأحسن شاهد وقع في هذا النوع في الشعر وهو من التخلص بالتحريف أيضاً، ما روي: أن عبد الملك بن مروان أحضر إليه رجل يرى رأي الخوارج وهو عتبان الحروري بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوقها وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون_فقال له: ألست القائل يا عدو الله.

فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين سبيب
فقال: لم أقل كذا يا أمير المؤمنين، وإنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب -ونصب أمير المؤمنين- فاستحسن قوله وأمر بتخليته.
وهذا الجواب في نهاية الحسن، فأنه إذا كان (أمير) مرفوعا كان مبتدأ فيكون: شبيب أمير المؤمنين، وإذا كان منصوبا فقد حذف منه حرف النداء ومعناه: يا أمير المؤمنين من شبيب، فلا يكون أمير المؤمنين بل يكون منهم.
وشاهد التصحيف في المواربة ما حكي: أنه أحضر أبو المقداد الهذلي عند جعفر بن سليمان الهامشي، فقال له جعفر بن سليمان: أنت القائل في؟
يا ابن الزواني من بني معاوية ... أنت لعمري منهم ابن الزانية
ثم قال: وهذا خطك. فقال صدقت هو خطي، ولكن إنما قلت: يا ابن الرواثي أنت ابن الراثية، أي اللواتي ينحن على موتاهن.
ومنه أنه اجتمع جماعة من الصوفية على علوية الشاعر وقالوا له: أنت قلن (طاب لنا الرفض بغير حشمة) ؟ فقال: إنما قلت: طاب لنا الرفض، بالصاد المهملة، فانصرفوا عنه.
ومن لطيفه ما حكي: أن بعض الملوك كان له ولد أسمه يحيى، ووزير اسمه نجم، وكان الوزير يهوى ولد الملك، فبلغ به الحب حتى كتب على فض خاتمه (نجم عشق يحيى) فوشى به بعض أعدائه إلى الملك؛ فدعاه ولامه على عشقه لولده؛ وكتابته ذلك على خاتمه؛ وتهدده بالوعيد الشديد؛ فأنكر أنه يعشقه وقال: إنما كتبت في خاتمي دعاء وتوسلا باسم سورة من القرآن وهو (بحم عسق نجني) فصحف النون بباء موحدة؛ والجيم بحاء مهملة والشين المعجمة بالمهملة؛ واليائين المثناتين من تحت بنونين؛ والحاء المهملة بجيم.
ومن بديعه قول الشيخ عز الدين الموصلي لما بلغه وفاة القاضي فتح الدين -وكان يرجح جانب الشيخ عز الدين بن المزين على جانب عز الدين الموصلي، لبغض كان في خاطره لا لاستحقاق:
دمشق قالت لنا مقالا ... معناه في ذا الزمان بين
اندمل الجرح واسترحت ... نفسي من الفتح والمزين
هذا ذكره ابن حجة في شرح بديعته ولم يبين وجه المواربة فيه. وقد خفي على بعضهم وجهها وهو في قوله: الفتح، فأنه إنما قصد فتح الدين بن الشهيد، حتى إذا أنكر عليه ذلك قال: إنما قلت: القيح، فيصحف الفاء بالقاف؛ والتاء المثناة من فوق بالياء المثناة من تحت، وهو مناسب للجرح.
وقريب من ذلك أن الوزير أبا محمد بن سفيان من وزراء المغرب كتب إلى أبي أمية بن عصام: عين زمانه، فوقعت نقطة على العين، فتوهمها وظن أنه أبهمها.
فكتب إليه الوزير أبو محمد:
لا تلزمني ما جنته يراعة ... طمست بريقتها عيون ثنائي
حقدت علي لزامها فتحولت ... أفعى تمج سمامها بسخاء
غدر الزمان وأهله عرف ولم ... أسمع بغدر يراعة وإناء
وشاهد المواربة بالحذف، قول أبي نواس في خالصه جارية الرشيد هاجيا لها وكانت سوداء:
لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع حلي على خالصة
فلما بلغ الرشيد ذلك تهدده بسببه فقال: لم أقل ذلك وإنما قلت:
لقد ضاء شعري على بابكم ... كما ضاء حلي على خالصة
(1/147)
________________________________________
فاستحسن الرشيد مواربته، وقال بعض الحاضرين: لله دره من شعر قلعت عيناه فأبصر.
ومن شواهدها بغير ذلك: قصة أبي مسلم الخراساني مع سليمان بن كثير وهي: أن أبا مسلم قال لسليمان: بلغني أنك كنت في مجلس، وقد جرى ذكري فقلت: اللهم سود وجهه واقطع رأسه واسقني من دمه، فقال نعم قلت ذلك، ونحن جلوس تحت كرم حصرم؛ فاستحسن أبو مسلم ذلك منه. انتهى.
وغلط ابن حجة في عد هذه الواقعة من نوع الإبهام، بل هي من نوع المواربة قطعا، كما ذكره بعض الفضلاء المتأخرين، لما اشتملت عليه من إفساد سليمان بن كثير ظاهر كلامه بتأويله بما لا يخطر ببال، ولا يتبادر إلى ذهن، من إرجاع ضمائره إلى الحصرم، ولا يعد إبهاما كما قدمنا الكلام عليه في نوع الإبهام.
ومنها ما روي: إن المتوكل رمى عصفورا فأخطأه فقال ابن حمدون النديم: أحسنت والله يا سيدي، فاستشاط المتوكل غيظا وقال: ويلك أتهزأ بي؟ أحسنت؟ فقال: إلى العصفور يا أمير المؤمنين، فسكن غيظه وضحك، فافسد ظاهر كلامه بجعله أحسنت بمعنى أسديت الإحسان إلى العصفور بعدم أصابتك له.
ومنها ما حكي: أن المعذل (وكان شيعيا) مر بقوم من النواصب فسلم عليهم، فلم يجيبوه فقال: لعلكم تظنون في ما يقال من الرفض؟ اعلموا أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا عليه السلام، من تنقص واحدا منهم فهو كافر وامرأته طالق، فسر القوم بذلك، ودعوا له، فقال له أصحابه: ويحك ما هذه اليمين؟ فقال: إني أردت بقولي واحدا منهم عليا وحده لا غير.
ومثل ذلك ما روي أن بعض النواصب قال لرجل من الشمعة: ما تقول في العشرة من الصحابة؟ قال: أقول فيهم الخير الجميل الذي يحبط الله به سيأتي، ويرفع درجاتي، قال السائل: الحمد لله على ما أنقذني من بغضك كنت أظنك رافضيا تبغض الصحابة؛ فقال الرجل: من أبغض واحدا من الصحابة فعليه لعنة الله، قال: لعلك تتأول، ما تقول فيمن أبغض العشرة من الصحابة؟ فقال: من أبغض العشرة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فوثب فقبل رأسه وقال: اجعلني في حل مما قذفتك به من الرفض قبل اليوم، قال أنت في حل وأنت أخي، ثم انصرف السائل. وأراد بقوله: من أبغض واحدا من الصحابة: عليا عليه السلام، بقوله من أبغض العشرة جميعا، فيكون علي عليه السلام داخلا فيهم.
وقريب من هذا ما روي عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: أن حزقيل مؤمن آل فرعون كان يدعو قوم فرعون إلى الإيمان، فوشي به واشون إلى فرعون، وقالوا: أن حزقيل يدعو إلى مخالفتك، ويعين أعداءك على مضادتك، فقال لهم فرعون: ابن عمي وخليفتي على ملكي وولي عهدي، إن فعل ما قلتم فقد استحق العذاب على كفره نعمتي، وان كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشد العقاب لا يثاركم الدخول في مسائته. فجيء بحزقيل وجيء بهم وكاشفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبية فرعون الملك وتكفر نعماه، فقال حزقيل: أيها الملك هل جربت علي كذبا قط؟ قال: لا، قال: فسلهم من ربهم؟ قالوا فرعون، قال: ومن خالقكم؟ قالوا: فرعون هذا، قال: ومن رازقكم الكافل لمعائشكم، والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا: فرعون هذا، قال حزقيل أيها الملك فأشهدك وكل من حضرك أن ربهم هو ربي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معاشهم هو مصلح معاشي؛ لا رب ولا خالق ولا رازق غير ربهم وخالقهم ورازقهم، فاشهد لي ومن حضرك أن كل رب وخالق ورزاق سوى ربهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريء منه ومن ربوبيته، وكافر بإلهيته.
يقول حزقيل هذا وهو يعني أن ربهم هو الله ربي، ولم يقل: أن الذي قالوا أنه ربهم هو ربي. وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره، وتوهموا أنه يقول: فرعون ربي وخالقي ورازقي، فقال لهم فرعون: يا رجال السوء ويا طلاب السوء في ملكي، ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمي وهو عضدي أنتم المستحقون لعذابي لإرادتكم فساد أمري، وأهلاك ابن عمي، والفت في عضدي، ثم أمر بالأوتاد؛ فجعل في ساق كل واحد منهم وتدا، وفي صدره وتدا، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فمشطوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال الله تعالى (فوقاه الله سيئات ما مكروا) لما وشوا به إلى فرعون ليهلكوه (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) وهم الذين وشوا بحزقيل إليه لما أوتد فيهم الأوتاد، ومشط عن أبدانهم لحومهم بالأمشاط.
(1/148)
________________________________________
ومنها ما ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر في ترجمة أبي القاسم الكسروي قال: كان يقول: قولي لعدوي: أعزك الله، إنما أريد أعزه الله حتى لا يوجد في الدنيا، وقولي: أطال الله بقاك: وأدام عزك وتأييدك، وجعلني فداك، أي من هذا الدعاء كله، فصار الدعاء لي دونه.
وقد ذكر بعضهم في هذا النوع أمثلة ليست منه قطعا فلا يغتر بها.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
لأنت عندي أخص الناس منزلة ... إذ كنت أقدرهم عندي على السلم
المواربة في (أخص) يريد بها (أخس) بالسين المهملة و (أقدرهم) يريد بها (أقذرهم) بالذال المعجمة.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
لأنت أفتح ذهنا في مواربة ... وبالتعقل منسوب إلى النعم
مراده ب (أفتح) ؛ (أقبح) بالقاف والباء الموحدة؛ و (بالتعقل) ؛ (التغفل) بالغين المعجمة والفاء، وب (النعم) بكسر النون (النّعم) بفتحها وهو اسم جامع للإبل وغيرها.
وبيت بديعية لبن حجة قوله:
يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا ... توارب العقل مني واستفد حكمي
أراد ب (محبوب) ، (مجنون) وبلفظة (توارب) ، (توازن) .
ولم ينظم الشيخ عبد القادر الطبري هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعيتي هو قولي:
هديت يا لائمي فاترك مواربتي ... فليس يحسن إلا ترك ودهم
المواربة في موضعين: أحدهما (هديت) من الهدى، والمراد (هذيت) بالذال المعجمة من الهذيان وهو التكلم بغير معقول لمرض أو غيره، والثاني (يحسن) بالحاء والسين المهملتين، والمراد (يخشن) بالخاء والشين المعجمتين.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
والعاذلان على من قده غصن ... كالبان هزا متى ما ناضحا اتهم
هذا البيت بديع في هذا النوع جدا؛ والمواربة في قوله (كالبان هزا) فأن الظاهر أن الكاف للتشبيه، والبان: الشجر المعروف، وهزا بالزاي المعجمة تمييز من هز الغصن يهزه: إذا حركه، والمراد (كلبان) تثنيه كلب، و (هرا) بالراء المهملة من هرير الكلب، وهو صوته دون نباحه من قلة صبره على البرد.

التفويف
أحسن أسئ ظن حقق أدن أقص أطل ... حك وش فوف أبن أخف ارتحل أقم
التفويف: مشتق من قولهم: برد مفوف، وهو الذي فيه خطوط بيض تغاير سائر لونه. وحقيقته: إتيان المتكلم بمعان شتى من أغراض الشعر من غزل أو مدح أو غير ذلك في جمل من الكلام، كل جملة منفصلة من أختها مع تساوي الجمل في الوزنية، ويكون بالجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة وهي أحسنها، لدلالتها على قدرة الشاعر وتذليله صعب الألفاظ، فأنها أصعب مسلكا مما كان بالجمل الطوال والمتوسطة، ووجه تسمية ذلك بالتفويف أن المتكلم خالف بين جمل المعاني في التقفية كمخالفة البياض لسائر الألوان لأن بعده من سائر الألوان أشد من بعد بعضها من بعض، فكان الكلام حينئذ برد مفوف.
وعلى ذلك فما أحلى قول أبي محمد عبد الله بن محمد التنوخي المعروف بابن قاضي ميلة من قصيدته المشهورة:
ولما التقينا محرمين وسيرنا ... بلبيك ربا والركائب تعسف
نظرت إليها والمطي كأنما ... غواربها منها معاطس رعف
فقالت أما فيكن من يعرف الفتى ... فقد رابني من طول ما يتشوف
أردنا إذا سرنا يسير حذاءنا ... ونوقف أخفاف المطي فيوقف
فقلت لتربيها أبلغاها بأنني ... بها مستهام قالتا نتطلف
وقولا لها يا أم عمر وأليس ذي ... منى والمنى في خيفه ليس تخلف
تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا ... بأن عن لي منك البنان المطرف
وفي عرفات ما يخبر أنني ... بعارفه من عطف قلبك أسعف
وأما دماء الهدي فهي هدى لنا ... يؤم ورأي في الهوى يتألف
وتقبيل ركن البيت إقبال دولة ... لنا وزمان بالمودة يعطف
فأوصلتا ما قلته فتبسمت ... وقالت أحاديث العيافة زخرف
بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه برد الكلام المفوف
وما أحسن ما قال بعده:
فلا تأمنا ما استطعتما كيد نطقه ... وقولا سدري أينا اليوم أعيف
إذا كنت في منى الفوز بالمنى ... ففي الخيف من أعراضنا تتخوف
وقد أنذر الإحرام أن وصالنا ... حرام وأنا عن مزارك نصدف
(1/149)
________________________________________
وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر ... بأن النوى بي عن ديارك تقذف
وحاذر نفاري ليلة النفر أنه ... سريع فقل من بالعيافة أعرف
فلم أر مثلينا خليلي مودة ... لكل لسان ذو غرارين مرهف
وبعده وهو مثال التفويف بالجمل الطويلة:
إلا أنه لولا أغن مهفهف ... وأشنب براق واحور أوطف
لراجع مشتاق ونام مسهد ... وأيقن مرتاب وأقصر مدنف
ومن ذلك قول النابغة أيضاً:
فلله عينا من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاما واكبر سيدا ... وأفضل مشفوعا إليه وشافعا
وقول ابن عنين:
دعت في أعالي السعد يوما حمامة ... على فنن في ظل ريان باليم
فهاجت مشوقا واستفزت متيما ... وأبكت غربيا واستخفت أخا حلم
وقول الآخر:
ولو أن ما بي بالجبال لدكدكت ... وبالنار أطفاها وبالماء لم يجر
وبالناس لم يحيوا وبالدهر لم يكن ... وبالشمس لم تطلع وبالنجم لم يسر
وقول بديع الزمان الهمداني:
ما الليث مقتحما والسيل مرتطما ... والبحر ملتطما والليل مقتربا
أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة ... أجدى يمينا وأدنى منك مطلبا
وكاد يحيك صوت الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
وقوله من قصيدة يذكر فيها أباه ويمدح خلف بن أحمد والي سجستان:
يذكرني قرب العراق وديعة ... لدى الله لا ينسيه مال ولا أهل
إذا ورد الحجاج وافي رفاقهم ... بفوارتي دمع هما النجل والسجل
يسائلهم كيف ابنه أين داره ... إلى م انتهى لم يعد هل له شغل
أضافت به حال أحالت أطالت له يد ... أأخره نقص أقدمه فضل
يقولون وافي حضرة الملك الذي له الكنف المألوف والنائل الجزل
فقيد له طرف وحلت له حبي ... وخير له قصر ودر له نزل
المثال في البيت الثالث والرابع والأخير.
ومثاله بالجمل المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك إن حملت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واحتكم أصبر وعزَّاهن ... ودل أخضع وقل أسمع ومراطع
المثال البيت الأخير.
ومثال ما جاء بالجمل القصار قول المتنبي:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من قبل الإحسان لا قبلي
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل ادن سر صل
روي أنه لما انشد أبو الطيب سيف الدولة هذه القصيدة التي هذان البيتان منها، وناوله نسختها وخرج، نظر فيها سيف الدولة، فلما انتهى إلى هذا البيت المفوف وقع تحت (أقل) قد أقلناك، وتحت (أنل) أنلناك وتحت (اقطع) قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة بباب حلب، وتحت (أحمل) يقاد إليك الفرس الفلاني، وتحت (عل) قد فعلنا -وهو من العلو- وتحت (سل) قد فعلنا، قاسل -وهو من السلو- وتحت (أعد) قد أعدناك إلى حالك من حسن رأينا، وتحت (زد) يزاد كذا، وتحت (تفضل) قد فعلنا، وتحت (ادن) قد أديناك، وتحت (سر) قد سررناك.
قال ابن جني: فبلغني عن المتنبي أنه قال: إنما أردت (سر) من السرية فأمر له بجارية، وتحت (صل) قد وصلناك.
قال: وحكى لي بعض أخوننا: أن المعقلي وهو شيخ بحضرته ظريف قال له -وحسد المتنبي على ما أمر له به-: يا مولاي (قد فعلت) به كل شيء سالكه، فهلا قلت له لما قال لك (هش بش) هه هه هه - يحكي الضحك- فضحك سيف الدولة، وقال: وأعطيناك أيضاً ما تحب، وأمر له بصلة.
ولما أنشد المتنبي هذا البيت المفوف رآهم يعدون ألفاظه فزاد فيه وقال:
أقل أنل أن صب أحمل عل سل عد ... زد هش بش هب اغفر أدن سر صل
أن من الأون، وهو الرفق. وصب، من صلب السهم الهدف يصيبه يقال: صاب وأصاب أو من صابت السماء بالمطر.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب الوساطة: أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن حيث قال:
أحل وامرر وضر وانفع ولن ... وأخشن ورش وابر وانتدب للمعالي
وقال الواحدي: أصل هذه الطريقة من قول امرئ القيس:
(1/150)
________________________________________
أفاد وجاد وساد وزا ... د وذاد وقاد وعاد وافضل
ومثله لأبي العميثل في عبد الله بن طاهر ذي اليمنين:
يا من يؤمل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت واسمع
أصدق وعف وبر واصبر واحتمل ... واحلم ودار وكاف وابذل وأشجع
ومنه قول بعض المعاصرين من قصيدة يمدح بها سيدي الوالد متع الله بحياته:
وابق دم راع رع تأبد تأيد ... اخفض ارفع من العلوم منارا
انتصر اخذل أقل أنل اغن أفقر ... أنه مر سد أذق عداك البوارا
أفد أرفد اعز تعزز تمنع ... جد تفضل أول العديم اليسارا
وأول هذه القصيدة قوله:
ما نضت ليلة المزار الأزارا ... هند إلا لتهتك الأستارا
طرقتنا ولات حين طروق ... حبذا زائرا إذا النجم غارا
رق بعد الصدود عطفا لرق ... ورعى حرمة العهود فزارا
غير ما موعد ألم ولما ... نرتقب للمام منه ازديارا
قابلتنا بطلعة قد أرتنا ... الشمس ليلا فأوهمتنا النهارا
طفلة تخلب العقول بطرف ... وبدل يستبعد الأحرارا
دمية لو تصورت لمجوس ... تخذوها لاها وعافوا النارا
ناهد تسلب النفوس بطرف ... غنج زاده الفتور احورارا
ذات خدٍ جنى لنا الورد غضا ... وشتيت جلى علينا العقارا
وفم مثل خاتم من عقيق ... عمر الدر في نواحيه دارا
ولحاظ تصمي القلوب وخصر ... زاده باسط الجمال اختصارا
غادة لذ لي بها هتك سري ... في طريق الهوى وخلعي العذارا
وعجيب ممن توغل أمرا ... في الهوى أن يروم منه استتارا
أيسر الهوى وشأن دموع الصب ... بالصب يظهر الأسرار
والذي عقله غدا بيد الغي ... د أسيرا لا يستبد اختيارا
ولم أورد منها هذه النبذة إلا لانسجامها وبلاغتها، وكلها من جيد الشعر.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
أقصر أطل أعذل أعذر سل خل اعن ... حن هن عز ترفق لج كف لم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
فوف أرف أنظم انثر خص عم أفد ... أعتب أدر أبرق أرعد اضحك ابك لم
قال ابن حجة: هذا البيت ما نحت من الجبال ولكن الجبال نحتت منه.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
اخشن ألن احزن افرح امنع أعط انل ... فوف أجد وش رقق شد حب لم
لا يقول (اخشن) في أول بيته ثم يطنب في مدحه إلا ابن حجة.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
تجن أصبر تدلل أرض عز أهن ... ته أحتمل مر أطع صل مفوفا ادم
ما أبرد قوله: مفوفا ادم وبيت بديعيتي هو قولي:
أحسن أسئ ظن حقق ادن أقص اطل ... حك وش فوف ابن أخف ارتحل أقم
الخطاب في ذلك للعاذل، يعني أن كل ما تفعله من هذه الأشياء في العذل فهو غير مقبول، ولا ملتفت إليه. وكذا الكلام في سائر أبيات البديعيات المذكورة إلا بيت بديعية الشيخ عبد القادر فأن الخطاب فيه للمحبوب.
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
فأعذل وجر واقتصر أو طل وعز وهن ... وانقص وزد وامض وارجع وانقطع ودم
الكلام الجامع
من رام رشد أخي غي هدى واتى ... كلامه جامعا للصدق لا التهم
الكلام الجامع هو عبارة عن أن يأتي الشاعر ببيت يكون جملته حكمة، أو موعظة، أو نحو ذلك من الحقائق الجارية مجرى الأمثال. هكذا قال غير واحد من البديعيين. وقال الطيبي في التبيان: هو أن يحلي المتكلم كلامه بشيء من الحكمة والموعظة، وشكاية الزمان والإخوان، وهذا اعم من الأول........

تعلم يا فتى والعود رطب ... وطينك لين والطبع قابل
فأن الجهل واضع كل عال ... وأن العلم رافع كل خامل
فحسبك يا فتى شرفا وعزا ... سكوت الحاضرين وأنت قائل
ومنها ما كتب به الصاحب بهاء الدين الجويني إلى ابنه شمس الدين:
بني اجتهد في اقتناء العلوم ... تفز باجتناء ثمار المنى
ألم تر في رقعة بيدقا ... إذا جد في سيره فززنا
فأجدادنا الغر قد أسسوا ... من المجد شم المباني لنا
فأن لم نشدها بمجهودنا ... سينهار والله ذاك البنا
وقول أبي تمام:
(1/151)
________________________________________
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار في جزل الغضا ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقول الآخر:
من عاشر الشرفاء شرف قدره ... ومعاشر السفهاء غير مشرف
فانظر إلى الجلد الحقير مقبلا ... بالثغر لما صار جار المصحف
وقول ابن الرومي:
وما الشرف الموروث لادّر درّه ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب
وقول التهامي:
لا تحسبن حسب الآباء مكرمة ... لمن يقصر عن غايات مجدهم
حسن الرجال بحسنى لا بحسنهم ... وطولهم في المعالي لا بطولهم
وقول أبي فراس:
كانت مودة سلمان لهم نسبا ... ولم تكن بين نوح وابنه رحم
وقول الآخر:
سأنفق ريعان الشبيبة آنفا ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وقول الآخر:
على المرء أن تسعى لما فيه نفعه ... وليس عليه أن يساعده الدهر
فأن نال بالسعي المنى تم أمره ... وأن عرض المقدور كان له عذر
وقول الآخر:
غرست غروسا كنت أرجو لقاحها ... آمل يوما أن تطيب جناتها
فأن أثمرت لي غير ما كنت آملا ... فلا ذنب لي أن حنظلت نخلاتها
وقول الآخر:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... أن المحامد والعلى أرزاق
فارغب بنفسك أن تكون مقصرا ... في غاية فيها الطلاب سباق
وقول العتابي يخاطب محبوبته:
تحبين أني نلت ما نال جعفر ... من الملك أو نال يحيى بن خالد
فقالت: نعم، فقال:
وأن أمير المؤمنين أحلني ... محلهما بالمرهفات البوارد
فقالت: لا، فقال:
دعيني ميتتي مطمئنة ... ولم أتجثم هول تلك الموارد
فأن جسيمات الأمور منوطة ... بمستودعات في بطون الأساود
هذه جملة ما أورده الطيبي من أمثال الحكمة، ونزيد نحن عليها فنقول: منها قول أبي الأسود الدؤلي لابنه، بعد أن قال له: يا بني إذا كنت في قوم فحدثهم على قدر سنك، وفاوضهم على قدر محلك، ولا تتكلمن بكلام من هو فوقك فيستقثلوك، ولا تنحط إلى من دونك فيحتقروك، فإذا وسع الله عليك فأبسط، وإذا أمسك عليك فامسك ولا تجاود الله أجود منك. واعلم أنه لا شيء كالاقتصاد، ولا معيشة كالتوسط، ولا عز كالعلم، إن الملوك حكام الناس، والعلماء حكام الملوك.
ثم أنشأ يقول:
العيش لا عيش إلا ما اقتصدت فان ... يسرف وتبذر لقيت الضر والعطبا
والعلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لا خير فيمن له أصل بلا أدب ... حتى يكون على ما زانه حدبا
كم من حسيب أخي عي وطمطة ... فدم لدى القوم معروف إذا انتسبا
في بيت مكرمة آباؤه نجب ... كانوا رؤوسا فأمسى بعدهم ذنبا
وخامل مقرف الآباء ذي أرب ... نال المعالي بالآداب والرتبا
أضحى عزيزا عظيم الشأن مشتهرا ... في خده صعر قد ظل محتجبا
العلم كنز وذخر لا نفاذ له ... نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع ما لا ثم يسلبه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا
وحامل العلم مغبوط به أبدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لا تعدلن به درا ولا ذهبا
وقول الآخر:
إذا قل ماء الوجه قل بهاؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك فإنما ... يدل على فضل الكريم حياؤه
وقول ابن دريد في مقصورته:
من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما ... راح به الواعظ يوما أوغدا
من لم تفده عبرا أيامه ... كان العمى أولى به من الهدى
من قاس ما لم يره بما رأى ... أراه ما يدنوا إليه ما نأى
من ملك الحرص القياد لم يزل ... يكرع في ماء من الذل صرى
من عارض الأطماع باليأس رنت ... إليه عين العز من حيث رنا
من عطف النفس على مكروهها ... كان الغنى قرينه حيث انتوى
من لم يقف عند انتهاء قدره ... تقاصرت عنه فسيحات الخطا
من ضيع الحزم جنى لنفسه ... ندامة ألذع من سفع الذكا
(1/152)
________________________________________
من ناط بالعجب عرى أخلاقه ... نيطت عرى المقت إلى تلك العرى
من طال فوق منتهى بسطته ... أعجزه نيل الدنا بله القصل
من رام ما يعجز عنه طوقه ... ملعب يوما آض مخزول المطا
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف أن أمر عنى
وقول الشنفرى في لاميته وهي المعروفة بلامية العرب:
من الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ ... سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
وقول مؤيد الدين الطغرائي في لامية العجم:
حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فأن جنحت إليه فاتخذ نفقا ... في الأرض أو سلما في الجو واعتزل
ودع غمار العلى للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل
ومنها:
أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل
غاص الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شرا وكن منها على وجل
وقال آخر:
بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرتب العالية
وكن في مكان إذا ما سقط ... ت تقوم ورجلاك في عافية
وقول ابن الشبل البغدادي وأجاد:
غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحي من بعد ميت بقاء
غير أن الأموات مروا فأبقوا ... غصصا لا يسيغها الأحياء
نتمنى وفي المنى يذهب العم ... ر فيغدو بما يسر يساء
إنما الناس قادم إثر ماض ... بدء قوم لآخرين انتهاء
موت ذا العالم المؤيد بالنط ... ق وذا السارح البهيم سواء
لا شقي بفقده تبسم الأر ... ض ولا للتقى تبكي السماء
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دنيا فلا كانت ولا كان أخذها والعطاء
راجع جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساء
ليت شعري حلما تمر به الأي ... ام أم ليس تعقل الأشياء
من فساد يكون في عالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء
وقليلا ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الشقا وفيم العناء
قبح الله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فإيجادنا علينا بلاء
وقول أبي تمام:
لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلاُ بأهل وجيرانا بجيران
ومن الموعظة قول الصعلوكي:
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا أخضر منها جانب جف جانب
فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة ... على ذاهب منها فأنك ذاهب
وقال ابن المعتز:
نسير إلى الآجال في كل ساعة ... وأيامنا تطوى وهن مراحل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شاعل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل
وقال الآخر:
وما الليل والأيام إلا منازل ... يسير بها سار إلى الموت قاصد
فيا عجبا منها وتلك عجيبة ... منازل تسري والمسافر قاعد
وقال ابن هاني
وما الناس إلا ظاعن ومودع ... وثاوٍ قريح الجفن يبكي لراحل
وما هذه الأيام إلا كما ترى ... وهل نحن إلا كالقرون الأوائل
نساق من الدنيا إلى غير دائم ... ونبكي من الدنيا على غير طائل
فما عاجل نرجوه إلا كآجل ... ولا آجل نخشاه إلا كعاجل
وقيل عاش عبيد الجرهمي ثلثمائة سنة، وأدرك زمن معاوية، فدخل عليه وقال له معاوية: حدثني بأعجب ما رأيت، قال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا.
فاغرورقت عيناي وتمثلت بقول الشاعر:
يا قلب أنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
فلست تدري وما تدري أعاجلها ... أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير
واستقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطا ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
(1/153)
________________________________________
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
فقيل لي: أتعرف قائلها؟ قلت: لا، قيل: قائلها: هذا المدفون، وأنت الغريب الذي تبكي عليه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس به رحما وأسرهم بموته، فقال معاوية: لقد رأيت عجبا، فمن الميت؟ قال: عثير بن لبيد العذري.
وقريب من هذا الاتفاق، ما حكاه القاضي ابن خلكان في تاريخه_وفيات الأعيان_قال: أخبرني بعض الفضلاء أنه رأى في مجموع: أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي رضي الله عنه ببغداد وهو لا يعرفها وقد أخنى عليها الزمان، وذهبت بهجتها، وخلقت ديباجتها؛ وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة وحسن الشارة؛ فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان.
وتمثل بقول الشريف الرضي المذكور:
ولقد وقفت على ربوعهم ... وطلولها بيد البلى نهب
فبكيت حتى ضج من لغبٍ ... نضوي ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الديار تلفت القلب
فمر به شخص وهو ينشد الأبيات فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن هي؟ فقال: لا، فقال: هذه الدار لصاحب هذه الأبيات الشريف الرضي فتعجب من حسن الاتفاق.
وانشد بديع الزمان في مقاماته، لزين العابدين بن الحسين عليهما السلام:
هم في بطون الأرض بعد ظهورها ... محاسنهم فيها بوال دوائر
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم ... وساقتهم نحو المنايا المقادر
وأضحوا رميما في التراب وأقفرت ... مجالس منهم عطلت ومقاصر
وحلو بدور لا تزاور بينهم ... وأنى لسكان القبور تزاور
يرى مغردا في لحده وتوازعت ... مواريثه أرحامه والأواصر
وأضحوا على أمواله يهضمونها ... ولا حامد منهم عليه وشاكر
فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها ... ويا آمنا من أن تدور الدوائر
على خطر تمسي وتصبح لاهيا ... أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
أتخرب ما يبقى وتعمر فانيا ... فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ... ودينك منقوص ومالك وافر
وكيف يلذ العيش من هو موقن ... بموقف عدل يوم تبلى السرائر
وأن امرءاً يسعى لدنياه دائبا ... ويذهل عن أخراه لا شك خاسر
وقال العلوي الكوفي:
مررت بدور بني مصعب ... بدور السرور ودور الفرح
فشبهت سرعة أيامهم ... بسعة قوس يسمى قزح
تلون معترضا في السما ... ء فلما تمكن منها نزح
هذا ما أورده الطيبي من أمثال الموعظة.
قلت: ومنها ما أنشده العلامة النيسابوري في كتاب خلق الإنسان، قال كان الحسين بن علي سيد الشهداء كثيرا ما ينشد هذه الأبيات، وتزعم الرواة أنها مما أملته نفسه الطاهرة على لسان مكارمها الوافرة:
لأن كانت الأفعال يوما لأهلها ... كما لا فحسن الخلق أبهى وأكمل
وإن كانت الأرزاق رزقا مقدرا ... فقلة جهد المرء في الكسب أجمل
وإن كانت الدنيا تعد نفيسة ... فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت=فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
وإن كانت الأموال للترك جمعها ... فما بال متروك به المرء يبخل
وأنشد لأحمد بن أبي طاهر في التوسط بين الدنيا والدين، وقضاء كل واحد منهما في حينه:
ركبت الصبا حتى إذا ما ونى الصبا ... نزلت من التقوى بأكرم منزل
ودين الفتى بين التماسك والنهى ... ودنيا الفتى بين الهوى والتغزل
وقال آخر:
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا ... وبنوا مساكنهم فما سكنوا
وكأنهم كانوا بها ظعنا ... لما استراحوا ساعة ظعنوا
وقال آخر:
وما الدهر إلا شره قبل خيره ... ولذات عيش غالبتها الفجائع
فثغر بأيام المسرة ضاحك ... طرف بأيام الحوادث دامع
وقال آخر:
غنى المرء ما يكفيه عن سد خلة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
وقال آخر:
أيا جامع المال وفرته ... لغيرك إذ لم تكن خالدا
فإن قلت أخشى صروف الزما ... ن فكن من تصاريفه واحدا
وقال آخر:
ومن البلاء وللبلاء علامة ... أن يرى لك عن هواك رجوع
والعبد عبد النفس في شهواتها ... والعبد يشبع مرة ويجوع
(1/154)
________________________________________
ومن الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام:
وما الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزية مال أو فراق حبيب
وإن امرءاً قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب حاليه لغير لبيب
ومنه:
فرض على الناس أن يتوبوا ... لكن ترك الذنوب أو جب
والدهر في صرفه عجيب ... وغفلة المرء فيه أعجب
والصبر في النائبات صعب ... لكن فوت الثواب أصعب
وكل ما يرتجى قريب ... والموت من كل ذاك أقرب
ومنه:
أرى الدنيا ستؤذن بانطلاق ... مشمرة على قدم وساق
فما الدنيا بباقية لحي ... ولا حي على الدنيا بباق
ومنه:
فمن يحمد الدنيا لعيش يسره ... فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أقبلت كانت على المرء حسرة ... وإن أدبرت كانت كثيرا همومها
وقال آخر:
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك إلى زوال
أخر:
ألا يا نفس أن ترضي بقوت ... فأنت عزيزة أبدا غنيه
دعي عنك المطامع والأماني ... فكم أمنية ***ت منية
آخر:
نهاية أهواء القلوب بعيدة ... ومن دونها للحدثات مصائد
فنحن كطير يبتغي الحب مسرعا ... ودون الذي يبغيه فخ وصائد
آخر:
يجد بنا الزمان ونحن نلهو ... ولا ندري متى يرد الحمام
ويخدعنا الهوى في ظل عيش ... يمر بنا كما مر الغمام
كركب سفينة في لج بحر ... تسير بهم وهم فيها نيام
(قال) أبو الفتح البستي:
يا من يؤمل في دنياه عافية ... أبعدت ما أنت في دار المعافاة
دنياك ثغر فكن منها على حذر ... فالثغر مأوى مخافات وآفات
(وقال) عبدة بن الطبيب:
المرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل
آخر:
متى تنقضي حاجات من ليس بالغا ... إلى حاجة حتى تكون له أخرى
آخر:
تموت مع المرء حاجاته ... وحاجات من عاش لا تنتهي
وقال آخر:
دنياك دار غرور ... ومتعة مستعارة
ودار كسب ولبس ... ومغنم وتجارة
ورأس مالك نفس فاحذر عليها الخسارة
فلا تبعها بأكل ... وطيب عيش وشاره
فأن ملك سليما ... ن لا يقي يشراره
وقال محمد بن ظفي المكي صاحب سلوان المطاع:
يا متعبا كده الحر ... ص في الفضول وكاده
لو حزت ما حاز كسرى ... وما حوى وأفاده
ما كنت إلا معنى ... ومغرما بالزيادة
لم يصف في الأرض عيش ... إلا لأهل الزهاده
فرض على الزهد نفسا ... فإنما الخير عادة
وقلت أنا في نوع الموعظة:
لا تجزعن إذا نابتك نائبة ... ولا تضيقن من خطب إذا نابا
ما يغلق الله بابا دون قارعة ... إلا ويفتح بالتيسير أبوابا
ومن الكلام الجامع في شكاية الزمان قول أبو العلاء المعري:
منك الصدود ومني بالصدود رضى ... من ذا علي بهذا في هواك قضى
بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
إذا الفتى ذم عيشا في شبيبته ... فما يقول إذا عصر الشباب مضى
وقد تعوضت عن كل بمشبهه ... فما وجدت لأيام الصبا عوضا
الشاهد في البيت الثالث.
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:
واها على عهد الشباب وطيبه ... والغض من ورق الشباب الناضر
واها له ما كان غير دجنة ... قلصت صبابته كظل الطائر
وأرى المنايا إن رأت بك شبيه ... جعلتك مرمى نبلها المتواتر
كان السواد سواد عين حبيبه ... فغدا البياض بياض طرف الناظر
لو يفتدى ذاك السواد فديته ... بسواد عيني بل سواد ضمائري
أبياض رأس واسوداد مطالب ... صبرا على حكم الزمان الجائر
وقال آخر:
فسلام على المروة والدي ... ن وربعي ذراهما المأنوس
حيث فعل الأيام ليس بمذمو ... م ووجه الأيام غير عبوس
وقال أبو الطيب:
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
وذيله السيد علي بن الأبزر من شعراء العصر فقال:
فهم على كل حال أدركوا هرما ... ونحن جئناه بعد الموت والعدم
(1/155)
________________________________________
وقال أبو العلاء المعري:
تمتع أبكار الزمان بأسره ... وجئنا بوهن بعد ما خرف الدهر
فليت الفتى كالبدر جدد عمره ... يعود هلالا كلما فني الشهر
وقال أيضاً:
كأنما الخير ماء كان وارده ... أهل العصور وما ابقوا سوى العكر
وقال ابن شماخ:
صفا للأولى قبلي أتوا در دهرهم ... فلم يصف لي مذ جئت بعدهم غير
فجاؤا إلى الدنيا وعصرهم ضحى ... وجئت وعصري من تأخره عصر
وقال ابن قاسم المحدث:
لقي الناس قبلنا غرة الده ... ر ولم نلق منه إلا الذنابى
وقال ابن الخياط المكفوف الأندلسي:
لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلا فشأن النائبات تنوب
وغضارة الأيام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب
ولذاك من سأل الليالي طالبا ... جدا ًوفهما ًفاته المطلوب
(وقال) ابن لنكك البصري:
عجبت للدهر في تصرفه ... وكل أفعال دهرنا عجب
يعاند الدهر كل ذي أدب ... كأنما ناك أمه الأدب
(وقال) ابن نباتة السعدي:
سقام لا يصاب له طبيب ... وأيام محاسنها عيوب
ودهر ليس يقبل من أديب ... كما لا يقبل التأديب ذيب
يحب على المصائب والرزايا ... فلا كان المحب ولا ******
فائدة_قال زكريا بن محمد القزويني في عجائب المخلوقات: اعتقد الحكماء أن الحوادث أسبابها أوضاع الفلك، فلذلك يشكون من الزمان ومن الدهر.
كما قال قائلهم:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمي وليس برام
ولو أنها نبل إذن لا تقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام
فلما ورد الشرع نبه على أن الأمر ليس كما اعتقدوا بل الحوادث بقضاء الله تعالى، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله. انتهى كلام صاحب العجائب.
وقد خطر لي هنا سؤال وجواب ذكرتهما في رسالتي التي سميتها (نفثة المصدور) ولا بأس بذكرهما هنا لما (فيهما من) الغرابة.
أما السؤال- فهو أنه إذا كان شكوى الزمان وذمه هو رأي الحكماء وقد ورد الشرع بالنهي عن هذا الرأي والاعتقاد، فكيف يستجيز متشرع ذم الزمان وشكواه؟ وقد وقع ذلك في كلام كثير من علماء المسلمين نظما ونثرا.
والجواب: أنا لا ندم الزمان من حيث أنه سبب للحوادث كما هو اعتقاد الحكماء، بل من حيث أنه ظرف للحوادث المكروهة، وهذا كما يذم الإنسان السنة المجدية، واليوم الشديد الحر، والبلدة الوخمة ألهواء الكريهة الماء، ونحو ذلك، وعلى هذا ورد ذم الدنيا في الأحاديث الشريفة، فلا يرد علينا ما ذكره من هذه الجهة، فافهم وبالله التوفيق.
وأما شكاية الإخوان فمنها قول أبي العلاء المعري:
وليس صبا يفاد وراء شيب ... بأعوز من أخي ثقة يفاد
وقول أبي فراس بن حمدان:
أراني وقومي فرقتنا مذاهب ... وإن جمعتنا في الأصول المناسب
فأقصاهم أقصاهم من مساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
غريب وأهلي حيث ماكر ناظري ... وحيد وحولي من رجالي عصائب
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب
وما أحسن قول أحمد بن نظام الملك:
ولما بلوت الناس أطلب منهم ... أخا ثقة عند اعتراض الشدائد
تطعنت من حالي رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء هل من مساعد
فلم أر فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فيما سرني غير حاسد
وكتب المعتصم إلى ابن عمار:
وزهدني في الناس معرفتي بهم ... وطول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلا تسرني ... مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلا كان إحدى النوائب
فأجابه بقطعة طويلة أولها:
فديتك لا تزهد فثم بقية ... سيرغب فيها عند وقع التجارب
وقال آخر:
أناس أمناهم فنموا حديثنا ... فلما كتمنا السر عنهم تقولوا
ولم يحفظوا الود الذي كان بيننا ... ولا حين هموا بالقطيعة أجملوا
وقال آخر:
أحذر عدوك مرة ... وأحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أعرف بالمضرة
وقال آخر:
وما أكثر الإخوان حين تعدهم ... ولكنهم في النائبات قليل
(وقال) آخر:
(1/156)
________________________________________
دعوى الإخاء على الرخاء كثيرة ... بل في الشدائد تعرف الإخوان
(وقال) آخر:
أخلاء الرخاء هم كثير ... ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلة من تواخي ... فمالك عند نائبة خليل
(وقال) أبو العلاء المعري:
جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود امرئ غرضا
(وقال) أبو فراس:
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ذئابا على أجسادهن ثياب
وقد أنصف من قال:
خليلي جربت الزمان وأهله ... فما نالني منهم سوى الهم والعنا
وعاشرت أبناء الزمان فلم أجد ... خليلا يوافي بالعهود ولا أنا
ولنكتف في هذا المعنى بهذا المقدار. وقد عقدت لكل من ذم الزمان وذم أبناء فصلا في (نفثة المصدور) وذكرت فيهما من النثر والنظم ما يشفي الصدور، فمن أراد بذلك فعليه بها.
تنبيه- قد بينا لك أن تعريف صاحب التبيان للكلام الجامع أعم من تعريف سائر البديعيين له، وعلى تعريفه جرى كثير من هذه الأمثلة التي ذكرها وذكرناها، وفيها ما هو جار على طريقتهم أيضاً، وإني لأستحسن تعميمه هذا تبعا للعلامة الكرماني شارح التبيان.
وأما أصحاب البديعيات فلم يبنوا أبياتهم إلا على ذلك فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
من كان يعلم أن الشهد مطلبه ... فلا يخاف للدغ النحل من ألم
هذا المعنى مطروق جدا لكنه أحسن الأتباع، وجاء فيه من الكلام الجامع والرقة والانسجام ما شنف الأسماع وأبهج الطباع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
كلامه جامع وصف الكمال كما ... يهيج الشوق أنواعا من الرتم
قال ابن حجة: قد تقرر أن الكلام الجامع، أن تأتي الناظم ببيت حلته حكمة أو موعظة أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال، وليس بين الشطر الأول من البيت وبين الشطر الثاني مناسبة، ولم أر لجريان المثل دخولا في باب هذا البيت. انتهى، وهو انتقاد في محله.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم
قال ناظمه: حكمة هذا البيت، ما أجريت مثلها على هذا النمط، إلا ليعلم المتيقظ أن فيه إشارة لطيفة إلى بيت عز الدين، فإني قررت أن ليس في كلامه الجمع ما يشعر بحكمة تجري مجرى الأمثال، فوجوده كالعدم. انتهى.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
من حام حول الحمى يا ذاك يوشك أن ... يرعى به أن ذا من جامع الكلم
هذا اقتباس من الحديث المشهور، وهو: من رتع حول الحمى يوشك أن يخالطه. ولا يخفى تداعي بناء هذا البيت.
وبيت بديعيتي قولي:
من رام رشد أخي غي هدى واتى ... كلامه جامعا للصدق لا التهم
إني خاطبت العاذل ببيت التفويف وقلت له:
أحسن أسيء ظن حقق ادن أقص أطل ... حك وش فوف أبن اخف ارتحل أقم
والمعنى: أن كل ما تفعله من هذه الأفعال غير مقبول، ولا ملتفت إليه.
حسن إيراد هذا البيت وهو بيت الكلام الجامع بعده، وقام مقام التعليل لعدم الالتفات إليه، وصح إجراؤه مجرى المثل، لأن معناه، أن من يروم إرشاد الغاوي ينبغي أن يهديه، وان يكون كلامه جامعا للصدق لا للتهم فكلام العاذل لما كان متهما فيه لم يلتفت إليه. وهذا البيت يصح أن يتمثل به لكل من أظهر النصيحة والإرشاد وهو منطو على خلاف ذلك.
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
لا يدرك الرتبة العلياء ذو دعة ... لا بد من تعب فيها ومن سأم.
المراجعة
قالوا تراجعهم من بعد قلت نعم ... قالوا أتصدق قلت الصدق من شيمي
المراجعة- وسماها جماعة منهم الإمام فخر الدين الرازي السؤال والجواب- عبارة عن أن تحكي المتكلم ما جرى بينه وبين غيره من سؤال وجواب، بعبارة رشيقة وسبك لطيف، يستحلي ذوقه السمع، أما في بيت واحد أو في أبيات.
قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعته: وذكر ابن أبي الإصبع: أن هذا النوع من مخترعاته، وقد وجدناه في كتب غيره بالاسم الثاني. انتهى.
ومن لطيف شواهد هذا النوع قول عمر بن أبي ربيعة:
بينما ينعتنني أبصرنني مثل قيد الرمح يعدو بي الأغر
(1/157)
________________________________________
قالت الكبرى ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر
هكذا أنشد هذه الأبيات ابن أبي الإصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير، ثم قال بعد إنشادها: إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه، وما ذاك إلا أن قوافي البيت لو أطلقت لكانت مرفوعة كما قالوا في قول رؤبة (قد جبر الدين الإله فجبر) فأنها تزيد على سبعين شطرا ولو أطلقت قوافيها لكانت كلها مفتوحة.
وأما بلاغته في الأبيات، فأنه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيها يدل على شغفها به، هي الصغرى، ليظهر بدليل الالتزام أنه فتى السن بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا ولا يقال: إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجربتها، فإني أقول: أنه تخلص من هذا الدخل بكونه أخبر: إن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل ذلك، وإنما كانت تهواه على السماع، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف، أظهرت من وجدها على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه ولم تتجاوز ذلك، وقنعت بالسؤال عنه، وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه، وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله، والعقل يمنعها من التصريح.
وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم، فكانت دون الكبرى في الثبات؛ والصغرى منزلتها في الثبات دون الوسطى؛ لأنها أظهرت في معرفة وصفه ما دل على شدة شغفها به؛ وكل ذلك وان لم يكن كذلك؛ فألفاظ الشاعر تدل عليه. انتهى.
قلت: رأيت هذه الأبيات في ديوان عمر بن أبي ربيعة من جملة قصيدة لكنها على غير هذه الصورة؛ وسياق النظم يدل على أن رواية ما في الديوان هي الصحيحة؛ وأول القصيدة قوله:
هيج القلب معان وصير ... دراسات قد كساهن الشجر
ورياح الصيف قد أزرت به ... تنسج الريح فنونا والمطر
وظلت فيها ذات يوم واقفا ... أسأل المنزل هل فيه خبر
للتي قالت لا تراب لها ... قطف فيهن انس وخفر
إذ تمشين بجثل ناعم ... ناضر النبت تغشاه الزهر
برمال سهلة زينها ... يوم غيم لم يخالطه قتر
قد خلونا فتمنين بنا ... في خلاء اليوم نبدي ما نسر
قلن يسترضينها منيتنا ... لو أتانا اليوم في سر عمر
بينما يذكرنني أبصرنني ... دون قيد الرمح يعدو بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم ... قد عرفناه وهل يخفى القمر
قد أتانا ما تمنينا وقد ... غيب الأبرام عنا والكدر
من حبيب لم يعرج دوننا ... ساقه الشوق إلينا والقدر
وكثير ما يشتمل شعر عمر بن أبي ربيعة على نوع المراجعة، وذلك لحكايته فيه مغازلته وحديثه للنساء، فقد كان رجلا غزلا، ومن جيد شعره قصيدته اللامية التي اعترف له جميل بالقصور عنها، وقد تضمنت هذا النوع من البديع، فلا بأس بإثباتها هنا لحسنها ورقتها، وهي:
جرى ناصح بالود بيني وبينها ... فقربني يوم الحساب إلى قتلي
فطارت بوجد من فؤادي وقربت ... قرينتها حبل الصفاء إلى حبلي
فما أنس مل أشياء لم أنس موقفي ... وموقفها وهنا بقارعة النخل
فلما توافقنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
وقالت لا تراب لها شبه الدمى ... أطلن مليا والوقوف على شغل
فقلن لها هذا عشاء وأهلنا ... قريب ألما تسامي موقف البغل
فقالت بما شئتن قلن لها انزلي ... فللأرض خير من وقوف على رحل
فأنزلن أمثال المها فاكتنفها ... وكل يفدي بالعشيرة والأهل
فسلمت واستأنست خيفة أن يرى ... عدو مقامي أو يرى كاشح فعلي
فقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي
فلما اقتصرنا دونهن حديثنا ... وهن طبيبات بحاجة ذي التبل
عرفن الذي نهوى فقلن لها ائذني ... نطف ساعة في طيب أرض وفي سهل
فقالت ولا تلبثن قلن تحدثي ... أتيناك وانسبن انسياب مها الرمل
وقمن وقد افهمن ذا اللب إنما ... فعلن الذي قد كان منهن من أجلي
فباتت تمج المسك في فيّ غادة ... بعيدة مهوى القرط صامتة الحجل
(1/158)
________________________________________
تقلب عيني ظبية ترتعي الخلا ... وتحنو على رخص الشوى رشأ طفل
وتفتر عن كالأقحوان بروضة ... جلتها الصبا والمستهل من الوبل
أهيم بها في كل ممسى ومصبح ... وأكثر ذكراها إذا خدرت رجلي
قال أبو الحارث مولى بني مخزوم: اجتمع جميل وعمر بن أبي ربيعة بالأبطح، فأنشده جميل قوله:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي ... بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون مهلاً يا جميل وإنني ... لأقسم ما لي عن بثينة من مهل
حتى أتى على آخر القصيدة، ثم قال لعمر: يا أبا الخطاب، هل قلت في هذا الروي شيئا؟ قال: نعم، وأنشده قوله (جرى ناصح بالود بيني وبينها) حتى أتى على آخرها، فقال له جميل: ما خاطب النساء مخاطبتك أحد لا والله، لا أقول أنا مثل هذا أبدا، ثم نهض.
وقال أبو الحسن المدائني: سمع الفرزدق عمرو بن ربيعة ينشد قصيدته:
جرى ناصح بالود بيني وبينها ... فقربني يوم الحساب إلى قتلي
فلما بلغ إلى قوله:
وقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
حتى أنشد بعد هذا أربعة أبيات، فلما بلغ قوله (وانسبن انسياب مها الرمل) صاح الفرزدق وقال: هذا والله الذي أرادته الشعراء فأخطأته، وبكت على الديار والدمن.
ومن محاسن أمثلة نوع المراجعة قول وضاح اليمن في معشوقته روضة:
يا روض جيرانكم الباكر ... فالقلب لا لاه ولا صابر
قالت ألا لا تلجن دارنا ... أن أبانا رجل غائر
قلت فإني طالب غرة ... منه وسيفي صارم باتر
قالت فإن القصر من دوننا ... قلت فإني فوقه طافر
قالت فإن البحر من بيننا ... قلت فإني سابح ماهر
قالت فحولي أخوة سبعة ... قلت فإني غالب ظافر
قالت فليث رابض بيننا ... قلت فإني أسد عاقر
قالت فإن الله من فوقنا ... قلت فربي راحم غافر
قالت لقد أعييتنا حجة ... فأت إذا ما هجع السامر
واسقط علينا كسقيط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر
قال هشام: كان وضاح اليمن، والمقنع الكندي، وأبو زبيد الطائي يردون مواسم العرب مقنعين، يسترون وجوههم خوفا من العين، وحذرا من النساء لجمالهم، واسم وضاح اليمن عبد الرحمن بن إسماعيل، ولقب الوضاح لحسنه وجماله.
ومن مليح هذا النوع أيضاً قول بشار بن برد:
قد لامني في خليلتي عمر ... واللوم في غير كنهه ضجر
قال أفق قلت لا فقال بلى ... قد شاع في الناس منكما الخبر
قلت وأن شاع ما اعتذاري ... مما ليس لي فيه عندهم عذر
ماذا عليهم وما لهم ... خرسوا

لو أنهم في عيوبهم نظروا
أعشق وحدي ويؤخذون به ... كالترك تغزوا فيقتل الخزر
يا عجبا للخلاف يا عجبا ... في فم من لام في الهوى الحجر
حسبي وحسب التي كلفت بها ... مني ومنها الحديث والنظر
أو قبلة في خلال ذاك وما ... بأس إذا لم تحل لي الأزر
أو عضة في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عضها أثر
أو لمسة دون مرطها بيدي ... والباب قد حال دونه الستر
والساق براقة مخلخلها ... أو مص ريق وقد علا البهر
واسترخت الكف للعراك وقا ... لت إيه عني والدمع منحدر
انهض فما أنت كالذي زعموا ... أنت وربي مغازل أشر
قد غابت اليوم عنك حاضنتي ... فالله لي منك فيك ينتصر
يا رب خذلي ... فقد ترى ضرعي

من فاسق جاء ما به سكر
أهوى إلى معضدي فرضرضه ... ذو قوة ما يطاق مقتدر
الصق بي لحية له خشنت ... ذات سواد كأنها الإبر
حتى علاني وأسرتي غيب ... ويلي عليهم لو أنهم حضروا
أقسم بالله لا نجوت بها فأذهب فأنت المغادر الظفر
كيف بأمي إذا رأت شفتي أم كيف إن شاع منك ذا الأثر
قد كنت أخشى الذي ابتليت به ... منك فماذا أقول يا غدر
قلت لها عند ذاك يا سكني ... لا بأس أني مجرب خبر
قولي لها بقة لها ظفر ... إن كان في البق ما له ظفر
وقول أبي نواس يهجو سليمان:
قال لي يوما سليما ... ن وبعض القول أشنع
قال صفني وعليا ... أينا أبقى وأنفع
(1/159)
________________________________________
قلت إني أن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع
قال كلا قلت مهلاً ... قال قل لي قلت فاسمع
قال صفه قلت يعطي ... قال صفني قلت تمنع
وقوله في النسيب:
وفاتر بالنظر الرطب ... يضحك عن ذي أشر عذب
خاليته في مجلس لم يكن ... ثالثنا فيه سوى الرب
فقال لي والكف في كفه ... بعد التجني منه والعتب
تحبني قلت مجيبا له ... أوفر أو خير من الحب
قال فتصبو قلت يا سيدي ... وأي شيء فيك لا يصبي
قال اتق الله ودع ذا الهوى ... فقلت إن طاوعني قلبي
وقوله:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر
وخمارة نبهتها بعد هجعة ... وقد غابت الجوزاء وانحدر النسر
فقالت من الطراق قلت عصابة ... خفاف الاداوى يبتغى لهم خمر
ولا بد أن يزنوا فقالت أو الفدا ... بأجور كالدينار في طرفه فتر
فقلنا لها هاتيه ما إن لمثلنا ... فدنياك بالأهلين عن مثله صبر
فجاءت به كالبدر ليلة تمه ... تخال به سحرا وليس به سحر
فبتنا يرانا الله شر عصابة=نجرر أذيال الفسوق ولا فخر وقوله يهجو جعفر بن يحيى البرمكي:
قالوا امتدحت فما أعطيت قلت لهم ... خرق النعال وأخلاق السراويل
قالوا فسم لنا هذا فقلت لهم ... أو وصفه يعدل التفسير في القيل
ذاك الأمير الذي طالت علاوته ... كأنه ناظر في السيف بالطول
قاتله الله في هذا التشبيه، فأن جعفر بن يحيى كان طويل الوجه جدا طويل العنق، طويل القامة.
قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: كان الرشيد أيام حسن رأيه في جعفر بن يحيى، يحلف الله أفصح من قس بن ساعدة، وأشجع من عامر بن الطفيل، واكتب من عبد الحميد بن يحيى، وأسوس من عمر ابن الخطاب، وأنصح له من الحجاج لعبد الملك، وأسمح من عبد الله بن جعفر، وأعف من يوسف بن يعقوب، وأحسن من مصعب بن الزبير؛ وكان جعفر ليس بحسن الصورة، كان طويل الوجه جدا، فلما تغير رأيه فيه أنكر محاسنه الحقيقة التي لا يختلف اثنان أنها فيه، نحو كتابته وسماحته. انتهى.
ومن بديع هذا النوع قول أبي عبادة البحتري:
بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الرأس مائلا يتكفا
قلت عبد العزيز تفديك نفسي ... قال لبيك قلت لبيك ألفا
هاكها قال هاتها خذها ... قال لا أستطيعها ثم أغفى
وظريف قول ابن حجاج هنا:
قالت لقد أشمت بي حسدي ... إذ بحت بالسر لهم معلنا
قلت أنا؟ قالت نعم أنت هو ... قلت أنا قالت وإلا أنا
قلت نعم أنت التي صيرت ... أجفانك قلبي حليف الضنى
قالت فلم طرفك فهو الذي ... جنى على قلبك ما قد جنى
قلت فقد كان الذي كان من ... طرفي فكوني مثل من أحسنا
قالت فما الإحسان قلت اللقا ... قالت لقانا عز ما أمكنا
قلت فمنيني بتقبيلة ... قالت أمنيك بطول العنا
قلت فما بحت بسر الهوى ... قالت ولو بحت فما ضرنا
قلت فإني ميت هالك ... قالت فمت فهو لقلبي منى
قلت حرام قتل نفس بلا ... ذنب فقالت ذاك حل لناد
من يعشق العينين مكحولة ... ب***** لا يأمن أن يفتنا
ومنه قول الصفي الحلي يمدح الملك الصالح
وقفت وأهل العصر تنشر فضله ... وتسألني عن فضله فأعيد
فقالوا له حكم فقلت وحكمة ... فقالوا له جد فقلت وجود
فقالوا له قدر فقلت وقدرة ... فقالوا له عزم فقلت شديد
فقالوا له عفو فقلت وعفة ... فقالوا له رأي فقلت سديد
فقالوا له أهل فقلت أهلة ... فقالوا له بيت فقلت قصيد
وقوله من أخرى يمدحه أيضاً:
وقائلة ما لي أراه كدمعه ... يظل ويمسي وهو من الأرض سائح
أطالب معنى قلت كلا ولا غنى ... ولست على كسب الذوات أكافح
ولكن لي في كل يوم إلى العلى ... حوائج لكن دونهن جوائح
فقالت ألا أن المعالي عزيزة ... فكيف وقد قلت لديك المنائح
فهل لك وفر قلت أي وهو ناقص ... فقالت وقدر قلت أي وهو راجح
(1/160)
________________________________________
فقالت وجد قلت أي وهو أعزل ... فقالت وضد قلت أي وهو رامح
فقالت ومجد قلت أي وهو متعب ... فقالت وسعد قلت أي وهو ذابح
فقالت وملك قلت أي وهو فاسد ... فقالت وملك قلت أي وهو صالح
ومن لطائف ابن الوردي قوله في هذا النوع:
نمت وإبليس أتى ... بحياة منتدبة
فقال ما قولك في ... حشيشة منتخبه
فقلت لا قال ولا ... خمرة كرم مذهبه
فقلت لا قال ولا ... مليحة مطيبة
فقلت لا قال ولا ... أغيد بالبدر اشتبه
فقلت لا قال ولا ... آلة لهو مطربة
فقلت لا قال فنم ... ما أنت إلا خشبه
وقال الشيخ صفي الدين الحلي معارضا له:
وليلة طال سهادي بها ... فزارني إبليس عند الرقاد
فقال لي هل في شمعة ... كيسة تطرد عنك السهاد
قلت نعم قال وفي قهوة ... عتقها العاصر من عهد عاد
قلت نعم قال وفي مطرب ... إذا شدا يرقص منه الجماد
قلت نعم قال وفي طفلة ... في وجنتيها للحياء اتقاد
قلت نعم قال وفي شادن ... قد كحلت أجفانه بالسواد
قلت نعم قال فنم آمنا ... يا كعبة الفسق وركن الفساد
ويعجبني هنا قول علم الدين علي بن محمد السخاوي المقري وانشدها لنفسه عند وفاته:
قالوا غدا نأتي ديار الحمى وينزل الركب بمغناهم
وكل من كان مطيعا لهم ... أصبح مسرورا بلقياهم
قلت فلي ذنب فما حيلتي ... بأي وجه أتلقاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم ... لاسيما عمن ترجاهم
ولنقتصر من أمثلة هذا النوع على هذا المقدار.
وبيت بديعية الشيخ الدين الحلي قوله:
قالوا اصطبر قلت صبري غير متسع ... قالوا اسلهم قلت ودي غير منصرم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
راجعت في القول إذ طلقت سلوتهم ... قال اسلهم قلت سمعي عنك في صمم
انتقده ابن حجة، بأن المراجعة أن لم تتكرر لم يبق لها في القلوب حلاوة ولا يطابق اسمها مسماها، وعز الدين لم يكرر مراجعته، ولم يأت بها إلا في مكان واحد. والذي أقوله إنما صده عن ذلك الاشتغال بتسمية النوع ولكن ليته لو دخل سوق الرقيق. انتهى. وهو في محله.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قالوا اصطبر قلت صبري ما يراجعني ... قالوا احتمل قلت من يقوى لصدهم
لا يخفى أن صدر البيت للصفي الحلي أخذه قسرا.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
قالوا مراجعة تهوى فقلت نعم ... قالوا اصطبر قلت صبري خان من قدم
صدر هذا البيت منحل جدا، وعجزة بيت الصفي الحلي.
وبيت بديعيتي قولي:
قالوا تراجعهم من بعد قلت نعم ... قالوا أتصدق قلت الصدق من شيمي
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
واستخبرا هل سلا قلبي فقلت سلا ... غيري وهل ثم صبر قلت وسط فمي
المناقصة
وإنني سوف أوليهم مناقصة ... إذا هرمت وشب الشيخ بالهرم
المناقصة - هي تعليق الشرط على نقيضين، ممكن عادة، ومستحيل عادة، ومراد المتكلم المستحيل ليؤثر التعليق عدم وقوع المشروط، فكأن المتكلم ناقص نفسه في الظاهر، إذ شرط وقوع أمر بوقوع نقيضين ممكن ومستحيل.
ومثاله قول النابعة:
وأنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب
تناهى، أي تصير ذا نهية وهو العقل، وجمعها نهى، علق حلم المهجو وعقله على شيبه أولا وهو ممكن، وعلى شيب الغراب ثانيا وهو مستحيل، وإنما مراده الثاني لا الأول، لأن مقصوده أنه لا يحلم ولا يعقل أبدا.
قيل ومثله قول المتنبي:
أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبيرا وابن إبراهيم ريعا
(1/161)
________________________________________
(أو) هنا بمعنى (حتى) علق زوال حبه عن محبوبته على جر النمل ثبيرا، لاستحالته عادة لا على أن يرتاع الممدوح لإمكانه عادة، والمقصود أن حبها لا يزول أبدا. هكذا قال بعضهم في هذا البيت وليس هذا مقصود المتنبي، بل علق زوال حبها على الأمرين، لاستحالة جر النمل ثبيرا حقيقة واستحالة ارتياع الممدوح إدعاء، فالأمران كلاهما مستحيلان في اعتقاده وإن كانا تقيضين في الحقيقة، ولذلك قدم المستحيل حقيقة على المستحيل ادعاء، ولو قصد المتنبي ما قاله هذا القائل لما كان في بيته كبير مدح.
وقلت أنا في هذا النوع في معنى سنح:
وخود تحاول وصلي وقد ... أضاعت عهودي وملت جنابي
فقلت ستلقين مني الوصال ... إذا شبت أوعاد عصر الشباب
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
وأنني سوف أسلوهم إذا عدمت روحي وأحييت بعد الموت والعدم
علق السلو على عدم روحه أولا وهو ممكن، وعلى وقوع الحياة في دار الدنيا بعد الموت ثانيا وهو مستحيل وهو المراد، لأن مقصوده أنه لا يسلو أبدا.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
إني أناقض عهد النازحين إذا ... ما شاب عزمي وشبت شهوة الهرم
تعقبه ابن حجة بأنه قرر في بيته وشرحه أن شيب العزم ممكن، وشباب شهوة الهرم مستحيل، فرأيت تصوير شيب العزم وإمكانه، وسبك استعارته في قالب التشبيه كما تقرر في باب الاستعارة فيه أشكال، فأنهم قالوا الاستعارة هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء مبالغة في التشبيه، ولم أر في شيب العزم وجها للبالغة في التشبيه؛ وعلى كل تقدير فالممكن والمستحيل في بيت عز الدين فيهما نظر. انتهى.
ونحن نقول: أضمر تشبيه انحلال العزم بشيب الإنسان، وتشبيه استكمال شهوة الهرم بشباب الإنسان، ثم استعار اسم المشبه به في كلا التشبيهين للمشبه؛ واشتق منه صيغة الفعل على قانون الاستعارة التبعية؛ والعادة جارية بأن العزم والشهوة يهرمان بهرم الإنسان كما قيل:
وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من شأنها أن تهي
وان ذكرت نفسك شهوات النفوس ... فما تشتهي غير أن تشتهي
فيكون شيب العزم عند الهرم ممكنا عاديا وشباب الشهوة إذ ذاك محالا عاديا، وهذا القدر من الاستحالة كاف فيما رامه الموصلي من بيان المناقصة، فلا نظر حينئذ لابن حجة.
وبيت بديعية لبن حجة قوله:
إني أناقصهم إذ أزمعوا ونأوا ... وجر نمل ثبيرا أثر عيسهم
أخذه من قول أبي الطيب:
أحبك أو يقولا جر نمل ... ثبيرا وابن إبراهيم ريعا
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
وسوف أسلوهم إذ ناقضوه إذا ... شبنا وعاد شبابي مترف الأدم
وبيت بديعيتي هو قولي:
وإنني سوف أوليهم مناقضة ... إذا هرمت وشب الشيخ بالهرم
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
هيهات أسلو بلى أن عشت وانقلبت ... صفا صفاتي أو أودعت في الرجم
الرجم بفتح الراء المهملة والجيم: القبر
المغايرة
غايرت غيري في حبيهم فأنا ... أهوى الوشاة لتقريبي لسمعهم
المغايرة والتغاير، ويسميه قوم التلطف، هو أن يتلطف الناظم أو الناثر في التوصل إلى مدح مذموم، أو ذم ممدوح، سواء كان هو الذي ذمة أو مدحه من قبل نفسه أو غيره.
فمن ذلك مدح علي عليه السلام للدنيا بعد أن ذمها هو وغيره. فمن ذمها له قوله عليه السلام: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته؛ ومن قعد عنا واتته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته.
قال السيد الرضي رضي الله عنه: إذا تأمل المتأمل قوله: ومن أبصر بها بصرته، وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد، ما لا يبلغ غايته ولا يدرك غوره، ولاسيما إذا قرن إليه قوله عليه السلام: ومن أبصر إليها أعمته فأنه يجد الفرق بين (أبصر بها) و (أبصر إليها) واضحا نيرا وعجيبا باهرا. انتهى.
ومن ذمها قول يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من شرب منها سكر، فلم يفق منها إلا في عسكر الموتى.
وقال عبادة: الدنيا قحبة، فيوما عند عطار ويوما عند بيطار.
وقال أبو الحسن الباخرزي:
ما هذه الدنيا سوى قحبة ... تبرز في الزينة للزاني
(1/162)
________________________________________
حتى إذا اغتر بإقبالها ... مالت لأعراض وهجران
وكان المأمون يقول: لو نطقت الدنيا لما وصفت نفسها بأحسن من قول أبي نواس:
إذا خبر الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
وقد ألم بمعناه ابن بسام حيث قال:
أف من الدنيا وأيامها ... فأنها للحزن مخلوقة
غمومها لا تنقضي ساعة ... عن ملك فيها ولا سوقه
يا عجبا منها ومن شأنها ... عدوة للناس معشوقة
وذمها في النثر كثير جدا: ومدح علي عليه السلام للدنيا هو قوله، وقد سمع رجل يذمها: أيها الذّام للدنيا المغتر بغرورها، بم تذمها، أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ متى استهو أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى؟ أبمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك، تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينقع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها؛ ودار عافية لمن فهم عنها؛ ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحياء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة. فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوفتهم بسرورها إلى السرور. راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا، وتخويفا وتحذيرا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة. ذكرتهم الدنيا فذكروا وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا. انتهى.
ويوجد اختلاف كثير في روايات هذه الخطبة، وهذه الرواية أصحها فاني نقلتها من نهج البلاغة، وهو العمدة في كلامه عليه السلام.
وذكرت بقوله عليه السلام: مسجد أحباء الله قول بعضهم: الدنيا أحب إلي من الجنة فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لا أني في الدنيا مشغول بعبادة ربي، وفي الجنة مشغول بلذة نفسي، وبين الأمرين بون بائن.
ولعبد الله بن المعتز رسالة يمدح فيها الدنيا، حذا فيها حذو هذه الخطبة، وأين الثريا من الثرى، ومطلع سهيل من موقع السيل، قال فيها: الدنيا دار التأديب والتعريف التي بمكروهها يوصل إلى محبوب الآخرة، ومضمار الأعمال السابقة بأصحابها إلى الجنان، ودرجة الفوز التي يرقى عليها المتقون إلى دار الخلد، وهي الواعظة لمن عقل، والناصحة لمن قبل وبساط المهل، وميدان العمل، وقاصمة الجبارين، وملحقة الرغم بمعاطس المتكبرين، وكاسيه التراب أبدان المختالين، وصارعة المغترين، ومفرقة أموال الباخلين، وقاتلة القالين؛ والعادلة بالموت بين العالمين، ومهبط القرآن المبين، ومسجد العابدين، وأم النبيين صلوات اله عليهم أجمعين، وناصرة المؤمنين، ومبيرة الكافرين. فالحسنات فيها مضاعفة، والسيئات بآلامها ممحوة، ومع عسرها يسران، والله تعالى قد ضمن أرزاق أهلها وأقسم في كتابه بما فيها. ورب طيبة من نعمها قد حمد الله عليها فتلقفتها يد الكتبة، ووجبت بها الجنة، ومال من زينتها قد وجه إلى معروفها فكان جوازا على الصراط. وكم نائبة من نوائبها، وتجربة لحوادثها قد راضت الفهم، ونبهت الفطنة، وأذكت القريحة، وأفادت فضيلة الصبر وكثرت ذخيرة الآخرة. انتهى.
وقال أبو العتاهية:
ما أحسن الدنيا وإقبالها ... إذا أطاع اله من نالها
وقال آخر:
تذم دنيا إن تأملتها ... وجدت منها ثمر الجنة
ولأبي منصور عبد الملك الثعالبي كتاب كل شيء وذمه، ترجمه بيواقيت المواقيت، وهو غاية في بابه، فلنذكر منه هنا نبذا مستطرفة: مدح العقل_قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الناس يعملون الخيرات، وإنما يعطون أجورهم يوم القيامة على مقادير عقولهم.
وقيل له عليه السلام في الرجل الحسن العقل الكثير الذنوب فقال: ما من آدمي إلا وله خطأ وذنوب، فمن كانت سجيته العقل لم تضره ذنوبه لأنه كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة تمحو ذنوبه وتدخله الجنة. وكان الحسن البصري يقول: العقل هو الذي يهدي إلى الجنة ويحمي من النار، أما سمعت قول الله تعالى حكاية عن أهلها (لو كنا نسمع ونعقل ما كنا في أصحاب السعير) .
وقال آخر: العقل أحصن معقل.
(1/163)
________________________________________
وقال آخر: أشد الفاقة عدم العقل.
ومن فصول ابن المعتز: العقل غريزة تزينها التجارب. ومنها: حسن الصورة الجمال الظاهر، وحسن العقل الجمال الباطن.
ومن الشعر السائر على وجه الدهر:
يعد شريف القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب
إذا حل أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب
أرى العلم نورا والتأدب حكمة ... فخذ منهما في رغبة بنصيب
وما اجتمعا إلا لمن صح عقله ... وكم عالم للشيء غير لبيب
ذم العقل_كان يقال: إن العقل والهم لا يفترقان.
وقال ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا
ومن قلائد أبي الطيب:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فصل لابن المعتز - العقل كالمرآة المجلوة يرى صاحبه فيها مساوئ الدنيا حتى يشرب النبيذ، فإذا ابتدأ بشربه صدئ عقله بمقدار ما يشرب، فإن أكثر منه غشيه الصدأ كله حتى لا تظهر له صورة تلك المساوئ، فيفرح ويمرح. والجهل كالمرآة الصدية أبدا فلا يرى صاحبه إلا مسرورا نشيطا قبل الشرب وبعده.
وقال الحسن البصري: لو كانت للناس كلهم عقول لخربت الدنيا. وقال بعضهم: لو كان الناس كلهم عقلاء ما أكلنا رطبا ولا ماء باردا. يعني أن العاقل لا يقدم على صعود النخيل لاجتناء الرطب ولا على حفر الآبار لاستنباط المياه.
وأنشد:
لما رأيت الدهر دهر الجاهل ... ولم رأى المغبون غير العاقل
رحلت عيسا من خمور بابل ... فبت من عقلي على مراحل
مدح القلم والخط والكتابة - كان يقال: القلم أحد اللسانين، وعقول الرجال تحت أسنة أقلامها.
وقال بعض الفلاسفة: صورة الخط في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض.
وقال إقليدس: القلم صائغ الكلام، يفرغ ما يجمعه القلب، ويصوغ ما يسبكه اللب.
وقال أيضاً: الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جثمانية.
وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم.
وقال المأمون: لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة.
وقال أبو الفتح البستي:
إذا افتخر الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب فخرا ورفعة ... مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
هذا ما اخترته في مدح الخط والقلم من الكتاب المذكور. ونضيف إليه من مختار غيره فنقول: قال صاحب كتاب أدب المسافر: الخط لليد لسان، وللخلد ترجمان فرداءته زمانة الأدب، وجودته تبلغ بصاحبه شرائف الرتب، وفيه المرافق العظام التي من الله بها على عباده فقال جل ثناؤه (وربك الأكرم الذي علم بالقلم) .
وروى جبير عن الضحاك في قوله تعالى (علمه البيان) قال: الخط، وهو لمحة الضمير، ووحي الفكر، وسفير العقل، ومستودع السر؛ وقيد العلوم والحكم؛ وعنوان المعارف، وترجمان الهمم. انتهى.
نظر أعرابي إلى فقال: كواكب الحكم في ظلم المداد.
(وقال) حكيم: القلم قيم الحكمة. إن هذه العلوم تند فاجعلوا الكتب لها حماة، والأقلام لها رعاة.
(وقال) سهل بن مروان: القلم أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره.
وقيل: الأقلام رسل الكلام.
وقيل: ما أثبتته الأقلام لا تطمع في دروسه الأيام.
وقال فيلسوف: الخط لسان اليد.
قيل لنصر بن سيار: إن فلانا لا يكتب فقال: تلك الزمانة الخفية.
وزعم المنجمون: إن القلم في حساب الجمل وزنة نفاع، لأن لكل منهما من العدد مائتان وواحد.
وقال ابن الرومي وأجاد:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
ذم القلم والخط والكتابة: قال ابن المعتز في ذم القلم:
وأجوف مشقوق كأن شباته ... إذا استعجلتها الكف منقار لاقط
وتاه به قوم فقلت رويدكم ... فما كاتب بالكف إلا كشارط
وقال أبو العلاء المعري: لو كان في الخط فضيلة لما حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(1/164)
________________________________________
وقال بعض مجان الحكماء: ما لقينا من الكتاب في الدنيا والآخرة خيرا. أما الدنيا فقد بلينا به، وأخذنا بحفظ فرائضه، وإقامة شرائطه. أما في الآخرة فأنا نلقاه منشورا بسرائرنا، وخفايا صدورنا.
وذكر الجاحظ عامة الكتاب فقال: أخلاق حلوة، وشمائل معسولة وثياب مغسولة، وتظرف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإذا اصطلوا بنار الامتحان كانوا كالزبد بذهب جفاء، أو كنبات الربيع بالصيف يحركه هيف الرياح،، لا يستندون إلى وثيقة، ولا يدينون بحقيقة أخفر الخلق لأماناتهم وأشراهم بالثمن البخس لعهودهم (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
مدح الشعر والشعراء.
كان يقال: الشعر ديوان العرب، ومعدن حكمتها، وكنز آدابها، والشعر لسان الزمان، والشعراء أمراء الكلام.
وقال بعض السلف: الشعر أدنى مروة السري، وأسرى مروة الدني.
وقال آخر: الشعر جزل من كلام العرب تقام به المجالس، وتستنجح به الحوائج، ويشفى به الغيظ.
قلت: روي الزمخشري في ربيع الأبرار هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله، بتقديم وتأخير، وتغيير يسير، وعبارته عنه عليه السلام: الشعر جزل من كلام العرب يشفى به الغيظ ويوصل به إلى المجلس وتقضى به الحاجة.
وكان يقال: المدح مهزة الكرام، وإعطاء الشاعر من بر الوالدين.
وقال بعضهم: أنصف الشعراء فإن ظلامتهم تبقى، وعقابهم لا يفنى، وهم الحاكمون على الحكام.
وقال آخر: الشعر أصالة في العقل، وذكاء للقلب، وطول في السان وجود في الكف.
وقال عليه السلام: إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا.
وكان يقال: النثر يتطاير تطاير الشرر، والنظم يبقى بقاء النقش في الحجر.
وقال دعبل في كتابه -كتاب الشعراء- من فضائل الشعر أنه لا يكذب أحد إلا اجتواه الناس وقالوا كذاب إلا الشاعر، فأنه يكذب فيستحسن منه كذبه، ويحتمل ذلك له ولا يكون عليه عيبا، ثم لا يلبث إن يقال له أحسنت. أن الرجل_الملك أو السوقة_إذا صير ابنه في الكتاب أمر معلمه أن يعلمه القرآن والشعر، فيقرنه بالقرآن، ليس لأن الشعر كالقرآن، لا ولا كرامة للشعر ولكنه من أفضل الآداب فيأمره بتعليمه إياه، لأنه يوصل به المجالس، وتضرب فيه الأمثال ويعرف به محاسن الأخلاق ومساويها، فيذم به ويحمد ويهجى ويمدح. انتهى.
ومن أحسن ما قيل في مدح الشعر: قول أبي تمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناة المعالي أين تبنى المكارم
وأحسن منه قول ابن الرومي:
أرى الشعر يحيي الجود والباس بالذي ... تبقيه أرواح له عطرات
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات
فصل لأبي بكر الخوارزمي جامع في مدح الشعراء: ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم. إذا ذموا ثلبوا، وإذا مدحوا سلبوا، وإذا رضوا رفعوا الوضيع، وإذا غضبوا وضعوا الرفيع وإذا أقروا على أنفسهم بالكبائر لم يلزمهم حد، ولم تمتد إليهم بالعقوبة يد.
غنيهم لا يصادر، فقرهم لا يحتقر، وشيخهم يوقر، وشابهم لا يستصغر وسهامهم تنفذ في الإعراض إذا نبت السهام عن الأغراض، وشهادتهم مقبولة وإن لم ينطبق بها سجل، ولم يشهد عليها عدل، وسرقتهم مغفورة وإن جاوزت ربع دينار وبلغت ألف قنطار. إن باعوا المغشوش لم يرد عليهم وإن صادروا الصديق لم يستوحش منهم، بل ما ظنك بقوم هم صيارفة أخلاق الرجال، وسماسرة النقص والكمال، بل ما ظنك بقوم اسمهم ناطق بالفضل، واسم صناعتهم مشتقة من العقل.
هذا مختار ما ذكره في اليواقيت في مدح الشعر وأهله.
ومن مختاره: قال المطرزي: كان يقال: اختص اله العرب بأشياء.
العمائم تيجانها، والحبى حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها. وإنما قيل: الشعر ديوان العرب لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب، ولأنه مستودع علومهم، وحافظ آدابهم، ومعدن أخبارهم. انتهى.
وكانت العرب تعظم الشعر، وتفتخر بقوله. وكانت القبيلة منهم إذا نبغ فيهم شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وضعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتباشر الرجال والوالدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، واشادة لذكرهم. وكانوا لا يهنون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبع فيهم، أو فرس ينتج.
(1/165)
________________________________________
وقال بعضهم: الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويشيرون، ويختلسون، ويعيرون ويستعيرون. فأما لحن في إعراب أو إزالة كلمة عن نهج الصواب فليس لهم ذلك.
وعن الشريد قال: استنشدني النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته, فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هيه هيه، حتى أنشدته مائة قافية.
وقال بعضهم:
الشعر يحفظ ما أودى الزمان به ... والشعر أفخر ما ينبي عن الكلم
لولا مقال زهير في قصائده ... ما كنت تعرف جودا كان في هرم
فائدة - أعلم أن الشعر من خواص لغة العرب، ولم يكن في غيرها من اللغات، وما يذكر أنه كان لليونانيين شعر فليس المراد به هذا الشعر وإنما كانوا يؤلفون الألفاظ المشتملة على المعاني التي تورث النفس انفعالا من قبض أو بسط، ولا يراعون وزنا ولا قافية. وأما ما هو المشهور الآن من الشعر الذي للفرس والترك ونحوهم فهو أمر حادث أخذوا طريقته من العرب، وتتبعوا أقوالهم وأوزانهم، واستخرجوا بأفكارهم بحورا زائدة. وقد يكون لغير العرب إلى الآن أيضاً ألفاظ يتغنون بها، ويتصرفون فيها بحسب ما يريدون من الألحان من دون رجوع إلى وزن أو قافية والله أعلم. وقد أمليت كتابا لطيفا، وديوانا طريفا في مقاصد الشعر، ترجمته ب (محك القريض) أوردت فيه من مدح الشعر والشعراء ما فيه مقنع لمن كان منه بمرأى ومسمع والله الموفق ذم الشعر والشعراء - كان يقال: الشعر رقية الشيطان.
ولذلك قال جرير وهو يمدح عمر بن عبد العزيز ويصف ترفعه عن استماع الشعر:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وقال آخر: لا خير في شيء أحسنه أكذبه.
وكان أبو مسلم يقول: إياك والشاعر فأنه لا يهجو إلا جليسه، ويطلب إلى الكذب مثوبة.
وقال آخر: لا تجالس الشاعر فأنه إذا غضب عليك هجاك، وإذا رضي عنك كذب عليك. وقد وصفهم الله سبحانه ومتبعهم من ورائهم بالصفة الخاصة بهم فقال "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ملا يفعلون".
وقرنهم بشر صنف من مستحلي الأباطيل وهم الكهنة فقال "وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون".
ومن أحسن وأصدق ما ذم به الشاعر قول عبد الصمد بن المعذل لأبي تمام وقد قصد البصرة وشارفها:
أنت بين اثنتين تبرز للنا ... س وكلتاهما بوجه مذال.
لست تنفك طالبا لوصال ... من حبيب أو راغبا في نوال.
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال.
فلما بلغت الأبيات أبا تمام قال: صدق والله أحسن. وثنى عنانه عن البصرة وأقسم أن لا يدخلها أبدا.
وقال أبو سعيد المخزومي:
الكلب والشاعر في حالة ... يا ليت أني لم أكن شاعرا.
أما تراه باسطا كفه ... يستطعم الوارد والصادرا.
وقال أبو سعيد الرستمي الأصبهاني:
تركت الشعر للشعراء إني ... رأيت الشعر من سقط المتاع.
مدح الكتب- قال الجاحظ: الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا.
إن شئت كان أعيى من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائبه، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه.
والكتاب نعم الظهر والعمدة، ونعم الكنز والعقدة، ونعم الذخر والعدة ونعم النزهة والسلوة؛ ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب هو الجليس الذي لا يغويك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والمستميح الذي لا يستزيدك، وهو الذي يعطيك بالليل طاعته بالنهار ويفيدك في السفر إفادته في الحضر.
ثم قال: وبعد فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة يقلب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء. ومن لك بواعظ مله وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبساكت ناطق. ومن لك بطيب أعرابي، وبرومي هندي، وبفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت حي.
(1/166)
________________________________________
ثم قال: ولولا رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجائب حكمها، ودونت من محاسن سيرها، حتى شاهدنا به ما غاب عنا، وفتحنا به ما استغلق علينا، وأضفنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم ندركه إلا بهم، لقد كان يبخس حظنا من الحكمة؛ وتضعف أسبابنا عن المعرفة والفطنة. ولولا الكتب المدونة، والأخبار المخلدة، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطان النسيان على سلطان الذكر.
وكان يقال: إنفاق الفضة على كتب الآداب يخلفك عليه ذهب الألباب.
وقرأ أبو الحسن بن طباطبا العلوي في بعض الكتب: الكتب معقل العقلاء إليها يلجؤون، وبساتينهم فيها يتنزهون، فقال:
اجعل جليسك دفترا في نشره ... للميت من حكم العلوم نشور.
فكتاب علم للأديب موانس ... ومؤدب ومبشر ونذير.
ومفيد آداب ومؤنس وحشة ... وإذا انفردت فصاحب وسمير.
وقال المتنبي:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب.
انتهى ما اخترناه من اليواقيت في مدح الكتب.
وقال جمال الدين إبراهيم بن القاقشوشي الكتبي في الكتب وأجاد ما أراد:
ورب صحب حووا جمع العلوم رضوا ... بالفقر ليس لهم قوت ولا مال.
في الحر والبرد أطمار الجلود لهم ... قمص وفخر لهم إذ هن أسماك.
سؤالهم بعيون الناس لا بفم ... ونطقهم بفم السؤال قوال.
كل يراهم ولا يدري بخبرهم ... إلا لبيب له في العلم إيغال.
يحيون في العلم ما عاشوا بلا ضجر ... الجد عندهم والمزح أمثال.
وربما اختلفت منهم عقائدهم ... ولا يرى بينهم قيل ولا قال.
فكن مصاحبهم تحيا بلا كدر ... ومن سواهم فختار وختال.
فإن علمت بعلمي عشت في دعة ... وإن جهلت فجل الناس جهال.
ذم الكتب- كان يقال: من تأدب من الكتاب صحف الكلام، ومن تفقه من الكتاب غير الأحكام. ومن تطبب من الكتاب قتل الأنام، ومن تنجم من الكتاب أخطأ الأيام وأنشد: ليس بعلم ما حوى القمطر=ما العلم إلا ما حواه الصدر.
وأنشدني مؤدب لي في صباي:
صاحب الكتب تراه أبدا ... غير ذي فهم ولكن ذا غلط.
كلما فتشته عن علمه ... قال علمي يا خليلي في سفط.
في كراريس جياد أحكمت ... وبخط أي خط أي خط.
فإذا قلت له هات إذن ... شد لحييه جميعا وامتخط.
وأنشد الجاحظ لمحمد بي يسير وهو أحسن ما قيل في معناه:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذلك ما أجمع.
ولم أستفد غير ما قد جمع ... ت لقيل هو العلم المصقع.
ولكن نفسي إلى كل شيء ... من العلم تسمعه تنزع.
فلا أنا أحفظ ما قد جمع ... ت ولا أنا من جمعه أشبع.
ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع.
إذا لم تكن حافظا واعيا=فجمعك للكتب لا ينفع.
وأنشد يوسف النحوي قول الشاعر:
أستودع العلم قرطاسا فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس.
فقال: قاتله الله ما أشد صبابته بالعلم، وأحسن صيانته له.
وقال أخر:
إني لأكون علما لا يكون معي ... إذا خلوت به في جوف حمام.
ولأبي بكر الخوارزمي فصل في آفات الكتب نظم نكتها تلميذ له فقال:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب ... فإن للكتب آفات تفرقها.
الماء يغرقها والنار تحرقها ... واللص يسرقها والفار يخرقها.
انتهى ما أورده الثعالبي.
وقال آخر في ذلك:
الكتب تذكرة لمن هو عالم ... وصوابها بخطائها معجون.
من لم يشافه عالما بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون.
وقال آخر:
يظن الغمر أن الكتب تهدي ... أخا جهل لإدراك العلوم.
وما علم الغبي بان فيها ... مهامه حيرت عقل الفهيم.
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم.
فائدة، ممن اخذ العلم بالمطالعة من الكتب- دون شيخ- ابن حزم الظاهري، وابن الجوازي، ووقع لهما بسبب ذلك تصحيفات كثيرة.
وقيل والزمخشري صاحب الكشاف، وليس بصحيح.
مدح الغنى- قال ابن المعتز:
إذا كنت ذا ثروة من غنى ... فأنت المسود في العالم.
وحسبك من نسب صورة ... تخبر أنك من آدم.
وقال أب الأسود الدؤلي:
(1/167)
________________________________________
وباه تميما بالغنى أن للغنى ... لسان به المرء الهيوبة ينطق.
ذم الغنى- قال الله عز ذكره (إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى) .
ويستجاد جداً قول محمود الوراق في هذا الباب:
لا تشعرن قلبك حب الغنى ... إن من العصمة أن لا تجد.
كم واجد أطلق وجدانه ... عنانه في بعض ما لم يرد.
ومدمن للخمر غاد على ... سماع عود وغناء غرد.
لو لم يجد خمرا ولا مسمعا ... برد بالماء غليل الكبد.
وكم يد للفقر عند امرء ... طأطأ منه الفقر حتى اقتصد.
مدح الفقر- من أحسن ما قيل فيه قول أبي العتاهية:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر.
وقول محمود الوراق:
يا عائب الفقر ألا تنزجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر.
من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى لو صح منك النظر.
إنك تعصي الله تبغي الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر.
قلت: محمود الوراق أخذ هذا المعنى من سبيكة ذهب، وقلبه في قطعة خشب، وأين هذا من قول الأول:
دليلك أن الفقر خير من الغنى ... وأن قليل المال خير من المثري.
لقاؤك مخلوقا عصى الله للغنى ... ولم تر مخلوقا عصى الله للفقر.
ذم الفقر- في كتاب المهبج: الفقر في الأذن وقر، وفي العين عقر، وفي القلب بقر، وفي الجوف بقر، وأنشد:
إذا قل مال المرء قل حياؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه.
وأصبح لا يدري وإن كان حازما ... أقدامه خير له أم وراؤه.
وقال صالح بن عبد القدوس:
بلوت أمور الناس سبعين حجة ... ولا بست صرف الدهر في العسر واليسر.
فلم أر بعد الدين خيرا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر.
@أنوار الربيع في أنواع البديع
الجزء الثالث تتمة باب المغايرة وقال أبو أحمد التمامي:
غالبت كل شديدة فغلبتها ... والفقر غالبني فأصبح غالبي
إن أبده يفضح وإن لم أبده ... يقتل فقبح وجهه من صاحب
مدح الصبر - قال بعضهم:
ما أحسن الصبر في مواطنه ... والصبر في كل موطن حسن
وقال علي بن الجهم:
وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضل
وقال بعضهم:
الصبر مفتاح ما يرجى ... وكل خطب يهون
اصبر وإن طالت الليالي ... فربما أمكن الحرون
وربما نيل باصطبار ... ما قيل هيهات لا يكون
والنظم والنثر في هذا المعنى كثير جدا.
ذم الصبر - قال البرقعي:
من حمد الصبر وحالاته ... فلست بالحامد للصبر
كم جرعة للصبر جرعتها ... أمر في الذوق من الصبر
وقال آخر:
ما أحسن الصبر ولكنه ... في ضمنه يذهب عمر الفتى
وقال القاضي الفاضل:
يقولون أن الصبر يعقب راحة ... وما ضمنوا تبليغ عاقبة الصبر
وفي الصبر ربح أو طريق مبلغ ... إلى الربح لكن الخسارة من عمري
وما أحسن قول الشاعر:
ومصبر للصب قلت له وهل ... صبر لمن عنه ****** يغيب
والله إن الشهد بعد فراقهم ... ما لذ لي فالصبر كيف يطيب
مدح المشورة - قال بعض البلغاء: المشورة لقاح العقول، ورائد الصواب، والمستشير على طريق النجاح، واستنارة المرء برأي أخيه من عزم الأمور وحزم التدبير. وقد أمر الله بالمشورة أكمل الخلق لبابة، وأولاهم بالإصابة، فقال لرسوله الكريم، في كتابه الحكيم (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) .
وقال الأصمعي: قلت لبشار بن برد: يا أبا معاذ، والله ما سمعت في المشورة أحسن من قولك:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصاحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم
فقال لي: أما علمت أن المشاور بين إحدى الحسنيين، صواب يفوز بثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه. فقلت له: والله لأنت في كلامك هذا أشعر منك في شعرك.
ذم المشورة - كان عبد الملك بن صالح الهاشمي يذم المشورة ويقول: ما استشرت أحدا قط إلا تكبر علي وتصاغرت له، ودخلته العزة، ودخلتني الذلة. فإياك والمشاورة وإن ضاقت بك المذاهب، واستبهمت عليك المسالك وأداك الاستبداد إلى الخطأ الفادح.
(1/168)
________________________________________
وكان عبد الله (بن) طاهر يقول: ما حك ظهري مثل ظفري، ولأن أخطأ مع الاستبداد ألف خطأ أحب إلي من أن استشير فالحظ بعين النقص والحاجة.
مدح العتاب - قال بعض البلغاء: العتاب حدائق المتحابين، وثمار الأوداء، والدليل على الضن بالأخوة. وكان يقال: ظاهر العتاب خير من باطن الحقد.
(وقال) أبو لادرداء: معاتبة الأخ أهون من فقده، ومن لك بأخيك كله.
(وقال) بعضهم:
ترك العتاب إذا استحق أخ ... منك العتاب ذريعة الهجر
وقال الشاعر:
نعاتبكم يا آل عمرو لحبكم ... إلا إنما الملقي من لا يعاتب
وقال آخر: - (ويبقى الود ما بقي العتاب) وقال آخر: - (وفي العتاب حياة بين أقوام) وقال آخر:
إذا تخلفت عن صديق ... ولم يعاتبك في التخلف
فلا تعد بعده إليه ... فإنما حبه تكلف
(وقال) آخر:
علامة ما بين المحبين والهوى ... عتابها في كل حق وباطل
(وقال) آخر:
ومن لم يعاتب في التواني خليله ... وأملى له صار التواني تماديا
ذم العتاب - قال بعضهم: كثرة العتاب داعية الاجتناب. وقال الشاعر:
إن بعض العتاب يدعو إلى الع ... ب ويوذي من المحب ******ا
وإذا ما القلوب لم تضمر الود ... فلن يعطف العتاب القلوبا
وقال آخر:
ودع ذكر العتاب فرب شر ... طويل هاج أوله العتاب
وقال آخر:
إذا ما كنت منكر كل ذنب ... ولم تحمل أخاك عن العتاب
تباعد من تقارب بعد قرب ... وصار به الزمان إلى اجتناب
وقال آخر:
أقلل عتاب من استربت بوده ... ليست تنال مودة بعتاب
وفي نوابع الكلم: الكتاب الكتاب، أن أردت العتاب، إن العتاب مسافهة، متى كان مشافهة.
مدح الشباب - قال الصولي في كتاب فضل الشباب على الشيب الذي ألفه للمقتدر: إن السن لا تقدم مؤخرا ولا تؤخر مقدما، بل ربما عدل بجلائل الأمور ومهمات الخطوب عن المشايخ إلى الشبان لاستقبال أيامهم، وسرعة حركاتهم، وحدة أذهانهم، وتيقظ طباعهم؛ ولأنهم على ابتناء المجد أحرص وإليه أصبا وأحوج. وقد أخبر الله عز اسمه أنه أتى يحيى بن زكريا عليهما السلام الحكمة في سن الصبا فقال: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) وذكر الفتية في غير موضع من كتابه فقال: (إذ أوى الفتية إلى الكهف) وقال: (إنهم فتية آمنوا بربهم) وقال عز ذكره: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) وقال (في موضع) آخر: (وإذ قال موسى لفتيه) وعن ابن عباس أنه قال: ما بعث الله نبيا من الأنبياء عليهم السلام إلا شابا، ولا أتى العلم عالما إلا وهو شاب ثم تلا هذه الآية: (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) .
وقال بعض البلغاء: الشباب باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله كما أن أطيب الثمار بواكيرها.
ولما أنشد منصور النمري الرشيد قوله:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع ... إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
ما كنت أوفي شبابي كنه عزته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
بكى الرشيد حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا نمري ما خير دنيا لا يخطر فيها برداء الشباب.
(وقال) يوتس أغوى: ما بكت العرب على شيء ما بكت على الشباب، وما بلغت منه ما يستحق.
وقال الجاحظ في معنى قول أبي العتاهية:
إن الشباب حجة الصتابي ... روائح الجنة في الشباب
معنى كمعنى الطرب الذي تشهد بصحته القلوب وتعجز عن صفته الألسنة.
ذم الشباب - كان يقال: الشباب مطية الجهل، ومطية الذنب.
وقال النابغة الذبياني:
فإن يك عامر قد قال جهلا ... فإن مطية الجهل الشباب
وقال الغيبي: قالت عهدتك مجنونا فقلت لها=إن الشباب جنون برؤه الكبر وقال أبو الطيب المصعبي:
لم أقل للشباب في كنف الله وفي سترة غداة استقلا
زائر زارني أقام قليلا ... سود الصحف بالذنوب وولى
وقال آخر:
ما أبصرت عيناي أغدر زائر ... في الدهر من هذا الشباب الراحل
أكرمته وبررته حتى إذا ... واحا حال على المشيب القاتل
مدح الشيب - في الخبر أن الله سبحانه يقول: الشيب نوري، وأنا أستحي أن أحرق نوري بناري.
وكان يقال: الشيب حلية العقل وسمة الوقار.
وكان يقال: المشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب.
(1/169)
________________________________________
وقال بعض الحكماء: إذا شاب العاقل سرى في طريق الرشد بمصباح.
فصل للبديع الهمداني في مدح الشيب (و) ذم الشباب: جزى الله المشيب خيرا فإنه أناة ولا رد الشباب فإنه هناة. وأظن الشباب والمشيب لو مثلا لمثل الأول كلبا عقورا، والآخر شيخا وقورا، ولاشتعل الأول نارا، واشتهر الثاني نورا. فالحمد لله الذي بيض القار وسماه الوقار، وعسى الله أن يغسل الفؤاد كما غسل السواد. إن السعيد من شابت لمته، ولم تخص بالبياض لحيته.
وقال دعبل:
أهلا وسهلا بالمشيب فإنه ... سمة العفيف وهيبة المتحرج
ضيف أحل بك النهى فقريته ... رفض الغواية واقتصاد المنهج
لا شيء أحسن من مشيب وافد ... بالحلم مخترم الشباب الأهوج
فكأن شعري نظم در زاهر ... في تاج ذي ملك أغر متوج
وقال طريح بن إسماعيل الثقفي:
والشيب أن يحلل فإن وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفس
لم ينتقص مني المشيب قلامة ... الآن حين بدا ألب وأكيس
وقال أبو تمام:
ولا يروعك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب
وقال أبو السمط:
إن المشيب رداء العقل والأدب ... كما الشباب رداء اللهو والطرب
هذا مختار اليواقيت في مدح الشيب.
وقال الشريف الرضي:
مسيري في ليل الشباب ضلال ... وشيبي ضياء في الورى وجمال
سواد ولكن البياض سيادة ... وليل ولكن النهار جلال
وما المرء قبل الشيب إلا مهند ... صدي وشيب العارضين صقال
وأطرب لقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي أبقاه الله تعالى:
وإن في الشعرات البيض لو عملوا ... نورا لعيني ونوارا على عودي
بيض وسود إذا ماستجمعا حسنا ... حسن البياض على أحداقها السود
ذم الشيب - ومن أحسن ما قيل فيه على كثرته قول أبي تمام:
غدا الشيب مختطا بفودي خطة ... طريق الردى منها إلى النفس مهيع
هو الزور يجفى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقع
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسقع
ونحن نزجيه على الكره والرضى ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع
وقول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
تضاحكت لما رأت ... شيبا تلالا غرره
قلت لها لا تضحكي ... أنبيك عندي خبره
هذا غمام للردى ... ودمع عيني مطره
وقول الآخر:
من شاب قد مات وهو حي ... يمشي على الأرض مثل هالك
لو كان عمر الفتى حسابا ... لكان في شيبه فذالك
هذا ما أورده الثعالبي من الشعر في ذم الشيب.
ويعجبني إلى الغاية قول مهيار بن مرزويه الكاتب رحمه الله:
قالوا المشيب لبسة جديدة ... خذوا الجديد واستردوا لي الخلق
وقال القاضي شمس الدين بن خلكان: أنشدني الأديب أبو عبد الله شهاب الدين محمد بن يوسف بن سالم المعروف بالتلعفري في بعض ليالي شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة بالقاهرة، وهو من شعراء العصر المجيدين:
يا شيب كيف وما انقضى زمن الصبا ... عاجلت مني اللمة السوداء
لا تعجلن فو الذي جعل الدجى ... من ليل طرتي البهيم ضياء
لو أنها يوم الحساب صحيفتي ... ما سر قلبي كونها بيضاء
فقلت له: قد أغرت على بيت نجم الدين يعقوب بن صابر المنجنيقي حتى أنك قد أخذت معظم لفظه وجميع معناه والوزن والروي، وهو قوله:
لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء
فحلف أنه لم يسمع هذا البيت إلا بعد عمله الأبيات، والله أعلم بذلك.
وهذا البيت لابن صابر من جملة أبيات وهي:
قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء
حتى سرت وخطاته في مفرقي ... فوددت أن تنفذ الظلماء
وغدوت أستبقي الشباب تعللا ... بخضابها فخضبتها سوداء
لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء
وهنا انتهى ما أردنا إيراده من كتاب يواقيت المواقيت للثعالبي في نوع المغايرة، مع زيادات فيه نبهنا على بعضها، وأغفلنا البعض.
ومن مشهور أمثلة المغايرة قول ابن الرومي في هجو الود، وهو الذي يقول فيه ابن سكرة الهاشمي:
للود عندي محل ... لأنه لا يمل
(1/170)
________________________________________
كل الرياحين جند ... وهو الأمير الأجل
وما حمل ابن الرومي على هجوه إلا أنه كان يزكم من رائجته حتى قال فيه ما هو من عجائب التشبيه، ونوادر تقبيح الحسن والتهجين، وهو قوله:
وقائل لم هجرت الورد مقتبلا ... فقلت من شؤمه عندي ومن سخطه
كأنه سرم بغل حين أخرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه
أين هذا التشبيه القبيح من قول الآخر في الورد:
كأنه وجنة ****** وقد ... نقطها عاشق بدينار
وقد كان ابن الرومي ممن يخالف الناس، ويعكس القياس، فيذم الحسن ويمدح القبيح، وهو القائل:
في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه بعض تغيير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ذممت تقل قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... سحر البيان يري الظلماء كالنور
قال الصفدي: والحريري إنما فاق على من سواه بما أتى به في مقاماته في مدح الشيء وذمه، كما فعل في المقامة الدينارية، والتي فاضل فيها بين كتابة الإنشاء والحساب، والتي ذكر فيها البكر والثيب والزواج والعزوبة، وغير ذلك، وهذا هو البلاغة والتلعب بالكلام وصحة التخيل والذوق. انتهى.
وحكى الشريف المرتضى علم الهدى رضي الله عنه في كتاب الغرر والدرر قال: حكي أن أبا النظام جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد ليعلمه فقال له الخليل يوما يمتحنه وفي يده قدح زجاج: يا بني صف لي هذه الزجاجة فقال: بمدح أم بذم؟ فقال: بمدح، قال: نعم، تريك القذى ولا تقبل الأذى ولا تستر ما ورا.
قال: فذمها، قال: سريع كسرها بطيء جبرها. قال: فصف هذه النخلة - وأومأ إلى نخلة في داره - قال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: هي حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها. قال: فذمها؛ قال: هي صعبة المرتقى؛ بعيدة المجتنى؛ محفوفة بالأذى. فقال الخليل: يا بني نحن إلى التعلم منك أحوج.
قال السيّد المرتضى قدس الله سره الشريف: وهذه بلاغة من النظام حسنة، لأن البلاغة هي وصف الشيء ذما أو مدحا بأقصى ما يقال فيه. انتهى.
ويحكى أنه لما حفر عبد الله بن عامر بالبصرة نهره المعروف بنهر عامر ركب إليه يوما ومعه غيلان الضبي؛ فقال له: يا غيلان ما أنفع هذا النهر لأهل هذا المصر؟ فقال: نعم أصلح الله الأمير: هو سقياهم، وتأتيهم فيه ميرتهم، وتتعلم منه السباحة صبيانهم. فلما عزل عبد الله، وولي زياد وكان مولعا برفع آثار عبد الله، وأراد طم هذا النهر فلم يمكنه لفرط منافع الناس به، فركب يوما ومعه غيلان على شط ذلك النهر، فقال له زياد: يا غيلان ما أضر هذا النهر بأهل هذا المصر؟ فقال: نعم أصلح الله الأمير، تنز منه دورهم، ويكثر به بعوضهم، وتغرق فيه ولدانهم. فعجب الناس من تصرفه.
وتكلف ابن الرومي في هجو القمر وعدد له معائب فقال:
لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر رماه بالخطة الشنعاء
قال يا بدر أنت تغدر بالسا ... ري وتغري بزورة الحسناء
كلف في بياض وجهك يحكي ... نمشا فوق وجنة برصاء
يعتريك المحاق في كل شهر ... فترى كالقلامة الحجناء
وأبلغ ما قيل في ذلك وأجمعه قول بعض ظرفاء الكتاب ممن يسكن دور الكراء، وقد قيل له: أنظر إلى القمر ما أحسنه، فقال: والله ما انظر إليه لبغضي له، قيل: ولم؟ قال لأن فيه عيوبا لو كانت في حمار لرد بالعيب، قيل: وما هي؟ قال: ما يصدقه العيان، ويشهد به الأثر. فإنه يهدم العمر، ويقرب الأجل، ويحل الدين، ويوجب كراء المنزل، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويسخن الماء، ويفسد اللحم؛ ويعين السارق؛ ويفضح العاشق الطارق.
وتأذى ابن المعتز في ليلة من ليالي البدر بالقمراء، وذلك في الصيف فقال يذم القمر:
يا سارق الأنوار من شمس الضحى ... يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي
أما ضياء الشمس فيك فناقص ... وأرى زيادة حرها لم تنقص
لم يظفر التشبيه منك بطائل ... متسلخ بهقا كجلد الأبرص
وما أسنى قول (ابن) سناء الملك:
ليل الحمى بات بدري وهو معتنقي ... وبات بدرك مرميا على الطارق
شتان ما بين بدر صيغ من ذهب ...
وذاك بدري
وبدر صيغ من بهق
(1/171)
________________________________________
وأين هؤلاء من ذلك البدوي الذي شردت راحلته بالليل فاتبعها حتى أعيا فلما طلع القمر وجدها معلقة بخطامها ترعى من الشجر، فرفع رأسه إلى القمر فقال:
ماذا أقول وقلي فيك ذو حصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
وقد عدوا في الشمس معائب، كما عدوا في القمر، فقال بعضهم: الشمس تشحب اللون، وتغير العرق، وترخي البدن، وتثير المرة. إن أضحيت فيها أمرضتك، وإن أطلت النوم فيها أفلجتك، وإن قربت منها صرت زنجيا، وإن بعدت عنها صرت صقلبيا.
وقال المشرف التيفاشي في ذمها:
في خلقة الشمس وأخلاقها ... شتى عيوب ستة تذكر
من صبحها النور لا مسائها ... مغائر الأشكار لا يفتر
رمداء عمشاء إذا أصبحت ... عمياء عند الليل لا تبصر
ويغتدي البدر لها كاسفا ... وجرمه من جرمها أصغر
حرورها في القيظ لا يتقى ... ونورها في القر مستحقر
وخلقها خلق الملول الذي ... ينكث في العهد ولا يصبر
ليست بحسناء وما حسن من ... يقصر عنه اللفظ أن يخبر
وأحسن من هذا قول ابن سناء الملك:
لا كانت الشمس فكم أصدأت ... صفحة خد كالحسام الصقيل
وكم وكم صدت بوادي الكرى ... طيف خيال جاءني من خليل
وأعدمتني من نجوم الدجى ... ومنه روضا بين ظل ظليل
تكذب في الوعد وبرهانه ... إن سراب القفر منها سليل
وتحسب النهر حساما فتر ... تاع وتحكي فيه قلب الذليل
إن صدئ الطرف فما صقله ... إلا التجلي بمحيا جميل
وهي إذا أبصرها مبصر ... حديد طرف عاد عنها كليل
يا غلة المهموم يا جلدة ال ... محموم يا زفرة صب نحيل
يا قرعة المشرق وقت الضحى ... وسلحة المغرب وقت الأصيل
أنت عجوز لم تبرجت لي ... وقد بدا منك لعاب يسيل
وأنت بالشيطان قرنانة ... فكيف تهدينا سواء السبيل
قال الصفدي: انظر إلى هذا التمحل الذي تكلفه لإظهار معائب الشمس لتعلم تفاوت الناس في البلاغة. وأحسن ما في هذه القطعة قوله: يا غلة المهموم - البيت - والذي بعده حسن، والثالث أيضاً.
وهو مأخوذ من قول أبي العلاء المعري:
وفضل الشمس في الآفاق باق ... وإن مدت من الكبر اللعابا
انتهى. وما أحسن قول بعض الأعراب يصف أحوالها:
مخبأة أما إذا الليل جنها ... فتخفى وأما في النهار فتظهر
إذا انشق عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وإنجاب الحجاب المنمر
وألبس عرض الأرض لونا كأنه ... على الأفق الغربي ثوب معصفر
تجلت سريعا حين يبدو شعاعها ... ولم يبد للعين البصيرة منظر
عليها كردع الزعفران يشوبه ... شعاع تلألأ فهو أبض أصفر
فلما انجلت وابيض منها اصفرارها ... وجالت كما جال الوشاح المشهر
وجللت الآفاق نورا فأصعدت ... بحر له صدر الشجى يتسعر
ترى الظل يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت على الأرض ينشر
كما بدأت إذ أشرقت بطلوعها ... تعود كما عاد الكبير المعمر
وتدنف حتى ما يكاد شعاعها ... يبين إذا ولت لمن يتبصر
وأفنت قرونا وهي إذ ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كل يوم وتنشر
رجع إلى التغاير - وغاير الناس ابن المعتز في ذم الجود ومدح البخل فقال:
يا رب جود جر فقر امرئ ... فقام في الناس مقام الذليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وقال ابن الرومي في مدح الحقد:
وما الحقد إلا توأم العقل في الفتى ... وبعض السجايا ينسبن إلى بعض
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
وجرى الحجاج بن يوسف على سجيته فذم العدل ومدح الجور في قوله:
إذا عدل السلطان هان وإن يكن ... لدى جوره أمر فإن له نبلا
وما العدل إلا عجز رأي وضلة ... وكل أخي عدل سيورثه ذلا
وقال آخر في ذم الحلم والتواضع مغايرا للناس في ذلك:
الحلم عجز والتواضع ذلة ... عندي وبعض الحول حلو المجتنى
ولجام ذي السفه الجفاء فإن تزل ... عنه جفاءك عاد يركض في الخنا
(1/172)
________________________________________
كالعود يكفيك اللهيب دخانه ... فإذا اللهيب انجاب عنه تدخنا
ومن شعر محمد بن أبي حمزة العقيلي يذم الشجاعة:
ظلت تشجعني هند فقلت لها ... إن الشجاعة مقرون بها العطب
يا هند لا والذي حج الحجيج له ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب
ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر، وقد أجمع الناس على طوله فقال:
قصرت مسافته على متزود ... منه لوهن صبابة وغليل
ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل
وقال التهامي في النوائب:
لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار
ما كنت إلا زبرة فطبعنني ... سيفا وأرهف حدهن غراري
وقال آخر في ذلك:
جزى الله الشدائد كل خير ... وإن هي جرعت غصص الرفيق
وما شكري لها إلا لأني ... عرفت بها عدوي من صديقي
وقال آخر في الدعاء لأعدائه:
عداتي لهم فضل علي ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ولم أسمع في نوع المغايرة بأبدع من قول أبي الحسن الباخرزي في عميد الملك الكندري، حين اختصى وحلق لحيته. وسبب ذلك: أن مخدومه الملك ألب أرسلان أرسله إلى خوارزم شاه ليخطب له ابنته، فأرجف أعداؤه: إن عميد الملك خطبها لنفسه، وشاع ذلك بين الناس، فبلغ عميد الملك الخبر، فخاب تغير مخدومه عليه، فعمد إلى لحيته فحلقها، وإلى مذاكيره فجبها، وكان ذلك سبب سلامته من مخدومه. وقيل أن السلطان خصاه.
فلما فعل ذلك قال فيه أبو الحسن الباخرزي قصيدة يمدحه بها مطلعها:
طاب العميد الكندري شمائلا ... حتى استعار الروض منه مخائلا
منها في جب مذاكيره وهو قوله المشار إليه:
قالوا محا السلطان عنه ... لا انمحى

سمة الفحول وكان قرما صائلا
قلت اسكتوا فالآن زاد فحولة ... لما اغتدى عن أنثييه عاطلا
والفحل يأنف أن يسمى بعضه ... أنثى لذلك جذها مستأصلا
ومتى يضن على الحديد بفرعه ... أصل يسيل على الحديد مقاتلا
وله بما يخصى الجواد فيكتسي ... سمنا وقد رثت قواه ناحلا
فيغير في الظلماء غير منبه ... جيش العدو بأن يحمحم صاهلا
يهنيه نفي الأنثيين فإنه ... نقص يسوق إليه مجدا كاملا
ومنها في حلق لحيته:
هذا وقد كان الكسوف لشمسه ... متطرقا يذكي سنا متضائلا
فجلوا عن الشمس الكسوف ليملأ الأقطاب والأقطار ضوء شاملا
إن الأشاء إذا أصاب مشذب ... منه أتمهل ذرى وأث أسافلا
قال في الدمية: ولا أعرف أحدا مدح بهذا المديح، وهو نوع من الصنعة يسمى تحسين القبيح. انتهى.
وقد طال الشرح في نوع التغاير ولكنني متعت الأذواق بمحاسن أمثاله الغريبة، وقرَّطت المسامع بدرر شواهده التي لا تعتري حسنها ريبة.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
فالله يكلؤ عذالي ويلهمهم ... عذلي فقد فرجوا كربي بذكرهم
غاير الناس في الدعاء لعذاله، وسؤاله الهامهم عذله، وما ذاك إلا أن العذول لا يزال يذكر الأحباب في عذله، فلما كرر العذال عذله بذكر أحبابه فرجوا كربه بذلك.
وما أحسن قول الشيخ عمر بن الفارض:
اعد ذكر من أهوى ولو بملام ... فإن أحاديث ****** مدامي
ليشهد سمعي من أحب وإن نآى ... بطيف ملام لا بطيف منام
فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... وإن مزجوه عذلي بخصام
كان عذولي بالوصال مبشري ... وإن كنت لم أطمع برد سلام
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
تغاير الحال حتى في النوى فبه ... أصبحت منتظرا أيام وصلهم
قال ابن حجة أنه نظم المغايرة ولكن غاير بها الأفهام، وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم
قال في شرحه: الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم أنا في مدحه لمعنى، وما ذاك إلا أنني لما أراه أتحقق أنه ما تجرد للمراقبة إلا وقد علم بزيارة ******. فانظر إلى حسن المغايرة وغرابة المعنى وحسن التركيب. انتهى.
(1/173)
________________________________________
وأنا أقول: المغايرة بمدح الرقيب أمر مشهور من قديم العصر في النظم والنثر، فمنه قول بعض الظرفاء: متى أؤدي شكر الرقيب وهو يحفظ حبيبي - وهو من الدنيا نصيبي - وكما يمنعه مني، يمنعه من غيري.
وكان عبد الصمد بن معذل يقول: مرحبا بالرقيب، فإنه ثاني ******. وهو القائل لابن الرومي:
موقف للرقيب لا أنساه ... لست أختاره ولا أأباه
مرحبا بالرقيب من غير وعد ... جاء يجلو علي من أهواه
وقال آخر:
أحب العذول لتكراره ... حديث ****** على مسمعي
وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... يكون إذا كان حبي معي
فإن كان ابن حجة لم يطرق سمعه شيء من ذلك فقد دل على قلة اطلاعه وقصر باعه، وإن اطلع عليه ثم قال: (الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم أنا في مدحه فانظر إلى حسن المغايرة وغرابة المعنى) فهذا منه وقاحة زائدة وتزيد ليس له فائدة.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
وقيت يا عاذلي مني التغاير ما ... ذكرتهم لي إلا فرجت غممي
هذا معنى بيت الشيخ صفي الدين الحلي بعينه أخذه من ذلك العقد وأودعه هذا الودع.
وبيت بديعيتي هو قولي:
غايرت قولي في حبيهم فأنا ... أهوى الوشاة لتقريبي لسمعهم
المغايرة فيه، محبته للوشاة به، لتقريبهم له من سمع أحبابه، والناس قد أجمعوا على مقت الوشاة في بغضهم لهم، وهذه المغايرة لم أقف عليها في نظم ولا نثر ممن تقدمني مع شدة الفحص عنها والطلب لها.
ووقع في شعر مسلم بن الوليد المغايرة بمدح الواشي على غير هذا الوجه، وهو قوله:
يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنساني من الغرق
وهذا المعنى ليس من ذلك في شيء كما هو ظاهر.
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
جرى الفراق فراق الالتقا ووقى ... ملالة الوصل فأحمده ولا تذم
المغايرة فيه ظاهرة وهو مدح الفراق، لكونه حسن الالتقاء بعده، ولكونه وقى من ملالة الوصل، والمعروف ذم الفراق والتبرم منه.

التوشيح
هم وشحوني بمنثور الدموع وقد ... توشحوا من لآليهم بمنتظم
التوشيح هو أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية ويدل على لفظها، ولذلك سمي توشيحاً، لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزل المعنى منزلة الوشاح، ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح، والفرق بينه وبين رد العجز على الصدر، أن هذا دلالته معنوية، وذاك لفظية.
ومن أعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) فإن اصطفى يدل على أن الفاصلة (العالمين) لا باللفظ، لأن لفظ العالمين غير لفظ اصطفى ولكن بالمعنى، لأنه يعلم من لوازم اصطفاء شيء أن يكون مختارا على جنسه، وجنس هؤلاء المصطفون العالمون. وقوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) .
قال ابن أبي الإصبع: فإن من كان حافظا لهذه السورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة (مظلمون) لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم أي دخل في الظلمة.
ومن أمثلته الشعرية قول الراعي:
وإن وزن الحصى فوزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزينا
قال قدامة في كتابه نقد الشعر: إن الإنسان إذا سمع هذا البيت وقد عرف قافية القصيدة، علم أن وزن الحصى سيأتي بعده رزين لأمرين: أحدهما أن قافية القصيدة نونية، والثاني أن نظام البيت يقتضيه، لأن الذي يفاخر برجاحة الحصى وهو العقل، يلزمه أن يقول في حصاه أنه رزين. انتهى.
ونحوه قول الفرزدق من قصيدته التي أجاب بها جريرا:
وأغلق من وراء بني كليب ... عطية من مخازي اللؤم بابا
فإن السامع إذا تحقق أن القافية مجردة منطلقة رويها الباء وحرف إطلاقها الألف، ورأى في صدر البيت ذكر الإغلاق، لم يعتره شك في أن القافية (بابا) .
وذكر ابن حجة وغيره في هذا النوع أمثلة هي من نوع التسهيم، ستقف عليها هناك، وتعلم أنها منه لا من باب التوشيح.
ومما وقع لي أنا في هذا النوع، أني أنشدت مرة شيخنا العلامة جعفر ابن كمال الدين البحراني سقى الله غيث الرحمة ثراه أبياتا من شعري أولها:
سقى الله أيامنا بالحجاز ... ولا جازها الغيدق الهاطل
(1/174)
________________________________________
فما كان أطيب عيشي بها ... إذ المنزل القفر بي آهل
إلى أن وصلت إلى قولي فيها:
أتعذلني جاهلا حاله ... لك الويل يا أيها العاذل
فلما بلغت (حاله) لإنشاد قولي (لك الويل) سبقني هو فقال (يا أيها العاذل) .
ومن شواهده أيضاً قول الشريف الرضي رضي الله عنه في قصيدة:
ما أنصف الفاسق في لحظه ... لما أرانا عفة العابد
تعزز الحب إلي ذلة ... وناقص الحب إلى زائد
وقوله منها:
يا عذبة المبسم بلي الجوى ... بنهلة من ريقك البارد
أرى غديرا شبما ماؤه ... فهل لذاك الماء من وارد
من لي به من عسل ذائب ... يجري خلال البرد الجامد
وقول أمية بن (أبي) الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والبناء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق السني ولا مساء
الشاهد في البيت الثالث، فإن السامع إذا سمع صدره وقد عرف القافية لا يختلجه شك في أن القافية (مساء) .
وقول أبي فراس بن حمدان:
ولما ثار سيف الدين ثرنا ... كما هيجت آسادا غضابا
أسنته إذا لاقى طعانا ... صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مشرعات ... فكنا عند دعوته الجوابا
الشاهد في البيت الثالث أيضاً وهو ظاهر.
وقول أبي عبادة البحتري: والشاهد في البيت الثالث أيضاً:
ما لي وللأيام صرف صرفها ... حالي وأكثر في البلاد تقلبي
أمسي زميلا للظلام وأغتدي ... ردفا على كفل الصباح الأشهب
فأكون طورا مشرقا للمشرق الأقصى وطورا مغربا للمغرب
فإن صدر البيت يدل دلالة بينة على أن القافية (مغرب) .
وما أحسن قوله بعده، وهو من أبياته السائرة:
وإذا الزمان كساك حلة معدم ... فالبس لها حلل النوى وتغرب
ولنكتف من شواهد هذا النوع بهذه النبذة ففيها للأديب مقنع والله أعلم.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
هم أرضعوني ثدي الوصل حافلة ... فكيف يحسن منهم حال منفطم
فذكر الرضاع والثدي مع العلم أن القصيدة ميمية يعلم منها من له أدنى ذوق أن القافية ينبغي أن تكون (منفطم) .
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
نومي وعقلي بتوشيح الهوى سلبا ... فبت صبا بلا حلم ولا حلم
فذكر النوم في صدر البيت يعلم منه - وقد عرف أن القصيدة ميمية - إن قافيته تكون (حلم) . غير أن قوله: توشيح الهوى، استعارة غير مقبولة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا تعرفنا بنشرهم
ابن حجة سود وجه نصف صفحته في إطراء هذا البيت، وتعديد محاسنه، وهو من التكلف على جانب كما يشهد به الذوق السليم، وعلى أمر خال من مثال النوع، إذ ليس في صدر البيت ما يدل على انه ينبغي أن تكون القافية (نشرهم) ، إذ النشر إنما يناسبه الطي أو الرائحة الطيبة، وذكر الطي والعرف في العجز لا يجدي، فإنه خروج عن شرط التوشيح لما تقدم من أنه ينبغي أن يكون في أول الكلام ما يدل على القافية لا في آخر الكلام، فتأمل.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
توشحوا الود وامتنوا علي به ... فكيف يحسن سعيي في فراقهم
هذا البيت أيضاً ليس فيه من التوشيح غير لفظ توشحوا، وأما معناه فلا. واستعارة التوشيح للود لا وجه لها ولا مناسبة أصلا.
وبيت بديعيتي هو قولي:
هم وشحوني بمنثور الدموع كما ... توشحوا من لآليهم بمنتظم
فذكر منثور الدموع في صدر البيت بعد العلم بأن القافية ميمية يستلزم عند غير الأجنبي عن هذا العلم أن تكون قافية البيت (منتظم) . وفي قوله: وشحوني بمنثور الدموع استعارة تبعية، أضمر تشبيه انصباب الدموع على العاتق والكشح بتوشيح الوشاح، ثم استعار اسم المشبه به للمشبه واشتق منه صيغة الفعل على قانون الاستعارة التبعية، فاجتمع في هذا البيت من أنواع البديع: الاستعارة، والتشبيه، والطباق، والسهولة، والانسجام والتمكين، والتعطف في وشحوني وتوشحوا، والتوشيح الذي هو المقصود فيه والله أعلم.
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
(1/175)
________________________________________
ألا يمين لكم يا لائمين لنا ... كم تركبون عظيم الحنث بالقسم
قال ناظمه في شرحه: بدئ وختم بالقسم.

التذييل
عدمت تذييل حظي حين قصره ... طول التفرق والدنيا إلى عدم
التذييل - ضرب من الأطناب، وهو تعقيب الجملة التامة نظما كانت أو نثرا بجملة تشتمل على معناها لتوكيد منطوقها، أو مفهومها، ليظهر المعنى لمن لم يفهمه، ويتقرر عند من فهمه، وهو ضربان: ضرب - يخرج مخرج المثل السائر، بأن يكون مستقلا بإفادة المراد فيكون جائز الاستعمال على الإنفراد، وهذا النوع هو الذي بنى عليه أرباب البديعيات أبياتهم، ومثاله قوله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) فالجملة الأولى دلت بمنطوقها على زهوق الباطل. والجملة الأخيرة تأكيد وتقرير لذلك، وهو التذييل الذي أخرج مخرج المثل السائر.
وقول النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المذهب
فصدر البيت دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال، وقوله: أي الرجال المهذب جملة مشتملة على هذا المعنى مؤكدة له خارجة مخرج المثل السائر وهو التذييل.
وقول الحطيئة:
تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المدائح يحمد
فعجز البيت كله تذييل أخرج مخرج المثل، وكل من صدره وعجزه مستقل بنفسه وتمام معناه ولفظه، مع ما بينهما من التلاحم الذي قلما يوجد بين صدر بيت وعجزه.
ومثله قول أبي الشيص:
وأهنتني وأهنت نفسي عامدا ... ما من يهون عليك مما يكرم
فعجز البيت بجملته تذييل خارج مخرج المثل، وفي ضمنه مطابقة بين الهوان والكرامة.
ومثله في ذلك كله قول الكافي أبي علي أبزون العماني:
نفر تعاقبهم بعفوك عنهم ... كم بالغ بالعفو فعل معاقب
وضرب - لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بإفادة المراد، وتوقفه على ما قبله، كقوله تعالى: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) إن قلنا: إن المعنى: وهل نجازي ذلك الجزاء المخصوص، فيكون متعلقا بما قبله. وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر، وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة، يستعمل تارة في معنى المعاقبة، وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله تعالى: ذلك جزيناهم بما كفروا، بمعنى عاقبناهم بكفرهم، قيل: وهل نجازي إلا الكفور بمعنى وهل يعاقب. فعلى هذا يكون من الضرب الأول.
ومن ذلك قول الحماسي:
فدعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
فعجز البيت كله تذييل لكنه لم يخرج مخرج المثل به واستقلاله وتوقفه على ما قبله.
وقول أبي الطيب المتنبي:
وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ... إلى قمر ما واجد لك عادمه
فقوله: ما واجد لك عادمه، تذييل بديع لكنه لم (يخرج مخرج المثل لعين الأمر) .
وقوله أيضاً:
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي
فالعجز كله تذييل على حد ما تقدم.
وقول ابن نباتة السعدي:
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
قال الخطيب في الإيضاح: قيل: نظر فيه إلى بيت أبي الطيب، وقد أربى عليه في المدح والأدب مع الممدوح، حيث لم يجعله في حيز من يتمنى شيئا. انتهى.
وغلط من قال: إن التذييل فيه أخرج مخرج المثل السائر، بل هو من الضرب الثاني لعدم استقلاله بإفادة المراد، لكون الخطاب في قوله (تركتني) للسابق، والمثل لا يكون إلا مستقلا بمعناه، منفصلا عما قبله.
وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون، كل نفس ذائقة الموت) فقوله: أفإن مت فهم الخالدون، تذييل الضرب الثاني لتوقفه على ما قبله، وتعلقه به، وقوله: كل نفس ذائقة الموت، من الضرب الأول، لأنه حكم كلي منفصل عما قبله. وقد يشتبه على من لا قدم له راسخة في هذا العلم، التذييل بالإيغال والتكميل والتكرير.
والفرق بين التذييل والإيغال من وجهين: أحدهما أن الإيغال يكون بغير الجملة، وبغير التأكيد، بخلاف التذييل.
والثاني - أن الإيغال لا يكون إلا في الكلمة التي فيها الروي وما يتعلق بها، والتذييل يكون في أكثر عجز البيت، ويستوعبه غالبا.
والفرق بينه وبين التكميل من ثلاثة أوجه:
(1/176)
________________________________________
أحدها - أن التكميل يكون في الحشو والمقاطع بخلاف التذييل، فإنه لا يكون إلا في المقطع دون الحشو.
الثاني - أن التكميل قد يكون بغير الجملة بخلاف التذييل.
الثالث - أن التكميل يخرج عن معنى الكلام المتقدم لأنه يفاد به معنى زائد على ما تقدم بخلاف التذييل.
والفرق بين التذييل والتكرير: أن التكرير يكون بلفظ الجملة المتقدمة ولا تغاير فيه بين الجملتين بحسب الذات، بخلاف التذييل، فإن التغاير فيه بين الجملتين بحسب الذات، والله أعلم.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
لله لذة عيش ب****** مضت ... فلم تدم لي وغير الله لم يدم
فقوله: وغير الله لم يدم، هو التذييل الذي أخرج مخرج المثل السائر. ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
تذييل عيشي ورزقي قسمة حصلت ... في أول الخلق والأرزاق بالقسم
والتذييل فيه ظاهر.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم
التذييل في قوله (وكفى بالله في القسم) وأجاد في ذكر الطول الذي ترشحت به التورية، لأن الطول من لوازم الذيل، وقد فات ذلك عز الدين الموصلي فجاء بالتورية مجردة.
وبيت بديعيتي هو قولي:
عدمت تذييل حظي حين قصره ... طول التفرق والدنيا إلى عدم
فقولي: والدنيا إلى عدم، هو التذييل، وقد أخرجته مخرج المثل السائر، وذكر التقصير رشح التورية في لفظ التذييل الذي هو تسمية هذا النوع. فإن القصر من لوازم الأذيال كالطول، وفيه أيضاً المطابقة، ورد العجز على الصدر، والسهولة، والانسجام، والاستعارة.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
تذييل جمعي بهم لم يصف لي زمنا ... من ذا الذي قد صفا دهرا ولم يضم
ما أظن أحدا ممن يشعر يرضى أن ينسب إليه مثل هذا البيت أبدا. وفي كون هذا تذييلا نظر ظاهر لا يحتاج إلى البيان.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
أهزلت مرعاي جدا إذ رعت هممي ... روض المنى والمنى ضرب من الحلم
التذييل في قوله: والمنى ضرب من الحلم، وهو حسن جدا.

تشابه الأطراف
تشابهت فيهم أطراف وصفهم ... ووصفهم لم يطقه ناطق بفم
تشابه الأطراف عبارة عن أن يعيد الشاعر لفظة القافية في أول البيت الذي يليها، فتكون الأطراف متشابهة. وسماه قوم: التسبيغ بالسين المهملة، والغين المعجمة، والتسمية الأولى أولى، وقد يكون ذلك في النثر أيضاً، بأن يعيد الناثر سجعة القرينة الأولى في أول القرينة التي تليها. ووقع ذلك في القرآن العظيم وهو قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) فأعاد فاصلة الآية الأولى في أول الآية الثانية.
ووقع في غير الفواصل أيضاً، وهو قوله تعالى: (ألله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري) .
ومثاله في الشعر قول أبي حية النميري:
رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم
رميم التي قالت لجيران بيتها ... ضمنت لكم ألا يزال يهيم
وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبَّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجالها ... دماء رجال يحلبون ضراها
الضرى بالضاد المعجمة: دم العرق الذي لا ينقطع. ويروى البيت هكذا:
سقاها دماء المارقين وعلها ... إذا جمحت يوما وخف أذاها
ويقال أن الحجاج قال لها: قولي (همام إذا هز القناة سقاها) .
ومنه قول النابغة الذبياني:
لعمري وما عمري علي بهين ... لقد نطقت بطلا علي الأقارع
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع
وقول فضالة بن وكيع. قال الشريف المرتضى: وهو من أحسن ما وصف به الثغر:
تبسم عن حم اللثاث كأنها ... حصى برد أو أقحوان كثيب
إذا ارتفعت عن مرقد عللت به ... من اليانع القوري فرع قضيب
قضيب نجاه الركب أيام عرفوا ... لها من ذرى مال النبات خضيب
(1/177)
________________________________________
يعني من يانع الأراك. ونجاه: قطعه. ومال النبات: ناعمه وحسنه. وعرفوا، أي اجتنوه من عرفات. وذكر أنه خضيب بالطيب الذي بيديها. قاله في الغرر والدرر.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
فلم أستطعها غير أن قد بدا لنا ... عشية راحت وجهها والمعاصم
معاصم لم تضرب على البهم بالضحى ... عصاها ووجه لم تلحه النسائم
وأحسن ما وقع في هذا النوع، قول أبى نواس:
خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم
ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم
ورد على أبي نواس هذا القول الحافظ فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري. فقال وأجاد:
محمد خير بني هاشم ... فمن تميم وبنوا دارم
وهاشم خير قريش وما ... مثل قريش في بني آدم
ومن رسالة ابن غرسية:
لله مما قد برى صفوة ... وصفوة الخلق بنو هاشم
وصفوة الصفوة من بينهم ... محمد النور أبو القاسم
وقال آخر:
قريش خيار بني آدم ... وخير قريش بنو هاشم
وخير بني هاشم أحمد ... رسول الإله إلى العالم
ومن أمثلة هذا النوع قول بعضهم، وهو دون ما تقدم في الحسن:
ما أن تريم فؤاده أشجانه ... كثرت بها يوم النوى أحزانه
أحزانه لما جرت بعظامه ... من حب من شهدت له أجفانه
أجفانه شهدت له أن الورى ... طرا أذل رقابهم سلطانه
سلطانه برع الجمال بوجهه ... وروادف خضعت لها أركانه
أركانه أبدا تميد إذا مشى ... ويكاد تقطر كفه وبنانه
وبنانه كالخيزران وقده ... قد القضيب زهت به أغصانه
وفي هذا النوع أعني تشابه الأطراف دلالة على قوة عارضة الشاعر، وتصرفه في الكلام، وإطاعة الألفاظ له، ولا يخلو مع ذلك من حسن موقع في السمع والطبع، فإن معنى الشعر يرتبط ويتلاحم به، حتى كأن معنى البيتين أو الثلاثة معنى واحد، وفي أنواع البديع ما هو أخفض رتبة منه فلا عبرة بقول ابن حجة: ليس تحته كبير أمر، وتالله ما خطر لي يوما ولا حسن لي في الفكر أن ألحق طرفا من تشابه الأطراف بذيل من أبيات شعري. انتهى.
ومن ابن حجة في فحول الشعراء حتى يقول مثل هذا الكلام؟ ويكون عدم حضور هذا النوع في باله وعدم ذكره في شعره مما يدل على أن هذا النوع من البديع ليس تحته طائل، ولا كبير أمر، وكفاه شرفا وقوعه في القرآن الكريم مكررا، فما شعر ابن حجة وإضرابه؟.
ولما كان هذا النوع لا يتأتى إلا في بيتين، قال الشيخ صفي الدين في بديعيته:
قالوا ألم تدر أن الحب غايته ... سلب الخواطر والألباب قلت لم
لم أدر قبل هواهم والهوى حرم ... أن الظباء تحل الصيد في الحرم
تشابه الأطراف بين (لم) في قافية البيت الأول و (لم) في أول البيت الثاني.
والشيخ عز الدين لما التزم بالتورية بتسمية النوع شطر البيت شطرين، وجعل كل شطر بمنزلة بيت كامل، وجعل القافية في آخر الشطر الأول، وأعادها في أول الشطر الثاني، فجاء به في غاية اللطف في بيت واحد فقال:
أطرافك اشتبهت قولا متى تلم ... تلم فتى زائد البلوى فلم يلم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
شابهت أطراف أقوالي فإن أهم ... أهم إلى كل واد من صفاتهم
تعدية الهيام بإلى فيه نظر ظاهر.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
شابهت أطراف مدحي في صفاتهم ... صفاتهم ساميات المجد والشيم
وبيت بديعيتي هو قولي:
تشابهت فيهم أطراف وصفهم ... ووصفهم لم يطقه ناطق بفم
والشيخ شرف الدين المقري جرى على طريقة الشيخ صفي الدين الحلي التي هي الأصل في هذا النوع فقال:
جرى الفراق فراق الالتقا ووقى ... ملالة الوصل فاحمده ولا تذم
لا تذممن نوى أبقت عليه هوى ... به استبحت عناق الطيف في الحلم
ما أظن أحدا من البديعيين يسلم له أن قوله (لا تذممن) في أول البيت الثاني هو لفظة قافية البيت الأول.

التتميم
أنا الذي جئت تتميما لمدحهم ... نظما بقول يباهي الدر في القيم
(1/178)
________________________________________
التتميم - ومنهم من سماه التمام، وسماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، والتسمية الأولى للحاتمي، وهي أولى، وهو عبارة عن الإتيان في الكلام نظما كان أو نثرا بكلمة أو جملة إذا طرحت منه نقص حسنه ومعناه.
ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: (يطعمون الطعام على حبه) على أن يكون الضمير في حبه للطعام، أي مع حبه والاحتياج إليه. فإن الإطعام حينئذ أبلغ، وأكثر أجرا، فهو تتميم أفاد المبالغة. فلو طرح نقص المعنى، واختل حسن التركيب.
وقوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف) فقوله: وهو مؤمن، تتميم في غاية الحسن، فلو حذفت هذه الجملة لاختل المعنى.
وقوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) مع أن الإسراء لا يكون إلا بالليل تتميم أفاد الدلالة على تقليل المدة، وأنه أسرى به في بعض الليل.
ومثاله من الشعر قول زهير:
من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا
فقوله: على علاته، أي على كال حال، تتميم للمبالغة.
وقول الآخر:
أني على ما ترين من كبري ... أرعف من أين تؤكل الكتف
فقوله: على ما ترين من كبري، تتميم أفاد معنى زائدا، وحسنا آخر، لو حذف لفات ذلك.
وقول الأخطل:
وأقسم المجد حقا لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر
قوله: حقا تتميم بديع.
وقول ابن المعتز:
وخيل طواها القود حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذبل
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
فقوله: ظالمين، تتميم في غاية البراعة، فلو حذف لم يبق للبيت رونق، ولا لمعناه لطف.
ومن بديع أمثلته أيضاً قول أبي العلاء المعري:
الموقدون بنجد نار بادية ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر
إذا همى القطر شبتها عبيدهم ... تحت الغمائم للسارين بالقطر
فقوله: تحت الغمائم تتميم أفاد مبالغة تأكيد لإرادة الإيقاد، والاهتمام بشأنه. وقوله: بالقطر تتميم للتميم، وذلك أن نزول المطر لا يمنعهم من الإيقاد، ولا يوقد عندهم إلا بالحطب الجزل، وإذا كان الحطب قطرا، وهو العود الذي يتبخر به، كان نهاية في إرادة المبالغة في الاهتمام بشأن الإيقاد، ويحتمل الاستتباع أيضاً، لأن صفة السخاوة استتبعت صفة الثروة لأن الوقود إذا كان عودا لدل على أنهم لم يكونوا من أوساط الناس.
وقول الآخر:
نظرت إليك بعين جازئة ... حوراء حانية على طفل
شبه عينها بعين الظبية على سبيل التجريد، ثم قصد بجازئة المبالغة في الحسن والملاحة، فجاء بقوله: حانية على طفل، تتميما، لأن في نظر الظبية إلى خشفها حال إشفاقها عليه من الملاحة وحسن الفتور ما ليس في غير تلك الحالة.
وقد يؤتى بالتميم لإقامة الوزن، بحيث لو طرحت الكلمة التي قصد بها التتميم، لم ينقص معنى البيت، بل استقل بدونها، ويسمى حشوا، وهو على ضربين: ضرب لا يفيد إلا إقامة الوزن فحسب وهو حشو قبيح معيب، وضرب يفيد مع ذلك نوعا من المحاسن، فإن حذاق الشعراء إذا اضطروا إلى الكلمة لإقامة الوزن، أفادوا بها لطيفة زائدة تفاديا من أن تكون لمجرد الوزن فتعد حشوا قبيحا، وهذا الضرب يسميه بعضهم حشو اللوزينج.
فالأول كقول بعضهم:
ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب
فذكر الرأس حشو قبيح لأن الصداع لا يكون إلا في الرأس وعد منه الطيبي في التبيان قول البحتري:
إذا نضون شفوف الريط آونة ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا
قال: شبه أجسادهن إذا خلعن ثيابهن بلؤلؤ قشر عنه الصدف، فتم معنى البيت ولم يتم وزنه، فجاء بذكر البحرين حشوا مستهجنا. انتهى كلامه وليس في محله، بل في ذكر البحرين معنى زائد، فإنه أفاد به تشبيه أجسادهن بأعلى أنواع اللؤلؤ وأغلاها، لأن لؤلؤ البحرين لا يدانيه شيء من اللآلئ التي تستخرج من سائر البحور في حسنه وصفائه ورونقه. نعم لو كان اللؤلؤ منحصرا في لؤلؤ البحرين لتوجه ما ذكره؛ وليس كذلك؛ بل اللؤلؤ يستخرج من بحر الهند، وبحر اليمن وغيرهما، لكن ليس شيء منه في الحسن كلؤلؤ البحرين، فذكر البحرين في البيت من التتميم الحسن البديع.
والضرب الثاني كقول المتنبي:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما
(1/179)
________________________________________
فإنه بقوله: يا جنتي تتميما لإقامة الوزن، وأفاد به مع ذلك الطباق الذي هو نوع من محاسن البديع.
قال الصفدي: ولو قال: يا مالكي لكان تورية، ولكن جنتي ألطف في اللفظ وأغزل.
ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
لو ذقت برد ثناياه ومبسمه ... يا حار ما لمت أعطافي التي ثملت
فقوله: يا حار، حشو يتم المعنى بدونه، ولكن أفاد إقامة الوزن والتورية (في حار، فإنه ورى به، أنه منادى) اسم حارث مرخم، وهو يريد الحار الذي هو مرادف السخن، بدليل قوله: برد ثناياه، وهذا مع ما فيه من النظر في حار في غاية الحسن.
ولما أنشد الشيخ جمال الدين هذا البيت شرف الدين حسين بن القاضي جمال الدين سليمان بن ريان قال له: لو قلت: يا صاح بدل يا حار لتمت التورية أيضاً، فإنه يخدم معك في المعنيين، لأن صاح ترخيم (صاحب، وصاح) اسم فاعل من الصحو، وترشحه (للتورية - ثملت - وهذا في غاية الذوق) اللطيف وقد أورد (كثير من الناس) في هذا الباب.
قول كثير:
لو أن عزة حاكمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها
قال الصفدي: وهذا ليس من الحشو في شيء، لأن من شرط ذلك أن يكون المعنى تاما بدونه، ولا تمام لهذا المعنى بدون موفق، لأنه لا بدّ أن يقول: عند حاكم، أما كونه موفقا أو غير موفق فهذا من متممات البلاغة إذ قوله موفقا: مبالغة لاحتمال أن يظن بالحاكم أنه يميل في حكمه لأمر ما، فإذا كان موفقا فلا. انتهى. وعلى هذا فيكون من التتميم والمعنى.
واعلم أن في شرح بديعية ابن حجة والكلام على هذا النوع (خللا لا بأس بالتعقيب عليه، وأنه تعدى) حد التتميم بقوله: هو (عبارة) عن الإتيان في النظم والنثر بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه. قال: وهو على ضربين، ضرب في المعاني، وضرب في الألفاظ، فالذي في المعاني هو تتميم المعنى، والذي في الألفاظ هو تتميم الوزن. ثم قال بعد إيراد أمثلة التتميم في المعاني: وأما التتميم الذي جاء في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن، بحيث أنه لو طرحت الكلمة استقل المعنى بدونها. فجعل التتميم الذي ينقص بطرحه المعنى مقسما للتتميم المعنوي واللفظي الذي يستقل بدونه المعنى، وهو تهافت ظاهر وغلط واضح. والحاصل: أنه جعل القسيم قسما، فإن الحد الذي ذكره للتتميم إنما هو للتتميم المعنوي، واللفظي قسيم له، لا قسم منه.
واعلم أن قوما مزجوا نوع التتميم بنوع التكميل وهو خطأ، فإن بينهما فرقا ظاهرا وسنبينه هناك مع مشيئة الله سبحانه.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
وكم نظمت طريفي والتليد لكم ... طوعا وأرضيت عنكم كل مختصم
التتميم في قوله: طوعا، فإنه أفاد به أنه لم يبدل ذلك كرها.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
والبدر مذ لاح في التتميم دان له ... والشمس مذعنة طوعا لمحتكم
فالتتميم في قوله: في التتميم، مع زيادة التورية في التشبيه، وقوله: طوعا تتميم ثان.
وبيت بديعية ابن حجة:
بكل بدر بليل الشعر يحسده ... بدر السماء على التتميم في الظلم
فقوله: بليل الشعر هو التتميم، وقوله: على التتميم، تتميم ثان، لكن سبقه الشيخ عز الدين في بيته على التورية، وقوله: في الظلم، تتميم ثالث.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
تدرعوا الحسن تتميما وكم منحوا ... مآثراً أثمرت حمدا لمجدهم
التتميم في قوله: تتميما، ولكن ليس له ذاك الموقع في ألفاظ البيت، ويمكن أن يكون قوله (لمجدهم) تتميما ثانيا.
وبيت بديعيتي هو قولي:
أنا الذي جئت تتميما لمدحهم ... نظما بقول يباهي الدر في القيم
فقولي: تتميما، هو التتميم بعينه، وقولي: نظما، تتميم ثان، وقلي: في القيم، تتميم ثالث.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
بالوصل بعت دمي راض مناجمة ... يا بدر قد حل نجم المشتري لدمي
قال في شرحه: التتميم فيه قوله: راض. انتهى. وكان الواجب نصب راض على الحال: لكنه رفعه لضرورة الوزن، أو لضرب من التأويل بعيد_
الهجو في معرض المدح
هجوت في معرض المدح الحسود لهم ... فقلت أنك ذو صبر على السدم
(1/180)
________________________________________
هذا النوع قال الشيخ صفي الدين الحلي: هو من مستخرجات ابن أبي الإصبع، وهو عبارة عن أن يقصد المتكلم هجاء إنسان، فيأتي بألفاظ موجهة ظاهرها المدح، وباطنها القدح.
كقول الحماسي:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا
فظاهر هذا الكلام المدح بالحلم، والعفة، والخشية، والتقوى، وباطنه المقصود: أنهم في غاية الذل وعدم المنفعة، لقوله بعد ذلك:
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
ومثله قول النجاشي يهجو بني عجلان:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
تعاف الذئاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
وهذا الشعر هو الذي أشار إليه ابن بسام فيما نقلناه عنه من الذخيرة في نوع النزاهة، وقال: منعتني شهرته عن ذكره. وأن بني عجلان استعدوا عمر بن الخطاب على النجاشي، وأنشدوه قوله هذا فيهم فدرء الحد بالشبهات.
ويقال أن عمر بن الخطاب لما سمع البيت الأول قال: وددت أن آل الخطاب هكذا، فلما سمع البيت الثاني قال: ما أحب كل هذه المذلة.
وفي الأغاني: أن تميم بن مقبل العامري كان يهاجي النجاشي الشاعر، فهجاه النجاشي فاستعدى عليه عمر، وقال: إنه هجاني، فقال عمر: يا نجاشي ما قلت؟ قال: قلت: ما لا أرى علي فيه بأسا.
وأنشده:
إذا الله جازى أهل لؤم بذمة ... فجازى بني العجلان رهط بن مقبل
فقال عمر: إن كان مظلوما استجيب له، وإن لم يكن مظلوما لم يستجب له.
قال: وقد قال أيضاً:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: ليتني من هؤلاء، وفي رواية: ليت آل الخطاب هكذا.
قال: فقد قال أيضاً:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: ما على هؤلاء متى شاؤا أوردوا.
قال: فقد قال أيضاً:
وما سمي العجلان إلا لقوله ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
فقال عمر: ما لقوم أنفعهم لأهله. فقال تميم لعمر: سله عن قوله:
أولئك أولاد الهجين وأسرة ... اللئيم ورهط العاجز المتذلل
تعاف السباع الضاريات لحومهم ... وتأكل من أبناء كعب ونهشل
فقال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه، فسبه وضربه.
ومن لطيف أمثلة هذا النوع قول محمد بن حمزة السلمي في الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام:
له حق وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول
وقول ابن سناء الملك في قواد:
لي صاحب أفديه من صاحب ... لولا التأني حسن الاحتيال
لو شاء من رقة ألفاظه ... ألف ما بين الهدى والضلال
يكفيك منه أنه ربما ... قاد إلى المهجور طيف الخيال
وأحسن من هذا قول محي الدين بن قرناص:
لي صاحب جلت جميع صفاته ... قد عمني ببدائع الإحسان
لو لم يكن مثل النسيم لطافة ... ما بات يعطف لي غصون البان
وقال آخر في المعنى:
يسهل كل [ممتنع] شديد ... ويأتي بالمراد على اقتصاد
فلو كلفته تحصيل طيف ... الخيال ضحى لزار بلا رقاد
والأصل في ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:
فأتتها طبة عالمه ... تمزج الجد مرارا باللعب
تغلظ القول إذا لانت لها ... وتراخى عند سورات الغضب
قيل أن ابن عتيق لما سمع ذلك قال لعمر: ما أحوج المسلمين إلى خليفة (يدبر أمرهم) مثل قوادتك هذه.
وقال زكي الدين بن أبي الإصبع فيمن يدعي الفقه والكرم:
إن فلانا أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه
وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نص على التقليد في درسه
فيحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدخل على نفسه
ومن طريفه قول أبي محمد الحسن بن أحمد البغدادي الحريمي الشاعر في الشريف أبي السعادات هبة الله بن الشجري:
يا سيدي والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر
مالك من جدك النبي سوى ... أنك ما ينبغي لك الشعر
(1/181)
________________________________________
ولعمري ما أنصف في هذا الكلام، فإن شعر الشريف في غاية الحسن والجزالة، ولكن العدو يقول في عدوه ما شاء.
فمن شعر الشريف الذي لا يشق غباره قوله:
هذي السديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي التي هي ظله الساري أهذا نشرك المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضى في ظلالك صالح
ما أنصف الرشأ الضنين بنظرة ... لما دعى مصغي البابة طامح
شط المزار به وبويء منزلا ... بصميم قلبك فهو دان نازح
غصن يعطفه النسيم وفوقه ... قمر يحف به ظلام جانح
وإذا العيون تساهمته لحاظها ... لم يرو منه الناظر المتراوح
فقلد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح
ظلنا بها نبكي فكم من مضمر ... وجدا أذاع هواه دمع سافح
برت الشؤون رسومها فكأنما ... تلك العراص المقفرات نواضح
يا صاحبي تأملا حييتما ... وسقى دياركما الملث الرائح
أدمى بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خرد أكفالهن رواجح
أم هذه مقل الصوار رنت لنا ... خلل البراقع أم قنا وصفائح
لم تبق جارحة وقد واجهننا ... ألا وهن لها بهن جوارح
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشقاوة أن يراض القارح
لو بله من ماء ضارج شربة ... ما أثرت للوجد فيه لواقح
هذا والله الشعر الذي يجلى به صدأ الفكر، ولا يصدأ به الفكر كما زعمه ذلك الشاعر المنافس.
ومن شعره أيضاً قوله:
هل الوجد خاف والدموع شهود ... وهل مكذب قول الوشاة جحود
وحتى متى تفني شؤونك بالبكا ... وقد حد حدا للبكاء لبيد
وإني وإن حنت قناتي كبرة ... لذو مرة في النائبات جليد
يشير إلى قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ولنكتف من شعر الشريف بهذا المقدار، وما كان المقصود إلا إيراد أبيات يستدل بها على حسن طريقته فيه، ويكذب ذلك الشاعر في قوله ذاك.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
من معشر يرخص الأعراض جوهرهم ... ويحملون الأذى من كل مهتضم
قال في شرحه: الهجاء الباطن فيه في موضعين، أحدهما أن مراده بالأعراض جمع عرض بكسر العين وسكون الراء المهملتين، وأوهم بذكر الجوهر أنه يريد جمع عرض (_) والآخر وهو المثال المقصود - لكون الأول يشتبه بالمواربة والإبهام أيضاً - قوله: ويحملون الأذى من ظالمهم، يريد وصفهم بالذل وقلة المنفعة كما في بيت الحماسة المقدم ذكره. انتهى.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
في معرض المدح يهجى من قبيلته ... أعراضهم بين معمور ومنهدم
قال ابن حجة: الذي (أقوله) : أن الشيخ عز الدين قفل مصراعي بيته، ومنع الإفهام من (الدخول) إليه، فإني لم أجد فيه ما يدل على مجرد المدح، ولا اقترن به ما يصرفه إلى صيغة الهجو، بل أقول أن ألفاظ هذا البيت أجساد ما دب فيها من المعاني روح، وليس له بهذا النوع إلمام. انتهى، وهو في محله.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم
فحمل الضيم ينظر إلى قول الحماسي، إذ ظاهره الحلم، وباطنه الذل، ولكن حمل التهم، وإن قال ناظمه: أنه الغاية القصوى، فظاهره وباطنه أخرج البيت من معرض المدح إلى صريح (الهجو) ، فخرج بذلك عن حد النوع الممثل له به.
والشيخ عبد القادر الطبري عجز عن (نظم هذا) النوع، فأخذ صدر بيت الشيخ عز الدين، وعجز بيت الشيخ صفي الدين الحلي فقال:
في معرض المدح كم يهجون من ملأ ... ويحملون الأذى من كل مهتضم
وبيت بديعيتي هو قولي:
هجوت في معرض المدح الحسود لهم ... فقلت أنك ذو صبر على السدم
السدم بفتح السين والدال المهملتين: الغيظ مع حزن وهم، وهذا ظاهره المدح بأنه صبور، وباطنه الهجو بأنه يحمل غيظ الحسد وحزمه، ويصبر على مضضه، ويتجرع غصصه ولا يترك الحسد لهم.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
ما في عذولي بأس ذاك من فئة ... تغضي احتمالا وتشفي الكلم بالكلم
(1/182)
________________________________________
هذا بيت معمور بالحسن لفظا ومعنى. قال ناظمه في شرحه: قوله: ما في عذولي بأس، تورية ظاهرها أنه لا بأس فيه، أي لا عيب، والمراد: لا قوة فيه ولا شجاعة، وهذا من باب الإبهام. وقوله: تغضي احتمالا، يصفهم بالذل وإن كان ظاهره أنهم حلماء. وقوله: تشفي الكلم بالكلم، أي أنهم يشفون غيظهم بالكلام، كما قال الشاعر: (أشبعتهم سبا وراحوا بالإبل) وإن كان ظاهره أن كلامهم يقوم مقام الدواء للجراحات. انتهى.

الاكتفاء
لم يكتفوا بي عميدا في محبتهم ... بل كل ذي نظر فيهم أراه عمي (دا)
الاكتفاء - ضرب من الإيجاز، وهو نوعان: نوع يكون بكلمة فأكثر ونوع يكون ببعض كلمة.
فالأول هو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيكتفي بأحدهما عن الآخر لنكتة، ولا يكون المكتفى عنه إلا آخرا لدلالة الأول عليه. وذلك الارتباط قد يكون بالعطف وهو الغالب، وأعظم شواهده قوله تعالى: (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، وخص الحر بالذكر لأن الخطاب للعرب وبلادهم حارة، والوقاية عندهم من الحر أهم، لأنه أشد عندهم من البرد. وقوله تعالى: (وله ما سكن بالليل والنهار) أي وما تحرك، وخص السكون بالذكر لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد، ولأن كل متحرك يصير إلى السكون.
وقد يكون بالشرط وجوابه، كقوله تعالى: (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء) أي فافعل. وقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون) أي أعرضوا، بدليل ما بعده، وقوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) أي لرأيت أمرا فظيعا، وقوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم) أي لسلطكم على أهل مكة.
وقد يكون بالقسم بدأ به، كقوله تعالى: (والنازعات غرقا - الآيات _) أي لتبعثن، وقوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر) أي أنه لمعجز.
وقد يكون بطلب الفعل للمتعلق، كقوله تعالى: (خلطوا عملا صالحا) أي بسيئ (وآخر سيئا) أي بصالح. أو بطلبه للمفعول كقوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل) أي إلها (وقوله تعالى) : (كلا سوف تعلمون) أي عاقبة أمركم.
وقد يكون بطلب حرف الشرط لجملة الشرط وجوابه كقوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدا قالت وإن
أي وإن كان كذلك رضيته أيضاً. وفي الخبر، أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن، أي وإن كانت بدنة اركبها.
وقد يكون بالاسمية والخبرية لأن وأمثالها، كما روي أن المهاجرين قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الأنصار قد فضلونا وفعلوا بنا كذا وكذا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألستم تعرفون ذلك؟ قالوا: بلى، قال: فإن ذاك. قال أبو عبيدة: إن الحديث ليس فيه أكثر من قوله: فإن ذاك، ومعناه: فإن ذاك مكافأة، أي معرفتكم إحسانهم مكافأة لهم.
وقول الشاعر:
ويقلن شبي قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه
على قول ابن هشام (إنه) يجوز أن لا تكون الهاء للسكت، بل اسما لأن، على أنها المؤكدة والخبر محذوف، أي أنه كذلك. وقد يكون بغير ذلك من وجوه الارتباط كما يظهر من الأمثلة الآتية في النظم.
وقد حد الشيخ صفي الدين الحلي الاكتفاء في النظم بقوله: هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف تقاضى ذكره ليفهم به المعنى، فلا يذكره لدلالة ما في لفظ البيت عليه، ويكتفي بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى.
كقوله:
لا أنثني لا أنتهي لا أرعوي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
فمن المعلوم أن تمامه: ولا إذا مت، ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبا من عيوب الشعر، يسمى في علم القوافي بالتضمين. انتهى. وهذا الحد شامل لنوعي الاكتفاء، غير أنه لا يشمل الاكتفاء في النثر كما هو ظاهر، والحد الذي ذكرناه شامل للنظم والنثر معا.
وأما النوع الثاني فسيأتي الكلام عليه، وهذا محل إثبات محاسن الأمثلة الشعرية لهذا النوع الأول من الاكتفاء: فمنه قول هبة الله بن سناء الملك في مطلع قصيدة:
دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... فقبلته في الثغر تسعين أو إحدى
وقول ابن مطروح:
والله ما خطر السلو بخاطري ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
(1/183)
________________________________________
إن عشت عشت على هواه وإن أمت ... وجدا به وصبابة يا حبذا
وقول أبي الحسن الباخرزي:
يا جاهلا عاب شعري ... فكد قلبي وآلم
علي نحت القوافي ... وما علي إذا لم
وأصله من قول الشاعر:
عليَّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
وقد كان أبو الحسن الباخرزي المذكور مولعا بهذا النوع من الاكتفاء ونظمه في شعره كثير، فمنه قوله:
بالأمل الكاذب والخوف ... جعلت لي قلبين في جوفي
آمل قربا وأخاف النوى ... فمهجتي في راحة أو في
وقوله:
قد صح عندي أن حبك لم يكن ... إلا كنرجسك الكحيل سقيما
ووجدت عندك ما كرهت وكلما ... حاسبت فعلي لم تجد عندي ما
وقوله أيضاً:
لقد كنت أعرف بابن الحسن ... فلقبني الحب بابن الحزن
ولولا الهوى ما لقيت الهوان ... ولولا الدمى لم أقف بالدمن
فيا أيها النفس لا تيأسي ... من الاجتماع عسى الله أن
وقوله:
ولي حشف وبي تطفيف كيل ... وها حشفي مع الكيل الطقيف
فإن تردد علي فرغبتي من ... وإن تحسن إلي فرغبتي في
وقوله:
وما زاده عز الولاية رفعة ... وقد كان مرفوع الدعائم قبل أن
وقوله:
يا صاحبي سلا فؤادي هل سلا ... عمن كلفت بحبه ليجيب لا
وما أحسن قوله بعده:
يا رب إن تك لا تجود بسلوة ... تحيا بها نفس المشوق المبتلي
فانف الحلاوة عن مجاجة ريقه=وأمر بنفسج صدغه أن يذبلا وقوله أيضاً:
يا شرف السادة أعلق يدي ... حبلك أمسك عقده المحكما
بي بكم خطيت شفاهي به ... وقصة تستنطق الأبكما
مسني الضر ... وحوشيته

والمشتكى أنت وحالي كما
وقوله مع الاقتباس:
قل لإخواننا أعينوا على الله ... وونفسي فداكم أن أعنتم
نحن من قبل أن ...
..
بعد لا تقربوا الصلاة وأنتم
وقوله في التعزية:
لئن مضى من رضعت درته ... ففيك مستمتع من الخلف
وربما يشمت العدى جزع ... والصبر مستروح فرأيك في
ومنه قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض:
ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في
ومن لطائف شيخ شيوخ حماة عبد العزيز الأنصاري قوله مع التضمين:
صلي ودعي نفارك عن محب ... بذكرك آنس والليل ساكن
ولا تستقبحي شيبا برأسي ... فما إن شبت من كبر ولكن
هذا صدر بيت لأبي فراس بن حمدان عجزه (رأيت من الأحبة ما أشابا) .
وقوله أيضاً:
أهلا بطيفكم وسهلا ... (لو كنت للإغفاء) أهلا
لكنه وافى وقد ... حلف السهاد علي أن لا
وقوله:
راموا فطامي عن هوى ... غذيته طفلا وكهلا
فوضعت في طوقي يدي ... وقلت خلوني وإلا
وقول سراج الدين الوراق بين اكتفائين مع التضمين:
يا لائمي في هواها ... أفرطت في اللوم جهلا
ما يعرف الشوق إلا ... ولا الصبابة إلا
البيت لابن المعلم وأصله هكذا:
ما يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
وقول سديد الدين بن كاتب المرج في النيل، وقد زاد زيادة مؤذية، وفيه اقتباس:
يا نيل يا ملك الأنهار قد رزقت ... منك الأراضي شرابا سائغا وإذا
وقد أتيت القرى تبغي منافعها ... فنالها بعد فرط النفع منك أذى
فقال تذكر عني أنني ملك ... وتغتذي ناسيا أن الملوك إذا
وقول ابن أبي حجلة في مثل ذلك:
يا رب أن النيل زاد زيادة ... أدت إلى هدم وطول تشتت
ما ضره لوجا على عاداته ... في دفعه أو كان يدفع بالتي
وقول الآخر، وجمع فيه بين اكتفائين مع الاقتباس:
بمكارم الأخلاق كن مختلقا ... ليفوح عطر ثنائك العطر الشذي
وانفع صديقك إن صدقت وداده ... وادفع عدوك بالتي فإذا الذي
ومن لطائف البهاء زهير قوله:
فما كان أحسن من مجلسي ... فحدث بما شئت عن ليلتي
بشمس الضحى وببدر الدجى ... على يمنتي وعلى يسرتي
وبت وعن خبري لا تسل ... بذاك الذي وبتلك التي
وقوله:
يا حسن بعض الناس مهلا ... صيرت كل الناس قتلى
(1/184)
________________________________________
أغرت جفونك بالهوى ... من كان يعرفه ومن لا
لم تبق غير حشاشة ... في مهجتي وأخاف أن لا
ورسوم قلب لم يدع ... منه الهوى إلا الأقلا
وبمهجتي من لا أسمي ... هـ وأكتمه لئلا
عانقت منه الغصن في ... حركاته قدا وشكلا
وكشفت فضل قناعه ... بيدي عن قمر تجلى
فلثمته في خده ... تسعين أو تسعين إلا
ومنه قول جمال الدين بن نباتة:
ولقد كملت فلا يقال لقد ... حزت الجمال جميع إلا
وقول ابن مكانس مع التورية:
من شرطنا أن أكسرتنا الطلا ... صرفا تداوينا بشرب اللما
نعاف مزج الماء في كأسها ... لا وأخذ الله الندامى بما
وقول صدر الدين بن عبد الحق مع زيادة التورية والاقتباس:
جهنم حمامكم نارها ... تقطع أكبادنا بالظما
وفيها عصاة لهم ضجة ... وإن يستغيثوا يغاثوا بما
ومثله قول الشيخ برهان الدين القيراطي:
بأبي شامات حسن ... قد أطالت حسراتي
كلما ساءت فعالا ... قلت إن الحسنات
وقول ابن أبي حجلة مع التضمين:
شمس الضحى بعد العشا ... زارت فزال تلهفي
واستقبلت قمر السما ... فأرتني القمرين في
وقوله يرثي أخا له:
أخي تركتني فقضيت نجا ... فدمعي قد ملا حزنا وسهلا
وكل أخ مفارقه أخوه ... كذا قالوا لعمر أبيك إلا
يشير إلى قول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
ومن بديع الاكتفاء مع زيادة التورية ما اتفق للشيخ شهاب الدين التلعفي مع شمس الدين الشيرجي، وذلك أنهما حضرا بين يدي الملك الناصر في ليلة أنس، فاتفق أن الشيرجي ذهب لضرورة وعاد، فأشار إليه الملك الناصر بصفع التلعفري (فصفعه، فنهض) التلعفري على الفور، وقبض على لحية الشيرجي - وكان رجلا ألحى _.
وأنشد ارتجالا ويده فيها:
قد صفعنا في ذا المقام الشريف ... وهو إن كنت ترتضي تشريفي
فارث للعبد من مصيف صفاع ... يا ربيع الندى وإلا خري في
ومنه قول الأديب لاعبده من أدباء العصر بالمدينة المنورة على ساكنها وآله الصلاة والسلام مؤرخا دارا بناها بعض قضاة تلك الديار:
صاح بين النقا وبين المصلى ... منزل في حلى المفاخر يجلى
مجلس من أتاه يسمع منه ... مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا
فيه حبر وهمت بل فيه بحر ... جامع للعلوم عقلا ونقلا
جاء سهل التاريخ من غير عيب ... هكذا من أراد يبني وإلا
وقلت أنا في ذلك:
يا عاذلي في الأماني ... أكثرت في العذل قولا
دعني أعلل نفسي ... ما أضيق العيش لولا
وهو من قول الطغرائي في لامية العجم:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
تنبيه - قد تبين من الأمثلة المذكورة أن الاكتفاء قد يكون بحذف المستثنى، ومعمول الجوازم، والجار، والصلة، من غير دلالة صلة أخرى عليها، وكل ذلك عند النحويين ضرورة.
قال الحافظ السيوطي في جمع الجوامع: واستحسن أهل البديع بعض ما سماه النحاة ضرورة، كحذف معمول الجوازم المسمى بالاكتفاء، فإن اشتمل على تورية تصرفه عنه - أي عن الاكتفاء - فأحسن. انتهى.
وقيل على هذا: يرد على البديعيين أن المحسنات البديعية إنما تعد محسنة بعد رعاية الفصاحة، فما خالفها يعد قبيحا، فكيف تعد الضرورة من المحسنات؟.
وأما النوع الثاني من الاكتفاء وهو الذي يكون ببعض الكلمة.
فهو حذف بعض حروف القافية من آخرها لدلالة الباقي عليه. واحترزنا (بالقافية) عن غيرها.
كقوله:
فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والحصر
أي ابن مالك. وبقولنا (من آخرها) عن مثل قوله (غرثى الوشاحين صموت الخلخل) أي الخلخال، فلا يسمى ذلك كله اكتفاء عند البديعين. وقد يسمى في غير هذا العلم بالاقتطاع، ولا يختص بالقافية.
وسماه ابن جني في كتاب التعاقب بالإيماء وعقد له بابا، فقال باب الإيماء وهو الاكتفاء عن الكلمة بحرف من أولها.
وسماه ابن فارس في فقه اللغة بالقبض. وهو وارد في القرآن والحديث وكلام العرب.
(1/185)
________________________________________
أما وروده في القرآن، فقال الحافظ السيوطي في الإتقان: أنكره ابن الأثير ورد: بأن بعضهم جعل منه فواتح السور، على القول بأن كل حرف منها، من اسم من أسمائه تعالى، وهو منقول عن ابن عباس. وادعى بعضهم: أن الباء في (وامسحوا برؤوسكم) أول كلمة (بعض) ثم حذف الباقي، ومنه قراءة بعضهم (ونادوا يا مال) بالترخيم. ولما سمعها بعض السلف قال: ما أغنى أهل النار عن الترخيم، (وأجاب) بعضهم: بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة.
قال: ويدخل في هذا النوع، حذف همزة (أنا) من قوله: (لكنا هو الله ربي) إذ الأصل (لكن أنا) حذفت همزة (أنا) تخفيفا، وأدغمت النون في النون.
ومثله ما قرئ (ويمسك السماء أن تقع علرض) (بما أنزليك) (فمن تعجل في يومين فلثم عليه) (إنها لحدى الكبر) . انتهى.
وأما وروده في الحديث فقد روي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (كفى بالسيف شا) أي شاهدا، وقيل: أنه مكتفى به عن (شافي) وله وجه.
وأما وروده في كلام العرب فكثير جدا، بل قال ابن فارس في فقه اللغة: في سنن العرب، القبض محاداة للبسط، وهو النقصان من عدد الحروف، كقولهم: درس المنا، يريدون المنازل. ونار الحبا، أي الحباحب. انتهى.
وأنشد ابن جني عليه قول الشاعر (وعدتني أم عمر وإن تاريخ) أي أن تسمح، وقول علقمة (مفدم بسبا الكتان مختوم) أي بسبائب، وقول لبيد (درس المنا بمتالع فأبان) ، وقال آخر (قواطن مكة من ورق الحما) أي الحمام، وقال آخر (ليس حي على المنون بخال) أي بخالد.
إذا علمت ذلك، بالاكتفاء ببعض الكلمة على ضربين، ضرب يكون بدون تورية كما تقدم من قول الشاعر (قواطن مكة من ورق الحما) وقوله (ليس حي على المنون بخال) .
ومنه قول القاضي الفاضل من قصيدة فريدة:
لعبت جفونك بالقلوب وحبها ... والخد ميدان وصدغك صولجا (ن)
وأول هذه القصيدة:
زار الصباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستند بفروعه أو فالنجا
رأت الغصون قوامه فتأودت ... والروض أنشر نشره فتأرجا
يا زائري من بعد يأس ربما ... تمنى المنى من بعد أرجاء الرجا
أترى الهلال ركبت منه زورقا ... أولا فكيف قطعت بحرا من دجى
أم زرتني ومن النجوم ركائب ... فأرى ثرياها تريني هودجا
ومنه قول هبة الله بن سناء الملك:
أهوى الغزالة والغزال وإنما ... نهنهت نفسي عفة وتدينا
ولقد كففت عنان عيني جاهدا ... حتى إذا أعييت أطلقت العنا (ن)
ويعجبني من هذا النوع قول الشيخ قطب الدين الحنفي المكي المتوفى سنة تسعين وتسعمائة بمكة المشرفة زادها الله شرفا وتعظيما:
رعى الله ليلة زار ****** ... وغاب الرقيب إلى حيث أل
يشير إلى قول الشاعر (إلى حيث ألقت رحالها أم قشعم) وأم قشعم: المنية والداهية. وهذا البيت من جملة أبيات لطيفة للشيخ المذكور لا بأس بغيرادها هنا، وهي:
ألا حلل الله سيف المقل ... فكم ذا أباد وكم ذا قتل
وما من قتيل له في الهوى ... سوى ألف راض بما قد فعل
لقد نصر الله جيش الملاح ... ببدر لنا حسنه قد كمل
إذا قتلتني عيون الظبا ... فيا فرحي قد بلغت الأمل
رعى الله ليلة زار ****** ... وغاب الرقيب إلى حيث أل
فأجلسته في سواد العيون ... وقد غسل الدمع ذاك المحل
وألصقت خدي بأقدامه ... وذبلت أخمصه بالقبل
وعانقته وخلعت العذار ... ومزقت ثوب الحيا والخجل
فرق ومال بأعطافه ... فديت بروحي ذاك الميل
وما زلت أشغله بالحديث ... وستر الظلام علينا انسدل
إلى أن غفا جفنه ناعسا ... وعني تغافل أو قد غفل
فحليت عن خصره نده ... وأنضيت عن معطفيه الحلل
وبت أشاهد صنع الإله ... تبارك رب البرايا وجل
فظن بي الخير أولا تظن ... فما أنت تسأل عما حصل
حكى لي بعض الأصحاب: أن الشيخ كان قد ختم هذه الأبيات بالبيت الذي قبل البيت الأخير، حتى أنشدها يوما في مجلس سلطان مكة المشرفة الشريف حسن بن أبي نمى، فقال له الشريف مداعبا: ثم ماذا؟ فإنه محل ريبة. فأنشد البيت الأخير مرتجلا وختم به الأبيات، والله أعلم.
ومن هذا النوع من الاكتفاء أيضاً قول سيدي الوالد متع الله ببقائه:
(1/186)
________________________________________
يا خليلي أبكيا عني فقد ... صار دمع العين مني أحمرا
وأمطرا دمعكما وادي الحمى ... إن من حق الحمى أن يمطرا
وإذا شارفتما بي رامة ... فرما الريم الذي قد نفرا
تجداه راتعا مستفيئا ... سلمات وبشاما وأرا (ك)
والضرب الثاني - ما كان مع التورية كقول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
بروحي أمر الناس نأيا وجفوة ... وأحلاهم ثغرا وأملحهم شكلا
يقولون في الأحلام يوجد شخصه ... فقلت ومن ذا بعده يجد الأحلا (م)
وقل فخر الدين بن مكانس:
لم أنس بدرا زارني ليلة ... مستوقرا ممتطيا للخطر
فلم يقم إلا بمقدار أن ... قلت له أهلا وسهلا ومر (حبا)
وقول ابنه مجد الدين بن مكانس:
نزل الطل بكرة ... وتوالى تجددا
والندامى تجمعوا ... فأجل كأسي على الندا (مى)
وقول العلامة بدر الدين الدماميني:
أقول لصاحبي والروض زاه ... وقد فرش الربيع بساط زهر
تعال نباكر الروض المفدى ... وقم نسعى إلى ورد ونسري (ن)
وقوله أيضاً:
شقائق النعمان الهو بها ... إن غاب من أهوى وعز اللقا
فالخد في القرب نعيمي وإن ... غاب فإني اكتفي بالشقا (ئق)
وقوله:
الدمع قاض فافتضاحي في هوى ... رشأ يغار الغصن منه إذا مشى
وغدا بوجدي شاهدا ووشى بما ... أخفي فيا لله من قاض وشا (هد)
وقوله:
ورب نهار فيه نادمت أغيدا ... فما كان أحلاه حديثا وأحسنا
منادمتي فيها مناي وحبذا ... نهارا تقضى بالحديث وبالمنا (دمه)
وقول صدر الدين بن الآدمي الحنفي:
يا متهمي بالسقم كن منجدي ... ولا تطل رفضي فإني علي (ل)
أنت خليلي فبحق الهوى ... كن لشجوني راحما يا خلي (ل)
وأغرب ابن حجر في قوله وأجاد:
أطيل الملام لمن لامني ... وأملأ في الروض كأس الطلا
وأهوى الملاهي وطيب الملاذ ... فها أنا منهمك في الملا (م. ذ. هي)
وأبدع ابن حجة في قوله:
يقولون صف أنفاسه وجبينه ... عسى للقا يصبو فقلت له صبا (ح)
وغالطت إذ قالوا أباح وصاله ... وإلا أبى قربا فقلت لهم أبا (ح)
وقلت أنا في ذلك وفيه توريتان:
هجر الحبائب جانبي ... ونزلن منعرج اللوى
فظللت أعسف في الهوا ... جر سائرا طوع النوى
وصلى الهوى قلبي فوا ... كرباه من حر الهوا (جر)
وقلت أيضاً:
سمح البدر بوصل فشفى ... من جوى الحب سقيما مغرما
وسما عن مشبه ثم ومن ... أين للبدر شبيه في السما (ح)
وقلت أيضاً:
أصابت نواظره مهجتي ... وزادت نواه فؤادي جوى
فقلت وقد أكثر العاذلون ... دعوني فأني قتيل النوا (ظر)
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي من النوع الأول من الاكتفاء الذي هو بجميع الكلمة وهو قوله:
قالوا ألم تدر أن الحب غايته ... سلب الخواطر والألباب قلت لم
قال ابن حجة: عجبت للشيخ صفي الدين كيف استحسن هذا البيت ونظمه في سلك أبيات بديعيته مع ما فيه من الركة، والنظم السافل، وبرد موضع الاكتفاء بلفظة (لم) مع أنه غير مكلف بتسمية النوع، ولا ملتفت إلى تورية. انتهى. أسرف وما أنصف.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي جمع بين نوعي الاكتفاء وهو:
وما اكتفى الحب كسف الشمس منه إذا ... حتى انثنى يخجل الأغصان حين يمي
فقوله: (إذا) من النوع الأول، إذ من المعلوم أن بعده (بدا) لما تقدم ذكره كسف الشمس، وقوله (حين يمي) من النوع الثاني، لأن المراد (حين يميل) أو (يميس) أو (يميد) ، ولا أرى في هذا البيت تورية، وقد قال ابن حجة: أنه التزم فيه التورية.
وبيت بديعية ابن حجة من النوع الثاني من الاكتفاء مع التورية:
لما اكتفى خده القاني بحمرته ... قال العواذل بغضا أنه لدمي
أراد: لدميم، وهو بالدال المهملة: الحقير، وهذا الاكتفاء ينظر إلى قول القائل:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا أنه لدميم
(1/187)
________________________________________
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري جمع فيه مع الاكتفاء عتاب المرء نفسه، ورد العجز على الصدر، وهو من النوع الأول من الاكتفاء، ولم يلتزم التورية وهو قوله:
لم ترعو النفس عتبا ويحك أتته عن ... تصدير غيك كيما نكتفي بلم
ما أحق هذا البيت بكلام ابن حجة الذي تكلم به على بيت الصفي الحلي.
وبيت بديعيتي من النوع الثاني من الاكتفاء، وهو الذي يكون ببعض الكلمة مع زيادة التورية والتلميح، وهو قولي:
لم يكتفوا بي عميدا في محبتهم ... بل كل ذي نظر فيهم أراه عمي (دا)
أردت بقولي (عمي) عميدا، وهذا هو الاكتفاء ببعض الكلمة. وفي الظاهر أن المراد بعمي: اسم فاعل من عمي يعمى، وهذا هو التورية، ويرشحها لذلك قولي (كل ذي نظر) وفيه تلميح لقوله عليه وآله السلام: حبك لشيء يعمي ويصم، وهذا هو التلميح.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري من النوع الأول من الاكتفاء والتزم فيه التورية، وهو قوله:
ألم أقل لك أن اللوم آلمني ... وزاد في لوعتي يوم النوى ألم
قال ناظمه في شرحه: الاكتفاء بقوله (ألم) لأن صدر البيت (ألم أقل لك) فلا يخفى أن مراده: ألم أقل لك، فاكتفى بذلك. وفيه أيضاً التورية فإنه يحتمل أنه أراد: ألمي، من الألم، فإن لفظة (آلمني) رشحتها لذلك، فيكون معناه: ألمي ما للوم زاد في لوعتي. وفيه أيضاً رد العجز على الصدر.

رد العجز على الصدر

بهجرهم كم وكم فل الهوى أمما ... ورد عجزا على صدر بهجرهم
هذا النوع سماه بعضهم بالتصدير، والأول أولى، لأنه مطابق لمسماه، وخير الأسماء ما طابق المسمى. وهو في النثر: أن يجعل أحد اللفظين المكررين، أعني المتفقين في اللفظ والمعنى أو المتجانسين وهما المتشابهان في اللفظ دون المعنى، أو الملحقين بالمتجانسين، وهما اللفظان اللذان يجمعهما الاشتقاق أو شبهه، في أول الفقرة، واللفظ الآخر في آخرها فيكون أربعة أقسام.
الأول: أن يكونا مكررين، كقوله تعالى: (تخشى الناس والله أحق أن تخشاه) .
والثاني: أن يكونا متجانسين، نحو قولهم: سائل اللئيم يرجع ودمعه سائل.
والثالث: أن يجمع اللفظين الاشتقاق، نحو قوله تعالى: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا) .
والرابع: أن يجمعهما شبه الاشتقاق، نحو قوله تعالى: (قال إني لعملكم من القالين) .
وفي النظم: على أربعة أقسام وهو: أن يقع أحد اللفظين في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، أو حشوه، أو عجزه، أو صدر المصراع الثاني؛ فهذه أربعة أقسام.
وعلى كل تقدير، فاللفظان إما مكرران، أو متجانسان، أو ملحقان بهما، فتصير الأقسام اثني عشر، حاصلة من ضرب أربعة في ثلاثة، وباعتبار أن الملحقين قسمان، لأنه إما أن يجمعهما الاشتقاق، أو شبه الاشتقاق تصير الأقسام ستة عشر، حاصلة من ضرب أربعة في أربعة.
فالأول، وهو وقوع أحد اللفظين في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، واللفظان مكرران، مثاله قول الشاعر:
سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع
وقول أبي نواس:
وحياة رأسك لا أعود ... لمثلها وحياة رأسك
وقول البستي:
سحبان من غير مال باقل حصر ... وباقل في ثراء المال سحبان
وقول ابن جابر الأندلسي:
جمال هذا الغزال سحر ... يا حبذا ذلك الجمال
هلال خديه لم يغب ... عني وإن غيب الهلال
غزال أنس يصيد أسدا ... فأعجب لما يصنع الغزال
دلاله دلّ دل شوق ... علي إذ زانه الذلال
كماله لا يخاف نقصا ... دام له الحسن والكمال
نباله قد رمت فؤادي ... لا أخطأت تلكم النبال
حلال وصلي له حرام ... وحكم قتلي له حلال
زلال ذاك اللمى حلالي ... وأين لي ذلك الزلال
قتاله لا يطاق لكن ... يعجبني ذلك القتال
والثاني، وهو وقوع أحد اللفظين المكررين في آخر البيت، والثاني في حشو المصراع الأول، مثاله قول الشاعر:
تمتع من شميم عرار نجدٍ ... فما بعد العشية من عرار
وقول جرير:
سقى الرمل جون مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
وقول زهير:
كذلك خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم
وقول أبي تمام:
(1/188)
________________________________________
ولم يحفظ مضاع المجد شيء ... من الأشياء كالمال المضاع
وقول المعري:
فلو سمح الزمان بها لضنت ... ولو سمحت لضن بها الزمان
وقول الخليع الشامي:
خذ يا غلام عنان طرفك فاثنه ... عني فقد ملك الشمول عناني
وقول ابن جابر الأندلسي وأجاد:
بين تلك الخيام أكرم قوم ... ضربت للندى عليهم خيام
قد أقاموا بين العقيق وسلع ... فحياة النفوس حيث أقاموا
وقول أبي جعفر البحاث وقد حلم بخيال حبيب فنبهه ذلك ******:
يا من ينبهني من رقدة جمعت ... بيني وبين خيال منه مأنوس
دعني فإنك محروس ومرتقب ... وخلني وخيالا غير محروس
والثالث، وهو وقوع أحد اللفظين المكررين في آخر البيت، والآخر في آخر المصراع الأول، مثاله قول أبي تمام:
ومن كان بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما
وقوله أيضاً:
وجوه لوان الأرض فيها كواكب ... توقد للساري لكانت كواكبا
وقول أبي عبادة البحتري:
لقد غادرت في جسمي سقاما ... بما في مقلتيك من السقام
وقوله:
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا
وقوله:
وحملت عندك ذنب المشي ... ب حتى كأني ابتدعت المشيبا
وقول أبي فراس بن حمدان:
فلست أرى إلا عدوا محاربا ... وآخر خير منه عندي المحارب
وقوله:
بنفسي وإن لم أرض نفسي لراكب ... يسائل عني كلما لاح راكب
وقوله:
هو الموت فاختر ما حلا لك ذكره ... فلم يمت الإنسان ما حيي الذكر
وقول الكافي العماني:
عطل المروة خانه إمكانه ... إن المروة حليها الإمكان
وقوله:
فيا ليت شعري كيف أنت أشيق ... فؤادك كالمعمود أم غير شيق
وقول البهاء زهير:
وإن قلتم أهوى الرباب وزينبا ... صدقتم سلوا عني الرباب وزينبا
والرابع، وهو وقوع أحد اللفظين المكررين في آخر البيت، والآخر في أول المصراع الآخر، مثال قول ذي الرمة:
وإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها
وقول البحتري:
عدمت الغواني كيف يعطين للصبا ... محاسن أسماء يخالفها الفعل
فنعم ولم تنعم بنيل نعده ... وجمل ولم تجمل بعارفه جمل
وقوله:
على الحي سرنا عنهم وأقاموا ... سلام وهل يدني البعيد سلام
وقول كثير عزة:
أصاب الردى من أن يبغي لها الردى ... وجن اللواتي قلن عزة جنت
وما أحسن قول ابن جابر فيه:
صفحوا عن محبهم وأقالوا ... من عثار الهوى ومنوا بوصل
لست أستوجب الوصال ولكن ... أهل تلك الخيام أكرم أهل
والخامس، وهو وقوع أحد اللفظين في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، واللفظان متجانسان، مثاله قول القاضي الأرجاني:
دعاني من ملامكما سفاها ... فداعي الشوق قبلكما دعاني
وقول الآخر:
سل سبيلا فيها إلى راحة النف ... س براح كأنها سلسبيل
وقول الآخر:
ذوائب سود كالعناقيد أرسلت ... فمن أجلها منا النفوس ذوائب
وقول الآخر:
يسار من سجيتها المناسا ... ويمنى من عطيتها اليسار
وقول الشيخ عبد الرحيم العباسي:
ناظراه إذا تنكر تيها ... في الذي أورث الحشا ناظراه
والسادس، وهو وقوع أحد اللفظين المتجانسين في آخر البيت، والآخر في حشو المصراع الأول، مثاله قول الثعالبي:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فأنف البلابل باحتساء بلابل
وقول الآخر:
لا كان إنسان تيمم قاصدا ... صيد المها فاصطاده إنسانها
والسابع، وهو وقوع أحد اللفظين المتجانسين في آخر البيت، والآخر في آخر المصراع الأول، مثاله قول البحتري:
العيش في ظل داريا إذا بردا ... والراح تمزجها بالماء من بردا
برد الأول: فعل ماض من البرد، والثاني: نهر كبير بدمشق.
وقول الحريري:
فمشغوف بآيات المثاني ... ومفتون برنات المثاني
المثاني الأولى: القرآن أو ما ثني منه مرة بعد مرة، وقيل غير ذلك. والمثاني الثاني: جمع مثنى، وهو من أوتار العود ما كان بعد الأول.
وقول ابن جابر الأندلسي:
(1/189)
________________________________________
زرت الديار عن الأحبة سائلا ... ورجعت ذا أسف ودمع سائل
ونزلت في ظل الأراكة قائلا ... والربع أخرس عن جواب القائل
والثامن، وهو وقوع أحد اللفظين المتجانسين في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع، ومثاله قول الأرجاني:
أملتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فلاح
وقول الأمير أبي الفضل الميكالي:
إن لي في الهوى لسانا كتوما ... وفؤادا يخفي حريق جواه
غير أني أخاف دمعي عليه ... ستراه يبدي الذي ستراه
والتاسع، وهو وقوع أحد اللفظين في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، واللفظان ملحقان بالمتجانسين جمعهما الاشتقاق، مثاله قول السري الرفاء، ووهم من نسبه إلى أبي عبادة البحتري:
ضرائب أبدعتها في السماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا
وقول البحتري:
ضرب الجبال بمثلها من عزمه ... غضبان يطعن بالحمام ويضرب
وقوله أيضاً:
وخيبت أسبابي النازعات ... إليك وما حقها أن تخيبا
يريبني الشيء تأتي به ... وأكبر قدرك أن أستريبا
العاشر، وهو وقوع أحد اللفظين الملحقين بالمتجانسين في آخر البيت، والآخر في حشو المصراع الأول، مثاله قول امرئ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
وقول أبي فراس:
يقول لي انتظر زمنا ومن لي ... بأن الموت ينتظر انتظاري
وقول الكافي العماني:
ما زال يسلب كل من حمل الظبا ... قلمي وأحداق الظباء سوالبي
والحادي عشر، وهو وقوع أحد اللفظين الملحقين بالمتجانسين في آخر البيت، والآخر في آخر المصراع الأول، مثاله قول الشاعر:
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضير
وقول أبي تمام:
أعاذلتا ما أخشن الليل مركبا ... وأخشن منه في الملمات راكبه
وقوله:
إنسية إن حصلت أنسابها ... جنية الأبوية ما لم تنسب
وقول البحتري:
وإني لأبَّاء على كل لائم ... عليك وعصَّاء لكل ملام
وقوله:
لطيف بطلق الوجه لا متجهم ... علينا ولا نزر العطاء جهام
وقوله:
وكنت أرجي في الشباب شفاعة ... فكيف لباغي حاجة بشفيعه
وقوله:
إذا وصلتنا لم تصل عن تعمد ... وإن هجرت أبدت لنا هجر عامد
والثاني عشر، وهو وقوع أحد اللفظين الملحقين بالمتجانسين في آخر البيت، والآخر في أول المصراع الثاني، مثاله قول أبي تمام:
ثوى في الثرى من كان يحيى به الورى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر
وقد كانت البيض القواضب في الوغى ... بواتر فهي الآن من بعده بتر
وقول أبي فراس:
كأن ابنة القيسي في أخواتها ... خذول تراعيها الظباء الخواذل
وقوله:
ولكنني في ذا الزمان وأهله ... غريب وأفعالي لديه غرائب
والثالث عشر، وهو وقوع أحد اللفظين الملحقين اللذين يجمعهما شبه الاشتقاق في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول، مثاله قول الحريري:
ولاح يلحى على جري العنان إلى ... ملهى فسحقا له من لائح لاح
فالأول ماض يلوح، والآخر اسم فاعل من لحاه.
وقول الكافي العماني:
ثنينا السوء عن ذاك التثني ... وأثنيناه عن تلك الثنايا
والرابع عشر، وهو وقوع أحد اللفظين المذكورين في آخر البيت، والآخر في حشو المصراع الأول، مثاله قول الشاعر:
لعمري لقد كان الثريا مكانه ... تراه فأضحى الآن مثواه في الثرى
فالثريا واوي: تصغير ثروي من الثروة، وهي كثرة العدد، وإنما سمي النجم بذلك لكثرة كواكبه مع ضيق المحل. والثرى يائي.
وقول أبي العلاء المعري:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
والخامس عشر، وهو وقوع أحد اللفظين المذكورين في آخر البيت، والآخر في آخر المصراع الأول، مثاله قول الحريري:
ومضطلع بتلخيص المعاني ... ومطلع إلى تلخيص عاني
فالأول من عنى يعني، والثاني من عنا يعنو وقول البحتري:
صفت مثلما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله
وقول الآخر:
يا سقى الله عقيقا باللوى ... ورعى ثم طريقا من لوى
(1/190)
________________________________________
والسادس عشر، وهو وقوع أحد اللفظين المذكورين في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الثاني، مثاله قول التهامي:
طيف ألم فزاد في آلامي ... ألما ولم أعهده ذا إلمام
فالهمزة في (ألم) أصلية وفي (الإلمام) زائدة.
وقوله أيضاً:
تخمد الحرب حين تغمد بأسا ... وتسيل الدماء حين تسل
فالأول من السيلان، والثاني من السل.
فهذه جملة أمثلة الأقسام الستة عشر. وأرباب البديعيات بنوا أبياتهم على النوع الأول، وهو جعل أحد اللفظين المكررين في آخر البيت، والآخر في صدر المصراع الأول. وقد وقع الاتفاق على أنه أفضل الأنواع، وعندي إذا كان اللفظان متجانسين كان أحسن.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي:
فمي تحدث عن سري فما ظهرت ... سرائر القلب إلا من حديث فمي
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
وحقهم ما نسينا عهد حبهم ... ولا طلبنا سواهم لا وحقهم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله مع زيادة التورية:
فهم بصدر جمال عجز عاشقه ... عن وصله ظاهر من باحث فهم
هذا البيت يمكن أن يكون من نوع مكرر اللفظين، ومن نوع المتجانسين والتورية فيه ظاهرة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ألم أصرح بتصدير المديح لهم ... ألم أهدد ألم أصبر ألم ألم
إن فتحت الهمزة من لفظ (ألم) في عجز البيت كان من النوع الأول وإن ضمت كان من النوع الثالث عشر وهو ما كان اللفظان فيه ملحقين بالمتجانسين، يجمعهما شبه الاشتقاق، ولكن كثرة آلام هذا البيت لا يطيقها السمع.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري تقدم إنشاده في نوع الاكتفاء فإنه جمع فيه بينه وبين هذا النوع فلا حاجة لنا بإعادته هنا.
وبيت بديعيتي هو قولي:
بهجرهم كم وكم فل الهوى أمما ... ورد عجزا على صدر بهجرهم
التورية باسم هذا النوع لم يتفق لأحد من أرباب البديعيات الذي التزموها كما اتفقت لي في هذا البيت. فإن العز الموصلي إنما ذكر العجز والصدر، ولم يذكر الرد الذي هو العمدة، وابن حجة فر إلى اسم التصدير وهذا الاسم كما علمت غير مطابق للمسمى، وكذا الشيخ عبد القادر الطبري تبع ابن حجة في التسمية بالتصدير.
وأما أنا فأتيت بالاسم الذي هو (رد العجز على الصدر) كما هو، ووريت عنه بمعنى لطيف غريب، وما ذاك إلا أن الجيش إذا فل رجع القهقرى، ولشدة زحامهم حينئذ يتساقطون، فتقع أعجاز بعضهم على صدور بعض. ولك أن تحمل العجز على معنى عدم المقدرة، والمعنى حينئذ ظاهر.
وبيت بديعية المقري قوله، مع زيادة التورية:
رم العزا من سوى قلبي فلي غرض ... رميت فيه وما غير العزاء رم (ي)
قال ناظمه: التورية في قولي (وما غير العزاء رم) فإنه يحتمل وجهين أحدهما (رم) بمعنى أطلب، فيكون رد العجز على الصدر، ويحتملا ن يريد (وما رمي شيء سوى العزا) .

الاستثناء
سلوت من بعدهم هيف القدود فلم ... استثن إلا غصونا شبهت بهم
الاستثناء هو المذكور في كتب النحو، وحده إخراج (بألا) أو إحدى أخواتها تحقيقا أو تقديرا من مذكور أو متروك، والمراد بالمخرج تحقيقا: المتصل، كقام القوم إلا زيدا، فزيد مخرج تحقيقا من القوم، لأنه داخل فيهم تحقيقا، وبالمخرج تقديرا: المنقطع، نحو (ما لهم به من علم إلا إتباع الظن) ، فإن الظن وإن لم يدخل في العلم تحقيقا فهو في تقدير الداخل فيه، إذ هو مستحضر بذكر العلم لكثرة قيامه مقامه، فهو مخرج منه تقديرا، وبالمذكور التام كهذين المثالين، وبالمتروك المفرغ نحو: ما ضربت إلا زيدا.
إذا علمت ذلك فليس كل استثناء يعد من المحسنات البديعية، بل يشترط فيه اشتماله على معنى يزيد على معنى الاستثناء اللغوي، حتى يستحق به نظمه في سلك أنواع البديع كما قلناه في الاستدراك، وإلا لم يكن منه.
(1/191)
________________________________________
ومن أعظم شواهده قوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) فإن في هذا الكلام معنى زائدا على معنى الاستثناء اللغوي، وهو تعظيم أمر الكبيرة التي ارتكبها إبليس عليه لعنة الله، مع كونه خرق إجماع الملائكة المؤكدين (بكل) و (أجمع) مع أنهم الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم عليه السلام، وذلك مثل قولك - ولله المثل الأعلى -: أمر أمير المؤمنين بالمثول بين يديه، فامتثل أمره الناس جميعا، من وزير، وأمير، وصغير، وكبير؛ إلا فلانا. فأنت ترى ما في التعبير عن الأخبار بمعصية هذا العاصي من التعظيم والتهويل اللذين يستحق بهما الذم وزيادة التوبيخ، ولا كذلك قولك، أمر أمير المؤمنين بكذا فعصى فلان.
ومثل ذلك قوله تعالى إخبارا عن نوح عليه السلام: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) . فإن في الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة من التهويل ما يمهد عذر نوح عليه السلام في دعائه على قومه بدعوة أهلكتهم عن آخرهم، إذ لو قيل: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما لم يكن فيه من التهويل ما في الأول، لأن لفظ الألف في الأول، أول ما يطرق السمع، ويشتغل به عن سماع بقية الكلام. وإذا جاء الاستثناء لم يبق له بعد ما تقدمه وقع يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف، مع ما في هذا التعبير من الاختصار والإيجاز.
ومثاله من الشعر قول النميري:
فلو كنت كالعنقاء أو في أطومها ... لخلتك
إلا أن تصد تراني
فإن في قوله (إلا أن تصد) وتأخير مفعول خلتك عن حرف الاستثناء زيادة حلاوة، مع تضمنه المبالغة في زيادة المدح، إذ معناه: لو كنت في حال العدم (لأن العنقاء عند العرب اسم لا حقيقة لمسماه، ولهذا يضربون المثل بها لكل شيء متعذر الوجود) لخلتك متمكنا من رؤيتي، ليس لك مانع منها، إلا أن تكون أنت الممتنع، فأنت في القدرة علي غير ممنوع.
وهذا غاية المبالغة في المدح. واعتراض بعضهم: أن هذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم ليس بشيء.
ومنه قول الآخر:
تبت يد سألت سواك وأجدبت ... أرض بغير بحار جودك توسم
فالعز إلا في حياتك ذلة ... والمال إلا من يديك محرم
وقال أبو بكر بن حجاج:
يقولون إن ***** في أرض بابل ... وما ***** إلا ما أرتك محاجره
وما الغصن إلا ما انثنى تحت برده ... وما الدعص إلا ما طوته مآزره
وما الدر إلا ثغره وكلامه ... وما الليل إلا صدغه وغدائره
ومن الاستثناء الذي ما خرق حجاب السمع ألطف منه قول الصالح طلائع بن رزيك، وقد ألزم الأمير ابن سنان بمال رفع عليه، لكونه كان يتولى أموالا له، واعتقله، فأرسل إليه يمت بقديم الخدمة والتشيع الموافق لمذهبه فقال الصالح:
أتى ابن سنان ببهتانه ... يحصن بالدين ما في يديه
برئت من الرفض إلا له ... وتبت من النصب إلا عليه
وكان قدر المال ستين ألف دينار، فأخذ منه اثني عشر ألف وترك له الباقي.
وكان الملك الصالح هذا متشيعا وكان شاعرا مجيدا، وله ديوان مشهور ذكر منه ابن خلكان في تاريخه جملة جيدة.
ومن شعره قصيدته التي وازن بها قصيدة دعبل الخزاعي التي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
وأول قصيدة الملك المذكور قوله:
ألائم دع لومي على صبواتي ... فما فات يمحوه الذي هو آت
وما جزعي من سيئات تقدمت ... ذهابا إذا اتبعتها حسنات
إلا أنني أقلعت عن كل شبهة ... وجانبت غرقى أبحر الشبهات
شغلت عن الدنيا بحبي معشرا ... بهم يصفح الرحمن عن هفواتي
وقال في آخرها:
أعارض من قول الخزاعي دعبلا ... وإن كنت قد أقللت من مدحاتي
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
قال ابن حجة: ومن الاستثناء نوع سماه ابن أبي الإصبع، استثناء الحصر، وهو غير الاستثناء بإخراج القليل من الكثير، ونظم فيه قوله:
إليك وإلا لا تحث الركائب ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب
فإن خلاصة هذا البيت: لا تحث الركائب إلا إليك، ولا يصدق المحدث إلا عنك. انتهى.
(1/192)
________________________________________
وأنا أقول: أما لفظ البيت فليس فيه استثناء و (إلا) المذكورة في صدره وعجزه ليست هي الاستثنائية، وإنما هي بمعنى (إن لم) فهي كلمتان (إن) الشرطية و (لا) النافية. مثلها في قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله) . لأن تقدير البيت هكذا: إليك تحث الركائب وإلا، أي وإن لم يحدث عنك فالمحدث كاذب. وأما معناه الذي ذكره، فالاستثناء فيه ظاهر، فعلى هذا فالأليق أن يسمى هذا استثناء معنويا لئلا يتوهم من لا له دربة في العربية، أن (إلا) فيه هي الاستثنائية فيخبط خبط عشواء.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي بناه على أسلوب بيت النميري المقدم ذكره فقال:
فكلما سر قلبي واستراح به ... إلا الدموع عصاني بعد بعدهم
فأخر خبر (كلما) وهو (عصاني) عن الاستثناء، كما أخر النميري مفعول (خلتك) عنه. وقد قال هو في شرح بديعيته: أن في تلك زيادة حلاوة.
وجعل ابن حجة ذلك من العقادة. فما أحقه أن ينشد:
إذا محاسني اللائي أدل بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف اعتذر
ومعنى البيت أن كل شيء كان يسره ويستريح به ويطيعه قبل الفراق عصاه بعده إلا الدموع فإنها أطاعته. وفي هذا المعنى من الرقة الزائدة على معنى الاستثناء ما لا يخفى على أهل الذوق.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
الناس كل ولا استثناء لي عذروا ... إلا العذول عصاني في ولائهم
مراده في زيادة معناه على الاستثناء: أن عذوله خرق الإجماع بمعصيته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
عفت القدود ولم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم
ابن حجة تبجح بهذا البيت، وحق له ذلك، فإنه أجاد فيه ما شاء، فإن زيادة معناه على الاستثناء، وحسن انسجامه، وسهولة ألفاظه، ومراعاة نظيره، لا ينكرها إلا متعنت خارج عن أوصاف الإنصاف. وما أحسن ترشيحه تورية الاستثناء بذكر القد=ود والمعاطف والتكميل بذي سلم لكون القصيدة نبوية، في غاية الكمال.
غير أن لقائل أن يقول: أن مهيار الديلمي كان أغزل منه حيث يقول من قصيدة فريدة:
بانت وبقتني وليس خلفا ... على ظباء رامة وبانها
فما خدعت عن لحاظ عينها ... بما رنا إلي من غزلانها
ولا عتبت عن تثني قدها ... بأن أحالتني على أغصانها
فابن حجة صبا إلى معاطف الأغصان بعد معاطف أحبابه، ومهيار لم يرض بلحاظ الغزلان، وتثني أغصان البان خلفا عن لحظ حبيبته، وتثني قدها، فبين صبابتي الرجلين بعد المشرقين.
وبيت بديعية الطبري قوله:
رفضت جانبهم مما جنوه فلم ... استثن إلا ذوي لطف بصبهم
أنى الوادي فطم على القري. ولله ابن النبيه حيث يقول:
من لم يذق ظلم ****** كظلمه ... حلوا فقد جهل المحبة وادعى
وانظر المعنى الزائد على معنى الاستثناء في هذا البيت ما هو؟ فإن ركة لفظه ومعناه لم تبق للسامع جلدا يتأمل به ذلك.
وبيت بديعيتي هو قولي:
سلوت من بعدهم هيف القدود فلم ... استثن إلا غصونا شبهت بهم
زيادة معنى هذا البيت على معنى الاستثناء، ومراعاة نظيره، وترشيح تورية الاستثناء فيه بذكر الهيف، هيف القدود والغصون، مثلها في بيت ابن حجة على حد سواء، غير أن في التكميل بقولي: شبهت بهم، أمرين: أحدهما - التقصي عن الانتقاد الذي أوردناه عليه من أبيات مهيار الديلمي، فإن الاستثناء إنما وقع للغصون التي شبهت بهم، فالاستثناء لها إنما هو من هذه الحيثية لا لمعاطفها وتثنيها، فلولا تشبيهها بهم لم يستثنها ولا أعارها طرفه.
وعلى ذلك فما أرق قول مهيار الديلمي أيضاً:
أراك بوجه الشمس والبعد بيننا ... فاقنع تشبيها بها وتمثلا
واذكر عذبا من رضا بك مسكرا ... فما أشرب الصهباء إلا تعللا
وقوله أيضاً:
إذا استوحشت عيني أنست بأن أرى ... نظائر تصبيني إليها وأشباها
فاعتنق الغصن القويم لقدها ... وأرشف ثغر الكأس أحسبه فاها
والأمر الثاني - إن فيه من المبالغة ما جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا. وهذا فصل من فصول العربية طريف، عقد له ابن جني في كتاب الخصائص بابا وسماه: غلبة الفروع على الأصول، قال: والغرض فيه المبالغة.
فمما جاء في ذلك للعرب قول ذي الرمة:
(1/193)
________________________________________
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... إذا لبسته المظلمات الحنادس
أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا؟ وذاك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الانقاء، ألا ترى إلى قوله:
ليلى قضيب تحته كثيب ... وفي القلاد رشأ ربيب
فقلب ذو الرمة العرف والعادة في هذا، فشبه كثبات الانقاء بإعجاز النساء، وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة، أي قد ثبت هذا الموضع، وهذا المعنى لإعجاز النساء، وصار كأنه الأصل، فشبه به كثبان الانقاء.
مثله للطائي الصغير - يعين أبا عبادة البحتري -:
في طلعة البدر شيء من ملاحتها ... وللقضيب نصيب من تثنيها
وآخر من جاء به شاعرنا - يعني أبا الطيب المتنبي - فقال:
نحن ركب ملجن في زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال
فجعل كونهم جنا أصلا، وكونهم ناسا فرعا، وجعل كون مطاياهم طيرا أصلا، وكونها جمالا فرعا. انتهى ملخصا.
فقولي (إلا غصونا شبهت بهم) من هذا الباب، لأن العرف والعادة تشبيه القدود بالغصون فقلبت ذلك، وجعلت الغصون مشبهة بقدودهم مبالغة.
ومنه أيضاً قولي من قطعة تقدم إنشادها في نوع الافتنان وهو:
في ليلة مدت غياهبها ... من فرعها كالفاحم الجعد
فإن العرف تشبيه الشعر الفاحم بالظلمة، فقلبت ذلك وشبهت الظلمة به.
إذا عرفت ذلك، فالتكميل في بيت بديعيتي باشتماله على هذين المعنيين أكمل منه في بيت ابن حجة والله أعلم.
وبيت بديعية الشرف المقري قوله:
أهوى حياتي إلا حيث لم أرهم ... وأكره الموت إلا في جوارهم
فالمعنى الزائد على معنى الاستثناء في هذا البيت أظهر من أن ينبه عليه.

مراعاة النظير
وقد قصدت مراعاة النظير لهم ... من جلنار ومن ورد ومن عنم
هذا النوع أعني مراعاة النظير، سماه قوم بالتوفيق، وآخرون بالتناسب وجماعة بالائتلاف، وبعضهم بالمواخاة.
قالوا: وهو عبارة عن أن يجمع المتكلم بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد سواء كانت المناسبة لفظا لمعنى، أو لفظا للفظ، أو معنى لمعنى، إذ القصد جمع شيء وما يناسبه من نوعه، أو ملائمة من إحدى الوجوه. انتهى.
ولا يخفى أن هذا التفسير يدخل فيه ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع اللفظ، وائتلاف المعنى مع المعنى، وكل من هذه الأقسام عده أرباب البديعيات نوعا برأسه، ونظموا له شاهدا مستقلا، وجعلوه مغايرا لهذا النوع، مع أنهم مثلوا لائتلاف اللفظ بما مثلوا به لمراعاة النظير بعينه ولا وجه لذلك، بل كان الصواب تنويع هذا النوع إلى هذه الأنواع الثلاثة كما فعل صاحب التبيان، حيث قال: مراعاة النظير هو أن يجمع بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد، وهو أصناف: الأول - ائتلاف اللفظ والمعنى. والثاني - ائتلاف اللفظ مع اللفظ. والثالث - ائتلاف المعنى مع المعنى. وهذا كتنويعهم اللف والنشر إلى أنواعه المذكورة، والالتفات إلى أنواعه الستة، وغير ذلك من أنواع البديع التي هي تتنوع إلى أنواع. وإذ قد اصطلح أرباب البديعيات على جعل مراعاة النظير نوعا برأسه، وكل من ائتلاف اللفظ والمعنى، وائتلاف اللفظ مع اللفظ، وائتلاف المعنى مع المعنى، نوعا برأسه، فينبغي أن يحد كل منها بحد لا يشمل الآخر.
فيحد مراعاة النظير: بأنه عبارة عن أن يجمع المتكلم بين لفظين أو ألفاظ متناسبة المعاني، أما حقيقة أو ظاهرا. فالأول كقوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) . فالشمس والقمر متناسبا المعنى حقيقة، من حيث اشتراكهما في وصف مشهور، وهو الإضاءة.
والثاني كقول مهيار الديلمي:
ومدير سيان عنياه والإبريق فتكا ولحظه والمدام
فمعنى الإبريق مناسب لمعنى المدام، إذ الإبريق يطلق على إناء الخمر، لكن هذه المناسبة ظاهرية، إذ ليس مقصوده بالإبريق هذا المعنى، بل مقصوده به السيف، سمي بذلك لبريقه، فخرج عن هذا الحد لمراعاة النظير؛ ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف المعنى مع المعنى، وسيأتي كل منهما في محله إن شاء الله تعالى.
(1/194)
________________________________________
وأما ائتلاف اللفظ مع اللفظ فيحد بما ذكره العلامة السيوطي في الإتقان، وهو كون الألفاظ تلائم بعضها بعضا، بأن يقرن الغريب بمثله والمتداول بمثله، رعاية لحسن الجوار والمناسبة، وهذه المناسبة غير المناسبة التي في مراعاة النظير - كما هو ظاهر - فاستقل كل نوع من هذه الأنواع برأسه، وكان كل منها مغايرا للآخر.
وتكلف الشيخ صفي الدين للفرق بين مراعاة النظير وائتلاف اللفظ مع اللفظ بما يأتي ذكره هناك، ولم يذكر بين النوعين الآخرين وبين مراعاة النظير فرقا، مع شمول حده مراعاة النظير لهما، وعده كلا منهما قسما برأسه.
ومن بديع أمثلة هذا النوع - أعني مراعاة النظير - قول البحتري يصف إبلا أنحلها السري:
يترقرقن كالسراب وقد خض ... ن غمارا من السراب الجاري
كالسقي المعطفات بل الأس ... هم مبرية بل الأوتار
فإنه شبه الإبل بالقسي، وأراد أن يكرر التشبيه فكان يمكنه أن يشبهها بالمعراجين والأهلة والأطناب ونحو ذلك، لكنه اختار الأسهم، والأوتار، لمناسبتها للقسي. وترقى في التشبيه، فكأنه قال: إن تلك الإبل المهازيل في شكلها، ودقة أعضائها، شابهت القسي، بل أدق مها وهي الأسهم المنحوتة بل أدق منها وهي الأوتار.
وقد تداول الشعراء هذا المعنى، وتجاذبوا أطرافه، ومن ذلك قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
هن القسي من النحول فإن سما ... طلب فهن من النجاء الأسهم
أخذه بان قلاقس بأكثر ألفاظه فقال:
خوص كأمثال القسي نواحلا ... فإذا سما طلب فهن سهام
وقال أيضاً:
طرحن العجز عن أعجاز عيس ... توشحها على الحزم الحزاما
وتدفع بالسرى منها قسيا ... فتقذف بلانوى منها سهاما
وقال ابن النبيه:
إن خوص الظلماء أطيب عندي ... بمطايا أمست تشكى كلاله
هن مثل القسي شكلا ولكن ... هن في السبق أسهم لا محاله
ومن أحسن ما ورد من مراعاة النظير أيضاً قول ابن خفاجة يصف فرسا:
وأشقر تضرم منه الوغى ... بشعلة من شعل الباس
من جلنار ناضر جلده ... وأذنه من ورق الآس
فناسب بين الجلنار والآس والنضارة ومثله قول أبي نواس:
يا قمرا أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب
يبكي فيذري الدمع من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
وقول ابن المعتز:
ومهفهف ألحاظه وعذاره ... يتعاضدان على قتال الناس
سفك الدماء بصارم من نرجس ... كانت حمائل غمده من آس
وقول أبي الحسن السلامي:
أو ما ترى طرز البروق توسطت ... أفقا كأن المزن فيه شفوف
واليوم من خجل الشقيق مضرج ... خجل ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرس والرياض سطوره ... والزهر شكل بينها وحروف
فناسب بين الطرس والسطور، والشكل والحروف.
ومثل قوله أيضاً من قصيدة أخرى:
أشربا واسقيا فتى يصحب الأي ... أم نفسا كثيرة الأوطار
والنفوس الكبار تأنف للسا ... دة أن يشربوا بغير الكبار
في جوار الصبا نحل بيوتا ... عمرت بالغصون والأقمار
ونصلي على أذان الطنابي ... ر ونصغي لنغمة الأوتار
بين قوم إمامهم ساجد لل ... كاس أوراكع على المزمار
فناسب بين الصلاة والآذان، والسجود والركوع.
وقوله أيضاً:
والنقع ثوب بالسيوف مطرز ... والأرض فرش بالجياد مخمل
وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سمر تنقط بالدماء وتشكل
فناسب بين الثوب والتطريز، والفرش والتخميل، وبين السطور والألفات والنقط والشكل.
ومثل هذه المناسبة قول الوزير الطغرائي:
لبس شفوف النقع تخمل بالقنا ... عليهن إضريج من الدم مخضوب
عليها سطور الضرب يعجمها القنا ... صحائف يغشاها من النقع تثريب
فناسب في البيت الأول: بين اللبس والشفوف والخمل، والإضريج - بالضاد المعجمة والراء المهملة والياء المثناة من تحت والجيم - وهو الخز الأحمر. وفي الثاني: بين السطور والإعجام، والصحائف والتثريب.
ومن جيد هذا النوع قول السلامي أيضاً:
الحب كالدهر يعطينا ويرتجع ... لا اليأس يصرفنا عنه ولا الطمع
صحبته والصبا يغري الصبابة بي ... والوصل طفل غرير والهوى يفع
(1/195)
________________________________________
أيام لا النوم في أجفاننا خلس ... ولا الزيارة من أحبابنا لمع
إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ... ورايتي اللهو واللذات لي شيع
وما ألطف قول ابن الساعاتي في مثل هذه المناسبة:
السحب رايات ولمع بروقها ... بيض الظبا والأرض طرف أشهب
والند قسطلة وزهر شموعنا ... صم القنا والفحم نبل مذهب
وما أبدع قول بعضهم في آل بيت النبي صلوات الله عليهم:
أتنم بنو طه ونون والضحى ... وبنو تبارك والكتاب المحكم
وبنو الأباطح والمشاعر والصفا ... والركن والبيت العتيق وزمزم
فإنه أحسن في المناسبة في الأول: بين أسماء السور، وفي الثاني: بين الجهات الحجازية.
ومثله قول الآخر في بني هاشم:
بني هاشم عفو عفا الله عنكم ... وإن كان ثوبي حشوه اليوم مجرم
لكم حرم الرحمن والبيت والصفا ... وجمع وما ضم الحطيم ومزم
فإن قلتموا باديتنا بعظيمة ... فأحلامكم فيها أجل وأعظم
وقول ابن رشيق:
أصح وأقوى ما رويناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم
فأجاد ما شاء في المناسبة بين الصحة والقوة، والرواية والخبر المأثور، ثم بين السيل والحياء، والبحر وكف تميم، لما شاع بين الشعراء من جعل كف الممدوح سحابا وبحرا ونحوهما، مع ما فيه من حسن الترتيب في الرتقي، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث. فإن السيول أصلها المطر، والمطر أصله البحر (على ما يقال) والبحر أصله كف الممدوح على ادعاء الشاعر، مع رعاية العنعنة المستعملة في الأسانيد.
قال ابن حجة في باب المناسبة - بعد ذكره هذين البيتين - أقول: إنني زاحمت ابن رشيق هنا بالمناكب، وأبطلت موانع التعقيد لما دخلت معه إلى هذه المطالب، وما ذاك إلا أنني امتدحت شيخي علاء الدين القضامي بموشح ببيت مخلصه تحفة في هذا الباب، لأن مناسبته المعنوية رفعت عن وجه محاسنها الحجاب، وهو:
رقم السوالف يروي لي بمسنده ... عن رقمتي حيهم يا طيب مورده
وثغرها قد روى لي قبل ما احتجبت ... عن برق ذاك النقا أيام معهده
والريق أمسى عن المرد ... يروي حديث العذيب مسند
عن الصفا عن مذاق الشهد والعسل ... عن ذوق سيدنا قاضي القضاة علي
قال: وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف محاسن هذا البيت، ومناسبته المعوية، فإن برهانه غير محتاج إلى إقامة دليل. انتهى كلامه.
قلت: هيهات، أين الثريا من الثرى، وأين مطلع سهيل من موقع السيل، على أن هذه الرواية المعنعنة التي ذكرها في مخلصه هذا إنما كانت تحسن عن ذوق المحبوب، لا ذوق الممدوح، وهذا من الغلط بوضع الكلام في غير موضعه.
كما قالوا في قول المتنبي:
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
قالوا: إن هذه الغيرة إنما تكون بين المحب والمحبوب، كما قال كشاجم:
أغار إذا دنت من فيه كأس ... على رد يقبله زجاج
فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها، اللهم إلا أن يكون بين ابن حجة وبين شيخه الممدوح أمر يقتضي هذه الرواية المعنعة عن ذوقه، فهو أدرى به.
ومن محاسن هذا النوع أيضاً قول ابن الخشاب في المستضيئ:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت دون الورد وقفة حائم
ظمآن أطلب خفة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم
قال صاحب التبيان: انظر إلى هذين البيتين فإنهما كادا يجريان مع الماء في السلاسة، مع أن قائلهما لم يتجانف فيهما عن حكاية الماء، وما يناسبه، حتى عد فيهما ائتلاف عشر. انتهى. أي ائتلافا بين عشرة أشياء، هي: الورد، والسلسال، والارتواء، والورد، والحائم، والظمأ، والخفة؛ والزحمة، ثم الورد مرة أخرى والتزاحم.
وقال أبو العلاء المعري:
دع اليراع لقوم يفخرون به ... وبالطوال الردينيات فافتخر
فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت ... مجدا أتت بمداد من دم هدر
فناسب بين الأقلام والكتابة والمداد.
ومثله قول أبي العشائر:
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
(1/196)
________________________________________
ألفاظ المناسبة في هذا أكثر كما لا يخفى، فإنها هناك ثلاثة، وهنا خمسة.
ومن أعجب ما وقع في هذا النوع قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
حيرني روض على خده ... ويلي من ذاك وويلي عليه
أي جنى يقطف من حسنه ... وكل ما فيه حبيب إليه
نرجستي عينيه أم وردتي ... خديه أم ريحانتي عارضيه
هذا هو الشعر الذي قيل فيه: إنه أرق أنفاسا من نسيم *****، وأدق اختلاسا من النفاث إذا سحر.
وقول ابن زيلاق في مليح محروس بخادم:
ومن عجب أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر
عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخالك ياقوت وخدك عنبر
فناسب بين العذار والثغر، والخال والخد، وبين ريحان وجوهر، وياقوت وعنبر، لوضعها غالبا أسماء للخدام.
وما أحسن قول الزغاري في هذا النوع:
كأن السحاب العز لما تجمعت ... وقد فرقت عنا الهموم بجمعها
نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب وكف الريح حالب ضرعها
فإنه أتى بالتشبيه الغريب، وحسن المناسبة العديمة النظير في مراعاته مع حلاوة الانسجام، ولطف المعنى.
ومن بديعه قول الشيخ عمر بن الفارض:
شربنا على ذكر ****** مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
فأبدع في المناسبة بين البدر والشمس والهلال والنجم، وبين الكأس والإدارة والمزج.
ومن الغايات التي حسرت دونها سوابق الأفكار في هذا النوع البديع، قول البديع الهمداني من قصيدة يمدح بها خلف بن أحمد وإلى سجستان مطلعها:
سماء الدجى ما هذه الحدق النجل ... أصدر الدجى حال وجيد الضحى عطل
وبعده يصف طول السرى وهو المقصود بالإثبات هنا:
لك الله من عزم أجوب جيوبه ... كأني في أجفان عين الردى كحل
كأن الدجى نقع وفي الجو حومة ... كواكبه جند طوائرها الرسل
كأن مطايانا سماء كأننا ... نجوم على أقتابها برجنا الرحل
كأن السرى ساق كأن الكرى طلا ... كأنا له شرب كأن المنى نقل
كأن الفلا ناد به الجن فتية ... عليه الثرى فرش حشيته رمل
كأنا جياع والمطي لنا فم ... كأن الفلا زاد كأن السرى أكل
كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع ... وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل
كأنا على أرجوحة في مسيرنا ... بغور بنا يهوي ونجد بنا يعلو
ومنها في وصف براعته، ودواته ويراعته، ولم يخرج عما نحن فيه:
كأن غمي قوس لساني له يد ... مديحي له نزع به أملي نبل
كأن دواتي مطفل حبشية ... كأني لها بعل ونقشي لها نسل
كأن يدي في الطرس غواص لجة ... له كلمي در به قيمي تغلو
تأمل أيها الناظر في هذه العارضة القوية، والملكة التي لا يستطيعها ذو بديهة ولا روية، فإنه ما شاد بيتا إلا وعمره بمحاسن مراعاة النظير، وأسكن فيه ما يلائمه من المناسبات التي يحسدها الروض النضير. وأنا ما زلت معجبا بهذه القصيدة أشد الإعجاب، مشغوفا بمحاسنها التي ما خرق مثلها للسمع حجاب.
وقد عن لي أن أثبت بقية ما حضرني منها هنا، لينتظم شملها بما قبلها ويتملى بها من أراد أن يتأملها - وإن كان بعضها قد سبق ذكره في نوع التفويف - فما أحسن قوله بعد ما تقدم من التشبيه يذكر أباه بهمدان، واستقباله الحجيج للسؤال عن خبره، والبحث عن وطنه ووطره.
ثم تخلص إلى المديح أحسن تخلص، وجاء من المديح بما بهر الألباب، واستفز أولي الآداب، وهو:
يذكرني قرب العراق وديعة ... لدى الله لا يسليه مال ولا أهل
حنته النوى بعدي وأضنته غيبتي ... وعهدي به كالليث جؤجؤه عبل
إذا ورد الحجاج لاقى رفاقهم ... بفوارتي دمع هما النجل والسجل
يسائلهم أين ابنه كيف داره ... إلى م انتهى لم لم يعد هل له شغل
أضاقت به حال أطالت له يد ... أأخره نقص أقدمه فضل؟
يقولون وافى حضرة الملك الذي ... له الكنف المألوف والنائل الجزل
فقيد له طرف وحلت له حبي ... وخير له قصر ودر له نزل
يذكرهم بالله ألا صدقتم ... لدي أجد ما تقولون أم هزل؟
كأن أبانا أودع الملك الذي ... قصدناه كنزا لم يسع رده مطل
(1/197)
________________________________________
ولما بلوناكم تلونا مديحكم ... فيا طيب ما نبلو ويا صدق ما نتلو
طوينا لرؤياك الملوك وإنما ... بمثلك عن أمثالهم مثلنا يسلو
فدى لك من أبناء دهرك من غدا ... ولا قوله علم ولا فعله عدل
فيا ملكا أدنى مناقبه العلى ... وأيسر ما فيه السماحة والبذل
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا ... سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
محاسن يبديها العيان كما ترى ... فإن نحن حدثنا بها دفع العقل
فقولا لو سام المكارم باسمه ... ليهنك إذ لم تبق مكرمة غفل
وجاراك أفراد الملوك إلى مدى ... وحقا لقد أعجزتهم ولك الخصل
سما بك من عمرو بن يعقوب محتد ... كذا الأصل مفخوراً به وكذا النسل
هذا هو الشعر الذي يخجل الدرر في الأسلاك، بل الدراري في الأفلاك. ولا غرو فهذا البديع هو إمام المقامات الذي صلى الحريري خلفه، وأشار إليه في ديباجة مقاماته بقوله: إن التصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته ولله القائل:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدي شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
فإن البديع هو الذي أبدع المقامات، فأملى أربعين مقامة، عزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، من لفظ أنيق قريب المأخذ بعيد المرام، وسجع رشيق المطلع والمقطع كسجع الحمام، وجد يروق فيملك القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول. فقفى الحريري إثر عيسى بن هشام بالحرث ابن همام، وأثر الإسكندري بأبي زيد السروجي.
وسئل بعض علماء الأدب عن الحريري والبديع في مقاماتهما فقال: لم يبلغ الحريري أن يسمى بديع يوم، فكيف يقارب بديع الزمان.
رجع إلى ما نحن بصدده من حسن المناسبة في مراعاة النظير.
فمن المستحسن منه قول بديع الزمان أيضاً في الاعتذار من النحافة:
هلم إلى نحيف الجسم مني ... لتنظر كيف آثار النحاف
ولي جسد كواحدة المثاني ... له كبد كثالثة الأثافي
وما أحسن ما ناسب بين ألفاظ الأعداد وترقى فيها من الواحد إلى الثلاثة على ترتيبها، بمعنى يجمعها ويضم أطرافها. قال الباخرزي في الدمية: ولا يكاد ينقضي إعجابي بهذا البيت.
ومنه قول أبي منصور الثعالبي:
طالع يومي غير منحوس ... فسقني يا طارد البوس
خمرا كعين الديك في روضة ... كأنها حلة طاووس
وما ألطف وأبدع قول ابن مطروح:
لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل
ومثله قول العماد التلمساني:
شقت عليك يد الأسى ... ثوب الدموع إلى الذيول
وأبدع القاضي الفاضل في قوله:
في خده فخ لعطفة صدغه ... والخال حبته وقليب الطائر
ومنه قول الأديب أبي القاسم بن العطار:
وسنان ما أن يزال عارضه ... يعطف قلبي كعطفة اللام
لحاظه أسهم وحاجبه ... قوس وإنسان عينه رام
وقول التهامي:
وعصابة مال الكرى برؤوسهم ... ميل الصبا بذوائب الأغصان
ما أحلى ما ناسب بين العصابة والرؤوس والذوائب. قال الصفدي: وهذا المعنى والألفاظ تكاد ترقص لها السطور، وتحلى بدرره الترائب من الغواني والنحور.
وما أعلم مثله في بديع صناعته غير قول أبي الطيب المتنبي:
على سابح موج المنايا ببحره ... غداة كأن النبل في صدره وبل
فإنه ناسب فيه بين السابح والموج، والبحر والوبل.
ومنه قول الأديب الفاضل شرف الدين يحيى العصامي من فضلاء العصر:
سفينة أشعار هي البحر درها ... نتائج أفكار وشتى معارف
بها اللفظ كأس والمعاني مدامة ... وما ذاق منها نشوة غير عارف
وعلى ذلك فما ألطف قوله أيضاً:
رأى سقم الكتاب فمال عنه ... سقيم الجفن ذو حسن بديع
فقلت له فدتك النفس هلا ... مراعاة النظير من البديع
ومما وقع لي من هذا النوع قولي من قصيدة طويلة مدحت بها الوالد:
كأن المذاكي المقربات يقودها ... عرائس تجلى إذ يراد لها زف
وقد أسدلت من ثائر النقع دونها ... ستور ولم يرفع لمسد لها سجف
فناسب بين العرائس والزف، والستور والأسدال والسجف.
(1/198)
________________________________________
وقولي في مطلع قصيدة أخرى خمرية:
طاف بدر الدجى بشمس الكؤوس ... في نجوم من الندامى جلوس
وقلت بعده:
فكأن المدام في الكأس إذ تج ... لى سراج يضيء في فانوس
قهوة عسجدية من كناها ... بنت رأس مقرها في الرؤوس
هي لهو لنا إذا حلت الكا ... سولاه في دنها للمجوس
لقبت بالعجوز وهي عروس ... فاعجب اليوم للعجوز العروس
هذا المعنى ما أظن أني سبقت إليه، ولا زاحمني أحد عليه، وكررته في قصيدة خمرية أخرى.
فقلت:
جليت كالعروس وهي عجوز ... من عذيري من العروس العجوز
وقلت بعد البيت السابق وفيه شاهد لما نحن فيه أيضاً:
قام يسعى بها كعين الديك ساق في حلة الطاووس
ذو دالالة يبدي نفيس جمال ... فيفدى بغاليات النفوس
راضه السكر فاقتنى الرشأ الوحشي أنسا من خلقه المأنوس
بين حور من الحسان بدور ... وحوال من الغواني شموس
ورياض بها الأقاح ثغور ... يتبسمن في الزمان العبوس
يا ليالي الهنا إلينا فأنا ... في زمان المدام من كل بوس
قد حسونا من السلاف رضابا ... ورشفنا الثغور رشف الكؤوس
وجمحنا عن الهموم شماسا ... مذ غدونا على الكميت الشموس
هذا أيضاً فيه حسن المناسبة بين الجموح والشماس، والكميت والشموس.
وأما النوع الثاني من مراعاة النظير، وهو ما كانت المناسبة فيه ظاهرية فأعظم شواهده قول أبي العلاء المعري:
وحرف كنون تحت راء ولم يكن ... بدال يؤم الرسم غيره النقط
فإنه ناسب بين حروف الهجاء والرسم والنقط، ومقصوده غيرها، لأنه أراد (بالحرف) الناقة و (بالراء) الراكب الذي يضرب رئتها، و (بالدال) الرافق بها، و (بالرسم) رسم المنزل، و (بالنقط) المطر.
ومثله قوله أيضاً:
إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا تخفى وإن كذب الخال
فناسب في الظاهر بين الجد الذي هو أب الأب، والعم الذي هو أخوه، والخال الذي هو أخو الأم، وليس ذلك مقصوده، بل أراد (بالجد) الحظ و (بالعم) الجماعة من الناس، و (بالخال) الظن. ولا يخفى أن هذا النوع من التورية، وسيأتي الكلام عليه في محله إنشاء الله تعالى.
واعلم أن الشاعر متى أدخل بين الألفاظ المناسبة لفظا غير مناسب عد نقصا وعيبا كما عيب على أبي نواس قوله:
قد حلفت يمينا ... مبرورة لا تكذب
برب زمزم والحو ... ض والصفا والمحصب
فإن ذكر الحوض هنا غير مناسب للمذكورات، وإنما يناسب الحشر والميزان والسراط.
وكذا يعاب على الشاعر إذا قرن بين لفظين غير متناسبين. كما حكى ابن جني أنه اجتمع الكميت مع نصيب، فأنشد الكميت (هل أنت عن طلب الإيفاع منقلب) .
حتى إذا بلغ إلى قوله:
أم هل ظعائن بالعلياء نافعة ... وإن تكامل فيها الدل والشنب
عقد نصيب بيده واحدا، فقال الكميت: ما هذا؟ فقال: أحصي خطأك تباعدت في قولك: الدل والشنب.
ألا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
وهذا مما يدلك على أن المحسنات البديعية كانت معتبرة عند العرب وأنهم يهتمون بها ويعدون خلافها خطأ وعيبا في الكلام.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
تجار لفظ إلى سوق القبول بها ... من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم
المناسبة فيه بين التجار والسوق، واللجة والجوهر.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
يروي حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومبتسم
قال رفيق الناظم - أبو جعفر - شارح هذه البديعية: العنعنة في البيت ب (عن) تناسب الرواية في الحديث، والندى والبشر فيهما مناسبة الكرم. انتهى.
قال ابن حجة: هذا لعمري جهد من لا جهد له، وإلا فهذا البيت ما رأيت له وجها تظهر به مراعاة النظير، ولا بينه وبين النسبة البديعية نسب ثابت. انتهى.
وأنا أقول: إن المناسبة في البيت أظهر من أن تخفى، ولا أعلم كيف لم يبينها الشارح بأكثر مما ذكر. فإن بين الرواية والحديث وعن مناسبة - كما قال - وبين البشر والوجه والابتسام مناسبة أخرى ظاهرة لم ينبه عليها الشارح، ولم يرها ابن حجة، مع أن الأعمى إنما هو الناظم.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
(1/199)
________________________________________
وارع النظير من القوم الآلي سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم
المناسبة فيه ظاهرة وهي بين الشباب والطفل والهرم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ذكرت نظم اللآلي والحباب له ... راعى النظير بثغر منه منتظم
المناسبة بين نظم الآلي والحباب والثغر المنتظم، ومعنى البيت أنه ذكر الآلي والحباب لمحبوبه، فراعى النظير بثغر منه منتظم، كأنه تبسم عند ذكر ذلك له.
فكان يجب عطف قوله: راعى النظير (بالفاء) على قوله (ذكرت) كما قدرناه ليفهم المعنى ويصح التركيب، والوصل بين الجملتين بالعطف متعين في مثل هذا التركيب عند أرباب المعاني، وبسبب هذا الفصل خفي معنى البيت على بعض الأدباء، فأعرب الحباب مبتدأ، وجعل قوله: راعى النظير خبره وأعاد الضمير المستتر (في راعى) على الحباب، واستعار له الثغر، وهذا خبط منه سببه هذا الفصل القبيح والصواب ما ذكرناه أولا.
ولا أعجب إلا من إعجاب ابن حجة بهذا البيت حتى قال: إن مهجته ذابت لعدم الإطناب في مدحه، مع أن ما ذكره فيه فوق الإطناب والله أعلم.
والشيخ عبد القادر الطبري جمع بين هذا النوع والتخلص في بيت واحد فقال:
راعي النظير طوى نشر العلى عملا ... رام التخلص للمختار في الأمم
ليس في هذا البيت من مراعاة النظير شيء أصلا غير الاسم، وأما قوله: طوى نشر العلى فهو مطابقة لا مناسبة، وقد تقدم تقييدهم المناسبة في هذا النوع بكونها لا بالتضاد، احترازا من المطابة. وأما معنى البيت فعلمه عند ربه. وما أقبح هذا التخلص الذي أتى به، فإن الاقتضاب أحسن منه بكثير.
وبيت بديعيتي هو قولي:
وقد قصدت مراعاة النظير لهم ... من جلنار ومن ورد ومن عنم
المناسبة بين الجلنار والورد والعنم ظاهرة، لكن في تناسب هذه الثلاثة في اللون وهو الحمرة مناسبة معنوية أخرى، والعنم قال في القاموس: شجرة حجازية لها ثمرة حمراء يشبه بها البنان المخضوب.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
قلبي الكليم بموسى اليأس من خضر ... هود بإسحاقه عيسا خليلهم
مراعاة المناسبة في هذا البيت من النوع الثاني من مراعاة النظير، فإنه ناسب في الظاهر بين أسماء الأنبياء عليهم السلام، ومقصوده غيرها.
قال ناظمه في شرحه: معناه، قلبي الكليم، أي الجريح، بموسى اليأس هنا ضد الرجاء واستعار له موسى يجرح بها، وقوله: من خضر، صفة محبوبه. ثم قال: (هود بإسحاقه عيسا خليلهم) فعيسا: تثنية عيس وهي الإبل، والإسحاق: الإبعاد، وهاد: إذا رجع.
يقول: إن الإبل هود بإبعاده، أي راجعة بإبعاده. يقال: هادت الإبل تهود هودا، فهي هود، إذا رجعت. انتهى بنصه.
ولعمري لقد تكلف الشيخ في هذا البيت ما شاء، والسهولة والانسجام غير هذا.

التوجيه
رفعت حالي إليهم إذ خفضت وقد ... نصبت طرفي إلى توجيه رسلهم
التوجيه، قال ابن حجة: مصدر توجه إلى ناحية كذا، إذا استقبلها وسعى نحوها. انتهى.
وهو غلط واضح دل على عدم معرفته باللغة والصرف، وإنه كان فيهما راجلا جدا، إذ لا يخفى على أصغر الطلاب أن التوجيه مصدر وجهه إلى كذا توجيها، كما يقال: وجهت وجهي لله سبحانه. وقد يقال: وجهت إليك، بمعنى توجهت، لازما. وأما توجه، فمصدره التوجه، وهذا أمر قياسي ولا يحتاج فيه إلى سماع.
قال ابن مالك في الخلاصة:
وغير ذي ثلاثة مقيس ... مصدره كقدس التقديس
وزكه تزكية وأجملا ... إجمال من تجملا تجملا
قال ابنه في شرحها: إن كان الفعل على فعل فمصدره من الصحيح اللام، على تفعيل نحو قدس تقديسا، وعلم تعليما. ومن المعتل على تفعلة، نحو زكى تزكية، وغطى تغطية. وإن كان على تفعل فمصدره على تفعل، نحو تجمل تجملا، وتعلم تعلما، وتفهم تفهما. انتهى.
وابن حجة لم يتعلم ولم يتفهم، فجعل التوجيه مصدر توجه، قولا بغير علم.
وأما التوجيه في اصطلاح البديعيين فهو عند جماعة كالسكاكي، والخطيب والطيبي اسم لمسمى الإبهام المتقدم ذكره، وهو إيراد الكلام محتملا لمعنيين متضادين لا يتميز حدهما عن الآخر، كالمديح والهجاء وغيرهما، والإبهام عند هؤلاء: اسم مرادف للتورية لا لهذا المعنى.
(1/200)
________________________________________
وجاء جماعة من المتأخرين فجعلوا الإبهام اسما لإيراد الكلام محتملا لمعنيين متضادين، لأنهم رأوا أن هذا الاسم أليق بهذا المسمى من التوجيه وقد مر الكلام على الإبهام بهذا المعنى مستوفى في محله مع ذكر شواهده. وجعلوا التوجيه عبارة عن أن يؤلف المتكلم مفردات بعض كلامه أو جمله، ويوجهها إلى أسماء متلائمة من أسماء الأعلام، أو قواعد العلوم، أو غيرها توجيها مطابقا لمعنى اللفظ الثاني من غير اشتراك حقيقي بخلاف التورية. وبهذا يظهر الفرق بينه وبين التورية خلافا لمن أدخله فيها. وسيأتي مزيد بيان للفرق بينهما في أواخر هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وهذا الحد للتوجيه هو مذهب الشيخ صفي الدين الحلي، وعليه نشج بيت بديعيته، وهي نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن، وعلى منواله نسج ابن حجة بديعيته، وكذا الشيخ عبد القادر الطبري، والعلوي، وهو الطريق الذي سلكته أنا أيضاً في بيت بديعيتي كما سيأتي فمن التوجيه بأسماء الأعلام قول الشيخ علاء الدين الوداعي وأجاد ما شاء:
من أم بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن
الشيخ علاء الدين أحرز قصبات السبق في مضمار هذا النوع بهذين البيتين، وأبدى بهذا التوجيه وجوها أسفرت عن محاسن هي شنوف للسمع وقرة للعين، وبمثل طيب هذه الآثار فليتمسك الأديب، وبنحو هذه الرواية فليتوثق الأريب، ولا غرو أن صدرناهما على سائر الشواهد في هذا الباب، فاستحقاقهما للتصدير معترف به عند أولي الألباب.
وما أحسن مناسبته بين القرة والعين، والصلة والكف، والجبر والقلب والسمع والحسن.
أما قرة فقال ابن حجة: هو قرة بن خالد السدوسي. وليس بمتعين لأنه اسم لجماعة من الرواة منهم قرة بن أياس أبو معاوية المزني، له صحبة عنه ابنه، ومنهم قرة بن موسى الهجيمي، وعنه قرة بن خالد، ومنهم قرة بن بشر الكلبي، عن أبي برده، وعنه أخوه إسماعيل بن أبي خالد.
وأما صلة، فقال بن حجة: هو صلة بن أشيم العدوي، كان من كبار التابعين، والأولى أن يكون صلة بن زفر العبسي لأنه أشهر من ذاك وقد روى عن علي عليه السلام وعبد الله وعمار.
وأما جابر فهو اسم لجماعة كثيرين من الرواة أعظمهم جابر بن عبد الله صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وأما الحسن فقال ابن حجة: هو الحسن البصري، وليس بمتعين أيضاً لكثرة الرواة المسمين بهذا الاسم، ومنهم صحابيون، فتخصيصه بالحسن البصري لا وجه له.
والوادعي المذكور صاحب البيتين هو الشيخ علي بن المظفر بن إبراهيم الكندي الإسكندراني.
وعلى ذكره، فقد اتفقت لي نكتة لطيفة لا بأس بذكرها هنا استطرادا وهي: أني كنت في بعض الأيام في مجلس مع بعض الأصحاب، فتجاذبنا أهداب الصحبة والحديث من قديم وحديث، فكان في جملة ما حدثني به أن قال: أني دخلت شيراز في أيام الشبيبة مع رفقة لي فرأينا في بعض مساجدها أيام مولد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شيخا كبيرا من أهل العجم أناف سنه على التسعين، وجف من ماء عمره العذب المعين، وهو يقرأ في المولد، فبينا نحن جلوس إذ وضع عمامته عن رأسه فبدت له ذؤابة بيضاء تنوس عذبتها. قال: فاستغربنا في الضحك من ذلك، إذ لم نعهد الذؤابة في بلادنا إلا للصبيان، فضحكت أنا من هذه الحكاية، واستطرفت هذه الرواية.
فلم يمض على ذلك يوم أو يومان حتى وقفت في الدرر الكامنة - تاريخ أهل المائة الثامنة - للحافظ بن حجر العسقلاني، على ترجمة الشيخ علاء الدين الوداعي المذكور، وقال فيها: وكانت له ذؤابة بيضاء إلى أن مات، وفيها يقول:
يا عائبا مني بقاء ذؤابتي ... مهلا فقد أفرطت في تعييبها
قد واصلتني في زمان شبيبتي ... فعلام أقطعها أوان مشيبها
فتعجبت في نفسي من هذا الاتفاق، وقلت: إن هذين البيتين قاما لذلك الرجل العجمي مقام العذر، وكان له أسوة في إبقاء ذؤابته بالشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى.
قال ابن حجة: كانت وفاة الشيخ علاء الدين المذكور في رجب سنة ست عشرة وسبعمائة.
قال: وكان شديدا في مذهب التشيع رحمه الله تعالى. انتهى.
رجع. ومن التوجيه بأسماء الأعلام أيضاً قول ابن النقيب يهجو:
أرح ناظري من عابس الوجه يابس ... له خلق صعب ووجه مقطب
(1/201)
________________________________________
أقول له إذ آيستني صفاته ... وإن قيل أني في المطابع أشعب
متى يظفر الآتي إليك بسؤله ... وينجح من مسعاه قصد ومطلب
ولومك سيارٌ وشرك ياسر ... ووجهك عباس وخلقك مصعب
وقول محي الدين بن عبد الظاهر يصف نهرا:
إذا فاخرته الريح ولت عليلة ... بأذيال كثبان الربى تتعثر
به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به الروض يحيى وهو لا شك جعفر
ومثله قول بعضهم:
بخالد الأشواق يحيى الدجى ... يعرف هذا العاشق الوامق
خذوا حديث الوجد عن جعفر ... من دمع عيني إنه الصادق
وقلت أنا في التوجيه بأسماء الرواة:
صح عن جوده حديث العطايا ... مستفيضا ما بين باد وقار
كم رجاء فيه روى عن وفاء ... عن عطاء عن واصل عن يسار
فرجاء اسم لعدة من الرواة. ووفاء، هو وفاء بن شريح المصري، رو عن رويفع بن ثابت وغيره، وعنه بكر بن سوادة، وزياد بن نعيم. وعطاء اسم لاثنين وعشرين راويا، منهم جلة أعلام كعطاء بن أبي رباح، وابن السائب الثقفي الكوفي، وعطاء بن يسار، كان من كبار التابعين. وواصل، اسم جماعة من الرواة أيضاً، منهم واصل بن حيان الأسدي، وابن السائب الرقاشي وابن عبد الأعلى. ويسار جماعة، منهم يسار بن زيد مولى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، روى عن أبيه وعنه ابنه بلال، ويسار أبو نجيح روى عن ابن عباس وابن عمر.
فهذه خمسة من أسماء الرواة وقع بها التوجيه مع تمام المناسبة بينها وبين المعنى المقصود.
ومنه قول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي من قصيدة يمدح بها الوالد:
كم للزمان ولا أخشى بوائقه ... من ضنةٍ ولعين الملك من جود
عف الشبيبة ميمون النقية منصور الكتيبة مأمون المواعيد
ومما علق بخاطري من هذه القصيدة قوله:
أخلاق أحمد في تقوى أبي حسن ... وحسن يوسف في ملك ابن داود
لا يحسن الشعر غلا في مدائحه ... كالدر أحسن ما يبدو على الجيد
ومن التوجيه بأسماء القبائل قول زين الدين بن الوردي وأجاد:
هويت أعرابية ريقها ... عذب ولي فيه عذاب مذاب
رأسي بنو شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب
ومن التوجيه بأسماء الرجال أيضاً قول بعضهم في الخمر:
تخبر عن نافع فإن قرأت ... لابن كثير روت لعباس
فهي لنا شمسة الزمان فما ... تكسف إلا بعقدة الرأس
وقول بعضهم:
سهري من المحبوب أصبح مرسلا ... وأراه متصلا بفيض مدامعي
قال ****** بأن ريقي نافع ... فاسمع رواية مالك عن نافع
وقول الوزير مؤيد الدين العلقمي رحمه الله تعالى:
ثراؤك موهوب وبرك كامل ... وحظك مسعود وفضلك منجح
وفعلك محمود ورأيك صالح ... ووجهك وضاح وسعيك مصلح
وطبعك مشكور وعرضك سالم ... وجدك منصور وراجيك مفلح
ومن التوجيه بأسماء الكتب أيضاً قول بعضهم:
وظبي معانيه معان بديعة ... له حار فكري إذ حوى كل معجز
قرأت مقامات الحريري كلها ... بعارضه مشروحة للمطرزي
وقول تقي الدين السروجي:
تفقهت في عشقي لمن قد هويته ... ولي فيه بالتحرير قول ومذهب
وللعين تنبيه به طال شرحه ... وللقلب منه صدق ود مهذب
وقول أمين الدين السليماني:
لو أنه الكشاف من لمع الهوى ... لرأى مفصل ذا الغرام ومجمله
أو لو رأى إيضاح نور جبينه ... جعل الوصال لعاشقيه تكمله
وقول بعضهم دوبيت:
الصب بحبكم عراه الوله ... في طوع هواكم عصى عذله
إيضاح غرامه غدا تكملة ... إذا صار مفصل الهوى مجمله
ومن التوجيه بأسماء سور القرآن قول السراج الوراق:
كل قلب علي كالصخر ملآ ... ن وهيهات أن تلين الصخور
مغلق الباب ما تلا سورة الفت ... ح وقاف من دونها والطور
وقول الشيخ علي بن ملك: ت
ألا يا بني الروم القتال فدونكم ... فأنا تدرعنا الحديد إلى الحشر
ولا زال آي الفتح تتلو رماحنا ... وأسيافنا تتلو بها سورة النصر
وقول الشيخ عبد الرحمن العباسي:
وزلزلة كادت تهد بعزمها ... أقاليم لا يبقى لها أبدا أثر
وواقعة قد صار منها تغابن ... على الروم لا تنفك أو يحصل الحشر
(1/202)
________________________________________
لقد سئموا وقع الحديد فلا يرى ... لهم همة نحو القتال ولا كر
فائدة - قال الحافظ السيوطي في الإتقان: التوجيه بالألفاظ القرآنية في الشعر وغيره جائز بلا شك.
وروينا عن الشريف تقي الدين الحسيني أنه لما نظم قوله:
مجاز حقيقتها فاعبروا ... ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له زخرف ... تراه إذا زلزلت لم يكن
خشي أن يكون ارتكب حراما باستعماله هذه الألفاظ القرآنية في الشعر فجاء إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد ليسأله عن ذلك، فأنشده إياهما فقال له: قل (فما حسن كهف له زخرف) ، فقال له: يا سيدي أفدتني وأفتيتني. انتهى.
ولابن جابر قصيدة في التوجيه بجميع أسماء السور مدح بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأولها:
في كل فاتحة للقول معتبره ... حق الثناء على المبعوث بالبقرة
وهي قصيدة طويلة ذكرها رفيقه في شرح بديعيته فلا حاجة بذكرها هنا، وعارضها جماعة فما شقوا لها غبارا.
وما أحسن قول الآخر:
لي عبرة في المرسلات ومهجة ... في النازعات ومقلة في هل أتى
ومثله قول محمد بن عيسى الخالدي:
في النازعات غدا من باب يعشقكم ... والعاديات عليه منكم الحدق
وبالحديد تلاقوه إذا انفطرت ... أكباده وهو بالإخلاص يحترق
والذاريات جفوني حشوها أرق ... والمرسلات على الخدين تستبق
وقول الآخر:
إذا ما غدا مثل الحديد فؤاده ... فو العصر إن العاشقين لفي خسر
ومن التوجيه بأسماء المذاهب قول بعضهم:
قلت وقد لج في معاتبتي ... وظن أن الملال من قبلي
خدك ذا الأشعري حنفني ... وكان من أحمد المذاهب لي
حسنك ما زال شافعي أبدا ... يا مالكي كيف صرت معتزلي
ذكرت ما وقفت عليه في بعض الكتب الأدبية: إن بعض المغفلين سأل بعض العلماء: إن الناس قد اختلفت مذاهبهم، فما مذهب الله تعالى؟ وما مذهب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وما مذهب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقال له: الله مالكي، والنبي شافعي، وعلي إمامي، فاستحسن منه هذا الجواب.
ومن التوجيه بقواعد العلوم قول القاضي شرف الدين المقدسي موجها بألفاظ من قواعد الفقه:
احجج إلى الزهر لتحظى به ... وارم جمار الهم مستنفرا
من لم يطف بالزهر في وقفة ... من قبل أن يحلق قد قصرا
وقول ابن جابر موجها بألقاب الحديث:
قالت أعندك من أهل الهوى خبر ... فقلت أني بذاك العلم معروف
مسلسل الدمع من عيني مرسله ... على مدبج ذاك الخد موقوف
وقلت أنا في ذلك وفيه نكتة لطيفة:
روى لنا المشط حديثا عجبا ... من فرعها الداجي كليل اليل
إذ أرسلته واردا مسلسلا ... فاعجب له من مرسل مسلسل
ومن التوجيه في علم النحو قول البوصيري في البردة:
خفضت كل مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
وقول أمين الدين علي السليماني:
أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر
وحاجبه نون الوقاية ما وفت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر
وقوله أيضاً:
نصبت على التمييز إنسان مقلتي ... أشاهد قدا منه نصبا على الظرف
أأخشى فراقا بعدها أو قساوة ... وقد جاء واو الصدغ للجمع والعطف
وقول ابن العفيف التلمساني:
ومستتر من سنا وجهه ... بشمس لها ذلك الصدغ في
كوى القلب مني بلام العذار ... فعرفني أنها لام كي
وما ألطف قول ابن الحنبلي:
ضممت إلى صدري فتاة صغيرة ... لها سحر أجفان خلون عن الذم
فمذ كسرت أجفانها قلت أنها ... على الفتح لم تقدر فمالي سوى الضم
ومن لطيف ما يحكى هنا: أنه كان بالعراق عاملان أحدهما اسمه عمر والآخر اسمه أحمد، وكان عمر عادلا في حكومته، لكنه فقير، وكان لأحمد مال ينفقه على من يسعى له في الولاية. فعزل عمر عن ولايته، واستقر أحمد مكانه بسبب المال.
فقال بعض الشعراء في ذلك:
أيا عمر استعد لغير هذا ... فأحمد بالولاية مطمئن
فإن تك فيك معرفة وعدل ... فأحمد فيه معرفة ووزن
ونحو ذلك قول كمال الدين الشرفي في قاض عزل اسمه أحمد الرازي:
(1/203)
________________________________________
يا أحمد الرازي قم صاغرا ... عزلت عن أحكامك المسرفه
ما فيك إلا الوزن والوزن لا ... يمنعك الصرف بلا معرفه
ومثله قول ابن عنين فيمن عزل عن وظيفته وكانت سيرته غير مشكورة:
شكى ابن المؤيد من عزله ... وذم الزمان وأبدى السفه
فقلت له لا تذم الزمان ... فتظلم أيامه المنصفه
ولا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفة
وقال الغزي:
غيري له المجد والأيام تقسم بي ... وهي الجديرة بالضيزى من القسم
أظنها أقسمت باسمي لتخفضني ... ولم يكن غير فضلي أحرف القسم
ومن أحسن ما يقع في هذا الباب ما وافقت ألفاظه صفاتها، كأن يكون الموصوف بأسماء أدوات الإعراب لفظة معربة بها.
قال الصلاح الصفدي: لم أر من استعمل هذا المعنى وأتى به كاملا غير الشهاب التلعفري في قوله:
وإذا الثنية أشرقت وشممت من ... أرجائها أرجا كنشر عبير
سل هضبها المنصوب أين حد ... يثها المرفوع عن ذيل الصبا المجرور
فانظر كيف نصب الهضب، ورفع الحديث، وجر ذيل الصبا. وهذا في غاية الحسن مع كمال الانسجام وعدم التكلف في التركيب.
وقد نظم هذا المعنى التلعفري أيضاً فقصر عن هذه الغاية في قوله:
قل للصبا سرا فإن لها شذى ... يضحى لما يفضي إليه مذيعا
يا ذيلها المجرور عن هضب الحمى ال ... منصوب هات حديثها المرفوعا
قلت: وقد شن الغارة الشيخ صفي الدين الحلي على الشهاب التلعفري حيث قال في رياض الميطور بدمشق:
إن جزت بالميطور مبتهجا به ... ونظرت ناضر دوحه الممطور
وأراك بالآصال خفق هوائه ال ... ممدود تحريك الهوى المقصور
سل بأنه المنصوب أين حديثه ال ... مرفوع عن ذيل الصبا المجرور
والشهاب التلعفري أقدم أم الصفي الحلي، لأن التلعفري توفي قبل أن يولد الصفي بسنتين.
وممن نظم هذا المعنى وقصر فيه ابن حجة حيث يقول:
رفعتم قبابا نصب عيني ونحوها ... تجر ذيول الشوق والقلب يجزم
فيا عرب الوادي المنيع جنابه ... وأعني به قليب الذي فيه خيموا
فائدة: - التلعفري نسبة إلى تلعفر - بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد اللام، وسكون العين المهملة، وبعدها راء مهملة - قرية من أعمال الشام، ويعرف بهذه النسبة شاعران.
أحدهما أبو الحسن علي بن أحمد التلعفري، كان شاعرا مطبوعا مقتدرا، من أقران أبي الفرج الببغاء وأبي عثمان الخالدي، ونحوهما من مذكوري الشعراء.
ومن شعره ما أنشده له الثعالبي في يتيمة الدهر:
يا راكب العيس قف وعرج ... واقرأ سلامي على بني طي
وقل لهم ظبيكم جفاني ... لما رآني وما معي شي
وأنشد له من قصيدة:
من ذا يدل على الرقاد جفوني ... قد ضاع بين صبابتي وشجوني
أما النجوم فقد ألفن رعايتي ... والعائدات فقد مللن أنيني
وللسلامي فيه هجاء كثير، وسبب ذلك: أن السلامي لما خرج من مدينة السلام ورد الموصل وهو صبي حين راهق. فوجد بها أبا عثمان الخالدي، وأبا الحسين التلعفري المذكور، وأبا الفرج الببغاء، وغيرهم من شيوخ الشعر فلما رأوه عجبوا منه واتهموه بأن الشعر ليس له.
فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره، فاتخذ دعوة جمع الشعراء فيها، وحصل السلامي معهم، فلما توسطوا الشراب، أخذوا في ملاحاته والتفتيش عن قدر بضاعته، فلم يلبثوا أن جاء مطر شديد، وبرد ستر الأرض كثرة، فألقى أبو عثمان نارنجا كان بين أيديهم على ذلك البرد وقال: ي أصحابنا هل لكم في أن نصف هذا؟ فقال السلامي ارتجالا:
لله در الخالدي الأوحد الندب الخطير
أهدى لماء المزن عن ... د جموده نار السعير
حتى إذا صدر العتا ... ب إليه عن حنق الصدور
بعثت إليه بعذره ... مع خاطري أيدي السرور
لا تعذلوه فإنه ... أهدى الخدود إلى الثعور
فلما رأوا ذلك أمسكوا عنه وأخذوا يصفونه بالفضل، ويعترفون له بالحذق إلا التلعفري فإنه أقام على قوله الأول، حتى قال فيه السلامي:
يا شاعرا بسقوطه لم يشعر ... ما كنت أول طامع لم يظفر
لو كنت تعرف والدا تسمو به ... لم تنتسب ضعة إلى تلعفر
تاه ابن نابغة الفوق على الورى ... بقذال صفعان ونكهة أبخر
(1/204)
________________________________________
وبلادة في الشعر تشهد أنه ... تيس ولو نصرت بطبع البحتري
يحلو بأفواه الأنامل صفعه ... حتى كأن قذاله من سكر
وقال فيه أيضاً:
سما التلعفري إلى وصالي ... ونفس الكلب تكبر عن وصاله
ينافي خلقه خلقي فتأبى ... فعالي أن تضاف إلى فعاله
فصنعتي النفيسة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله
فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله
ولم أقف على تاريخ ولادة التلعفري المذكور ولا وفاته، إلا أنه من أهل المائة الرابعة.
والشاعر الثاني، هو شهاب الدين محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني التلعفري، الأديب البارع المشهور ولد بالموصل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، واشتغل بالأدب، ومدح الملوك والأعيان، وكان خليعا ممتحنا بالقمار، وكلما أعطاه الملك الأشرف شيئا قامر به، فطرده إلى حلب فمدح العزيز فأحسن إليه، وقرر له رسوما، فسلك ذلك المسلك في القمار، فنودي في حلب من قامر الشهاب التلعفري قطعت يده، فضاقت عليه الأرض، فارتحل من حلب إلى دمشق، ولم يزل يستجدي ويقامر حتى بقي في أتون حمام، وفي الآخر نادم صاحب حماة، وله ديوان شعر مشهور.
ومن شعره قوله:
أقلعت إلا عن العقار ... وتبت إلا عن القمار
فالكأس والزهر ليس يخلو ... منه يميني ولا يساري
ومن رقيق شعره قوله أيضاً:
ألا يا صاحبي هذا المصلى ... وتلك ملاعب الظبي الرخيم
فحي وقل سلاما من سليم ... بذي سلم على الرشأ السليم
وسل غزلان وادي بان سلع ... إذا سنحت عن العهد القديم
وعرض بي فما لي من جنان ... يلاقي بي ظبا ذاك الصريم
وفي تلك الخيام هلال خدر ... غرامي في محبته غريمي
روى عن خصره جسمي وأدى ... صحيحا مسند الخبر السقيم
يخاف قضيب قامته انهصارا ... فلم يبرح يميل مع النسيم
وقوله أيضاً:
يا خليلي وللخليل حقوق ... واجبات الأداء في كل حاله
سل عقيق الحمى وقل إذ تراه ... خاليا من ظبائه المختاله
أين تلك المراشف العسليا ... ت وتلك المعاطف العسالة
وليال قضيتها كلآل ... مع غزال تغار منه الغزاله
بابلي اللحاظ والريق والأل ... فاظ كل مدامة سلساله
وسقيم الجفون والخصر والعه ... د فكل تراه يشكو اعتلاله
ونقي الجبين والخد والثغ ... ر فطوبى لمن حسا جرياله
طويل الصدود والشعر والمط ... ل ومن لي بأن يديم مطاله
وقوله أيضاً:
لم أزل مكثرا عليه السؤالا ... وجوابي ما عنده لي سوى لا
كلما رمت رشف معسول فيه ... هز لي من قوامه عسالا
وتثنى عجبا وماس دلالا ... وانثنى معرضا وصال وقالا
كان عهدي بالخمر وهي حرام ... فبماذا صارت لديك حلالا
ما كأني في الحب إلا فقيه ... جئته ابتغي لديه الجدالا
أنا قصدي تقبيله أرشادا ... كان رشفي رضابه أم ضلالا
هازئا بالغصون عطفا وبالكث ... بان ردفا وبالرماح اعتدالا
وبضوء الصباح ثغرا وبالظل ... ماء شعرا وبالبدور جمالا
ما شجاني فقدي لحبة قلبي ... عندما صاغها لخديه خالا
ما ألطف هذا المعنى وأحلاه، وله كل مقطوع لطيف، ومعنى طريف.
وكانت وفاته سنة خمس وسبعين وستمائة. وإنما آثرت إيراد هذه الفائدة هنا لأنه كان وقع في بعض المجالس ذكر الشهاب التلعفري المذكور، فلم يعرف له أحد من الحاضرين ترجمة، ولا فرقوا بينه وبين أبي الحسين التلعفري المقدم ذكره، فأحببت التنبيه على ذلك هنا عندما عن ذكر الشهاب التلعفري، والاستشهاد بشيء من شعره في التوجيه. ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أمثلة التوجيه بقواعد النحو.
فمنه قول ابن أبي الإصبع:
أيا قمرا من حسن وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل
جعلتك للتمييز نصبا لناظري ... فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل
ويحكى أنه دخل رجل مجلس كافور الأخشيدي، ودعا له وقال في دعائه: أدام الله أيام مولانا - بكسر الميم - فتحدث جماعة من الحاضرين في ذلك وعابوا عليه.
فقام أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي اللغوي كاتب كافور وأنشد مرتجلا:
(1/205)
________________________________________
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... أو غص من دهش بالريق أو بهر
فتلك هيبته حالت جلالته ... بين الأديب وبين القول بالحصر
وإن يكن خفض الأيام من غلط ... في موضع النصب لا عن قلة النظر
فقد تفاءلت من هذا لسيدنا ... فالفال مأثورة عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صفو بلا كدر
وما أحسن قول الآخر:
كأن النوى إذا نادت الدمع رخمت ... ولا أثر فيها أجاب على العين
جعل استلزام النوى للبكاء نداء منها للدمع، ولما كان يبكي دما قال: كأن النوى قالت للدمع - على ترخيم المنادي - يا دم.
وقال ابن عنين في الهجاء:
مال ابن ماذة دونه لعفاته ... خرط القتاد أو مناط الفرقد
مال لزوم الجمع منع صرفه ... في راحة مثل المنادى المفرد
وقد تقدم في نوع الاقتباس جملة مقنعة من هذا النوع، فلنكتف منه هنا بهذا المقدار.
ومن التوجيه في النحو والعروض قول بعضهم يهجو:
لا تنكروا ما ادعى الأديب فلا ... ن من الشعر أنه قادر
يقصر ممدوده ويرفعه ... في الجر نصب الغرمول في الآخر
يريك وهو البسيط دائرة ... تجمع بين الطويل والوافر
ومن التوجيه في العروض قول الشيخ جلال الدين بن الصفار:
لتعليق قلبي في رسوم خيالكم ... مثال له نثر الدموع رسائل
بكائي سريع والجوى متواتر ... وحزني طويل والأسى منه كامل
وبحر دموعي وافر في مد يده ... سفائنه الأجفان والخد ساحل
وقول الشاعر عبد علي بن رحمة الحويزي رحمه الله:
قلت لمن قد جفا فأضحى ... جسمي من هجره عليلا
قصرت مني طويل حب ... والقصر لا يلحق الطويلا
وقوله:
يقول لي الألى جهلوا مكاني ... ببحر وافر ماذا تقول
فقلت لهم كشأنكم وشأني ... مفاعيلن مفاعيلن فعول
ومن التوجيه في علم المعاني قول ابن رحمة المذكور أيضاً:
إن كان قاطعني ****** مواصلا ... لطريق زناء مباح الأسفل
فصناعة الفصحاء قادته إلى ... ترك الحقيقة للمجاز المرسل
وقوله:
أتظن تنكير اللئيم محقرا ... لك إن كساك الفضل ثوب عظيم
لا تخش من تنكيره فبمثل ذا ... يتعين التنكير للتعظيم
ومن التوجيه في علم البديع قول الشيخ شرف الدين العصامي:
رأى سقم الكتاب فمال عنه ... سقيم الجفن ذو حسن بديع
فقلت له فدتك النفس هلا ... مراعاة النظير من البديع
وقول الشيخ عبد علي بن رحمة:
أبدى ضروب بديع طرفه فله ... في فتية العشق تصريع وتشطير
وقلت أنا في ذلك وفيه من الرشاقة ما لا يخفى:
ليس احمرار لحاظه من علة ... لكن دم القتلى على الأسياف
قالوا تشابه طرفه وبنانه ... ومن البديع تشابه الأطراف
ومن التوجيه في علم المنطق قول ابن رحمة رحمه الله تعالى:
أوجبت للقلب الجوى وسلبته ... صبرا يدافع سورة الإلهاب
فنتجن أشكال السرور سوالبا ... لقضيتين السلب وافيجاب
وقوله:
وممتنع على المعروف أضحى ... من الإمكان حيرة كل عارف
يفيد ضرورة الطرف الموالي ... ويسلبها عن الطرف المخالف
وقوله:
تجيء بزور القول ثم تلومني ... عليه وهذا مطلب غير معقول
وترجوا احتمالي ما وضعت علي من ... حديثك والموضوع ليس بمحمول
وقوله:
لم تصلني تصورات زماني ... لي بإيصال قدري الذاتي
ليتها حين لم تصب لي حدا ... عرفتني باللازم الرسمي
ومن التوجيه في علم النجوم قول الشهاب محمود في حراث:
عشقت حراثا مليحا غدا ... في يده المساس ما أجمله
كأنه الزهرة قدامه ال ... ثور يراعي مطلع السنبله
وقول ابن عروة الحلي:
وحاجب ليس فيه ... من المروة شعره
بصرفة يلتقيني ... وجبهة ثم زبره
وقول زكي الدين بن أبي الإصبع:
تنقلت من طرف لقلب مع النوى ... وهاتيك للبدر التمام منازل
(1/206)
________________________________________
ومنه ما يحكى أن شهاب الدين القوصي حضر عند الملك الأشرف وقد دخل إليه سعد الدين الحكيم، فقال الملك الأشرف: ما تقول في سعد الدين الحكيم؟ فقال: يا مولانا السلطان، إذا كان بين يديك فهو سعد الدين، على السماط: سعد بلع، وفي الخبا عن الضيوف: سعد الأخبية، وعند مرضى المسلمين: سعد الذابح. فضحك الملك الأشرف، واستحسن اتفاقه البديع.
ومنه قول بعضهم:
قد ذهب الناس فلا ناس ... وصار بعد الطمع الياس
وساس أمر الناس أدناهم ... وصار تحت الذنب الراس
وقد أورد بعض شراح البديعيات أمثلة في هذا النوع ليست منه قطعا، كقول أبي الفتح البستي:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب
ألم تر الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا برج نجم اللهو والطرب
فإن هذا ونحوه ليس من التوجيه في شيء، بل هو بنوع (_) أشبه، وفي بابه أدخل كما سنذكره هناك عند إفضاء النوبة إليه، مع مشيئة الله سبحانه.
ومن التوجيه في علم الهندسة قول ابن النبيه في صبي يشتغل بالهندسة:
وبي هندسي الشكل يسبيك لحظه ... وخال وخد بالعذار مطرز
ومذ خط بركار الجمال عذاره ... كقوس علمنا إنما الخال مركز
وقول بعضهم:
قد بينت فيه الطبيعة آية ... ببديع أعمال المهندس باهرة
عبثت بمبسمه فخطت فوقه ... بالمسك قوسا من محيط دائرة
ومن التوجيه في علم الكلام قول هبة الله بن سناء الملك:
ومن قال إن الخيزرانة قدها ... فقولوا له إياك أن يسمع القد
ولو أبصر النظام جوهر ثغرها ... لما شك فيه أنه الجوهر الفرد
وقول الشيخ عبد علي بن رحمة:
قلت هل تقسم لي ... جوهر ثغر أشتهيه
قال ثغري الجوهر الفر ... د ولا قسمة فيه
ومن التوجيه في علم الرمل قول البهاء زهير:
تعلمت علم الرمل لما هجرتم ... لعلي أرى شكلا يدل على الوصل
فقالوا طريق قلت يا رب للقا ... وقالوا اجتماع قلت يا رب للشمل
وقول ابن مطروح:
حلا ريقه والدر فيه منضد ... ومن ذا رأى في العذب درا منضدا
رأيت بخديه بياضا وحمرة ... فقلت له البشرى اجتماع تولدا
ومن التوجيه في الكتابة قول بعضهم:
غبار ذنوبي في الرقاع محقق ... بنسخ الكرام الكاتبين ذوي العدل
وتوقيع ريحاني رجائي لعفو من ... ينادي بثلث الليل يا واسع الفضل
وقول ابن عبد الظاهر وأجاد:
مفرد في جماله أن تبدى ... خجلت منه جملة الأقمار
كيف أرجو الوفاء منه وعامل ... ت غريما من لحظه ذا انكسار
ذو حواش تلوح من قلم الريحان في خده فجل الباري
فيه وجدي محقق وسلوي ... وكلام العذول مثل الغبار
فلساني في وصفه قلم الشع ... ر ورقي المكتوب بالطومار
وقول ابن جابر وقد ذكر الأقلام السبعة: ت
تعليق ردفك بالخصر الخفيف له ... ثلث الجمال وقد وفته أجفان
خد عليه رقاع الروض قد جعلت ... وفي حواشيه للصدغين ريحان
خط الشباب بطومار العذار له ... سطرا ففضاحه للناس فتان
محقق نسخ صبري عن هواه ومن ... توقيع مدمعي المنثور برهان
يا حسن ما قلم الأشعار خط على ... ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان
أقسمت بالمصحف السامي وأحرفه ... ما مر بالبال يوما عنك سلوان
وقول ابن الوردي:
فديت فقيرا في المرقعة التي ... على حسنه دلت وحسن طباعه
بخديه ريحان الحواشي محقق ... إلى الثلث والفضاح تحت رقاعه
وقول ابن مليك:
وورد خد قد زكا نثره ... عليه لما ضاع دار العذار
أقسم بالفضاح من عبرتي ... ريحانه ليس عليه غبار
وقوله:
والخد بان الورد فيه محققا ... والصدغ فيه مسلسلا ريحانه
وقول ابن القيسراني:
بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت فيه ولا تحاشي
فنسخة حسنه قرئت وصحت ... وها خط الكمال على الحواشي
(1/207)
________________________________________
ومنه قول القرشي الكاتب، وقد اختفى في بيته ثلث سنة - لما طلبه السلطان بسبب لوح البريد الذي نقشه لعز الدولة - فكتب إلى القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر - يسأله القيام ي أمره - رقعة أولها: يقبل الأرض وينهي أنه له ثلث سنة محقق مختف في حواشي البيت يخشى توقيعات الرقاع من صاحب الطومار، وسؤال الملوك نسخ هذا الأمر الفضاح بحيث لا يبقى عليه غبار، فإن المملوك وحق المصحف ما يحمل عود ريحان.
فأعجبه ذلك فلم يزل يتلطف له عند أكابر الدولة حتى خمدت قضيته وسكنت.
ونحو ذلك وهو من التوجيه في علم الطب، ما حكي أن بعض الأطباء كان في خدمة بعض الملوك في غزو، ولم يكن معه وقت النصرة كاتب ترسل فتقدم للطبيب أن يكتب إلى الوزير يعلمه بذلك فكتب: - أما بعد، فأنا كنا مع العدو في حلقه كدائرة البيمارستان، حتى لو رميت مبضعا لما وقع إلا على قيفال. فلم يكن إلا كنبضة أو نبضتين حتى لحق العدو بحران عظيم، فهلك الجميع بسعادتك يا معتدل المزاج.
ومثله وهو من التوجيه في علم الرياضي قول بعضهم حين احتضر: اللهم يا من يعلم قطر الدائرة ونهاية العدد والجذر الأصم، اقبضني إليك على زاوية قائمة واحشرني على خط مستقيم.
ومن التوجيه في علم الموسيقى قول ابن جابر الأندلسي:
يا أيها الحادي اسقني كأس السرى ... نحو ****** ومهجتي للساقي
حي العراق على النوى واحمل إلى ... أهل الحجاز رسائل العشاق
وقول البدر لؤلؤ الذهبي:
وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين تلازم وعناق
وحداتهم أخذت حجازا بعدما ... غنت وراء الركب في عشاق
وما أحسن ما قال بعده:
وتنبهت ذات الجناح بسحرة ... في الواديين فنبهت أشواقي
ورقاء قد أخذت فنون الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحاق
قامت على ساق تطارحني الهوى ... من دون صحبي في الهوى ورفاقي
أنى تباريني جوى وصبابة ... وكآبة وأسى وفيض مآقي
وأنا الذي أملي الهوى من خاطري ... وهي التي تملي من الأوراق
ومنه قول الشيخ عبد النافع بن عراق:
يا غائبين وقولي حين أذكرهم ... كم هكذا اغتدي في غربة وفراق
لو سار ركب بعشاق اللوى رملا ... نحو الحجاز لما ذاق النوى ابن عراق
وقال الشيخ العلامة جمال الدين العصامي من أبيات مادحا بها الشيخ عبد النافع المذكور وقد وصل إلى مكة المشرفة من الروم بمنصب خطابة الشافعية بمكة.
قال الشيخ جمال الدين: واتفق أن تلك السنة كانت مجدبة، فدعا واستسقى في أول خطبة خطبها، فغيمت السماء وأمطرت وهو يخطب، وحصل خصب عظيم، فكان يقال: الشيخ عبد النافع، عبد نافع، وهو:
ظرف الحجاز بمقدم ابن عراق ... من بعد ما قاسى نوى العشاق
فاليوم نيروز الحجاز وعيده ... إذ صام فيه وعيد ابن عراق
قال الشيخ جمال الدين: واتفق أن جاء القاضي حسين في موكبه إلى بيت الشيخ عبد النافع زائرا، فذيل الشيخ عبد النافع بيتي المذكورين بقوله - موجها أيضاً:
وله أتى الركب الحسيني زائرا ... سعيا على الآماق والأحداق
ومنه قول الشيخ شرف الدين يحيى بن الشيخ عبد الملك بن الشيخ جمال الدين العصامي المذكور، فيمن اسمه حسين - وقد قدم من مكة المشرفة إلى المدينة وبها الشيخ شرف الدين المذكور:
أقول لمعشر العشاق لما ... بدا ركب الحجاز وقر عيني
أمنتم من نوى المحبوب فاسمعوا ... له رملا وغنوا في حسيني
ولنكتف من أمثلة التوجيه بهذا المقدار، فقد طال الشرح حتى كاد يفضي إلى الإملال والإكثار.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
خلت الفضائل بين الناس ترفعني ... بالابتداء فكانت أحرف القسم
التوجيه في هذا البيت بألفاظ القواعد النحوية، ومقاصد المحاسن فيه محوية.
والشيخ شمس الدين بن جابر نظم هذا النوع على تفسير السكاكي والخطيب ومن وافقهما، وهم الأكثر، وهو إيراد الكلام محتملا لمعنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر، وهذا معنى الإبهام عند أكثر أرباب البديعيات.
وبيت بديعيته قوله:
ترى الغني لديهم والفقير وقد ... عادا سواء فلازم باب قصدهم
(1/208)
________________________________________
هذا البيت يحتمل المدح وهو الظاهر، فيكون المراد: أنهم يجودون على الفقير حتى يعود مساويا للغني، ويحتمل الذم، فيكون المراد: أنهم ينهبون الغني ويسلبونه غناه حتى يعود مساويا للفقير، غير أن قوله: فلازم باب قصدهم، يعين المعنى الأول، وهو إرادة المدح فيخرج عن نوع التوجيه الذي قصده. وابن حجة فاته إدراك المعنى الثاني، وهو إرادة الذم حتى قال: (وأما المعنى الآخر فما وجدت له قرينة صالحة تدلني عليه، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه) .
وبيت بديعية الشيخ عز الدين قوله يخاطب العذول:
نزهت طرفي وسمعي في محاسنه ... وعنك أن تقصد التوجيه في الكلم
هذا البيت لا أرى فيه للتوجيه وجها، لا على تفسير الشيخ صفي الدين ولا على تفسير السكاكي والخطيب. أما الأول - فظاهر إذ ليس في مفرداته ولا جمله توجيه إلى أسماء متلائمة من أسماء الأعلام، ولا قواعد العلوم ونحوها. وأما على الثاني - فلعدم احتماله معنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر. وقول ابن حجة: أن الكلمة التي اقتضت اشتراك المعنيين قوله: نزهت، فإنه قال: أنه نزه طرفه في محاسن محبوبه، وكأنه التفت إلى العذول وقال له: وعنك. إن أراد به بيان التوجيه، فليس بشيء، لأن هذا ليس بتوجيه قطعا، وإن أراد به بيان استعمال قوله (نزهت) في معنييه، فمسلم على أن قوله: (نزهت طرفي وسمعي في محاسنه) مأخوذ من استعمالهم التنزه في الخروج إلى البساتين والخضر والرياض، وقد نص صاحب القاموس على أن هذا الاستعمال غلط قبيح، وقال في الصحاح: قال ابن السكيت: ومما يضعه الناس في قولهم: خرجنا نتنزه، إذا خرجوا إلى البساتين، قال: وإنما التنزه: التباعد عن المياه والأرياف، ومنه قيل: فلان يتنزه عن الأقذار، وينزه نفسه عنها، أي يباعدها عنها. انتهى.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وأسود الخال في نعمان وجنته ... لي منذر منه بالتوجيه للعدم
التوجيه فيه بأسماء الأعلام هي: الأسود والنعمان والمنذر، والأسود أخو النعمان بن المنذر وكان من ملوك العرب.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
قاد الجنائب أغراء موجهة ... لا صرف فيها ولا نصب لمنجزم
التوجيه في هذا البيت بقواعد النحو وهي: الإغراء والصرف والنصب والجزم، ولكن انظر، ما معنى قوله: ولا نصب لمنجزم؟.
وبيت بديعيتي هو قولي:
رفعت حالي إليهم إذ خفضت وقد ... نصبت طرفي إلى توجيه رسلهم
التوجيه في هذا البيت بقواعد النحو أيضاً وهي: الرفع والحال والخفض والنصب.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
لا تطعني هند فالأنساب واحدة ... ونحن إن نفترق نرجع إلى حكم
الشيخ شرف الدين فارق الجماعة في هذا النوع فقال في شرح بديعيته (التوجيه كالتورية، وأكثر البديعيين يجعلها شيئا واحدا، وفرق الصفي الحلي وغيره بينهما بفروق لا تكاد تظهر، والظاهر أن التورية منها ما يحتاج إلى توجيه ألفاظ قبلها ترشح الكلام للتورية، ومنها ما لا يحتاج، فيكون هذا الاسم خاصا لما يحتاج كالنوع منها واسم التورية كالجنس لها. والترشيح ومعنى البيت على هذا: أن هندا طعنت في نسبه، وفخرت بقومها عليه (فأخبرها) أن نسبه ونسبها واحد وأنهما إن افترقا في الآباء القريبة فكلهم يرجعون إلى حكم من سعد العشيرة، ولكن لفظة حكم مشتركة، فذكر الطعن والنسب فيه يوجهها إلى اسم القبيلة، وذكر الافتراق يوجهها إلى الحكم الفاصل بين الخصومة) . هذا نصه، وعليه مؤاخذات من وجوه: أحدها - أن قوله: أكثر البديعيين يجعلهما شيئا واحدا ليس بصحيح، بل الأكثر على أن كلا منهما غير الآخر كما يشهد به استقراء كتبهم.
(1/209)
________________________________________
الثاني - أن قوله: فرق بينهما الصفي وغيره بفروق لا تكاد تظهر، غير مسلم، بل الفرق مثل الصبح ظاهر. أما على مذهب السكاكي ومن وافقه، من أن التوجيه هو إيراد الكلام محتملا لمعنيين مختلفين، فالفرق بينه وبين التورية: أن التوجيه يلتزم فيه أن يكون المعنيان متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر، بخلاف التورية فإنه يلتزم فيها تضاد المعنيين، ولا عدم تمييز أحدهما عن الآخر كما سيأتي في بابها. وأما على مذهب الشيخ صفي الدين من أنه - أعني التوجيه - تأليف المتكلم مفردات بعض كلامه وجمله وتوجيهها إلى أسماء متلائمة من أسماء الأعلام، أو قواعد علوم، أو غيرها، فالفرق بينه وبين التورية من وجهين: أحدهما أن التورية تكون باللفظ المشترك، والتوجيه باللفظ المصطلح. والثاني أن التورية تكون باللفظ الواحد، والتوجيه لا يصح إلا بعدة ألفاظ متلائمة. فظهر الفرق بينهما، ودعوى عدم ظهوره تعنت.
الثالث - أن تخصيصه التوجيه بما يحتاج إلى ألفاظ قبلها ترشح الكلام للتورية هو بعينه التورية المرشحة، ولا يؤثر عن أحد تسميتها بالتوجيه فهو اصطلاح جديد، إذا اختاره لنفسه فلا مشاحة في الإصلاح.

التمثيل
طربت في البعد من تمثيل قربهم والمرء قد تزدهيه لذة الحلم
التمثيل - قالوا هو تشبيه حال بحال على سبيل الكناية، وذلك أن تقصد الإشارة إلى معنى فتوضع ألفاظ على معنى آخر، ويكون ذلك المعنى لا تكون لو ذكر بلفظ الخاص، وذلك لما يحصل للسامع من زيادة التصور. لأنه إذا صور في نفسه مثال ما خوطب به كان أسرع إلى الرغبة عنه، والرغبة فيه.
ومثاله قوله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) فإنه مثل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله لحم الأخ، ثم لم يقتصر عليه حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو في غاية الكراهية موصولا بأخيه، ففيه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة المعنى الذي وردت لأجله.
أما تمثيل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جدا، لأن الاغتياب إنما هو ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم. وأما قوله (لحم أخيه) فلما في الاغتياب من الكراهية لأن العقل والشرع قد أجمعا على استكراهه، وأمرا بتركه، والبعد عنه. وأما قوله (ميتا) فلأجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحس بها.
ومن أمثلته في السنة الشريفة قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لرجل رآه ينهك نفسه في العبادة (إن هذا الدين لمتين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) .
فمثل عليه السلام حال من يعسف نفسه فينهك جسمه في العبادة بحال المنبت، وهو الرجل المنقطع عن أصحابه، فيعسف راحلته في السير في لحاقهم فتعيا راحلته ولا يبلغ رفقته. وأخرج التمثيل مخرج المثل السائر، وهو من أحسن أنواعه.
ومنها أيضاً قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث أم زرع حكاية عن المرأة الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا برد ولا وخامة ولا سآمة. فإنها أرادت وصفه بحسن العشرة مع نسائه، فعدلت عن لفظ المعنى الموضوع له إلى لفظ التمثيل لما فيه من الزيادة، وذلك تمثيلها الممدوح بليل تهامة (الذي) وصفته بأنه معتدل، فتضمن ذلك وصف الممدوح باعتدال المزاج المستلزم حسن الخلق وكمال العقل، اللذين ينتجان لين الجانب وطيب المعاشرة. وخصت الليل بالذكر لما فيه من راحة الحيوان - وخصوصا الإنسان - لأنه يستريح من الكد والتعب اللذين يحصلان بالتردد في النهار لكون الليل جعل سكنا، والسكن: ما يسكن إليه، لاسيما وقد جعلته ليلا معتدلا بين الحر والبرد، والطول والقصر. فهذه صفة ليل تهامة، لأن الليل يبرد بالنسبة إلى النهار مطلقا، لغيبوبة الشمس وخلوص الهواء من اكتساب الحر، فيكون في البلاد الباردة شديد البرد وفي البلاد الحارة معتدل البرد مستطابه، فلهذا قالت: زوجي مثل ليل تهامة، وحذفت أداة التمثيل لتقرب المشبه به، وهذا مما يبين لك لفظ التمثيل في كونه لا يجيء إلا مقدرا بمثل غالبا.
(1/210)
________________________________________
ومن أمثلته أيضاً في هذا الحديث - أعني حديث أم زرع - قوله عليه السلام حكاية عن المرأة الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعث لا سهل فيرقى، ولا سمين فينتقى. فإنها أرادت وصفه بقلة الخير مع تعذر الوصول إليه لسوء أخلاقه، فمثلته بلحم الجمل المهزول الذي وضع على رأس جبل وعر لا يرتقى إليه، ودلت على هزال اللحم الممثل به بعدم إمكان استخراج نقيه - وهو المخ - لقلته، وهو دليل الهزال. فتضمن ذلك وصفه بقلة خيره وشكاسة أخلاقه التي لا ينال معها شيء من خيره على قلته.
قلت: ولعل الواقف على هذا المقدار من حديث أم زرع يتشوق إلى الاطلاع على سائر الحديث، فلا بأس بذكر جميعه تتميما للفائدة وتعميما للعائدة.
أخرج البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو عبيدة، والهيثم بن عدي، والحارث بن أبي أسامة، والإسماعيلي، وابن السكيت، والأنباري، وأبو يعلى، والزبير بن بكار، والطبراني، وغيرهم، واللفظ لمجموعهم (والمحدثون يعبرون عن هذا بقولهم: دخل حديث بعضهم في بعض) .
عن عائشة قالت: جلس إحدى عشرة امرأة من أهل اليمن، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا.
قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعث، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى.
قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذكره أذكر عجره وبجره.
قالت الثالثة: زوجي العشنق، إن انطق أطلق وإن أسكت أعلق على حد السنان المذلق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا وخامة ولا سآمة والغيث غيث غمامة.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد، ولا يدفع اليوم لغد.
قالت السادسة: زوجي إن أكل اقتف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، وإن ذبح اغتث، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قالت السابعة: زوجي عياياء، أو غياياء، طباقاء، كل داء له داء، شجك، أو بجك، أو فلك، أو جمع كلا لك.
قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، وأنا أغلبه، والناس تغلب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد، لا يشبع ليلة يضاف، ولا يرقد ليلة يخاف.
قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك وهو أمام القوم في المهالك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع وما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت نفسي إلي. وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل واطيط، ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح، وآكل فأتمنح.
أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟ عكومها رادح، وبيتها فساح.
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، وتشبعه ذراع الجفرة، وترويه فيقة اليعرة، ويميس في حلق النثرة.
بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها، وزين أهلها ونسائها، وملء كسائها، وصفر ردائها، وغيظ جارتها، قباء هضيمة الحشا، جائلة الوشاح، عكناء فعماء، نجلاء دعجاء، رجاء زجاء قنواء، مؤنقة مفنقة، برود الظل، وفي الإل، كريمة الخل.
جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟ لا تبثث حديثنا تبثيثا، ولا تنقث ميرتنا تنقيثا، ولا تغثث طعامنا تغثيثا.
ضيف أبي زرع فما ضيف أبي زرع؟ في شبع وري ورتع.
طهاة أبي زرع فما طهاة أبي زرع؟ لا تقتر ولا تعرى، تقدح وتنصب أخرى، فتلحق الأخرى بالأولى.
مال أبي زرع فما مال أبي زرع؟ على الجمم معكوس، وعلى العفاة محبوس.
قالت: خرج أبو زرع من عندي والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها، كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فنكحها فأعجبته فلم تزل به حتى طلقني، فاستبدلت - وكل بدل أعور - فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا، وأخذ خطيا؛ وأراح علي نعما ثريا؛ وأعطاني من كل رائحة زوجا، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك.
قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
قالت عائشة: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع، إلا أنه طلقها وأني لا أطلقك. فقالت عائشة: بأبي أنت وأمي، لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع.
تفسير الغريب من هذا الحديث وضبط ألفاظه:
(1/211)
________________________________________
قول الأولى (غث) بفتح الغين وتشديد الثاء المثلثة، أي مهزول. و (وعث) بفتح الواو وسكون العين والثاء المثلثة، أي صعب المرتقى، ويروى (وعر) وهما بمعنى واحد. و (ينتقى) بالبناء للمفعول من النقي - بفتح النون وسكون القاف وبعدها ياء تحتية - وهو مخ العظم، يقال: نقوت العظم ونقيته وانتقيته: إذا استخرجت نقيه، وفي رواية (فينتقل) باللام في آخره، أي ينقله الناس إلى بيوتهم فيأكلونه.
وقول الثانية (لا أبث) بالثاء المثلثة، أي لا أنشر خبره لقبح آثاره.
وقولها: إني أخاف أن لا أذره (أن) بفتح الهمزة وتخفيف النون: مصدرية و (أذره) ب الذال المعجمة والراء المهملة، فعل مضارع منصوب بأن بمعنى أتركه، والضمير راجع إلى الخبر في قولها (لا أبث خبره) أو إلى زوجها على التفسيرين كما سيأتي. ولم يستعملوا من مادة (وذر) بمعنى الترك إلا فعل الأمر والمضارع يقال: ذره بمعنى اتركه، ويذره بمعنى يتركه وإن كان أصله وذره يذره، كوسعه يسعه، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره ولا باسم الفاعل، وقيل: جاء وذرته شاذا. ومعنى قولها: إني أخاف أن لا أذره: أني أخاف أن لا أترك وصفه، ولا أقطعه من طوله. وقيل معناه: أني أخاف أن لا أقدر على تركه وفراقه، لأن أولادي منه، وللأسباب التي بيني وبينه.
قولها: أن أذكره أذكر عجره وبجره (العجر) بضم العين المهملة وفتح الجيم وبعدها راء مهملة جمع عجرة - كركب جمع ركبة - وهي العروق المنعقدة في الظهر و (البجر) بضم الباء الموحدة وفتح الجيم وبعدها راء مهملة، جمع بجرة، وهي العروق المنعقدة في البطن - هذا أصل معنى العجر والبجر ثم نقل إلى ما ظهر من أحوال الإنسان وما خفي - أرادت عيوبه الظاهرة والباطنة.
وقول الثالثة (العشنق) بفتح العين المهملة والشين المعجمة والنون المشددة، كلها مفتوحة ثم قاف، وهو الرجل الطويل الممتد القامة، أرادت أن له منظرا بلا مبخر، لأن الطول في الغالب دليل السفه، وقيل: هو السيئ الخلق.
وقولها (إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق) قيل معناه: إن أنطق بصفاته، أنطق بما يسؤه، فيغضب فيطلقني. والظاهر أن معناه: أني إذا نطقت له، وشكوت عليه سوء عشرته طلقني، ولم يشكني، وإن سكت تركني كالمعلقة، لا ممسكة ولا مطلقة.
وقولها (المذلق) بالذال المعجمة، اسم مفعول من ذلق السنان: إذا حدده. أرادت أنها معه على مثل السنان المحدد، فلا تجد معه قرارا. قاله في النهاية.
وقول الرابعة: زوجي كليل تهامة، (تهامة) أرض أولها ذات عرق - ميقات أهل العراق إلى البحر وجدة - وقيل: هي ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من وراء مكة وما وراء ذلك من المغرب، فهو غور، فمكة من تهامة والمدينة لا تهامية ولا نجدية، فإنها فوق الغور ودون نجد. و (القر) بضم القاف وبعدها راء مهملة مشددة: البرد، ويوم (قر) بفتح القاف: بارد. و (الوخامة) بفتح الواو والخاء المعجمة، مصدر وخم: الطعام إذا ثقل ولم يستمر. (والسآمة) بفتح السين المهملة والهمزة وبعدها ألف فميم مفتوحة فهاء: الملل والضجر.
وقول الخامسة: إن دخل (فهد) بفتح الفاء وكسر الهاء وبعدها دال مهملة، وهو فعل ماض (كعلم) أي نام كما ينام الفهد، لأن الفهد يوصف بكثرة النوم، وهو كناية عن عدم تفقده لما في بيته، وغفلته عن معائب بيته التي يلزمني إصلاحها، وعدم التفاته إلى ما يتلف أهله.
قولها: وإن خرج (أسد) هو أيضاً فعل ماض (كعلم) أي صار كالأسد في الشجاعة.
قولها: ولا يسأل عما (عهد) أي عما كان يعرفه في البيت من طعام وشراب ونحوهما لسخائه وسعة نفسه.
قولها: ولا يدفع اليوم لغد، أي لا يماطل، ولا يسوف أمر اليوم لغد، وذلك لحزمه وهمته.
وقول السادسة: إن أكل (اقتف) بالقاف والتاء المثناة من فوق، وبعدها فاء مشددة، وهو فعل ماض (على افتعل) أي جمع واستوعب. ويروى بدله (لف) أي قش وخلط من كل شيء، و (اشتف) بالشين المعجمة والتاء المثناة الفوقية وبعدها فاء مشددة، وهو أيضاً فعل ماض (على افتعل) أي استقصى ما في الإناء من الشراب. و (التف) أي إذا نام تلفف في ثوبه ونام عني ناحية. قاله في النهاية.
وقولها: إن ذبح (اغتث) هو أيضاً فعل ماض (على افتعل) من الغث وهو المهزول، يعني أنه إذا أراد أن يذبح من نعمه شيئا اختار المهزول منها وذلك لبخله.
(1/212)
________________________________________
وقولها: ولا يولج الكف ليعلم البث، (البث) بفتح الباء الموحدة وتشديد الثاء المثلثة: الحال والحزن وأشد المرض، تعني: أنه لا يدخل يده في ثوبها إذا مرضت ليعلم ما بها كما هو عادة الأجانب فضلا عن الأزواج. وقيل: إن كل كلامها هذا مدح لزوجها، وهو بعيد.
وقول السابعة (عياياء) أو (غياياء) الأول بفتح العين المهملة والياء المثناة من تحت فألف فياء تحتية أيضاً فألف ممدودة وهو العنين الذي يعيه مباضعة النساء، قاله في النهاية. وفي الصحاح: جمل عياياء: إذا لم يهتد للضراب، ورجل عياياء: إذا عي بالأمر والمنطق. انتهى. و (غياياء) الثاني كالأول في الحركات، غير أن الغين منه معجمة: من الغواية، أي عاجز لا يهتدي لأمر، وقيل: هو المنهمك في الشر. و (طباقاء) بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة فألف فقاف فألف ممدودة، قيل: هو الذي ينطبق عليه أمره وقيل: هو الذي يعجز عن الكلام فتنطبق شفتاه، وقيل: الأحمق، وقيل: الثقيل الصدر عند الجماع.
وقولها: كل داء له داء (الداء) بالدال المهملة: المرض، والظاهر أن قولها: له داء، جملة اسمية في محل الخبر أي كل داء يعرف في الناس فهو داء له، أي حاصل فيه. ويجوز أن يكون له صفة الداء، وداء وحده خبرا، أي كل داء حاصل له فهو داء، أي متناه بليغ، كما يقال: زيد رجل وما كل من لبس العمامة برجل. قاله شارح التبيان.
وقولها (شجك) بالشين المعجمة والجيم المشددة وبعدها كاف الخطاب، فعل ماض من الشج، وهو كسر الرأس، أي كسر رأسك. و (بجك) بالباء الموحدة والجيم المشددة وبعدها كاف الخطاب أيضاً فعل ماض من البج، وهو الطعن، أي طعنك و (فلك) بالفاء واللام المشددة، فعل ماض - والكاف للخطاب - من الفل وهو الكسر والضرب وقيل: أرادت بالفل: الخصومة - قاله في النهاية - وقيل: فلك أي جرح جسدك.
وقولها: أو جمع كلا لك، تريد أنها معه بين شج رأس، وطعن في البدن، وكسر عضو أو جمع بينها كلها. والخطاب في كل ذلك عام، أي كل من تزوجها تلقى منه ذلك، ليعلم أن ذلك ليس لتقصير من جانبها، بل هو من شكاسة أخلاقه وسوء طباعه.
وقول الثامنة: المس مس أرنب، (المس) بفتح الميم وتشديد السين المهملة: اللمس و (الأرنب) بفتح الهمزة (وسكون) الراء المهملة وفتح النون وبعدها باء موحدة: دويبة لينة اللمس، ناعمة الوبر، قيل: يطلق على الذكر والأنثى، وقيل: إنما يطلق على الأنثى، ويقال لذكرها: خزز - بمعجمات على وزن صرد - قولها هذا عبارة عن لين جانبه، وحسن خلقه. وهو من أمثلة التمثيل.
وقولها: والريح ريح زرنب، (الزرنب) بزاء مفتوحة، فراء مهملة ساكنة، فنون مفتوحة، فباء موحدة: طيب، وقيل: شجر طيب الرائحة. تعني: أن زوجها طيب الرائحة، ليس منتن الجسد، ولا أبخر الفم، ولا ذفر الإباط.
وقول التاسعة: رفيع العماد طويل النجاد، (العماد) بكسر العين المهملة وفتح الميم وبعد الألف دال مهملة: الخشبة التي يقوم بها البيت. قال في النهاية: أرادت عماد بيت شرفه، والعرب تضع البيت موضع الشرف في النسب والحسب. انتهى. وفي الصحاح: فلان طويل العماد، إذا كان بيته معلما لزائريه، و (النجاد) بكسر النون وفتح الجيم وألف فدال مهملة: حمائل السيف، عنت بطول نجاده: طول قامته، فإنها إذا طالت طال نجاده، وهو من أحسن الكنايات.
وقولها: عظيم الرماد: كناية عن أنه مضياف، ومثل هذه الكناية يسميها أرباب البيان: كناية بعيدة، وتلويحا لبعد المطلوب بها. ألا ترى أن قولها: عظيم الرماد، يدل على كثرة إحراق الحطب تحت القدر، وهي على كثرة الطبائخ، وهي على كثرة الأكلة، وهي على كثرة الضيفان، وهي على أنه مضياف، وهو المقصود بهذه الكناية.
وقولها: قريب البيت من الناد، أرادت (النادي) بفتح النون وبعد الألف دال مهملة، وهو مجتمع القوم. تقول: إن بيته قريب من وسط المحلة ليغشاه الأضياف والطراق - قاله في النهاية -.
(1/213)
________________________________________
وقول العاشرة: له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، (المبارك) جمع مبرك وهو الموضع (الذي) ترك فيه الإبل، و (المسارح) بفتح الميم والسين المهملة وبعد الألف راء فحاء مهملتين: جمع مسرح، وهو الموضع الذي تسرح إليه الإبل بالغداة للرعي. تريد: أن إبله على كثرتها لا تغيب عن الحي، ولا تسرح إلى المراعي البعيدة، ولكنها تترك بفنائه ليقرب الضيفان من لبنها ولحمها، وخوفا من أن ينزل به ضيف وهي بعيدة عازبة. وقيل معناه: أن إبله كثيرة في حال بروكها، فإذا سرحت كانت قليلة لكثرة ما نحر منها في مباركها - قاله في النهاية -.
وقولها: إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك، (المزهر) بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء فراء مهملة: العود الذي يضرب به للهو، تريد أن إبله إذا سمعن صوت المزهر علمن بمكان الضيفان، فيوقن بالنحر لا محالة، وأدمجت فيه أنه يكرم ضيفه بإحضار ما يطربهم ويلهيهم.
وقولها: وهو أمام القوم في المهالك (أمام) يجوز أن يكون بفتح الهمزة بمعنى: قدام، يعني أنه يكون قدامهم في المهالك لشجاعته، ويجوز أن يكون بكسر الهمزة، أي يأتمون به، بمعنى أنه عقيدهم ورئيسهم.
وقول الحادية عشرة: أناس من حلي أذني. (أناس) بالنون والسين المهملة، فعل، ماض - كأقام - من النوس، وهو تحرك الشيء متدليا كحركة الذؤابة والعذبة، وأناسه غيره: حركة. و (الحلي) بفتح الحاء المهملة، كالرمي: اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الفضة والذهب، تريد أنه حلاها أقراطا وشنوفا تنوس بأذنيها، فتنوس أذناها لذلك أيضاً. فكأنه هو الذي أناس أذنيها بذلك.
وقولها: وبجحني فبجحت نفسي إلي (بجحني) بالباء فالجيم المشددة فالحاء المهملة، فعل ماض، مثل فرحني، (وبجحت) كفرحت لفظا ومعنى فيهما، من البجح، وهو كالفرح زنة ومعنى، أي فرحني ففرحت نفسي إلي، جعلت نفسها شخصا آخر يظهر إليها الفرح على سبيل التجريد ليكون أدخل في المبالغة. وقيل معناه: عظمني فعظمت نفسي عندي. يقال: فلان يتبجح بكذا، أي يتعظم.
وقولها: في أهل غنيمة بشق، (الغنيمة) بضم الغين المعجمة، تصغير غنم، من غنم، كذا قيل، فيكون زيادة التاء في غنيمة شاذا، لأنها لا تزاد إلا إذا أمن اللبس، وهنا اللبس حاصل بالتباسه بمصغر غنمة. و (الشق) بالشين المعجمة والقاف، يروى بكسر أوله وفتحه، فالكسر: من المشقة، يقال: هم في شق من العيش، إذا كانوا في جهد، ومنه قوله تعالى: (لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) ، وأما الفتح، فهو من الشق، وهو الفصل في الشيء. كأنها أرادت أنهم في موضع حرج ضيق كالشق في الجبل، وقيل: شق: اسم موضع بعينه - قاله في النهاية -.
وقولها: فجعلني في أهل صهيل واطيط ودائس ومنق، (الصهيل) بفتح الصاد المهملة وبعد الهاء ياء تحتية - على فعيل - وهو صوت الخيل و (الأطيط) بفتح الهمزة وكسر الطاء المهملة وياء تحتية ثم طاء مهملة - على فعيل أيضاً - وهو صوت الإبل، و (الدائس) بالدال والسين المهملتين - فاعل من الدوس - وأرادت به الذي يدوس الطعام لإخراج الحب من السنبل و (المنق) بضم الميم وكسر النون وتشديد القاف - اسم فاعل من أنق إذا صار ذا نقيق - وهو أصوات المواشي والأنعام، تصفه بكثرة أمواله. تقول: أنه أخذني من أهل قلة وجهد، فنقلني إلى أهل كثرة وثروة، من خيل وإبل وزرع وأنعام.
وقولها: فلا أقبح، أي لا يرد علي قولي لميله إلي، وكرامتي عليه. يقال: قبحت فلانا إذا قلت له: قبحك الله، من القبح وهو الإبعاد.
وقولها: فأتصبح، بفتح الهمزة والتاء المثناة من فوق الصاد المهملة والباء الموحدة المشددة وبعدها حاء مهملة - فعل من الصبحة بالضم وتفتح - وهي النوم أول النهار، تريد أنها مكفية فهي تنام الصبحة.
وقولها (فأتقنح) بالهمزة وفتح التاء المثناة من فوق والقاف والنون وبعدها حاء مهملة - فعل مضارع ماضيه تقنح، وهو من القنح كالمنع - وهو أن يرفع الشارب رأسه ريا. يقال: قنح الشارب - كمنع - وتقنح، إذا فعل ذلك. وقيل: التقنح، هو أن يقطع الشارب الشرب ويتمهل فيه. وقيل: الشرب بعد الري.
وقولها (فاتمنح) هو تفعل من المنحة - بكسر الميم وسكون النون وفتح (الحاء) المهملة - وهي العطية، أي أطعم غيري.
(1/214)
________________________________________
وقولها: عكومها رداح، (العكوم) بضم العين المهملة والكاف: الأحمال والغرائر التي تكون فيها الأمتعة وغيرها، وأحدها عكم بكسر أوله وسكون ثانيه. و (رداح) بفتح الراء والدال المهملتين، وبعد الألف حاء مهملة، أي ثقيلة، لكثرة ما فيها من المتاع والثياب. وأصله في المرأة، يقال: امرأة رداح أي ثقيلة الأوراك، وقد يوصف به الكتيبة أيضاً، يقالك كتيبة رداح، إذا كانت ثقيلة جرارة.
وقولها: وبيتها (فساح) بفتح الفاء والسيح المهملة وبعد الألف حاء مهملة، أي فسيح واسع.
وقولها: مضجعه كمسل شطبة، (المسل) بضم الميم والسين المهملة و (الشطبة) بفتح الشين المعجمة وسكون الطاء المهملة وفتح الموحدة: السعفة من سعف النخل ما دامت رطبة. أرادت أنه قليل اللحم، دقيق الخصر فشبهته بالشطبة، أي موضع نومه دقيق لنحافته. وقيل: أرادت بمسل الشطبة: سفا سل من غمده. و (المسل) مصدر بمعنى السل، أقيم مقام المفعول، أي كمسلول الشطبة، فيكون من إضافة الصفة إلى الموصوف.
وقولها: تشبعه ذراع الجفرة، (الجفرة) بفتح الجيم وسكون الفاء فراء مهملة: الأنثى من أولاد المعز إذا بلغت أربعة أشهر، تصفه بقلة الأكل.
وقولها: ترويه فيقة اليعرة، (الفيقة) بكسر الفاء وسكون التحتية وقاف: ما يجتمع في الضرع بين الحلبتين، و (اليعرة) بفتح التحتية وسكون العين المهملة: العناق. تصفه بقلة الشرب.
وقولها: يميس في حلق النثرة، (يميس) مضارع ماس: إذا تبختر. و (الحلق) بفتح الحاء المهملة واللام: جمع حلقة - بسكون اللام - وهي معروفة، و (النثرة) بفتح النون وسكون الثاء المثلة فراء مهملة: الدرع اللطيفة، أو الواسعة، أي يتبختر في حلق الدرع.
وقولها: ملء كسائها، (الملء) بكسر الميم وسكون اللام وبعدها همزة: ما يملأ الإناء، وهو وصف لها بالسمن، وهو ممدوح في النساء.
وقولها: صفر رداؤها، (الصفر) بضم الصاد المهملة - وقد يثلث - وسكون الفاء وبعد الفاء راء مهملة، ويقال: صفر ككتف، وصفر كزبر: الخالي، وهذا كناية عن أنها ضامرة البطن، فكأن رداءها خال، والرداء ينتهي إلى البطن فيقع عليه.
قولها: وغيظ جارتها، (الغيظ) بفتح الغين المعجمة وسكون التحتية فظاء مشالة، وهو الغضب أو شدته أو سورته. تريد أن جارتها ترى من حسنها ما يغيظها ويهيج حسدها، لأن التحاسد يكون بين الجيران كثيرا؛ ولتحاسدهم حكايات عجيبة.
(1/215)
________________________________________
قولها: قباء إلى آخره، (القباء) بفتح القاف وتشديد الموحدة وبعدها ألف ممدودة: الدقيقة الخصر، و (الهضيمة) بفتح الهاء وكسر الضاد المعجمة وسكون التحتية - على قعيلة - من الهضم محركة وهو انضمام الجنبين ولطف الكشح وضمور البطن. و (الحشا) بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة: ما انضمت عليه الضلوع. و (جائلة) بالجيم - على فاعلة - من جال الشيء: إذا ذهب وجاء. و (الوشاح) بكسر الواد وضمها وفتح الشين المعجمة وبعد الألف حاء مهملة: شيء ينسج عريضا من أديم، وربما رصع بالجواهر، فتشده المرأة بين عاتقها وكشحها، وهذا كناية عن لطف كشحها وهيفها، وقد يقال: غرثى الوشاح أيضاً بهذا المعنى. و (العكناء) بفتح العين المهملة وسكون الكاف وفتح النون وبعدها ألف ممدودة على فعلاء: من العكنة - بالضم - وهو ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا، يقال: امرأة عكناء، إذا تعكن بطنها. و (الفعماء) بفتح الفاء وسكون العين - فعلاء من فعمت المرأة ككرمت - إذا استوى خلقها وغلظ ساقها. و (نجلاء) بفتح النون وسكون الجيم - فعلاء من النجل بالتحريك - وهو سعة العين. و (دعجاء) بفتح الدال وسكون العين المهملتين وفتح الجيم - فعلاء من الدعج بالتحريك - وهو شدة سواد العين مع سعتها. و (رجاء) بالراء المهملة والجيم المشددة - فعلاء من الرجاج - وهو التحرك، والمعنى أنها عظيمة الكفل إذا مشت ارتج كفلها. ويقال: ناقة رجاء: إذا كانت عظيمة السنام مرتجته. و (زجاء) بالزاي والجيم المشددة - فعلاء من الزجج بالتحريك - وهو دقة الحاجبين في طول. و (قنواء) بفتح القاف وسكون النون - فعلاء من القنا - وهو طول الأنف مع حدب في وسطه. و (مؤنقة) بضم الميم وسكون الهمزة وكسر النون وفتح القاف - كمكرمة - أي معجبة، من آنقني الشيء أيناقا: أعجبني. و (مفنقة) بضم الميم وفتح الفاء والنون المشددة والقاف - اسم مفعول من التفنيق وهو التنعيم - تريد: أنها منعمة لم تشق. و (برود) بفتح الباء الموحدة وضم الراء المهملة والواو وبعدها دال مهملة، و (الظل) بكسر الظاء المشالة وتشديد اللام: الفي، وهو كناية عن حسن عشرتها، و (الإل) بكسر الهمزة وتشديد اللام: العهد، (الخل) بكسر الخاء المعجمة وتشديد اللام: الصاحب، ومعنى كل ذلك واضح.
قولها: لا تبثث حديثنا تبثيثا، يروى بالباء الموحدة من البث، وهو نشر الخبر وتفريقه، ويروى بالنون محلها، وهما بمعنى، أي لا تنشر أخبارنا ولا تذكرها هنا وهناك إذا سمعتها.
قولها: ولا تنقث ميرتنا تنقيثا، (التنقيث) من النقث، بفتح النون وسكون القاف وبعدها ثاء مثلثة، وهو النقل، و (الميرة) بكسر الميم وسكون التحتية فراء مهملة: الطعام، تريد أنها أمينة على حفظ طعامنا لا تنقله وتخرجه وتفرقه.
قولها: ولا تغثث طعامنا تغثيثا، هو من (الغث) بفتح الغين المعجمة وتشديد الثاء المثلثة، أي لا تفسد طعامنا. يقال: غث فلان في قوله وأغثه: إذا أفسده - قاله في النهاية -.
قولها: في شبع وري ورتع، (الشبع) بفتح الشين المعجمة وسكون الموحدة وبعدها عين مهملة، ويقال شبع كعنب: ضد الجوع، و (الري) بكسر الراء المهملة وتشديد التحتية: ضد الظمأ. و (الرتع) بفتح الراء المهملة وسكون المثناة الفوقية وبعدها عين مهملة، وهو الأكل والشرب في خصب وسعة.
قولها: طهاة أبي زرع_ إلخ، (الطهاة) بضم الطاء المهملة، جمع طاه، وهو الطباخ. و (تفتر) من الفتور، بضم الفاء والتاء الفوقية وبعد الواو راء مهملة، معناه ظاهر. و (تعرى) بضم التاء الفوقية وسكون العين المهملة وفتح الراء وبعدها ألف - فعل مبني للمفعول - أي لا تترك يقال: أعروا صاحبهم: إذا تركوه. وقيل: معناه: لا تصرف، أي هم دائما يطبخون، والمعنى واحد. و (تقدح) بالقاف والدال والحاء المهملتين، أي اغرف. و (تنصب) من النصب، بفتح النون وسكون الصاد المهملة فموحدة، وهو الرفع، أي ترفع الطعام وتستقبل به الضيفان.
(1/216)
________________________________________
وقولها: على الجمم معكوس، (الجمم) بكسر الجيم وفتح الميم ثم ميم أخرى: جمع جمة، بفتح الجيم، وقد يقال: جمة بضمها، فيكون جمعها: جمم بضمها أيضاً، وهي الجماعة يسألون الدية. و (معكوس) بالعين والسين المهملتين - مفعول من العكس - بمعنى الرد، أي مردود. و (العفاة) بضم العين المهملة وفتح الفاء: جمع عاف، وهو الضيف وكل طالب فضل أو رزق. و (محبوس) بالحاء المهملة والموحدة والسين المهملة أي موقوف.
قولها: والأوطاب تمخض، (الأوطاب) بالطاء المهملة وبعد الألف موحدة: جمع وطب - بفتح الواو وسكون الطاء - وهو سقاء اللبن. و (تمخض) بالخاء والضاد المعجمتين، من المخض، وهو تحريك السقاء الذي فيه اللبن ليخرج زبدة.
قولها: كالفهدين، بالفاء، مثنى فهد، وهو سبع معروف (يقال له بالفارسية: يوز، بضم التحتية وبعد الواو زاي) .
قولها: يلعبان من تحت خصرها برمانتين؛ إشارة إلى عظم كفلها؛ ودقة خصرها، فإذا استلقت بقي بين خصرها والأرض متسع لأنه مجرى الرمانتين يلعب بهما، ويرمي بهما أحد الأخوين إلى الآخر - قاله شارح التبيان -.
قولها: وكل بدل أعور، قال في الصحاح: بدل أعور: مثل يضرب للمذموم يخلف بعد الرجل المحمود.
قولها: رجلا سريا، بفتح السين وكسر الراء المهملتين وتشديد التحتية أي شريفا. و (شريا) بالشين المعجمة، كالأول زنة، أي ركب فرسا يشري في عدوه، أي يبالغ ويجد، وقيل: الشري: الفائق الخيار.
قولها: وأخذ خطيا، بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة، وقد يكسر الخاء أيضاً، أي رمحا منسوبا إلى الخط، وهو موضع باليمامة تنسب إليه الرماح لأنها تباع به، لا أنها منبتها كما يتوهمه كثيرون، حتى قال المعري (يظللهم ما ظل ينبته الخط) .
قولها: وأراح علي نعما ثريا، (أراح) بالراء والحاء المهملتين، بمعنى رد، يقال: أراح إبله، إذا ردها إلى المراح، وإنما قالت (علي) لأن محلها كان مراحا لنعمه. (النعم) بفتح النون والعين المهملة - وقد تسكن -: الإبل، و (ثريا) بالثاء المثلثة المفتوحة وكسر الراء المهملة وتشديد الياء التحتية، أي كثيرا.
قولها: وأعطاني من كل رائحة زوجا، (الرائحة) بالراء والحاء المهملتين، أي من كل ما يروح عليه من أصناف المال. ويروى (ذابحة) بالذال وبعد الألف موحدة فحاء مهملة، أي من كل ما يجوز ذبحه من الإبل ونحوها - وهي فاعلة بمعنى مفعولة - والرواية الأولى هي المشهورة، و (زوجا) بالزاي والجيم المعجمة، قال في النهاية: نصيبا وصفنا، والأصل في الزوج: الصنف والنوع من كل شيء، وكل شيئين مقترنين - شكلين كانا أو نقيضين - فهما زوجان، وكل واحد منها زوج. انتهى. وفي القاموس الزوج خلاف الفرد، ويقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج. انتهى.
قولها: وميري أهلك، من الميرة، أي أطعميهم.
قولها: فلو جمعت كل شيء أعطانيه إلى آخر: مبالغة حسنة.
وهنا انتهى شرح حديث أم زرع، وإنما أطنبت هذا الإطناب في شرحه خشية من أن يقع إلى بعض الطلبة من العجم ونحوهم فيشكل عليه بعض ألفاظه، ولعلك لا تجد هذا الحديث مشروحا هذا الشرح، ولا مضبوطا هذا الضبط في غير هذا الكتاب والله الموفق للصواب.
ولنرجع الآن إلى ما كنا فيه من الكلام على نوع التمثيل.
ومن شواهده الشعرية قول الشاعر:
ألم أك في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا
كأن هذا الشاعر قال: ألم أكن قريبا منك؟ فلا تجعلني بعيدا عنك، فعبر عن قربه بكونه في اليمين لما في ذلك من التمثيل بشيء تقر في النفوس قوته، ووجوب البدأة وسرعة البطش، وعن بعده بكونه في الشمال، لما فيه من التمثيل بشيء هو عكس ذلك. فكان العدول عن لفظ القرب والشمال لهذه الفائدة.
وأحسن التمثيل ما أخرج مخرج المثل كقول أبي تمام:
أخرجتموه بكره عن سجيته ... والنار قد تنتضي من ناضر السلم
أوطأتموه على جمر العقوق ولو ... لم يحرج الليث لم يخرج من الأجم
(1/217)
________________________________________
ففي كل من عجزي البيتين تمثيل حسن لفظا ومعنى، فإنه مثل إخراجهم له بكره منه عن سجيته التي هي الحلم والصفح، إلى أذاهم والكناية فيهم بإخراج النار من السلم الأخضر اليانع بالإيقاد، ولو ترك وحاله لم تخرج منه نار، ثم بين ذلك بقوله: أوطأتموه على جمر العقوق، يعين أنكم اضطررتموه بشقكم العصا بعصيانه، وترك بره، إلى أذاكم. ولو لم تفعلوا ذلك لم يقع منه شيء من ذلك، كالليث لو لم يحرج عليه ما خرج من غابه. فكل عجز من هذين البيتين تمثيل أخرج مخرج المثار السائر.
وقول الطغرائي:
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فمثل استواء مجده في الأول والآخر باستواء حالتي الشمس في أول النهار وفي آخره، فشبه نفسه بالشمس وأخرج ذلك مخرج المثل السائر.
وهو مأخوذ من قول أبي العلاء المعري:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في *****
غير أن ذاك شبه نفسه بالشمس، وهذا شبه ممدوحه وآباءه بالبدر، وهذا أيضاً من التمثيل المذكور.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
يا غائبين لقد أضنى الهوى جسدي ... والغصن يذوي لفقد الوابل الرذم
مثل حاله لما أضنى الهوى جسده لغيبة أحبابه بالغصن الذي ذوى لفقد المطر، وأخرج كلامه مخرج المثل السائر كما تقرر.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
من التعاظم تمثيل الزمان به ... وقد يكون اتضاع القدر بالشمم
قال ابن حجة: هذا البيت غير صالح للتجريد، وقد كل الفكر وعجزت أن أتوصل فيه إلى حد يتوصل به إلى فهم معناه، أو إلى صورة التمثيل في تركيبه، فلم أجد بدا من مطالعة الشرح، فلما نظرت في شرحه وجدته قد قال فيه: أن العذول يتعاظم في كلامه وأفعاله، فلذلك مثل الزمان به من استهتار السامع به والتهكم عليه وعدم الإصغاء إليه، وفي ذلك تهجين له. ثم قال في آخر الشرح: وقد أرسلت النصف الثاني من البيت مثلا.
فما زادت مرآه ذوقي بذلك إلا صدأ. انتهى كلام ابن حجة.
وأنا أقول: أما قوله: أنه عجز عن فهم معناه، فما أجدر ابن حجة بأن لا يفهم، ومعناه واضح، وذلك أنه يقول: أنه لما تعاظم هذا العذول في كلامه وأفعاله جعله الزمان مثله - بالضم - أي نكل به، يقال: مثل فلان بفلان تمثيلا، أي نكل به، وقد بين وجه تنكيل الزمان به فيما نقله ابن حجة من شرحه حيث قال: فلذلك مثل الزمان به من استهتار السامع به والتهكم عليه، فقوله: من استهتار السامع إلى آخره: بيان لتمثيل الزمان به. ثم قال: وقد يكون اتضاع القدر بالشمم، والشمم الارتفاع، وأصله في الأنف. يعني أن بعض الارتفاع قد يكون سببا للاتضاع كما وقع لهذا العاذل.
نعم، الذي يرد على الموصلي: أن بيته هذا خال عن شاهد التمثل، لأن التمثيل كما تقدم تشبيه حال بحال، وليس في هذا البيت شيء من ذلك.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وقلت ردفك موج كي أمثله ... بالموج قال قد استسمنت ذا ورم
ابن حجة استسمن من هذا البيت ذا ورم فكأنه إنما خاطب نفسه، وذلك أن هذا البيت أيضاً خال من شاهد التمثل، لما عرفت من أن التمثيل تشبيه حال بحال (كما تقدم من الأمثلة) فقوله: ردفك موج، ليس فيه إلا تشبيه الردف بالموج - بحذف الأداة - لا تشبيه حال بحال، وقوله في آخر البيت: قد استسمنت ذا ورم، ليس من إخراج التمثيل مخرج المثل كما زعم، لأنه قد قرر في شرحه: أن التمثيل إنما هو في قوله (ردفك موج) وهذا كلام آخر خارج عن التمثيل. ومعنى إخراج التمثيل مخرج المثل السائر: أن يأتي المتكلم بالتمثيل في كلام يصلح أن يكون مثلا، كما تقدم من قول أبي تمام والطغرائي والمعري، فلا يخفى عليك غفلة ابن حجة وبعده عن تحقيق المقاصد وفهم المعاني. ثم أن عليه هنا نقدا آخر وهو أنه قد قرر في أول شرح بديعيته: أن الغزل الذي صدر به المديح النبوي، يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب، ويطرح ذكر التغزل في ثقل الردف ورقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد ونحو ذلك، فما هذا التغزل البارد الآن في ثقل الردف؟ وقد تقدم أيضاً في تغزله في حمرة الخد في بيت الاكتفاء، وهل هذا منه إلا غفلة أو تهافت؟.
وبيت بديعية الطبري قوله:
كانوا كليل شتاء كم قررت بهم ... عينا وتمثيلهم لي مونس النسم
(1/218)
________________________________________
كأنه قصد أن ينحو بهذا التمثيل منحى الحديث المتقدم من حديث أم زرع وهو (زوجي كليل تهامة) إلى آخره. وأين ليل تهامة من ليل الشتاء؟ فليل تهامة - كما قالت - لا حر ولا قر ولا وخامة ولا سآمة، وأما ليل الشتاء فمذموم لشدة برده وطوله.
كما قال الشاعر:
لنا صديق وله لحية ... من غير ما نفع ولا فائدة
كأنها بعض ليالي الشتا ... طويلة مظلمة باردة
وبالجملة فما قصر في هجو أحبابه. ثم انظر ما معنى قوله: تمثيلهم لي مونس النسم؟.
وبيت بديعيتي قولي:
طربت في البعد من تمثيل قربهم والمرء قد تزدهيه لذة الحلم
الطرب محركة: خفة تلحق الإنسان تسره أو تسوؤه، والمراد به هنا: السرور، والتمثيل هنا بمعنى التصوير، مورى به عن اسم النوع، قال في القاموس: مثله له تمثيلا: صوره حتى كأنه ينظر إليه. انتهى. والازدهاء: الاستخفاف، ومنه قولهم: فلان لا يزدهي بخديعة. والمعنى أنه طرب من تصوير قرب أحبابه في حال البعد، كأنه صور لنفسه قربهم فلحقته لذلك خفة سرته، ثم مثل حاله هذه بحال الإنسان النائم الذي تستخفه لذة الأحلام فيطرب لها، وأخرج التمثيل مخرج المثل السائر، وما أشد انطباق هذا التمثيل لهذا المعنى الممثل له والله أعلم.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
هي اللواحظ أصمتني ولا عجب ... من يعترض للسهام الراميات رمي
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
تنبيه - الفرق بين هذا النوع وبين التذييل: خلو التذييل من معنى التشبيه والله أعلم.

عتاب المرء نفسه
عاتبت نفسي وقلت الشيب أنذرني ... وأنت يا نفس عنه اليوم في صمم
عتاب المرء نفسه، هو توبيخ النفس على حالة منها غير مرضية.
قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: هذا النوع أدخله ابن المعتز في البديع، وليس في شيء منه، بل هو حكاية واقعة، ولم يمكني أن أحل بذكره.
وهو كقول المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
انتهى. ومن أمثلته في القرآن العظيم، قوله تعالى: (يوم يعضُّ الظالم على يديه يقول يا ليتني - الآيات -) . وقوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله. الآيات) .
ولم يورد ابن المعتز في هذا النوع غير بيتين ذكر أن الأسدي أنشدهما عن الجاحظ وهما:
عصاني قومي في الرشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرب يندم
فصبرا بني بكر على الموت أنني ... أرى عارضا ينهل بالموت والدم
قال ابن أبي الإصبع - ونعم ما قال -: لم أر في هذين البيتين ما يدل على عتاب المرء نفسه، إلا أن هذا الشاعر لما أمر بالرشاد وبذل النصح، لم يطع على بذل النصيحة لغير أهلها؛ ويلزم من ذلك عتابه لنفسه؛ فتكون دلالة البيتين على عتابه لنفسه دلالة التزامية؛ لا دلالة مطابقة.
فلا يصلح أن يكون شاهدا على هذا النوع إلا قول شاعر الحماسة:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر
انتهى كلامه.
ومن بديع هذا النوع قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
فوا عجبا مما يظن محمد ... وللظن في بعض المواطن غرار
يقدر أن الملك طوع يمينه ... ومن دون ما يرجو المقدر أقدار
له كل يوم منية وطماعة ... ونبذ قريض بالأماني سيار
لئن هو أعفى للخلافة لمةً ... لها طرر فوق الجبين وأطرار
وأبدى لها وجها نقيا كأنه ... وقد نقشت فيه العوارض دينار
ورام العلى بالشعر والشعر دائبا ... ففي الناس شعر خاملون وشعار
وأني أرى زندا تواتر قدحه ... ويوشك يوما أن تشب له نار
ومنه قول الحيص بيص يخاطب نفسه:
إلام يراك المجد في زي شاعر ... وقد تخلت شوقا فروع المنابر
كتمت بصيت الشعر علما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر
أما وأبيك الخير أنك فارس ال ... مقال ومحي الدراسات الغوابر
وإنك أغنيت المسامع والنهى ... بقولك عما في بطون الدفاتر
ثم انتقل بعد هذا إلى التكلم بالياء التي هي ضمير المتكلم فقال:
تطاول ليلي فابغني ذا نباهة ... يجلي دجى ظلمائه عن خواطري
سهرت لبرق من ديار ربيعة ... ولم أك للبرق اللموع بساهر
(1/219)
________________________________________
والشاهد في البيتين الأولين.
وقول الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
أتعبت نفسك بين ذلة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل
وأضعت عمرك لا خلاعة ماجن ... حصلت فيه ولا وقار مبجل
وتركت حظ النفس في الدنيا وفي الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:
قد قلت للنفس الشعاع أضمها ... كم ذا القراع لكل باب مصمت
قد آن أن أعصي المطامع طائعا ... لليأس جامع شملي المتشتت
وقلت أنا في أوائل نظمي:
أظننت أن الوجد مكتمن ... وخفي سرك في الهوى علن
أنى لقلبك أن يقال صحا ... وثني جموح ضلاله الرسن
قد طال مكثك حيث لا فرح ... يصفو به عيش ولا حزن
وأضر قلبك طول مغترب ... لا منية تدنو ولا وطن
فإلى مَ ترضى لا رضيت بأن ... ينهى إليك العجز والجبن
أحلى لنفسك أن يقال لها ... هذا علي حطه الزمن
حصل الجهول على مآربه ... ومضى بغير طلابه القمن
حتى متى قول ولا عمل ... وإلى متى قصد ولا سنن
ما شأن شأنك قط منتقص ... أنت العلي وذكرك الحسن
فاقطع برجلك حيث لا عتب ... واربأ بعرضك حيث لا درن
وافخر بسبقك لا بسبق أبٍ ... شرفا فأنت السابق الأرن
أن يبل ثوبك فالنهى جنن ... أو تود خيلك فالعلى حصن
لا تبتئس لملمة عرضت ... لا فرحة تبقى ولا حزن
ومثل هذا في كلام العرب كثير، وفي هذا المقدار كفاية.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
أنا المفرط اطلعت العدو على ... سري وأودعت نفسي كف مجترم
الشيخ صفي الدين نظم هذا العتاب على أسلوب قول المتنبي الذي استشهد به في شرحه على هذا النوع وهو قوله:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
ولو نظمه على أسلوب قول الحماسي الذي استشهد به ابن أبي الإصبع لكان أحلى. ولعمري إن لتمكن عتابه وتقريعه لنفسه حيث قال:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر
حلاوة في السمع، ووقوعا في القلب، كادا أن يدخلاه في أنواع البديع.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
عتبت نفسي إذ أتعبتها بهوى ... مجهول سبل بلا هاد ولا علم
هذا البيت ساقط النظم والمعنى جدا، مع سهولة مأخذ هذا النوع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
يا نفس ذوقي عتابي قد دنا أجلي ... مني ولم تقطعي آمال وصلهم
هذا البيت لا ترضى كل نفس بإنشاده، لما جبلت عليه من الطيرة من نحو هذا الكلام، فإن فيه من قبح الفأل ما تنبو عنه الأسماع.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
لم ترعو النفس عتبا ويحك أتته عن ... تصدير غيك كيما يكتفى بلم
قلق تركيب هذا البيت وتداعي نظمه ليس لهما نظير في هذا الباب.
وبيت بديعيتي هو قولي:
عاتبت نفسي وقلت الشيب أنذرني ... وأنت يا نفس عنه اليوم في صمم
أقول هنا كما قال محمد بن يعقوب الفيروز أبادي في ديباجة القاموس: لو لم أخش ما يلحق المزكي نفسه من المعرة والدمان، لتمثلت بقول أحمد بن سليمان أديب معرة النعمان.
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
أطلعته فحكى سري علانيتي ... جهلا فيا نفس عضي الكف من ندم
هذا مأخوذ من بيت الشيخ صفي الدين الحلي. قال ناظمه: وفيه زيادة التورية، فإن قوله (علانيتي) يحتمل أنه يريد العلانية بقرينة السر، وإنما يريد: على نيتي من النية. انتهى.

القسم
لا بر صدقي وعزمي في العلى قسمي ... إن لم أردك رد الخيل باللجم
القسم - قال ابن حجة: هو أيضاً حكاية حال واقعة ليس تحته كبير أمر.
وهذا غلط صريح منه، فإن القسم من أنواع الإنشاء، وحكاية الحال من نوع الإخبار، ولكن ليس هذا بمستنكر من ابن حجة، فإن باعه قصير جدا في المسائل العلمية.
والقسم هو أن يريد المتكلم الحلف على شيء، فيحلف بما يكون فيه تعظيم لشأنه، وفخر له، أو تنويه له أو لغيره، أو دعاء على نفسه، أو هجاء وذم لغيره، أو جاريا مجرى الغزل والتشبيب.
(1/220)
________________________________________
فالأول كقوله تعالى: (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) ، أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة، لا يشاركه فيها غيره، ولا يطمح إليها نظر أحد سواه.
وعن بعض الأعراب، أنه لما سمع هذه الآية، صاح وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى الجأه إلى اليمين؟.
ومن الغايات في ذلك قول مالك الأشتر رحمه الله:
بقيت وفري وانحرفت علن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس
خيلا كأمثال السعالي شزبا ... تعدو ببيض في الكريهة شوس
حمي الحديد عليهم فكأنه ... ومضان برق أو شعاع شموس
فتضمن هذا الشعر الوعيد بالقسم بما فيه الفخر العظيم من الجود والكرم، والشرف والسؤدد، والبسالة والشجاعة. وهذا الرجل كان من أمراء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، شديد الشوكة على من خالف أمره. ويعني بابن هند: معاوية بن أبي سفيان. ولعمري لقد بر قسمه في صفين، وأبلى بلاء لم يبله غيره.
قال بعضهم: لقد رأيت الأشتر في يوم من أيام صفين مقتحما للحرب وفي يده صفيحة يمانية كأنها البرق الخاطف، إذا هو نكتها كادت تسيل من كفه، وهو يضرب بها قدما كأنه طالب ملك.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: لله أم قامت عن الأشتر؛ لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى لم يخلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه علي بن أبي طالب عليه السلام، لما خشيت عليه الإثم. ولله در القائل وقد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وقد هزم موته أهل العراق. وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
واقتفى أثر الأشتر في أبياته المذكورة في القسم، أبو علي البصير يعرض بعلي بن الجهم فقال:
أكذبت أحسن ما يظن مؤملي ... وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عودتها ... قدما من الأسلاف والأخلاف
وغضضت من ناري ليخفى ضوءها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافي
إن لم أشن على علي خلة ... تمسي قذى في أعين الأشراف
ومن الغايات هنا أيضاً قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
ما أنا للعلياء إن لم يكن ... من ولدي ما كان من والدي
ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ ... سرير هذا الأغلب الماجد
فإن أنلها فكما رمته ... أو لا فقد يكذبني رائدي
والغاية الموت فما فكرتي ... أسائقي أصبح أم قائدي
ومنه قول السيّد الفاضل السيّد أحمد بن عبد الصمد الحسيني البحراني رحمه الله:
لا بلغتني إلى العلياء عارفتي ... ولا دعتني العلى يوما لها ولدا
إن لم أمر على الأعداء مشربهم ... مرارة ليس يحلو بعدها أبدا
والثاني - وهو القسم بما يكون فيه تعظيم وتنويه لغير المتكلم، مثاله قوله تعالى: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أقسم سبحانه بحياة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم تعظيما لشأنه وتنويها بقدره ليعرف الناس عظمه عنده، ومكانته لديه.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما خلق الله، ولا ذرأ، ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) .
ومنه قوله تعالى: (وطور سينين وهذا البلد الأمين) . وقوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر) ، فإن في القسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، والشرف والقدر ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى كما يقوله الكافرون. ولهذا قال كثيرون: إن تقدير الجواب: إن القرآن لحق، وهذا يطرد في كل ما شأنه ذلك، كقوله تعالى: (ق والقرآن المجيد) .
ومن هذا الباب أقسام العباد بالله سبحانه وبشعائره، كقول أبي صخر الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره أمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الهجر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
وتبعه المولد وجمع بين ثلاث اقتباسات:
(1/221)
________________________________________
أما والذي أبكى وأضحك عبده ... وأطعم من جوع وآمن من خوف
لما كان لي قلب سوى ما سلبته ... وما جعل الرحمن قلبين في جوف
ومنه قول الآخر وإن كان القسم عليه فيه مدحا:
حلفت بمن سوى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان
ومن قام في المعقول من غير رؤية ... فأثبت من إدراك كل عيان
لما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقايل لم يعقل لهن ثواني
لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان
وذكر لجميل أمر بثينة - وقد احتضر - فقال في آخر ساعة من ساعات دنياه:
لا والذي تسجد الجباه له ... ما لي بما دون ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت به ... ما كان إلا الحديث والنظر
ومن الطريف الناصع في هذا قول السلامي:
أما والذي ناجى من الطور عبده ... وأنزل فرقانا وأوحى إلى النحل
لقد ولدت حواء منك بلية ... تنيخ على قلبي وثقلا على ثقل
ويستحسن قول الجاهلي في مثل هذه الأقسام:
أشوقا على شوق وأنت بخيلة ... وقد زعموا أن لا يحب بخيل
بلى والذي حج الملبون بيته ... ويشفى الهوى بالنيل وهو قليل
ومن أشعار الشاميين:
زعموا أن من تشاغل باللذ ... ات عمن يحبه يتسلى
كذبوا والذي تقاد له البد ... ن ومن طاف بالحرام وصلى
إن نار الهوى أحر من الجم ... ر على قلب مدنف يتقلى
وقول شيخنا العلامة محمد الشامي:
أما والراقصات على ألالٍ ... ومن حملوا على الكوم العتاق
لقد أضللت في ليل التصابي ... فؤادا غير مشدود الوثاق
ومن أيمان الفرزدق:
حلفت برب مكة والمصلى ... وأعناق المطي مقلدات
لقد قلدت جلف بني كليب ... قلائد في السوالف باقيات
(ومن أيمان) جميل بثينة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... فإن كنت منها كاذبا فعنيت
حلفت لها بالبدن تدمى نحورها ... لقد شقيت نفسي بكم وشقيت
ومن حجازيات الشريف الرضي رضي الله عنه:
أحبك ما أقام مني وجع ... وما أرسى بمكة أخشباها
وما اندفع الحجيج إلى المصلى ... يجرون المطي على وجاها
وما نحروا بخيف منى وكبوا ... على الأذقان مشعرة ذراها
نظرتك نظرة بالخيف كانت ... جلاء العين بل كانت قذاها
ولم يك غير موقفنا فطارت ... بكل قبيلة منا نواها
فواها كيف تجمعنا الليالي ... وآها من تفرقنا وآها
وأقسم بالوقوف على ألال ... ومن شهد الجمار ومن رماها
وأركان العتيق وبانييها ... وزمزم والمقام ومن سقاها
لأنت النفس خالصة فإن لا ... تكونيها لأنت إذن مناها
نظرت ببطن مكة أم خشف ... تبغم وهي ناشدة طلاها
فاعجبني ملامح منك فيها ... فقلت أخا الغريب أما تراها
فلولا أنني رجل حرام ... ضممت قرونها ولثمت فاها
ومنه قول جميل بثينة أيضاً:
قالت ويعش أخي وحرمة والدي ... لأنبهن القوم إن لم تخرج
فخرجت خيفة أهلها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تحرج
فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
النزيف بالنون والزاي - على فعيل - بمعنى منزوف ماؤه، يريد به المنزوف من الخمر، نزف من إنائه ومزج بالماء البارد، قاله العيني، والصواب أنه بمعنى العطشان الذي يبست عروقه وجف لسانه، والباء في (ببرد) زائدة كما في قوله: (تنبت بالدهن) ، فيكون الشرب مصدرا مضافا إلى فاعله، وبرد ماء الحشرج مفعوله. ومن العجيب أن العيني أعرب هذا الإعراب وفسر النزيف بذلك المعنى. والحشرج - بفتح الحاء المهملة وسكون الشين المعجمة وفتح الراء المهملة وبعدها جيم -: النقرة في الجبل يصفو فيها الماء.
الثالث وهو القسم بما يكون دعاء على نفسه، مثاله قول الشاعر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
قيل: معناه أكلت حراما، وقيل: يريد الدية، وأكلها أقبح الأشياء عند العرب.
وقول العباس بن الأحنف لما اتهمته فوز بجاريتها جمل:
زعم الرسول بأنني جمشته ... كذب الرسول وفالق الإصباح
إن كنت جشمت الرسول فصافحت ... كفاي كفي قابض الأرواح
وقول الآخر:
(1/222)
________________________________________
سل جزعي مذ نأيت عن حالي ... هل خطر الصبر لي على بال
لا غير الله سوء فعلك بي ... إن كنت أرضيت فيك عذالي
وقول البحتري في الفتح بن خاقان:
ألنت لي الأيام من بعد قسوة ... وعاتبت لي دهري المسيء فأعتبا
فلا فزت من مر الليالي براحة ... لئن كنت لم أصبح بشكرك متعبا
ومن كريم إيمان العرب قول حسان بن ثابت:
أوما إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري
وقال الشريف الرضي رضي الله عنه:
لا كنت من ريب الزمان بسالم ... إن كنت تسلم من يدي كفافا
بل لا التذذت من الزمان بشربة ... إن لم أعضك من الزلال ذعافا
ومنه قول الآخر:
لا فرج الله عن عيني برؤيته ... إن كنت أبصرت شيئا غيره حسنا
إلا خيال عسى إن نمت يطرقني ... وكيف يطرق من لاي عرف الوسنا
وما أبدع قول الآخر في مثل ذلك:
حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى ... وعوقبت بالهجران إن كنت كاذبا
والرابع وهو القسم بما يكون فيه هجاء وذم، مثاله قول أبي تمام يهجو ابن الأعمش:
بدلت بعد تأنس بتوحش ... وأعرت سمعك من يبلغ أو يشي
لا مت إن كان الذي بلغته ... حتى أرى في صورة ابن الأعمش
وقوله يهجوه:
إن كنت تطمع أن قلبي هائم ... بك أو تؤمل أنني لك ذاكر
فأنا الذي يعطي أسته من حاجة ... وأبوك قوادي وأنت الشاعر
وقوله يهجو مقران المباركي:
أما والذي غشى المبارك خزية ... يغني على الأيام ركب به ركبا
لقد ظل مقران يحك بعرضه ... قوافي شعر لو تأملها جربا
والخامس وهو الحلف بما يجري مجرى الغزل والتشبيب، مثاله قول ابن المعتز:
لا والذي سل من جفنيه سيف ردى ... قدت له من عذاريه حمائله
ما صارت مقلتي دمعا ولا وصلت ... غمضا ولا سالمت قلبي بلابله
وقوله:
أما وريق بارد وثغر ... شيبا بطعمي عسل وخمر
ما الموت إلا الهجر أو كالهجر وقول أبي وائل تغلب بن حمدان:
لا والذي جعل الموالي في الهوى خدم العبيد
وأصار في أيدي الظبا ... ء قياد أعناق الأسود
وأقام ألوية المني ... ة بين أفناء الصدود
ما الورد أحسن منظرا ... من حسن توريد الخدود
وقول العلوي الكوفي:
إني سألتك باختلاس اللحظ من تحت السجوف
وبما جنت تلك العيون ... على القلوب من الحتوف
وبسطوة المولى إذا ... أزرى على العبد الضعيف
لا تجمعي ضن البخيل ... وسطوة المولى العسوف
ومثل هذا يسمى القسم الاستعطافي عند النحاة.
وجمع منصور بن كيغلغ بين هذا النوع من القسم وبين النوع الأول فقال:
خنت الذي أهوى من الناس+ونمت عن جودي وعن بأسي
يوم أرى الدجن فلا أرتوي ... من ريق إلفي ومن الكأس
ومن بديع هذا النوع قول الخالديين الشاعرين وقد مدحا أبا الحسن محمد بن عمر الزيدي الحسني فأبطأ عليهما بالجائزة، وأراد الخروج إلى بعض الجهات، فدخلا عليه وأنشداه:
قل للشريف المستجار ... به إذا عدم المطر
وابن الأئمة من قري ... ش والميامين الغرر
أقسمت بالريحان وال ... نغم المضاعف والوتر
لئن الشريف مضى ولم ... ينعم لعبديه النظر
لنشاركن بني أمي ... ة في الضلال المشتهر
ونقول لم يغصب أبو بكر ولم يظلم عمر
ونرى معاوية إما ... ما من يخالفه كفر
ونقول إن يزيد ما ... قتل الحسين ولا أمر
ونعد طلحة والزبير من الميامين الغرر
ويكون في عنق الشري ... ف دخول عبديه سقر
فضحك من قولهما وأنجز لهما جائزتهما.
قلت: وعلى هذا الأسلوب نظم ابن منير قصيدته المشهورة التي انتهت الإشارة إليها في أسلوبها. وكان سبب نظمه لها أنه كان بينه وبين الشريف الموسوي نقيب الأشراف مودة أكيدة ومراسلات، لأن الشريف كان رئيس مذهب الإمامية، وكان ابن منير من كبار الإمامية وأجلاء طرابلس. فيقال: أنه أرسل إلى الشريف مرة بهدية مع عبد أسود له، فأرسل الشريف يعتبه، وكتب إليه: أما بعد، فلو علمت عددا أقل من الواحد، ولونا شرا من السواد لعثت به إلينا والسلام.
(1/223)
________________________________________
وكان الشريف معروفا بالشهامة وعلو الهمة، وكان ابن منير يهوى مملوكا له يسمى تتر، لا يفارقه في نوم ولا يقظة، حتى أنه متى اشتد غمه أو رمي بمحنة نظر إليه؛ فيزول ما به؛ فحلف أنه لا يرسل إلى الشريف هدية لا مع أعز الناس إليه، فجهز هدايا نفسية مع مملوكه تتر إلى الشريف وأخذ يقاسي مشاق فرقته، ويتجرع غصص بعاده. فلما وصل المملوك إلى الشريف توهم أنه من جملة الهدايا تعويضا من ذنب العبد الأسود فأمسكه. وطال الأمر على ابن منير فلم ير ما ينكي به الشريف، ويبعثه على إرسال مملوكه إلا إظهار النزوع عن التشيع، والدخول في مذهب السنة. وإن ذلك دليل أمر عظيم أخرجه من العقل حتى فارق مذهبه، فكتب إليه هذه القصيدة يذكر فيها وجده، ويقسم بالإيمان المحرجة، أنه إن لم يرد عليه مملوكه خرج عن مذهبه إلى التسنن، وفارق الحق إلى الباطل، ونزع عن الهدى إلى الضلال.
وهذه القصيدة بديعة في بابها، مع رقة ألفاظها وانسجاها، ولا بأس بإيرادها بجملتها هنا، على أننا لم نخرج بها عن نوع القسم من البديع، وهي:
عذبت طرفي السهر ... وأذبت قلبي بالفكر
ومزجت صفو مودتي ... من بعد بعدك بالكدر
ومنحت جثماني الضنى ... وكحلت جفني بالسهر
وجفوت صبا ما له ... عن حسن وجهك مصطبر
يا قلب ويحك كم تخا ... دع بالغرور وكم تغر
وإلام تكلف بالأغن من الظباء وبالأغر
ريم يفوق إن رما ... ك بسهم ناظره النظر
تركتك أعين تركها ... من بأسهن على خطر
ورمت فأصمت عن قسي لا يناط بها وتر
جرحتك جرحا لا يخي ... ط بالخيوط ولا الإبر
تلهو وتلعب بالعقو ... ل عيون أبناء الخزر
فكأنهن صوالج ... وكأنهن لها أكر
تخفي الهوى وتسره ... وخفي سرك قد ظهر
أفهل لوجدك من مدى ... يفضى إليه فينتظر
نفسي الفداء لشادن ... أنا من هواه على خطر
عذل العذول وما رآ ... هـ وحين عاينه عذر
قمر يزين ضوء صب ... ح جبينه ليل الشعر
وترى اللواحظ خده ... فيرى لهن به أثر
هو كالهلال ملثما ... والبدر حسنا إن سفر
ويلاه ما أحلاه في ... قلبي الشجي وما أمر
نومي المحرم بعده ... وربيع لذاتي صفر
بالمشعرين وبالصفا ... والبيت أقسم والحجر
وبمن سعى فيه وطا ... ف به ولبى واعتمر
لئن الشريف الموسوي ... ابن الشريف أبي مضر
أبدى الجحود ولم يرد إلي مملوكي تتر
واليت آل أمية الطه ... ر الميامين الغرر
وجحدت بيعة حيدر ... وعدلت عنه إلى عمر
وإذا جرى ذكر الصحا ... بة بين قوم واشتهر
قلت المقدم شيخ تي ... م ثم صاحبه عمر
ما سل قط ظبا على ... آل النبي ولا شهر
كلا ولا صد البتو ... ل عن التراث ولا زجر
وأثابها الحسنى ولا ... شق الكتاب ولا بقر
وبكيت عثمان الشهي ... د بكاء نسوان الحضر
وشرحت حسن صلاته ... جنح الظلام المعتكر
وقرأت من أوراق مص ... حفه البراءة والزمر
ورثيت طلحة والزبير بكل شعر مبتكر
وأزور قبرهما وأز ... جر من نهاني أو زجر
وأقول أم المؤمنين عقوقها إحدى الكبر
ركبت على جمل لتص ... بح من بنيها في زمر
وأتت لتصلح بين جيش المسلمين على غرر
فأتى أبو حسن وسل حسامه وسطا وكر
وأذاق إخوته الردى ... وبعير أمهم عقر
ما ضره لو كان كف وعف عنهم إذ قدر
وأقول أن أمامكم ... ولى بصفين وفر
وأقول إن أخطأ معا ... وية فما أخطأ القدر
هذا ولم يغدر معا ... وية ولا عمر مكر
بطل بسوءته يقا ... تل لا بصارم الذكر
وجنيت من رطب الخوا ... رج ما تتمر واختمر
وأقول ذنب الخارجي ... ن على علي مغتفر
لا ثائر بقتالهم ... في النهروان ولا أثر
والأشعري بما يؤو ... ل إليه أمرهما شعر
قال انصبوا لي منبرا ... فأنا البريء من الخطر
فعلا وقالت خلعت صا ... حبكم وأوجز واختصر
وأقول أن يزيد ما ... شرب الخمور ولا فجر
(1/224)
________________________________________
ولجيشه بالكف عن ... أبناء فاطمة أمر
والشمر ما قتل الحسي ... ن ولا ابن سعد ما غدر
وحلقت في عشر المحر ... م ما استطال من الشعر
ونويت صوم نهاره ... وصيام أيام أخر
ولبست فيه أجل ثو ... ب للمواسم يدخر
وسهرت في طبخ الحبو ... ب من العشاء إلى *****
وعدوت مكتحلا أصا ... فح من لقيت من البشر
ووقفت في وسط الطريق أقص شارب من عبر
وأكلت جرجير البقو ... ل بلحم جري الحفر
وجعلتها خير المآ ... كل والفواكه والخضر
وغسلت رجلي ضلة ... ومسحت خفي في السفر
أمين أجهر في الصلا ... ة بها كمن قبلي جهر
وأسن تسنيم القبو ... ر لكل قبر يحتفر
وإذا جرى ذكر الغد ... ير أقول ما صح الخبر
ولبست فيه من الملا ... بس ما اضمحل وما دثر
وسكنت جلق واقتدي ... ت بهم وإن كانوا بقر
وأقول مثل مقالهم ... بالفاشريا قد فشر
مصطيحتي مكسورة ... وفطيرتي فيها قصر
بقر يرى برئيسهم ... طيش الظليم إذا نفر
وخفيفهم مستثقل ... وصواب قولهم هذر
وطباعهم كجبالهم ... جبلت وقدت من حجر
ما يدرك التشبيب تغ ... ريد البلابل في *****
وأقول في يوم تحا ... ر له البصيرة والبصر
والصحف ينشر طيها ... والنار ترمي بالشرر
هذا الشريف أضلني ... بعد الهداية والنظر
فيقال خذ بيد الشر ... يف فمستقركما سقر
لواحة تسطو فما ... تبقي عليه ولا تذر
والله يغفر للمسي ... ء إذا تنصل واعتذر
إلا لمن جحد الوصي ... ولاءه ولمن كفر
فاخش أفله بسوء فعلك واحتذر كل الحذر
وإليكها بدوية ... رقت لرقتها الحضر
شامية لو شامها ... قس الفصاحة لافتخر
ودرى وأيقن أنني ... بحر وألفاظي درر
وبديعة كخريدة ... عذراء ترفل في الحبر
حبرتها فغدت كزه ... ر الروض باكره المطر
وإلى الشريف بعثتها ... لما قراها وانبهر
رد الغلام وما استمر على الجحود ولا أصر
وأثابني وجزيته ... شكرا وقال لقد صبر.
فلما وصلت القصيدة إلى الشريف ضحك وقال: قد أبطأنا عليه فهو معذور، ثم جهز المملوك مع هدايا حسنة. فمدحه ابن منير فقال:
إلى المرتضى حث المطي فإنه ... إمام على كل البرية قد سما
ترى الناس أرضا في الفضائل عنده ... ونجل الزكي الهاشمي هو السما
قيل إن ابن منير حين هادى الشريف، كان الشريف ببغداد، وقوله: وأقول مثل مقالهم، يفسره ما بعده من الكلمات المهملة التي يستعملها أهل دمشق في الخلاعة.
والمصطيحة: خشبة، في الأصل تجعل تحت دود القز، وأهل دمشق يسمون الصولجان المنقوش مصطيحة. ولقد تطرف في الخلاعة والمجون حيث قلب اللفظ فنسب القصر إلى الفطيرة، والكسر إلى المطيحة، والمستعمل العكس. فإنهم يضعون الصوالج قائمة، فمن جاء صولجانه قصيرا أخرج من اللعبة، فيقول: مصطيحتي قصيرة. وكذا من لعب الفطيرة يرد من كانت فطيرته مكسورة.
وقوله: إلى الشريف بعثتها إلى آخره. وقد يتوهم أنه ملحق بالقصيدة وأنه قاله بعد رد المملوك، وليس كذلك، وإنما قاله تفاؤلا وحسن ظن بالشريف، واعتمادا على علو همته، وهذا من دهاء ابن منير لعلمه بسجايا الشريف.
قلت: وكثير من الناس يظن أن الشريف المذكور هو أبو القاسم علي بن الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين، الشهير بالشريف المرتضى علم الهدى - أخو الشريف الرضي رحمه الله - وليس به، فإن ابن منير متأخر عن الشريف المرتضى، ولم يدرك زمانه قطعا، لأن وفاة الشريف المرتضى المذكور يوم الأحد الخامس من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة، فيكون موت الشريف المرتضى قبل أن يخلق ابن منير بنحو من سبع وثلاثين سنة، فيتعين أن يكون الشريف الذي خاطبه ابن منير غير سيدنا الشريف المرتضى علم الهدى رحمهم الله جميعا.
(1/225)
________________________________________
وابن منير هذا هو أبو الحسن أحمد بن منير بن مفلح الطرابلسي الملقب مهذب الملك، عين الزمان، الشاعر المشهور. قال ابن خلكان في الوفيات: من محاسن شعره القصيدة التي أولها - قلت: وفيه مثال النوع الرابع من القسم وهو الواقع في الغزل والتشبيب -:
من ركب البدر في صدر الرديني ... وموه ***** في حد اليماني
وأنزل النير الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني
طرف رنا أم قراب سل صارمه ... وأغيد ماس أم أعطاف خطي
أذلني بعد عز والهوى أبدا ... يستعبد الليث للظبي الكناسي
أما وذائب مسك من ذوائبه ... على أعالي القضيب الخيزراني
وما يجن عقيقي الشفاه من ال ... ريق الرحيقي والثغر الجماني
لو قيل للبدر من في الأرض تحسده ... إذا تجلى لقال ابن الفلاني
أربى علي بشتى من محاسنه ... تألفت بين مسموع ومرئي
إباء فارس في لين الشآم مع ال ... ظرف العراقي والطرف الحجازي
وما المدامة في الألباب أفتك من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركي
وأما الخالديان اللذان حذا ابن منير حذوهما في قصيدته التترية المذكورة، فهما: أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم.
قال الثعالبي في يتيمة الدهر: إن هذان لساحران، يغربان فيما ي***ان ويبدعان فيما يصنعان. وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب، مثلما ينظمهما من أخوة النسب؛ فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة؛ ويشتركان في قرض الشعر وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان. وكانا في التساوي والتشابك والتشاكل والتشارك.
كما قال أبو تمام:
رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاء
بل كما قال البحتري:
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موع فرقد عن فرقد
بل كما قال أبو إسحاق الصابي فيهما:
أرى الشاعرين الخالديين سيرا ... قصائد يفنى الدهر وهي تخلد
جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومر جدال بينهم يتردد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلا بالتي هي أرشد
هما في اجتماع الفضل زوج مؤلف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد
كذا فرقدا الظلماء لما تشاكلا ... علا أشكلا هذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله في اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد
وما أعدل هذه لحكومة من أبي إسحاق فما منهما إلا محسن يحطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاد بمحاسنه وبدائعه الإفراد.
فمن محاسن شعر أبي بكر وهو الأكبر منهما قوله:
لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج ... لأرتك سالفتي غزال أدعج
أرعى النجوم كأنها في أفقها ... زهر الأقاحي في رياض بنفسج
والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المترجرج
مسمار تبر أصر ركبته ... في فص خاتم فضة فيروزج
وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى ... ميلان شارب قهوة لم تمزج
وتنقبت بخفيف غيم أبيض ... هي فيه بين تخفر وتبرج
كتنفس الحسناء في المرآة إذ ... كملت محاسنها ولم تتزوج
وقوله:
حور رحلن وقد جعلن وداعنا ... بمدامع نطقت ونحن سكوت
فعيونها سبج ونثر دموعها ... درر وحمر خدودها ياقوت
وقوله في مرثية الحسين عليه السلام:
إذا تفكرت في مصابهم ... أثقب زند الهموم قادحه
بعضهم قربت مصارعه ... وبعضهم بعدت مطارحه
أظلم في كربلاء يومهم ... ثم تجلى وهم ذبائحه
لا برح الغيث كل شارقة ... تهمي غواديه أو روائحه
على ثرى حله غريب رسو ... ل الله مجروحة جوارحه
ذل حماه وقل ناصره ... ونال أقصى مناه كاشحه
ومنها:
عفرتم بالثرى جبين فتى ... جبريل بعد الرسول ماسحه
يطل ما بينكم دم ابن رسو ... ل الله وابن السفاح سافحه
سيان عند الأنام كلهم ... خاذله منكم وذابحه
ومن محاسن شعر أبي عثمان قوله:
نيل المطالب بالهندية البتر ... لا بالأماني والتأميل للقدر
(1/226)
________________________________________
فإن عفا طلل أو بان ساكنه ... فلا تقف فيه بين البث والفكر
في شمك المسك شغل عن مذاقته ... وفي سنا الشمس ما يغني عن القمر
لو لم أكن مشبها للناس في خلقي ... لقلت أني من جيل سوى البشر
ومنها:
تزيدني قسوة الأيام طيب ثنا ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
ألفت من حادثات الدهر أكبرها ... فما أعوج على أطفالها الأخر
لا شيء أعجب عندي في تباينه ... إذا تأملته من هذه الصور
أرى ثيابا وفي أثنائها بقر ... بلا قرون وذا عيب على البقر
قالت رقدت فقلت الهم أرقدني ... والهم يمنع أحيانا من السهر
كم قد وقعت وقوع الطير في شرك ... فضعضعت همتي منها قوى المرر
أصفو وأكدر أحيانا لمختبري ... وليس مستحسنا صفو بلا كدر
إني لأسير في الآفاق من مثل ... فرد وأملأ للآماق من قمر
إذا تشككت فيما أنت مبصره ... فلا تقل أنني في الناس ذو بصر
وكيف يفرح إنسان بمقلته ... إذا نضاها ولم تصدقه في النظر
لقد فرحت بما عانيت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
وربما ابتهج الأعمى بحالته ... لأنه قد نجا من طيرة العور
ولست أبكي لشيب قد بليت به ... يبكي على الشيب من يأسى على العمر
كن من صديقك لا من غيره حذرا ... إن كان ينجيك منه شدة الحذر
ما أطمئن إلى خلق فأخبره ... إلا تكشف لي عن سوء مختبر
لقد نظرت إلى الدنيا بمقلتها ... فاستصغرتها عيوني غاية الصغر
وما شكرت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدري
لا عار يلحقني إني بلا نشب ... وأي عار على عين بلا حور
فإن بلغت الذي أهوى فعن قدر ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر
ولقد طال بنا الشرح بسبب هذا الاستطراد، على أن الاستطراد من البديع، فلم نخرج عما نحن فيه على كل حال، ولنعد إلى تمام الكلام على نوع القسم فنقول: إن من قبيحه قول القاضي عبد الله بن محمد الخليجي:
برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ... أتاك به الواشون عني كما قالوا
ولكنهم لما رأوك غرية ... بهجري تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذنا للوشاة سميعة ... ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
وبسبب هذا القسم القبيح عزل القاضي المذكور من منصبه، ومني بنكد العيش ونصبه.
قال الصفدي في شرح رسالة ابن زيدون: كان القاضي الخليجي المذكور ابن أخت علوية المغني، وكان تياها صلفا، تقلد القضاء للأمين، وكان علوية عدوا له، فجرت له قضية في بغداد فاستعفى من القضاء، وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة، فولي قضاء دمشق أو حمص. ولما تولى المأمون الخلافة، غناه يوما علوية بشعر الخليجي المذكور، فقال له المأمون: من يقول هذا الشعر؟ قال: قاضي دمشق، فأمر المأمون بإحضاره فأشخص. وجلس المأمون للشرب وأحضر علوية، ودعا بالقاضي، فقال له: أنشدني الأبيات، فقال: يا أمير المؤمنين هذه أبيات قلتها منذ أربعين سنة وأنا صبي. والذي أكرمك بالخلافة، وورثك ميراث النبوة ما قلت شعرا منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد، أو عتاب صديق. فقال له: اجلس، فجلس، فناوله قدح نبيذ كان في يده، فأرعد وبكى وأخذ القدح من يده وقال: والله يا أمير المؤمنين ما غيرت الماء بشيء قط مما يختلف في تحليله فقال: لعلك تريد نبيذ التمر أو الزبيب؟، فقال: والله يا أمير المؤمنين لا أعرف شيئا من ذلك، فأخذ المأمون القدح من يده وقال: والله لو شربت شيئا من هذا لضربت عنقك، ولقد ظننت أنك صادق في قولك كله، ولكن لا يتولى لي القضاء رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام، انصرف إلى منزلك. وأمر علوية فغير هذه الكلمة وجعل مكانها (حرمت منالي منك) .
(1/227)
________________________________________
قال الصفدي - بعد نقله ذلك -: ما جرى للمأمون عفا الله عنه مع هذا القاضي المسكين على خلاف المعهود من حلمه ومن مكارم أخلاقه، وكان غير هذا الفعل أولى به، ولكنه صان منصب القضاء ووفره وأجله فعفا الله عنه. وأما هذا القاضي الخليجي، فقد اختلج في خاطرة من الوشاة ما أضر به عند محبوبته وعند الخليفة، وهذا من كهانة الشعر، ومما يتفق وقوعه للشاعر بعد مدة مديدة. وأما علوية فاعله الله، ولا أعلى له كعبا فقد أضر بحاله، وعطله من حلي القضاء. انتهى.
وقد مر مثل هذا القسم في نوع الجناس التام، وهو قول العلامة السيّد ماجد البحراني رحمه الله:
وذو هيف ما البدر يوما ببالغ ... مدى وجنتيه في احمرار ولا نشر
برئنا من الإسلام إن سيم وصله ... علينا بما فوق النفوس ولا نشري
وأما أرباب البديعيات فبنوا أبياتهم على النوع الأول من أنواعه، وهو المبني على الفخر والتعاظم وعلو الهمة.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله قوله:
لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا بر التقى قسمي
يقال: هو ابن بجدتها - بفتح الباب الموحدة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة - للعالم بالشيء، وللدليل الهادي، ولمن لا يبرح عن قوله (قاله في القاموس) . وقال الجوهري: يقال (عنده بجدة ذلك) بالفتح أي علم ذلك، ومنه قيل للعالم بالشيء المتقن له: هو ابن بجدتها.
قال ابن حجة: هذا البيت فيه نقص، لأنه غير صالح للتجريد، ولم يأت ناظمه بجوابه إلا في بيت الاستعارة الذي ترتب بعده وهو:
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم
وأصحاب البديعيات شرطوا أن يكون كل بيت شاهدا على نوعه بمجرده، وإذا كان البيت له تعلق بما قبله، أو بما بعده، لا يصلح أن يكون شاهدا على ذلك النوع. انتهى.
قلت: أما نقصه من حيث تعلقه بما بعده لارتباطه القسم بجوابه فصحيح وأما من حيث عدم صلاحيته لكونه شاهدا على النوع المذكور فممنوع، لأن المستشهد عليه به هو القسم فقط، وهو قائم بالبيت المذكور، لا القسم وجوابه.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
برئت من سلفي والشم من هممي ... إن لم أدن بتقي مبرورة القسم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
برئت من أدبي والغر من شيمي ... إن لم أبر بنأي عنهم قسمي
لا يخفى أن المصراع الأول من هذا البيت من صدر بيت الشيخ عز الدين الموصلي.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا البيت في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
لا أسفر العلم لي عن وجه مشكلة ... إن لم أصغ قسما لفظي لمدحهم
تأمل قوله: إن لم أصغ قسما، ما معناه؟ فإن أراد بقوله: قسما، إنه تمييز لقوله: لا أسفر العلم لي عن وجه مشكلة، فلا أظن مثل هذا التركيب ورد في كلام العرب.
وبيت بديعيتي هو قولي - والخطاب للنفس المقدم ذكرها في باب العتاب قبله -:
لا بر صدقي وعزمي في العلى قسمي ... إن لم أردك رد الخيل باللجم
والشيخ شرف الدين المقري اقتفى أثر الشيخ صفي الدين الحلي في بيته فأتى بالقسم في بيت وجوابه في البيت الذي يتلوه فقال:
لا أسفرت لي وجوه المشكلات ولا ... حللت عقدة معنى غير منفهم
قوله: منفهم، اسم فاعل من أنفهم، مطاوع فهمته، لكنهم صرحوا: أن انفعل مطاوع فعل يختص بالعلاج والتأثير. قال النظام النيسابوري في شرح الكافية: كأنهم لما خصوه بالمطاوعة التزموا أن يكون من أفعال الجوارح، لتكون مطاوعته جلية عند الحس، بخلاف ما لو كان من المعاني فإن مطاوعته قد تخفى. ولهذا لا يقال علمته فانعلم. انتهى بنصه، فظهر لك أن قوله: منفهم غير صواب، لأنه كما لا يقال علمته فانعلم، كذلك لا يقال: فهمته فانفهم، إذ علة المنع فيها واحدة. وقال في القاموس: استفهمني فأفهمته وفهمته، وانفهم لحن. انتهى والله أعلم.

حسن التخلص
وقد هديت إلى حسن التخلص من ... غي النسيب بمدحي سيد الأمم
(1/228)
________________________________________
حسن التخلص - هو الموضع الثاني من المواضع الأربعة التي نبه مشايخ البديع على وجوب التأنق فيها، وهو عبارة عن أن ينتقل المتكلم مما ابتدأ به الكلام من غزل، أو نسيب، أو فخر، أو وصف، أو غير ذلك إلى المقصود؛ على وجه سهل برابطة ملائمة؛ وجهة جامعة مقبولة يختلس به المقصود اختلاسا رشيقا، بحيث لا يتفطن السامع للانتقال من المعنى الأول إلا وقد رسخت ألفاظ المعنى الثاني في السمع، وقر معناه في القلب لشدة الالتئام بينهما، وأحسنه ما كان في بيت واحد، وما كان من الغزل إلى المدح، وإنما كان هذا الموضع من المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها، لأن السامع مترقب للانتقال من الافتتاح إلى المقصود كيف يكون، فإذا كان حسنا متلائم الطرفين حرك من نشاط السامع، وأعان على إصغاء ما بعده، وإلا فبالعكس، وقد تقدم الفرق بين التخلص والاستطراد في نوع الاستطراد.
ثم التخلص إنما اعتنى به المولدون ثم المتأخرون فلهجوا به كثيرا لما فيه من البراعة والدلالة على قوة عارضة الشاعر وملكته، وأما المتقدمون من الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين فهو عزيز في كلامهم، نزر الوجود وإن وقع منهم فإنما يقع على سبيل الندرة، ومذهبهم في الانتقال إلى المدح الذي جروا عليه في غالب مدائحهم إنما هو الاقتضاب الآتي بيانه: فمن المخالص الواردة في كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى، وهو من بديع التخلص:
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم
قال ابن حجة: انظر إلى هذا العربي القديم كيف أحسن التخلص من غير اعتناء في بيت واحد، وهذا هو الغاية القصوى عند المتأخرين الذين اعتوا به، وعلى كل تقدير فمن كلام العرب استنبط كل فن، فإنهم ولاة هذا الشأن، لكنهم كانوا يؤثرون عدم التكلف؛ ولا يرتكبون من فنون البديع إلا ما خلا من التعسف. انتهى.
ومها قول حسان بن ثابت في التخلص من الغزل إلى الحماسة:
قولي لطرفك أن يكف عن الحشا ... سطوات نيران الهوى ثم اهجري
وانهي جمالك أن ينال مقاتلي ... فينال قومك سطوة من معشري
إني من القوم الذين جيادهم ... طلعت على كسرى بريح صرصر
غير أن هذا المعنى معيب عند سماسرة الأدب الناسلين إليه من كل حدث فإن المتغزل لا يليق به الافتخار على محبوبته، ولا أخذ الثار منها، فإن دم المحب هدر.
وهذا كما عيب على الفرزدق قوله:
يا أخت ناجية بن سامة إنني ... أخشى عليك بني إن نذروا دمي
قالوا: ما للمتغزل وذكر الثأر؟.
وقول ربيعة بن مقروم أحد بني ضبة، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، يمدح مسعود بن سالم، وهو حسن التخلص أيضاً:
وجسرة أجد قدمى مناسمها ... أعملتها بي حتى تقطع البيدا
كلفتها فرأت حتما تكلفها ... ظهيرة كأجيج النار صيخودا
في مهمة قذف يخشى الهلاك به ... أصداؤه لا تني بالليل تغريدا
لما تشكت إلي الأين قلت لها ... لا تستريحين ما لم ألق مسعودا
ومن المخالص الواردة في كلام الإسلاميين قول الفرزدق وهو أحسن مخلص سمع لإسلامي:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الليل وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب
إذا آنسوا نارا يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
وقول المغيرة بن حبناء - بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة وبعد النون ألف ممدودة - وهي أمه - على ما في القاموس - لا أبوه كما زعم صاحب الأغاني، والحبناء الضخمة البطن، وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، يمدح المهلب بن أبي صفرة:
حال الشجا دون طعم العيش والسهر ... واعتاد عينك من إدمانها الدرر
واستحقبتك أمور كنت تكرهها ... لو كان ينفع منها النأي والحذر
وفي الموارد للأقوام مهلكة ... إذا الموارد لم يعلم لها صدر
أمسى العباد بشر لا غياث لهم ... إلا المهلب بعد الله والمطر
كلاهما طيب ترجى نوافله ... مبارك سيبه يرجى وينتظر
ومن محاسن مخالص المولدين قول أبي قابوس الحميري في يحيى البرمكي:
أجدك ما تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
لهوت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يمدح جعفر
وقول مسلم بن الوليد:
(1/229)
________________________________________
يقول صحبي وقد جدوا على عجل ... والخيل تستن بالركبان في اللجم
أمغرب الشمس تنوى أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الكرم
قال الصفدي: وهذا في غاية الحسن التي تكبو الفحول دون بلوغها وتعجز الشعراء عن الظفر بمصونها والتحلي بمصوغها.
وقد أخذه أبو تمام فأغار على اللفظ والمعنى، وقال في مخلص قصيدة يمدح بها عبد الله بن طاهر ذي اليمينين الخزاعي:
يقول في قومسٍ صحبي وقد أخذت ... منا السرى وخطا المهرية القود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود
وأخذه أبو إسحاق الغزي أيضاً وسبكه لما قال:
تقول إذا حثثناها وظلت ... تناجينا بألسنة الكلال
إلى أفق الهلال مسير ركبي ... فقلنا بل إلى أفق النوال
فأين معالي الشمس ممن يحاول، وأين الثريا من يد المتناول
ومن محاسنها أيضاً قول أبي نواس:
وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكأس
وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس
وإذا أردت مديح قوم لم تمن ... في مدحهم فامدح بني العباس
وقوله في مخلص قصيدة يمدح بها الخصيب بن عبد الحميد صاحب الخراج بمصر، أولها:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
فإن كنت لا خلما ولا أنت زوجة ... فلا برحت دوني عليك ستور
وجاورت قوما لا تزاور بينهم ... ولا وصل لا أن يكون نشور
فما أنا بالمشغوف ضربة لازب ... ولا كل سلطان علي قدير
وإني لطرف العين بالعين زاجر ... وقد كدت لا يخفى علي ضمير
يقول: أزجر بعيني عيون الناس فاعلم ما في ضمائرهم. وبعده:
تقول التي من بيتها خف محملي ... عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتى بعد الخصيب تزور
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور
وهي قصيدة طويلة بليغة أحسن فيها كل الإحسان.
يروى: أنه لما قدم أبو نواس على الخصيب بمصر صادر في مجلسه جماعة من الشعراء ينشدون مدائح لهم فيه، فلما فرغوا قال الخصيب: ألا تنشدنا أبا علي؟ فقال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصى موسى تلقف ما يأفكون. فأنشده هذه القصيدة، فلما فرغ من إنشادها أمر أن يملأ فمه جوهرا.
وفي كتاب آداب الغرباء: أن أبا نواس كان عائدا من الشام إلى بغداد قال: فإني على ظهر فرسي إذ ترتمت بهذه الأبيات (تقول التي من بيتها خف محملي- الأبيات) قال: فسمعت من ورائي شهقة، فالتفت فإذا شيخ عليه أطمار رثة يقود فرسا أعجف، فقال لي: أعد يا أبا نواس هذه الأبيات، فأعدتها، قال: فيمن هذه؟ قلت امتدحت بها الخصيب أمير مصر، قال: ما أرفدك؟ قلت أنه ملأ فمي جوهرا بعته بمائة ألف درهم، قال: أتعرفه؟ قلت: نعم، قال: إني والله الخصيب. فلما عرفته نزلت عن دابتي وقبلت يده ورجله، فقال: لا تفعل. ثم سألته عن سبب تغير أمره فقال لي: قولك (الدائرات تدور) . قال: فدفعت إليه جميع ما معي من مركوب ونفقة وثياب، وسألته قبولها، فأبى وقال: والله لا أخذت من يد أرفدتها. ثم ركب دابته وتركني ومضى. انتهى.
ومن محاسن التخلص للمولدين أيضاً قول ابن المعتز:
قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي
والله لا كلمتها ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
وقول علي بن الجهم:
وليلة كحلت بالنفس مقلتها ... ألقت قناع الدجى في كل أخدود
قد كاد يغرقني أمواج ظلمتها ... لولا اقتباسي سنىً من وجه داود
وقوله أيضاً يذكر سحابة:
أتتنا بها ريح الصبا فكأنها ... فتاة تزجيها عجوز تقودها
فما برحت بغداد حتى تفجرت ... بأودية ما تستفيق مدودها
فلما قضت حق العراق وأهله ... أتاها من الريح الشمال بريدها
فمرت تفوت الطرف سعيا كأنها ... جنود عبيد الله ولت بنودها
(1/230)
________________________________________
يريد انصراف عبد الله بن خاقان عن الجعفري إلى سر من رأى عند قتل المتوكل.
وقول ديك الجن وهو من معاصري أبي نواس:
وغرير يقضي بحكمين في ال ... راح بجور وفي الهوى بمحال
للنقا ردفه وللخوط ما حم ... ل لينا وجيده للغزال
فعلت مقلتاه بالصب ما تف ... عل جدوى يديك بالأموال
وقول أبي تمام: ت
خلق أظل من الربيع كأنه ... خلق الإمام وهدية المتيسر
وقوله أيضاً:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي
وتنظري خبب الركاب ينصها ... محي القريض إلى مميت المال
هذه المطابقة في هذا المخلص زادته رونقا وبهجة، وسلكت به من كمال الحسن نهجه.
وقوله يمدح إسحاق بن إبراهيم:
صب الفراق علينا صب من كثب ... عليه إسحاق يوم الروع منتقما
وقوله:
ودع فؤادك توديع الفراق فما ... أراه من سفر التوديع منصرفا
يجاهد الشوق طورا ثم يجذبه ... جهاده للقوافي في أبي دلفا
قوله:
فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنوا العباس
وقول أبي عبادة البحتري:
كأن سناها بالعشي لصحبها ... تبسم عيسى حين يلفظ بالوعد
وأحسن من هذا قول محمد بن وهيب الحميري من قصيدة يمدح بها المأمون:
ما زال يلثمني مراشفه ... ويعلني الإبريق والقدح
حتى استرد الليل خلعته ... وفشا خلال سواده وضح
وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح
وقول أبى الطيب المتنبي:
نودعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
وقوله أيضاً:
مرت بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا
وقوله أيضاً:
ومقانب بمقانب غادرتها ... أقوات وحش كن من أقواتها
أقبلتها غرر الجياد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها
وقوله أيضاً:
إذا صلت لم أترك مصالا لفاتك ... وإن قلت لم أترك مقالا لعالم
وإلا فخانتني القوافي وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
وقوله أيضاً:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
وقوله أيضاً:
خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومني القصائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد
وقوله من قصيدة يمدح بها علي بن أحمد بن عامر الإنطاكي، وتخلص إلى المدح بذكر جده عامر. وغلط ابن حجة إذ قال (يمدح علي بن عامر، ويعرض بذكر أبيه عامر ويمدحه بعد وفاته) :
ويوم وصلناه بليل كأنما ... على أفقه من برقه حلل حمر
وليل وصلناه بيوم كأنما ... على متنه من دجنه حلل خضر
وغيث ظننا تحته أن عامرا ... علا لم يمت أو في السحاب له قبر
أو ابن ابنه الباقي علي بن أحمد ... يجود به لو لم أجز ويدي صفر
يقول: لو لم أجز هذا الغيث ويدي خالية، لقلت أن الممدوح هو الذي يجود به، ولكن لما جزت ويدي صفر علمت أنه جود لا جود.
وقوله أيضاً:
حدق لاحسان من الغواني هجن لي ... يوم الفراق صبابة وغليلا
حدق يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا
يذم، أي يعطي الذمام، بمعنى يجير. يقول: إن الممدوح يجير من كل ما يقتل الناس سوى هذه الأحداق.
وقول السري الرفاء، وهو من معاصري المتنبي:
عصر مزجت شمائلي بشموله ... وظلاله ممزوجة بشماله
حتى حسبت الورد من أشجاره ... يجنى أو الريحان من آصاله
وكأنني لما ارتديت ظلاله ... جار الوزير المرتدي بظلاله
وقوله من أخرى:
أكني عن البلد ****** بغيره ... وأرد عنه عنان قلب مائل
وأود لو فعل الحيا بسهوله ... وحزونه فعل الأمير بآمل
وقوله من أخرى:
وركائب يخرجن من غلس الدجى ... مثل السهام إذ مرقن مروقا
والفجر مصقول الرداء كأنه ... ***اب خود أشربته خلوقا
أغمامة بالشام شمن بروقها ... أم شمن من شيم الأمير بروقا
(1/231)
________________________________________
وقول أبي الفرج الببغا في الوزير أبي نصر سابور بن أردشير:
لمت الزمان على تأخير مطلبي ... فقال ما وجه لومي وهو محظور
فقلت لو شئت ما فات الغنى أملي ... فقال أخطأت بل لو شاء سابور
وقول السلامي من قصيدة فيه:
ما حق هذا الربع إذ فيه الهوى ... أن يستضام بوقفة المستعجل
كل إن حصرت إلى الدموع سؤاله ... فالدمع أفصح من سؤال المنزل
يا هذه إن لم يكن لك نائل ... فعدي وإن لم تجملي فتجملي
جودي وإن لم تحسني فتعلمي الإ ... حسان من كرم الوزير المفضل
وقول أحمد بن المغلس من قصيدة فيه أيضاً:
أبروق تلألأت أم ثغور ... وليال دجت لنا أم شعور
وغصون تأودت أم قدود ... حاملات رمانهن الصدور
طالعات من السجوف على الرك ... ب بدور أبرزنهن الخدور
مثقلات أردافهن ولكن ... مرهفات من فوقهن الخصور
مطمعات في وصلهن ودون ال ... وصل إن رمته دماء تمور
عز منهم ما يرام عز جناب يحل فيها لوزير
وقول أبي (عبد الله) الحسين بين حجاج من قصيدة في أبي تغلب وقد توجه من الموصل إلى بغداد أولها:
أفضض الدن واسقني يا نديمي ... اسقني من رحيقه المختوم
اسقني الخمرة التي نزلت في ... ها على القوم آية التحريم
اسقنيها ولا تكلني إلى النق ... ل عليها ولا إلى المشموم
بادر الصبح بالصبيحة وجها ... فابنة الكرم شرط كل كريم
ثم قل للشمال من أين يا ري ... ح تحملت روح هذا النسيم
أترى الخضر مر لي فيك أم جزت برضوان في جنان النعيم
أم تقدمت والأمير أبو تغ ... لب قد جد عزمه في القدوم
وقوله من أخرى: ت
ومهاة غريرة ... غضة الحسن ناهد
فتنتني بمقلة ... وبكف وساعد
وبثغر منضد ... شنب الريق بارد
ونسيم كأنه اشتق من نشر صاعد
فهو طيبا كذكره ... في الثنا والمحامد
وأما سائر تخلصاته التي جرى فيها على مذهبه المشهور من السخف والمجون فهو كما قيل: ما شق له فيه غبار، ولا باراه أحد في ذلك إلا وبار. بيناه يهدر سخفا، إذ به قد رفع إلى المديح سجفا، يتصل مديحه بمجونه، اتصال الزهر بغصونه، والحديث بشجونه، ويتحد منه الجد بالهزل؛ اتحاد الذل بالعزل، والجدب بالأزل، غير أننا ننزه هذا الشرح الشريف عن مثل ذلك السخف السخيف.
وأحشم ما نذكر له من ذلك قوله:
فقلت يا سيدتي ... أحسنت لا فجعت بك
أحسنت يا أوسع من ... فتوح مولانا الملك
ومن مخالص الشريف الرضي رضي الله عنه قوله:
يؤمل الناس أن يبقوا وما علموا ... أن الفتى ليد الأقدار مولود
شغلت بالهم حتى لا يفرحني ... لولا الخليفة نوروز ولا عيد
وقوله من قصيدة في صديق له:
ولأرحلن العيس مرحلة ... عوجاء بين القور والوهد
علي ألاقي من أسر به ... ويقل عند لقائه كدي
وأتوب من ذم الزمان إذا ... علقت يداي يدي أبي سعد
وقوله من قصيدة يمدح بها الملك بهاء الدولة، أولها:
أين الغزال الماطل ... بعدك يا منازل
قد بان حالي سر به ... فلم أقام العاطل
من لقتيل الحب لو ... رد عليه القاتل
يجرحه النبل ويه ... وى أن يعود النابل
وما أحسن قوله منها:
ما ضر ذي الأيام لو ... أن البياض الناصل
كل حبيب أبدا ... أيامه قلائل
ظل وكم يبقى على ... فوديك ظل زائل
ما أحسن تشبيه سواد الشعر بالظل، وما أبدع هذا المعنى وأبرعه، وأحلاه في النفس وأوقعه، وأعجب لهذا المعنى الطويل، في هذا اللفظ القليل، وهذه الغاية التي تكبو دونها الفحول، وترى طوامح الأبصار إليها كأنها حول.
وبعده:
لقد رأى بعارضي ... ك ما يحب العاذل
واسترجعت عنك اللحاظ الخرد العقائل
وأغمدت عنك نص ... ول الأعين القواتل
إلى أن قال:
سقى ليالي الداجو ... ن برقة سلاسل
يخلفه على الربى ال ... نوار والخمائل
تكسى العواري وتح ... لى بعده العواطل
كأنما يمطره ... ملك الملوك العادل
هو الحيا وفي الحيا ... من جوده شمائل
(1/232)
________________________________________
ومن مخالصه التي ما سبق إليها، ولا زاحمه وارد عليها قوله:
عني إليك فما الوصال بنافع ... من لا يعذب قلبه بغرام
ما كنت أسمح بالسلام لمعرض ... وعلى أمير المؤمنين سلامي
الذي أقوله: أنه طفر من الشطر الأول إلى الثاني طفرة النظام، مع كمال التناسب البديع النظام. فإن المناسبة بين فخره، وبين السلام على أمير المؤمنين، هي الغاية القصوى في هذا العقد الثمين.
ومن مخالص تلميذه مهيار بن مرزويه الكاتب رحمه الله من قصيدة يمدح بها زعيم الملك يقول فيها:
رمى كبدي وراح وفي يديه ... نضوح دمي فقيل هو الجريح
وأرسل لي مع العواد طيفا ... يرى كرما ومرسله شحيح
إلى أن قال وتخلص:
فما لك يا خيال خلاك ذم ... أتاحك لي على اليأس المتيح
وكيف وبيننا خبتا زرود ... قربت عليك والبلد الفسيح
أعزم من زعيم الملك تسري ... به أم من ندى يده تميح
وقوله من أخرى في عميد الرؤساء أبي طالب بن أيوب:
شأنك يا بن الصبوات فالتمس ... غيري أخا لست لهن ولدا
مولاك من لا يخلق الشوق له ... وجدا ولا طول البعاد كمدا
كان كما يشهد من عفافه ... على المشيب يافعا وأمردا
موقرا متعظا شبابه ... كأنه كان مشيبا أسودا
تحسبه نزاهة وكرما ... ومجد نفس بابن أيوب اقتدى
وقوله من أخرى يهني فيها نقيب النقباء أبا القاسم بعقد نكاح، أولها:
طرف نجدية وظرف عراقي ... أي كأس يديرها أي ساق
سنحت والقلوب مطلقة تر ... عى وغابت وكلها في وثاق
لم تزل تخدع العيون إلى أن ... علقت دمعة على كل ماق
ولم يزل مهيار يخدع القلوب برقة هذا التشبيب إلى أن قال:
بين آمالنا ببغداد والنج ... ح مدى بين رمية وفواق
ضمنت حورها لنا العيش والصا ... حب فيها الكفيل بالأرزاق
وقوله في أخرى في الصاحب أبي القاسم الحسين بن عبد الرحيم، أولها:
دمعي وإن كان دما سائلا ... فما أسوم الدية القاتلا
من حكم الألحاظ قي قلبه ... دل على مقتله النابلا
سل نافث ***** بنجد متى ... حول نجد بعدنا بابلا
وناد لمياء سهرنا لها ال ... ليل فلم نحرز به طائلا
ديني على فيك فلا تقنعي ... وهو مليء أن يرى ماطلا
إلى أن قال:
لو جمع الرأي بجمع لنا ... لم نرج من نعلمه باخلا
أو كان في الكرب الحسين انبرت ... كفاه أو علمك النائلا
وقوله من أخرى في الوزير أبي سعد بن عبد الرحيم:
وكان يضيء لي أملي فأسري ... فقد أضللت في الليل البهيم
كأني لم أنط بالنجم همي ... ولم أركب إلى العلياء عزيمي
ولم أهتك دجنة كل خطب ... بفجر من بني عبد الرحيم
وقوله من أخرى في المهذب أبي منصور الكاتب، منها:
ولائم ملتفت عن صبوتي ... ينكرها ولو أحب لصبا
إذا نسبت بهواي ساءه ... مصرحا وإن كنيت غضبا
وما عليه إن غرمت بابلا ... بحاجز وفاطما بزينبا
يلومني لا مات إلا لائما ... أو عاش عاش بالهوى معذبا
قال عشقت أشيبا يعدها ... منقصة نعم عشقت أشيبا
هل شعر بدلته بشعر ... مبدل بأرب لي أربا
إلى أن قال:
ما أكثر الناس وما أقلهم ... وما أقل في القليل النجبا
ليتهم إذ لم يكونوا خلقوا ... مهذبين صحبوا المهذبا
وقوله من أخرى في الوزير أبي سعد، مطلعها:
لو كان يرفق ظاعن بمشيع ... ردوا فؤادي يوم كاظمة معي
قالوا النوى فخرجت وهو مصاحبي ... ورجعت وهو مع الخليط مودعي
فلأيما من مهجتي تأسفي ... ولأي قليب الغداة تفجعي
ولم يزل مطلقا عنان البيان، في مضمار هذا الإحسان، إلى أن أحرز قصبات السبق بقوله فيها:
إن شاء بعدهم الحيا فلينسكب ... أو شاء ظل غمامة فليقلع
فمقيل جسمي في ذيول ربوعهم ... كاف وشربي من فواضل أدمعي
كرمت جفوني في الديار فأخصبت ... فغنيت أن أرد المياه وأرتعي
فكأن دمعي مد من أيدي بني ... عبد الرحيم ومائها المتنبع
وسهرت حتى ما تميز مقلتي ... فرقان مغرب كوكب من مطلع
(1/233)
________________________________________
فكأن ليلي من تقارب طوله ... أسيافهم موصولة بالأذرع
وقوله من أخرى في فخر الملك منها:
يخوض الليل سائقهم أنيسا ... بآي لا ح بين يديه نور
وكيف يخاف تيه الليل ركب ... تطلع من هوادجه البدور
ومنها:
أما من قبلة في الله قالوا ... متى حلت لشاربها الخمور
إلى أن قال متخلصا:
أرى كبدي وقد بردت قليلا ... أمات الهم أم عاش السرور
أم الأيام خافتني لأني ... بفخر الملك منها مستجير
وقوله من أخرى في سند الدولة أبي الحسن بن مزيد، مطلعها:
هب من زمانك بعض الجد للعب ... واهجر إلى راحة شيئا من التعب
ومشى على ذلك سائرا في رياض المقال، إلى أن اقتطف منها أنضر زهر فقال:
ترى نداماي ما بين الرصافة فال ... بيضاء رواين من خمر ومن ضرب
أو عالمين ... وقد بدلت بعدهم

ما دار أنسي وما كاسي وما نخبي
فارقتهم وكأني ذاكرا لهم ... نضو تلاقت عليه عصتا قتب
سقى رضاي عن الأيام بينهم ... غيث وبان عليها بعدهم غضبي
إذ نسكب الماء بغضا للمزاج به ... ونطعم الشهد إبقاء على العنب
يمشي السقاة علينا بين منتظر ... بلوغ كأس ووثاب فمستلب
كأنما قولنا للبابلي أدر ... حلاوة قولنا للمزيدي هب
ولنمسك هنا عنان اليراعة، فقد طال مجالها في مضمار هذه البراعة ومحاسن مهيار لا تنتهي حتى ينتهي عنها. وما محاسن شيء كله حسن.
وممن جاء في حسن التخلص بالبديع المطرب، أبو القاسم محمد بن هاني متنبي المغرب، فإنه سبق في ذلك إلى غاية يقصر دون مداها سوابق الأفكار، وافتض منه أبكار معان هي ألذ من افتضاض عواتق الإبكار.
فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها أبا تميم المعز لدين الله، مطلعها:
ألا طرقتنا والنجوم ركود ... وفي الحي أيقاض ونحن هجود
وقد أعجل الفجر الملمع خطوها ... وفي أخريات الليل منه عمود
سرت عاطلا غضبى على الدر وحده ... فلم يدر نحر ما دهاه وجيد
فما برحت إلا ومن سلك أدمعي ... قلائد في لباتها وعقود
إلى أن قال سائرا إلى التخلص:
ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا ... وأنا بلينا والزمان جديد
فليت مشيبا لا يزال ولم أقل ... بكاظمة ليت الشباب يعود
ولم أر مثلي ما له من تجلد ... ولا كجفوني ما لهن جمود
ولا كالليالي ما لهن مواثق ... ولا كالغواني ما لهن عهود
ولا كالمعز ابن النبي خليفة ... له الله بالفضل المبين شهيد
وقوله من أخرى فيه أيضاً مطلعها:
أرياك أم ردع من المسك صائك ... ولحظك أم حد من السيف باتك
وأعطاف نشوى أم قوام مهفهف ... تأود غصنفيه وارتجَّ عانك
وما شق جيب الحسن إلا شقائق ... بخديك مفتوك بهن فواتك
أرى بينها للعاشقين مصارعا ... فقد ضرجتهن الدماء السوافك
ولم يزل يذلل صعاب هذه القوافي، ويرد منها النمير الصافي، إلى أن قال:
ألم تريا الروض الأريض كأنما ... أسرة نور الشمس فيه سبائك
كأن الشقيق الغض يكحل أعينا ... ويسفك في لباته الدم سافك
وما تطلع الدنيا شموسا تريكها ... ولا للرياض الزهر أيد حوائك
ولكنما ضاحكننا عن محاسن ... حكتهن أيام المعز الضواحك
وقوله من قصيدة يمدح بها جعفر بن علي، مطلعها:
هل آجل مما أؤمل عاجل ... أرجو زمانا والزمان حلاحل
وأعز مفقود شباب عائد ... من بعدها ولى وإلف واصل
ما أحسن الدنيا بشمل جامع ... لكنها أم البنين الثاكل
في كل يوم استزيد تجاربا ... كم عالم بالشي وهو يسائل
ومنها:
يا دار أشبهت المهافيك المها ... والسرب إلا أنهن مطافل
نضحت جوانحك الرياح بلؤلؤ ... للطل فيه ردع مسك جائل
وغدت بجيب فيك مشقوق لها ... نفس تردده ودمع هاطل
ولم يزل ينظم هذه الدرر، وينشر هذه الحبر، إلى أن أتى ببديع التخلص فقال:
بعدا لليلات أفلن بنا ولا ... بعدت ليال بالغميم قلائل
إذ عيشنا في مثل دولة جعفر ... والعدل فينا ضاحك والنائل
وقوله من أخرى فيه أيضاً:
(1/234)
________________________________________
كأن لواء الصبح غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
وقوله من أخرى يمدح المعز، أولها:
ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط
بين السحاب وبين الريح ملحمة ... قعاقع وظبى في الجو تخترط
كأنه ساخط يرضى على عجل ... فما يدوم رضى منه ولا سخط
أهدى الربيع إلينا روضة أنفا ... كما تنفس عن كافوره السفط
غمائم في نواحي الجو عاكفة ... جعد تحدر عنها وابل سبط
كأن تهتانها في كل ناحية ... مد من البحر يعلو ثم ينهبط
والبرق يظهر في لألاء غرته ... قاض من المزن في أحكامه شطط
وللجديدين من طول ومن قصر ... حبلان منقبض عنا ومنبسط
والأرض تبسط في خد الثرى ورقا ... كما تنشر في حافاتها البسط
والريح تبعث أنفاسا معطرة ... مثل العبير بماء الورد يختلط
كأنما هي أخلاق المعز سرت ... لا شبهة للورى فيها ولا غلط
وقوله من أخرى فيه أيضاً، وهي من رقيق شعره، مطلعها:
قمن في مأتم على العشاق ... ولبسن الحداد في الأحداق
ومنحن الفراق رقة شكوا ... هن حتى عشقت يوم الفراق
وما أحسن قوله منها:
رب يوم لنا رقيق حواشي ال ... لهو حسنا جوال عقد النطاق
قد لبسناه وهو من نفحات ال ... مسك ردع الجيوب ردع التراقي
والأباريق كالظباء اللواتي ... أوجست نبأة الجياد العتاق
مصغيات إلى الغناء مطلا ... ت عليه كثيرة الإطراق
وهي شم الأنوف يشمخن كبرا ... ثم يرعفن بالدم المهراق
وما زال جانيا من رياض الافتنان، زهرات هذه المعاني والبيان، حتى قال وأبدع في المقال:
لا تسلني عن الليالي الخوالي ... وأجرني من الليالي البواقي
ضربت بيننا بأبعد مما ... بين راجي المعز والإملاق
هذا المخلص مما تتقاصر عند سماعه همم فرسان هذا الميدان، علما منهم بأن اللحاق به كاد أن لا يكون في حيز الإمكان. وقد تقرر أن أحسن التخلص ما كان في بيت واحد، يثب فيه الشاعر من شطره الأول إلى الثاني وثبة تدل على قدرته، وتمكنه، وانفساح خطوته في مقاصده وتفننه، ولعمري إن هذه الوثبة في هذا البيت مما لا تنفسح إلى مثلها خطى كل شاعر ولا يحدث نفسه بها إلا مصاقع القالة من غلب الشعراء المساعر.
ومثل ذلك قوله أيضاً بل هو أوفى منه لكونه من الغزل إلى المدح، وقد نبهو على أن أحسن التخلص ما كان كذلك.
وهو من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي الأندلسي، مطلعها:
فتكات طرفك أم سيوف أبيك ... وكؤوس خمر أم مراشف فيك
أجلاد مرهفة وفتك محاجر ... ما أنت راحمة ولا أهلوك
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده ... أكذا يجوز الحكم في ناديك
قد كان يدعوني خيالك طارقا ... حتى دعاني بالقنا داعيك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي ... وادي الكرى ألقاك أم واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو ... عثروا بطيف طارق ظنوك
وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة ... حتى إذا احتفل الهوى حجبوك
ولوى مقبلك اللثام وما دروا ... أن قد لثمت به وقبل فوك
فضعي القناع فقبل خدك ضرجت ... رايات يحيى بالدم المسفوك
ولنقتصر من مخالصه على هذا المقدار، فقد كدنا أن نفضي إلى الإملال بالإكثار.
ومن بديع حسن التخلص أيضاً قول أبي العلاء المعري:
ولو أن المطي لها عقول ... وجدك لم نشد بها عقالا
مواصلة بها رحلي كأني ... من الدنيا أريد بها انفصالا
سألن فقلت مقصدنا سعيد ... فكان اسم الأمير لهن فالا
وممن برز في هذا الميدان، فسبق إلى غاية الإحسان، أبو العباس محمد الأبيوردي، فمن بديع مخالصه قوله من قصيدة في سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس:
وقفنا بمستن الوداع وراعنا ... بحزوى غراب البين لأضمه وكر
فألف ما بين التبسم والبكا ... سلو ووجد عيل بينهما الصبر
فو الله ما أدري أثغرك أدمعي ... غداة تفرقنا أم الأدمع الثغر
تبرمت الأجفان بعدك بالكرى ... فلا تلتقي أو تلتقي ولها العذر
يغيب فلا يحلو لعيني منظر ... ويكثر مني نحوه النظر الشزر
(1/235)
________________________________________
ويلفظ سمعي منطقا لم يفه به ... على أنه ك***** لا بل هو *****
ففيه ولا كل الكلام بمشتهى ... سوى مدح سيف الدين عن مثله وقر
وقوله من أخرى في بعض رؤساء أسرته:
يبدو لي البرق أحيانا وبي ظمأ ... فلا أبالي بصوب العارض الهطل
وفي ابتسامة سعدى عنه لي عوض ... فلم أشم بارقا إلا من الكلل
هيفاء تشكو إلى دمعي إذا ابتسمت ... عقودها الثغر شكوى الخصر للكفل
يغضي لها الريم عينيه على خفر ... ولا يمد إليها الجيد من خجل
طرقتها وسناها كاد يعذرني ... لو لم يجرني زمام الفاحم الرجل
وإن سرت نم بالمسرى تبرجها ... فالمسك في أرج والحلي في زجل
أشكو إلى الحجل ما يأتي الوشاح به ... وألزم الريح ذنب العنبر الشمل
إذ لمتي كجناح النسر داجية ... والعيش رقت حواشي روضه الخضل
واها لذلك من عصر ملكت به ... على الجآذر فيه طاعة المقل
لو رمت بابن أبي الفتيان رجعته ... لعادت البيض عن أيامه الأول
ففي الشبيبة عما فاتنا بدل ... وليس عنها سوى نعماه من بدل
وقوله من أخرى في المقتدي بأمر الله، وقد تقدم مطلعها في حسن الابتداء:
وقد ساءني أن أرى دارها ... تصوغ الحمائم فيه اللحونا
لئن ضنت السحب الغاديات ... فلست بدمعي عليها ضنينا
كأن الشآبيب من صوبه ... مواهب خير بني الخير فينا
وقوله من أخرى كتب بها إلى بعض إخوانه من سروات العجم لصداقة بينهما:
وحنة بت أستبكي الخلي بها ... وقد بدا من حفافي توضح علم
أصبو إليه وقد جر الرياح به ... ذيولها وتولت وشيه الديم
وما بي الربع لكن من يحل به ... وإنما لسليمي يكرم السلم
والدهر يغري نواها بي وعن كثب ... من صرفه بأبي عثمان أنتقم
قوله (من حفافي توضح) أي من جانبيه، وهو مثنى حفاف، بكسر الحاء المهملة وفتح الفاء - ككتاب - وهو الجانب.
وممن جاء بالبديع الخالص من محاسن المخالص، أبو الحسن علي بن محمد التهامي وهو كما قال فيه أبو الحسن الباخرزي في دمية القصر: له شعر أدق من دين الفاسق، وأرق من دمع العاشق كأنما روح بالشمال أو علل بالشمول، فجاء كنيل البغية أو درك المأمول. انتهى.
فمن ذلك قوله من قصيدة في الشريف محمد بن الحسين مطلعها:
حازك البين حين أصبحت بدرا ... إن للبدر في التنقل عذرا
فارحلي عن أردت أو فأقيمي ... عظم الله للهوى في أجرا
لا تقولي لقاؤنا بعد عشر ... لست ممن يعيش بعدك عشرا
ولم يزل ينتقل في حدائق هذا الغزل حتى قال:
كلما مرت الركاب بأرض ... كتبت أسطرا من الدم حمرا
ثم اتبعنها الحوافر نقطا ... فغدت تقترى لمن ليس يقرا
تتبارى بكل خبث رحيب ... يشبه ابن الحسين خلقا وصدرا
وقوله من أخرى يمدح الشريف القاضي بدمشق، مطلعها:
هي البدر لكن تستسر مدى الدهر ... وكل سرار البدر يومان في الشهر
هلالية نيل الأهلة دونها ... وكل نفيس القدر ذو مطلب وعر
ومنها:
لها ريقة استغفر الله أنها ... ألذ وأشهى في النفوس من الخمر
وصارم طرف لا يزايل جفنه ... ولم أر سيفا قط في جفنه يفري
أعانق منها صعدة زاغبية ... ترى زجها في موضع النظر الشزر
ويقصر ليلي إن ألمت لأنها ... صباح وهل لليل بقيا مع الفجر
إلى أن قال:
أقول لها والعيس تحدج للنوى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر
سأنفق ريعان الشبيبة آنفا ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخمران أن لياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
يبدل وجه الدهر من كل وجهة ... لنا صدء التعبيس من رونق البشر
ألم ترني استرضع الغيث دره ... لسعدى واستسقي لها سبل القطر
سقاها إذا اشتاقت من الغيث وابل ... هزيم الكلى واهي المزادة ذو نهر
أجش ملث مغدق الوبل جوده ... كجود علي أو كنائله الغمر
وقوله من أخرى يمدح أبا القاسم بن المغربي أجاد فيها كل الإجادة، مطلعها:
أرحت قلبي من عداة الملاح ... لليأس روح مثل روح النجاح
(1/236)
________________________________________
وربما حكمت في مهجتي ... نشوان من ماء الصبا والمراح
وكيف لا تدركه نشوة ... واللحظ راح وجنى الريق راح
لو لم تكن ريقته خمرة ... لما تثنى عطفه وهو صاح
يبسم عن ذي أسر مثلما ... يلتقط الظبي بفيه الأقاح
ومنها:
وموقف لولا التقى لا التقى ... فيه نجادي ونظام الوشاح
قلت لخلي وثغور الربى ... مبتسمات وثغور الملاح
أيهما أبهى ترى منظرا ... فقال لا أعلم كل أقاح
كيف رجوعي في الهوى بعدما ... خلعته خلع ردائي فطاح
وإنجاب عن فودي ليل الصبا ... لكل ليل مدلهم صباح
فازورت البيض وأبصارها ... مطروفة عني وكانت صحاح
من كان يهواك لشيء مضى ... إذا انقضى عنك تولى وراح
وخلة أظهر ما أضمرت ... سيري فقالت أقلى وأطراح
فانحل سلك الدمع في ثغرها ... فشجت الخمر بماء قراح
وما زال يتلاعب بهذه المعاني والألفاظ، وتغازله رقائق هذا الافتنان مغازلة الألحاظ، إلى أن قال فأغرب، وأسمع فأطرب:
ومجهل مشتبه طرقه ... كأنما هن خطوط براح
يسعدني فيه وفي غيره ... ذوو صدور كفلاة فساح
كأنما أشباح أنضائنا ... قسي نبع وكأنا قداح
حتى اجتلينا بعد طول السرى ... بغرة الكامل وجه الصباح
فقال لي صحبي أبدر السما ... فقلت لا بل هو بدر السماح
وقوله من أخرى:
إن الحجاز على تنائي أرضه ... ناهيك من بلد إلي محبب
فسقاه منهمر الرباب كأنه ... يد جعفر بن محمد بن المغربي
وقوله من أخرى في المفرج بن دغفل الطائي، مطلعها:
بعثن غداة تقويض الخيام ... منية كل صب مستهام
وما ألطف قوله منها:
وأقسم ما معتقة شمول ... ثوت في الدن عاما بعد عام
بأطيب من مجاجتهن طعما ... إذا استيقضن من سنة المنام
ولم أرشف لهن جنى ولكن ... شهدن بذاك أعواد البشام
إلى أن قال:
وأظلمهن إن ناديت يوما ... بإحداهن يا بدر التمام
كما ظلم الندى من قاس يوما ... ندى كف المفرج بالغمام
فتى جبلت يداه على العطايا ... كما جبل اللسان على الكلام
وقوله من أخرى فيه أيضاً، مطلعها:
ألم بمضجعي بعد الكلال ... خيال من هلال بني هلال
إلى أن قال:
بمقلتها لعمر أبيك سحر ... به تصطاد أفئدة الرجال
سمعنا بالعجاب وما سمعنا ... بأن الليث من قنص الغزال
لقد بذل الفراق لنا رخيصا ... لقاء العامرية وهو غال
وأبدى من محياها نهارا ... يجاور من ذوائبها ليالي
أحن إلى الفراق لكي أراها ... وإن كان الفراق علي لا لي
أشارت بالوداع وقد تلاقت ... عقود الثغر والدمع المسال
وأبكاني الفراق لها فقالت ... بكاء متيم ورحيل قال
فقلت لها أودع منك شمسا ... إلى شمس الهدى شمس المعالي
ومن محاسن المخالص قول بديع الزمان الهمداني في قصيدة يمدح بها أبا علي بن أبي الحسين بن سيمجور، وقد قصده بمرو الروذ، ولحسن هذه القصيدة وبراعتها عن لي إيرادها هنا بجملتها وهي:
علي أن لا أريح العيس والقتبا ... وألبس البيد والظلماء واليلبا
وأترك الخد معسولا مقبلها ... وأهجر الكأس يعرو شربها طربا
حسبي الفلا مجلسا والبوم مطربة ... والسير يسكرني من مسه تعبا
وطفلة كقضيب البان منعطفا ... إذا مشت وهلال الشهر منتقبا
تظل تنثر من أجفانها حببا ... دوني وتنظم من أسنانها حببا
قالت وقد علقت ذيلي تودعني ... والوجد يخنقها بالدمع منسكبا
لا در در المعالي لا يزال لها ... برق يشوقك لا هونا ولا كثبا
يا مشرعا للمنى عذبا موارده ... بيناه مبتسم الأرجاء إذ نضبا
أطلعت لي قمرا سعدا منازله ... حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غربا
كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت ... وكنت كالورد أبهى ما أتى ذهبا
أستودع الله عينا تنتحي دفعا ... حتى تؤوب وقلبا يرتمي لهبا
وظاعنا أخذت منه النوى وطرا ... من قبل يقضى الهوى من حكمه أربا
غطى عليك قناع الصبر أن لنا ... إليك أوبة مشتاق ومنقلبا
(1/237)
________________________________________
أبى المقام بدار الذل لي كرم ... وهمة تصل التخويد والخببا
وعزمة لا تزال الدهر ضاربة ... دون الأمير وفوق المشتري طنبا
هذا المخلص مما يضرب به المثل في البراعة، ولم ينطق بمثله في الحسن لسان اليراعة، وبعده:
يا سيد الأمراء افخر فما ملك ... إلا تمناك مولى واشتهاك أبا
إذا دعتك المعالي عرف هامتها ... لم ترض كسرى ولا من قبله ذنبا
أين الذين أعدوا المال من ملك ... يرى الذخيرة ما أعطى وما وهبا
ما الليث مقتحما والسيل مرتطما ... والبحر ملتطما والليل مقتربا
أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة ... أجدى يمينا وأدنى منك مطلبا
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
يا من تراه ملوك الأرض فوقهم ... كما يرون على أبراجها الشهبا
لا تكذبن فخير القول أصدقه ... ولا تهابن في أمثالها العربا
فما السموأل عهدا والخليل قرى ... ولا ابن سعد ندى والشنفرى غلبا
من الأمير بمعشار إذا اقتسموا ... مآثر المجد فيما أسلفوا نهبا
ولا ابن حجر ولا ذبيان يعشرني ... والمازني ولا القيسي منتدبا
هذا لركبته أو ذا لرهبته ... أو ذا لرغبته أو ذا إذا طربا
ومن ناصع حسن التخلص قول ابن قاضي ميلة من قصيدة يمدح بها ثقة الدولة يوسف بن عبد الله القضاعي، وقد تقدم منها جملة جيدة في نوع التفويف، وتخلصه المشار إليه قوله:
وعاذلة في بذل ما ملكت يدي ... لراج رجاني دون صحبي تعنف
تقول إذا أفنيت مالك كله ... وأحوجت من يعطيكه قلت يوسف
وقول الوزير الطغرائي من قصيدة يمدح بها نظام الملك، منها:
وهاجرة سجراء تأكل ظلها ... ملوحة المغراء رمضى الجناوب
ترى الشمس فيها وهي ترسل خيطها ... لتمتاح ريا من نطاف المذانب
سفعنا بها وجه النهار فراعنا ... بنقبة مسود الخياشيم شاحب
وبات على الأكوار أشلاء جنح ... خوافق فوق العيس مثل العصائب
فلما اعتسفنا ظل أخضر غاسق ... على قمع الآكام جون المناكب
وردنا سحيرا بين يوم وليلة ... وقد علقت بالغرب أيدي الكواكب
على حين عري منكب الشرق جذبة من الصبح واسترخى عنان الغياهب
غدير كمرآة الغريبة تلتقي ... بصوحية أنفاس الرياح اللواهب
إذا ما نبال القطر تاحت له التقى ... بموضونة حصداء من كل جانب
إلى أن قال:
بعيس كأطراف المداري نواحل ... فرقنا بها الظلماء وحف الذوائب
نشطن به عذبا نقاخا كأنما ... مشافرها يغمدن بيض القواضب
رأين جمام الماء زرقا ومثلها ... مشى الصبح فارتابت عيون الركائب
فكم قامح من لجة الماء طامح ... إلى الفجر ظن الفجر بعض المشارب
إلى أن بدا قرن الغزالة ماتعا ... كوجه نظام الملك بين المواكب
قلت: وما زلت معجبا بقوله:
نشطن به عذبا نقاخا كأنما ... مشافرها يغمدن بيض القواضب
ظنا بأنه لم يسبق إلى هذا التشبيه، ولا شاركه أحد من الشعراء فيه حتى وقفت عليه في قول ابن المعتز يصف حمار الوحش:
وأقبل نحو الماء يستل صفوه ... كما غمدت أيدي الصياقل منصلا
وقوله أيضاً:
وأغمدن في الأعناق أسياف لجة ... مصقلة تغري بهن المفاوز
ومن التخلص البديع قول الطغرائي أيضاً:
سروا يطردون الليل عن متبلج ... من الصبح يهدي الناظر المتوسما
تجهمهم وجه الزمان فألمعوا ... له بشهاب الدين حتى تبسما
أخذه القاضي الأرجاني، ومزجه بسلاف التورية، فقال من قصيدة يمدح بها شهاب الدين أحمد بن أسعد الطغرائي:
فلا تكثرن شكوى الزمان فإنما ... لكل ملم جيئة وذهاب
وقد كان ليل الفضل في الدهر داجيا ... إلى أن بدا للناظرين شهاب
ومنه قول جعفر بن شمس الخلافة:
وإني وإن نزهت شيبي عن الخنا ... وأرضيت عذالي وأصغيت للنصح
لأهتز في الأحيان شوقا إلى الصبا ... كما اهتز مولانا العزيز إلى المدح
وقوله أيضاً من قصيدة في الملك المسعود مع زيادة التورية:
(1/238)
________________________________________
هذبتني الأيام بالحسنات ال ... بيض منها والسيئات السود
وتبخترت في السعادة لما ... شملتني سعادة المسعود
وقوله أيضاً من أخرى في سراج الدين كامل مع بديع التورية أيضاً:
تولى الحمد عن قوم تولوا ... عن الجود الذي بالحمد كافل
أناس قسموا أثلاث لؤم ... بغدار وكذاب وباخل
سأبكي من وجود النقص فيهم ... كما أبكي على عدم الفضائل
فهلا بالندى حازوا كمالا ... رأوا في سراج الدين كامل
وقول الأديب أبي محمد عمارة اليمني من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين يوسف:
ترنحت من نشوات الصبا ... فبت مسرورا بنشوان صاح
وفاح من عرف الدجى عنبر ... أحرقه الفجر بجمر الصباح
لاموا عليها مغرما سمعه ... كراحة الناصر عند السماح
وقول ابن الساعاتي في الملك المذكور أيضاً:
منعت ظباء المنحنى بأسوده ... وأشد ما أشكوه فتك ظبائه
فعلت بنا وهي الصديق لحاظها ... كظبي صلاح الدين في أعدائه
وقوله أيضاً:
أبكي العقيق بمثله ونهب أن ... فاس الغضى بضرامه المتسعر
وجدي وإن كنت الذليل ببيضه ... وجد العزيز بكل لدن أسمر
وقول أبي عبد الله السنبسي يمدح سيف الدولة صدقة ابن منصور:
ونرجس خضل تحكي أزاهره ... أحداق تبر على أجفان كافور
كأنما نشره في كل باكرة ... مسك تضوع أو ذكر ابن منصور
وقول القاضي الفاضل من قصيدة يمدح بها خليفة الفاطميين في عصره، مطلعها:
ترى لحنيني أو حنين الحمائم ... جرت فحكت دمعي دموع الغمائم
وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا ... فكل أراها دارسات المعالم
دعوا نفس المقروح تحمله الصبا ... وإن كان يهفو بالغصون النواعم
تأخرن في حمل السلام عليكم ... لديها لما قد حملت من شمائم
فإن فؤادي بعدكم قد فطمته ... عن الشعر إلا مدحة لابن فاطم
وقول أبي الفتح محمد سبط ابن التعاويذي، من قصيدة في الخليفة الناصر لدين الله العباسي، مطلعها:
طاف يسعى بها على الجلاس ... كقضيب الأراكة المياس
إلى أن قال:
يا نهار المشيب من لي وهيهات بليل الشبيبة الديماس
حال بيني وبين لهوي وأطرا ... بي دهر أحال صبغة رأسي
ورأى الغانيات شيبي فاعرض ... ن وقلن السواد خير لباس
كيف لا يفضل السواد وقد أضحى شعارا على بني العباس
وقوله من أخرى في المستضيء بأمر الله وهو والد الناصر لدين الله المذكور، أولها:
قل للسحاب إذا مرت ... هـ يد الجنائب فارجحن
عج باللوى فاسمح بدم ... عك في المعاهد والدمن
يا منزل الأنس الجميع ... وملعب الحي الأغن
سكنت بك الآرام من ... بعد الأحبة والسكن
أين استقلت ب****** ... ركابه ومتى ظعن
شوقي إلى زمن الحمى ... سقى الغوادي من زمن
شوق المغرب شردته يد البعاد عن الوطن
ولقد عهدتك والزما ... ن لشملنا بك ما فطن
وثراك ما اغبرت مسارحه وماؤك ما أجن
وظباؤك الأتراب لي ... وطر وتربك لي وطن
لام العذول وما درى ... وجدي وبلبالي بمن
وجدي بمن فضح القضيب وأخجل الظبي الأغن
ما ضر من هو فتنتي ... لو كان يرحم من فتن
دمعي طليق في محبته وقلبي مرتهن
يا منيتي أودى الصدود بعاشق بك ممتحن
غادرته وقفا على العبرات بعدك والحزن
كلف الفؤاد معذبا ... بين الإقامة والظعن
عطفا على قرح الجفو ... ن بعيد عهد بالوسن
لا تبخلي فالبخل يذهب بهجة الوجه الحسن
ولرب ليل بت فيه صريع باطية ودون
أختال من مرح واسحب فضل أذيال الردن
مع معطف لدن القوا ... م إذا انثنى رخص البدن
لكنني كفرت ليلة زرته عني وعن
بمدائحي للمستضيء ... أبي محمد الحسن
وقوله من أخرى فيه أيضاً أولها:
أهلا بطلعة زائر ... فضح الدجى بضيائها
سمح الزمان بوصلها ... فدنت على عدوائها
باتت تعاطيني المدام ... وكن من أكفائها
فسكرت من ألحاظها ... وغنيت عن صهبائها
(1/239)
________________________________________
بيضاء قتلي دأبها ... في نأيها وثوائها
فإذا دنت بجفونها+وإذا نأت بجفائها
لا تلتقي أبدا مواعدها بيوم وفائها
الشمس من ضراتها ... والبدر من رقبائها
والصبح فوق لثامها ... والليل تحت ردائها
مضرية تنمى إذا انتسبت إلى حمرائها
باتت وأطراف الرماح ... تجول حول خبائها
فالموت دون فراقها ... والموت دون لقائها
ولقد مررت بربعها ... بعد النوى وفنائها
والعين في الأطلال ساكنة على أطلائها
فوقفت أنشد في مطا ... لعها بدور سمائها
وبكيت حتى كدت أع ... طف بانتي جرعائها
يا موحش العين التي ... أنست بطول بكائها
غادرت بين جوانحي ... نفسا تموت بدائها
تشتاق عيني أن ترا ... ك وأنت في سودائها
فإذا بخلت بنظرة ... سمحت بجمة مائها
فكأنها كف الخلي ... فة أسبلت بعطائها
وقول أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس من قصيدة يمدح بها أبا المنصور محمود عين الأمراء بالديار المصرية، وهي من غرر القصائد، أولها:
لا تثن عطفك إن الروض قد جيدا ... ما عطل القطر من أنوائه جيدا
إذا تبسم ثغر المزن عن يقن ... فانظره في وجنات الورد توريدا
وإن تناثر در منه فاجتله ... بمبسم الأقحوان الغض منضودا
واستنطق العود أو فاسمع غرابته ... من ساجع لحنه يسترقص العودا
يشدوا وينظر أعطافا منمقة ... كأنه آخذ عنها الأغاريدا
ومنها:
ماذا على العيس لو عادت بربتها ... بقدر ما يتقاضاها المواعيدا
رد الركاب لأمر عن في خلدي ... وسمه في بديع الحب ترديدا
وقف أبثك ما لان الحديد له ... فإن صدقت فقل هل أبت داودا
حلت عرى النوم عن أجفان ساهرة ... رد الهوى هدبها بالنجم معقودا
تفجرت وعصى الجوزاء تضربها ... فأذكرتني موسى والجلاميدا
وما أبدع ما قال بعده:
يا ثعلب الصبح لا سرحان أوله ... كل الثريا فقد صادفت عنقودا
وما زال يتصرف في هذه الأغراض، ويقتطف أنوار هذه الرياض إلى أن قال:
سمعت بالجود مفقودا فهل أحد ... يقول لي قد وجدت الجود موجودا
الحمد لله لا والله ما نظرت ... عيناي بعد أبي المنصور محمودا
وقول أبي العباس أحمد القطرسي من قصيدة يمدح بها الأمير شجاع الدين جلدك، أولها:
قل للحبيب أطلت صدك ... وجعلت قتلي فيه وكدك
إن شئت أن أسلو فرد علي قلبي فهو عندك
وما ألطف قوله منها:
أحرقت يا ثغر ****** ... حشاي لما ذقت بردك
إلى أن قال:
يا قلب من لانت معاطفه علينا ما أشدك
أتظنني جلد الهوى ... أو أن لي عزمات جلدك
وقول ذي الوزارتين محمد بن عمار الأندلسي من قصيدة في المعتمد بن عباد مطلعها:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى ... والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استرد الليل منا العنبرا
والروض كالحسنا كساه زهره ... وشيا وقلده نداه جوهرا
أو كالغلام زها بورد حيائه ... خجلا وتاه بآسهن معذرا
روض كأن النهر فيه معصم ... صاف أطل على رداء أخضرا
وتهزه ريح الصبا فتظنه ... سيف ابن عباد يبدد عسكرا
وما أحسن قوله منها في المديح:
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر الندى ... وألذ في الأجفان من سنة الكرى
قداح زند المجد لا ينفك عن ... نار الوغى إلا نار القرى
يختار أن يهب الخريدة كاعبا ... والطرف أجرد والحسام مجوهرا
وقول الأديب أبي البقاء صالح بن شريف الرندي من قصيدة يمدح بها بعض أكابر المغرب، وهي من غرر القصائد، مطلعها:
سلم على الحي بذات العرار ... وحي من أجل ****** الديار
وخل من لام على حبهم ... فما على العشاق في الحب عار
ولا تقصر في اغتنام المنى ... فما ليالي الأنس إلا قصار
وإنما العيش لمن رامه ... نفس تدارى وكؤوس تدار
ومنها:
لا صبر للشيء على ضده ... والخمر والهم كماء ونار
(1/240)
________________________________________
مدامة مدنية للمنى ... في رقة الدمع ولون النضار
مما أبوا ريق أباريقها ... تنافست فيها النفوس الكبار
معلتي والبرء من علتي ... ما أطيب الخمرة لولا الخمار
ومنها:
وبي وإن عذبت في حبه ... ببعده على اقتراب المزار
ظبي غرير نام عن لوعتي ... ولا أذوق النوم إلا غرار
ذو وجنة تحسبها روضة ... قد بهر الورد بها والبهار
رجعت للصبوة في حبه ... وطاعة اللهو وخلع العذار
يا قوم قولوا بذمام الهوى ... أهكذا يفعل حب الصغار
وليلة نبهت أجفانها ... والفجر قد فجر نهر النهار
والليل كالمهزوم يوم الوغى ... والشهب مثل الشهب عند الفرار
كأنما استخفى السها خيفة ... وطولب النجم بثار فثار
لذاك ما شابت نواصي الدجى ... وطارح النسر أخاه فطار
إلى أن قال:
كأنما الظلماء مظلومة ... تحكم الفجر عليها فجار
كأنما الصبح لمشتاقة ... عز غنى من بعد ذلك افتقار
كأنما الشمس وقد أشرقت ... وجه أبي عبد الإله استنار
ومن بديع حسن التخلص أيضاً قول السعيد هبة الله بن سناء الملك من قصيدة يمدح بها الملك المعظم شمس الدولة توران شاه أخ الملك صلاح الدين، مطلعها:
تقنعت لكن ب****** المعمم ... وفارقت لكن كل عيش مذمم
وباتت يدي في طاعة الحب والهوى ... وشاحا لخصر أو سوارا لمعصم
ومنها وقد أجاد ما شاء:
سعدت ببدر خده برج عقرب ... فكذب عندي قول كل منجم
وأقسم ما وجه الصباح إذا بدا ... بأوضح مني حجة عند لومي
ولاسيما لما مررت بمنزل ... كفضلة صبر في فؤاد متيم
وما بان لي إلا بعود أراكة ... تعلق في أطرافه ضوء مبسم
وقفت به أعتاض عن لثم مبسم ... شهي لقلبي لثم آثار منسم
ولم ير طرفي قط شملا مبددا ... فقابله إلا بدر منظم
ولم يسل قلبي أو فمي عن غزالة ... وعن غزل إلا بمدح المعظم
قال ابن خلكان: لما نظم ابن سناء الملك هذه القصيدة تعصبت عليه جماعة من شعراء مصر، عابوا عليه هذا الاستفتاح، وهجوه، وكتب إليه ابن الذروي الشاعر:
قل للسعيد مقال من هو معجب ... منه بكل بديعة ما أعجبا
لقصيدك الفضل المبين وإنما ... شعراؤنا جهلوا به المستغربا
عابوا التقنع ب****** ولو رأى الطائي ما قد حكته لتعصبا
انتهى. قلت: وهذا المعنى، أعني قوله: (تقنعت لكن ب****** المقنع) ينظر بطرف خفي إلى قول أبي الطيب المتنبي:
فلو كان ما بي من حبيب مقنع ... سلوت ولكن من حبيب معمم
ومن بديع مخالصه أيضاً قوله يمدح والده الرشيد مع زيادة التورية:
إني لأرثي لدمعي من تزاحمه ... كما رثيت لشملي من تشتته
أنا الغوي بهمي والرشيد أبي ... هو الرئيس على الدنيا بهمته
وقوله من أخرى:
لا يرجع الكلف الذليل عن الهوى ... أو يرجع الملك العزيز عن الندى
وقوله من أخرى يمدح بها القاضي الفاضل:
ضنت بطرفه ظل بعدي سقمه ... أرأيتم من ضن حتى بالضنى
يا عاذلين جهلتم فضل الهوى ... وعذلتم فيه ولكني أنا
أني رأيت الشمس ثم رأيتها ... ماذا علي إذا هويت الأحسنا
وسألت من أي المعادن ثغرها ... فوجدت معبد الرحيم المعدنا
أبصرت جوهر ثغرها وكلامه ... فعلمت حقا أن هذا من هنا
وقول شرف الدين شيخ الشيوخ بحماة عبد العزيز الأنصاري من مدحة نبوية مطلعها:
ويلاه من نومي المشرد ... وآه من شملي المبدد
يا كامل الحسن ليس يطفي ... ناري سوى ريقك المبرد
يا بدر تم إذا تجلى ... لم يبق عذرا لمن تجلد
أبديت من حالي المورى ... لما بدا خدك المورد
رفقا بولهان مستهام ... أقامه وجده وأقعده
مجتهد في رضاك عنه ... وأنت في أمره المقلد
ليس له منزل بأرض ... عنك ولا في السماء مقعد
قيدته بالجوى فتمم ... واكتب على قيده مخلد
بأن الصبا عنه والتصابي ... أنشأ أطرابه وأنشد
من لي بطيب حديث سحري ... بابل عن ناظريه يسند
شتت عني نظام عقلي ... شتيت ثغر له منضد
(1/241)
________________________________________
لو اهتدى لائمي عليه ... ناح على نفسه وعدد
أكسبني نشوة بطرف ... سكرت من خمرة فعربد
غصن نقا حل عقد صبري ... بلين خصر يكاد يعقد
فمن رأى ذلك الوشاح الصائم صلى على محمد
وعارض هذه القصيدة مجد الدين فضل الله بن الصاحب فخر الدين ابن مكانس بقصيدة نبوية أيضاً حاز بها الفخر عليه، وجاء في مخلصها ببديع التورية، ولا بأس بإيراد غزلها هنا، فإنه في غاية الحسن والرقة، وأولها:
وحق من بالجميل عود ... ما لسقيم الغرام عود
كيف وقد هام في حبيب ... بقتل عشاقه تعود
ظبي كحيل الجفون أحوى ... غصن رشيق القوام أملد
يعزى إلى الترك في انتساب ... وإنما لحظه مهند
كالشمس إن لاح والمها إن ... رنا وكالغصن إن تأود
أطلق دمعي دما وقلبي ... بأسره في الهوى مقيد
وأضرم النار في فؤادي ... فليته بالوصال أخمد
مبجل لا يكاد عجبا ... يسمح عند السلام بالرد
يصير في الحسن إن تثنى ... بين جميع الملاح مفرد
نومي وصبري عليه فرا ... ولم أذق ريقه المبرد
لا عيب فيه حماه ربي ... إذا تأملته سوى الصد
لو عشقته جبال رضوى ... كان لها بالصدود هدد
أتهمني بالمنام لكن ... ومن أغاث الورى وأنجد
لم أعرف النوم مذ جفاني ... وها نجوم السماء تشهد
قلت له إذ أراد شدا ... بخصره يا مهفهف القد
حليت قلبي وعقد صبري ... وعاطل الخصر منك بالشد
وسيف جفنيك يا حبيبي ... قد زاد في حسنه عن الحد
وا عجبا فيك ضاع نسكي ... وأنت عند الغناء معبد
أجارك الله قد رثت لي ... مما ألاقي عدى وحسد
وعاذلي إذ رأى ضلوعي ... تعد سقما بكى وعدد
يا ناعس الطرف يا غزالا ... جفني بهجرانه مسهد
كم حمد العالمون وصفي ... لغادة قينة وأغيد
فعدت عنه تقىً وعودي ... لمدح خير الأنام أحمد
ومن حسن التخلص الغريب الذي ما اهتدى إليه في جنح الليل بشعلة فكره أريب، قول ذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب من قصيدة فريدة يمدح بها النبي ****** صلّى الله عليه وآهل وسلّم، ما تخلص شاعر من غزل ونسيب:
ودجنة كادت تضل بني السرى ... لولا وميضا بارق وصفيح
وعشت كواكب جوها فكأنها ... ورق تقلبها بنان شحيح
صابرت منها لجة مهما ارتمت ... وطمت رميت عبابها بسبوح
حتى إذا الكف الخضيب بأفقها ... مسحت بوجه للصباح صبيح
شمت المنى وحمدت أدلاج السرى ... وزجرت للآمال كل سنيح
فكأنما ليلي نسيب قصيدتي ... والصبح فيه تخلصي لمديحي
لما حططت لخير من وطئ الثرى ... بعنان كل مولد وصريح
ومنه قول أبي الحسين الجزار يمدح جمال الدين موسى بن يغمور:
جسرت على لثم الشقيق بخدها ... ورشف رضاب لم أزل منه في سكر
ولست أخاف ***** من لحظاتها ... لأني بموسى قد أمنت من *****
ومنه قول الشيخ أبي جعفر الموفق بن علي الكاتب من قصيدة مدح بها الوزير نظام الملك:
أمط كدر الأشجان عنا وهاتها ... على رنة الأوتار صرفا مروقا
إذا مزجت فاحت فخلت نسيمها ... بأخلاق مولانا الوزير تعبقا
وقوله أيضاً يمدح نصر الله بن بصاقة:
وكم ليلة قضيتها معسرا وفي ... تزخرف آمالي كنوز من اليسر
أقول لقلبي كلما اشتقت للغنى ... إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر
وقوله أيضاً يمدح صدر الدين من قصيدة مطلعها:
لا تسألا في الحب عن أشجانه ... فشانه مخبر عن شانه
وإن يكن ما فاه بالشكوى فقد ... أغنى لسان الدمع عن لسانه
إلى أن قال:
وأعجب الأشياء إن قلبه ... سار وما حن إلى أوطانه
أظنه لما رأى رسما عفا ... أنكر ما قد كان من عرفانه
صبا لغزلان النقا وكل من ... حل النقا يصبو إلى غزلانه
ما أن له من مشبه في حسنه ... ولا لصدر الدين في إحسانه
وقول الصاحب بهاء الدين زهير من قصيدة يمدح بها الأمير مجد الدين إسماعيل الملطي:
وقف السحاب على الثرى متحيرا ... ومشى النسيم على الرياض مقيدا
(1/242)
________________________________________
ويشوقني وجه النهار ملثما ... ويروقني خد الأصيل موردا
وكأن أنفاس النسيم إذا سرت ... شكرت لمجد الدين مولانا يدا
وقوله من أخرى في الملك الناصر صلاح الدين، مطلعها:
عرف ****** مكانه فتدللا ... وقنعت منه بموعد فتعللا
وأتى الرسول فلم أجد في وجهه ... بشرا كما قد كنت أعهد أولا
(ومنها) :
ولقد كتمت حديثه وحفظته ... فوجدت دمعي قد رواه مسلسلا
أهوى التذلل في الغرام وإنما ... يأبى صلاح الدين أن أتذللا
وما ألطف ما قال بعده:
مهدت بالغزل الرقيق لمدحه ... وأردت قبل الفرض أن أتنقلا
وقول الشيخ جمال الدين بن نباتة من قصيدة في الملك المؤيد صاحب حماة:
كيف الخلاص لمطوي على شجن ... وقد تمالت عليه أعين سحرة
تغزو لواحظها في المسلمين كما ... تغزو سيوف عماد الدين في الكفرة
وقوله من أخرى في القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود، مطلعها:
بأبي نافر كثير الدلال ... إن هذا النفار شأن الغزال
حبذا منه مقلة لست أدري ... أبهدب تصول أم بنبال
إلى أن قال وجاء في التخلص ببديع التورية:
من معيني على هوى زاد حتى ... أهملته نصائح العذال
لو رأى عاذلي حقيقة أمري ... لرثاني ولا أقول رثى لي
في جمال ****** مت شجونا ... وبروحي أفدي تراب الجمال
ومثله قوله من أخرى يمدح تاج الدين السبكي، مطلعها:
وا حيرتي بظلام الطرة الداجي ... وشقوتي بنعيم الملمس العاجي
ويا ضلال رشادي في هوى صنم ... لا شيء أهتك لي من طرفه الساجي
لم أنس يوم النوى دمعا بوجنته ... كما نثرت لآل فوق ديباج
يثج ماء دموعي خط عارضه ... ويلاه من عارض للدمع ثجاج
ولم يزل يكرر حلاوة هذا النبات، إلى أن قال:
قد أسرج الحسن خديه فدونك ذا ... سراج خد على الأكباد وهاج
وألجم العذل فاركض في محبته ... طرف الهوى بعد إلجام وإسراج
وقسم الشعر فاجعل في محاسنه ... شذر القلائد واهد الدر للتاج
وقول أبي عبد الله محمد بن بختيار، المعروف بالأبله البغدادي الشاعر من قصيدة في الوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، أولها:
ولع النسيم وبانة الجرعا ... وصفاك إلا الحلي والردعا
يا دمية ضاقت خلاخلها ... عنها وضقت بحبها ذرعا
قد كنت ذا دمع وذا جلد ... فبقيت لا جلدا ولا دمعا
صيرت جسمي للضنى سكنا ... وسكنت بعد بيانة الجرعا
يا من رأى أدماء سانحة ... قلبي لها لا المنحنى مرعى
لاثت بمثل الدعص مئزرها ... وجلت بعود أراكة طلعا
وإذا تراجعك الكلام فلا ... تعلم لأيام الصبا رجعا
ولقد سعت بالكأس تصبحني ... سكرى اللواحظ وعثة المسعى
في مستنير الزهر ما صنعت ... أبراده عدن ولا صنعا
باكرت مفترعا تراه وما ... ركب الحمام لبانة فرعا
سلت عليه البارقات ظبا ... لبس الغدير لخوفها درعا
يا عاذلي إن شئت تسمعني ... عذلا فشق لصخرة سمعا
طبعا جبلت على الغرام كما ... جبل الوزير على الندى طبعا
وهذا الشعر فيما أقول: هو الديباج الخسرواني، واللؤلؤ البحراني. ولقد ذكرت به ما نقل إلينا: من أن شعراء العجم افتخرت يوما بحضرة ملكها السلطان عباس شاه رحمه الله تعالى بحسن شعرها، ودقة تلطفها في المعاني التي ليس لشعراء العرب إليها سبيل بزعمها، والشيخ العلامة بهاء الدين محمد العاملي حاضر ذلك المجلس السامي، فالتفت إليه السلطان وقال: ما تقول أيها الشيخ في دعوى هؤلاء الشعراء؟ فقال الشيخ أنا لا أدري ما يقولون، غير أن في شعراء العرب شاعرين، أحدهما مجنون والآخر أبله.
أما المجنون فيقول:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
(1/243)
________________________________________
وأما الأبله فيقول: وأنشد جملة من الأبيات المذكورة. فإن كان عند عقلاء شعراء العجم وأذكيائهم شيء من هذا فليقولوا ما شاؤا، فانقطع أولئك المفتخرون خجلا، واستحسن السلطان إيراد هذا الجواب عجلا. ولعمري لقد أغرب الشيخ في الجواب، وأتى منه بما بهر الألباب، غير أن البيتين اللذين نسبهما إلى المجنون جرى في نسبتهما إليه على ما هو المشهور، والصواب أنهما لأبي القاسم السلمي لا للمجنون. وللمجنون من الشعر ما هو أحسن من هذا كما يشهد بذلك كل من سمع شعره والله أعلم.
قال القاضي أحمد بن خلكان: ومخالص الأبله البغدادي من الغزل إلى المديح في نهاية الحسن، وقل من لحقه فيها.
فمن ذلك قوله من قصيدة أولها:
جنيت جني الورد من ذلك الخد ... وعانقت غصن البان من ذلك القد
فلما انتهى إلى مخلصها قال:
لئن وقرت يوما بسمعي ملامة ... بهند فلا عفت الملامة من هند
ولا وجدت عيني سبيلا إلى البكا ... ولا بت في أسر الصبابة والوجد
وبحت بما ألقى ورحت مقابلا ... سماحة مجد الدين بالكفر والجحد
وقوله من أخرى:
فأقسم أني في الصبابة واحد ... وإن كمال الدين في الجود واحد
ومن بديع التخلص أيضاً قول الشيخ كمال الدين بن النبيه من قصيدة يمدح بها الملك الأشرف:
بحق الهوى يا طيف إلا حملتني ... فجسمي من البلوى وجسمك سيان
أعانق جسما شابه الماء رقة ... وأطفي ببرد الثغر حرقة أشجاني
عسى قلبه يعديه قلبي رقة ... كما جفنه الفتان بالسقم أعداني
لئن كان ينسى عقد عهد مودتي ... فلي ملك من فضله ليس ينساني
وقوله من أخرى أيضاً:
يا من حكى في الحسن صورة يوسف ... آه لو أنك مثل يوسف تشترى
تعشو العيون لخده فيردها ... ويقول ليست هذه نار القرى
يا قاتل الله الجمال فإنه ... ما زال يصحب باخلا متجبرا
إلى أن قال:
لي مقلة مذ غاب عنها بدرها ... ترعى منازله عساها أن ترى
لولا انسكاب دموعها ودمائها ... ما كنت بين العاشقين مشهرا
فكأنما هي كف موسى كلما ... نثر اللجين أو النضار الأحمرا
استغفر الله العظيم لأنني ... شبهت بالنزر القليل الأكثرا
ويعجبني من مخالصه أيضاً قوله يمدح الملك المذكور، وقد أصطلح هو وأخوه الملك الصالح:
يا نائما والليل في غربه ... والصبح من مشرقه لائح
دع كدر العيش وخذ ما صفا ... تحيا ويشقى الدائر الكادح
قد كلل الطل غصون الربى ... واشتجر الباغم والصادح
وجادت الدنيا على أهلها ... واصطلح الأشرف والصالح
قال ابن حجة: ويعجبني من مخالصه قوله، وهو من المخالص الأشرفيات أيضاً:
يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت
وأنا أقولك عد هذا من المخالص فيه نظر، لأن الشاعر المذكور قد تخلص من النسيب إلى المدح قبل هذا البيت بقوله:
في أحسن الناس أشعاري إذا نسبت ... وفي أجل ملوك الأرض إن مدحت
فالمخلص في الحقيقة إنما هو هذا لا ذاك.
ومن المخالص المحلاة بشعار التورية قول الشيخ برهان الدين القيراطي من قصيدة في الأمير سيف الدين الكريمي، أولها:
غرامي فيك يا قمري غريمي ... وذكرك في دجى ليلي نديمي
وملني الحميم وصد عني ... وما لي غير دمعي من حميم
وكم سأل العواذل عن حديثي ... فقلت لهم على العهد القديم
وعم تساءلون ولي دموع ... تخبركم عن النبأ العظيم
إلى أن قال:
فموعده وناظره وجسمي ... سقيم في سقيم في سقيم
كريم مال بخلا عن وداد ... فملت لمدح مخدومي الكريم
ويعجبني من مخالص الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
أسير ومن فوقي وتحتي ووجهتي ... وخلفي ويمناي الهوى وشماليا
فمالي إذا يممت في الأرض وجهة ... وصرفت في أهل الزمان لحاظيا
تضيق علي الأرض حتى كأنني ... أحاول فيها لابن ارتق ثانيا
ومع شهرة ديوانه فلا حاجة إلى الإكثار من شعره.
وهذا محل إيراد شيء من مخالص أهل هذا القرن.
(1/244)
________________________________________
فمن محاسنها قول القاضي أحمد بن عيسى المرشدي من قصيدة يمدح بها السيّد شهوان بن مسعود الحسني، وقد تقدم مطلع هذه القصيدة في حسن الابتداء، ومخلصها المشار إليه قوله:
صهباء تفعل بالألباب سورتها ... فعل السخاء بشهوان بن مسعود
وقول القاضي تاج الدين المالكي من قصيدة يمدح بها سلطان الحرمين الشريفين، الشريف مسعود بن إدريس، وقد تقدم إنشاد مطلعها أيضاً وما أحسن قوله منها:
لو شام برق الثنايا والتثني من ... تلك القدود انثنى عطفا لإسعادي
ولو رأى هادي الجيداء كان درى ... إن اشتقاق الهدى من ذلك الهادي
كم بات عقدا عليه ساعدي ويدي ... نطاق مجتمع المخفي والبادي
إلى أن قال:
وألهف نفسي على مغنى به سلفت ... ساعات أنس لنا كانت كأعياد
كأنها وأدام الله مشبهها ... أيام دولة صدر الدست والنادي
ذي الجود مسعود المسعود طالعه ... لا زال في برج إقبال وإسعاد
وقول شيخ شيوخنا العلامة محمد بن علي الحرفوشي، من قصيدة يمدح بها بعض أفاضل عصره:
يا ليتها إذ لم تجد بوصال ... سمحت بوعد أو بطيف خيال
جنحت لما رقش الوشاة ونمقوا ... من أنني سال ولست بسال
كيف السلو ولي فؤاد لم يزل ... لجحيم نيران الصبابة صال
ومدامع لولا زفيري لم يكد ... ينجو الورى من سحها المتوالي
ومنها:
هيفاء رنحها الدلال فأخجلت ... هيف الغصون بقدها الميال
في خدها الورد الجني وثغرها ... يحوي لذيذ الشهد والجريال
حجبت محياها الجميل ببرقع ... كرقيق غيم فوق بدر كمال
ونضت من الأجفان بيض صوارم ... ففرت بهن ولم تناد نزال
إلى أن قال:
لله ليلة أقبلت بدجنة ... فرقا من الواشين والعذال
ووفت كما شاء الغرام وانعمت ... بالقرب بعد تبرم ودلال
وحبت فؤادي بعد نار صدودها ... برد الوصال ومنتهى الآمال
فبلغت منها ما يؤمل وامق ... ونهبت منها الوصل خوف زوال
حتى بدا الصبح المنير كأنه ... وجه الوحيد الماجد المفضال
وقول الفاضل الأديب الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب من قصيدة يمحد بها الوالد متع الله بحياته، أولها:
تبدت لنا والبدر للغرب جانح ... وكأس الكرى في راحة الطرف طافح
بحيث السها ترنو بعين كليلة ... وإنسانها في لجة الجو سابح
وحيث النجوم الزاهرات كأنها ... توقد منها في الظلام مصابح
كأن على الآفاق روض بنفسج ... وهن الظباء العيس فيه سوانح
فلما تجلى نورها نسخ الدجى ... فلا أعزل إلا غدا وهو رامح
لك الله شمس يكسف الشمس نورها ... وبدر لنور البدر في التم فاضح
كأن نجوم الليل ورق حمائم ... وفي كل جزء من محياك جارح
وبعدها الأبيات المذكورة في آخر القسم الأول من الالتفات، وبعدها:
لقد فتكت بي غارة منك شنها ... على القلب غاد من هواك ورائح
فلا نفع إن شطت بك الدار أو دنت ... وسيان عندي فيك لاح وناصح
سقى الله هاتيك المعاهد عارضا ... من المزن تمريه الرياح اللواقح
ليغدوا بها نشر الخزامى كأنما ... يخالطه من نشر دارين نافح
كأن خدود الورد والطل فوقها ... خدود الغواني فوقها الدمع ناضح
كأن ابتسام الروض والجو عابس ... محيا نظام الدين والدهر كالح
وقوله من أخرى يمدحه أيضاً، أولها:
سرت والليل محلول الوشاح ... ونسر الجو مبلول الجناح
وثغر الشرق يبسم عن رياض ... مكللة الجوانب بالأقاح
كأن كواكب الظلماء روم ... على دهم تهب إلى الكفاح
كأن المشتري والنجم ساق ... يدير على الندامى كأس راح
فوا عجباه هل يخفى سراها ... وقد أرجت برياها النواحي
من البيض الحسان إذا تجلت ... تخال جبينها فلق الصباح
مهفهة يغار البدر منها ... ويخجل قدها هيف الرماح
أبث لطرفها شكوى غرامي ... وهل يشكو الجريح إلى السلاح
وأطمع أن يزايلني هواها ... ومن ينجو من القدر المتاح
فلا تأوي لكسرة ناظريها ... فكم أودت بألباب صحاح
(1/245)
________________________________________
أحن إلى هواها وهو حتفي ... كمجروح يداوى بالجراح
ولا وأبيك ليس الحب سهلا ... فكم جد تولد من مزاح
خلقت من الغرام فلا أبالي ... أكان به فسادي أم صلاحي
ولولا تمسك الأطمار جسمي ... لطار من النحول مع الرياح
وحب الغانيات حياة روحي ... وراحتها وريحاني وراحي
محبتهن ضاهت في فؤادي ... محبة أحمد طرق السماح
ومن مخالصي التي فاقت سبائك الخلاص قولي من قصيدة علوية، أرجو بها التخلص في يوم القصاص، وقد مر إنشاد مطلعها وصدر منها في حسن الابتداء، ومنها بعدما تقدم:
ترمي ولا تدري بما سفكت ... تلك اللواحظ من دم هدر
الله لي من حب غانية ... ترمي الحشا من حيث لا تدري
بيضاء من كعب وكم منعت ... كعب لها من كاعب بكر
زعمت سلوي وهي سالية ... كلا ورب البيت والحجر
ما قلبها قلبي فأسلوها ... يوما ولا من أمرها أمري
أبكي وتضحك إن شكوت لها ... حر الصدود ولوعة الهجر
وعلى وفور ثراي لي ولها ... ذل الفقير وعزة المثري
لم يبق مني حبها جلدا ... إلا الحنين ولا عج الذكر
ويزيد غلي الماء ما ذكرت ... والماء يثلج غلة الصدر
قد ضل طالب غادة حميت ... في قومها بالبيض والسمر
ومؤنب في حبها سفها ... نهنهته عن منطق الهجر
يزداد وجدي من ملامته ... فكأنه بملامه يغري
لا يكذبن الحب أليق بي ... وبشيمتي من سبة الغدر
هيهات يأبى الغدر لي نسب ... أعزى به لعلي الطهر
وقلت في مديحها:
إن تنكر الأعداء رتبته ... شهدت بها الآيات في الذكر
شكرت حنين له مساعيه ... فيها وفي أحد وفي بدر
ومنه:
وأذكر مباهلة النبي به ... وبزوجه وابنيه للنفر
وأقرأ وأنفسنا وأنفسكم ... فكفى بها فخرا مدى الدهر
هذي المفاخر والمكارم لا ... قعبان من لبن ولا خمر
ومناقب لو شئت أحصرها ... لحصرت قبل أهم بالحصر
وقولي من أخرى في سيدي الوالد، وهو يستغني بتمكنه وقوته من ذكر ما قبله، وهو:
ما كنت أحسب فيه أيضاً عارضت بها قصيدة ابن منير اليائية التي تقدم إنشاد شيء منها استطرادا في نوع القسم، ومن غزل قصيدتي هذه قولي:
قامت تدير سلافا من مراشفها ... حبابها لؤلؤ الثغر الجماني
في ليلة من أثيث الشعر حالكة ... منها دجا حندس الليل الدجوجي
تريك إن أسفرت غراء مائسة ... بدر السماء على أعطاف خطي
من أين للظبي أن يحكي ترائبها ... ولو تشبه ما حاك كمحكي
كم لوعة بت أخفيها وأظهرها ... فيها وسر التصابي غير مخفي
أما وصعدة قد من معاطفها ... وعضب لحظ نضته هندواني
ما أن عذلت على حبي الفؤاد لها ... إلا وجاء بعذر فيه عذري
وافت فأذكت هموما غير جامدة ... واذكرتني عهدا غير منسي
وما زلت أحمل على كواهل الغزل ثقل هذه القافية، إلى أن قلت:
يا حبذا نظرة هام الفؤاد بها ... أزرت وعينيك بالظبي الكناسي
لقد نعمت بوعد منك منتظر ... ونائل من نظام الدين مقضي
هذا المخلص مما صدقت فيه التخلص وما تخرصت، ووثبت فيه من التغزل إلى المديح وما تربصت، واستوفيت فيه شروط حسن التخلص لما تخلصت.
وقولي أيضاً من أخرى تخلصت فيها من الافتخار إلى المدح:
كم قلبتني الليالي في تقلبها ... فكنت قرة عين الفضل والأدب
تزيدني نوب الأيام مكرمة ... كأنني الذهب الأبريز في اللهب
لا أستريب بعين الحق أدفعه ... ولا أراب بعين الشك والريب
لقد طلبت العلى حتى انتهيت إلى ... ما لا ينال وكانت منتهى أربي
حسبي من الشرف العليا أرومته ... أن انتمي لنظام الدين في حسبي
وقد تقدم أكثر هذه القصيدة في نوع الاستعارة.
ولنكتف من محاسن التخلص بهذا المقدار، فقد أوردنا منها ما تستحليه الأسماع وتست***ه الأفكار.
تنبيه - قد تقدم أن أحسن التخلص ما كان في بيت واحد، وأحسن منه ما كان من الغزل إلى المدح.
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح اللامية: وقد ذم بعض المتأخرين ذلك، لكنه حسن ما قبح، فقال:
(1/246)
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-04-2021, 09:44 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,101
افتراضي

________________________________________
بينا ذوائب من يحب بكفه ... حتى تعلق لحية الممدوح
انتهى. وهذا ذم ظرافة لا تحقيق، فعلى الأول المعول.
وإذ ذكرنا هذه الجملة من محاسن المخالص، تعين علينا أن ننبه على ضدها، ليتحرز المبتدي، ويتيقظ المنتهي من سنة الغفلة عن الوقوع في مثلها.
فمن قبيح التخلص قول أبي نواس من قصيدة في الفضل بن يحيى:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا
فإنه ما زاد على أن يجعله قوادا له، ولهذا استحق به السخط من ممدوحه.
حدثت رابعة البرمكية قالت: كنت يوما وأنا وصيفة على رأس مولاي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، وبيدي مذبة أذب بها عنه، إذ استؤذن لمسلم بن الوليد الأنصاري فأذن له، فلما دخل أعظمه وأكرمه، واستنشده، ثم خلع عليه وأجازه وانصرف. فما قلت أنه جاز الستر حتى استؤذن لأبي نواس، فامتنع من الإذن له، حتى سأله بعض من كان في المجلس أن يأذن له ففعل على تكره منه، فلما دخل عليه ما علمت أنه رد عليه، ولا أمره بالجلوس، ولا رفع إليه رأسه. فلما طال عليه وقوفه قال: معي أبيات أفأنشدها؟ فقال: افعل، وهو في نهاية التكره له والتثقل منه.
فأنشده:
طرحتم من الترحال أمرا فغمنا ... ولو قد فعلتم صبح الموت بعضنا
فلما بلغ إلى قوله:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا
قطب في وجهه، وقال: امسك عليك لعنة الله، أعزب قبحك الله، وأمر بإخراجه محروما فأخرج، والتفت الفضل إلى أنس بن أبي شيخ فقال: ما رأيت مثل هذا الرجل، ولا أقل تمييزا لكلامه منه، فقال أنس: فإن اسمه كبير، فقال: عند من ويلك؟ هل هو إلا عند إسقاط مثله.
ويقال أن أبا نواس اعتذر عن ذلك وقال: ما أردت بالفضل في قولي (لعل الفضل يجمع بيننا) إلا معنى الإفضال لا الممدوح، وهو عذر غير واضح.
وتبعه المتنبي في معنى هذا المخلص وزاد عليه فجاء بالطامة الكبرى حيث قال:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
فأتى بما لا يحتمل التأويل والاعتذار، ولا يقال معه عثار.
وممن وقع في حبائل هذا القبح لما رام حسن التخلص، الشيخ عبد الرحمن بن المهدي العقبي من قصيدة في الشيخ عبد الرحمن المرشدي يهنئه بتقلده الإمامة والخطابة والفتوى في آخر عام تسعة عشر وألف:
أنا لم أدر ما الصبابة لولا ... نظرة الريم من خلال الحجال
منية دونها المنية والآجال نيطت بأعين الآجال
لو رثت لي لألصقتني بما بين مجال القروط والأحجال
غير أن الهوى شديد محال ... يفتك الريم فيه بالرئبال
لذت من حربه بسلم فما زا ... د سوى تيه عزة ودلال
أشكلت قصتي وها أنا أعدد ... ت لها رأي موضح الإشكال
غير أن هذا أخف من ذاك على كل حال، على أن الكل قبيح.
والأصل في هذا المعنى لقيس بن ذريح حين طلق زوجته لبنى فتزوجت غيره، ثم ندم على طلاقها وكان مشغوفا بها، فشبب بها وما زال يشكو لوعة فراقها في أشعاره حتى رحمه ابن أبي عتيق، فسعى في طلاقها من زوجها وأعادها إلى قيس، فقال يمدحه ويشكره:
جزى الرحمن أحسن ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق
وقد جربت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي
فلما سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس: يا حبيبي امسك عن مدحك هذا، فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا.
ومن قبيح المخالص قول المتنبي أيضاً:
غدا بك كل خلو مستهاما ... وأصبح كل مستور خليعا
أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبير أو ابن إبراهيم ريعا
فإن هذا المخلص جمع بين الثقل والبرودة وتعسف المعنى، ومعناه أنه علق انقضاء حبها على أمر مستحيل عادة، وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبير أو مستحيل ادعاء وهو خوف الممدوح. ومراده أن يقرر أن كلا من هذين الأمرين من المستحيلات.
وقوله أيضاً:
لا يجذبن ركابي نحوه أحد ... ما دمت حيا وما قلقن كيرانا
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
(1/247)
________________________________________
قال الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى: في هذا البيت أراد أن يزيد على الشعراء في ذكر المطايا فأتى بأخزى الخزايا، ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها، وللمدوح أيضاً عصبة لا يجب أن يركبوا إليه. فهل في الأرض أفحش من هذا التسحب، وأوضع من هذا التبسط.
ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
وإذا انتقل الشاعر مما ابتدأ به الكلام إلى المدح ونحوه من غير ملائمة سمي اقتضابا، وافتطاما، وارتجالا، وهو مذهب العرب الجاهلية والمخضرمين الذين أدركوا الإسلام؛ كلبيد؛ وحسان، وكثير من الإسلاميين ومن المولدين يتبعونهم في ذلك، ويجرون على مذهبهم فيه.
كقول أبي تمام:
لو رأى الله أن في الشيب خيرا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
ثم قال بعده من غير ملائمة:
كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلقا من أبي سعيد رغيبا
وقوله من أخرى يمدح المعتصم بالله العباسي:
وقد طوى الشوق في أحشائنا بقر ... عين طوتهن في أحشائها الكلل
يخزي ركان النقا ما في مآزرها ... ويفضح الكحل في أجفانها الكحل
تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حيث تنتقل
طلت دماء هريقت عندهن كما ... طلت دماء هدايا مكة الهمل
هانت على كل شيء فهو يسفكها ... حتى المنازل والأحداج والإبل
ثم قال بعده من غير مناسبة، ولا تقريب:
بالقائم الثامن المستخلف أطأدت ... قواعد الملك ممتدا لها الطول
وهو في شعره كثير.
وكقول البحتري:
تمادت عقابيل الهوى وتطاولت ... لجاجة معتوب عليه وعاتب
إذا قلت قضيت الصبابة ردها ... خيال ملم من حبيب مجانب
يجود وقد ضن الألى شغفي بهم ... ويدنو وقد شطت ديار الحبائب
ترينيك أحلام النيام وبيننا ... مفاوز يستفرغن جهد الركائب
ثم قال بعده بلا مناسبة:
لبسنا من المعتز بالله نعمة ... هي الروض موليا بغزر السحائب
وقوله من أخرى في الفتح بن خاقان:
ويوم تثنت للوداع وسلمت ... بعينين موصول بلحظيهما *****
توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر
ثم قال بعده:
لعمرك ما الدنيا بنا قصة الجدا ... إذا بقي الفتح بن خاقان والبحر
وهو في شعره: أكثر، حتى أن السليماني الشاعر عرض به في قوله:
يغتابني فإذا التفت أبان عن محض صحيح
وثبا كوثب البحتري ... من النسيب إلى المديح
وهو في شعر الشريف الرضي كثير جدا، ولا فائدة في إيراد شيء منه هنا، لأنه خارج عن البديع وما كان الغرض من إيراد هذه الجملة منه إلا بيانه بالتمثيل، والله أعلم.
تنبيه - ذهب أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي إلى أنه لم يقع في القرآن شيء من التخلص لما فيه من التكلف، وقال: إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم وقد أنكر عليه جماعة من العلماء ذلك، وغلطوه في قوله هذا، وقالوا: إن في القرآن من التخلصات العجيبة ما يحير العقول. فانظر إلى سورة الأعراف، كيف ذكر فيها الأنبياء، والقرون الماضية، والأمم السالفة؛ ثم ذكر موسى؛ إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين) من صفاتهم كيت وكيت، وهم (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) ، وأخذ في صفاته الكريمة، وفضائله العظيمة. وفي سورية الكهف حكى قول ذي القرنين في السد (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا) ، فتخلص منه إلى وصف حالهم بعد دكه الذين هو من أشراط الساعة، ثم بالنفخ في الصور، ثم ذكر الحشر، ووصف مآل الكفار والمؤمنين؛ ومثل ذلك في القرآن كثير، والله أعلم.
وقد طال الكلام في هذا النوع، فلنتخلص إلى إثبات أبيات البديعيات.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم
(1/248)
________________________________________
هذا المخلص جار على الشرط الذي قرر في حسن التخلص، من كونه في بيت واحد، وأن يثب الشاعر من شطره الأول إلى الثاني، وهو كذلك. غير أن تمام معناه متعلق بما قبله، فهو غير صالح للتجريد. وقد مر أن أبيات البديعيات التزموا أن يكون كل بيت فيها شاهدا على نوعه بمجرد لا يتعلق بما بعده، ولا بما قبله، ومخلص الشيخ صفي الدين هذا إذا لم يذكر ما قبله كان ناقص المعنى؛ منخرم النظام، لا يظهر كمال حسنه، ولا تستحلي الأذواق طعم حلاوته؛ ما لم يؤت بمتعلقه وهو بيت القسم، وبيت الاستعارة، وبيت مراعاة النظير.
فيتعين إيرادها هنا لإيضاح ذلك، وهي:
لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا بر التقى قسمي
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم
تجار لفظي إلى سوق القبول بها ... من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم
من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم
قال ابن حجة: وأين الشيخ صفي الدين من قول كمال الدين بن النبيه وقد تقدم:
يا طالب الرزق إن سدت مطالبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت
هذا المخلص لحسن تجريده يستغني به عن قصيدة. انتهى.
قلت: تقدم أن ابن النبيه تخلص قبل هذا البيت بقوله:
في أحسن الناس أشعاري إذا نسبت ... وفي أجل ملوك الأرض إن مدحت
فالمخلص هذا البيت لا ذاك، فلا يخفى عليك غباوة ابن حجة، وصلود زند فهمه.
ومخلص بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
يمم بنا البحر إن الركب في ظمأ ... فقلت سيروا فهذا البحر عن أمم
قد تقدم أن ابن جابر أتى في مطلعه بصريح المدح حيث قال:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانثر طيب الكلم
فأطلق التصريح وبين المدح، ونشر الكلم، فلم يبق لحسن التخلص محل ولا موقع، لأن معنى التخلص أن يكون من غزل ونسيب ونحو ذلك إلى المديح، لا من المديح إلى المديح - قاله ابن حجة بالمعنى - وأنا أقول: هذا اعتراض في غير محله، لأن ابن جابر وإن صرح بالمدح في مطلعه فقد انتقل بعده إلى الغزل والتشبيب كما يدلك عليه أبياته السابقة في الأنواع المتقدمة، ثم تخلص إلى المدح مرة أخرى، فالتخلص في محله، وكثير من الشعراء من يفعل ذلك، فلا يلتفت إلى كلام ابن حجة فإنه ليس بحجة.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم
الشيخ عز الدين جاء بالاقتضاب وسماه حسن التخلص، فإنه قال قبل هذا البيت من غير فاصلة:
وارع النظير من القوم الآلى سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم
فليس بين بيت التخلص بزعمه وبين هذا البيت علاقة أصلا، ولا أدنى ملائمة، ولا مناسبة، بل هو استئناف كلام آخر، فهو اقتضاب قطعا.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ومن غدا قسمه التشبيب في غزل ... حسن التخلص بالمختار من قسمي
أقول: قد تقرر أن حسن التخلص من المواضع التي ينبغي للشاعر التأنق فيها لفظا ومعنى، ولا ينبغي له أن يرتكب فيه ضرورة، لأنه مناف للتأنق المشروط فيه، وابن حجة قد ارتكب في مخلصه هذا الضرورة بحذف فاء الجواب المختص بالضرورة على الصحيح، لأنه كان ينبغي أن يقول: فحسن التخلص، لكنه حذف الفاء لإقامة الوزن ضرورة، كقول الآخر: (من يفعل الحسنات الله يشكرها) . قال ابن هشام في المغني: وعن المبرد: أنه منع ذلك حتى في الشعر وزعم أن الرواية (من يفعل الخير فالرحمن يشكره) .
ومخلص بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
راعي النظير طوى نشر العلى عملا ... رام التخلص بالمختار في الأمم
هذا المخلص أيضاً لا يظهر وجه المناسبة بينه وبين ما قبله، لأن قبله قوله:
خوافي الحب أورتها قوادمه ... من استعارة نار الهجر مع سدم
ومعنى هذا البيت بمعزل عن معنى بيت التخلص، فكأن انتقاله إلى المدح اقتضابا لا تخلصا، وإن سماه به ادعاء.
ومخلص بديعيتي قولي:
وقد هديت إلى حسن التخلص من ... غي النسيب بمدحي سيد الأمم
(1/249)
________________________________________
هذا البيت مستوف لشروط حسن التخلص لفظا ومعنى مع التصريح بذكر حسن التخلص في أثناء الشطر الأول، فلا عبرة بقول ابن حجة: جل القصد أن يكون التصريح به في الشطر الثاني، إذ لا يظهر لهذا الشرط فائدة. نعم التصريح به في أول البيت كما فعل الموصلي لا يتأتى معه الانتقال من الكلام الأول إلى المدح في بيت واحد.
ومخلص بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
تزداد حسنا وتزهو كلما وضعت ... في جيد أوصاف خير الخلق كلهم
هذا البيت أيضاً غير صالح للتجريد، لتعلقه بما قبله، وهو بيت القسم وبيت الاستعارة وهما:
لا أسفرت لي وجوه المشكلات ولا ... حللت عقدة معنى غير منفهم
إن لم أصغ ناظما عقدا فرائده ... وسائط كلها من جوهر الكلم
تزداد حسنا وتزهو كلما وضعت ... في جيد أوصاف خير الخلق كلهم
وكل من هذه الأبيات غير صالح للتجريد
الإطراد
محمد أحمد الهادي البشير ابن ... عبد الله فخر نزار باطرادهم
الإطراد في اللغة، مصدر أطرد الشيء: إذا تبع بعضه بعضا وجرى والأنهار تطرد أي تجري، وفي الاصطلاح، هو أن يجيء الشاعر باسم الممدوح ولقبه وكنيته وصفته وأبيه وجده وقبيلته غالبا، أو ما أمكن من ذلك مطردا متواليا في بيت واحد، من غير تعسف ولا تكلف، ولا انقطاع بألفاظ أجنبية لأنه مشتق من إطراد الماء.
كقول أبي تمام:
عبد المليك بن صالح بن علي بن قسيم النبي في نسبه
وأحسن ما قيل من ذلك، قول بعض المتأخرين في الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي:
مؤيد الدين أبو جعفر ... محمد بن العلقمي الوزير
هكذا حده الشيخ صفي الدين الحلي، ومثل له في شرح بديعيته، وهو أعم من حد الجمهور له، بأنه عبارة عن الإتيان باسم الممدوح أو غيره وأسماء آبائه على ترتيب الولادة من غير تكلف في السبك، حتى تكون الأسماء في تحدرها كالماء الجاري في إطراده، وسهولة انسجامه.
كقول الشاعر:
أن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
لكن قد تقدم أن الشيخ صفي الدين الحلي لخص بديعيته من سبعين كتابا في هذا الفن، اجتنى من ثمرات أوراقها ما شاء، فقوله عمدة في هذا الباب.
قال الشيخ بهاء الدين السبكي في عروس الأفراح: ومنهم من سمى الإطراد ذكر الأسماء مطلقا.
وكذلك صنع ابن رشيق في العمدة، فإنه جعل الإطراد في قول المتنبي:
وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد
انتهى. وأخذ الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى على المتنبي في هذا البيت فقال: لم نزل مستحسنين لجمع الأسامي في الشعر.
كقول دريد بن الصمة:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب
واحتذى هذا الفاضل على طرقهم فقال:
وأنت أبو الهيجا بن حمدان يا ابنه ... تشابه مولود كريم ووالد
وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد
وهذا من الحكمة التي ادخرها أرسطاليس وأفلاطون لهذا الخلف الصالح. انتهى.
وأجاب عنه ابن فورجة فقال: أما سبك البيت، فأحسن سبك، يريد أنت تشبه أباك، وأبوك كان يشبه أباه، وأبوه كان يشبه أباه، إلى آخر الآباء. فليت شعري ما الذي استقبحه؟ فإن استقبح قوله: وحمدان حمدون وحمدون حارث، فليس في حمدان ما يستقبح من حيث اللفظ والمعنى، بل كيف يصنع والرجل اسمه هذا، والذنب في ذلك للآباء لا للمتنبي.
وهذا على نحو ما قال أبو تمام:
عبد المليك بن صالح بن علي بن قسيم النبي في نسبه
والبحتري حيث يقول:
علي بن عيسى بن موسى بن طلحة ... بن سائب بن مالك حين ينطق
انتهى. وهذا من ابن فورجة دفع بالضد، وتجاف عن الحق، فإن الصاحب إنما استقبح من هذا البيت غلق تركيبه، وثقله على السمع، ونبو الطبع عن سماعه، كما يشهد به الذوق. وقوله: إن سبكه أحسن سبك ليس بصحيح، والطبع السليم أعدل حكم في ذلك. وأغرب من ذلك تشبيهه ببيتي أبي تمام والبحتري، وأين هو منهما؟ ولكن حبك الشيء يعمي ويصم كما أن عين السخط تبدي المساويا.
(1/250)
________________________________________
ومن وشاهد هذا النوع قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قال في النهاية: لأنه اجتمع له شرف النبوة والعلم، والكمال والجمال، والعفة وكرم الأخلاق، والعدل ورياسة الدنيا والدين، فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، رابع أربعة في النبوة.
ويروى: أن سبرة بن عياش الجشمي أنشد عبد الملك بن مروان قصيدة دريد بن الصمة التي منها قوله:
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذواب بن أسماء بن زيد بن قارب
فلما وصل إلى هذا البيت قال: لولا القافية لبلغ به آدم.
ومن شواهده الشعرية أيضاً قول الأعشى:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت الذي ترجو بقاءك وائل
وقول ابن دريد وجمع ثمانية أسماء في بيت واحد، ولم يقع في شواهد هذا النوع نظيره انسجاما وجمعا:
فنعم أخو الجلى ومستنبط الندى ... وملجأ محزون ومفزع لاهث
عياذ بن عمرو بن الحسين بن غانم بن زيد بن منظور بن زيد بن حارث
وقوله أيضاً في هذه القصيدة:
خليلي من شمس بن عمرو بن غانم ... ونصر بن زهران بن كعب بن حارث
وكان أبو تمام كثيرا ما يستعمل هذا النوع في شعره، فمنه قوله:
لمحمد بن الهيثم بن شبانة ... مجد إلى حيث السماك مقيم
وقوله:
عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد سهمكم لا يسهم
وقوله أيضاً، وهو أحسن مما تقدم له:
نوح صفا من عهد نوح له ... شرب العلى في الحسب الفارع
مطرد الآباء في نسبة ... كالصبح في إشراقة الساطع
مناسب تحسب من ضوئها ... منازلا للقمر الطالع
كالدلو والحوت وأشراطه ... والبطن والنجم إلى التالع
نوح بن عمر بن حوي بن عم ... رو بن حوي بن الفتى مانع
فأتى بستة من منازل القمر، وقابلها بستة من الأسماء، لولا أن نغص بذكر الفتى في سادس جد، وإن لم يرد فتى السن، وإنما أراد من الفتوة لكنه موهم. والتالع هو الدبران، كأنه تلع جيده أي مده.
ومنه قول بعضهم:
من يكن رام حاجة بعدت عن ... هـ وأعيت عليه كل العياء
فلها أحمد المرجى بن يحيى بن معاذ بن مسلم بن رجاء
وقول أبي سعيد الرستمي في تهنئة الصاحب بن عباد:
تهني ابن عباد بن عباس بن عب ... د الله نعمى بالكرامة تردف
وقول عبد الصمد بن بابك من أبيات: ت
لاموا على ظمأي إليك فلا دروا ... في ماء خدك ما حلاوة موردي
طورا أحيا بالأقاح وتارة ... في الخد بالريحان والورد الندي
وجه كما سفر الصباح وحوله ... حسنا بقايا جنح ليل أسود
وكأنما خاف العيون فألبست ... وجناته زردا مخافة معتد
أنى يخاف من استجار محبه ... بمحمد بن علي بن محمد
وقول سراج الدين عمر الوراق:
فله الجمال غدا بغير منازع ... ولي الجوى فيه بغير قسيم
وكذا العلى لمحمد بن محمد بن علي بن محمد بن سليم
وقول الأديب أبي الحكم مالك بن المرحل في أبي عبد الله بن يربوع:
صحبت عمري ناسا من ذوي حسب ... حازوا الثناء بموروث ومطبوع
فلم أجد فاضلا فيما صحبت سوى ... محمد بن أبي العيش بن يربوع
وقول أبي الحسن اللحام في أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن حامد:
محمد بن علي ... سبط الحسين بن حامد
وافى فسر ولي ... به وأكمد حاسد
وقول بعض شعراء المغرب في إدريس بن حمود خليفة الأندلس:
وكأن الشمس لما أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي بن حمود أمير المؤمنين
وقلت أنا وقد وصلت من هذا التأليف إلى هذا المحل سابع محرم الحرام:
ما عاد عاشوراء إلا همت ... عيني بدمع هاطل ساكب
وجدا علي بط الرسول الحسين بن علي بن أبي طالب
ومن شواهد بالألقاب قول البطائحي في المستظهر بالله العباسي:
أصبحت بالمستظهر بن المقتدي ... بالله ابن القائم بن القادر
مستعصيا أرجو نوال أكفه ... وبأن يكون على العشيرة ناصري
فيقر مع كبري قراري عنده ... ويفوز من مدحي بشعر سائر
وهذه الأمثلة كلها جارية عل المشهور في الإطراد من ذكر اسم الممدوح وأسماء آبائه فقط.
(1/251)
________________________________________
وأما الأمثلة الجارية على ما قرره الشيخ صفي الدين الحلي فيه من ذكر اسم الممدوح، ولقبه وكنيته، واسم أبيه وجده، أو ما أمكن من ذلك. فمنها ما ذكره أبو منصور الثعالبي في اليتيمة، ترجمة أبي علي الدامغاني حيث قال: لا أذكر أن أحدا ما الصدور يسع دعاءه ولقبه، وكنيته واسمه واسم أبيه وبلده بيت واحد من الشعر سواه.
فإن أبا القاسم الأليماني أنشدني لنفسه من قصيدة فيه، ومنها هذا البيت:
إلى الشيخ الجليل أبي علي ... محمد بن عيسى الدامغاني
وقول الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري في أبي القاسم الموسوي:
يقولون لي هل للمكارم والعلى ... قوام ففيه لو علمت دوامها
فقلت لهم والصدق خلق ألفته ... علي بن موسى الموسوي قوامها
وقوله فيه أيضاً:
يقول صديقي ألا دلني ... على برمك الجود أو حاتم
فقلت وأقسمت رب العلى ... علي بن موسى أبو القاسم
وقول أبي محمد الحسين بن أحمد الزيادي في الشيخ أبي علي الجشمي:
إن الدراية والرواية خاتم ... حقا أقول ولست فيه بزاعم
وأبو علي أحمد بن محمد بن عميرة الجشمي فص الخاتم
فأجابه الجشمي بقوله:
قد قلت عن حق فعوا ما قلت إذ ... ليس المقلد في الورى كالعالم
إن الزيادي الحسين أبا محمد بن أحمد شمس هذا العالم
وقول أبي الحسن الباخرزي في أبي القاسم الموسوي أيضاً:
وسقت الركائب حتى أنخن ... بسبط الأنامل سبط النبي
علي بن موسى مواسي العفاة ... أبي القاسم السيّد الموسوي
وقول بعضهم يهجو الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع:
عبد العظيم الزكي بن أبي افصبع رب القريض والخطب
يزعم أني بالهجو أذكره ... تعصبا منه ساعة الغضب
لكنني والطلاق يلزمني ... ما ملت فيه يوما إلى الكذب
نكت ابنه وأخته وخالته ... ونكتب قدما أخاه وهو صبي
وليس فيما أتيت مبتدعا ... قد كان هذا في سالف الحقب
ناك أبي أمه وجدته ... وعمته لله در أبي
ونحن في بيته على دعة ... والنيك ما بيننا إلى الركب
وهذه الأبيات - على ما فيها - في غاية السهولة والانسجام.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي جار على ما قرره هو في الإطراد، وهو:
محمد المصطفى الهادي النبي أجل المرسلين بن عبد الله ذي الكرم
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
قد أورث المجد عبد الله شيبة عن ... عمرو بن عبد مناف عن قصيهم
ابن جابر جرى في نظم هذا البيت على ما ذهب إليه بعضهم في الإطراد من أنه ذكر الأسماء مطلقا، وإليه جنح ابن رشيق في العمدة كما تقدم نقله عن عروس الأفراح. ولا مشاحة في الإصلاح، غير أن الخروج عن القول المشهور خلاف الأولى.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
محمد بن عبد الله شيبة جده بن عمرو كرام في اطرادهم
هذا البيت ظاهر التكلف، شديد التعسف، يأباه شرط الإطراد الذي هو عدم التكلف في السبك، لأنه إنما سمي اطرادا، لكون الأسماء في تحدرها كالماء الجاري في اطراده وانصبابه. والذي أقول: إن هذا البيت لو كان الماء لكان عكرا لا يسيغه شارب، كما لا يسيغه الآن سامع.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
محمد بن الذبيحين الأمين أبو البتول خير نبي في اطرادهم
وبيت بديعية الطبري قوله:
محمد نجل عبد الله نجل أبي ال ... عباس آبا كرام في اطرادهم
قوله: آبا، يريد به آباء جمع أب، فحذف الهمزة، وقصر المد لضرورة الوزن؛ فثقل لفظها؛ واستبشع التلفظ بها حتى لو وقعت في بحر صاف لكدرته؛ ولو ألقيت على جبل شامخ لضعضعته، على أن البيت برمته في غاية التكلف والتعسف.
وبيت بديعيتي هو قولي:
محمد أحمد الهادي البشير بن ... عبد الله فخر نزار باطرادهم
هذا البيت فيه أسماء الممدوح صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولقبان من ألقابه الشريفة وذكر أبيه، وذكر قبيلته، مع عدم ارتكاب ضرورة، ولا تكلف في النظم.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
محمد المصطفى بن المصطفين إما ... من الأنبياء رسول الله في الأمم
تذنيب - عد بعضهم من الإطراد مثل قول أبي تمام:
بكريها علويها صعبيها ال ... حصني شيبانيها الصنديدا
(1/252)
________________________________________
ذهليها مريها مطريها ... يمنى يديها خالد بن يزيدا
وهو غير معروف.

العكس عز الذليل ذليل العز مبغضه=فاعجب لعكس أعاديه وذلهم العكس في اللغة: ردك آخر الشيء إلى أوله، وفي الاصطلاح على نوعين لفظي ومعنوي. فاللفظي هو أن تقدم في الكلام جزأ ثم تعكس وتقدم ما أخرت، وتؤخر ما قدمت، ويسمى التبديل أيضاً، وهو على وجوه كما سيظهر لك من الأمثلة التي سنوردها نثرا ونظما.
فمنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: جار الدار أحق بدار الجار. رواه النسائي، وأبو يعلى في مسنده، وابن حيان في صحيحه عن أنس وأحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي عن سمرة. قاله العلامة السيوطي في الجامع الصغير.
وابن حجة لبعد معرفته عن مثل ذلك جاء به بصيغة التمريض فقال: قيل: إنه ورد في الحديث، وذكر الحديث المذكور، وهو جهل منه.
وقول أبي الفتح البستي: عادات السادات سادات العادات. وقولهم: كلام الملوك ملوك الكلام. وقولهم: شيم الأحرار أحرار الشيم. وقولهم: كتب الأحباب أحباب الكتب.
وأنشد الشيخ شهاب الدين أبو الثناء محمود لنفسه في هذا النوع ما كتبه جوابا لصاحب اليمن عن هدية وردت منه قرين كتاب:
أتاني كتابك والمكرمات ... تسير لديه مسير السحب
لئن جاء في موكب من نداك ... فكتب الملوك ملوك الكتب
ومنه قول القاضي الأرجاني:
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... في العصر لا بل أفقه الشعراء
شعري إذا ما قلت دونه الورى ... بالطبع لا بتكلف الإلقاء
أخذه الآخر فقال:
هو في الفقه شاعر لا يبارى ... وهو في الشعر أفقه الشعراء
لا إلى هؤلاء إن طلبوه ... وجدوه ولا إلى هؤلاء
غير أن ذلك مدح وهذا ذم.
ومنه قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) .
وقول الحماسي:
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
وقول أبي هلال العسكري يصف الربيع:
لبس الماء والهواء صفاء ... واكتسى الروض بهجة وبهاء
فتخال السماء بالليل أرضا ... وترى الأرض في النهار سماء
وقول مجير الدين محمد بن تميم:
وليلة بتها من ثغر حبي ... ومن كأسي إلى فلق الصباح
أقبل أقحوانا في شقيق ... وأشربها شقيقا في أقاح
وقول بعضهم في رئيس ركب البحر:
ولما امتطى البحر ابتهلت تضرعا ... إلى الله يا مجري الرياح بلطفه
جعلت الندى من كفه مثل موجه ... فسلمه واجعل موجه مثل كفه
وقول عبد الرحمن بن الحسن القوشنجي
فو الله ما فارقت عهدة عقده ... ووالله ما أحللت عقدة عهده
وأني على هجرانه عبد وده ... فمن لي بمولى يرتضي ود عبده
وقول السيّد عز الدين المرتضى من قصيدة:
وعين شأني شأن لا أبوح به ... وشأن عيني عين ذات تهتان
ومنها:
لقد خبرت بني الدنيا فليس يرى ... إنسان عيني فيهم عين إنسان
ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: اشكر لمن أنعم عليك، وانعم على من شكرك. وقوله عليه السلام أن الإنسان ليسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه.
وقول الحسن البصري: إن من خوفك حتى تلقى الأمن خير ممن آمنك حتى تلقى الخوف. وقول بعض الحكماء: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. وقيل لحكيم: لم لا تمنع من يسألك؟ فقال: لئلا أسأل من يمنعني.
ولما قصد أبو تمام عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان، وامتدحه بقصيدته التي أولها (أهن عوادي يوسف وصواحبه) أنكر عليه أبو سعيد الضرير، وأبو العميثل هذا الابتداء وقالا له: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال لهما: لم لا تفهمان ما أقول فاستحسن منه هذا الجواب.
وقيل للحسن بن سهل: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
وقال أبو العيناء لأبي الصقر بن بلبل وهو وزير: أنت والله تقرب منا إذا احتجنا إليك، وتبعد عنا إذا احتجت إلينا.
وقيل لأبي دواد الأيادي - ونظر إلى ابنته تسوس فرسه - لقد أهنتها يا أبا دواد، فقال: أهنتها بكرامتي، كما أكرمتها بهواني.
وقال الجرجاني لأبي علي الحاتمي: إنما تحرم لأنك تشتم، فقال: إنما أشتم لأني أحرم.
(1/253)
________________________________________
وقيل لمريض كيف أنت؟ فقال: أجد ما لا اشتهي، وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان سوء، من وجد لم يجد، ومن جاد لم يجد.
وقال الأضبط:
ويجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
ويقطع الثوب غير لابسه ... يلبس الثوب غير من قطعه
ويروى لهارون الرشيد:
لساني كتوم لأسرارهم ... ودمعي بسري نموم مذيع
فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع
وأولع الشعراء بهذا المعنى فقال بعضهم:
لعمري لعمري بكم عامر ... ولا أشتهي العمر لولاكم
فلولاكم ما عرفنا الهوى ... ولولا الهوى ما عرفناكم
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
مسألة الدور جرت ... بيني وبين من أحب
لولا مشيبي ما جفا ... لولا جفاه لم أشب
وللشيخ نجيب الدين الشامي:
علة شيبي قبل إبانه ... هجر حبيبي في المقال الصحيح
ويدعي العلة في هجره ... شيبي ففي القولين دور صريح
وقال آخر:
مسائل دور شيب رأسي وهجرها ... وكل غدا عما به في الهوى ينبي
فأقسم لولا الهجر ما شاب مفرقي ... وتقسم لولا الشيب ما كرهت قربي
وما أحسن قول شمس الدين محمد بن التلمساني في هذا النوع:
يا بأبي معاطف وأعين ... يصول منها رامح ونابل
فهذه ذوابل نواضر ... وهذه نواظر ذوابل
غير أن النواضر الأولى بالظاد المعجمة لأنها من النضرة وهي النعمة، والنواظر الثانية بالظاء المشالة لأنها من النظر وهو البصر، ومثل ذلك مغتفر في مثل هذا المقام.
وقول المطوعي:
ألست ترى أطباق ورد وحولها ... من النرجس الغض الطري ورود
فتلك خدود ما عليهن أعين ... وتلك عيون ما لهن خدود
ومن بديع هذا النوع ما أنشده أبو منصور الثعالبي في اليتيمة لصاحب ابن عباد في وصف الزجاج والشراب:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وكثير من ينسب هذين البيتين لأبي نواس، ولم أجدهما في ديوانه.
ولأبي الطيب المتنبي في هذا النوع:
فلا مجد في الدنيا لمن قل مال ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فما ترزق الأيام من أنت حارم ... ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
إذا حقدت لم يبق في قلبها رضى ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
وقال ابن نباتة السعدي:
ألا فاخش ما يرجى وجدك هابط ... ولا تخش ما يخشى وجدك رافع
فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السد نافع
وقال آخر وأجاد. وغلط ابن حجة في نسبته إلى المتنبي:
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر دونها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
وقال آخر:
النفس ملأى من المعالي ... والكيس صفر الجناب خالي
فليس مالي كمثل فضلي وليس فضلي كمثل مالي
ومن الطريف النادر في هذا الباب قول أبي الحسن الباخرزي من قصيدة بديعة في السيّد ذي المجدين أبي القاسم علي بن موسى الموسوي:
معاد معاديه مهما طوى ... على بغضه القلب قعر الطوي
وأمثل أحوال أعدائه ... وكلهم نهب داء دوي
عصي مكللة بالرؤوس ... وروس مكللة بالعصي
قال في الدمية: أنشدت هذه القصيدة الممدوح بها بحضرة أبي منصور محمد بن عبد الجبار السمعاني والمجلس غاص بالعام والخاص، فلما انتهيت فيها إلى قولي هذا صفق القاضي أبو منصور بيديه وقال: عين الله عليه، وأثنى علي في ذلك المجلس الغصان، بمثل ما أثنى به حسان على آل غسان.
ومن مستجاده قول القاضي أبي الفتح نصر بن سيار الهروي يصف نار السذق، وهو بفتح السين المهملة والذال المعجمة وبعدهما قاف، ليلة الوقود، فارسي معرب:
رب ليل كشعر ليلى ... سوادا
شق ***ابها عن الأرض نار
وترى الأرض كالسماء فكل ... قد تجلى خلالها أنوار
وشرار كأنهن نجوم ... ونجوم كأنهن شرار
وما ألطف قوله أيضاً في هذا المعنى، وإن لم يكن مما نحن فيه:
وليلة سامحتني ... بها نوائب دهري
بتنا نحث زجاجا ... ما بين خمر وجمر
فتلك ذائب جمر ... وذاك جامد خمر
(1/254)
________________________________________
ويعجبني من هذا الباب قول شرف السادة أبي الحسن البلخي:
أفدي بروحي من قلبي كوجنته ... في الوصف لا الحكم فالأحكام تفترق
أعجب لحرقة قلب ما له لهب ... ومن تلهب خد ليس يحترق
ومما انعقد الإجماع على حسنه من الأسماع، قول تميم بن مفرج الطائي، من خمرية له أولها:
قم واسقني قبل الصباح المسفر ... يوم الخميس على طلوع المشتري
وإذا لقيت الجمعة الزهراء فل ... يكن الغبوق على جبين أزهر
واستقبل اليوم السعيد بمقبل ... طلق وأدبر عن عذول مدبر
إن قيل أن الراح حرم شربها ... عن أهل دين محمد فتنصر
(عن) هنا بمعنى (على) وهما يتعاقبان، قال الله تعالى: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) .
قوله المشار إليه في هذا النوع هو:
قل للغزالة وهي غير غزالة ... والجؤذر النعسان غير الجؤذر
لمذكر الخطوات غير مؤنث ... ومؤنث الخلوات غير مذكر
قال في دمية القصر: هذا بيت شعر يساوي بيت تبر، وفيه قلب يقبله كل قلب. ثم الموازنة بين الخطوات والخلوات في نهاية الحلاوة.
ومقول القول قوله بعده:
قومي إلى الشيء الذي بتنا به ... بالأمس بذاك الجوهر
وتسربلي قبل القيام وأسبلي ... ذاك العذار الجون ثم تزنري
فتنبهت هيفاء غير بطيئة ... عما التمست ولا سحوب المئزر
يعني أنها تشمرت للخدمة، فقلصت أذيالها، لا كالكسلان الذي يزود الأرض فضلة ردائه، إما لكسله، وإما لخيلائه.
وبعده:
تفتر عن برد وتنظم مثله ... عقدا وتنظر عن جفون فتر
وتيممت دنين في مطمورة ... كانا معا فيما أظن لقيصر
فتحتهما فكأنما فتحتهما ... عن لون ياقوت ونكهة عنبر
ومن المستطرف هنا إلى الغاية، قول شيخ الشيوخ بحماة، وهو لسان الحال، حال تأليف هذا الكتاب:
أفنيت عمري في دهر مكاسبه ... تطيع أهواءنا فيه وتعصينا
تسعا وعشرين مد الهم شقتها ... حتى توهمتها عشرا وتسعينا
وللشيخ صلاح الدين الصفدي:
قد فاق غصن النقا حبيبي ... وأخجل البدر في التمام
فذا قوام بلا محيا ... وذا محيا بلا قوام
وأنشد الشيخ سعد الدين التفتازاني لنفسه في شرح التلخيص عند الكلام على هذا النوع:
طويت بإحراز الفنون تجشما ... رداء شبابي والجنون فنون
فحين تعاطيت الفنون وخطها ... تبين لي أن الفنون جنون
وقال الشيخ صفي الدين الحلي:
لا تحقرن المال فالعين للإنسان كالإنسان للعين
وقال أيضاً:
عين النضار كناظر العين الذي ... يتأمل القاصي به والداني
ولرب إنسان بلا عين غدا ... وكأنه عين بلا إنسان
وقال أيضاً ناظما قول الحكيم المقدم ذكره:
إذا الجد لم يك لي مسعدا ... فما حركاتي إلا سكون
إذا لم يكن ما يريد الفتى ... على رغمه فليرد ما يكون
وقال آخر:
معشوقتي جارية ساقية ... ونزهتي ساقية جاريه
جارية أعينها جنة ... وجنة أعينها جاريه
وهذان البيتان حسنان لو سلما من الإيطاء في القافية.
وقلت أنا من قصيدة:
أجلواها والدهر طلق المحيا ... والقماري تنادم الأقمارا
في عذارى كأنهن رياض ... ورياض كأنهن عذارى
والشعر في هذا النوع كثير جدا، والاقتصار على هذه الجملة منه فيها مقنع.
وأما العكس المعنوي فهو من مستخرجات ابن أبي الإصبع، وحده بأن قال: هو أن يأتي الشاعر إلى معنى لغيره، أو لنفسه فيعكسه.
فمثال عكس الشاعر معنى غيره، قول علي بن الجهم يصف السحاب:
فمرت تفوت الطرف حتى كأنها ... جنود عبيد الله ولت بنودها
فات عكس فيه قول أبي العتاهية يصف الرايات:
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
وقول الآخر:
وربما فات بعض الناس أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
عكس فيه قول الأخطل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وعكس الصابي قول البحتري في الوداع:
أقول له عند توديعه ... وكل بعبرته ملبس
لئن قعدت عنك أجسادنا ... لقد سافرت معك الأنفس
فقال الصابي ونبه على ذلك:
(1/255)
________________________________________
ولما حضرت لتوديعه ... وطرف النوى نحونا أشوس
عكست له بيت شعر مضى ... يليق به الحال إذ يعكس
لئن سافرت عنك أجسادنا ... لقد قعدت معك الأنفس
وقال بعضهم:
إذا ما رأيت فتى ماجدا ... فظن بعقل أبيه السخف
فقد يلد النجب غير النجيب ... وهل يلد الدر إلا الصدف
وعكسه الآخر فقال:
إذا ما رأيت فتى ماجدا ... فكن بابنه سيئ الاعتقاد
فلست ترى من نجيب نجيبا ... وهل تلد النار غير الرماد
ومن هذا الباب ما حكاه علي بن عبد الله الجعفري، من بني جعفر الطيار عليه السلام - وكان ممن حمله المتوكل من المدينة إلى سر من رأى، وحبسه مع الطالبيين - قال: - مكثت في الحبس مدة، فدخل علي يوما رجل من الكتاب فقال: أريد هذا الجعفري الذي تديث في شعره، فقلت له: إلي فأنا هو، فعدل إلي وقال لي: جعلت فداك أحب أن تنشدني بيتيك اللذين تديثت فيهما.
فأنشدته:
ولما بدا لي أنها لا تودني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي
تمنيت أن تهوى سواي لعلها ... تذوق حرارات الهوى فترق لي
قال: فكتبهما، ثم قال: اسمع - جعلت فداك - بيتين قلتهما في الغيرة، فقلت: ما هما؟ فأنشدني:
ربما سرني صدودك عني ... فلا طلابيك وامتناعك مني
حذار أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني
انتهى. فهذان البيتان عكس فيهما هذا الكاتب قول الجعفري.
ومنه أيضاً ما حكاه محمد بن يحيى التغليب قال مررت بجعفر بن عفان الطائي يوما وهو على باب منزله فسلمت عليه فقال: مرحبا يا أخا تغلب اجلس، فجلست فقال لي: أما تعجب من ابن أبي حفصة حيث يقول:
أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
فقلت بلى والله، أني لأتعجب منه، وأكثر اللعنة له. فهل قلت في هذا شيئا؟ قال نعم قلت:
لم لا يكون وإن ذاك لكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصف كامل من ماله ... والعم متروك بغير سهام
ما للطليق وللتراث وإنما ... صلى الطليق مخافة الصمصام
وعلى ذلك قال صالح بن عطية الأضجم لما قال مروان بن أبي حفصة: عاهدت الله أن أغتاله فأقتله أي وقت أمكنني ذلك، وما زلت ألاطفه وأبره، وأكتب أشعاري، حتى خصصت به فأنس بي جدا، وعرف ذلك بنو حفصة جميعا فأنسوا بي، ولم أزل أطلب له غرة حتى مرض من حمى أصابته، فلم أزل أظهر الجزع عليه والإشفاق حتى خلا لي البيت يوما، فوثبت عليه فأخذت بحلقه، فما فارقته حتى مات، وخرجت وتركته؛ فخرج إليه أهله بعد ساعة فوجدوه ميتا، وارتفعت الصيحة؛ فحضرت وتباكيت، وأظهرت الجزع عليه، حتى دفن وما فطن بما فعلت أحد، ولا اتهمني. انتهى. ذكر ذلك في الأغاني.
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح اللامية، حكى ابن رشيق في الأنموذج: أن عبد الرحمن بن محمد الفراسي جلس مع بعض شيوخ تونس، وكان الشيخ نهاية في المجون، فاجتاز بهم رجل، فسأل عن دار ابن عبدون؛ فأقبل الشيخ عليه فقال: هي في تلك الرابعة حيث يقوم أيرك، فقال الفراسي: والله لأنظمنه فما رأيت مثل هذا المعنى.
وأنشأ من وقته يقول:
إن شئت أن تعرف عن صحة ... دار الذي يعزى لعبدونه
فامش فإن أيرك أبصرته ... قام فإن الباب من دونه
قال: وقد عكست أنا هذا المعنى فقلت:
أقول لمن يسائل عن محلي ... تقدم وامش من خلف السواري
ومر فحيث ما تلقى حكاكا ... بسرمك لا تعد فثم داري
انتهى. ومثال عكس الشاعر معنى نفسه قول بعضهم:
وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
وقول الآخر وأجاد:
ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن
وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني
وأحسن منه قول نجم الدين يعقوب بن صابر المنجنيقي:
وجارية من بنات الحبوش ذات جفون صحاح مراض
تعشقتها للتصابي فشبت ... غرما ولم أك بالشيب راضي
وكنت أعيرها بالسواد ... فصارت تعيرني بالبياض
وأرباب البديعيات إنما بنو أبياتهم على النوع الأول من العكس.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم:
(1/256)
________________________________________
أبدى العجائب فالأعمى بنفثته ... غدا بصيرا وفي الحرب البصير عمي
هذا البيت مع خفة هذا النوع لا يخلو من نوع ثقل وعقادة في التركيب.
وبيت ابن جابر أرشق منه حيث يقول:
فاتبع رجال السرى في البيد واسر له ... سرى الرجال ذوي الألباب والهمم
فالعكس في رجال السرى، وسرى الرجال يحكم الذوق السليم بخفته ورشاقته، وتعنت ابن حجة عليه - على جاري عادته - فقال: إن هذا البيت لم يخلص من العكس هنا، إذ ليس فيه نكتة تلم له مع البديع شملا. انتهى.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
خير المقال مقال الخير فاصغ ودع ... عكس الصواب مع التبديل تستقم
اعترض ابن حجة على هذا البيت بكونه أجنبيا من مدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. قال: وليس له أدنى تعلق ببيت المديح الذي قبله، والذي بعده، ثم قال: وغالب مديحه النبوي في هذه القصيدة على هذا النمط وأطال الكلام في ذلك بما يوقف عليه في شرحه.
قلت: وكأن الشيخ عز الدين إنما خاطب ابن حجة بهذا البيت.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي
صدر هذا البيت كامل، وأما عجزه فتعجز الجبال الرواسي عن تحمل ثقله.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
رب الجمال جمال الرب بعثته ... يا عكس منكرها والنار في ضرم
حبس عنان القلم عن الكلام، أولى من إطلاقه في هذا المقام.
وبيت بديعيتي هو قولي:
عز الذليل ذليل العز مبغضه ... فاعجب لعكس أعاديه وذلهم
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
أفدي ظباه فكم عظمن ذا صغر ... في الله قدرا وكم صغرن ذا عظم
الترديد
هو القسيم له أو في القسيم على ... نفي القسيم ولا ترديد في القسم
الترديد - عبارة عن أن يعلق المتكلم لفظة من كلامه بمعنى، ثم يرددها بعينها معلقة بمعنى آخر كقوله تعالى: (حتى نؤتى مثل (ما) أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته) فالجلالة الأولى مضاف إليها متعلقة بمعنى، والثانية مبتدأ بها متعلقة بمعنى آخر. ومثله قوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) فليلة القدر الأولى مبتدأ عند الجمهور خبره (ما) الاستفهامية، قدم للزومه الصدر، وبالعكس عند سيبويه، وهي متعلقة بمعنى التعظيم، وليلة القدر الثانية مبتدأ خبرها ما بعدها، وهي متعلقة بمعنى الإخبار عنها بكونها خيرا من ألف شهر.
ومثلوا له من الشعر بقول الحسن بن هاني وهو أبو نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
فقوله: مسها، مسته: ترديد.
والأحسن، التمثيل له بقول محمد بن هاني المغربي:
وقد أهبط الغيث غض الجميم ... غض الأسرة غض الندى
يعني أن المطر لكثرة وقوعه هدل الروض وأنزله، والجميم بالجيم: النبت الكثير، أو الناهض المنتشر، والأسرة هنا مستعارة من قولهم: لمعت أسرة وجهه؛ وهي الخطوط التي تجتمع في الجبهة وتتكسر.
ومثله قوله أيضاً:
ويأبى لك الذم طيب النجار ... وطيب الخلال وطيب الشيم
وقوله من أخرى:
أقول وقد شق أعلى السحاب ... وأعلى الهضاب وأعلى الربى
إذا الودق في مثل هذا الرباب ... وذا البرق في مثل هذا السنا
وقول بدّر الدين بن مخزوم:
عزيز قوم عزيز الجار والشرف ... عبد العزيز غدا يلقاه خير وفي
وقول بعضهم في سوداء:
ومسكية النشر مسكية ال ... عذارين مسكية المنظر
تثنى وقامتها للقضيب ... وتنظر واللحظ للجؤذر
وأحسبها في خلال الحديث ... تنثر عقدا من الجوهر
فكل من هذه الألفاظ المرددة في هذه الأبيات تتعلق في كل موضع بمعنى غير الآخر، والفرق بين هذا النوع وبين التكرار: أن اللفظة التي تتكرر ولا تفيد معنى زائدا غير معنى الأولى هي التكرار، واللفظة التي تردد فتفيد بمتعلقها معنى آخر غير معنى الأولى هي الترديد.
قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: وإن اتفق للشاعر توجيه اللفظة المرددة واشتراكها بمعنى آخر كان أبلغ. انتهى.
قلت: ولا يخفى أنه حينئذ يكون من باب الجناس التام.
ومثاله قول الشيخ الإمام عز الدين بن أبي الحديد في إحدى علوياته:
(1/257)
________________________________________
إمام هدى بالقرص آثر فاقتضى ... له القرص رد القرص أبيض أزهرا
فلفظة القرص في أول البيت مراد بها قرص الشعير الذي آثر به المسكين، والأسير، واليتيم. وفي آخره: قرص الشمس في ردها له.
ومنه قول بعضهم في وصف كتاب:
كتاب كوشي الروض حظت سطوره ... يد ابن هلال عن فم ابن هلال
أراد بابن هلال الأول: أبا الحسن علي بن هلال، المعروف بابن البواب الكاتب المشهور، قال ابن خلكان: لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله، ولا قاربه. وبابن هلال الثاني: أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع. وعلى ذلك بنى فحول أرباب البديعيات أبياتهم.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي (ره) قوله:
له السلام من الله السلام وفي ... دار السلام تراه شافع الأمم
السلام الأول: من التسليم، والثاني: من أسمائه تعالى، والثالث: بمعنى السلامة، سميت الجنة بذلك، لأن الصائر إليها يسلم من كل آفة وغير ذلك.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
له الجميل من الرب الجميل ... على الوجه الجميل بترديد من النعم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
هو الجواد رسول للجواد بمض ... مار الجواد له الترديد بالنعم
الجواد الأول بمعنى السخي، والثاني: من أسمائه تعالى، والثالث: الفرس الرائع، ولكن انظر، ما معنى قوله: بمضمار الجواد؟ فإني لا أرى له هنا معنى.
وبيت بديعيتي هو قولي:
هو القسيم له أو في القسيم على ... نفي القسيم ولا ترديد في القسم
القسيم الأول بمعنى الجميل - من القسامة وهو الحسن - والثاني بمعنى القسم بالكسرة وهو النصيب - نص عليه في القاموس -، والثالث بمعنى المقاسم. والمعنى: أن له أوفى النصيب من كل فضل وشرف، مع نفي المقاسم له في ذلك. وقولي: ولا ترديد في القسم: تذييل، والمعنى: أن القسم مقضية قضاء فصل لا ترديد فيها.
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
جلت فتوحا وجلت معشرا كفرا ... طردا وجلت دياجي الأعصر الدهم
هذا البيت غير صالح للتجريد لتعلق معناه ببيت العكس قبله، والضمير في جلت عائد إلى الظبا في البيت المذكور. والترديد في لفظة جلت، فالأولى بمعنى عظمت، والثانية بمعنى أخرجت من الجلاء وهو الخروج من البلد - والثالثة بمعنى كشفت، يقال: جلى الشيء أي كشفه، ومنه جلى الصبح الظلام.

المناسبة
زاكي النجار علو المجد ناسبه ... زاهي الفخار كريم الجد ذو شمم
المناسبة على ضربين: معنوية ولظفية، والمعنوية هي التناسب في المعاني ويندرج فيها مراعاة النظير، والتوشيح - وقد تقدما - وتناسب الأطراف، وائتلاف المعنى مع المعنى - وسيأتيان إن شاء الله تعالى _. وتوهم ابن حجة أن المناسبة المعنوية أمر غير ذلك، وعرفها بتعريف تناسب الأطراف الذي سماه بعضهم بتشابه الأطراف المعنوي، ومثل لها بأمثلته، وبأمثلة مراعاة النظير، وخلط بين النوعين. ونظمته أنا في بديعيتي وستراه إن شاء الله تعالى. وأما مراعاة النظير، والتوشيح، وائتلاف المعنى مع المعنى فقد نظموه كما مر، ويأتي.
وأما المناسبة اللفظية، وهي المقصودة هنا بالذكر، فهي عبارة عن الإتيان بكلمات متزنات، أما مقفاة وتسمى التامة، أو غير مقفاة وتسمى الناقصة.
فالأولى كقوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون) .
ومن أمثلته في الشعر قول مروان بن أبي حفصة:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وقول السلامي:
ظلت تزف له الدنيا محاسنها ... وتستعد له الألطاف والتحفا
من عارض وكفا أو بارق خطفا ... أو طائر هتفا أو سائر وقفا
وقول أبي سعيد الرستمي:
يرد سناك البدر والبدر زاهر ... ويقفو نداك البحر والبحر زاخر
والثانية كقوله تعالى: (وظل ممدود. وماء مسكوب) .
وقول محمد بن هاني المغربي:
تأتي له خلف الخطوب عزائم ... تذكي لها خلف الصباح مشاعل
(1/258)
________________________________________
فكأنهن على العيون غياهب ... وكأنهن على النفوس حبائل
فقوله (على العيون) موازن (على النفوس) و (غياهب) موازن (حبائل) وهي مناسبة ناقصة لعدم التقفية.
ويجمع النوعين قول أبي تمام:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
فبين (مها) و (قنا) مناسبة تامة، وبين (الوحش) و (الخط) و (أوانس) وذوابل) مناسبة غير تامة.
ومثله قول البحتري:
فأحجم لما لم يجد فيك مطعما ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا
فبين (أحجم) و (أقدم) مناسبة تامة، وبي (مطعما) و (مهربا) مناسبة ناقصة.
وقل ابن المغلس من قصيدة في أبي نصر سابور:
أن يواجه فطود حلم ركين ... أو يفاوض فبحر علم غزير
أو يجد واهبا فغيث مطير ... أو يصل واثبا فليث هصور
ومثل ذلك في الشعر أكثر من أن يحصى.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
مؤيد العزم والإبطال في قلق ... مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم
المناسبة اللفظية في هذا البيت ناقصة، وقد بينها ف شرحه بقوله (مؤيد العزم) مناسب (مؤمل الصفح) في الزنة، وقوله (والإبطال) موازن (والهيجاء) وقوله (في قلق) موازن (في ضرم) .
وتشدق ابن حجة هنا فقال: عجبت منه إذ لم يحتج في بيته إلى المناسبة المعنوية، وأتى باللفظية، كيف رضي لنفسه بقول القائل:
إذا كنت ما تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزان وما أنا شاعر
وهذا قلة أدب من ابن حجة، والشيخ صفي الدين أجل مقاما في الأدب من أن يتمثل في حقه بمثل هذا البيت. فإنه لو أراد أن ينظم المناسبة المعنوية التي حدها هذا المتفيهق بحد تناسب الأطراف لم يعجزه ذلك. والذي أراه أن الشيخ صفي الدين جنح إلى أن هذه المناسبة داخلة في التوشيح ولذلك لم ينظمها في بديعيته كما سنبين ذلك في تناسب الأطراف إن شاء الله تعالى.
على أنا لو أردنا أن نجعل بيته هذا جامعا للمناسبة المعنوية بالمعنى المذكور، وللمناسبة اللفظية معا لأمكن على أكمل وجه وأبينه وأوضحه من غير تكلف، وذلك أن ابن حجة فسر المناسبة المعنوية (التي قال أن الشيخ صفي الدين لم يحتج إليها) بقوله: هي أن يبتدي المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه في المعنى دون اللفظ. انتهى. وهذا هو معنى تناسب الأطراف. وأدخله الخطيب في مراعاة النظير وقال: إن بعضهم سماه تشابه الأطراف، إذ علمت ذلك فالشيخ صفي الدين ابتدأ كلامه بقوله: (مؤيد العزم) ثم تممه بقوله: (والهيجاء في ضرم) فحصلت المناسبة بين ذكر تأييد العزم، وبين ذكر الهيجاء حال كونها مضطرمة على أتم وجه ولا غبار عليه فذهب كلام ابن حجة جفاء.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
ألم ترى الجود يجر في يديه ألم ... تسمع مناسبة في قوله نعم
هذا البيت عار من المناسبة اللفظية بالكلية كما لا يخفى، وأما المعنوية بالمعنى المذكور فقال ابن حجة: أنها ليست فيه أيضاً، وليس كذلك، بل هي ظاهرة فيه، فإن ابتداء كلامه بقوله (ألم تر الجود يجري في يديه) يناسب إتمامه بلفظة (نعم) وهي وإن كانت لمطلق التصديق والوعد، إلا أن الشعراء إذا ذكروها في المدح لا يريدون بها إلا الوعد في العطاء.
كما قال:
ما قال لاقط في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم
وقال الآخر:
أدام قول نعم حتى إذا اطردت ... نعماه من غير وعد لم يقل نعما
فالمناسبة المعنوية المذكورة ظاهرة لا تخفى إلا على غبي مثل ابن حجة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم
قال في شرحه: هذا البيت جمعت فيه بين المناسبة المعنوية واللفظية التامة المشتملة على الوزن والتقفية، فقولي (علمه) يناسبه (حلمه) وزنا وقافية، و (وافر) مثل (ظاهر) وزنا قافية، والمناسبة المعنوية ابتدأت بها في أول الشطر الثاني من البيت بذكر (الحلم) ، ثم تممت كلامي بقولي (عن كل مجترم) ، فجعلت المناسبة المعنوية بين الحلم وذكر الاجترام. انتهى.
(1/259)
________________________________________
وأنا أقول: أما المناسبة اللفظية التامة فيه فظاهرة، وأما المناسبة المعنوية فليست بتامة، لأنه كان ينبغي أن يبتدي بذكر الحلم في أول البيت، لأنه هو أول الكلام المبتدأ به، لا أول الشطر الثاني، فقوله: ابتدأت بها في أول الشطر الثاني مغالطة منه.
وبيت بديعية الطبري قوله:
أكرم به شرفا مناسبا ترفا ... أعظم به شغفا عفوا لمجترم
أما أنا فقد سئمت من الكلام على ضد البديع في هذه البديعية، ومن ذاق من الأدب شيئا لا يخفى عليه مثل ذلك.
وبيت بديعيتي هو قولي:
زاكي النجار علو المجد ناسبه ... زاهي الفخار كريم الجد ذو شمم
أنا لم أقصد في هذا البيت سوى المناسبة اللفظية التامة وهي بين (زاكي) و (زاهي) وبين (النجار) و (الفخار) وبين (علو المجد) و (كريم الجد) وأما المناسبة المعنوية بالمعنى المذكور، فقد أسكنتها في بيت على حده ويتمها تناسب الأطراف كما ستراه، على أن إمكان القول بها في هذا البيت ظاهر، فإن ابتداء الكلام بقولي (زاكي النجار) يناسبه إتمامه بقولي (ذو شمم) لأن النجار هو الأصل، والشمم ارتفاع قصبة الأنف وحسنها واستواء أعلاه، أو هو دليل على كرم الأصل وعراقة النسب، ولذلك يمدح به.
قال حسان:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
وقال كعب بن زهير:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
وضده الغطس وهو دليل اللؤم وخسة الأصل، ولذلك قال من عكس بيت حسان:
سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر
فظهر أن زكاء الأصل يناسبه قولي: ذو شمم فصح في البيت المناسبة المعنوية أيضاً وإن لم تكن مقصودة.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
ففي السماحة غيث جاد من ديم ... وفي الحماسة ليث جال في أجم
هذا البيت يشتمل على المناسبة اللفظية التامة والناقصة، فبين قوله (غيث) و (ليث) و (ديم) و (أجم) مناسبة تامة، وبين (السماحة) و (الحماسة) وقوله (جاد) و (جال) مناسبة ناقصة.

الجمع
أفضاله ومعاليه ورفعته ... جمع من الفضل فيه غير منقسم
الجمع هو أن يجمع المتكلم بين نوعين فصاعدا في نوع واحد، بأن يعمد إلى شيئين مختلفين مثلا فيثبت لهما جهة جامعة يتحدان بها، كقوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) جمع المال والبنون وهما نوعان متباينان في نوع واحد وهو الزينة، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، أي بأسرها. وحذافير الشيء: نواحيه، جمع حذفار، ومعناه: أن من رزق الأمن من كل بلاء يتقيه، والعافية من كل داء يؤذيه؛ وأعطي بلغة يومه الذي هو فيه، فقد أحاط بما يهمه في الدنيا أطرافه ونواحيه. فجمع هذه الأمور الثلاثة في أنها أصل المقاصد الدنيوية.
ومن أمثلته في الشعر قول أبي العتاهية:
علمت يا مجاشع بن مسعده ... أن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده فجمع أمورا ثلاثة مختلفة تحت نوع واحد وهي المفسدة.
ومثله قولي:
إن المكارم والفضائل والندى ... طبع جبلت عليه غير تطبع
والمجد والشرف المؤمل والعلى ... وقف عليك وليس بالمستودع
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
آراؤه وعطاياه ونقمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
قد أحرز السبق والإحسان في نسق ... والعلم والحلم قبل الدرك للحلم
وبيت بديعية الموصلي قوله:
للفصل والفضل والألطاف منه يرى ... والحلم والعلم جمع غير منخرم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
آدابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم
وبيت بديعية الطبري:
كل من الأنس والأملاك مندرج ... والجن تحت لواه يوم جمعهم
وبيت بديعيتي هو قولي:
أفضاله ومعاليه ورفعته ... جمع من الفضل فيه غير منقسم
وبيت بديعية المقري هو قوله:
قضى وولى وفاضت نفسه وعفا ... عدلا وليس بعافي الحكم والحكم
(1/260)
________________________________________
قال في شرحه: قوله (قضى وولى وفاضت نفسه وعفا) أجاب عن الجميع بقوله (عدلا) هذا نصه. ولا أقبح من قوله: وفاضت نفسه فإن مثل هذه العبارة لا تليق في مرثية صديق فضلا عن المديح النبوي. وأغرب من ذلك تفسيره (عفا) بقوله: يجوز أن يكون بمعنى عفا عن المسيء، وإن يكون بمعنى ذهب. نعوذ بالله من آفة الغفلة والله أعلم.
انتهى الجزء الأول من شرح البديعة.
أنوار الربيع في أنواع البديع الجزء الرابع
الانسجام
أوصافه انسجمت للذاكرين لها ... في هل أتى في سبا في نون والقلم
الانسجام في اللغة: الانصباب, وفي الاصطلاح أن يكون الكلام عذب الألفاظ, سهل التركيب؛ حسن السبك, خالياً من التكلف والعقادة؛ يكاد يسيل من رقته؛ وينحدر انحدار الماء في انسجامه, لا يتكلف فيه بشيء من أنواع البديع إلا ما جاء عفواً من غير قصد. وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت فقراته موزونة من غير قصد, كما وقع في كثير من آيات القرآن العظيم, حتى وقع فيه من جميع البحور المشهورة أبيات, وأشطار أبيات.
فمن بحر الطويل, من صحيحه "فمن شاء فليؤممن ومن شاء فليكفر".
ومن مخرومه ويسمى الأثلم "منها خلقناكم وفيها نعيدكم".
ومن بحر المديد "واصنع الفلك بأعيننا" وتفعليه: فاعلاتن فعلن فعلن.
وغلط ابن حجة في قوله: إنه من العروض الثانية المحذوفة من المديد. بل هو من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة, لأن العروض الثانية المحذوفة لها ثلاثة أضرب, وكل منها وزن العرض فيه فاعلن, والعروض في الآية وزنه فعلن كما رأيت في تفعيله, لا فاعلن؛ وغلط في التمثيل لذلك أيضاً بقول الشاعر:
اعلموا إني لكم حافظ ... شاهداً ما كنت أو غائبا
لأن هذا شاهد الضرب الثاني من العروض الثانية المحذوفة, وقد علمت أن وزن الآية ليس من هذا العروض, وهذا يدلك على أن ابن حجة كان راجلاً في هذا العلم أيضاً. وأعجب من ذلك أنه لم يدرك بسليقته أن وزن البيت زائد على وزن الآية.
ومن بحر البسيط "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً". ومثله "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم".
ومن بحر الوافر وهو بيت تام: "ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنينا" ومنه "ويعلم ما جرحتم بالنهار".
ومن بحر الكامل من مخرومه "سيعملون غداً من الكذب". ومنه "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".
ومن بحر الهزج "تا لله لقد آثرك الله علينا". ومثله "ألقوه على وجه أبي يأت بصيراً".
ومن بحر الرجز "دانيةً عليهم ظلالها وذلِلت قطوفها تذليلاً". ومنه "فعميت عليهم الأنباء".
ومن بحر الرمل "قتل الإنسان ما أكفره". ومنه "بدت البغضاء من أفواههم". ومن مجزوه "وجفان كالجواب وقدور راسيات". ونظيره "أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم". ومثله "ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك".
ومن بحر السريع "واصبر وما صبرك إلا بالله". ومثله "ألا إلى الله تصير الأمور". ومثله "ذلك تقدير العزيز العليم" ومنه "أو كالذي مرّ على قريةٍ".
ومن بحر المنسرح "إنا خلقنا الإنسان من نطفة" وتفعليه: مستفعلن مفعولات مستفعلن.
ومن بحر الخفيف "ربنا إننا إليك أنبنا". ومنه "لا يكادون يفقهون حديثا". ومنه "قال يا قوم هؤلاء بناتي".
ومن بحر المضارع من مخرومه "يوم التناد. يوم تولون مدبرينا". وتفعيله: مفعول فاعلات مفاعيل فاعلاتن.
ومن بحر المقتضب "في قلوبهن مرض". وتفعليه: فاعلات مفتعلن.
ومن بحر المجتث "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم".
ومن بحر المتقارب "ولا تبخسوا الناس أشياءهم".
ومنه "وأملي لهم إن كيدي متين".
ومن بحر المتدارك "أم تأمرهم أحلامهم" وتفعليه: فعلن فعلن فعلن فعلن. وهذا البحر لم يذكره الجليل, واستدركه الأخفش والمحدثون فسمي متداركاً, ومحدثا, ومخترعا؛ ويسميه أهل الأندلس مشي البريد.
ومن بحر الدوبيت وهو المسمى عند العجم الرباعي, والترانة, وهو بحر مخترع مستحدث لطيف "إن كان الله يريد أن يغويكم" ومثله "ما كان عليهم من سلطان". وقد أكثر المتأخرون من العرب والعجم من النظم على هذا البحر لعذوبته, وسلاسته. وزعم بعضهم أنه مأخوذ من الكامل بطريقة متكلفة, وبعضهم أوصل أوزانه إلى عشرة آلاف.
(1/261)
________________________________________
ومن بحر المواليا وهو مشهور عند المتأخرين, واصله من البسيط "والطير محشورة كل له أواب". ومنه "لو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا".
وسبب تسميته بالمواليا, ما يحكى من أن الرشيد لما قتل جعفر البرمكي أمر أن لا يرثى بشعر, فرثته جارية له بهذا الوزن, حيث لم يكن من الشعر المعروف, وهي تندب وتقول: يا مواليا, فسمي بذلك.
ويقال: أن أول بيت قالته في هذا الوزن هذا البيت:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس ... أين الذي قد حموك بالقنا والترس.
قالت تراهم رمم تحت الأراضي درس ... سكوت بعد فصاحة السنتهم خرس
ويستعذب في هذا الوزن اللحن, وكونه ملحوناً أحسن من كونه معرباً.
وإذا تأملت اشتمال القرآن العظيم على جميع أوزان هذه البحور المذكورة, بل وعلى غيرها مما لم نذكره علمت أن ذلك كله مندرج تحت قوله - علت كلمته وعظمت قدرته - "ما فرطنا في الكتاب من شيء". سبحانه "لا إله إلا هو إليه المصير".
ومن النثر المسجم الذي جاء موزوناً من غير قصد لقوة الانسجام, قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
أنا النبي لا كذب ... أنا عبد المطلب
قيل: وقوله أيضاً صلى لله عليه وآله وسلم,_
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
والصواب ما ذكره الجلال السيوطي, قال: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني محمد بن عبد الله, عن الزهري؛ عن عروة, قال: خرج سلمة بن هشام, وعياش بن ربيعة, والوليد بن الوليد مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فطلبهم ناس من قريش ليردوهم فلم يقدروا عليهم.
فلما كانوا بظهر الحرة قطعت إصبع الوليد بن الوليد فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت.
فدخل المدينة فمات بها. انتهى.
وعلى هذا فيحتمل أن الوليد قصد بذلك الشعر, فلا يكون مما نحن فيه.
ومنه قول إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر المشهور فيما كتبه عن الخليفة إلى بعض البغاة الخارجين يتهددهم ويتوعدهم: أما بعدد فإن لأمير المؤمنين أناة, فإن لم تغن عقب بعدها وعيداً, فإن لم يغن أغنت عزائمه والسلام. فإن هذا النثر مع وجازته وإبداعه في غاية الانسجام.
وينشأ منه بيت يشعر وهو:
أناة فان لم تغن عقب بعدها ... وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه
وأما الانسجام في النظم فأمر يضيق عن الإحاطة به نطاق الحصر والإحصاء, ويقصر دون منال جله - فضلاً عن كله - باع الضبط والاستقصاء, غير أنا نورد منه هنا نبذاً مستطرفة, وقطعاً من رياض محاسن الشعر مقتطفة, ونبتدئ فيه من شعراء الجاهلية إلى شعراء أهل العصر.
فمنه قول امرئ القيس في معلقته:
تسلمت عمايات الرجال علن الصبا ... وليس فؤادي عن هواك بمنسل
ومنها:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وقوله من أخرى:
وظلت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكره صبوح مدام
هذا البيت لو مزج بأرق شعر لمهيار الديلمي أو من هو في طبقته لامتزج امتزاج الراح بالماء القراح.
ومثله قوله أيضاً:
حلت لي الخمر وكنت امرءاً ... عن شربها في شغل شاغل
وقوله:
وكل مكارم الأخلاق صارت ... إليه همتي وبه اكتسابي
فقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وقوله:
ولو أنني أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنني أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
هذا ما وقع عليه الاختيار من ديوانه في هذا النوع من غير استقصاء له.
ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
فما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النحل
وقوله أيضاً:
قوم سنان أبوهم حيث تسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأخلاقهم أو مجدهم قعدوا
وقوله أيضاً:
لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي
لقد باليت مظعن أم أو في ... ولكن أوفى لا تبالي
وقوله:
قد جعل المبتغون الخير من هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا
(1/262)
________________________________________
من يلق يوماً على علاته هرما ... يليق السماحة منه الندى خلقا
وفي معلقته أبيات تدخل في هذا الباب تقدم ذكرها في نوع المثل.
ومنه قول عبيد بن الأبرص الأسدي:
لا يبلغ الباني ولو ... رفع الدعائم ما بيننا
كم من رئيس قد قتل ... ناه وضيم قد أبينا
إنا لعمرك ما يضا ... م حليفنا أبداً لدينا
وأوانس مثل الدمى ... حور العيون قد استبيان
وقوله في مطلع قصيدة: طاف الخيال علينا ليلة الوادي=من أم عمرو ولم يلمم بميعاد ومنها:
اذهب إليك فإني من بني أسد ... أهل القباب وأهل الجود والنادى
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وقوله من مجمهرته التي كان يخطب بها في الجاهلية:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
ساعد بأرض تكون فيها ... ولا تقل إنني غريب
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
ومنه قول عنترة بن شداد العبسي من معلقته:
وإذا شربت فإنني مستهلك ... ما لي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
وقوله أيضاً من أخرى:
أمن سمية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
كأنها يوم صدت ما تكلمني ... ظبي بعسفان ساجي الطرف مطروف
العبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف
وهذه الأبيات مع بديع انسجامها, فيها من أنواع البديع لزوم مالا يلزم, وقد جاء فيها عفواً من غير قصد.
وقوله وقد لامته أمه على لقاء الحروب:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها أن المنية منهل ... لابد أن أسقى بذاك المنهل
فاقني حياءك لا أبالك وأعلمي ... أني امرؤ سأموت أن لم أقتل
عن ابن عائشة قال: انشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول عنترة من هذه القصيدة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى نال به كريم المأكل
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما وصف ليل أعربي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.
قلت: وهذا البيت يروى في معلقته أيضاً, وينشد بدل (المأكل) , (المطعم) .
ومنه قول الحارث بن حلزة في أول معلقته:
آذنتنا بينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
آذنتنا ببينها ثم ولت ... ليت شعري متى يكون اللقاء
ومنها:
وثمانون من تميم بأيدي ... هم رماح صدورهن القضاء
وقوله وهي من جيد الشعر:
من حاكم بيني وبين الدهر ... مال علي عمداً
أودى بسادتنا وقد ... تركوا لنا حلقاً وجردا
خيلي وفارسها ورب أبي ... ك كان أعز فقدا
فلو أن ما يأوي إلي ... أصاب من ثهلان هذا
فضعي قناعك إن ري ... ب الدهر قد أفنى معدا
ومنها البيت المشهور وهو:
والنوك خير ظلال العيش ... ممن عاش كدا
ومنه قول النابغة الذبياني في النعمان بن الحارث وهو غلام:
هذا غلام حسن وجهه ... مقتبل الخير سريع التمام
للحارث الأكبر والحارث إلا ... ... صغر والحارث خير الأنام
ثم لهند ولهند فقد ... أسرع في الخيرات منه أمام
هي أمامة أم عمرو الأصغر بن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان الشقيقة.

خمسة أباء هم ما هم ... أكرم من يشرب صوب الغمام
وقوله وهو من المرقص والمطرب:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجود العود
وقوله من قصيدة طويلة:
لولا حبائل من نعم علقت بها ... لأقصر القلب عنها أي إقصار
نبئت نعما على الهجران عاتبة ... سقيا رعيا لذاك العاتب الزاري
أقول والنجم قد مالت أواخره ... إلى المغيب تبين نظرة حار
ألمحة من سنا برق رأى بصري ... أم وجه نعم بدالي أم سنا نار
بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح ما بين أثواب وأستار
ومنه قول المنخل اليشكري وكان نديماً للنعمان بن المنذر, فاتهمه بامرأته المتجردة, وقيل وجده معها فقتله. وهذا يعد في المرقص المطرب من مشهور شعره:
إن كنت عاذلتي فسيري ... نحو العراق ولا تحوري
(1/263)
________________________________________
لا تسألي عن جل مالي ... وانظري كرمي وخيري
وفوارس كأواحر ال ... نار أحلاس الذكور
شدوا دوابر بيضهم ... في كل محكمة التقير
واستلأموا وتلببوا ... إن التلبب للمغير
وعلى الجياد المضمرات ... فوارس مثل الصقور
يخرجن من خلل الغبار ... يجفن بالنعم الكثير
أقررت عيني من أو ... لئك والفوائح بالعبير
وإذا الرياح تناوحت ... بجوانب البيت الكبير
ألفيتني هش اليدين ... بمري قد حي أو شجيري
ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل ... في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي الغريرٍ
فدنت وقالت يا منخ ... ل هل بجسمك من فتور
ما شف جسمي غير جسمك ... فاهدئي عني وسيري
يا هند هل من نائل ... يا هند للعاني الأسير
وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير والكبير
فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فأنني ... رب الشويهة والبعير
يا رب يوم للمنخل ... قد لها فيه قصير
وقول عبد الله بن العجلان شاعر جاهلي, وهو أحد من قتله العشق:
فارقت هنداً طائعاً ... فندمت عند فراقها
فالعين تذري عبرة ... كالدر من آماقها
خود رداح طفلة ... ما الفحش من أخلاقها
ولقد ألذ حديثها ... وأسر عند عناقها
وقوله أيضاً وهو من المطرب:
خليلي زورا قبل الشحط النوى هنداً ... ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا
ومرا عليها بارك الله فيكما ... وإن لمت تكن هند لوجهكما قصدا
وقولا لها ليس الطريق أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
والبيتان الأخيران يرويان من قصيدة للمرقش الأكبر.
حدث أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني قال: عن إسحاق بن حميد (كاتب أبي الرازي, قال: غنى علوية الأعسر يوماً بين يدي المأمون:
تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند فمن هذا يبلغه هندا
فقال المأمون: اطلبوا لهذا البيت ثانياً, فلم يعرف وسأل كم من بحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد. وقلد المأمون أبا الرازي كور دجلة وأنا أكتب له, ثم نقله إلى اليمامة والبحرين. وقال إسحاق بن حميد) : فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي في قبة على جمازة, فابتدأ الحادي يحدو بقصيدة طويلة, وإذا البيت الذي كنت أطلب له أخاً ثابت فيها, فسألته عنها, فذكر إنها للمرقش الأكبر. فاخترت منها وكتب بها إلى المأمون فسر بذلك, وأمر المغنين أن يصنعوا فيها ألحاناً ويغنون بها. انتهى.
قلت: واخترت أنا من الأبيات التي اختارها إسحاق هذه الأبيات:
خليلي عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
تنقيت من نعمان عود أراكة ... لهند فمن هذا يبلغه هندا
ستبلغ هندا إن سلمنا قلائص ... مهاري يقطعن الفلاة بنا وخدا
فناولتها المسواك والقلب خائف ... وقلت لها يا هند أهلكتنا وجدا
فمدت يداً في حسن دل تناولا ... إليه وقالت ما أرى مثل ذا يهدى
وأما ما وقع من الانسجام في أشعار المخضرمين, وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام, فمنه قول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا
نبي يرى مالاً ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وانجدا
له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم ما نعه غدا
ومنها:
شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ كنت يافعا ... وليدا وكهلا حيث شبت وأمردا
وقوله:
ودع هريرة أن المركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجل الوحل
(1/264)
________________________________________
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
ويقال أن أغنج بيت قالته العرب قوله من هذه القصيدة:
قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
ومنه قول لبيد بن ربيعة العامري من قصيدة:
أحمد الله فلا ند له ... عنده الخير وما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
فإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل
ومنها:
أعمل العيس على علاتها ... إنما ينجح إخوان العمل
وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
أي لا تحدث نفسك بعدم الظفر أبداً, بل بشرها بحصول الأمل فإن صدقها بالجبن عن ملاقاة الأهوال يثبطها عن بلوغ الآمال.
وقوله من معلقته:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
لا يطبعون ولا يبور فعالهم ... بل لا تميل مع الهوى أحلامها
فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها
وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأوفر حظنا قسامها
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
ومنه قول النابغة الجعدي من قصيدة أولها:
خليلي عوجا ساعة وتهجرا ... ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا
ومنها:
وإن جاء أمر لا تطيقان دفعه ... فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا
ألم تريا أن الملامة نفعها ... قليل إذا ما الشيء ولى وأدبرا
ومنها:
أتيت رسول الله إذ قام للهدى ... يتلو كتاباً كالمجرة نيرا
خليلي قد لاقيت ما لم تلاقيا ... وسيرت في الآفاق ما لم تسيرا
تذكرت والذكرى تهيج لدى الهوى ... ومن عادة المحزون أن يتذكرا
وعنه أنه قال: لما أنشدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولي من هذه القصيدة:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فأين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت: الجنة, فقال: قل إن شاء الله.
ولما أنشد قوله منها أيضاً:
لا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أجدت, لا يفضض الله فاك. فبقيت أسنانه إلى آخر عمره كأنها اللؤلؤ المنظوم, ولم تسقط له سن.
وعمر النابغة المذكور عمراً طويلاً في الجاهلية والإسلام, وكان أكبر من النابغة الذبياني, واختلف في عمره, قال الأصبهاني: والحق ما نقله ابن قتيبة: إنه عاش مائتين وعشرين سنة, وحضر صفين مع علي عليه السلام.
ولما خرج علي عليه السلام إلى صفين خرج معه النابغة, فساق به قوماً فقال:
قد علم المصران والعراق ... أن عليا فحلها العتاق
أبيض جحجاح له رواق ... وأمه غالى بها الصداق
أكرم من شد بها نطاق ... أن الألى جاروك لا أفاقوا
لهم سياق ولكم سياق ... قد علمت ذالكم الرفاق
سقتم إلى نهج الهدى وساقوا ... إلى التي ليس لها عراق
في ملة عادتها النفاق
العتاق بضم العين المهملة - كغراب - العتيق وهو الفحل النجيب.
ومنه قول حسان بن ثابت الأنصاري من قصيدة قالها يوم الفتح:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برج الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
وقوله من أخرى وهي مشهور شعره:
لله در عصابة نادمته ... يوماً بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
(1/265)
________________________________________
ولقد طالعت طيوان حسان فلم أر له أسجم من قصيدته التي يفتخر فيها بقومه, ويعدد أفعالهم, وقد عن لي إثباتها هنا برمتها, لأنها جميعها داخلة في نوع من الانسجام.
وديوان حسان قليل الوجود, وهذه القصيدة لم أرها في غير ديوانه وهي:
أنسيم ريقك أخت آل العنبر ... هذا أم استنشأته من مجمر
أبديد ثغرك ما أرى أم لمحة ... من بارق أن معدن من جوهر
أودعتني ببريق ثغرك حرقة ... ألهبت جمرتها بطرف أحور
ونشرت فرعك فوق متن واضح ... وطويت كشحك فوق خصر مضمر
قولي لطرفك أن يكف عن الحشا ... سطوت نيران الهوى ثم اهجري
وانهي جمالك أن ينال مقاتلي ... فينال قومك سطوة من معشري
إني من القوم الذين جيادهم ... طلعت كسرى بريح صرصر
وسلبن تاج الملك قسرا بالقنا ... وأخذن قهرا درب آل الأصفر
آباي من كهلان أرباب العلى ... وبنو الملوك عمومتي من حمير
قدنا من اليمن الجياد فما انثنت ... حتى حوت بالصين مهجة بعبر
ورمت سمرقندا بكل مثقف ... لهج باحشاء الفوارس أسمر
ووطئن أرض الشام ثم وفارسا ... بالحرث اليمني وابن المنذر
صبحت بلاد الهند بالبيض التي ... صبحت بها كسرى صبيحة دستر
ونصرن في الأحزاب حزب محمد ... وكسون مومة ثوب موت أحمر
وطلعن من رجوي حنين شزبا ... يحملن كل سليل طبيب العنصر
يلقى الرماح الشاجرات بنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
ويقول للطرف أصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجد إن لم تعقر
وإذا تأمل شخص ضيف طارق ... متسربل أثواب محل مقتر
أو ما إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري
من قد ولدنا من نجيب قسور ... دامي الأظافر أو ربيع ممطر
سلكت أنامله بقائم مرهف ... وبنثر فائدة وذروة منبر
كم فوق وجه الأرض من ذي ثروة ... لولا فواضل رفدنا لم يذكر
لولا صوارم يعرب ورماحها ... لم تسمع الآذان صوت مكبر
نحن الذين نذل أعناق القنا ... ونعز بالمعروف قل المعسر
قحطان قومي ما ذكرت فخارهم ... إلا علوت على سنام المفخر
السابقون إلى المكارم والعلى ... والحائزون غدا حياض الكوثر
فإذا أردت بأن ترى مسعاتنا ... فصل النواظر بالسماك الأزهر
لو أمت الجوزاء أن تعلوا على ... أدنى ذؤابة مجدنا لم تقدر
ثم الصلاة على النبي وآله ... ما لاح برق في غمام ممطر
هذه القصيدة من الرقة والانسجام والجزالة بمحل يشهد به الذوق السليم ولو قلت أنها أرق من كثير من شعر أبي تمام والبحتري لما أبعدت.
ومثلها قوله أيضاً من أخرى:
إن الذوائب من نهر أخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الآله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حالوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يجهلون وأن حاولت جهلهم ... في فضل أحلامهم عن ذاك متسع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطبعون ولا يرديهم الطمع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
ومنه قول الحطيئة بضم الحاء المهملة على زنة جهينة, يمدح آل الشماس
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو مدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم أن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لأكدروها لا كدروا
وإن قال مولاهم على كل حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف الدجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
وقوله يمدح بغيض بن شماس السعدي:
تزور امرءاً يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المكارم يحمد
يرى البخل ولا يبقي على المرء ماله ... ويعلم أن البخل غير مخلد
(1/266)
________________________________________
كسوب ومتلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
ومنه قول كعب بن زهير في بردته وأولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
ومنها:
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما تمسك الماء الغرابيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
ومن مديحها:
وقال كل خليل كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم ... فكلما قدر الرحمن مفعول
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
فقد أتيت رسول الله معتذرا ... والعذر عند رسول الله مقبول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت في الأقاويل
والغاية فيها قوله: إن الرسول لنور يستضاء به=مهند من سيوف الله مسلول وقوله أيضاً:
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل
وقال ابن هشام: ومما يستحسن من شعر كعب قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حين ينتهي الأثر
ونمنه قول أمية بن أبي الصلت وهو ممن أدرك زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسلم يمدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنَّ شيمتك الحياء
وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مساء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرُّضه الثناء
وعلى ذكر هذه الأبيات سئل عطاء، ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خير الدعاء دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي وهو لا إله إلا الله وحده وحده، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؟ فقال: هذا.
كما قال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
أفيعلم ابن جدعان ما يراد منه بالثناء عليه ولا يعلم الله ما يراد منه بالثناء عليه؟ وينسب هذا الجواب إلى سفيان بن عيينة كما في الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني والله أعلم.
ومنه قول فروة بن مسيك المرادي شاعر مخضرم من أهل اليمن, وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
فإن نغلب فغلابون قدما ... وإن نهزم فغير مهزمينا
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال ... تكر صروفه حينا فحينا
فلو خلد الملوك إذن خلدنا ... ولو بقي الكرام إذن بقينا
إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وقد تمثل ببعض هذه الأبيات الحسين بن علي عليهما السلام بكربلاء يوم قتله ومنه قول نهشل الدارمي وهو من المخضرمين أيضاً. كان شاعراً شريفاً في قومه, وكان مع علي عليه السلام في حروبه:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا
وهي من قصيدة مشهورة مثبتة في أشعار الحماسة لأبي تمام.
ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخراً وهو غاية في الانسجام:
أعيناي جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجري الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا
(1/267)
________________________________________
إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
يحمله القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
إذا ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم أرتدى
وأما ما وقع من الانسجام في أشعار الإسلاميين, فمنه قول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام, وهي قصيدة مشهورة لا يسقط منها بيت واحد. وأما انسجامها فغاية لا تدرك, وعقيلة لا تملك, وقد جنبها حوشي الكلام, وجاء فيها ببديع الانسجام. ومن رأى سائر شعر الفرزدق, ورأى هذه القصيدة ملك نفسه العجب, فإنه لا مناسبة بينها وبين سائر قوله, نسيبا ومدحا وهجاء, على أنه نظمها بديهة وارتجالا, ولا شك أن الله سبحانه أيده في مقالها, وسدده حال ارتجالها, ومع شهرة هذه القصيدة فقد آثرنا إيرادها هنا تبركاً بها وبممدوحها عليه السلام, لئلا يخلو هذا الكتاب منها. ولنذكرها برواية الشيخ الأجل السيد الإمام العالم الحافظ الفقيه الزاهد جمال الدين شيخ الإسلام أوحد الأنام فخر الأئمة مسند العصر أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني وهي: بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا الشيخ حسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي رحمه الله بقراءتي عليه, في جمادى الأخرى من سنة خمس وتسعين وأربعمائة ببغداد, قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق قراءة عليه, قال: أخبرنا أبوا أحمد عبه السلام بن الحسين بن محمد بن عبد الله طيفور البصري اللغوي, قال: قرأت على أبي عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب المتوثي بالبصرة سنة أربع وخمسين وثلاثمائة على باب داره, وكتبه عن كتاب إملاء أملاه من أصله, ثم قرأته بعد ذلك بعشر سنية عشية الجمعة لست بقين من شعبان سنة أربع وستين وثلاثمائة على أبي الحسين محمد ابن محمد بن جعفر بن لنكك اللغوي على باب داره, ولم يكن له أصل يرجع إليه, وذكر أنه قد سمعه, قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن دينار, قال: حدثنا عبيد الله بن محمد - يعني بن عائشة - قال: حدثني أبي وغيره, قال: حج هشام بن عبد الملك في زمن عبد الملك أو الوليد, فطاف بالبيت, فجهد إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر عليه, فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه أهل الشام, إذ أقبل علي بن الحسين بن علي عليهم السلام من أحسن الناس وجهاً, وأطيبهم ريحاً, فطاف بالبيت, فكلما بلغ إلى الحجر تنحى له الناس حتى يستلمه. فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه, مخافة أن يرغب فيه أهل الشام, وكان الفرزدق حاضراً فقال الفرزدق: لكني أعرفه, قال الشامي: من هو يا أبا فراس؟.
فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
روى ابن لنكك (الظاهر) بظاء معجمة, وروى المتوثي بطاء غير المعجمة.

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... ولا يكلم إلا حين يبتسم
من جده دان فضل الأنبياء له ... وفضل أمته دانت له الأمم
ينشق نور الهدى عن نور غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
الله شرفه قدما وفضله ... جرى بذاك له في لوحه القلم
فليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
ليس هذا البيت في رواية المتوثي, وعرفه ابن لنكك
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستو كفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والكرم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب النفاء أريب حين يعتزم
(1/268)
________________________________________
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنه الغيابة والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كلوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك أن أثروا وإن عدموا
وروى ابن لنكك (لا يقبض) .

يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويسترب به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذك الله ذكرهم ... في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أوله نعم
من يعرف الله يعرف أولوية ذا ... والدين من بيت هذا ناله الأمم
قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة وبلغ ذلك علي بن الحسين عليهما السلام: فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم وقال: اعذرنا يا أبا فراس, فلو كان عندنا أكثر من هذا وصلناك, فردها الفرزدق وقال: يا بن رسول الله, ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله عز وجل ولرسوله, وما كنت لا رزأ عليه شيئاً, فقال: شكر الله لك ذلك, غير أنا أهل بيت إذا أنفذنا أمراً لم نعد فيه, فقبلها.
وجعل يهجو هشاما وهو في الحبس, فكان مما هجاه به:
أيحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد ... وعينا له حولاء باد عيوبها
وقوله أيضاً وهو من المطرب:
حبيب دعا والرمل بيني وبينه ... فاسمعني سقيا لذلك داعيا
فكان جوابي أن بكيت صبابة ... وفديت من لو يستطيع فدائيا
لذكرى حبيب لم أزل مذ هجرته ... أعد له بعد الليالي لياليا
ومثله قوله أيضاً:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بحافتيه نهار
ومنه قول جرير وهو معدود من الطرب في هذا الباب:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
وقوله أيضاً:
لعمرك لولا اليأس ما انقطع الهوى ... ولولا الهوى ما حن من واله قلبي
سقى الرمل جون مستهل ربابه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
وقوله أيضاً:
يا أخت ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الفراق فعلت ما لم أفعل
وقوله وبعضه من المرقص, وبعضه من المطرب:
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يورم كل مرام
ذم المنازل بعد منزلة الهوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
وإذا أتيت على المنازل باللوى ... فاضت دموعك غير ذات نظام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام
ومنه قول الأخطل وكان نصرانياً من بني تغلب:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذاخراً يكون كصالح الأعمال
وقوله أيضاً:
وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبلاً
وإذا وزنت حلومهن مع الصبا ... رجح الصبا بحلومهن فمالا
ومنه قول سحيم عبد بني الحسحاس عندما باعه مولاه وكان عبداً أسوداً نوبيا:
أشوقا ولما تمض لي بعد ليلة ... فكيف إذا سار المطي بكم عشر
وما كنت أخشى مالكاً أن يبيعني ... بشيء ولو كانت أنامله صفرا
أخوكم ومولاكم وصاحب سركم ... ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
البيت الأول يعد من المرقص المطرب. سحيم هذا أقدم عصراً ممن قبله من الإسلاميين لأنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأنشد عمر بن الخطاب قوله:
عميرة ودع أن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال له عمر: لو قلت شعرك كله مثل هذا لأعطيتك عليه ومن مشهور شعره ما تمثل به إبراهيم بن المهدي (حين قال له المأمون بعد الظفر به: إنه الخليفة الأسود يا عم, يهزأ به) وهو:
(1/269)
________________________________________
أشعار عبد بني الحسحاس قمن له ... عند الفخار مقام الأصل والورق
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق
ومن دقيق شعره الذي يعد من المطرب في هذا الباب قوله في أخت مولاه وقد مرضت:
ماذا يريد السقام من قمر ... كل جمال لوجهه تبع
ما يرتجى ... خاب
من محاسنها
أما له في القباح متسع
وأنشد عمر بن الخطاب أيضاً قوله:
توسدني كفا وتثني بمعصم ... علي وتلوي رجلها من ورائيا
فقال له عمر: ويلك إنك مقتول, فكان كذلك. فإنه لما أكثر تعرضه للنساء وتشبيبه بهن قال مولاه لقومه: إن هذا العبد قد فضحنا, فقالوا اقتله ونحن طوعك فمسكوه.
فمرت به امرأة كان بينها وبينه مودة فهجرها فضحكت شماتة فقال:
فإن تضحكي مني فيا رب ليلة ... تركتك فيها كالقباء المفرج
ولما أرادوا قتله نادى ما منكم امرأة إلا وقد أصبتها, فقتلوه.
ومنه قول ذي الرمة غيلان:
إذا هبت الأرواح من كل جانب ... به آل مي هاج قلبي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها
وقوله أيضاً:
وإلا يكن إلا تعلة ساعة ... قليل فإني نافع لي قليلها
ومنه قول جميل بثينة وهو من المرقص المطرب:
ولما تراجعنا الذي كان بيننا ... جرى الدمع من عيني بثينة كالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة ... إلى إلفه واستعجلت عبرة قبلي
يقولون مهلاً يا جميل وإنني ... لا قسم مالي عن بثينة من مهل
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
وقوله أيضاً: ألا هل إلى إلمامة أن ألمتها=بثينة يوماً في الحياة سبيل
فإن هي قالت لا سبيل فقل لها ... عناء على العذري منك طويل
وما شرقي بالماء إلا تذكرا ... لماء به أهل ****** نزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه ... فليس الظمآن إليه سبيل
فيا أثلاث القاع من بطن توضح ... حنيني إلى أطلالكن طويل
ويا أثلاث القاع قلبي موكل ... بكن وصبري دونكن قليل
ويا أثلاث القاع قد مل صحبتي ... مسيري فهل في ظلكن مقيل
فاشرب من ماء الحجيلاء شربة ... يداوى بها قبل الممات عليل
أريد انصبابا نحوكم فيصدني ... ويمنعني دين علي ثقيل
أحدث نفسي عنك أن لست راجعاً ... إليك فحزني في الفؤاد دخيل
قال صاحب الأغاني: ولجميل قصيدة يائية من الطويل, والناس يخلطون بين أبياتها وبين أبيات يائية المجنون وهي:
ألا طال كتماني بثينة حاجة ... من الحاج ما تدري بثينة ما هي
أخاف إذا أنبأتها أن تضيعها ... فتتركها ثقلاً علي كما هيا
أغرك إني لا بخيل عليكم ... ولا مفحش فيما لديك التقاضيا
أعد الليالي ما نأيت ولم أكن ... لما مر من دهري أعد اللياليا
ذكرتك بالديرين يوماً فأشرقت ... بنات الهوى حتى بلغن التراقيا
إذا اكتحلت عيني بعينك لم يزل ... قريرا وجلت غمرة عن فؤاديا
فأتت التي إن شئت كدرت عيشتي ... وإن شئت بعد الله أنعمت باليا
وأنت التي ما من صديق ولا عدى ... يرى نضو ما أبقيت ألا رثى ليا
وأخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت ... فما للنوى ترمى بليلى المراميا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما ... رأيتك يوماً إن أبثك ما بيا
وما زلت بي يا بثن حتى لو أنني ... من الشوق استبكي الحمام بكى لي
إذا خدرت رجلي وقيل شفاؤها ... دعاء حبيب كنت أنت دعائيا
وما زادني النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول التلاقي تقاليا
ولا زادني الواشون إلا صبابة ... ولا كثرة الناهين إلا تماديا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني ... أظل إذا لم أسق ريقك صاديا
لقد خفت أن ألقى المنية بغتة ... وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وممن خلط بين أبيات هذه القصيدة وأبيات قصيدة المجنون, ابن حجة في شرح بديعيته, وجعل أول قصيدة المجنون قول جميل هذه القصيدة:
(1/270)
________________________________________
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
ظنا منه أن ليلى هذه صاحبة المجنون, وليس كذلك, بل هي من أخوات بثينة, وتيماء من منازل بني عذرة الذي هم قوم جميل وبثينة لا من منازل بني عامر قوم المجنون وصاحبته ليلى, كما نص عليه الأصبهاني في الأغاني.
ومنه قول كثير عزة وهو معدود من المرقص:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الاباطح
وقيل هذان البيتان من أبيات ليزيد بن الطثرية, وقيل لعقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى وهو الذي ذكره الشريف المرتضى رضي الله عنه في الغرر والدرر.
وقوله:
وادنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الاباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
أأقيل أن جريرا ساير رواية كثير قاصدين الشام, فطرب وقال: أنشدني لأخي بني مليح - يعني كثيراً - فلما انتهى إلى هذين البيتين قال: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي النخير لنخرت حتى يسمعني هشام على سريره.
ومن مشهور شعره كثير وجيده الفائق قصيدته التالية, وهي غاية في باب الانسجام, وهي:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي ... بعزة كانت غمرة فتجلت
فوالله ثم الله ما حل قبلها ... ولا بعدها من خلة حيث حلت
وما مر من يوم علي كيومها ... وأن عظمت أيام أخرى وجلت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها ... كناذرة نذرا فأوفت وبرت
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
ولم يلق إنسان من الحب منعة ... بغم ولا عمياء إلا تجلت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت
أريد ثواء عندها وأظنها ... إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فوالله ما قاربت إلا تباعدت ... بهجر ولا أكثرت إلا أقلت
يكلفها الغيران شتمي وما بها ... هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
فان تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقت لها العتبى علينا وقلت
وإن تكن الأخرى فان وراءنا ... مهامه لو سارت بها العيس كلت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية أن نقلت
فما أنا بالداعي لغزة بالردى ... ولا شامت أن نعل عزة زلت
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت عنها برهة وتخلت
لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوء منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها غمامة ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن مل منها ذلك النيل ملت
فما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلي وأما بالنوال فضنت
فوا عجبا للقلب كيف اغتراره ... وللنفس لما وطنت كيف ذلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... فلما تواثقنا شددت وحلت
وكنا سلكنا في صعود من الهوى ... فلما توافينا ثبت وزلت
فإن سأل الواشون كيف سلوتها ... فقل نفس حر سليت فتسلت
وللعين تذراف إذا ما ذكرتها ... وللقلب وسواس إذا العين ملت
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
ولي عبرت لو يدمن قتلنني ... توالي التي ما بالتي قد تولت
فليت قلوصي عند عزة قيدت ... بحبل ضعيف بان منها فضلت
وأصبح في القوم المقيمين رحلها ... وكان لها باغ سواي فبلت
تمنيتها حتى إذا ما رأيتها ... رأيت المنايا شرعاً قد أظلت
أصاب الردى من كان يبغي لها الردى ... وجن اللواتي قلن عزة جنت
عليها تحيات السلام هدية ... لها كل حين مقبل حيث حلت
ومنه قول مجنون ليلى واسمه قيس بن الملوح
تعلقت ليلى وهي ذات ذوائب ... ولم يبد للأتراب من صدرها حجم
(1/271)
________________________________________
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
وقوله أيضاً:
إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى هي أمسى جميع
مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
أعائدة يا ليل أيامنا الألى ... بذي الرمث أم ما إن لهن رجوع
وقوله أيضاً:
قضى الله حب العامرية فاصطبر ... عليه وقد تجري الأمور على قدر
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
وقوله أيضاً:
أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
وقوله أيضاً:
وداع داعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
ومنه قول صاحبته ليلى فيه:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل بنفسه ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
ومنه قول عبد الله بن الدمينة:
قفي قبل وشك البين يا ابنة مالك ... ولا تحرمينا نظرة من جمالك
قفي يا أميم القلب نقضي لبانة ... قبيل النوى ثم افعلي ما بدا لك
سلي البانة الغناء بالأجرع الذي ... به البان هل حييت أطلال دارك
ومنها:
تعاللت كي أشجي وما بك علة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك
تقولين للعواد كيف ترونه ... فقالوا قتيلاً قلت أيسرها لك
لئن ساءني أن نلتني بمساءةٍ ... لقد سرني أني خطرت ببالك
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ... فافرح أم صيرتني في شمالك
حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئاً يستحسنه أطرفني به, وأفعل مثل ذلك, فجاني يوماً فوقف بين الناس. وأنشد لابن الدمينة:
إلا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ... جزوعاً وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من أهواه ليس بذي ود
ثم ترنح ساعة, وترجح أخرى, ثم قال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا الشعر؟ فقلت: لا, أرفق بنفسك.
والدمينة بضم الدال المهملة, وفتح الميم وسكون المثناة التحتية وفتح النون, تصغير دمنة وهي أمه, وعهدي ببعض الطلبة المتزيدين لا يعرف كيف ينطق بهذا اللفظ لحيرته في ضبطه والله الموفق.
ومنه قول بشار بن برد وهو من مخضرمين الدولتين الأموية والعباسية:
عبد إني إليك بالأشواق ... لتلاق كيف لي بالتلاق
أنا والله اشتهى سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق
وقوله أيضاً وهو من المطرب:
أيها الساقيان صبا شرابي ... وأسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الظما وإن شفائي ... رشفة من رضاب ثغر برود
ولها مضحك كغر الأقاحي ... وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القل ... ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال ... والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفرات يأكلن قلب الجليد
وقوله أيضاً:
عذيري من العذال إذ يعذلونني ... سفاها وما في العاذلين لبيب
يقولون لو عزيت قلبك لارعوى ... فقلت وهل للعاشقين قلوب
ومن المرقص قوله من أرجوزة:
يا طلل الحي بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي
أوحشت من دعد وترب دعد ... سقيا لأسماء ابنة المرشد
صدت بخد وجلت عن خد ... ثم انثنت كالنفس المرتد
عهدي بها سقيا له من عهد ... تخلف وعدا وتفي بوعد
ومنه قول العباس بن الأحنف وهو من المبرزين في هذا الباب:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنوناً فزدني من حديثك يا سعد
هواها هوى لا يعرف القلب غيره ... وليس له قبل وليس له بعد
(1/272)
________________________________________
وقوله:
أيها النائمون حولي أعينو ... ني على الليل حسبة وائتجارا
حدثوني عن النهار حديثا ... وصفوه فقد نسيت النهارا
وقوله:
لو كنت عاتبة لسكن روعتي ... أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صد الملول خلاف صد العاتب
ما ضر من قطع الرجاء بهجره ... لو كان عللني بوعد كاذب
وقوله:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالحب غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
وقوله:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم
فإنك أن لا تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم
وقوله:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
فاستنهضوني فلما قمت منتصبا ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا
لا خرجن من الدنيا حبهم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد
وقوله:
يا أيها الرجل المعذب نفسه ... أقصر فإن شفاءك الإقصار
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينا للدموع تعار
وقوله:
إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ود يكون بشافع
وأقسم ما تركي عتابك عن قلى ... ولكن لعلمي أنه غير نافع
واني إن لم ألزم الصبر طائعا ... فلا بد منه مكرها غير طائع
وقوله:
أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
وقوله:
تعب يطول مع الرجاء الذي الهوى ... خير له من راحة في اليأس
لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنني عندي كبعض الناس
حكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة, ومات في ذلك اليوم الكائي النحوي, والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة, فرفع ذلك إلى الرشيد, فأمر المأمون أن يصلي عليهم, فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول؟ فقالوا: إبراهيم الموصلي, فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف, فقدم فصلى عليه. فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقديم على من حضر؟ قال: بقوله:
وسعى بها ناس قالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد
نجدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
ثم قال: أتحفظهما؟ فقلت: نعم وأنشدته, فقال لي المأمون: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدم؟ فقلت: بلى والله يا سيدي. انتهى.
قلت: هكذا أورد هذه الحكاية غير واحد من المؤرخين, غير أن ابن خلكان وغيره تعقب صحتها بأن الكسائي توفي بالري سنة تسع وثمانين ومائة, وقيل بطوس سنة اثنين أو ثلاث وثمانين ومائة, والعباس توفي سنة اثنين وتسعين لأن الرشيد مات ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين بمدينة طوس. قال ابن خلكان: وقال غيره: ومما يكذب هذه الحكاية أن المأمون ما كان ممن يقدم العباس بن الأحنف على مثل الكسائي وهو شيخه وأستاذه, مع منزلته عند الرشيد والله أعلم.
ومنه قول مسلم بن الوليد من قصيدته التي لقب بها صريع الغواني أولها:
أديرا علي الكاس لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
فما جزعي أني أموت صبابة ... ولكن على من لا يحل لها قتلي
كتمت تباريح الصبابة عاذلي ... فلم يدر ما بي واسترحت من العذل
أحب التي صدت وقالت لتربها ... دعيه الثريا منه أقرب من وصلي
أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها ... معلقة بين المواعيد والمطل
سأنقاد للذات متبع الهوى ... لا مضى هماً أو أصيب فتى مثلي
هل العيش ألا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريح الكأس والأعين النجل
يقال أنه أنشدها بحضرة الرشيد فلما بلغ هذا البيت سماه صريع الغواني.
ومنه قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... ودواني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
(1/273)
________________________________________
من كف ذات حر في زي ذكر ذكر ... لها محبان لوطي وزناء
قامت بإبريقها والليل متعكر ... فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنما أخذها بالعقل إعفاء
رقت عن الماء حتى لا يلائمها ... لطافة وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نورا لمازجها ... حتى تولد أنوار وأضواء
دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاؤا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة ... كانت تحل بها هند وأسماء
فقل لم يدعي في الحب فلسفة ... حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
وقوله:
قامت بكأس إلى ناش على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريني وأمر الليل مجتمع ... صبا تولد بين الماء والعنب
كأن صغري وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
ويتعلق بهذا البيت حكاية لطيفة, وبحث نحوي.
أما الحكاية فهي ما ذكره المؤرخون, من أن المأمون ليلة دخوله ببوران بنت الحسن بن سهل فرش له حصير منسوج بالذهب, فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلي كثيرة, فلما رأى تساقط اللآلي المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذا الحال حين قال في صفة الخمر والحباب (كأن صغرى وكبرى من فواقعها) .
وأما البحث فهو أنه يجب استعمال (فعلى أفعل) بأل, أو بالإضافة, وقد استعملها أبوا نواس بدونهما فهو لحن. وأجاب بعضهم بأن (من) زائدة, فصغرى وكبرى مضافان, على حد قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد. ورد بان (من) لا تقحم في الإيجاب. ولا مع تعريف المجرور.
والجواب الصحيح: أن اسم التفضيل المجرد إذا قصد أصل الفعل لا المفاضلة, فتكون (صغرى) , و (كبرى) في البيت بمعنى صغيرة, وكبيرة, فلا لحن فتأمل.
وقال أبي نواس أيضاً:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفتير من ... أجفانها الحورا
وخد سابري لو تصوب ... ماؤه قطرا
ومنه قول الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع:
إذا ما الماء أمكنني ... وصفو سلافة العنب
صببت الفضة البيضا ... ء فوق قراضة الذهب
وقوله:
وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا
وإذا ما تنفس النرجس الغض توسمنته بسيم شذاكا
خدع للمنى تعللني فيك ... بإشراق ذا وبهجة ذاكا
لا دومن يا حبيبي على العه ... د لها وذاك إذ حكياكا
وقوله:
بأبي زور تلفت له ... وتنفست عليه صعدا
بينما أضحك مسروا به ... إذ تقطعت عليه كمدا
وقوله:
تمنيت أن أسقى بعينيه شربة ... تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله عيشا لم أبت فيه ليلة ... من الدهر إلا من حبيب على وعد
وقول أبي العتاهية:
لهفي على الزمن القصير ... بين الخورنق والسدير
إذ نحن في غرف الجنا ... ن نعوم في بحر السرور
في فتية ملكون عنا ... ن الدهر أمثال الصقور
ما منهم إلا الجسور ... على الهوى غير الحصور
يتعاورون مدامة ... صهباء من حلب العصير
عذراء رباها شعاع ال ... شمس في حر الهجير
لم تدن من نار ولم ... يعلق بها وضر القدور
ومقرطق يمشي أمام القوم ... كالرشأ الغرير
بزجاجة تستخرج السر ... الدفين من الضمير
زهراء مثل الكوكب ال ... دري في كف المدير
تدع الكريم ليس يد ... ري ما قبيل من دبير
ومخصرات زرننا ... بعد الهدو من الخدور
ريا رواد فهن يل ... بسن الخواتم في الخصور
غر الوجوه محجبا ... ت قاصرات الطرف حور
متغمسات في النعي ... م مضخمات بالعبير
يرفلن في حلل المحا ... سن والمجاسد والحرير.
ومن الانسجام المرقص قول ديك الجن الحمصي:
أنظر إلى شمس القصور وبدرها ... وإلى خزاماها وبهجة زهرها
لم تبل عينك أبيضا في أسود ... جمع الجمال كوجهها في شعرها
وردية الوجنات يختبر اسمها ... من نعتها من لا يحيط بخبرها
وتمايلت فضحكت من أردافها ... عجبا ولكني بكيت لخصرها
(1/274)
________________________________________
تستقيك كأس مدامة من كفها ... وردية ومدامة من ثغرها
وهذه الأبيات قالها في جارية نصرانية من أهل حمص عشقها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت فتزوجها, ثم بلغه أنها تهوى غلاماً فقتلها, وقال فيها:
يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها
رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
مكنت سيفي من مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها
فوحق نعليها وما وطيء الحصى ... شيء أعز علي من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن ضننت على سواي بحبها ... وأنفت من نظر الغلام إليها
وقوله أيضاً:
بها غير معذور فداو خمارها ... وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
ونل من عظيم الوزر كل عظيمة ... إذا ذكرت خاف الخفيظان نارها
وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر ... ولا تسق إلا خمرها وعقارها
فقام تكاد الكأس تحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها
موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
ظللنا بأيدينا نتعتع روحها ... فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها
ويحكى أنه لما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب سمع ديك الجن بوصوله فاستخفى منه خوفاً من أن يظهر لأبي نواس, لكونه قاصراً بالنسبة إليه, فقصده أبو نواس في داره وهو بها, فطرب الباب, واستأذن عليه, فقالت الجارية: ليس هو هنا, فعرف مقصده فقال لها قولي له: أخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:
موردة في كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فلما سمع دين الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه.
ومن بديع الانسجام ما أنشده إسحاق الموصلي لبعض الأعراب:
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ما هيجت حين غنت
تغنت بصوت أعجمي فهيجت ... من الشوق ما كانت ضلوعي أجنت
فلو قطرت عين امرء من صبابة ... دما قطرت عيني دما فألمت
فما سكنت حتى أويت لصوتها ... وقلت ترى هذي الحمامة جنت
ولي زفرات لو يدمن قتلنني ... بشوق إلى نأي التي قد تولت
فيا محيي الموتى أقدني من التي ... بها نهلت نفسي سقاما وعلت
لقد بخلت حتى لوني سألتها ... قذى العين من سافي التراب لضنت
فقلت ارحلا يا صاحبي فليتني ... أرى كل نفس أعطيت ما تمنت
حلفت لها بالله ما أم واحد ... إذا ذكرته آخر الليل حنت
وما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت
إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه ... وبرد الحمى من بطن خبت أرنت
بأكثر مني لوعة غير أنني ... أجمجم أحشائي على ما أجنت
ومنه قول إسحاق الموصلي:
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعدا غير قائم
ومنه قول محمد بن كناسة:
في انقباض وحشمة فإذا ... لاقيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
قيل: أنشد محمد بن كناسة هذين البيتين إسحاق الموصلي, فقال له الموصلي: وددت أني نقص من عمري سنتان وإني كنت سبقت إلى إلى هذين البيتين فقلتهما.
ومن المرقص في باب الانسجام قول عمر بن أبي ربيعة من قصيدة:
أتاني رسول من ثلاث خرائد ... ورابعة تستكمل الحسن أجمعا
تنوعتن حتى عاود القلب سقمه ... وحتى تذكرت الحديث المودعا
فقلت لمطريهن في الحسن إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعا فتنفعا
وهيجت قلبا كان قد ودع الصبا ... وأشياعه فاشفع عسى أن تشفعا
لئن كان ما قد قلت حقا فما أرى ... كمثل الألى أطريت في الناس أربعا
ومنا وهو الغاية التي لا تدرك:
فلما توافقنا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
قربن أسباب الهوى لمتيم ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا
وقوله أيضاً:
ردوا التحية أيها السفر ... وقفوا فإن وقوفكم أجر
ماذا عليكم في وقوفكم ... ريث السؤال سقاكم القطر
بالله ربكم أما لكم ... بالمشعرين وأهله خبر
(1/275)
________________________________________
مكية هام الفؤاد بها ... نسي العزاء فماله صبرا
قدرت له حيناً لتقتله ... ولكل ما هو كائن قدر
فالشهر مثل اليوم إن حضرت ... واليوم إن غابت به شهر
زهراء آنسة مقبلها ... عذب كأنه مذاقه الخمر
وإذا تجلت في الظلام جلت ... دجن الظلام كأنها البدر
نظرت إليك بعين مغزلة ... حوراء خالط طرفها فتر
وقوله أيضاً كما في تاريخ ابن خلكان ولم أجدها في ديوانه:
حي طيفا من الأحبة زارا ... بعد ما صرع الكرى السمارا
طارقا في المنام تحت دجى الليل ضنينا بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا جفينا كنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال أنا كما عهدت ولكن ... شغل الحلي وأهله أن يعارا
وقوله وقد تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري محبوبته الثريا:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
ومنه قول يزيد بن الطثرية:
عقيلية أما ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل
تقيظ أكناف الحمى ويظلها ... بنعمان من وادي الأراك مقيل
أليس قليلا نظرة أن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل
فيا خلة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبها لم يطع به ... عدو ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مقام أشتكي غربة النوى ... وخوف العدى فيه إليك سبيل
فديتك أعدائي كثير وشقتي ... بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول
فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يول لي إليك رسول
صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوماً والعتاب طويل
فلا تحملي إثمي وأنت ضعيفة ... فإن دمي يوم الحساب ثقيل
ومن الفائق قول أبي تمام:
وما حسرتي إن كدت أقضي إنما ... حسرات قليب إنني لم أفعل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وقوله وهو من المطراب:
استزارته فكرتي في المنام ... فأتاني في خفية واكتتام
ألليالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرحته النوى من الأيام
يا لها زورة تلذذت الأر ... واح فيها سرا من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنا في دعوة الأحلام
وقوله أيضاً:
أنت في حل فزدني سقما ... أفن صبري وأجعل الدمع دما
وأرض لي الموت بهجريك فإن ... ألمت نفسي فزدني ألما
محنة العاشق في ذل الهوى ... فإذا استودع سرا كتما
ليس منا من شكا علته ... من شكا ظلم حبيب ظلما
ومثله قوله أيضاً:
الحسن جزء من وجهك الحسن ... يا قمرا موفيا على غصن
وإن كنت في الحسن واحدا فأنا ... يا واحد الحسن واحد الحزن
كل سقام تراه في أحد ... فذاك فرع والأصل في بدني
كوامن الحب قبل كونك في ... أفئدة العاشقين لم تكن
وقوله أيضاً:
إذا راح مشهور المحاسن أو غدا ... بلين على لحظ العيون الغوامز
فمن لم تفز عيناه منه بنظرة ... فليس بخير في الحياة بفائز
إذا ما انتضى سيف الملاحة طرفه ... ونادى قلوب القوم هل من مبارز
عجزت فألقى السلم قلبي لطرفه ... على أنه عن غيره عير حاجز
وقوله من قصيدة:
ومعرس للغيث تخفق فوقه ... رايات كل دجنة وطفاء
نشرت حدائقه فصرن مآلفا ... لطرائف الأنواء والأنداء
فسقاه مسك الطل كافور الصبا ... وانحل فيه خيط كل سماء
عني الربيع بروضه فكأنما ... أهدى إليه الواشي من صنعاء
صحبته بمدامة صحبتها ... بسلافة الخلطاء والندماء
بمدامة تغدو المنى لكؤسها ... خولا على السراء والضراء
راح إذا ما الراح كن مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء
عنبية ذهبية سكبت لها ... ذهب المعاني صاغة الشعراء
صعبت وراض المزج سيء خلقها ... فتعلمت من حسن خلق الماء
(1/276)
________________________________________
خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء
ومن مديحه المرقص قوله رحمه الله:
بيمين أبي إسحاق طالت يد العلى ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله
هو اليم من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والبر ساحله
تعود بسط الكف حتى لواته ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
ومنه قول أبي عبادة البحتري وعد من المرقص أيضاً:
أشرب على زهر الرياض تشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسي الهموم وتبعث ال ... شوق الذي قد ضل في الأحشاء
يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفست ... في أوجه الأرواح والأنداء
وفواقع مثل الدموع ترددت ... في صحن خد الكاعب العذراء
يسقيكها رشأ بالكاد يزيدها ... سكرا بفترة مقلة حوراء
يسعى بها وبمثلها من طرفه ... عوداً وإبداء على الندماء
وقوله وهو أول قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان:
بنا أنت من مجفوة لم تعتب ... معذورة في هجرها لم تؤتب
نازحة والدار منها قريبة ... وما قرب ثاو في التراب مغيب
قضت نوب الأيام فيها بفرقة ... متى ما تغالب بالتجلد تغلب
فإن أبك لأشفي الغليل وأن أدع ... أدع لوعة في القبلب ذات تلهب
ألا لا تذكرني الحمى إن ذكره ... جوى للمشوق المستهام المعذب
أتت دون ذاك الدهر أيام جرهم ... وطارت بذاك العيش عنقاء مغرب
ويا لائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى قبلها للتجنب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهبا غير مذهبي
وما كبدي بالمستطيعة للأسى ... فأسلو ولا قلبي كثير التقلب
ولما تزايلنا عن الجزع وانثنى ... مشرق ركب مصعدا عن مغرب
تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر وأن لا خلة بعد زينب
لعل وجيف الركب في غلس الدجى ... وطي الفيافي سبسبا بع سبسب
يبلغني الفتح بن خاقان أنه ... نهاية آمالي وغاية مطلبي
حكي أنه سبب نظم البحتري لهذه القصيدة أنه ماتت للمتوكل جارية بارعة الجمال اسمها شجر الدر, فحزن المتوكل لموتها حزناً شديدا وتركها بغير دفن أياماً لشدة وجده عليها, ولم يستطع أحد من الوزراء أن ينصحه في ذلك, ولا قدر أحد من الشعراء أن يرثيها. فتقد الفتح بن خاقان إلى أبي عبادة البحتري بنظم قصيدة يكون نسيبها متعلقاً بشجر الدر ومديحها فيه, وأن ينشدها بين يدي المتوكل. فنظم هذه القصيدة وحظر بين يدي المتوكل, فأخذ في إنشادها والمتوكل يهتز لها طربا, ويستعيد كل بيت منها استحسانا, إلى أن بلغ قوله: يبلغني الفتح بن خاقان - البيت - فقال المتوكل: ويحك يا أبا عبادة انتقلت مما يطرب إلى ما ينصب. ثم أجازه كل من الخليفة والوزير جائزة سنية, وحصل للمتوكل بذلك سلوة, والله أعلم.
ومن المطرب قوله أيضاً:
بات نديما لي حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح
كأنما يضحك عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح
تحسبه نشوان إمارنا ... للفتر في أجفانه وهو صاح
بت أفديه ولا أرعوي ... لنهي ناه عنه أو لحي لاح
أمزج كأسي بجنى ريقه ... وإنما أمزج راحا براح
يساقط الورد علينا وقد ... تبلج الصبح نسيم صباح
أغضيت عن بعض الذي يتقى ... من حرج في حبه أو جناح
سحر العيون النجل مستهلك ... لبي وتوريد الخدود الملاح
وقوله:
يا عارضا متلفعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده
لو شئت عدت بلاد نجد عودة ... فنزلت بين عقيقة وزروده
لتجود في ربع بمنعرج اللوى ... قفر تبدل وجشه من غيده
رفع الفراق قبابهم وتحملوا ... بفؤاد مختبل الفؤاد عميده
وأنا الفداء لمرهف غض الصبا ... يوهيه حمل وشاحه وعقوده
قصرت تحيته فجاد بخده ... يوم الوداع لنا وضن بجيده
عنيت به عين الرقيب فلم تدع ... من نيله المطلوب غير زهيده
(1/277)
________________________________________
ولو استطاع لكان يوم وصاله ... للمستهام مكان يوم صدوده
وقوله في غلام له اسمه نسيم, باعه فاشتراه أبو الفضل الحسن بن وهب ثم ندم على بيعه وتتبعته نفسه:
دعا مقلتي تجري على الجور والقصد ... أظن نسيما قارف الهجر من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه ... فيا عجبا للدهر فقداً على فقد
خليل هل من نظرة توصلانها ... إلى وجنات ينتسبن إلى الورد
وقد يكاد القلب يفقد دونه ... إذا اهتز في قرب من العين أو بعد
بنفسي حبيب نقلوه عن اسمه ... فبات غريبا في رخاء وفي سعد
فبا حائلا عن ذلك الاسم لا تحل ... وإن جهد الأعداء عن ذلك العهد
كفى حزنا أنا على الوصل نلتقي ... فواقا فتثنينا العيون إلى الصد
فلو تمكن الشكوى لخبرك البكا ... حقيقة ما عندي وإن جل ما عندي
هوى لا جميل في بثينة ناله ... بمثل ولا عمرو بن عجلان في هند
أبا الفضل في تسع وتسعين نعجة ... غنى لك عن ظبي بساحتنا فرد
أتأخذه مني وقد أخذ الجوى ... مآخذه مما أسر وما أبدي
وقلت أسل عنه والجوانح دونه ... وكيف سلو ابن المفرغ عن برد
ابن المفرغ هذا هو يزيد بن زياد بن مفرغ واسمه ربيعة, وإنما لقب مفرغا لأنه راهن على سقاء من لبن يشربه كله فشربه حتى فرغه فسمي مفرغا وقيل في سبب لقبه بذلك غير هذا, وكان يزيد المذكور شاعراً غزلا محسنا من شعراء الصدر الأول في زمن معاوية بن أبي سفيان, وبرد الذي ذكره البحتري غلام له كان رباه مع قينة له تسمى الأراكة, وكان شديد الضن بهما, وله فيهما أشعار والله أعلم.
ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
عزيز أسى من داؤه الحق النجل ... عياء به مات المحبون من قبل
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري ... نذير إلى من ظن أن الهوى سهل
وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
ومن جسدي لم يترك الحب شعرة ... فما فوقها إلا وفيها له فعل
ومنها:
كأن رقيباً منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأن سهاد الليل يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجر لنا وصل
وقوله:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب
ومنها:
سوائر بما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
وربما وخدت أيدي المطي بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
كم زورة لك في الأعرب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وحالفوها بتقويض وتطنيب
ومنها:
فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
ومنها:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
قال الثعالبي في اليتيمة: وناهيك بهذه الأبيات جزالة وحلاوة, وحسن معان, وله طريقة طريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها, وأجاد ما شاء فيها.
ومنها قوله:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتا من القلب لم تمدد له طنبا
مظلومة القد في تشبيهه غصنا ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
وقوله:
إن الذين أقمت واحتملوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
ومنها:
ما أسارت في العقب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
وقوله أيضاً, قال الثعالبي: وهي مما يتغنى به لرشاقتها وبلوغها كل مبلغ من حسن اللفظ وجودة المعنى واستحكام الصنعة:
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... والآن يمنعه البكا أن يمنعا
حتى كأن لكل عظم رنة ... في جلده ولكل عرق مدمعا
(1/278)
________________________________________
سفرت وبرقعها الحياء بصفرة ... سترت محاجرها ول تك برقعا
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلية فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معاً
وقوله:
فليت هوى الأحبة كان عدلا ... فحمل كل قلب ما أطاقا
ومنها:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
وبين الفرع والقدمين نور ... يقود بلا أزمتها النياقا
وطرف أن سقى العشاق كاسا ... بها نقص سقانيها دهاقا
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وقوله:
كأنما قدها إذا انقلبت ... سكران من خمر طرفها ثمل
يجذبها تحت خصرها كفل ... كأنه من فراقها وجل
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراحة ... فتشابها كلتاهما نجلاء
نفذت على السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
وقوله وهو من المرقص:
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن لكي يصن به الجمالا
وضفرن الغدائر لا الحسن ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
وهذا من إحسانه المشهور الذي لا يشق غباره في والله أعلم.
ومن الانسجام البديع قول سيف الدولة بن حمدان رحمه الله تعالى في جارية له من بنات ملوك الروم, كان لا يرى الدنيا إلا بها, ويشفق من الريح الهابة عليها, فحسدها سائر خطاياه على لطف محلها منه, وأزمعن على إيقاع مكروه بها من سم وغيره, وبلغ سيف الدولة ذلك فأمر بنقلها إلى الحصون احتياطاً على روحها وقال:
راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني في ... ك اغتباطا يا أنفس الاعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيدا ... والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون من خوف فراق
وقوله أيضاً:
تجنى علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني ظلما وفي شقه العتب
وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلا جفاني حين كان لي القلب
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنبا وإن لم يكن ذنب
وقوله أيضاً:
أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع
رأى ماء فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع
فصادف فرصة فدنا ... فلم يلتذ بالجرع
وقول أبي فراس بن حمدان وهو ابن عم سيف الدولة. قال الثعالبي في ترجمته: كان فرد دهره, وشمس عصره أدبا وفضلا, وبلاغة وبراعة, وفروسية وشجاعة, وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة, والسهولة والجزالة, والعذوبة والفخامة, والحلاوة والمتانة, ومعه رقة الطبع وسمة الظرف وعزة الملك, ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز, وأبو فراس بعده أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان الصاحب يقول: بديء الشعر بملك, وختم بملك, يعني امرأ القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه, فلا ينبري لمباراته, ولا يجتري على مجاراته, وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس, ويميزه بالإكرام على سائر قومه. انتهى.
وقوله المشار إليه هو:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه ... إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
بدوت وأهلي حاضرون لأنني ... أرى أن دارا لست من أهلها ققر
وحاربت قومي في هواك وأنهم ... وإياي لولا حبك الماء والماء والخمر
وإن كان ما قال الوشاة ولم يكن ... فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة ... لإنسانة في الحي شيمتها الغدر
وقور وريعان الصبا يستفزها ... فتأرن أحيانكما يارن المهر
(1/279)
________________________________________
تسائلني من أنت وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حالة نكر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك قالت أيهم فهم كثير
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق ... وأن يدي مما علقت به صفر
فلا تنكريني يا ابنة العم إنني ... ليعرف ما أنكرته البدو والحضر
وقلبت أمري لا أرى لي راحة ... إذا البين أنساني ألح بي الهجر
فعدت إلى حكم الزمان وحكمها ... لها الذنب لا تجزي به ولي العذر
واني لحراب بكل مخوفة ... كثير إلى نزالها النظر الشزر
فأظمأ حتى ترتوي البيض والقنا ... واسغب حتى يشبع الذيب والنسر
ويا رب دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى وأنا والفجر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم أفر عرضي فلا وفر الوفر
وقال أصيحا بي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ=فليس له بر يقيه ولا بحر
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره ... ولم يمت الإنسان ما حيي الذكر
ولا خير في دفع الردى بمذلة ... كما ردها يوما بسوءته عمرو
فإن عشت فالطعن الذي تعرفونه ... وتكل القنا والبيض والضمر الشقر
وإن مت فالإنسان لا بد ميت ... وإن طالت الأيام وانفسح العمر
يمنون أن خلوا ثيابي وإنما ... على ثياب من دمائهم حمر
وقائم سيف فيهم اندق نصله ... وأعقاب رمح فيهم حطم الصدر
سيذكرني قومي إذا جد جدها ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غير ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
وهي من غرر قصائده, ومع شهرتها فهذا المقدار كاف منها.
وقوله من أخرى:
وطال الليل بي ولرب دهر ... نعمت به لياليه قصار
وندماني السريع إلى ندائي ... على عجل وأقداحي الكبار
وكم من ليلة لم أرو منها ... حننت لها وأرقني أدكار
قضاني الدين ماطله وأوفى ... إلي بها الفؤاد المستطار
فبت أعل خمر من رضاب ... لها سكر وليس لها خمار
إلى أن رق ثوب الليل عنا ... وقالت قم فقد برد السوار
وقوله في النسيب:
من أين للرشأ الغرير الأحور ... في الخد مثل عذراء المتحدر
قمر كأن بعارضيه كليهما ... مسكا تساقط فوق ورد أحمر
وقوله أيضاً:
تبسم إذ تبسم عن أقاح ... وأسفر حين أسفر عن صباح
وأتحفني براح من رضاب ... وراح من جنى خد وراح
فمن لألاء غرته صباحي ... ومن صهباء ريقته اصطباحي
وقوله أيضاً:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه المليح ذنوب
وقوله وهو من المطرب:
قمر دون حسنه الأقمار ... وكثيب من النقا مستعار
وغزال فيه نفار وما ين ... كر من شيمة الظباء النفار
لا أعاصيه في اجتراح المعاصي ... في هوى مثله تطيب النار
قد حذرت الملاح دهرا ولكن ... ساقني نحو حبه المقدار
كم أردت السلو فاستعطفتني ... رقية من بين أصحابي
وقوله وهو من المرقص:
هبت لنا ريح شآمية ... متت إلى القلب بأسباب
أدت رسالات الهوى بيننا ... فهمتها من بين أصحابي
قال في اليتيمة: كان الصاحب يستطرف هذين البيتين ويستملحهما ويكثر الإعجاب بهما. انتهى.
قلت: ورأيت في كتب كثير من الأدباء المتأخرين كابن حجة والنواجي نسبة هذين البيتين إلى أبي نواس, وهو غلط, والصواب أنهما لأبي فراس, وأظن القائل بذلك تصحف عليه أبو فراس بأبي نواس, فإن صورتها في الخط قريبة والله أعلم.
وقوله رحمه الله تعالى:
قد كنت عدتي التي أسطوبها ... يدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
(1/280)
________________________________________
وجميع شعر أبي فراس من الجيد الحسن, وهو كما قال فيه بعض العلماء: لو سمعته الوحش أنست, أو خوطب به الخرس نطقت, أو استدعي به الطير نزلت.
ومن بديع الانسجام قول أبي زهير مهلهل بن نصر بن حمدان:
وقد علمت بما لاقته منا ... قبائل يعرب وابنا نزار
لقيناهم بأرماح طوال ... تبشرهم بأعمار قصار
وقوله وهو مما يتغنى به:
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم ظلمتك فاغفري لي زلتي ... هذا مقام المستجير العائذ
وقول أبي المطاع بن ناصر الدولة بن حمدان:
إني لأحسد (لا) في أسطر الصحف ... إذا رأيت عناق اللام للألف
وما أظنهما طال اجتماعهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف
وقوله أيضاً:
أفدي الذي زرته بالسيف مشتملا ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي للعناق له ... حتى لبست نجادا من ذوائبه
وقوله وهو من المرقص:
قالت لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفه ولا تنتقص ولا تزد
فقال خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت في كبدي
وقول أبي وائل الحمداني لما أسر:
يا خليلي أسعداني فقد عي ... ل اصطباري على احتمال البلية
غربة قارظية وغرام ... عامري وحنة علويه
وقول أبي العاشر:
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
وقوله أيضاً وأجاد: سطا علين امن حاز الجمال سطا=ظبي من الجنة الفردوس قد هبطا
له عذران قد خطا بوجنته ... فاستوقفا فوق خديه وما انبسطا
وظل يخطو فكل قال من شغف ... يا ليته في سواد الناظرين خطا
وحدث بعضهم قال: دخلت إلى أبي العاشر أعوده من علة عرضت له فقلت له: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام بين يديه كان رضوان غفل عنه فابق من الجنة, وأنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام
فتور عينيه من دلال ... أهدى فتورا إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
وهؤلاء آل حمدان رضوان الله عليهم, ما منهم إلا شجاع مدقع وفصيح مصقع, وفيهم يقول الثعالبي: كان بنو حمدان ملوكاً؛ أوجههم للصباحة, وألسنتهم للفصاحة, وأيديهم للسماحة, وعقولهم للرجاحة.
وقال: اخبرني جماعة من أهل الأدب؛ أن المتنبي لما عوتب في آخر أيامه على تراجع شعره قال: قد تجوزت في قولي, وأعفيت طبعي, واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان. انتهى.
ومن الانسجام المرقص قول أبي الفرج الببغاء:
يا سادتي هذه روحي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع
لا عذب الله روحي بالبقاء فما ... أظنني بعدكم بالعيش أنتفع
ومثله قول الوأواء الدمشقي:
بالله ربكما عوجا على سكني ... عاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا بي قولا في كلامكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه
فان بدا لكما من سيدي غضبا ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
ومثله قول أبي طالب الرقي:
ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
وكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على زجاج أزرق
والفجر فيه كأنه قطر الندى ... ينهل من سيح الغمام المغدق
وقوله أيضاً:
ومعير وجه البدر ما في وجهه ... والغصن ما في قده المتأود
رمدت جفوني من تورد خده ... فكحلتها من عارضيه بأثمد
ومن البديع في هذا الباب قول تميم بن أبي تميم معد بن تميم صاحب مصر:
ما بان عذري فيه حتى عذرا ... ومشى الدجى في خده فتحيرا
همت تقبله عقارب صدغه ... فاستل عارضه عليها خنجرا
والله لولا أن يقال تغيرا ... وسلا وإن كان التسلي أجدرا
لا عدت تفاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا
وفاة ابنه:
نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا ... أولنا مبتلى وخاتمنا
(1/281)
________________________________________
يفرح هذا الورى بعيدهم ... طرا وأعيادنا مآتمنا
وعدوا من الانسجامات المطربة قول محمد بن صالح العلوي:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمتع أركانه
فبدا لينظر أين لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصده سبحانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
ومن الانسجامات المرقصة قول أبي الحسين علي بن محمد الحماني العلوي:
يا شادنا أفرغ من فضه ... في خده تفاحة غضة
كأنما القبلة في خده ... للحسن من رقته عضه
يهتز أعلاه إذا ما مشى ... وكله في لينه قبضه
أرحم فتى لما تملكته ... أقر بالرق فلم ترضه
وقوله أيضاً رحمه الله:
بأبي فم شهد الضمير ... قبل المذاق بأنه عذب
كشهادتي لله خالصة ... قبل العيان بأنه الرب
والعين لا تغني بنظرتها حتى يكون دليلها القلب
وقوله في الفخر:
لنا من هاشم هضبات مجد مطنبة بأبراج السماء
تطوف بنا الملائك كل يوم ... ونكفل في حجور الأنبياء
ويهتز المقام لنا ارتياحا ... ويلقانا صفاه بالصفاء
ومنه قول ابن المعتز:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من المطر
وطالما نبهتني للصبوح بها ... في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان في دير صلاتهم ... سود المدارع نعارين في *****
مزترين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلا من الشعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... ب***** يطبق جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتى استطاب له ... طوعا وأسلفته الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستترا ... مستعجل الخطو من خوف ومن حذر
فقمت أفرش خدي في الطريق له ... ذلا وأسحب أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وقوله وهو من المطرب في هذا الباب:
ومقرطق يسعى إلى الندماء ... بعقيقة في درة بيضاء
والبدر في أفق السماء كدرهم ... ملقى على ياقوته زرقاء
كم ليلة قد سرني بمبيته ... عندي بلا خوف من الرقباء
مهفهف عقد الشراب لسانه ... فحديثه بالرمز والإيماء
حركته بيدي وقلت له انتبه ... يا فرحة الخلطاء والندماء
فأجابني والخمر يخفض صوته ... بتلجلج كتلجلج الفأفاء
إني لأفهم ما تقول وإنما ... غلبت علي سلافة الصهباء
دعني أفيق من الخمار إلى غد ... واحكم بما تختار يا مولائي
وقوله وهو من المرقص:
ما أقصر الليل على الراقد ... وأهون السقم على العائد
تفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لما أوليت بالجاحد
كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدحى ... حسبتنا في جسد واحد
ومنه قول ابن الرومي:
بلد صبحت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
وإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
وقول السري الرفاء:
قامت وخوط البانة ال ... مياس في أثوابها
ويهزها سكران سك ... ر شرابها وشبابها
تسمى بصهبائين من ... ألحاظها وشرابها
فكأن كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقوله أيضاً:
ومن وراء سجوف الرقم شمس ضحى ... تجول في جنح ليل مظلم داج
مقدودة خرطت أيدي الشباب لها ... حقين دون مجال العقد من عاج
قال الثعالبي: عهدي بأبي بكر الخوارزمي يحن على هذا الوصف.
وقوله وهو من المطرب:
قم فانتصف من صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الصبح قد قامت عساكره ... في الشرق ينشر أعلاما من الذهب
والجو يختال في حجب ممسكة ... كأنما البرق فيها قلب ذي رعب
تجنبتك صروف الدهر فانصرفت ... وقابلتك سعود العيش عن كثب
(1/282)
________________________________________
فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الفلج المعسول والشنب
فالعيش في ظل أيام الصبا فإذا ... ودعت طيب الشباب الغض لم يطب
توج بكأسك قبل الحادثات يدا ... فالكأس تاج يد المثري من الأدب
وقوله وهو من المرقص:
خذوا من العيش فالأعمار فانية ... والدهر منصرف والعمر منقرض
في حامل الكأس من بدر الدجى خلف ... وفي المدامة من شمس الضحى عوض
كأن نجم الثريا كف ذي كرم ... مبسوطة للعطايا ليس تنقبض
دارت علينا كؤوس الراح مترعة ... وللدجى عارض في الجو معترض
حتى رأيت نجوم الليل غائرة ... كأنهن عيون حشوها مرض
ومنه قول الخباز البلدي
ذرى شجر للطير فيها تشاجر ... كأن صنوف النور فيها جواهر
كأن القماري والبلابل فوقها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
شربنا على ذاك الترنم قهوة ... كأن على حافاتها الدر دائر
ومما وقع الاتفاق على أنه من الانسجام المرقص قول الوزير المهلبي:
تصارمت الأجفان منذ ضرمتني ... فما نلتقي إلا على عبرة تجري
وقوله أيضاً:
قال لي من أحب والبين قد وجد ... ودمعي مواصلا لشهيقي
ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق
ومنه قول أبي إسحاق إبراهيم الصابي:
لست أشكو هواك يا من هواه ... كل يوم يروعني منه خطب
مر ما مر بي من أجلك حلو ... وعذابي في مثل حبك عذب
وقوله أيضاً:
أيها اللائم المضيق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجة عشقي ... وأبان العذار في الحب عذري
وقوله أيضاً:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... حفنا عليك به ظلما وعدوانا
لأن أحسن ما نلقاه مكتسيا ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
ومنه قول القاضي التنوخي:
غصن تأود فوق دعص من نقا ... ليل تبلج عن نهار مسفر
كالشمس إلا أنه متنفس ... عن مسكة متبسم عن جوهر
وأطال من ليلي وقصر ليله ... إني سهرت وأنه لم يسهر
وقول أبي نصر الخبزارزي:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأحسن من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعد
فما زال نجم الكأس بيني وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطورا على تقبيل نرجس ناظر ... وطورا على تعضيض تفاحة الخد
وقوله أيضاً:
شاقني الأهل ولم تشقني الديار ... والهوى صائر إلى حيث صاروا
جيرة فرقتهم غربة البين ... وبين القلوب ذاك الجوار
كم أناس زعوا لنا حين غابوا ... وأناس جفوا وهم حضار
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا ... ثم مالوا وأنصفوا ثم جاروا
لا تلهم على التجني فلو لم ... يتجنوا لم يحسن الاعتذار
وقوله أيضاً: قالوا عشت صغيرا قلت أرتع في=روض المحاسن حتى يدرك الثمر
ربيع حسن دعاني لافتتاح هوى ... لما تفتح منه النور والزهر
ومن بديعه قول أبي طاهر الواسطي قال الثعالبي (وهو أحسن وأبلغ ما سمعته في طول الليل) :
عهدي بنا ورداء الصبح يجمعنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر
وقول أبي عبد الله الحامدي
يا راحلا ترك البكاء مباحا ... ما رحت أنت بل اصطباري راحا
إن أخلفتني فيك أسباب المنى ... وغدوت لي سقما وكنت صلاحا
فلقد عهدتك مسعدا لي في الهوى ... وعهدت وجهك في الظلام صباحا
وقول ابن نباتة السعدي:
يا من أضر بحسن الشمس والقمر ... ولم يدع فيهما للناس من وطر
نفسي فداؤك من بدر على غصن ... تكاد تأكله عيناي بالنظر
وقوله وهو من المطرب
سقى الله أرضاً لا أبوح بذكرها ... فتعرف أشجاني بها حين تذكر
سوى أنها مسكية الترب ريحها ... ترف وتندى والهواجر تزفر
نمت بها يجلو علي كؤوسها ... أغر الثنايا واضح الجيد أحور
فوالله ما أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر
إذا صبها جنح الظلام وعبها ... رأيت رداء الليل يطوى وينشر
(1/283)
________________________________________
وقوله وهو من المرقص:
خلقنا بأطراف القنا في صدورهم ... عيونا لها وقع السيوف حواجب
بقوا قبلنا مرد العوارض وانثنوا ... وأوجههم منها لحى وشوارب
وقوله في فرس أغر محجل أهداه إليه سيف الدولة:
قد جاءنا الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
أولاية وليتنا فبعثته ... رمحا سبيب العرف عقد لوائه
نختال منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه وخاض في أحشائه
متمهلا والبرق من أسمائه ... متبرقعا والحسن من أكفائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من إسرائه
وقال فيه أيضاً:
وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا
سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوي خلفه الأفلاك طيا
فلما خاف وشك الفوت منه ... تشبث بالقوائم والمحيا
ومن المرقص البديع قول السلامي:
تبسطنا على الآثام لما ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
ومثله قوله:
الكأس للسكر التبري صائفة ... والماء للحبب الدري نظام
بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا ... كأننا في حجور الروض أيتام
وقوله:
نفرغ أكياسنا في الكؤوس ... نبيع العقار ونشري العقارا
حمدنا الهوى ونسينا الفراق ... ومن يشرب الخمر ينس الخمارا
وقوله من قصيدة يمدح بها عضد الدولة:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار وهي الدنيا ويوم هو الدهر
قال القاضي ابن خلكان في تاريخه بعد إنشاد هذه الأبيات: وعلى الحقيقة هذا الشعر هو ***** الحلال كما يقال.
وقد أخذ هذا المعنى القاضي أبو بكر الأرجاني فقال:
يا سائلي عنه لما جئت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار
كم من شنوف لطاف من محاسنه ... علقن منه على آذان سمار
لقيته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
ولكن أين الثريا من الثرى, وهذا المعنى موجود في الشطر الأخير من بيت المتنبي وهو:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
لكنه ما استوفاه, فإنه ما تعرض إلى ذكر اليوم الذي جعله السلامي هو الدهر, ومع هذا فليس عليه طلاوة ببيت السلامي. انتهى.
ومن المطرب أيضاً قوله:
عدل ****** فمن يجور ... ودنا فأين بنا تسير
عوضت من عيس تدور ... بنا الفلا كأسا تدور
وشربت ما وسع الصغير ... وزدت ما حمل الكبير
نبهت ندماني وقد ... عبرت بنا الشعرى العبور
والبدر في أفق السما ... ء كروضة فيها غدير
هبوا فقد عيي الرقيب ... فنام وانتبه السرور
وأشار إبليس فقل ... نا كلنا نعم المشير
صرعى بمعركة تعف ... الوحش عنها والنسور
نوار روضتنا خدو ... د والغصون بها خصور
والعيش آنس ما يكون ... إذا تهتكت الستور
هبوا إلى شرب المدا ... م فإنما الدنيا غرور
طاف السقاة بها كما ... أهدت لك الصيد الصقور
عذراء يكتمها المزا ... ج كأنها فيه ضمير
وتظن تحت حبابها ... خدا تقبله ثغور
حتى سجدنا والإمام ... أما منا بم وزير
ومن الانسجام المطرب قول ابن سكرة الهاشمي في غلام بيده غصن منور:
غصن بان أتى وفي اليد منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم
فتحيرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم
وقوله أيضاً:
الليالي تسوء ثم تسر ... وصروف الزمان ما تستقر
غير أني عن الحوادث راض ... بعد سخط والعيش حلو ومر
كنت صبا بواحد ثم ثني ... ت فلي بالجميع وصل وهجر
من كمثلي وعن يميني شمس ... تتجلى وعن يساري بدر
ذا على خده من الحسن سطر ... وعلى طرف ذا من الغنج سحر
بت يجري علي من ريق هذين ... وكأسي شهد ومسك وخمر
وقال:
(1/284)
________________________________________
أنا والله سيدي ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
ومنه قول أبي الحسن علي بن هارون المنجم وهو مما يتغنى به:
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يغنه الإعتاب
يا غائبا بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتك إياب
لولا التعلل بالرجاء تقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من فرج الإله فربما ... يصل القطوع ويقدم الغياب
وقوله:
سقى الله أياما لنا ولياليا ... مضين فلا يرجى لهن رجوع
إذ العيش صاف والأحبة جيرة ... جميعاً وإذ كل الزمان ربيع
وإذ أنا أما للعواذل في الصبا ... فعاص وأما للهوى فمطيع
قال الصاحب رحمه الله تعالى: هذا الشعر إن شئت كان أعرابياً في شملته, وإن أردت كان عراقيا في حلته.
وقوله من قصيدة صاحبية:
ولما تنسمنا صبا صاحبيه ... تعيد عجاج الجو وهو عبير
تركنا الظي الرمضاء وهي حديقة ... ندى وحصى المزاء وهي شذور
ونلنا هشيم النبت وهو منور ... وجزنا قتاد الأيك وهو حرير
وزير ومما يعجب الناس أنه ... وزير عليه للسماح أمير
ويخطب من فوق الثريا بفخره ... فلا تعجبوا أن الخطيب خطيرا
وقوله من أخرى فيه وهي من قلائده:
هذا فؤادك نهبا بين أهواء ... وذاك رأيك شورى بين آراء
هواك بين العيون النجل مقتسم ... داء لعمرك ما أدواه من داء
لا تستقر بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخص غريب عزمه نائي
يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال ... عذيب يوما ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحي نجدا وآونه ... شعب العقيق وطورا قصر تيماء
قال أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي: عهدي بأبي محمد الخازن ماثلاً بين يدي الصاحب ينشده هذه القصيدة, فرأيت الصاحب مقبلا عليه بمجامعه, حسن الإصغاء إليه, مستعيدا لأكثر أبياته, مظهرا من الإعجاب به والاهتزاز لهل ما تعجب الحاضرون منه.
فلما بلغ قوله:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري وألقت شعرها طربا ... فألفا بين إصباح وإمساء
زحف عن دسته طربا. فلما بلغ قوله بالمدح:
لو أن سبحان باراه لا سحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقات أي إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعة ... أمر ونهي وتثبيت وإمضاء
كذاك ألوى الهدى منه بأربعة ... كفر وجبر وتشبيه وإرجاء
جعل يحرك رأسه مستحسنا. فلما قال:
نعم تجنب (لا) يوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لثغة الراء
استعاده وصفق بيديه. فلما ختمها بهذه الأبيات:
أطري وأطرب بالأشعار أنشدها ... أحسن ببهجة إطرابي وإطرائي
ومن منائح مولانا مدائحه ... لان من زنده قدحي وإيرائي
فخذ إليك ابن عباد محبرة ... لا البحتري يدانيها ولا الطائي
قال: أحسنت أحسنت والله أنت. وتناول النسخة, وتشاغل بإعارتها نظره, ثم أمر له بخلعة وحملان وصلة.
ومن البديع المطرب قول أبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي:
أدن من الدن يا فداك أبي ... وأشرب وسق الكبير وانتخب
أما ترى الطل كيف يلمع في ... عيون نور يدعو إلى الطرب
في كل عين للطل لؤلؤة ... كدمعة في جفون منتحب
والصبح قد جردت صوارمه ... والليل قد هم منه بالهرب
والجو في حلة ممسكة ... قد كتبتها البروق بالذهب
فهاتها كالعروس محمرة ال ... خدين في معجز من الحبب
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
في كف را عند الصدود وقد ... غضبت من حبه على الغضب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئاً من أعجب العجب
نار حواها الزجاج يلهبها ال ... ياء ودر يدور في لهب
وقول أبي العلاء السروي في غلام سكران, وهو مما يتغنى به:
بالورد في وجنتيك من لطمك ... ومن سقاك المدام لم ظلمك
خلاك لا تستفيق من سكر ... توسع شتما وجفوة خدمك
مشوش الصدغ قد ثملت فما ... تمنع من لثم عاشقيك فمك
(1/285)
________________________________________
بالله يا أقحوان مبسمه ... على قضيب العقيق من نظمك
وقول القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت دين أخي التقي المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يلتهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
وإذا أتت عين لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
وما ألطف قوله: اذهبي لا تذهبي وعلى ذكر هذه الأبيات, يحكى أن بعض التجار قدم مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه حمل من الخمر السود, فلم يجد لها طالبا, فكسدت عليه, وضاق صدره, فقيل له: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين في الظرف والخلاعة. فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد, فأتاه وقص عليه القصة, فقال: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحالة, فقال له التاجر: أنا غريب وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل, وتضرع إليه فخرج من المسجد وأعاد لباسه الأول.
وعمل هذين البيتين وشهرهما, وهما:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى وقفت له بباب المسجد
فشاع بين الناس أن مسكين الدرامي رجع إلى ما كان عليه, وأحب واحدة ذات خمار أسود, فلم يبق في المدينة ظريفة إلا وطلب خمارا أسود, فباع التاجر الحمل الذي كان معه لكثرة رغبتهم, فلما فرغ منه عاد مسكين إلى تعبده وانقطاعه, والله أعلم.
وهذا حين أتلو عليك من انسجامات مهيار بن مرزويه الديلمي ما هو أرق من النسيم, وأشرف من المحيا الوسيم. وما أصدق قول أبي الحسن الباخرزي في حقه: هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر, وكاتب تجلى تحت كل كلمة من كلماته كاعب, وما في قصيدة من قصائده بيت يتحكم عليه لو, وليت, فهي مصبوبة في قوالب القلوب, وبمثلها يعتذر الزمان المذنب عن الذنوب.
فمن ذلك قوله من قصيدة:
يا نسيم الريح من كاظمة ... شد ما هجت البكا والبرجا
من عذيري يوم شرقي الحمى ... من هوى جد بقلب مزرحا
الصبا إن كان لابد الصبا ... أنها كانت لقلبي أروحا
يا نداماي بسلع أهل أرى ... ذلك المغبق والمصطحبا
اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا
وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا
وقوله من أخرى:
ولائم ملتفت عن صبوتي ... ينكرها ولو أحب لصب
إذا نسيت بهواي ساءه ... مصرحا وإن كنيت غضبا
وما عليه أن غرمت بابلا ... بحاجر وفاطما بزينبا
يلومني لا مات إلا لائما ... أو عاش عاش بالهوى معذبا
قال عشقت أيبا يعدها ... منقصة نعم عشقت اشيبا
هل شعر بدلته بشعر ... مبدل بأرب لي أربا
أبى الوفاء والهوى وبالغ ... معذرة من سيم عذرا فأبى
وقوله في صدر أخرى:
أتراها يوم صدت أن أرها ... علمت أني من قتلى هواها
أم رمت جاهلة ألحاظها ... لم تميز عمدها لي من خطاها
لا ومن أرسلها مفتنة ... تجرح النسك بجمع وقضاها
ما رمى نفسي إلا واثق ... أنه يقضي عليها من رماها
سنحت بين المصلى ومنى ... مسنح الظبية تستقري طلاها
فجزاها الله عن فتكها ... في حريم الله سواءا ما جزها
قال واشيها وقد راودتها ... رشفة تبرد قلبي من لماها
لا تسمها فما أن الذي ... حرم الخمرة قد حرم فاها
أعطيت من كل حسن ما اشتهت ... فرآها كل طرف فاشتهاها
حماها خفر في وجهها ... ووقار قبل أن تسمي أباها
غدت الشمس إذا ما أسفرت ... أختها والغصن إن مست أخاها
ولو أن النجم يرتاح لها ... لحظة في غير ما جمع ما اجتلاها
آه مما أسارت في كبدي ... من جوى تلك الليالي البيض آها
وقال من أخرى
من بمنى وأين جيران منى ... كانت ثلاثا لا تكون أربعا
راحوا فمن ضامن دين ما وفي ... وحالف بالبيت ما تورعا
وفي الحدوج غاربون أقسموا ... لا تركوا شمسا تضيء مطلعا
سعى بي الواشي إلى أميرهم ... لا طاف إلا خائفا ولا سعى
(1/286)
________________________________________
لا بأبي ظبية لولا طيفها ... ما أستأذنتها مقلتي أن تهجعا
ولا رجوت بسؤالي عندها ... جدوى سوى أن أشتكي وتسمعا
يا صاحبي سر الهوى إذاعة ... طغت خروق سرنا أن ترقعا
إشرافة على منى إشرافة ... واجتهداها دعوة أن تسمعا
يا طلقاء الغدر هل من عطفة ... على أسير بالوفاء جمعا
سلبتموني كبدا صحيحة ... أمس فردوها علي قطعا
عدمت صبري فجزعت بعدكم ... ثم ذهلت فعدمت الجزعا
وأنت يا ذات الهوى من بينهم ... عهدك يوم وجرة ما صنعا
لما ملكت بالخداع جسدي ... نقلت قلبي وسكنت الأضلعا
وارتجعا لي ليلة بحاجر ... إن تم في الفائت أن يرتجعا
وغفلة سرقتها من زمني ... بلعلع سقى الغمام لعلعا
وقال في صدر أخرى:
أنذرتني أخت سعد أن سعدا ... دونها ينهد لي بالشر نهدا
ما على قومك أن صار لهم ... أحد الأحرار من أجلك عبدا
أجتلي البدر فلا أنساك وجهها ... وأرى الغصن فلا أسلاك قدا
وإذا هبت صبا أرضكم ... جملت تراب الغضابان ورندا
لام في نجد وما استنصحته ... بابلي لا أراه الله نجدا
لو تصدى رشأ السفح له ... لم يلم فيه ولو جار وصدا
يصل الحول على العهد وما ... أنكر التذكار من قلبي عهدا
أفيروى عندكم ذو غلة ... عدم الظلم فما يشرب بردا
رد لي يوما على وادي منى ... أن قضى الله لأمر أن يردا
وقال في صدر أخرى:
بطرفك والمسحور يقسم ب***** ... أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري
تعرض لي في القانصين مسدد ... الإشارة مدلول السهام على النحر
رمى اللحظة الأولى فقلب مجرب ... فكررها أخرى فأحسست بالشر
فهل ظن ما قد حرم الله من دمي ... مباحاً له أم نام قومي عن الوتر
بنجد ونجد دار جود وذمة ... مطال بلا عس ومطل بلا عذر
وسمراء ود البدر لو حال لونه ... إلى لونها في صبغة الأوجه السمر
خليلي هل من وقفة والتفاتة ... إلى القبة السوداء من جانب الحجر
وهل من أرانا الحج بالخيف عائد ... إلى مثلها أم عدها حجة العمر
ولله ما أوفى الثلاث على منى ... لأهل الهوى لو لم تحن ليلة النفر
لقد كنت لا أوتى من الصبر قلة ... فهل تعلمان اليوم أين مضى صبري
وكنت ألوم العاشقين ولا أرى ... مزية ما بين الوصال إلى الهجر
فأعدي إلي الحب صحبة أهله ... ولم يدر قلبي أن داء الهواء يسري
أيشرد لبي يا غزالة حاجر ... وأنت بذات البان مجموعة الأمر
وخذي الحظ عيني في الغصون إضافة ... إلى القلب أو ردي فؤادي إلى صدري
وقال من أخرى:
ولما وقفنا بالديار تشابهت ... جسوم براهن البلى وطلول
فبال بداء بين جنبيه عارف ... وبال بما جر الفراق جهول
ونسأل عن ظمياء صماء لا تعي ... فترضى بما قالت وليس تقول
هل أنت يا ظمياء إلا يراعة ... تميل مع الأرواح حيث تميل
فإن كان سؤلا للنفوس بلاؤها ... فإنك للبلوى وإنك سول
تهجر واش فيك عندي فسائني ... فقلت عدو أنت قال عذول
وسفهني في أن تعلقت مانعا ... فقلت وأي الغانيات منيل
إذا لم تكن حسناء إلا بخيلة ... فلا عجب في أن يحب بخيل
وقال في صدر أخرى وهي من مشهور شعره:
بكر العارض تحدوه النعام ... فسقاك الري يا دار أمام
وتمشت فيك أرواح الصبا ... يتأرجن بأنفاس الخزامى
أجتدي المزن وماذا أر بي ... أن تجود المزن أطلالا رماما
وقليلا قبلا أن أدعو لها ... ما رآني الله أستجدي الغماما
أين سكانك لا أين هم ... أحجازا أوطنوها أما شآما
صدعوا بعد التئام فغدت ... بهم أيدي المرامي تتراما
يا لواة الدين عن ميسرة ... الضنينات وما كن لئاما
قد وقفنا بعدكم في ربعكم ... فقضيناه استلاما والتثاما
بجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى وأقرأ على قلبي السلام
وترجل فتحدث عجبا ... إن قلبا سار عن جسم أقاما
قل لجيران الغضا آه على ... طيب عيش بالغضا لو كان داما
(1/287)
________________________________________
نصل العام وما أنساكم ... وقصارى الوجد أن أسلخ عاما
حملوا ريح الصبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحا وثماما
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما
وقف الظامي على أبوابكم ... أفيقضي وهو لم يشف أواما
ما يبالي من سقيتن اللمى ... منعكن الماء عنه والمداما
أشتكيكم وإلى من أشتكي ... شمل الداء فمن يبري السقاما
وقال في صدر أخرى:
ليتها إذ منعت ماعونها ... لم تكن ناهرة مسكينها
دمية ما اجتمع والشمس في ... موطن إلا رأتها دونها
ما عليها إذ أطاعت حسنها ... يوم جمع لو أطاعت دينها
نسكت بين المصلى ومنى ... حجة لم تتبع مسنونها
تصف الظبية إلا عطفها ... لك والبانة إلا لينها
فأسالت أنفسا معجلة ... لم تشارف من كتاب حينها
أنبلتها وهي لا سهم لها ... إنما ألحاظها يكفينها
سألت ظمياء من ذا فتنت ... أي قلب لم يكن فمتونها
يا ابنة المثنى عليهم بالندى ... وعهود حرموا تخوينها
ما لهم جادوا وأبخلت وما ... للمواثيق التي تلوينها
رمست عند عادات لهم ... كان حق المجد لو تحيينها
أزف النفر وفي أسرى الهوى ... كبد عند لا تفدينها
ذهبت هائمة فأطلعت ... عذرة تحسبها مجنونها
قضي الحج تماما ولنا ... حاجة بعد نهل تقضينها
ما بك الصد ولكن وفرة ... لونتها نوب تلوينها
كالقطا مرَّ عليها قانص ... أخذ الكر وبقى جونها
وإنما آثرت إيراد هذا المقدار من رقائق مهيار لغرابة أسلوبه في طريقته وتفرده في مجازه وحقيقته, وعزة وجود ديوانه في هذا الزمن الذي وقف فيه الأدب على ثنية الوداع, وهم قبلي مزنه بالإقلاع والله المستعان.
ومن الغايات في باب الانسجام قول أبي عبد الله محمد بن نصر المعروف بابن القيسراني
بالسفح من نعمان لي ... قمر منازله القلوب
حملت تحيته الشمال ... فردها عني الجنوب
فرد الصفات غريبها ... والحسن في الدنيا غريب
لم أنس ليلة قال لي ... لما رأى جسدي يذوب
بالله قل لي من أعللك يا ... فتى قلت الطبيب
وقول أبي بكر محمد بن الصائغ الأندلسي:
أسكان نعمان الأرك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا ائتمنوا خانوا
سلو الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان
وقول أبي إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
ألا ساجل دموعي يا غمام ... وطارحني يشجوك يا حمام
فقد وفيتها ستين حولا ... ونادتني ورائي هل أمام
وكنت من الباناتي لبينى ... هناك ومن مراضعي المدام
يطالعنا الصباح ببطن حزوى ... فيعرفنا وينكرنا الظلام
وكان به البشام مراح أنس ... فيالله ما فعل البشام
فيا شرخ الشباب ألا لقاء ... يبل به على برح أوام
ويا ظل الشباب وكنت تندى ... على أوفياء دوحتك السلام
وقول أبي عبد الله محمد بن بختيار المعروف بالأبله البغدادي:
زار من أحيا بزورته ... والدجى في لون طرته
قمر يثني معاطفه ... بانة في طي بردته
بت أستجلي المدام على ... غرة الواشي وغرته
يا لها من ليلة قصرت ... وأماتت طول جفوته
يا له من الحسن من صنم ... كلنا في جاهليته
وقول موفق الدين محمد بن يوسف الأربلي:
رب دار بالفضا طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها
درست إلا بقايا أسطر ... سمح الدهر بها ثم محاها
كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها
وقفت فيها الغوادي وقفة ... ألصقت حر ثراها بحشاها
وبكت أطلالها نائبة ... عن جفوني أحسن الله جزاها
قل الجيران مواثيقهم ... كلما أحكمتها رثت قواها
كنت مشغوفا بكم إذ كنتم شجرا لا يبلغ الطير ذراها
لا تبيت الليل إلا حولها ... حرس ترشح بالموت ظباها
وإذا مدت إلى أغصانها ... كف جان قطعت دون جناها
(1/288)
________________________________________
فتراخى الأمر حتى أصبحت ... هملا يطمع فيها من يراها
تخصب الأرض فلا أقربه ... رائدا إلا إذا عز حماها
لا يراني الله أرعى روضة ... سهلة الأكناف من شاء رعاها
وإذا طمع أعرى بكم ... عرض اليأس لنفسي فثناها
فصبابات الهوى أولها ... طمع النفس وهذا منتهاها
لا تظنوا لي إليكم رجعة ... كشف التجريب عن عيني عماها
وقول أبي الفتح محمد بن عبد الله المعروف بسبط بن التعاويدي:
قل للسحاب إذا مرت ... هـ يد الجنائب فارجحن
عج باللوى فاسمح بدم ... عك في المعاهد والدمن
يا منزل الأنس الجميع ... وملعب الحي الأغن
سكنت بك الآرام من ... بعد الأحبة السكن
أين استقلت ب****** ... ركابه ومتى ظعن
شوقي إلى زمن الحمى ... سقي الغوادي من زمن
شوق المغرب شردت ... هـ يد البعاد عن الوطن
ولقد عهدتك والزمان ... لشملنا بك ما فطن
وثراك ما اغبرت مسار ... حه وماؤك ما أجن
وظباؤك الأتراب لي ... وطر وتربك لي وطن
لام العذول وما درى ... وجدي وبلبالي بمن
وجدي بمن فضح القضي ... ب وأخجل الرشأ الأغن
ما ضر من هو فتنتي ... لو كان يرحم من فتن
دمعي طليق في ... محبته وقلبي مرتهن
يا منيتي أودى الصدو ... د بعاشق بك ممتحن
غادرته وقفا على ال ... عبرات بعدك والحزن
كلف الفؤاد معذبا ... بين الإقامة والظعن
عطفا على قرح الجفو ... ن بعيد عهد السوسن
لا تبخلي فالبخل يذ ... هب بهجة الوجه الحسن
ولرب ليل بت في ... هـ صريع باطية ودن
أختال من مرح وأسحب فضل ذيلي والردن
مع معطف لدن القوا ... م إذا انثنى رخص البدن
وقوله في صدر أخرى:
سقاك سار من الوسمي هتان ... ولا رقت للغوادي فيك أجفان
يا دار الهوى وأطرابي وملعب أت ... رابي وللهو الأطراب أوطان
هل عائد لي ماض من جديد الهوى ... أبليته وشباب فيك فينان
إذ الرقيب لنا عين مساعدة ... والكاشحون لنا في الحب أعوان
وإذ جميلة توليني الجميل وعن ... د الغانيات وراء الحسن إحسان
ولي إلى الرمل من نحو الحمى طرب ... واليوم لا الرمل يصبيني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر ... إذا بكى والأحباب قد بانوا
كانوا معاني المغاني والمنازل أم ... وات إذا لم يكن فيهن سكان
لله كم قمرت لبي بجوك أق ... مار وكم غازلتني فيك غزلان
خال من الهم في خلخاله حرج ... فقلبه فارغ والقلب ملآن
يذكي الجوى بارد من ثغره شبم ... ويوقظ الوجد طرف منه وسنان
أن يمس ريان من ماء الشباب فلي ... قلب إلى ريقه المعسول ظمآن
بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان
وقول أبي الغنائم محمد بن علي المعروف بابن المعلم الواسطي:
هو الحمى ومعانيه ومغانيه ... فاحبس وعان بليلى ما تعانيه
لا تسأل الركب والحادي فما سأل العشاق قبلك من ركب وحاديه
ما في الصحاب أخو وجد تطارحه ... حديث نجد ولا صب تجاريه
إليك عن كل قلب في أماكنه ... ساه وعن كل دمع في أماقيه
وقوله أيضاً من أخرى:
ردوا علي شوارد الأظعان ... ما الدار إن لم تغن من أوطاني
ولكن بذاك الجزع من متمنع ... هزأت معاطفه بغصن البان
ألوى تلونه بأول موعد ... فمن الكفيل لنا بوعد ثاني
ومتى اللقاء ودونه من قومه ... أبناء معركة وأسد طعان
نقلوا الرماح وما أظن أكفهم ... خلقت لغير ذوابل المران
وتقلدوا بيض السيوف فما ترى ... في الحي غير مهند وسنان
ولئن صددت فمن مراقبة العدى ... ما الصد عن ملم ولا سلوان
يا ساكني نعمان أين زماننا ... بطويلع يا ساكني نعمان
وقول أبي الحسن علي بن محمد بن بسام المعروف بالبسامي الشاعر:
لله أيام الشباب ولهوه ... لو أن أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
(1/289)
________________________________________
وقول أبي منصور علي بن الحسن المعروف بصردر من قصيدة:
نسائل عن ثمامات بحزوى ... وبان الرمل يعلم ما عنينا
فقد كشف الغطاء فما نبالي ... أصرحنا بذكرك أم كنينا
ولو أني أنادي يا سليمى ... لقالوا ما عنيت سوى لبينى
وقول الأمير ناصر الدين محمد وهو من المرقص:
قلب المتيم كاد أن يتفتتا ... فإلى متى هذا الصدود إلى متى
يا معرضين عن المشوق تلفتوا ... فعوائد الغزلان أن تتلفتا
كنا وكنتم والزمان مساعد ... لله ذاك الشمل كيف تشتتا
صد وبعد واشتياق دائم ... ما كل هذا الحال يحمله الفتى
وعدوا من الانسجام المرقص أيضاً قول ابن الدباغ:
يا رب أن قدرته لمقبل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس
ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فلتك شمعة في المجلس
وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... يا رب فلتك من عيون النرجس
وذيل عليها الشيخ عبد الرحمن الخياري من أهل العصر فقال:
ولئن قضيت لجسمه بملامس ... يا رب فليك من سني الأطلس
وذيل عليه آخر فقال:
ولئن قضيت لنا بصوت مطرب ... فمن الحمائم في الليالي الحندس
وذيلت عليه أنا فقلت:
ولئن قضيت لنا بشرب مدامة ... يا رب فلتك من لماه الألعس
وقول أبي عبد الله أحمد بن محمد المعروف بابن الخياط الدمشقي:
يا نسيم الصبا الولوع بوجدي ... حبذا أنت إن مررت بنجد
أجر ذكري نعمت وأنعمت غرامي ... بالحمى ولتكن يدا لك عندي
ولقد رابني شذاك فبالله متى عهد بأطلال هند
إن يكن عرفها امتطاك إلينا ... فلقد زرتنا بأسعد سعد
يا خليلي خلياني وهمي ... أنا أولاكما بغيي ورشدي
لو أمنت الملام والذم ما اخ ... ترت وقوفي على المنازل وحدي
ولقد أصحب المراح إلى اللذ ... ات ملقى الوشاح أسحب بردي
بين دعج من الظباء ونعج ... ولدان من الحسان ملد
في زمان من الشبيبة مصقو ... ل وعيش من البطالة رغد
وقوله في صدر أخرى وهي من مشهور شعره:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق ذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من أعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنه ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه
وقد طويت كشحا عن إيراد ما لكثير من المتأخرين, كالبلهاء زهير, والحاجري وابن الفارض, وابن النبيه, والتلعفري وابن نباته, والصفي الجلي, والتلمساني وابن الجهني وأمثالهم, وما ذلك إلا لاشتهار دواوينهم, وتداول أشعارهم.
فلنذكر طرفا مما وقع لأهل العصر في هذا الباب, ونمتع بلذتها الأسماع والألباب, فإن لكل جديد لذة, خصوصاً إذا كان من النوادر الفذة.
فمن ذلك قول الشيخ العلامة بهاء الدين محمد بن حسين العاملي:
خلياني بلوعتي وغرامي ... يا خليلي واذهبا بسلام
قد دعاني الهوى فلباه لبي ... فدعاني ولا تطيلا ملامي
خامرت خمرة المحبة عقلي ... وجرت في مفاصلي وعظامي
أيها السائر الملح إذا ما ... جئت نجدا فعج بوادي الخزام
وتجاوز عن ذي المجاز وعرج ... عادلا عن يمين ذاك المقام
وإذا ما بلغت حزوى فبلغ ... جيرة الحي يا أخي سلامي
وأنشدن قلبي المعنى لديهم ... فلقد ضاع بين تلك الخيام
وإذا ما رثوا لحالي فسلهم ... أن يمنوا ولو بطيف منام
يا نزولا بذي الأرك إلى كم ... تنقضي في فراقكم أعوامي
ما سرت نسمة ولا ناح في الدو ... ح حمام إلا وحان حمامي
أين أيامنا بشرقي نجد ... يا رعاها الإله من أيام
حيث غصن الشباب غض وروض العيش قد طرزته أيدي الغمام
(1/290)
________________________________________
وزماني مساعد وأيادي ال ... لهو نحو المنى تجر زمامي
ومن المرقص قول الأديب حسين ***ي بن الجزري الشامي:
اغمدا شبا مرهفك الباتر ... بالسيف لا حاجة للساحر
لحظك أمضى منه فينا شب ... ما أقتل الفاتك بالفاتر
يا قمرا أشرق من فرعه ... الزاهي على غصن نقا زاهر
أهديت لي السهد وفرط البكا ... أمرك محمول على الناظر
ويا غزالا آنسا نافرا ... ما عهدنا بالآنس النافر
لا تقس قلبا وتلن جانبا ... فهذه من شيم الغادر
ولا تطع واشيك في عذله ... فالعذل لا يؤخذ من جائر
كم ليلة سامرت فيه السها ... شوقا إلى لقياك يا هاجري
لا سامح الله ليالي الهوى ... فإنها أظلم من كافر
أهيم أن هبت نسيم الصبا ... وليل من هام بلا آخر
تقصر للراقد في هجعة ... وطالما طالت على الساهر
وقول أبي الطيب بدر الدين رضي الدين الغزي العامري الشامي:
هات اسقني حلب العصير ولا سوى ... زهر النجوم تجاه زهر المجلس
أنظر إليه كأنه متبرم ... مما تغازله عيون النرجس
وكأن صفحة خده ياقوته ... وكأن عارضه خميلة سندس
وقول الخفاجي:
أتظن الورق في الأيك تغني ... إنما تضمر حزنا مثل حزني
لا أراك الله نجدا بعدها ... أيها الحادي بها إن لم تجبني
هل تباريني إلى بث الجوى ... في دياري الحي نشوى ذات غصن
هب لها السيبق ولكن زادنا ... أننا نبكي عليها وتغني
يا أهيل الخيف هل من عودة ... يسمح الدهر بها من بعد ضن
أرضينا بثنيات اللوى ... عن زرود يا لها صفقة غبن
سل أراك الجزع هل مرت به ... مزنة روت ثراه غير جفني
وأحاديث الغضا هل علمت ... أنها تملك قلبي قبل أذني
وقول الشيخ الأديب الأريب عبد العلي بن ناصر بن رحمة الحويزي:
لمن العيس عشيا تترامى ... تركتها شقق البين سهاما
كلما برقعها نشر الصبا ... لبست من أحمر الدمع لثاما
وترامت خضعا أعناقها ... كلما هز لها البرق حساما
شفها جذب براها للحمى ... وهي تثني لربا نجد زماما
وتلقيها حديثا حاملا ... عن ثرى وجرة أنفاس الخزامى
ما على من حملت لو وقفوا ... ساعة نشرح وجدا وغراما
ومن الجهل ارتجائي يقظة ... أربا لا أترجاه مناما
يا بني عذرة هل من آخذ ... بدمي المسفوك من حل الخياما
قمرا لو لم ير البدر دجى ... ما حوى البدر كمالا وتماما
غادرا لم يرع مني نسبا ... دون أن يحفظ عهدا وذماما
نسبا أيسره أن الحشا ... مثل خديه لهيبا واضطراما
ولجسمي من بقايا حبه ... شبه الطرف فتورا وسقاما
يا نديمي دعا خمريكما ... أن أراق الحب من فيه مداما
وانثني يا قضيب البان إذا ... رنحت سكرى اللمى ذاك القواما
وانس يا روض أقاحيك بها فلقد لاح لنا الثغر ابتساما
أيها الظاعن عن عيني وفي ... مهجتي بوء ربعا ومقاما
عاقب الله بأدهى صصم ... أذني إن سمعت فيك ملاما
وقوله أيضاً في صدر أخرى:
لمع البرق في أكف السقاة ... وبدا الصبح من سنى الكاسات
فالبدار البدار حي على الرا ... ح وهبوا لأكمل اللذات
نار موسى بدت فأين كليم الذات يمحو بها حجاب الصفات
صاح ديك الصباح يا صاح بالراح فوات الأفراح قبل الفوات
واصطحباه اصطباح من راح لا يف ... رق بين الشموس والذرات
تلق فيها العقول منتقشات ... كانتقاش الأشخاص في المرآة
فهي الشربة التي عثر الخض ... ر عليها في عين ماء الحياة
وتقصى الإسكندر البحث عنها ... فعداها وتاه في الظلمات
سكنت حظائر القدس حانا ... جل عن أن يقاس بالحانات
نور حق بنفسه قام ما أحتا ... ج إلى كوة ولا مشكاة
قبس أشعلته أيدي التجلي ... فأضاءت به جميع الجهات
حجبت بالزجاج وهي عيان ... كاحتجاب البدور بالهلات
يا نديمي اجل لي عرائس سر ... بغواشي الكؤوس محتجبات
هات راحي وناد خذها فإني ... لست أنسى يوم اللقا خذ وهات
(1/291)
________________________________________
فلقد هد ركن نحسي لما ... سعدت ب****** كل جهاتي
يا سقاتي لا تصرفوا الصرف عني ... فحياتي في رشفها يا سقاتي
هي شهد الشهود بل راحة الأر ... واح بل حسن طلعة الحسنات
غير بدع ممن حساها إذا ارتا ... ح وقال الوجود بعض هباتي
قام زين العباد من شربها قط ... با عليه دارت رحى البينات
وخطت بالجنيد لجة بدر ... غرقت فيه أكثر الكائنات
ورزت بالحسين حتى ترقى ... فأن المحق أرفع الدرجات
اسمعتنا من شيخ بسطام ما أع ... ظم شاني بالنفي والإثبات
وقصارى خلع العذار بهل ني ... ل مقام يقاوم المعجزات
ومن الانسجام المرقص قول شيخي العلامة المحقق, محمد بن علي بن محمود الشامي العاملي قدس الله روحه, وجعل من الرضوان غبوقه وصبوحه, وهو أستاذي الذي أخذت عنه في بدء حالي, وأنضيت إلى موائد فوائده يعملات رحالي, واشتغلت عليه فاشتغل بي, وكان دأبه تهذيب أدبي ووهبني من فضله مالا يضيع, وحنا علي حنو الظئر على الرضيع, حتى شحذ من طبعي مرهفا, وبرى من نبعي مثقفا, وكان قطب الفضل الذي عليه مداره, وإليه إيراده وإصداره. وأما الأدب فهو مناره السامي, وملتزم كعبته وركنه الشامي, ينشر منه ما هو أذكى من النشر في أثناء النواسم, بل أحلى من الظلم يترقرق في ثنايا المباسم, ونظمه أبهى من نظيم الدر الباهر, وألذ من الغمض في مقلة الساهر. إن ذكرت الرقة فهو سوق رقيقها, أو الجزالة فهو سفح عقيقها, أو الانسجام فهو غيثه الصيب, أو السهولة فهو نهجها الذي تنكبه أبو الطيب.
وقوله المشار إليه وهو:
أنت يا شغل المحب الواجد ... قبلة الداعي ووجه المقاصد
فت آرام الفلا حسنا فما ... قابلت إلا بطرف جامد
شأن قلبينا إذا صح الهوى ... يا حياتي شأن قلب واحد
أكثر الواشون فينا قولهم ... ما علينا من مقال الحاسد
لست أصغي لا راجيف العدا ... من يغالي في المتاع الكاسد
وقوله أيضاً:
يا خليلي دعاني والهوى ... أنني عبد الهوى لو تعلمان
عرجا نقضي لبانات الهوى ... في ربوع أقفرت منذ زمان
مربع أولع عيني بالبكا ... أمر العين به ثم نهاني
وقصارى الخل وجد وبكا ... فأبكياني قبل أن لا تبكياني
يا عريبا منحناهم أضلعي ... وغضاهم نار شوق في جناني
إن قلبا أنتم سكانه ... ضاع مني بين شعب والقنان
وقوله أيضاً من قصيدة:
باجتلاء المدام والأقداح ... وبمرآة وجهك الوضاح
لا تذرني على مرارة عيشي ... أكل واش ولا فريسة لاح
صاح كلني إلى المدام ودعين ... والليالي تجول جول القداح
لا تخف جور حادثات الليالي ... نحن في ذمة الظبا والرماح
صاح إن الزمان أقص عمرا ... من بكاء في دمنة ونواح
رق عنا ملاحف الجو فاسمح ... برقيق من طبعك المرتاح
يا مليك الملاح إن زمانا ... أنت فيه زمان روح وراح
طاب وقت المدام فاشرب عساه ... يا صاحبي يطيب وقت الصباح
واسقنيها سقيت في فلق الفج ... ر على نغمة الطيور الفصاح
لا تؤآخذ جفونه بفؤادي ... يا إلهي كلاهما غير صاح
وقوله:
ما أنس ولا أنس خيالا سرى ... يسترشد الشوق إلى مضجعي
حسبت بدر التم قد زارني ... فبت لا أقفو سوى المطلع
أسأل عنه الشوق لا يرعوي ... وأنشد البين به لو يعي
آليت والدار لها حرمة ... لا أسأل الدار وصبري معي
كأن دمي حجراً على حاجر ... فلم أباحته مها الاجرع
علالة كان وقوفي بها ... أبغي شفا القلب من الموجع
وقوله من أخرى:
نسخت سحر بابل مقلتاه ... فتنب في فترة الأجفان
في ربوع كأنهن جنان ... عطفت حورها على الولدان
ورياض كأنهن سماء أطلعت أنجما من الأقحوان
بين ورق كأنهن نشاوى ... يترقصن عن قدود الغواني
وأقاح كأنهن ثغور ... يتبسمن في وجوه الجنان
ونسيم الصبا يصح ويعتل على برده وحر جناني
كلما غنت البلابل فيها ... رقص الدمع بالبكا أجفاني
عطفتني على الرياض قدود ... خلعت لينها على الأغصان
(1/292)
________________________________________
يتلقاني الاقاح بنشر ... غصون النقا علي حوان
قل لعتب وما أظن نوالا ... عند عتب لواجد أسيان
أين قلبي لا أين إلا طلولا ... أذهبتها الرياح منذ زمان
أذكرتني معاهدا وربوعا ... كاد يدمى لذكرهن بناني
حيث غصني من الشباب رطيب ... وعيون المها إلي رواني
أطرد النوم عن جفون نشاوى ... بحديث أرق من جثماني
وقواف لو ساعد الجد نيطت ... موضع الدر من رقاب الغواني
سائرات بيوتهن على الأل ... سن سير الأمثال في البلدان
قصد كالفرند في صفحات ... الدهر أو كالشنوف في الآذان
عاصيات على الطباع ذلول ... يتغنى بهن في الركبان
ساقطت والنوى يطل علينا ... من عيون المها حصى المرجان
أنظر أيها المتأمل إلى انسجام هذا الكلام, وشرف هذا النظام, لتعلم مصداق (كم ترك الأول للآخر) ويقف العقل حسير دون لج الفيض الزاخر.
ومن ذلك قوله أيضاً:
لثموا موشى العصب فوق بدور ... وتنقبوا بالنور فوق النور
وفروا جلابيب الظلام ودونهم ... سوران سور قنا وسور خدور
يزجون مهزوز القوام إذا مشى ... جالت عليه مناطق الزنبور
نشوان من خمر الشبا وحى به ... سكران سكر صبا وسكر غرور
لاطفته سحرا فبرقعه الحيا ... بالورد فوق صفائح البلور
هل ركبوا الخيلان وجناته ... أم فتتوا مسكا على كافور
قمر يفور النور من أطواقه ... فكأنها فوارة للنور
أو غادة نظرت بعيني شادن ... وتلفتت عن ناظري مذعور
قال وقد عجبت لشيب مفارقي ... هذا البياض قذى عيون الحور
فأجبتها والبين يخلج صدرها ... إن المشيب جلا صدا المأثور
لله ليلتنا وقد لف الهوى ... منا قواما ذابلا بنضير
حيت فأحيت بالمدام معاشرا ... حضروا وما ألبابهم بحضور
في حبهم صرعى وما حضروا وغى ... نشوى وما مزجوا الهوى بخمور
أنظر إلى الورد الجني كأنه ... متبرم من رنة الشحرور
والنرجس الغض الشهي كأنه ... يرنو إليه عن عيون غيور
في روضة لعب الصبا بغصونها ... لعب الصبا بمعاطف وخصور
أصبا الأصايل لا كبت بك عثرة ... كم عقبة لك في جيوب الحور
لله درك إن مررت على اللوى ... حلي عري جيب الحيا المزرور
وقوله أيضاً من أخرى:
ليت التي بعثت إلي خيالها ... أذنت لعيني أن تذوق كراها
ما انسها لا انس ليلة أقبلت ... والدل يمزج سخطها برضاها
فالدعص ما عقدت عليه إزارها ... والغصن ما زرت عليه قباها
ولرب نفس مثل نفسي حرة ... ضربت عليها النائبات خباها
تالله لولا أن يعنفني الهوى ... لا صاب بعدهم الأساة دواها
***ت إلى الشامي أسباب الردى ... لو أنها في كفه لرماها
وقوله أيضاً:
على رسلك يا صاح ... فما أنت وأتراحي
وما شأنك والواشي ... وما خطبك والملاحي
فهب قلبك للساقي ... وهب عقلك للراح
وخذ أهبة مشتاق ... وثب وثبة مرتاح
فمن عالم أشباح ... إلى عالم أرواح
وقوله من أبيات:
بعث طيفها إلي وأخرى الشوق في قلبها وأولاه عندي
ثم قالت لتربها ليت شعري ... كيف حال الشامي يا مي بعدي
إن بي فوق ما به من هواه ... غير أني أخفي هواه ويبدي
ما درت أنني وإن طال وجدي ... في هواها نسيج وحدي وحدي
وقوله أيضاً:
إذا أبصرت شخصك قلت بدر ... يلوح وأنت إنسان العيون
جرى ماء الحياة بفيك حتى ... أمنت عليك من ريب المنون
وقوله من قصيدة, وهو من إحسانه المشهور:
وقد جعلت نفسي تحن إلى الهوى ... حلا فيه عيش من بثينة أو مرا
وأرسلت قلبي نحو تيماء رائدا ... لي الخفرات البيض والشدن العفرا
تعرف منها كل لمياء خاذل ... هي الريم لولا أن في طرفها فترا
من الظبيات الرود لو أن حسنها ... يكلمها أبدت على حسنها كبرا
وآخر أن عرفته الشوق راعني ... بصد كأني قد أبنت لو وترا
أناشد فيه البدر والبدر غائر ... وأسأل عنه الريم وهو به مغرى
(1/293)
________________________________________
فما ركب البيداء لو لم يكن رشا ... ولا صدع الديجور لو لم يكن بدرا
لحاظ كأن ***** فيها علامة ... تعلم هاروت الكهانة و*****ا
وقد هو الغصن الرطيب كأنما ... كسته تلابيب الصبا ورقا نضرا
رتقت على الواشين فيه مسامعا ... طريق الردى منها إلى كبدي وعرا
أعاذلتي واللوم لؤم ألم تري ... كأن بها عن كلا لائمة وقرا
بفيك الثرى ما أنت والنصح إنما ... رأيت بعينيك الخيانة والغدرا
وما للصبا يا ويح نفسي من الصبا ... تبيت تناجي طول ليلتها البدرا
تطارحه القول حق وباطل ... أحاديث لا تبقي لمستودع سرا
وتلقي على النمام فضل ردائها ... فيعرف للأشواق في طيها نشرا
تعانقها خوف النوى ثم تنثني ... تمزق من غيظ على قدك الأزرا
ألما ترى بأن النقا كيف هذه ... تميل بعطفيها حنوا على الأخرى
وكيف وشى غصن إلى غصن هوى ... وأبدى فنونا من خيانته تترى
فمن غصن يومي إلى غصن هوى ... ومن رشأ يوحي إلى رشأ ذكرى
هما عذلاني في الهوى غير أنني ... عذرت الصبا لو تقبلين لها عذرا
هبيها فدتك النفس راحت تسره ... إليه فقد أبدته وهي به سكرى
على أنها لو شايعت كثب النقا ... وريح الخزامى إنما حملت عطرا
ولنكتف من لطائفه بهذا المقدار طلبا للاختصار, فإن محاسنها لا تنتهي حتى ينتهي عنها, ولا تقف حتى يوقف عليها.
ومن لطائف الانسجام قول الشيخ الفاضل الحكيم حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي رحمه الله, في صدر قصيدة يمدح بها الوالد رحمة الله تعال:
سرت والليل محلول الوشاح ... ونسر الجو مبلول الجناح
وثغر الشرق يبسم عن رياض ... مكللة الجوانب بالأقاح
كأن المشتري والنجم ساق ... يدير على الندامى كأنه كأس راح
فوا عجبا وهل يخفي سراها ... وقد أرجت برياها النواحي
من البيض الحسان إذا تجلت ... تخال جبينها فلق الصباح
مهفهفة يغار البدر منها ... ويخجل قدها هيف الرماح
أبث لطرفها شكوى غرامي ... وهل يشكو الجريح إلى السلاح
واطمع أن يزايلني هواها ... ومن ينجو من القدر المتاح
فلا تأوي لكسرة ناظريها ... فكم أودت بألباب صحاح
أحن إلى هواها وهو حتفي ... كمجروح يداوى بالجراح
ولا وأبيك ليس الحب سهلا ... فكم جد تولد من مزاح
خلقت من الغرام فلا أبالي ... أكان به فسادي أم صلاحي
ولولا تمسك الأطمار جسمي ... لطار من النحول مع الرياح
وحب الغانيات حياة روحي ... وراحتها وريحاني وراحي
ومن الانسجام المطرب قول الشيخ الأديب محمد بن سيعد باقشير المكي رحمه الله:
ألآل ما أرى أم حبب ... أم أقام لا ولكن شنب
حرمت وهي حلال قد جرى ... في خلال الطلع منها الضرب
ما درى بارق ذياك اللمى ... أن لي قلبا به يلتهب
دع لما قد نقل الراوي لنا ... عن لماه ما روته الكتب
آه ما أعذبه من مبسم ... وهو لو جاد به لي أعذب
ليت لو أن منالا منه لي ... غير أن البرق منه خلب
جؤذر يرنو بعيني أغيد ... من مها الرمل أغن أغلب
ومحيا كلف الحسن به ... فغدا ينشد أين المذهب
هز عطفيه فلم يدر النقا ... أقنا ما هزه أم قضب
رق فاستبعد ألباب الورى ... فله في كل قلب ملعب
يا لها من نعمة في ضمنها ... مهلك هان وعز المطلب
وهذا فصل عقدته لما وقع من الانسجام في أشعار العترة النبوية, والسلالة العلوية, التي يلوح عليها سيماء النبوة والخلافة, ويفوح منها ريا السيادة والشرافة. وإنما أفردته عما سبق, وميزته طبقا عن طبق, لتعلم أن الحصباء ليست كالدرر, والحجول وأن اتضحت دون الغرر.
فمن المطرب المرقص قول السيد أبي محمد بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام:
بيض حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرم
يحسبن من لين الكلام فواسقا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
وقول الشريف أبي عبد الله محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض المذكور:
(1/294)
________________________________________
طرب الفؤاد وعاودت أحزانه ... وتلعبت شعبا به أشجانه
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه
فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصده سبحانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه
وقول السيد علي بن محمد بن محمد بن زيد الشهيد المعروف بالحماني:
لنا من هاشم هضبات مجد ... مطبنة بأبراج السماء
تطوف بنا الملائك كل يوم ... ونكفل في حجور الأنبياء
ويهتز المقام لنا ارتياحا ... ويلقانا صفاه بالصفاء
وقوله:
وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما انتضين ليوم سفوك
منابرهن بطون الأكف ... وأغمادهن رؤوس الملوك
وقوله:
لقد فاخرتنا من قريش عصابة ... بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا ... عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا ... عليهم جهير الصوت في كل جامع
ومن نسيبه المرقص قوله:
يا شادنا أفرغ من فضه ... في خده تفاحة غضة
كأنما القبلة في خده ... بالحسن من رقته عضه
يهتز أعلاه إذا ما مشى ... وكله في لينه قبضه
أرحم فتى لما تملكته ... أقر بارق فلم ترض
وقوله أيضاً:
بأبي فم شهد الضمير له ... قبل المذاق بأنه عذب
كشهادتي لله خالصة ... قبل العيان بأنه الرب
والعين لا تغني بنظرتها ... حتى يكون دليلها القلب
وقوله:
كأن هموم الناس في الأرض كلها ... علي وقلبي بينهم قلب واحد
ولي شاهدا عدل سهاد وعبرة ... وكم مدع للحق من غير شاهد
وقوله:
وجه هو البد إلا أن بينهما ... فضلا تحير عن حافاته النور
في وجه ذاك أخاليط مسودة ... وفي مضاحك هذا الدر منثور
حدث بعض الصالحين قال: لقيت علي بن محمد الحماني المذكور بالكوفة بعد خلاصه من حبس الموفق - وكان قد حبس مرتين, مرة لكفالته بعض أهله, ومرة لسعاية عليه - وهنأته بالسلامة, وقلت له, قد عدت إلى وطنك الذي تلذه, وإخوانك الذين تحبهم. فقال: يا أبا علي, ذهب الأتراب والشباب والأصحاب.
وأنشد:
هبني بقيت على الأيام والأبد ... ونلت ما شئت من مال ومن ولد
من لي برؤية من قد كنت آلفه ... وبالزمان الذي ولى ولم يعد
لا فارق الهم قلبي بعد فرقتهم ... حتى يفرق بين الروح والجسد
والحماني بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون. قال السمعاني في الأنساب هذه النسبة إلى حمان وهي قبيلة من تميم نزلوا الكوفة. قال صاحب العمة كان جده ينزل بالكوفة في بني حمان وتخفيف الميم فهو تصحيف لا يعول عليه والله أعلم.
ومن المرقص في هذا الباب قول الشريف المرتضى ذي المجدين أبي القاسم علي بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي:
يا خليلي من ذؤابة قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق
علاني بذكرها تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
لما وصلت هذه الأبيات إلى البصري الشاعر قال: المرتضى خلع مالا يملك على من لا يقبل.
وحي عن الشريف المرتضى المذكور أنه كان جالساً في علية له تشرف على الطريق, فمر به المطرز الشاعر يجر نعلاً له بالية وهي تثير الغبار, فأمر بإحضاره ثم قال له أنشدني أبياتك التي تقول منها:
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
فانشده إياها, فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال: هذه كانت من ركائبك؟ فاطرق المطرز ساعة ثم قال: لما عادت هبات سيدنا الشريف إلى مثل قوله:
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
عادت ركائبي إلى مثل ما يرى, فإنه خلع مالا يملك على من لا يقبل. فاستحيا الشريف ووصله.

سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
إذا لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
على عذبات الجزع من ماء تغلب ... غزال يرى ماء العيون له شربا
(1/295)
________________________________________
إذا ملأ البدر العيون فإنه ... لعمرك بدر يملأ العين والقلبا
ومن المرقص أيضاً قول المرتضى المذكور:
قل لمن خده من اللحظ دام ... رق لي من جوانح فيك تدمى
يا سقيم الجفون من غير سقم ... لا تلمني أن مت منهن سقما
أنا خاطرت في هواك بقلب ... ركب البحر فيك أما وأما
ومن المطر قوله أيضاً:
أحب ثرى نجد ونجد بعيدة ... ألا حبذا نجد وإن لم تفد قربا
يقولون نجد لست من شعب أهلها ... وقد صدقوا لكنني منهم حبا
كأني وقد فارقت نجدا شقاوة ... فتى ضل عنه قلبه ينشد القلبا
وقوله:
مولاي يا بدر كل داجية ... خذ بيدي قد وقعت في اللجج
حسنك ما تنقضي عجائبه ... كالبحر حدث عنه بلا حرج
بحق من خط عارضيك ومن ... سلط سلطانها على المهج
مد يديك الكريمتين معا ... ثم ادع لي من هواك بالفرج
وقوله:
ولما تفرقنا كما شاءت النوى ... تبين ود خالص وتودد
كأني وقد سار الخليط عشية ... أخو جنة مما أقوم وأقعد
وقوله:
قل لمغر بالصبر وهو خلي ... وجميل العذول ليس جميلا
ما جهلنا أن السلو مريح ... لو وجدنا إلى السلو سبيلا
وقوله:
ألا يا نسيم الريح من أرض بابل ... تحمل إلى أهل الخيام سلامي
وقل لحبيب فيك بعض نسيمه ... أما آن أن تستطيع رجع كلامي
وأني لأرضى أن أكون بأرضكم ... على أنني منها استفدت سقامي
وقوله:
قل للذين على موا ... عدهم لنا خلف ومطل
كم ضامني من لا أضي ... م وملني من لا أمل
يا عاذلا لملامه ... كل على سمعي وثقيل
إن كنت تأمر بالسلو فقل لقلبي كيف يسلو
قلبي رهين في الهوى ... أن الهوى سقم وذل
وتعجبت جمل لشي ... ب مفارقي وتشيب جمل
ورأت بياضا في سوا ... د ما رأته هناك قبل
كذبالة رفعت على ال ... هضبات للسارين ضلوا
لا تنكريه ويب غير ... ك فهو للجهلات غل
ومن المقص أيضاً قول أخيه الشريف أبي الحسن الرضي رضي الله عنه:
يا روض ذي الاثل من شرقي كاظمة ... قد عاود القلب من ذكراك أشجانا
أشم منك نسيما لست أعرفه ... أظن ظيماء جرت فيك أردانا
ألقاك والقلب صاح من رحيق هوى ... وأنثني عنك بالأشواق نشوانا
وما تداويت من قرح على كبدي ... ولا سقاني راقي الحب سلوانا
وقوله:
خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى ... فلاقي بها ليلا نسيم ربى نجد
فإن بذاك الجو حيا عهدته ... وبالرغم مني أن يطول به عهدي
ولولا تداوي القلب من ألم الجوى ... بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
وقوله:
أحبك ما أقام منى وجمع ... وما أرسى بكمة أخشباها
وما اندفع الحجيج إلى المصلى ... يجرون المطي على وجاها
وما نحروا بخفيف منى وكبوا ... على الأذقان مشعرة ذراها
نظرتك نظرة بالخيف كانت ... جلاء العين بل كانت قذها
ولم يكن غير موقفنا وطارت ... بكل قبيلة منا نواها
فواها كيف تجمعنا الليالي ... وآها من تفرقنا وآها
وقوله:
يا ليلة كرم الزمان.. ... .. بها لوان الليل باق
كان اتفاق بيننا ... جار على غير اتفاق
فاستروح المشتاق من ... زفرات هم واشتياق
حتى إذا نست رياح ال ... صبح تؤذن بالفراق
برد السوار لها فأحميت القلائد بالعناق
وقوله:
عارضا بي ركب الحجاز أسائله متى عهده بأعلام جمع
واستملا حديث من سكن الخي ... ف ولا تكتباه إلا بدمعي
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي
يا غزالا بين النقا والمصلى ... ليس تقوى على نبالك درعي
كلما سل من فؤادي سهم ... عاد سهم لكم مضيض الوقع
من معيد أيام سلع على ما ... كان منها وأين أيام سلع
وقوله:
أيها الرائح المجد تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق
أقر عني السلام أهل المصلى ... فبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي إليه بالأشواق
(1/296)
________________________________________
وابك عني فطالما كنت من قب ... ل أعير الدموع للعشاق
حكى أبو الحسن العمري قال: دخلت على الشريف المرتضى, فأراني بيتين قد عملهما وهما:
سرى طيف سعدى فارقا فاستفزني ... هبوبا وصحبي بالفلاة هجود
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالا طارقا سيعود
فخرجت من عنده ودخلت على أخيه الرضي, فعرضت عليه البيتين فقال بديها:
فردت جوابا والدموع بوادر ... وقد آن للشمل المشت ورود
فهيهات من لقيا حبيب تعرضت ... لنا دون لقياه مهامه بيد
فعدت إلى المرتضى بالخبر فقال: يعز علي, أخي قتله الذكاء, فما كان إلا يسير حتى مضى الرضي لسبيله.
ومن المرقص قول السيد أبي الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم طباطبا الحسني:
بانوا وأبقوا في حشاي لبينهم ... وجدا إذا ظعن الخليط أقاما
لله أيام السرور كأنما ... كانت لسرعة مرها أحلاما
لو دام عيش رحمة لأخي هوى ... لأقام لي ذاك السرور وداما
يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا ... عاما ورد من الصبا أياما
وقوله في طول الليل:
كأن نجوم الليل سارت نهارها ... فوافت عشاء وهي انضاء أسفار
وقد خيمت كي يستريح ركابها ... فلا فلك جار ولا كوكب سار
وما أحسن قوله في العفاف:
الله يعلم ما أتيت خنى ... أن لا مني العذال أو سفهوا
ماذا يعيب الناس من رجل ... خلص العفاف من الأنام له
يقضانه ومنامه شرع ... كل بكل منه مشتبه
إن هم في حلم بفاحشة ... زجرته عفته فينتبه
ومنه قول الشريف أبي القاسم أحمد بن محمد بن إسماعيل بن طباطبا:
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
أيبقى جميعا شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد
وقوله:
قالت لطيف خيال زارني مضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال أبصرته لو مات من ظمأ ... وقلت قف لا ترد للماء لم يرد
قالت صدقت وفاء الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
وقول السيد ذي المجدين أبي القاسم علي بن موسى الموسوي نقيب النقباء بمرو:
يا أضعف العالمين وصلا ... وأسعف الناس بالفراق
ومن غرامي به شديد ... ليس يداوي بألف راق
إن كان لابد من فراق ... فعن وداع وعن عناق
وزورة ترغم الأعادي ... وخلوة حلوة المذاق
ومن المطرب قول السيد شرف السادة محمد بن عبيد الله الحسيني البلخي من قصيدة:
أشبه الغصن إذ قدا ... وحكى الورد إذ تفتح خدا
وثنى للوداع في حومة البي ... ن بنانا يكاد يعقد عقدا
لست أنسى وإن تقادم عهدا ... عهد أحبابنا بنجد ونجدا
حين غصن الشباب غض ونجم ال ... وصل سعد بحسن إسعاد سعدى
وغزال قد أورث البدر غيظا ... وجهه الطلق والغزالة حقدا
ألف الصد والتجنب حتى ... علم الطيف في الكرى أن يصدا
فسقى عهده العهاد وإن لم ... يقض لنا ولم يرع عهدا
وقوله وهو في معنى غريب:
شد النطاق بخصره ... فغدا فريدا في جماله
يجبى اللجين من الجبال ... فكيف عاد إلى جباله
وقول السيد أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبيد الله البلخي بن أخي المذكور قبله رحمهما الله:
وكم مضى ليل على أبرق الحمى ... مضيء ويوم بالمسرة مشرق
تسرَّقت فيه اللهو أملس ناعما ... وأطيب عيش المرء ما يتسرق
ويا حسن طيف قد تعرض موهنا ... وقلب الدجى من صولة الصبح يخفق
تنسمت رياه قبيل وروده ... وما خلته يحنو علي ويشفق
ومنه قول السيد أبي المحاسن إسماعيل بن حيدر العلوي رحمه الله:
أفي الصبا أشتاق وصل الصبا ... كلا ولكن معالي شيب
لو أن ما حملته همتي ... حمل رضوى لاعتراه المشيب
ومن المرقص قول السيد أبي البركات علي بن الحسين بن جعفر الحسيني:
وأغيد سحار بألحاظ عينه ... حكى لي تثنيه من البان أملودا
سلخت بذكراه عن الصبح ليلة ... أنادمه والكأس والناي والعودا
ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها ... كباسط كفيه ليقطف عنقودا
(1/297)
________________________________________
ومنه قول السيد الإمام أبي الرضا ضياء الدين فضل الله بن علي بن عبد الله الراوندي من قصيدة:
سفرت لنا عن طلعة البدر ... إحدى الخرائد من بني بدر
فأجل قدر الليل مطلعها ... حتى تراءت ليلة القدر
لو أنها كشفت لآلئها ... من قولها والعقد والثغر
لأضاءت الدنيا لساكنها ... والليل في باكورة العمر
حتى يظن الناس أنهم ... هجم العشاء بهم على الفجر
وحديثها سحر إذا نطقت ... لو كان طعم الشهد للسحر
وحسبتها بدر التمام إذا ... حاذاك لولا كلفة البدر
يا لائمي كف الملام فقد ... غلب الغرام بها على الصبر
فوحق فاحمها الأثيث وهل ... في ذلكم قسم لذي حجر
إني إلى معسول ريقتها ... أظما من الصادي إلى القطر
عهدي بنا والوصل يجمعنا ... كالوز توأمتين في قشر
أقول: هذا تشبيه ليس في اللطف شبيه, وهو معنى بكر, ولم يفتضه قبله فكر في هذا الباب.
وقوله أيضاً:
آه لبرق أومضا ... هاج غرامي ومضى
كأنه لما بدا ... لمع سيوف تنتضى
أو التواء حية ... قتلته فنضنضا
ويا لريح نسمت ... من ساكني ذات الاضا
مريضة لم تستطع ... من ضعفها أن تنهضا
فاحتبست على الربى ... وكل نبت روضا
حتى غدت لطيمة ... مفضوضة على الفضا
يا برق يا ريح معا ... تركتماني حرضا
ما لكما أوقدتما ... على الحشا جمر الغضا
وا أسفا على الصبا ... أكان دينا يقتضي
عاد برغم معطسي ... ذاك الغداف أبيضا
وعاد حقي باطلا ... وعدا جسمي غرضا
لهفي على عهد الصبا ... أفلت عني وانقضى
جار عليه الشيب لما أن قضى فلا قضى
أظلمت الدينا على ... عيني لما أن أضا
من الذي أشكو إذا ... صار الطبيب ممرضا
آه على شبيبة ... إذا شدا أو قرضا
على مراثيها فقد ... أبقت بقلبي مرضا
وقوله أيضاً وهو من الحسن بمكان:
يا سقى الله عشيات الحمى ... بين أكناف النقا فالمنحنى
وليالي بجمع أنها ... فرص العمر وتارات المنى
بينما نحن معا نرتع إذ ... تركوا الخيف وأمو اليمنا
حرست بيضهم بيض الظبي ... ورعت سمرهم سمر القنا
وأتت عاذلتي باكرة ... أن رأتني صبا حلف ضنى
ثم لما أعجبتها نفسها ... وأذابت قلبي الممتحنا
حلفت لو أنني كنت أنا ... أنت لم أختر لروحي المحنا
قالت خليني وخلي عذلي ... ما أنا أنت ولا أنت أنا
ومنه قول ابنه السيد الإمام عز الدين علي بن أبي الرضا فضل الله الراوندي رحمه الله:
سلا عذبات رامة بل رباها ... سلاها لا عدمتكما سلاها
أنازحه فراجعة سليمى ... إليك أم استقر بها نواهاه
أما ومنى وزمزم والمصلى ... وأركان العقيق من بناها
لقد ألف الفؤاد هوى سليمي ... ولم يخلص إليه هوى سواها
وربة ليلة زهراء بتنا ... نروي من جوانحنا صداها
فلف الصبح أردية الدياجي ... ورف على مطارفنا نداها
فقامت تعقد الأزرار عجل