#1  
قديم 04-12-2021, 09:24 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي يسألونك عن رمضان


تأليف

الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
(1/1)
________________________________________
الطبعة الأولى
أبوديس / بيت المقدس / فلسطين
1429هـ - 2008م
17.gif17.gif17.gif
توزيع
المكتبة العلمية ودار الطيب للطباعة والنشر
القدس / أبوديس / شارع جامعة القدس
تلفون (2791365)
(1/2)
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
(1/3)
________________________________________
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
وبعد
فهذا كتاب عن شهر رمضان المبارك، ذكرت فيه أهم المسائل التي يطرحها الناس في هذا الشهر الفضيل من قضايا الصيام التي يحتاج لها عامة الناس، وفصلَّتُ الحديثَ عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام عامة، وخصصت هديه صلى الله عليه وسلم في شعبان، وبيَّنتُ أنه أكثر شهر صامه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تكلمت على هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان، وأتبعت ذلك ببيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان، وهديه صلى الله عليه وسلم في العيد. ثم ذكرت ما يتعلق بهذا الشهر المبارك من أحكام أخرى كالأحكام الشرعية المتعلقة برؤية هلال رمضان، وبينت حكم الاستعانة بالحسابات الفلكية في ذلك، وتكلمت على أحكام الصيام التفصيلية، فذكرت مسائل النيات، وبداية يوم الصوم ونهايته، وفصلَّت الكلام على المفطرات، واخترت منهج المضيقين في المفطرات وعدم التوسع
(1/5)
________________________________________
فيها، لأن كثيراً مما عدَّه الفقهاء من المفطرات لم يقم عليه دليل صحيح. ثم بينت أحكام قضاء الصوم، والخطأ والنسيان فيه، ثم تحدثت عن الصوم المندوب وما يتعلق به من أحكام. ثم تحدثت عن صلاة التروايح وبينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد عدداً معيناً لركعاتها، وأن الأمر فيه سعة، ثم ذكرت بعض أحكام الاعتكاف وأحكام زكاة الفطر، ثم فصلَّتُ الكلام على أحكام العيد، وذكرت المخالفات والبدع التي تحصل في العيد، ثم ختمت الكتاب بمسائل متفرقة فبينت حكم صوم الأطفال والبرامج التي تعرضها المحطات الفضائية في رمضان، وذكرت طائفة من الأحاديت المشتهرة في رمضان وغير ذلك من المسائل.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علَّمنا وأن يفقِّهنا في الدين، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
أبوديس/ القدس المحتلة
صباح يوم الاثنين التاسع من شعبان 1429هـ ... وفق الحادي عشر من آب 2008 م.
(1/6)
________________________________________
الهدي
النبوي
في الصيام
(1/7)
________________________________________
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان، أفيدونا؟
الجواب: لا شك أن خير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو أكمل الهدي، وعمله صلى الله عليه وسلم خير العمل، وعلى كل مسلم أن يبذل وسعه وطاقته في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} سورة الأحزاب الآية 21.
وقد كان أعظم ما يميز هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في شعبان هو الصيام حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شعبان، بل إن شهر شعبان هو أكثر شهر صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رمضان فقد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك منها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهرٍ إلا رمضان وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلّت وكان إذا صلى صلاة داوم عليها) رواه البخاري.
وعنها رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها قالت: (ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلا ً)
(1/9)
________________________________________
رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي [وقولها: (كان يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلاً) الثاني تفسير للأول، وبيان أن قولها كله أي غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت، ويصوم بعضه في سنة أخرى، وقيل: كان يصوم تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة بينهما، وما يخلي منه شيئاً بلا صيام، لكن في سنين، وقيل: في تخصيص شعبان بكثرة الصوم لكونه ترفع فيه أعمال العباد، وقيل غير ذلك] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 223 - 224.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [ ... إن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم. ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: (شعبان تعظيماً لرمضان) وفي إسناده مقال. وفي سنن ابن ماجة: (أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (صم شوالاً) فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالاً حتى مات. وفي إسناده إرسال، وقد روي من وجه آخر يعضده. فهذا نصٌ في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم، وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال. فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم، فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى. فظهر بهذا أن أفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده. فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه] لطائف المعارف ص 248 - 249.
(1/10)
________________________________________
وقال بعض أهل العلم: الحكمة من صيام النبي صلى الله عليه وسلم أكثر شعبان أن كثيراً من الناس يغفلون عن الصيام في شعبان فكان صلى الله عليه وسلم يصوم أكثره وقد ورد ذلك معللاً في حديث أسامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر ما تصوم من شعبان؟ قال: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي معلقاً على حديث أسامة: [ ... أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه. وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام، وليس كذلك. وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناسٌ يصومون رجباً، فقال: (فأين هم عن شعبان) وفي قوله: (يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقاً أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويُفَوِتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم، وفيه: دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف، يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن)] لطائف المعارف ص 250 - 251.
وهنا لا بد من الإشارة إلى حديث قد يتعارض مع ما ذكرنا وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) رواه أصحاب السنن
(1/11)
________________________________________
الأربعة. فيجاب عنه من وجهين: الأول: إن الحديث ضعيف ضعفه الإمام أحمد وابن معين والبيهقي. الثاني: إن صح فيحمل النهي في الحديث على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده قاله الحافظ ابن حجر. وقال الشوكاني: [ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة: (أن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجباً به] نيل الأوطار 4/ 276.
وينبغي أن يعلم أنه يكره للمسلم أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين لئلا يختلط النفل بالفرض، أو حتى يستريح الصائم ليدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم) رواه البخاري. وأخيراً أنبه على أن إحياء ليلة النصف من شعبان بدعة منكرة لا أصل له في الشرع وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) قال ابن الجوزي: [هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه آفات ثم ذكر من آفاته مروان بن سالم قال فيه النسائي والدارقطني والأزدي متروك. العلل المتناهية 2/ 562. وقال الحافظ ابن حجر عنه: [ومروان هذا متهم بالكذب]. الإصابة 5/ 580. وقال الحافظ عنه في لسان الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 4/ 391. وقال الذهبي في الميزان: [هذا حديث منكر مرسل] 5/ 372.
وخلاصة الأمر أنه كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم صيام أكثر شهر شعبان.
- - -
(1/12)
________________________________________
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان؟
الجواب: لا شك أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان هو أكمل الهدي، وعمله صلى الله عليه وسلم هو خير العمل، وعلى كل مسلم أن يبذل وسعه وطاقته في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا} سورة الأحزاب الآية 21. وأبين هنا هدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان كما صح عنه في دواوين السنة، وكما ذكره المحققون من أهل العلم، فمن المعلوم عند أهل العلم أن فرض صيام رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة النبوية، وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الكمال وأعظم تحصيل للمقصود وأسهله على النفوس كما قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد 2/ 30.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل في صوم رمضان برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد كما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود وابن حبان وصححه ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وإذا حالت دون رؤية الهلال غيوم أو قتر أو نحوهما أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً كما ثبت في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين) رواه البخاري ومسلم.
فإذا ثبتت رؤية الهلال أو أكملت عدة شعبان ثلاثين يوماً فنصوم ويجب أن يعلم أن صوم رمضان عبادة جماعية لا يجوز لجماعة أو أحد أن ينفرد في بداية الصوم أو نهايته وإنما الصوم مع جماعة الناس فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه
(1/13)
________________________________________
وسلم قال: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح قال الإمام الترمذي: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] سنن الترمذي 3/ 80. فإذا ثبت دخول شهر رمضان فلا بد من تبييت نية الصيام كما ورد في الحديث عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة. وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 465.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن النية محلها القلب ولا علاقة للسان بها لذا فإن التلفظ بالنية بدعة مخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان السحور فقد صح في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسحروا فإن في السحور بركة) رواه البخاري ومسلم.
ومن السنَّة تأخير السحور وجعله قريباً من وقت صلاة الفجر فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة. قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) رواه البخاري ومسلم.
ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر فمن المعلوم أن الصوم ينتهي بحلول الليل كما قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} سورة البقرة الآية 187. والليل يبدأ بعد غروب الشمس مباشرة. وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) رواه البخاري ومسلم.
(1/14)
________________________________________
وكان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب فقد جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسواتٍ من ماء) رواه أبو داود وقال العلامة الألباني حسن صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/ 449.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم الإفطار على الرطب كما تقدم في حديث أنس فإن لم يتيسر الرطب - وهو ثمر النخل الناضج - أفطر على تمرات - والتمر هو ثمر النخل بعد أن يجف أو يقارب - فإن لم يتيسر التمر أفطر على الماء.
قال العلامة ابن القيم: [وكان يحض على الفطر بالتمر فإن لم يجد فعلى الماء هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به ولا سيما القوى الباصرة فإنها تقوى به وحلاوة المدينة التمر ومرباهم عليه وهو عندهم قوت وأدم، ورطبه فاكهة. فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس. فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده. ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب] زاد المعاد 2/ 50 - 51.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقول عند الفطر ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله) رواه أبو داود وغيره وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 449.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند فطره: (الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت) رواه أبو داود وابن السني وهو حديث مرسل.
(1/15)
________________________________________
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أفطر: (اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبله منا إنك أنت السميع العليم) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد) رواه ابن ماجة والحاكم وابن السني وقال البوصيري إسناده صحيح رجاله ثقات. انظر عمل اليوم والليلة لابن السني ص228.
وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة التراويح كما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة في جوف الليل، فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: أما فإنه لم يخف عليَّ مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك) رواه البخاري ومسلم.
ثم إن المسلمين قد حافظوا على صلاة التروايح في كل ليلةٍ من ليالي رمضان في جماعة واحدة في المسجد منذ عهد عمر رضي الله عنه، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون وكان الناس يقومون أوله).
(1/16)
________________________________________
وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان، فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية عند مسلم: (كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).
وكان من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في رمضان فقد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) رواه البخاري ومسلم.
ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في رمضان الجود والكرم ومدارسة القرآن الكريم، فقد صح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، وكان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري ومسلم.
وختاماً فعلى المسلم أن يصوم رمضان مخلصاً لله تعالى حتى ينال الجزاء الأوفى وهو غفران الذنوب؛ فقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه مسلم.
هذا هو الهدي النبوي في رمضان على وجه الإيجاز والاختصار فعلى الصائمين الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الفضيل بقدر الوسع والطاقة، وعليهم أن يحذروا الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس، الذين يحاولون بشتى
(1/17)
________________________________________
السبل والوسائل إفساد هذه العبادة العظيمة على الناس، ويفرغونها من مضامينها الإيمانية؛ عن طريق استغلال وسائل الإعلام بتقديم المسلسلات التي يزعمون أنها دينية وهي في معظمها لا علاقة لها بالدين إلا في الاسم. وكذلك المسابقات التي يتفننون في أسمائها وأشكالها وهدفها الحقيقي إنما هو إفساد الناس وأخلاقهم وتضييع أموالهم فيما العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر.
فعلى المسلم أن يستفيد من وقته دائماً وخاصة في شهر رمضان المبارك، فيقضي الصائم وقته في الطاعة كقراءة القرآن الكريم، والمحافظة على صلاة الجماعة، وصلاة التراويح وفعل الخيرات. كما أن في شهر رمضان فرصة طيبة للرجوع إلى الله والالتزام بشرعه، وفيه فرصة للإقلاع عن العادات القبيحة والسيئة كالتدخين.
- - -
(1/18)
________________________________________
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان؟
قوم إذا حاربوا شدوا مآزر ... عن النساء ولو باتت بأطهار

الجواب: إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر أكثر مما سبقها من رمضان فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: قوله (شدَّ مئزره) أي اعتزل النساء وبذلك جزم عبد الرزاق عن الثوري واستشهد بقول الشاعر:
وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش نحوه، وقال الخطابي يحتمل أن يريد به الجد في العبادة كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له ويحتمل أن يراد التشمير والاعتزال معاً ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة قلت: وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة المذكورة (شد مئزره واعتزل النساء) فعطفه بالواو فيتقوى الاحتمال الأول. قوله: (وأحيا ليله) أي سهره فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه لأن النوم أخو الموت وأضافه إلى الليل اتساعاً لأن القائم إذا حيي باليقظة أحيا ليله بحياته وهو نحو قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور. قوله: (وأيقظ أهله) أي للصلاة. وروى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة
(1/19)
________________________________________
(لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه) قال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أن اعتزاله النساء كان بالاعتكاف وفيه نظر لقوله فيه: (وأيقظ أهله) فإنه يشعر بأنه كان معهم في البيت فلو كان معتكفاً لكان في المسجد ولم يكن معه أحد وفيه نظر فقد تقدم حديث (اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه) وعلى تقدير أنه لم يعتكف أحد منهن فيحتمل أن يوقظهن من موضعه وأن يوقظهن عندما يدخل البيت لحاجته] فتح الباري 4/ 342.
وجاء في رواية عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجدَّ وشد المئزر). وفي رواية عند مسلم أيضاً عنها رضي الله عنها: (قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره).
قال الإمام النووي: [قولها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجدَّ وشدَّ المئزر) وفي رواية: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيره).
اختلف العلماء في معنى شد المئزر فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره ومعناه التشمير في العبادات. يقال: شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات وقولها: أحيا الليل أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها. وقولها: وأيقظ أهله أي أيقظهم للصلاة في الليل وجدَّ في العبادة زيادة على العادة] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 250.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله
(1/20)
________________________________________
عليه وسلم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة. وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر وخرَّج الطبراني من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة.
قال سفيان الثوري: أَحبُ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: (ألا تقومان فتصليان). وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة ونضح الماء في وجهه. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من وظائف 341 - 342.
وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي أن من هديه صلى الله عليه وسلم الاغتسال بين أذان المغرب والعشاء في ليالي العشر فقال: [وقد تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها: (واغتسل بين الأذانين) والمراد: أذان المغرب والعشاء. وروي من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة يعني من العشر الأواخر وفي إسناده ضعف.
وروي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من رمضان فاغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وستره حذيفه وبقيت فضلة فاغتسل بها حذيفه وستره النبي صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن أبي عاصم. وفي رواية أخرى عن حذيفه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من رمضان في حجرة من
(1/21)
________________________________________
جريد النخل فصب عليه دلواً من ماء. وقال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر. وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة. ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان. وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزاراً ورداءً فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة والتي تليها ليلتنا يعني البصريين. وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة - أنواع من الطيب - في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر. فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات كما قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقال ابن عمر: الله أحق أن يتزين له. وروي عنه مرفوعاً. ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئاً. قال الله تعالى: {يَابَنِيءَادَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}] لطائف المعارف ص 346 - 347.
ومن المعلوم أن ليلة القدر تكون في الليالي الفردية من العشر الأواخر من رمضان. فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/22)
________________________________________
قال: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) وفي رواية عند البخاري: (في الوتر من العشر الأواخر من رمضان).
قال الحافظ ابن رجب: [وأما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضاً. قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق. انتهى. ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسناً وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها. وقد قال الشعبي في ليلة القدر ليلها كنهارها. وقال الشافعي في القديم: أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر ليله ونهاره والله أعلم] لطائف المعارف ص367 - 368.
وكان السلف يجتهدون في التماس ليلة القدر إقتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن أبي شيبة بسنده أن عائشة رضي الله عنها كانت توقظ أهلها ليلة ثلاث وعشرين.
وروى أيضاً أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يرش على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين. وروى بسنده أن ابن عمر رضي الله عنه كان يوقظ أهله في العشر الأواخر وروى بسنده أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي في رمضان كصلاته سائر السنة فإذا دخلت العشر اجتهد. مصنف ابن أبي شيبة 3/ 77.
(1/23)
________________________________________
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان كما ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أنه يستحب الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان بشكل عام ويخص الليالي الفردية بمزيد لعله يوافق ليلة القدر.
- - -
(1/24)
________________________________________
أكثر شهر صامه النبي صلى الله عليه وسلم نافلة
يقول السائل: ما هو أكثر شهر كان النبي عليه الصلاة والسلام يصومه غير شهر رمضان؟
الجواب: إن أكثر شهر صامه النبي صلى الله عليه وسلم صوم نافلة هو شهر شعبان فقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) رواه البخاري ومسلم.
2. وفي رواية عن عائشة أيضاً قالت: (ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً) رواه البخاري ومسلم.
3. وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صياماً منه في شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وكان يقول أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) رواه البخاري ومسلم وهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان.
والحكمة من ذلك كما قال بعض أهل العلم إن كثيراً من الناس يغفلون عن الصيام في شعبان فكان عليه الصلاة والسلام يصوم أكثره وقد ورد ذلك معللاً في حديث أسامة قال قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر ما تصوم من شعبان قال: (ذلك شهر يغفل الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
وقيل في الحكمة من إكثار الرسول صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان أقوال أخرى. وهنا لا بد من الإشارة إلى حديثٍ قد يتعارض مع ما ذكرنا، وهو ما روي أن النبي
(1/25)
________________________________________
صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) رواه أصحاب السنن الأربعة.
فيجاب عنه من وجهين:
الأول: إن الحديث ضعيف، ضعفه أحمد وابن معين والبيهقي.
الثاني: إن صح فيحمل النهي في الحديث على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده قاله الحافظ ابن حجر.
- - -
(1/26)
________________________________________
بداية
الصوم ونهايته
(1/27)
________________________________________
رؤية الهلال والحسابات الفلكية
يقول السائل: ما قولكم في رؤية أهل بلد الهلال، فهل يلزم المسلمين في البلدان الأخرى الصوم؟
الجواب: إن هذه المسألة محل اختلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً، وكثر الحديث عنها في هذه الديار وخاصة في أعقاب ما حصل في نهاية رمضان من العام 1413هـ حيث حصلت بلبلة يبن الناس في اليوم الأخير من رمضان وفي يوم العيد أدت إلى أمور تتعارض مع شريعتنا الإسلامية.
فأقول وبالله التوفيق:
لا شك أن جمهور أهل العلم يرون أنه لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا في يوم واحد.
وأنا أقول بهذا القول وأعتقد رجحانه، ولكن هذا الرأي مع قوته ورجحانه إلا أنه رأي نظري لم يأخذ طريقه إلى التطبيق الفعلي في تاريخ المسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا تعلم فترة جرى فيها توحيد المسلمين على رؤية واحدة إلا أن يكون حصل ذلك عرضاً ودون ترتيب لذلك الأمر.
وقد يستغرب بعض الناس هذا الكلام ولكنه الواقع، لأن جمع المسلمين على رؤية واحدة عند الصيام أو عند الأعياد، يحتاج إلى وسائل إتصالات حديثة وسريعة حتى يصل الخبر خلال ساعات إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ليصوموا في نفس اليوم. وهل هذا الأمر كان متوفراً للمسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده! ونحن نعلم أن وسائل الاتصال الحديثة قريبة العهد، ولنضرب مثلاً يقرب الصورة ففي عهد الخلافة الراشدة كان مقر الخليفة في المدينة المنورة وكانت دولة الخلافة مترامية الأطراف فهل كان إذا ثبت رؤية هلال رمضان لدى
(1/29)
________________________________________
الخليفة في المدينة المنورة تطير البرقيات وتشتغل الهواتف لإخبار المسلمين في اليمن وفي مصر والشام وفي العراق ليصوموا في يوم واحد؟ كل ذلك ما حصل وما وقع.
ومن قال بخلاف هذا فقد أخطأ.
ولا شك أنني آمل أن يتحقق جمع المسلمين على رؤية واحدة وأن هذا الأمر لسهل ميسور في هذا الزمان في ظل دولة إسلامية واحدة ومع تقدم وسائل الاتصال ولكن إلى أن يتحقق هذا الأمل، أقول: بأنه يجب على أهل كل بلد من بلدان المسلمين أن يصوموا في يوم واحد وأن يكون عيدهم في يوم واحد. فنحن أهل فلسطين علينا أن نصوم جميعاً في يوم واحد وأن يكون عيدنا واحداً لأن في هذا الأمر محافظة على وحدتنا الجزئية إلى أن تتحقق وحدة العالم الإسلامي الكلية، فلا يقبل أن يختلف أهل البلدة الواحدة أو المدينة الواحدة أو القرية الواحدة، فبعضهم صائم وبعضهم يصلي العيد.
وضابط هذا الأمر هو الالتزام بما يصدر عن أهل العلم في ذلك البلد وهم القضاة في المحاكم الشرعية وطاعتهم في ذلك طاعة في المعروف وإن كان هذا مخالفاً لرؤية أهل بلد آخر، لأن الأصل في الصوم أن يكون مع جماعة المسلمين وعامتهم لما ثبت في الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وهو حديث صحيح.
قال الإمام الترمذي رحمه الله: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس وعلى المسلمين في هذه الديار أن يعلموا أنه يسعهم ما وسع المسلمين في السابق، بل أيام قيام دولة الإسلام، فما كانوا يصومون في يوم واحد وما كان عيدهم في يوم واحد لما ذكرته سابقاً، وأنقل كلام بعض أهل العلم في ذلك:
(1/30)
________________________________________
قال الإمام تقي الدين السبكي رحمه الله، في كتابه "العلم المنشور في إثبات الشهور" ص15 ما نصه: [ ... لأن عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين لم ينقل أنهم كانوا إذا رأوا الهلال يكتبون إلى الآفاق ولو كان لازماً لهم لكتبوا إليهم لعنايتهم بأمور الدين].
وقال العلامة ناصر الدين الألباني: [ ... وإلى أن تجتمع الأمة الإسلامية على ذلك -توحيد الصوم والعيد- فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته ولا ينقسم على نفسه فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها، تقدمت في صيامها أو تأخرت. لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد] تمام المنه في التعليق على فقه السنة، ص 398.
ويقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: [إن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم وسائر شعائرهم وشرائعهم أمر مطلوب دائماً ولا ينبغي اليأس من الوصول إليه، ولا من إزالة العوائق دونه، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال هو: أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد، فلا يجوز أن نقبل بأن ينقسم أبناء البلد الواحد أو المدينة الواحدة فيصوم فريق اليوم على أنه من رمضان ويفطر آخرون على أنه من شعبان وفي آخر الشهر تصوم جماعة وتعيّد أخرى فهذا وضع غير مقبول].
فمن المتفق عليه أن حكم الحاكم أو قرار ولي الأمر يرفع الخلاف في الأمور المختلف فيها فإذا أصدرت السلطة الشرعية المسؤولة عن إثبات الهلال في بلد إسلامي -المحكمة العليا أو دار الإفتاء أو رئاسة الشؤون الدينية- قراراً بالصوم أو الإفطار فعلى مسلمي ذلك البلد الطاعة والالتزام.
(1/31)
________________________________________
لأنها طاعة في المعروف وإن كان ذلك مخالفاً لما ثبت في بلد آخر، فإن حكم الحاكم هنا رجح الرأي الذي يقول: إن لكل بلد رؤيته. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون) وفي لفظ (وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون) فتاوى معاصرة ج 2 ص223.
- - -

الاختلاف في بداية الصيام
يقول السائل: ما قولكم فيمن ابتدأ صيام رمضان هذا العام يوم الأربعاء إتباعاً لما أعلن في اليمن من ثبوت رؤية الهلال مساء الثلاثاء؟
الجواب: إن قضية بداية شهر الصوم ونهايته تشكل مثاراً للنزاع والاختلاف في كل عام تقريباً والمسألة محل اختلاف بين أهل العلم منذ عهد بعيد فمن العلماء من يرى أن لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد والرأي الآخر في المسألة وهو أن لكل بلد رؤيتهم قال به جماعة من أهل العلم والمسألة مسألة اجتهادية محتملة واستدل كل فريق بأدلة من الكتاب والسنة والقياس ولم يكن لهذا الاختلاف بينهم أثر سيء على الأمة تخشى عاقبته، لحسن قصدهم واحترام كل مجتهد منهم اجتهاد الآخر.
وإن كنت أعتقد رجحان القول الأول بعد النظر في أدلته ولكن هذا القول وهو عدم اعتبار اختلاف المطالع رأي نظري لم يجد طريقه إلى التطبيق العملي في تاريخ المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر لعدم توفر وسائل الاتصال التي تربط أنحاء الدولة الإسلامية بعضها مع بعض ومعلوم أن وسائل الاتصال حديثة العهد.
(1/32)
________________________________________
إذا تقرر هذا فأقول إن الأمل كبير أن تتوحد الأمة الإسلامية تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله وأن تلتزم بشرع الله كاملاً.
ومن ضمن ذلك بداية الصوم ونهايته ولكن إلى أن يتحقق هذا الأمل المنشود أرى أن على مسلمي كل بلد أن يلتزموا بالصوم جميعا بناءً على ما تعلنه الجهة المخولة في كل بلد كالقضاء الشرعي أو الإفتاء أو المراكز الإسلامية.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحّون) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح.
قال الإمام الترمذي: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس].
إن المحافظة على وحدة المسلمين الجزئية في البلد الواحد مطلوبة ويجب العمل لها إلى أن تتحقق وحدة المسلمين الكلية أقول هذا ونحن قد وجدنا تمزق هذه الوحدة في البلد الواحد بل في الأسرة الواحدة فبعض الناس صام يوم الأربعاء والأكثر صاموا يوم الخميس وقلة صامت يوم الجمعة فهل هذا مقبول في شرع الله أن تكون بداية رمضان في ثلاثة أيام وماذا سنصنع في العيد، هل سيكون عيد الفطر ثلاثة أعياد وهل ستقام صلاة العيد على مدى ثلاثة أيام؟
ويزعم الذين صاموا يوم الأربعاء أن رأيهم هو الصواب لأنهم أخذوا بالحديث النبوي: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) متفق عليه، وعلى الناس أن يتبعوا ذلك.
ولكن أقول لهم ما هي نتيجة صومكم يوم الأربعاء اتباعاً لليمن؟ النتيجة هي تفرق الأسرة الواحدة في الصيام وتفرق البلدة الواحدة!! ثم هل تتحقق وحدة المسلمين إن صاموا في يوم واحد وأفطروا في يوم واحد مع هذا التمزق السياسي الموجود!!؟
(1/33)
________________________________________
إن الحديث عن وحدة المسلمين في الصيام وفي العبادة في ظل الواقع السياسي الممزق للأمة الإسلامية، ما هو إلا ترف فكري وقصور في الهمة وتعامي عن مواجهة الحقيقة والواقع، فلو فرضنا جدلاً أن جميع دول مسلمي اليوم صامت في يوم واحد فهل توحدت الأمة؟ الجواب بالتأكيد لا.
إن وحدة الأمة الإسلامية أعمق من وحدتهم في الصيام والعيد وإن وحدة المسلمين الحقيقية تكون بتحكيم شرع الله تعالى في جميع شؤونهم!
إن الذين صاموا يوم الأربعاء لم يتعلموا الدرس مما حصل في رمضان سنة 1413هـ عندما اختلف المسلمون في نهاية رمضان ولم يستخلصوا العبر مما حدث حينذاك.
السؤال الآن ما هو المخرج من هذا الخلاف والنزاع في بداية رمضان ونهايته، فالذين يقولون نصوم مع أول بلد يعلن الصوم، ليس لديهم السلطان ليلتزم الناس بقولهم فالخلاف سيستمر ولن ينقطع.
واعتقد أنه يسع المسلمين اليوم ما وسع المسلمين خلال تاريخهم الطويل وحين كانت لهم دولة واحدة فما كانوا يصومون في يوم واحد وما كان عيدهم واحداً.
وبناءً على ما تقدم أرى أن الحل الصحيح لهذه القضية هو الالتزام بما تعلنه الجهة المخولة في كل بلد كالقاضي الشرعي أو دار الإفتاء فيصوم أهل القطر الواحد جمعياً ويفطرون جميعاً وإذا أطعنا هؤلاء القضاة والمفتين في هذا الأمر فإنما نطيعهم في المعروف بغض النظر عمن عينهم فحكم الحاكم الشرعي في مثل هذه المسألة يقطع النزاع ويرفع الخلاف.
ومعلوم أن جميع المسلمين في هذه البلاد يرجعون إلى القضاء الشرعي في قضاياهم المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وغيرها فيقبلون قولهم فلم لا يقبلون قولهم في هذه المسألة؟
(1/34)
________________________________________
كما وإني لأستغرب لم لا تثار هذه القضية عند بداية شهر ذي الحجة الذي ترتبط به فريضة الحج!! ولا فرق بين هلال رمضان وبين هلال ذي الحجة!! ولماذا يقبل جميع المسلمين ما يقرره مجلس القضاء الأعلى في السعودية؟!! ولا نسمع أحداً من الناس يدَّعي خلاف ذلك فيقف في عرفات حسب رؤيته!!
كما وأود أن أبين أنه ينبغي الاستئناس بما يقرره علم الفلك وإن كان الأصل هو رؤية العين المجردة ولكن أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة لا تمنع أن نستعين بعلم الفلك وخاصة أنه علم متقدم ومتطور وعلم الفلك ليس مجرد حسابات وإنما هو رؤية ولكن بالمراصد والآلات فلا مانع شرعاً من الاستفادة من التقدم العلمي في هذا المجال وبالذات في حالة النفي أي إذا نفى علم الفلك احتمال رؤية الهلال بشكل قطعي فينبغى حينئذ عدم قبول ادعاء الرؤية وهذا هو ما حصل في هذا العام فإن علم الفلك نفى احتمال رؤية الهلال مساء الثلاثاء وأن الهلال لم يكن قد تولد لذا فإني أعتقد أن إعلان اليمن عن ثبوت الرؤية ما هو إلا قرار سياسي ولم يكن القرار بناءً على رؤية حقيقية للهلال لاستحالة ذلك كلياً، وأعتقد أن بداية الصوم الصحيحة كانت يوم الخميس.
وأخيراً أقول إن على المنادين بوحدة المسلمين في الصوم أن يكفوا عن هذه الدعوى لما فيها من تفريق للمسلمين في البلد الواحد، وأن يسعوا سعياً حقيقياً إلى الوحدة الحقيقية للمسلمين، لا مجرد كلامٍ وتنظيرٍ فلسفي، وعليهم أن يتركوا قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في دول مسلمي اليوم وإن الذي يكفل وحدة المسلمين الحقيقية هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونهم وليس مجرد اتفاقهم على الصيام والعيد في يوم واحد.
- - -
(1/35)
________________________________________
تفرق الناس في نهاية الصيام
يقول السائل: ما قولكم فيما حدث يوم الثلاثين من رمضان هذا العام حيث إن بعض الناس قلدوا ما أعلن في بعض مناطق العراق أن عيد الفطر يوم الاثنين 24/ 11/2003 فعيَّدوا في ذلك اليوم وخالفوا ما عليه أكثر المسلمين في العالم حيث إن العيد كان يوم الثلاثاء 25/ 11/2003 مما أحدث بلبلة بين عامة الناس أفيدونا.
الجواب: إن مما يؤسف له تكرر هذه المشكلة في بلادنا على يد فئة تشذ وتخالف جماعة الناس بزعم أنهم يتبنون وحدة المطالع فيصومون مع أول من يعلن الصيام ويفطرون مع أول من يعلن الفطر والغريب في الأمر أنه هؤلاء يتبنون هذا الحكم في الصيام فقط ولا يتبنون في بقية أحكام الصوم؟! ثم هؤلاء الذين عيدوا يوم الاثنين لم يصلوا العيد في ذلك اليوم بل صلوا العيد يوم الثلاثاء. إن هذا لشيء عجاب فصلاة العيد مشروعة يوم العيد فكيف يصلونها في اليوم التالي للعيد على رأيهم الأعرج!!! ومن المعلوم أن قضية بداية شهر الصوم ونهايته تشكل مثاراً للنزاع والاختلاف في كل عام تقريباً والمسألة محل اختلاف بين أهل العلم منذ عهد بعيد فمن العلماء من يرى أن لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد والرأي الآخر في المسألة وهو أن لكل بلد رؤيتهم قال به جماعة من أهل العلم والمسألة مسألة اجتهادية محتملة واستدل كل فريق بأدلة من الكتاب والسنة والقياس. وإن كنت أعتقد رجحان القول الأول بعد النظر في أدلته ولكن هذا القول وهو عدم اعتبار اختلاف المطالع رأي نظري لم يجد طريقه إلى التطبيق العملي في تاريخ المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا الحاضر لعدم توفر وسائل الاتصال التي تربط أنحاء الدولة الإسلامية بعضها مع بعض ومعلوم أن وسائل الاتصال حديثة العهد. كما وأود أن أبين أنه ينبغي الاستئناس بما يقرره علم الفلك وإن كان الأصل هو رؤية العين المجردة ولكن أصول الشريعة الإسلامية
(1/36)
________________________________________
وقواعدها العامة لا تمنع أن نستعين بعلم الفلك وخاصة أنه علم متقدم ومتطور وعلم الفلك ليس مجرد حسابات وإنما هو رؤية ولكن بالمراصد والآلات فلا مانع شرعاً من الاستفادة من التقدم العلمي في هذا المجال وبالذات في حالة النفي أي إذا نفى علم الفلك احتمال رؤية الهلال بشكل قطعي فينبغي حينئذ عدم قبول ادعاء الرؤية وهذا هو ما حصل في هذا العام فإن علم الفلك نفى احتمال رؤية الهلال مساء الأحد 23/ 11/2003 وأن الهلال لم يكن قد تولد لذا فإني أعتقد أن إعلان بعض العراقيين عن ثبوت رؤية الهلال إعلان باطل ولم يكن القرار بناءً على رؤية حقيقية للهلال لاستحالة ذلك كلياً كما قرر ذلك علماء الفلك وبعض الفقهاء فقد أعلن معهد البحوث الفلكية بحلوان أن يوم الثلاثاء 25/ 11/2003 هو أول أيام عيد الفطر المبارك في مصر فلكيًا. وقال الدكتور محمد سليمان رئيس قسم الفلك والشمس بالمعهد: إن الحسابات الفلكية تؤيد أن ميلاد هلال شهر شوال في جميع البلاد العربية والإسلامية لن يُرى قبل غروب يوم الاثنين الموافق 24/ 11/2003، وعليه فإن يوم الاثنين سيكون المتمم لشهر رمضان لعام 1424 هـ ويكون يوم الثلاثاء الموافق 25/ 11/2003 هو أول أيام عيد الفطر المبارك". وأعلن كل من المجلس الإسلامي للأهلة التابع للمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا والمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء استحالة رؤية هلال شهر شوال لعام 1424 هجرياً مساء الأحد الموافق 23/ 11/2003، وعليه فإن يوم الثلاثاء الموافق 25/ 11/2003 هو أول أيام شهر شوال، وأول أيام عيد الفطر المبارك. وجاء في بيان صادر عن المجلس الإسلامي للأهلة الجمعة 21/ 11/2003: إن هلال شهر شوال سيولد في الساعة 23 ودقيقة واحدة يوم الأحد بتوقيت جرينتش الموافق للساعة الثانية ودقيقة واحدة من صباح الاثنين 24/ 11/2003 بتوقيت مكة المكرمة. وأضاف البيان أن هلال شوال سيولد بعد 6 ساعات من غروب شمس يوم الأحد؛ الأمر الذي يعني استحالة رؤية الهلال مساء ذلك اليوم. وأوضح الدكتور محمد الهواري رئيس
(1/37)
________________________________________
المجلس الأعلى للأهلة في اتصال هاتفي مع "إسلام أون لاين. نت" الجمعة 21/ 11/2003 أن الهلال سيمكث في السماء لمدة 28 دقيقة بعد غروب يوم الاثنين 24/ 11/2003، ويمكن رؤيته بوضوح في معظم الدول العربية والأوربية. وأشار الهواري إلى أنه بناء على ما تقدم فإن يوم الثلاثاء الموافق 25/ 11/2003 أول أيام شهر شوال 1424هـ وأول أيام عيد الفطر المبارك. إسلام أون لاين. نت
وقال الشيخ عبد الله المنيع عضو هيئة كبار العلماء في السعودية: [يولد هلال شهر شوال عام 1424هـ يوم الاثنين الموافق 30/ 9/1424هـ الساعة الثانية صباحاً، أي بعد غروب شمس يوم الأحد الموافق 29/ 9/1424هـ بما يزيد عن سبع ساعات، ويمكث الهلال بعد غروب شمس يوم الاثنين ثماني وعشرين دقيقة وذلك بتوقيت مكة المكرمة، وعليه فيكون يوم عيد الفطر يوم الثلاثاء الموافق 25 نوفمبر 2003م، وهو أول يوم من شهر شوال سنة 1424هـ. وعليه فإذا ثبت دخول شهر رمضان يوم الأحد 26/ 10/2003 م حسب الرؤية الشرعية المتفقة مع الحساب الفلكي فإن يوم الاثنين 24 نوفمبر الموافق 30/ 9/1424هـ هو آخر يوم من أيام رمضان، ولا حاجة لترائي هلال شهر شوال مساء الاثنين، لكونه تمام الثلاثين يوماً لشهر رمضان ونظراً إلى أن ولادة هلال شهر شوال هو الساعة الثانية من صباح يوم الاثنين 30/ 9/1424هـ، فلا يصح فلكياً ترائي الهلال مساء الأحد 29/ 9/1424هـ بعد غروب شمس ذلك اليوم؛ لكون الهلال ولد بعد غروب شمس يوم الأحد بما يزيد عن سبع ساعات وأي دعوى رؤية للهلال مساءً هذا اليوم يوم الأحد 29/ 9/1424هـ فهي شهادة غير صحيحة؛ لعدم انفكاكها عما يكذبها، ويجب ردها مهما كانت عدالة أو عدداً]. ونقل القليوبي من فقهاء الشافعية عن العبادي قوله [إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يقبل قول العدول برؤيته، وترد شهادتهم.
(1/38)
________________________________________
ثم قال القليوبي: هذا ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذ، وإن مخالفة ذلك معاندة ومكابرة].
إذا تقرر هذا فإن ما قام به هؤلاء الذين عيدوا يوم الاثنين إنما هو عمل باطل ويلزمهم قضاء يوم بدل اليوم الذي أفطروه حيث إنهم أفطروا يوماً من رمضان وإفطارهم لم يكن مستنداً على دليل صحيح بل قلدوا أناساً خالفوا المحسوس وأبلغ دليل على ذلك أن من أهل العراق السنة قد وافقوا أكثر المسلمين في أن العيد هذا العام هو يوم الثلاثاء ولم تثبت لديهم رؤية هلال شوال مساء الأحد كما زعم غيرهم. وينبغي التنبيه أن ما فعله هؤلاء يؤكد ما أقوله دائماً أن الصوم والفطر ليس عملاً فردياً يقوم به فرد أو أفراد لوحدهم بل الصيام والعيد عبادة جماعية تتم مع الجماعة فلا يصح أن يصوم أحد رمضان لوحده وكذلك لا يصح أن يعيد فرد لوحده وهذا هو المفهوم المستمد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وهو حديث صحيح كما قاله العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/ 213.قال الإمام الترمذي رحمه الله: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس].
- - -
(1/39)
________________________________________
حكم من بدأ الصيام في غير بلده
يقول السائل: إنه كان في العمرة لما أعلن عن بدء الصيام في بلادنا يوم الأحد وصام يوم الاثنين مع أهل مكة المكرمة حيث بدأ الصوم في تلك البلاد يوم الاثنين ثم رجع إلى القدس فماذا يعمل بالنسبة لليوم الذي فاته صيامه؟
الجواب: إن حكم الصوم والفطر مرتبط مع أهل البلاد التي يوجد فيها الشخص لأن صيام رمضان يكون مع جماعة الناس ولا يصوم الإنسان رمضان لوحده فحكم صوم الفرد هو حكم صوم أهل البلد الذي وجد فيه فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وقال العلامة الألباني: حديث صحيح، انظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 4/ 11.
وقال الإمام الترمذي بعد أن ذكر الحديث [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 3/ 312.
وبناء على ذلك فعلى هذا الشخص أن يتم صيام رمضان مع أهل بلده ويلتزم بالعيد معهم فإذا كان رمضان هذا العام ثلاثين يوماً وهو قد صام تسعة وعشرين يوماً فلا يلزمه قضاء يوم. وأما إذا جاء رمضان تسعة وعشرين يوماً ويكون قد صام ثمانية وعشرين يوماً فيلزمه قضاء يوم. لأن الشهر الهجري لا يكون أقل من تسعة وعشرين يوماً لما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه إلا أن يغم عليكم فإن غم عليكم فاقدروا له) رواه مسلم.
وهكذا يقال في حق من ابتدأ الصيام في بلادنا حيث صمنا الأحد ثم سافر في آخر الشهر مثلاً إلى مكة المكرمة فإنه ملزم بالفطر مع أهل مكة فإذا ثبتت رؤية الهلال في
(1/40)
________________________________________
تلك الديار فهذا الشخص ملزم بأن يفطر مع أهل مكة ويصلي العيد معهم فإن كان مجموع ما صامه أقل من تسعة وعشرين يوماً فهو ملزم بقضاء صوم يوم.
- - -

بداية يوم الصوم ونهايته
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض طلبة العلم الشرعي في رمضان حيث إنهم يستمرون في الأكل والشرب إلى ما بعد أذان الفجر الثاني ويزعمون أنهم بهذا يتحققون من طلوع الفجر الصادق ويفطرون قبل أذان المغرب بعدة دقائق لأن الشمس قد غابت بزعمهم؟
الجواب: يقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} سورة البقرة الآية 187. فهذه الآية الكريمة قد حددت بداية الصوم ونهايته وقد ذكر الإمام القرطبي قولين لأهل العلم في تفسير بداية الصوم فقال: [واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك]، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا) وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضاً.
وفي حديث ابن مسعود: (إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ولكن الذي يقول هكذا ووضع المسبحة ومد يديه) وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام) هذا مرسل.
(1/41)
________________________________________
وقالت طائفة ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت روى ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش بن سليمان وغيرهم أن الإمساك بحيث يتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال وقال مسروق لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت وروى النسائي عن عاصم عن زر قال، قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال: (كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر) قال الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي، وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة.
قال الطبري: [والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار والنهار عندهم من طلوع الشمس وآخره غروبها وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك وقوله: (أياماً معدودات).
وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له) تفرد به عبد الله بن عبادة عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد وكلهم ثقات وروى عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء وروى عن حفصة مرفوعاً من قولها ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر] تفسير القرطبي 2/ 318 - 319.
وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي قول جمهور أهل العلم، ثم ذكر قول مسروق والأعمش أن الفجر هو الذي يملأ البيوت والطرق، ثم قال الشيخ ابن قدامة مستدلاً لقول الجمهور: [ولنا قول الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
(1/42)
________________________________________
الْفَجْرِ} يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين] المغني 3/ 105.
وقال الإمام النووي: [هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار قال وبه نقول، قال روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال حين صلى الفجر الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود قال وروي عن حذيفة أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى قال وروي معناه عن ابن مسعود وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق قال وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن على الآخرين قال إسحاق ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي قاله هؤلاء هذا كلام ابن المنذر، وحكى أصحابنا عن الأعمش وإسحاق بن راهويه إنهما جوزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس ولا أظنه يصح عنهما] المجموع 6/ 305.
ثم استدل الإمام النووي لقول الجمهور بالأحاديث التالية:
حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قلت يا رسول الله: إني أجعل تحت وسادتي عقالين عقالاً أبيض وعقالاً أسود أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار) رواه البخاري ومسلم.
(1/43)
________________________________________
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: (أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى من الفجر فعلموا أنه يعني به الليل من النهار) رواه البخاري ومسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير) رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم وليس أن يقول الفجر أو الصبح وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا وقال بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدّ هما عن يمينه وشماله) رواه البخاري ومسلم. انظر المجموع 6/ 305 - 306.
وبعد هذا البيان والاستدلال أوضح الأمور التالية:
أولاً: يجب أن يعلم أن الصوم والفطر يكون مع عامة المسلمين لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وقال: [هذا حديث غريب حسن وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] وقال العلامة الألباني: حديث صحيح كما في صحيح سنن الترمذي 1/ 213.
فلا ينبغي لفرد أو لجماعة أن تنفرد عن جمهور المسلمين فيجعلون لأنفسهم وقتاً خاصاً يبدأون به الصوم ووقتاً خاصاً يفطرون فيه ويخالفون عامة الناس لأن هذا شذوذ منبوذ.
ثانياً: إن الذين يسكنون اليوم في المدن والقرى الكبيرة لا يمكنهم أن يتحققوا من طلوع الفجر الصادق أو غروب الشمس المؤكد لعوامل كثيرة منها: عدم معرفة كثير من
(1/44)
________________________________________
الناس بالتمييز بين الفجر الصادق والكاذب فإن عرف بعضهم ذلك صعب عليه بسبب الأضواء الكهربائية المنتشرة في المدن والقرى ولا يصح أن يقاس حال هؤلاء على سكان الصحارى والمدن في العهد النبوي وما بعده من عهود الصحابة والتابعين لأن ذلك قياس مع الفارق. لذا فإن الاعتماد على التوقيت المعتبر والمعتمد على الدراسات والحسابات الفلكية وآلات الرصد ونحوها اعتماد صحيح.
وأما الزعم بأن أحكام الصوم متعلقة بالرؤية البصرية "العين البشرية" ولا ينبغي التكلف والتنطع ورصد الهلال ومراقبة الفجر بالآلات الفلكية الحديثة كما ورد في كتيب صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم ص 41 - 42.
فهذا القول مردود جملة وتفصيلاً فالاستعانة بعلم الفلك والأجهزة والآلات الحديثة لا مانع منه شرعاً وهذه الوسائل الحديثة تعين الإنسان في ضبط هذه الأمور ويجب أن يعلم أن هنالك فرقاً شاسعاً بين علم الفلك والتنجيم حيث إن بعض الناس يظنهما شيئاً واحداً وهما مختلفان فالفلك علم معروف وله قواعد وأسس والآخر دجل وباطل.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله في جواب سؤال مضمونه أن بعض المسلمين الملتزمين لا يصومون حتى يروا الهلال بالعين المجردة ولا يفطرون حتى يروه بالعين المجردة ولا يعترفون بالرؤية بالأجهزة الحديثة ويخالفون الناس في صلاة العيد في وقتها ... الخ.
فأجابت اللجنة بقولها: [يجب عليهم أن يصوموا مع الناس ويفطروا مع الناس ويصلوا العيدين مع المسلمين في بلادهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة) متفق عليه والمراد بالأمر بالصوم والفطر إذا ثبتت الرؤية بالعين المجردة أو بالوسائل التي تعين العين على الرؤية لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)] فتاوى اللجنة الدائمة 10/ 95.
(1/45)
________________________________________
ثالثاً: إن إفطار هؤلاء قبل أذان المغرب وزعمهم أن الشمس قد غابت قبل أذان المغرب بعدة دقائق أقول إن هذا خطأ واضح فقد ورد في الحديث عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) رواه البخاري ومسلم.
والمراد بالحديث أنه لا بد من إقبال الليل وليس مجرد مغيب الشمس عن أعين الناس بل لا بد أن تغرب الشمس حقيقة وأما قول بعضهم إن الإفطار يتحقق بعد غروب الشمس مباشرة وإن كان ضوؤها ظاهراً. صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم ص 40. أقول هذا كلام ينقض آخره أوله فكيف يغيب قرص الشمس ويبقى ضوؤها ظاهراً فإذا كان شخص يمشي في واد وغاب عنه قرص الشمس فلا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق من غروب الشمس.
قال الإمام النووي: [قال العلماء إنما ذكر غروب الشمس وإقبال الليل وإدبار النهار ليبين أن غروبها عن العيون لا يكفي لأنها قد تغيب في بعض الأماكن عن العيون ولا تكون قد غربت حقيقة فلا بد من إقبال الليل وإدبار النهار] المجموع 6/ 303. وقال الإمام النووي أيضاً: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس) قال العلماء كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين ويلازمهما وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في واد ونحوه بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء] شرح النووي على صحيح مسلم 7/ 209.
وقال الحافظ ابن حجر: [وذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقبال حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار وأنهما بواسطة غروب الشمس لا سبب آخر] فتح الباري 5/ 99.
(1/46)
________________________________________
وخلاصة الأمر يجب على هؤلاء وأمثالهم أن يصوموا ويفطروا مع الناس وألا يشذوا فإن الشذوذ شر عظيم.
- - -

حكم الأكل أو الشرب أثناء أذان الفجر
يقول السائل: إنه سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) فهل هذا الحديث يجيز للصائم أن يستمر في الأكل والشرب أثناء أذان الفجر. أفيدونا.
الجواب: من المعلوم أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر الصادق وهو وقت أذان الفجر للصلاة.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} سورة البقرة الآية 187. فإذا طلع الفجر الصادق فحينئذ يحرم الطعام والشراب على الصائم. ومن المعروف أنه يؤذن للفجر بأذانين فالأذان الأول لا يدخل به وقت صلاة الفجر ويجوز لمن أراد الصيام أن يأكل ويشرب وأما الأذان الثاني فبه يدخل وقت صلاة الفجر وعنده يحرم الأكل والشرب على الصائم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت) رواه البخاري ومسلم.
وبناءً على ما تقدم فبمجرد أن يؤذن لصلاة الفجر فلا يجوز الأكل ولا الشرب لأن وقت الصيام قد بدأ هذا إذا كان المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر الصادق وبما أن المؤذنين في بلادنا يعتمدون على التوقيت المعروف وهو توقيت صحيح أعدته لجنة من
(1/47)
________________________________________
أهل العلم الشرعي ومن مختصين في علم الفلك وممن لديهم خبرة ومعرفة في التوقيت فيجب الالتزام به.
قال العلامة ابن القيم: [وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر، وهو قول الأئمة الأربعة، وعامة فقهاء الأمصار، وروي معناه عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 6/ 341.
وأما الحديث المذكور في السؤال فقد رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث حسن وقد فصَّل الكلام على سنده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 1394.
وأما المراد بالحديث فقد قال الإمام البيهقي: [وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن المنادي كان ينادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر] السنن الكبرى 4/ 218.
وقال الإمام النووي: [ذكرنا أن من طلع الفجر وفى فيه – فمه - طعام فليلفظه ويتم صومه فان ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه وهذا لا خلاف فيه ودليله حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) رواه البخاري ومسلم. وفى الصحيح أحاديث بمعناه وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه "وفى رواية" وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر) فروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الأولى وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ورواهما البيهقى ثم قال: وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر قال وقوله إذا بزغ يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة أو يكون خبراً عن الأذان الثاني ويكون قول النبي
(1/48)
________________________________________
صلى الله عليه وسلم: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده) خبراً عن النداء الأول ليكون موافقاً لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قال وعلى هذا تتفق الأخبار وبالله التوفيق والله أعلم] المجموع 6/ 311 - 312.
وحمل جماعة من العلماء هذا الحديث على حال من شك في طلوع الفجر، أما إذا تأكد من طلوع الفجر فليس له أن يأكل أو يشرب فإن فعل بعد التأكد من طلوع الفجر فقد بطل صومه ويلزمه القضاء.
وقال العلامة علي القاري: [قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يقضي حاجته منه) هذا إذا علم أو ظن عدم الطلوع. وقال ابن الملك: هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح أما إذا علم أنه قد طلع أو شك فيه فلا] مرقاة المفاتيح 4/ 483.
وخلاصة الأمر أن الحديث وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث حسن، ولكن الحديث لا يجيز للصائم أن يستمر في الأكل والشرب خلال أذان الفجر إذا تأكد من طلوع الفجر الصادق. والواجب على الصائم أن يمتنع عن الأكل والشرب بمجرد سماع أذان الفجر.
- - -

الإمساك قبل طلوع الفجر
يقول السائل: ما قولكم فيما يسمى بموعد الإمساك المطبوع في الكثير من التقاويم (الإمساكيات) وعادة ما يكون قبل أذان الفجر بربع أو ثلث ساعة فهل يحرم على المسلم أن يأكل في هذا الوقت؟
الجواب: إن الإمساك قبل أذان الفجر والمتعارف عليه لدى كثير من الناس حيث أنهم يمتنعون عن الطعام والشراب إذا حان موعد الإمساك ويعتبرون أن وقت الصوم قد بدأ، إن هذا الإمساك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ولا دليل على جوازه من
(1/49)
________________________________________
الكتاب أو السنة وفيه نوع من الغلو والتشدد الذي نهى عنه الشرع إذا التزم به المسلم.
والأصل أن وقت الصيام يبدأ بطلوع الفجر الصادق وهو موعد أذان الفجر يقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وبناءً على ذلك يجوز للمسلم أن يستمر في الأكل والشرب إلى أن يؤذن لصلاة الفجر ولا يحرم عليه الطعام أو الشراب إلا إذا دخل وقت صلاة الفجر.
وهذا الإمساك المبتدع يتعارض مع ما ورد في السنة النبوية من تأخير السحور فقد ورد في ذلك أحاديث منها:
1. ما رواه الإمام البخاري قال: [باب تعجيل السحور ثم ساق بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي صلاة الفجر -].
وقال الحافظ ابن حجر قوله باب تعجيل السحور أي الإسراع بالأكل إشارة إلى أن السحور كان يقع قرب طلوع الفجر. وقد ورد في بعض نسخ صحيح البخاري في ترجمة الباب قوله: باب تأخير السحور.
2. روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه: كنا ننصرف من صلاة الليل فنستعجل بالطعام مخافة الفجر.
3. وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل فطرنا وأن نأخر سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) رواه الطبراني والأوسط ورجاله رجال الصحيح. قاله الهيثمي.
- - -
(1/50)
________________________________________
مسائل
في
النيَّة
(1/51)
________________________________________
النية في الصيام
يقول السائل: كيف تكون النية في الصيام، وما الحكم لو نوى الصائم أثناء النهار قطع الصوم ولكنه لم يفعل ما يفطره فعلاً؟
الجواب: النية فرض من فرائض العبادة، سواء أكانت العبادة صلاةً أو صياماً أو حجاً أو غيرها، وقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى) رواه البخاري وغيره. والصوم لا بد فيه من نية، فلا يصح الصوم بدون نية، سواء أكان الصوم فرضاً أو نفلاً أو قضاءً، وإن اختلف أهل العلم في وقت النية في أنواع الصيام المذكورة، وبالنسبة لصوم رمضان، فالراجح من أقوال أهل العلم أنه لا بد من تبييت النية، أي لابد أن ينوي المسلم الصيام قبل طلوع الفجر، ويدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أخته حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صوم له) رواه أبو داود وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني، انظر إرواء الغليل 4/ 25.
ومعنى (يجمع) في الحديث أي يعزم، أي لا بد لمن أراد الصوم أن يعزم على الصيام خلال الليل، ويكون ذلك من وقت المغرب إلى طلوع الفجر، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا القول المرجح: [إنه أوسط أقوال أهل العلم في المسألة]، انظر مجموع الفتاوى 25/ 120.
وكما قلت فإن المقصود من النية العزم على الصوم، وليس المراد أن يتلفظ بالنية، كأن يقول بلسانه:"نويت أن أصوم يوم غدٍ من شهر رمضان" أو نحو ذلك من العبارات فإن التلفظ بالنية بدعة لا أصل له في الشرع، لأن النية من عمل القلب وليست من عمل اللسان، وقد اتفق معظم العلماء على أن محل النية القلب والتلفظ بها بدعة لأن
(1/53)
________________________________________
ذلك لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه علّم أصحابه التلفظ بالنية، ولا أمر به أحداً منهم فلو كان ذلك مشروعاً لبينه عليه الصلاة والسلام إما بالقول أو بالفعل أو بهما وكل ذلك لم يكن.
وينبغي أن يعلم أن كل يوم من أيام رمضان يحتاج إلى نية مستقلة، على الراجح من أقوال أهل العلم لأن كل يوم من أيام رمضان عبادة مستقلة، وهذا بخلاف قول الإمام مالك أنه تجزئ نية واحدة لجميع شهر رمضان.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي مستدلاً للقول الراجح: [ولنا أنه صومٌ واجبٌ، فوجب أن ينوي كل يومٍ من ليلته كالقضاء، ولأن هذه الأيام عباداتٌ لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها ... ] المغني 4/ 111.
وأما مسألة لو نوى الصائم في نهار رمضان قطع الصيام ولم يأكل ولم يشرب ولم يأت شهوته، فإن المسألة خلافية بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن من نوى الإفطار فقد أفطر وإن لم يأكل ولم يشرب، لأن الصوم عبادةٌ من شرطها النية، فيفسد الصوم بنية الخروج منه.
ومن أهل العلم من يرى أن من نوى الفطر لا يفطر، لأنه لم يفعل ما يوجب الفطر، وهذا القول هو الذي أختاره وأرجحه، وهو قول الحنفية والأصح عند الشافعية، كما قال الإمام النووي في المجموع 3/ 285.
وقاسوا ذلك على من نوى الكلام في صلاته ولم يتكلم فصلاته صحيحة ولأن الصوم ملحق بالتروك، انظر الموسوعة الفقهية 28/ 27.
- - -
(1/54)
________________________________________
التشريك في نية الصيام
تقول السائلة: إنها صامت ألأيام الستة من شوال ونوت صيام الأيام الستة وقضاء ستة أيام أفطرتها من رمضان لعذر الحيض فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن مسألة التشريك في النية من المسائل التي يكثر السؤال عنها وخاصة في حالة صوم الأيام الستة المندوبة من شوال وهل تقع عن الصوم المندوب وعن القضاء؟
وكذلك صوم يومي الاثنين والخميس ندباً وقضاءً وكذلك التشريك في النية في صلاة ركعتين تحية المسجد وسنة الظهر القبلية والتشريك في نية الغسل عن غسل الجنابة وغسل الجمعة وغير ذلك من المسائل.
وهذه المسائل فيها تفصيل: قال الحافظ ابن رجب: [إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد في وقت واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما واكتفي فيهما بفعل واحد] تقرير القواعد وتحرير الفوائد 1/ 142.
وهذه القاعدة التي ذكرها الحافظ ابن رجب تقع على أنواع:
النوع الأول: أن يكون مبنى العبادتين على التداخل كغسل الجمعة والجنابة ومثل الوضوء والغسل من الجنابة فإذا اغتسل شخص ونوى بغسله غسل الجمعة وهو مندوب وغسل الجنابة وهو فرض فالراجح من أقوال أهل العلم أن ذلك يجزئه عنهما ويكفيه الغسل الواحد ويحصل له كلا الغسلين. قال الإمام الشافعي: [وإن كان جنباً فاغتسل لهما جميعاً أجزأه]. قال الماوردي: [وصورتها في رجل أصبح يوم الجمعة جنباً فعليه غسلان واجب وهو الجنابة ومسنون وهو الجمعة فإن اغتسل لهما غسلين كان أفضل ويقدم غسل الجنابة وإن اغتسل لهما غسلاً واحداً ينويهما معاً أجزأه] الحاوي الكبير 1/ 375.
(1/55)
________________________________________
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا اجتمع شيئان يوجبان الغسل كالحيض والجنابة أو التقاء الختانين والإنزال ونواهما بطهارته أجزأه عنهما قاله أكثر أهل العلم منهم عطاء وأبو الزناد وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ... ولأنهما سببان يوجبان الغسل فأجزأ الغسل الواحد عنهما كالحدث والنجاسة] المغني 1/ 163.
وقال بعض أهل العلم لا يجزئه غسل واحد ولا بد من غسلين وعلى هذا ابن حزم الظاهري والعلامة الألباني وغيرهما. انظر المحلى 1/ 289، تمام المنة 126 - 127.
والصحيح القول الأول أنه يكفي غسل واحد في هذه الحالة لأن مراد الشارع يتحقق بحصول الفعل وقد حصل بالغسل مرة واحدة فالمراد أن يتطهر الإنسان وقد تطهر ولا حاجة للاغتسال مرة ثانية.
قال الإمام النووي: [ولو نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة حصلا جميعاً هذا هو الصحيح] المجموع 3/ 326. وضعف الإمام النووي القول المخالف. وكذلك يقال فيمن نوى بغسله للجنابة رفع الحدث الأصغر أيضاً يصح لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} سورة المائدة آية 6.
ولم يذكر وجوب الوضوء ولا وجوب نيته وهذا هو القول الراجح على أنه يجزئ إذا نوى رفع الحدث الأكبر أدى عن الأصغر لأن الله تعالى لم يذكر شيئاً آخر سوى أن يتطَّهر الإنسان] تعليق الشيخ ابن عثيمين على قواعد ابن رجب 1/ 144. وقال الإمام البيهقي: [باب الدليل على دخول الوضوء في الغسل .. ] ثم ساق الأحاديث في غسل النبي صلى الله عليه وسلم، سنن البيهقي 1/ 177 - 178.
وأما النوع الثاني: وهو أن تحصل له إحدى العبادتين بنيتها وتسقط عنه الأخرى فمن ذلك إذا دخل شخص المسجد وقد أقيمت صلاة الفجر فصلى مع الجماعة فإنه ينوي الفريضة ولا بد وتسقط عنه تحية المسجد.
(1/56)
________________________________________
لأن تحية المسجد تحصل بأداء الفريضة نوى التحية أولم ينوها لأن المراد شغل البقعة بالعبادة كما ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين] رواه البخاري ومسلم. وكذلك إذا دخل المسجد قبل إقامة صلاة الظهر ولا يتسع الوقت لصلاة سنة الظهر القبلية وصلاة تحية المسجد فإنه يصلي السنة الراتبة وتجزؤه عن تحية المسجد. قال ابن نجيم الحنفي: [ ... وسنة الوضوء وتحية المسجد وينوب عنها كل صلاة أداها عند الدخول ... كذلك تنوب عنها كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً] الأشباه والنظائر 1/ 123. ومن ذلك إذا أخر طواف الإفاضة إلى وقت مغادرته مكة فطاف فيجزئه عن طواف الوداع.
النوع الثالث: لا يصح التشريك في النية في عبادتين مقصودتين لذاتهما كأن ينوي شخص أداء فريضة الظهر وأربع ركعات السنة القبلية فهذا لا يصح ولا يجزئ لأنهما عبادتان مستقلتان لا تندرج إحداهما في الأخرى ومثل ذلك لو نوى بصلاة العصر أدائها وقضاء صلاة الظهر فإن ذلك لا يصح ولا يجزئه.
ومثل ذلك من ينوي بصيام الستة من شوال القضاء وصيام الستة معاً فهذا لا يجزئ لأن صوم القضاء عبادة مستقلة وصيام الستة من شوال عبادة مستقلة فلا يصح التداخل بينهما وينبغي على الشخص في هذه الحالة أن يحدد بنيته أي العبادتين يريد فإما أن ينوي القضاء مستقلاً وإما أن ينوي صيام الستة من شوال مستقلة وأما الجمع بينهما بنية واحدة فلا يصح ولا يجزئ عنهما. فإذا فعل ذلك فاختلف العلماء عن أي العبادتين يقع؟ والأقرب أنه يقع عن القضاء لأنه فرض ولا يقع عن صيام الستة من شوال لأنها مندوبة والعبادة الأوجب لها الأولوية. انظر مقاصد المكلفين ص 257.
- - -
(1/57)
________________________________________
ما يفطر الصائم
وما لا يفطره
(1/59)
________________________________________
المفطرات المعتبرة
يقول السائل: يتناقل كثير من الناس في رمضان الحديث عن الأمور التي تفطر الصائم ونسمع من المشايخ كثيراً من ذلك كقولهم أن القطرة تفطر الصائم وأن الحقنة تفطر الصائم والتحميلة تفطر الصائم وإن أدخل إصبعه في دبره يفطر ونحو ذلك، فما هو الصحيح في هذه الأمور وأمثالها وهل تعتبر مفطرة للصائم أم لا؟
الجواب: إن الذي دل عليه القرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ما يفطر الصائم هو الطعام والشراب والجماع ومعلوم أن الطعام والشراب يتناوله الإنسان من منفذه الطبيعي وهو الفم فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي فلا شك أنه يفطر الصائم.
وقد اجتهد فقهاء الإسلام في الأمور المفطرة للصائم وذكروا أشياء كثيرة من المفطرات حتى صارت كتب الفقه طافحة بها على اختلاف في المذاهب في كل منها، هل يعد مفطراً أم لا؟
والصحيح الذي أطمئن إليه وتؤيده الأدلة أن كثيراً مما ذكره الفقهاء من المفطرات ليس كذلك ولم تقم الأدلة الصحيحة على اعتباره مفطراً للصائم، وأنا أميل إلى التضييق في المفطرات وعدم التوسع فيها لعدم ثبوت الأدلة. على أن كثيراً مما عده الفقهاء من المفطرات أنه مفطر فعلاً فمثلاً قال بعض الفقهاء أن مجرد دخول أي شيء إلى داخل الجسم يعد مفطراً بغض النظر من أين دخل فمثلاً إذا احتقن الصائم بدواء فإنه يفطر بل قال بعضهم إذا استنجى الصائم فأدخل إصبعه في دبره أفطر وإذا اكتحل أفطر ... الخ، وهذا الكلام غير مسلم وغير مقبول لماذا؟ لأن الصيام مما يبتلى به عامة الناس في دين الإسلام ولو كانت مثل هذه الأمور مفسدة للصوم لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً مفصلاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما
(1/61)
________________________________________
تنازع فيه أهل العلم فنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ومن لم يفطر الكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام في دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/ 233 - 234.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقل الأمة فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبين صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره] مجموع الفتاوى 25/ 236 - 242.
وقال ابن حزم: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله] المحلى 4/ 348.
- - -
(1/62)
________________________________________
اختلاف العلماء في المفطرات
يقول السائل: نسمع من المشايخ على الفضائيات وفي المساجد أموراً متضاربةً في مفطرات الصائم، وخاصة ما يتعلق بالأشياء العصرية، مثل بخاخ الربو والتحاميل واستعمال المنظار الطبي ونحوها، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الاختلاف الفقهي في الفروع إن صدر عن أهل العلم وكان معتمداً على استدلالات صحيحة خلاف معتبر وسبب الخلافات في هذه الأمور التي اعتبرها بعض العلماء مفطرة للصائم وبعضهم يرى أنه غير مفطرة يرجع إلى تحديد معنى الجوف فمنهم يعتبر أن الجوف هو التجويف البطني فجعلوا الداخل إليه من أي منفذ مفطراً لكونه موصلاً إلى الجوف وتوسع الشافعية في مدلول الجوف فقالوا كل مجوف في بدن الإنسان فهو جوف كباطن الإذن وداخل العين وباطن الرأس وباطن الدبر والقبل فعندهم يفطر الصائم بكل ما دخل من هذه المنافذ حتى قالوا يفطر الصائم بما وصل من عينه عمداً إلى مطلق الجوف من منفذ مفتوح والتقطير في باطن الأذن مفطر والحقنة من الدبر والتقطير في باطن الإحليل وإدخال عود أو نحوه فيه مفطر ودخول طرف الأصبع في الدبر حالة الاستنجاء فيفطر به] تحفة ****** على شرح الخطيب بتصرف، وقالوا أيضاً [لو طعن نفسه أو طعنه غيره فوصل السكين جوفه أفطر] حاشيتا قليوبي وعميرة، وقالوا أيضاً [لو كان برأسه جرحاً فوضع عليه دواءً فوصل إلى الدماغ أفطر] تحفة المحتاج في شرح المنهاج وغير ذلك [والقول الراجح أن الجوف هو المعدة فقط، أي إن المفطر هو ما يصل إلى المعدة دون غيرها من تجاويف البدن. ويضاف إلى ذلك أن الأمعاء هي المكان الذي يمتص فيه الغذاء، فإذا وضع فيها ما يصلح للامتصاص سواء كان غذاء أو ماء فهو مفطر، لأن هذا في معنى الأكل والشرب كما لا يخفى] مفطرات الصيام المعاصرة.
(1/63)
________________________________________
إذا تقرر هذا فإن أرجح أقوال أهل العلم هو التضييق في مسألة المفطرات وعدم التوسع فيها لعدم ثبوت الأدلة، فالمفطرات المعتبرة هي ما دل عليه الكتاب والسنة وهي الطعام والشراب والجماع ومعلوم أن الطعام والشراب يتناوله الإنسان من منفذه الطبيعي وهو الفم فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي فلا شك أنه يفطر الصائم. ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} البقرة الآية 187. وبناءً على ما سبق فإن استعمال بخاخ الربو والتحاميل واستعمال المنظار الطبي من أي موضع دخل لا تعتبر من المفطرات وكذلك القطرات بأنواعها لا تفطر الصائم سواء كانت في الأذن أو العين أو الأنف وكذلك الحقن (الإبر) الدوائية سواء كانت في الوريد أو العضل أو تحت الجلد لا تفطر الصائم وكذلك الحقن الشرجية لا تفطر الصائم وكذا غاز الأكسجين لا يفطر الصائم، وكذلك غسيل الكلى إن لم يصاحبه تزويد للجسم بمواد مغذية سكرية أو غيرها فلا يفطر الصائم وكذلك الفحص الداخلي للمرأة لا يفطر الصائم وكذلك سحب الدم للتبرع به أو للتحليل لا يفطر الصائم وكذلك التخدير الموضعي وجميع أنواع الدهون والمراهم واللصقات العلاجية لا تفطر الصائم.
وقد اختار القول بالتضييق في المفطرات الإمام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله كما يؤخذ من تراجم أبوابه، واختاره الشيخ ابن حزم الظاهري رحمه الله حيث قال: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله] المحلى 4/ 348. واختاره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا
(1/64)
________________________________________
مما تنازع فيه أهل العلم فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ومن لم يفطر الكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام في دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/ 233 - 234.
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقل الأمة فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبين صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره] مجموع الفتاوى 25/ 236 - 242.
وكذا اختاره جماعة من علماء العصر كالشيخ القرضاوي وأعضاء مجمع الفقه الإسلامي حيث ورد في قراره مايلي: [بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 - 12 صفر 1418هـ الموافق 14 - 17 حزيران (يونيو) 1997م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء قرر ما يلي:
(1/65)
________________________________________
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:
1. قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
2. الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
3. ما يدخل المهبل –فرج المرأة- من تحاميل (لبوس)، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.
4. إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5. ما يدخل الإحليل - أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى - من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6. حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7. المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8. الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9. غاز الأكسجين.
10. غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.
11. ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.
12. إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.
(1/66)
________________________________________
13. إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
14. أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15. منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى.
16. دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
17. القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد (الاستقاءة)] مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر الجزء الثاني 453 - 455.
وخلاصة الأمر أن الراجح من أقوال أهل العلم هو التضييق في المفطرات وأن المفطرات المعتبرة هي الجماع والأكل والشرب ويضاف لها ما اتفق عليه أهل العلم على أنه مفطر، مما هو في حكم الطعام والشراب، كالتدخين وتعاطي الأدوية عن طريق الفم.
- - -
(1/67)
________________________________________
دواء مرض الربو والتحاميل والصوم
يقول السائل: هل البخاخ الذي يستعمله بعض المرضى في الفم يفطر الصائم؟ وهل التحاميل تفطر الصائم؟
الجواب: إن البخاخ المذكور في السؤال هو سائل يستعمل لتوسيع شرايين الرئتين عند ضيق النفس ولا يصل إلى المعدة عند استعماله من المريض كما قال الأطباء وبناءً على ذلك فهو غير مفسد للصيام إن شاء الله.
وأما التحاميل فلا تعد من مفسدات الصوم ولا بأس باستعمالها إذا أخذت على أنها علاج.
- - -

هل القطرة تفطر الصائم؟
هل القطرة في العين أو الأذن أو الأنف مما يفطر الصائم؟ وما حكم استعمال الحقن للصائم؟
الجواب: إن حقيقة الصيام هي الامتناع عن الطعام والشراب والجماع كما هو معروف فما كان من هذه الأنواع فهو مفطر للصائم وأما القطرة بأنواعها المختلفة سواء كانت في الأنف أو الأذن أو العين فإنها لا تفطر الصائم لأن هذه ليست طعاماً ولا شراباً ولا تدخل إلى الجوف من المدخل الطبيعي للطعام والشراب ولا يعد استعمال القطرة بأنواعها المختلفة أكلاً أو شراباً. لذلك فهي غير مفطرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند حديثه عن الكحل والقطرة ونحوها: [والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه
(1/68)
________________________________________
الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/ 234.
وقال ابن حزم رحمه الله: [ولا ينقض الصوم حجامة ولا احتلام ... ولا حنة ولا سعوط ولا تقطير في أذن أو في إحليل أو في أنف .. ] المحلى 4/ 335.
وأما الحقن التي تعطى تحت الجلد أو في الوريد فإذا كانت دواء فلا تفطر وإذا كانت على سبيل الغذاء فهي مفطرة وتتنافى مع حقيقة الصوم.
- - -

استعمال الصائم فرشاة الأسنان
السؤال: ما حكم استعمال فرشاة الأسنان مع المعجون في نهار رمضان للصائم؟
الجواب: إن على الصائم أن يأخذ بالأسباب الكفيلة بالمحافظة على الصوم فيبتعد عن كل ما من شأنه أن يخل بالصوم، فيستيطع الشخص أن ينظف أسنانه بالفرشاة والمعجون قبل الفجر أو بعد الإفطار فهذا هو الأفضل ويجوز له أن يستعملها أثناء النهار إذا تيقن من عدم نزول شيء إلى جوفه. لأن نزول شيء من المعجون أو الماء إلى الجوف من المفطرات والاحتياط في هذا الأمر أولى.
- - -
(1/69)
________________________________________
المسائل الطبية في الصيام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فهذه مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بأمور طبية وعلاقتها بالصيام، أجبت عليها على وجه الإختصار، وقبل الشروع فيها أود أن أبين قضية هامة تتعلق بالمفطرات في رمضان فأقول:
من المعلوم أن المفطرات المتفق عليها بين أهل العلم، هي الطعام والشراب والشهوة ويدل على ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} سورة البقرة الآية 187.
ويضاف للمفطرات الثلاثة ما اتفق عليه أهل العلم على أنه مفطر، مما هو في حكم الطعام والشراب، كالتدخين وتعاطي الأدوية عن طريق الفم وهو المنفذ الطبيعي للطعام والشراب، فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي، فلا شك أنه يفطّر الصائم، وقد اجتهد فقهاء الإسلام في الأمور المفطرة للصائم، وذكروا أشياء كثيرة من المفطرات حتى صارت كتب الفقه طافحة بها على اختلاف في المذاهب في كل منها هل يعد مفطراً أم لا؟
والصحيح الذي أطمئن إليه وتؤيده الأدلة، أن كثيراً مما عدّه الفقهاء من المفطرات ليس كذلك، ولم تقم الأدلة الصحيحة على اعتباره مفطراً للصائم، وأنا أميل إلى التضييق في المفطرات وعدم التوسع فيها، لعدم ثبوت الأدلة على صحة ما عده كثير من الفقهاء من المفطرات أنه مفطر فعلاً، فمثلاً قال بعض الفقهاء إن مجرد دخول أي
(1/70)
________________________________________
شيء إلى الجسم يعد مفطراً بغض النظر من أين دخل، فمثلاً إذا احتقن الصائم بدواء فإنه يفطر بل قال بعضهم إذا استنجى الصائم فأدخل إصبعه في دبره أفطر، وإذا اكتحل أفطر ... الخ، وهذا الكلام غير مسلّم به وغير مقبول لماذا؟
لأن الصيام مما يبتلى به عامة الناس في دين الإسلام ولو كانت مثل هذه الأمور مفسدة للصوم لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً مفصلاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك، لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، عُلم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/ 233 - 234.
وقال أيضاً: [إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا عُلم أن هذا ليس من دينه ... وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد أن تنقل الأمة، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره .. ] مجموع الفتاوى 25/ 236 - 242.
(1/71)
________________________________________
وقال ابن حزم: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي، وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس، وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله] المحلى 4/ 348.
إذا تقرر ما قلت: فهذه هي الأسئلة وإجاباتها:
1. ما هو تأثير الحقن على الصيام؟
الجواب: إن الحقن التي تعطى للمريض على نوعين:
الحقن التي يقصد بها الدواء، وليست للتغذية فهذه لا تفطر الصائم، سواءً كانت في العضل أو في الوريد أو كانت في الشرج. أما الحقن التي يقصد بها الغذاء فهي مفطرة لأنها في معنى الطعام والشراب.
2. هل التحاميل تبطل الصوم؟
الجواب: التحاميل إن كانت علاجية ولا يقصد بها الغذاء، فلا تبطل الصيام، وإن كانت للتغذية فهي مبطلة للصوم.
3. هل الحبوب التي توضع تحت اللسان تبطل الصوم؟
الجواب: هذه الحبوب التي توضع تحت اللسان تفطر الصائم.
4. هل المراهم تبطل الصوم؟
الجواب: المراهم التي تدهن بها الأعضاء المريضة لا تبطل الصوم.
5. هل القطرة تفطر الصائم؟
الجواب: القطرات سواء أكانت عن طريق الأذن أو العين أو الأنف لا تفطر الصائم لأنها ليست طعاماً ولا شراباً ولا تدخل إلى الجوف من المدخل الطبيعي للطعام والشراب، وهو الفم.
6. هل البخاخ الذي يستعمله بعض المرضى لتوسيع الشرايين يفسد الصيام؟
(1/72)
________________________________________
الجواب: إن البخاخ المذكور سائل يستعمل لتوسيع شرايين الرئتين عند ضيق التنفس ولا يصل إلى المعدة عند استعماله كما قال بعض الأطباء وبناءً عليه لا يفسد الصيام.
7. هل الدواء الذي يؤخذ للغرغرة في الفم يبطل الصيام؟
الجواب: لا يبطل الصوم بدواء الغرغرة طالما لم يبتلعه المريض، فإذا ابتلعه المريض بطل صيامه.
8. هل الدواء الذي يعطى للمريض عن طريق التبخير، ويقوم المريض باستنشاقه يفسد الصوم؟
الجواب: الذي يظهر لي أنه غير مبطل للصوم.
9. هل استخدام الأكسجين يبطل الصيام؟
الجواب: الأكسجين المذكور لا يبطل الصيام، لأنه ليس بطعام ولا شراب بل هو من مكونات الهواء الذي نتنفسه.
10. هل سحب الدم يفطر الصائم؟
الجواب: سحب الدم لا يفطر الصائم.
11. إذا أصيب الإنسان بنزيف وهو صائم هل يبطل صومه؟
الجواب: إن خروج الدم من الإنسان سواء كان من الفم أو الأنف أو الوجه أو الرأس لا يؤثر على الصيام، إلا إذا دخل الدم في الجوف، كمن خلع ضرسه فنزل الدم إلى جوفه فهذا يبطل الصوم وما عداه فلا.
12. هل الفحص المهبلي للمرأة يبطل الصيام؟
الجواب: لا يبطل الصوم بالفحص المهبلي للمرأة.
13. هل الفحص الشرجي للمريض يبطل الصوم؟
الجواب: لا يبطل الصيام بالفحص الشرجي.
14. هل التدخين يبطل الصيام؟
(1/73)
________________________________________
الجواب: نعم اتفق أهل العلم المعاصرون وغيرهم، على أن التدخين يبطل الصيام.
15. إذا استنشق الصائم الدخان دون أن يدخن، كأن يجلس في مكان فيه مدخنون فهل يبطل صومه؟
الجواب: لا يبطل صومه إن شاء الله، ولا ينبغي للصائم أن يجالس المفطرين في رمضان باختياره.
16. هل يجوز للمرأة استعمال أدوية لتأخير الحيض من أجل أن تصوم رمضان كله؟
الجواب: يجوز ذلك وإن كان الأولى أن تترك المرأة الأمور على طبيعتها، لأن الحيض شيء كتبه الله على النساء، فلا تتناول هذه الحبوب، وإن تناولتها فينبغي أخذ رأي الأطباء في أنه لا يلحق المرأة أذى من تناول هذه الحبوب.
17. هل يجوز للصائم استعمال فرشاة الأسنان والمعجون أثناء الصيام؟
الجواب: ينبغي للصائم إن أراد استعمال فرشاة الأسنان والمعجون أن يستعملها قبل طلوع الفجر، أو بعد الإفطار، فهذا هو الأفضل والأحوط، وإن استعملهما أثناء النهار فلا بأس، بشرط أن لا يبتلع شيئاً من ذلك، فإن ابتلع شيئاً من ذلك فقد بطل صومه.
18. هل القيء يبطل الصوم؟
الجواب: إذا خرج القيء من الصائم رغماً عنه فصومه صحيح، وأما إن استقاء بأن سعى في الإستفراغ فقد بطل صومه وعليه القضاء.
19. هل يجوز للمرضع والحامل أن تفطرا في رمضان؟
الجواب: إذا استطاعت الحامل والمرضع الصوم دون أن يلحقهما ضرر فهو المطلوب، وإلا يجوز لهما الإفطار وتقضيا ما عليهما من صيام.
- - -
(1/74)
________________________________________
سحب الدم لا يفطر الصائم
يقول السائل: هل سحب الدم يفطر الصائم؟
الجواب: سحب الدم لا يفطر الصائم على الراجح من أقوال أهل العلم ولو كثرت كمية الدم المتبرع بها كوحدة دم واحدة أو اثنتين كما هو معمول به طبياً. ومما يدل على أن سحب الدم لا يفطر الصائم الأحاديث الواردة في جواز الحجامة للصائم فهي بعمومها تشمل سحب الدم فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم).
وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح. وروى الإمام البخاري بإسناده أن ثابتاً البناني قال: [سئل أنس بن مالك رضي الله عنه أكنتم تكرهون الحجامة للصائم قال: لا، إلا من أجل الضعف].
وورد في رواية في الصحيح أن ذلك كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام والحجامة للصائم إبقاء على أصحابه ولم يحرمها] رواه أحمد وأبو داود وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر. فتح الباري 5/ 81.
وأما ما ورد في الحديث الصحيح عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجة والحاكم وغيرهم. فهذا الحديث على الراجح من أقوال أهل العلم أنه منسوخ بحديث ابن عباس وما في معناه من الأحاديث. قال الحافظ ابن عبد البر: [والقول عندي في هذه الأحاديث أن حديث ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً) ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم
(1/75)
________________________________________
والمحجوم) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ عام الفتح على رجل يحتجم لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) فابن عباس شهد معه حجة الوداع وشهد حجامته يومئذ محرم صائم فإذا كانت حجامته عليه السلام عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان لأنه توفي في ربيع الأول صلى الله عليه وسلم وإنما وجه النظر والقياس في ذلك بأن الأحاديث متعارضة متدافعة في إفساد صوم من احتجم فأقل أحوالها أن يسقط الاحتجاج بها والأصل أن الصائم لا يقضى بأنه مفطر إذا سلم من الأكل والشرب والجماع إلا بسنة لا معارض له. ووجه آخر من القياس وهو ما قاله ابن عباس: [الفطر مما دخل لا مما خرج] الاستذكار 10/ 125 - 126.
وممن قال بنسخ حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) الإمام الشافعي والخطابي والبيهقي وابن حزم الظاهري حيث قال فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر: [صح حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) بلا ريب لكن وجدنا من حديث أبي سعيد: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم) وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً] فتح الباري 5/ 81. ورجح العلامة الألباني أن حديث الإفطار بالحجامة منسوخ فقال: [فائدة: حديث أنس هذا صريح في نسخ الأحاديث المتقدمة (أفطر الحاجم والمحجوم) إرواء الغليل 4/ 73. ثم قال العلامة الألباني بعد أن ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: [رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة]. [قلت: فالحديث بهذه الطرق صحيح لا شك فيه وهو نص في النسخ فوجب الأخذ به كما سبق عن ابن حزم رحمه الله] الإرواء 4/ 75 وانظر أيضاً الإرواء 4/ 80.
(1/76)
________________________________________
وخلاصة الأمر أن سحب الدم لا يفطر الصائم وكذلك سحب الدم للفحص لا يفطر الصائم وكذلك الحجامة لا تفطر الصائم. ولكن ينبغي مراعاة أن لا تؤدي هذه الأمور إلى إضعاف الصائم ومن ثم عجزه عن الصيام فتنتهي به للإفطار بتناول الطعام أو الشراب أو الدواء.
- - -

حكم إكراه الزوجة على الجماع في نهار رمضان
يقول السائل: إنه قرأ في أحد الكتب التي تتحدث عن رمضان العبارة التالية:
(والإكراه مثل أن يكره الرجل زوجته على الجماع ولم تستطع الامتناع منه فلا شيء عليها وصيامها صحيح ولا ريب أنه يبوء بإثمها وإثمه إن كان الصيام فرضاً) أرجو توضيح المسألة مع بيان الدليل؟
الجواب: من المعلوم أن الجماع من مبطلات الصوم باتفاق الفقهاء قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} سورة البقرة الآية 187.
وجاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي) رواه ابن خزيمة وهو حديث صحيح. ويحرم على المسلم أن يبطل صومه أو صوم غيره ومن تعمد ذلك فقد أتى منكراً كبيراً.
(1/77)
________________________________________
وأما الإكراه على الفطر فقد اختلف فيه الفقهاء اختلافاً كثيراً وأقتصر هنا على مسألة إكراه الزوجة على الجماع وهي محل السؤال فأقول: إن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في أحد القولين عندهم والحنابلة في القول الذي عليه الفتوى من المذهب قالوا إن الزوج إذا أكره زوجته على الجماع في نهار رمضان فإن صومها قد بطل وعليها القضاء فقط ولا كفارة عليها بخلاف زوجها فعليه القضاء والكفارة.
وذهب الشافعي في قوله الآخر والحنابلة في رواية عندهم إلى أن صوم المكرهة صحيح ولا شيء عليها لأنها مكرهة وقد ورد في الحديث: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
والذي تطمئن إليه نفسي هو القول الأول الذي يوجب على المرأة المكرهة القضاء لأنه يغلب على ظني أن الإكراه في مثل هذه الحالة لا يكون تاماً وغالباً ما يكون هنالك نوع مطاوعة ورغبة من الزوجة كما أن مفهوم الإكراه ليس واضحاً عند أكثر الناس. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها رواية واحدة وعليها القضاء. قال مهنا: سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها أعليها القضاء؟ قال: نعم. قلت: وعليها كفارة: قال: لا. وهذا قول الحسن ونحو ذلك قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي] المغني 3/ 137.
وقال المرداوي: [الصحيح من المذهب - أي الحنبلي - فساد صوم المكرهة على الوطء نص عليه - أي أحمد - وعليه أكثر الأصحاب وهو ظاهر كلام المصنف هنا] الإنصاف 3/ 313.
وخلاصة الأمر أنه على هذه المرأة المكرهة على الجماع في نهار رمضان أن تقضي ذلك اليوم الذي أُكرهت فيه على الفطر.
- - -
(1/78)
________________________________________
معاشرة الرجل زوجته في ليالي رمضان
يقول السائل: هل يجوز للرجل أن يأتي زوجته في ليالي رمضان؟
الجواب: نعم يجوز للرجل أن يعاشر زوجته في ليالي رمضان وينتهي ذلك بأذان الفجر الثاني أي أذان الصلاة.
وقد كان هذا الأمر ممنوعاً في أول ما فرض الصيام كما ثبت في الحديث عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} سورة البقرة الآية 178. رواه البخاري.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب قول الله جل ذكره: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} عن البراء رضي الله عنه قال: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ففرحوا بها فرحاً شديداً ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 4/ 166.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله: فنام قبل أن يفطر ... إلخ في رواية زهير (كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئاً ولا يشرب ليله ويومه حتى تغرب الشمس)
(1/79)
________________________________________
ولأبي الشيخ من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحق: (كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يفعلوا شيئاً من ذلك إلى مثلها) فاتفقت الروايات في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيداً بالنوم وهذا هو المشهور في حديث غيره. وقيد المنع من ذلك في حديث ابن عباس بصلاة العتمة أخرجه أبو داود بلفظ (كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة) ونحوه في حديث أبي هريرة ... وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر ويحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالباً والتقييد في الحقيقة إنما هو بالنوم كما في سائر الأحاديث وبين السدي وغيره أن ذلك الحكم كان على وفق ما كتب على أهل الكتاب كما أخرجه ابن جرير من طريق السدي ولفظه: (كتب على النصارى الصيام وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم وكتب على المسلمين أولاً مثل ذلك حتى أقبل رجل من الأنصار) فذكر القصة. ومن طريق إبراهيم التيمي (كان المسلمون في أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة) ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص مرفوعاً: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة *****] فتح الباري 4/ 167. وقال القرطبي في تفسير الآية السابقة: [قوله تعالى "أحل" لفظ أحل يقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك ثم نسخ روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال: وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت فظن أنها تعتل فأتاها فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاماً فقالوا: حتى نسخن لك شيئاً فنام فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية وفيها: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}] تفسير القرطبي 2/ 314.
(1/80)
________________________________________
وقال القرطبي أيضاً: [وفي البخاري أيضاً عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} يقال: خان واختان بمعنىً من الخيانة أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي رمضان. ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ *** إليها العقاب وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه وذكر الطبري: أن عمر رضي الله عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت فقال لها: ما نمت فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتذر إلى الله وإليك فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: لم تكن حقيقاً بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وذكره النحاس ومكي وأن عمر نام ثم وقع بامرأته وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}] تفسير القرطبي 2/ 315.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للرجل أن يجامع زوجته في ليالي رمضان وأن المنع من ذلك منسوخ والحل ثابت في كتاب الله تعالى.
- - -
(1/81)
________________________________________
حكم من أصبح في أول يوم من رمضان مفطراً
يقول السائل: ما حكم من أصبح في أول يوم من رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت النية للصوم؟
الجواب: يجب على من أصبح في اليوم الأول من رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت فيه الصوم، يجب عليه أن يمسك بقية يومه ويجب عليه قضاء ذلك اليوم، لأن تبييت النية من الليل أمر لا بد منه في صوم رمضان ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه أصحاب السنن وأحمد وهو حديث صحيح.
والمراد بقوله في الحديث: (يجمع) أي يعزم والمقصود أنه لا بد من النية قبل طلوع الفجر فعلى هذا الشخص أن يقضي يوماً عن اليوم الذي لم يصمه سواء أكل في ذلك اليوم أم لم يأكل.
وينبغي أن يعلم أن النية في الصوم لا يشترط فيها التلفظ باللسان بل إن التلفظ بها بدعة وإنما محلها القلب فإذا خطر على قلبه ليلاً أنه يصوم ويوم غد من رمضان فقد نوى وكذلك إذا قام للسحور وأما التلفظ بالنية فليس مشروعاً.
- - -
(1/82)
________________________________________
يصحُ صومُ من أصبح جُنباً
يقول السائل: أصابته جنابة في ليلة من رمضان ولم يغتسل إلا بعد أذان الفجر فهل صومه صحيح أم لا؟
الجواب: لا تشترط الطهارة من الجنابة للصيام فيجوز للجنب أن يدخل عليه وقت الفجر وهو جنب ولكن ينبغي له أن يغتسل حتى يصلي الفجر.
قال الإمام النووي: [فقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع وبه قال جماهير الصحابة والتابعين .. ] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 181.
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم) رواه مسلم.
وروى مسلم بإسناده: (أن مروان أرسل إلى أم سلمة رضي الله عنها يسأل عن الرجل يصبح جنباً أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماعٍ لا من حلم ثم لا يفطر ولا يقضي).
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب فقال: (يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) رواه مسلم.
- - -
(1/83)
________________________________________
استعمال أدوية لتأخير الحيض للصائمة
السؤال: هل يجوز للمرأة تناول أدوية تمنع الحيض حتى تتمكن من الصيام؟
الجواب: إن الحيض من الأمور التي كتبها الله سبحانه وتعالى على النساء والحيض من موانع الصوم كما هو معلوم والأفضل في حق المرأة أن تسير مع فطرتها التي فطرها الله عليها فتصوم ما شاء الله لها أن تصوم فإذا حاضت توقفت عن الصيام ومن ثم يلزمها القضاء بعد ذلك.
ومع ذلك فلا مانع من استعمال الأدوية التي تمنع الحيض حتى تتمكن المرأة من الصيام ولكن لا بد من تقييد ذلك بأن لا يلحق المرأة ضرر من استعمال هذه الأدوية وبناء عليه لا بد للمرأة من استشارة طبيب حاذق صاحب دين فإن أخبرها الطبيب بأن استعمال هذه الأدوية يضرها فلا يجوز لها استعمالها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وغيرهم وهو حديث صحيح.
ومما يشير إلى جواز استعمال المرأة لهذه الأدوية ما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يسقون نسائهم أدوية مأخوذة من الأعشاب لمنع نزول دم الحيض أثناء الحج ويقاس الصوم عليه.
قال الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي: [وللأنثى شربه -أي دواء مباح- لحصول الحيض ولقطعه].
لأن الأصل الحل حتى يرد التحريم ولم يرد كذا قال الشارح. منار السبيل 1/ 62.
وقد أفتى بالجواز في هذه المسألة كثير من أهل العلم المعاصرين منهم الشيخ القرضاوي.
- - -
(1/84)
________________________________________
انقطاع دم الحيض أثناء النهار وأثره على الصيام
تقول السائلة: إذا انقطع دم الحيض أثناء النهار فماذا يلزمها بالنسبة للصوم؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الحائض لا تصوم ولا تصلي فإذا انقطع دم الحيض أثناء نهار رمضان فيستحب لها أن تمسك عن الطعام والشراب احتراماً للشهر الكريم وابتعاداً عن التهمة ولكن لا يجب عليها ذلك لأنها كانت معذورة في الفطر بسبب الحيض فإذا زال حيضها أثناء النهار فلا شيء عليها إذا أكلت أو شربت ولكن يستحسن أن يكون ذلك بعيداً عن أنظار الصائمين قال الإمام النووي: [إذا طهرت في أثناء النهار يستحب لها إمساك بقيته ولا يلزمها .. ] المجموع 6/ 257.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهراً وباطناً كالحائض والمسافر والنفساء والصبي والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض والنفساء وأقام المسافر وبلغ الصبي وأفاق المجنون وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان:
إحداهما: يلزمهم الإمساك في بقية اليوم. وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والعنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك كقيام البينة بالرؤية. والثانية: لا يلزمهم الإمساك وهو قول مالك والشافعي وروي ذلك عن جابر بن زيد وروي عن ابن مسعود أنه قال: [من أكل أول النهار فليأكل آخره] ولأنه أبيح له فطر أول النهار ظاهراً وباطناً. فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النهار كما لو دام العذر] المغني 3/ 145 - 146.
وما ذكره ابن قدامة ثانياً هو الراجح من قولي العلماء فيجوز للحائض إذا طهرت أثناء النهار الأكل والشرب والأولى أن تمسك بقية يومها لحرمة الشهر.
- - -
(1/85)
________________________________________
عقوبة من أفطر عامداً في رمضان
يقول السائل: ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أفطر يوماً في رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر وإن صامه) فهل معنى هذا الحديث أن من أفطر عامداً في رمضان أنه لا يقضي اليوم الذي أفطره؟
الجواب: إن هذا الحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث ضعيف عند المحدثين.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وهذا -أي الحديث- يحتمل أن يكون لو صح على التغليظ وهو حديث ضعيف لا يحتج به] الاستذكار 10/ 104. وقال الإمام الترمذي: [حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسمعت محمداً - يعني الإمام البخاري - يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 3/ 341. وقال الحافظ ابن حجر: [ ... وقال البخاري في التاريخ أيضاً: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا؟ قلت: - أي الحافظ - واختلف فيه على حبيب ابن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء ... ] فتح الباري 5/ 63.
وضعفه الحافظ ابن بطال شارح صحيح البخاري. عون المعبود 7/ 21. وضعف الحديث أيضاً العلامة الألباني حيث قال: [ ... الحديث ضعيف وقد أشار لذلك البخاري بقوله: (ويذكر) وضعفه ابن خزيمة في صحيحه والمنذري والبغوي والقرطبي والذهبي والدميري فيما نقله المناوي والحافظ ابن حجر ... ] تمام المنة ص 396.
(1/86)
________________________________________
والحاصل أن الحديث ضعيف وعلى من أفطر يوماً من رمضان عامداً بالأكل أو الشرب أن يقضي يوماً مكانه وأن يتوب إلى الله توبةً صادقة لأنه أتى ذنباً عظيماً. قال الإمام البغوي: [هذا -أي الحديث- على طريق الإنذار والإعلام بما لحقه من الإثم وفاته من الأجر فالعلماء مجمعون على أنه يقضي يوماً مكانه] شرح السنة 6/ 290.
- - -

تأثير المعاصي والآثام على الصيام
يقول السائل: هل للمعاصي والآثام التي يرتكبها الإنسان في نهار رمضان تأثير على الصيام كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى.
وبناء على ذلك فليس الصوم هو مجرد الامتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة فحسب بل لا بد من صوم الجوارح أيضاً، فاليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات واللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله.
إن الصائم مأمور بتقوى الله عز وجل وهي امتثال ما أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه وهذه طائفة عطرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى هذه المعاني:
(1/87)
________________________________________
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه العلامة الألباني.
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له بصيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه العلامة الألباني.
فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الصوم لا يقصد به مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من صوم الجوارح عن المعاصي، فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله، كما أشار إلى ذلك الحديث الأخير، وله رواية أخرى وهي: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة.
(1/88)
________________________________________
فالأصل في المسلم الالتزام بشرع الله كاملاً وأن يأتي بالعبادات كما أرادها الله سبحانه وتعالى، بأن تكون هذه العبادات محققة لثمارها الإيجابية في سلوك المسلم وحياته، وأما إن كانت الصلاة مجرد حركات خالية من روحها والصوم مجرد جوع وعطش، والزكاة للرياء والسمعة والحج للشهرة واللقب فقد خاب المسلم وخسر وحبط عمله وكان من المفلسين يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم وابن حبان والترمذي والبيهقي وأحمد. وبناء على كل ما تقدم نرى أن المعاصي والآثام لها تأثير واضح في الصيام فهي تفسد المعنى الحقيقي للصيام ولكنها لا تعد من المفطرات.
- - -
(1/89)
________________________________________
المجاهرة بالفطر في رمضان
يقول السائل: ما حكم من لا يصوم رمضان ويجاهر بفطره؟
الجواب: من المعلوم أن صوم رمضان فريضة مكتوبة على المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة الآية 183.
والصيام ركن من أركان الإسلام فمن تهاون في صيام رمضان فقد وقع في معصية كبيرة والعياذ بالله فإذا انضم إلى فطره مجاهرته في ذلك فقد ازداد عصياناً وإثماً حيث إنه أظهر المعصية وتلبس بأفعال أهل المجون نسأل الله العفو والعافية.
أما لو أن هذا المفطر قد ستر على نفسه لكان ذنبه أهون وإن كان هو عظيم في ذاته قال العلامة ابن القيم: [والمستخفي بما يرتكبه أقل إثماً من المجاهر المستعلن والكاتم له أقل إثماً من المخبر المحدث للناس به فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) وإن من المجاهرة أن يستر الله تعالى عليه ثم يصبح يكشف ستر الله عنه يقول يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فيبيت ربه يستره ويصبح يكشف ستر الله عن نفسه أو كما قال، وفي الحديث الآخر عنه (من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله).
وفي الحديث الآخر (إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/ 147 - 148.
ولا شك أن المجاهرة بالإفطار فيها نوع من التبجح والافتخار بالمعصية وهذه وقاحة عظيمة وقلة حياء فهذا العاصي المجاهر لم يستح من الله سبحانه وتعالى ولم يستح من الناس.
(1/90)
________________________________________
والحديث الأول الذي ذكره ابن القيم رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ... الحديث.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (كل أمتي معافى) بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه ... ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن أ. هـ ... وقال الطيبي: الأظهر أن يقال المعنى كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله: {وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} والمجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها، وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به اهـ. والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به ... ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي) فتح الباري 10/ 597 - 598
وقال الحافظ أبو العباس القرطبي في شرح الحديث السابق بعد أن ذكر اختلاف الروايات فيه: [وهذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها هي راجعة إلى معنىً واحد قد فسره في الحديث وهو أن يعمل الرجل معصية في خفية وخلوة ثم يخرج يتحدث بها مع الناس ويجهر بها ويعلنها وهذا من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش وذلك: أن هذا لا يصدر إلا من جاهل بقدر المعصية أو مستهين مستهزئ بها مصرٍ عليها غير تائب منها مظهرٍ للمنكر. والواحد من هذه الأمور كبيرة فكيف إذا اجتمعت؟! فلذلك كان فاعل هذه الأشياء أشد الناس بلاء في الدنيا وعقوبة في الآخرة لأنه تجتمع عليه عقوبة تلك الأمور كلها وسائر الناس ممن ليس على مثل حاله وإن كان مرتكب كبيرة فأمره أخف وعقوبته إن عوقب أهون. ورجوعه عنها أقرب من الأول لأن ذلك المجاهر قل أن يتوب أو يرجع عما اعتاده من المعصية وسهل عليه منها. فيكون كل
(1/91)
________________________________________
العصاة بالنسبة إليه إما معافى مطلقاً إن تاب وإما معافى بالنسبة إليه إن عوقب والله تعالى أعلم] المفهم لما أشكل من تلخيص 6/ 618.
وينبغي أن يعلم أن الإنسان إذا ابتلي بمعصية من المعاصي فالواجب عليه أن يستر نفسه ولا يظهر شيئاً من ذلك وعليه أن يتوب إلى الله تعالى فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها فمن ألم بشيء منها فليتستر بستر الله عز وجل وليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 663.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حداً، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك] فتح الباري 10/ 598 - 599.
وخلاصة الأمر أن الفطر في نهار رمضان بدون عذر حرام شرعاً ومن كبائر الذنوب فإذا انضم إلى ذلك المجاهرة بالفطر فقد ازداد إثماً على إثم والواجب على من فعل ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى وأن يقضي ما أفطر من رمضان.
- - -
(1/92)
________________________________________
مسائل في القضاء والنسيان والخطأ في الصيام
(1/93)
________________________________________
من أفطر في رمضان يلزمه القضاء
يقول السائل: إنه لم يصم شهر رمضان الماضي بدون أي عذر ولم يقضه وقد ندم على تقصيره وينوي أن يصوم رمضان القادم فماذا عليه؟
الجواب: إن الإفطار في رمضان متعمداً من كبائر الذنوب وانتهاك للمحرمات وتعدي على ركن من أركان الإسلام والواجب على من وقع منه ذلك أن يبادر بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى بشروطها المعروفة.
قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور الآية 31.
ويلزم هذا المفطر أن يقضي الشهر الذي أفطره كما قرره جمهور أهل العلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184. ففي هذه الآية الكريمة ألزم الله عز وجل القضاء لمن أفطر لعذر كالمريض والمسافر فمن باب أولى أن يلزم القضاء من أفطر متعمداً.
ومما يدل على وجوب القضاء على المفطر المتعمد في رمضان ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد ومالك وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 452. فهذا الحديث قد أوجب القضاء على من استقاء أي تعمد إخراج القيء وقد أفطر بغير عذر فهو آثم فيما فعل فكل من أفطر عامداً كان حكمه كحكم من إستقاء. انظر قضاء العبادات ص 225.
وكذلك فإن ذمة هذا المفطر متعمداً مشغولة بفريضة الصيام ولا تبرأ الذمة إلا بالأداء وقد فاته الأداء فلزمه القضاء.
(1/95)
________________________________________
وقد أوجب جماعة من العلماء الفدية بالإضافة للقضاء في حق من دخل عليه رمضان وفي ذمته أيام لم يصمها من رمضان سابق إن كان تأخير القضاء لغير عذر وهذه الفدية تكون بإطعام مسكين عن كل يوم أفطره من رمضان.
قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في من أخر قضاء رمضان بغير عذر حتى دخل رمضان آخر، قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزمه صوم رمضان الحاضر ثم يقضى الأول ويلزمه عن كل يوم فدية وهى مد من طعام وبهذا قال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد والزهري والأوزاعي ومالك والثوري وأحمد وإسحق إلا أن الثوري قال الفدية مدان عن كل يوم وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة والمزني وداود يقضيه ولا فدية عليه] المجموع 6/ 366.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وجملة ذلك أن من عليه صوماً من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان، فما أقضيه حتى يجيء شعبان) متفق عليه. ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة، فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة، فإن أخره عن رمضان آخر نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء وإن كان لغير عذر، فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك، والثوري والأوزاعي والشافعي، وإسحاق وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة: لا فدية عليه لأنه صوم واجب، فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر ولنا ما روي عن ابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة أنهم قالوا: أطعم عن كل يوم مسكيناً ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسنداً من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم
(1/96)
________________________________________
رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء، أوجب الفدية كالشيخ الهرم] المغني 3/ 153 - 154.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجب القضاء فقط سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر ولا تجب الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] نيل الأوطار 4/ 263.
ولكن إن عمل أحد بالقول الثاني فلا بأس للآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم.
وخلاصة الأمر أن على من أفطر عامداً في رمضان أن يقضي الأيام التي أفطرها ولا تبرأ ذمته إلا بذاك.
- - -

قضاء الحامل ما أفطرته من رمضان
تقول السائلة: امرأة أفطرت في رمضان بسبب الحمل وجاء رمضان التالي ولم تقض الأيام التي أفطرتها فماذا يجب عليها؟ وهل تلزمها الفدية مع القضاء؟ وما مقدار الفدية إن وجبت؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم أن يبادر إلى قضاء الصوم إبراءً للذمة، ولأنه لا يعلم ما يحدث له من مرض أو سفر أو موت يمنعه من القضاء فإذا دخل رمضان
(1/97)
________________________________________
التالي ولم يقض ما عليه فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم فقال جمهور العلماء إن كان تأخير القضاء لعذر شرعي كالمرض مثلاً فيجب القضاء فقط.
وإن كان تأخير القضاء لغير عذر فيلزم القضاء والفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم وحجتهم بعض الآثار المنقولة عن بعض الصحابة كابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجب القضاء فقط سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر ولا تجب الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابتعن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب].
فهذه المرأة عليها قضاء الأيام التي أفطرتها من رمضان ولا فدية عليها.
- - -

الحامل والمرضع تقضيان ما أفطرتا من رمضان فقط
يقول السائل: ما المطلوب من المرأة الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان؟
الجواب: اختلف أهل العلم في هذه المسألة اختلافاً كبيراً حتى قال الإمام ابن العربي المالكي: [وأما الحامل والمرضع فالاختلاف فيهما كثير ومتباين] عارضة الأحوذي 3/ 189.
ثم ذكر أربعة أقوال لأهل العلم في المسألة وهي:
(1/98)
________________________________________
1. إن على الحامل والمرضع الفدية فقط ولا قضاء عليهما وهذا منقول عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما.
2. عليهما القضاء فقط ولا فدية وهو قول جماعة من أهل العلم سأذكرهم فيما بعد.
3. عليهما القضاء والفدية وهو قول مجاهد والشافعي في أحد قوليه وأحمد.
4. على المرضع القضاء والفدية وعلى الحامل القضاء فقط وهو قول مالك وقول الشافعي الآخر.
والذي أختاره من هذه الأقوال وأرجحه هو القول الثاني بأن على الحامل والمرضع القضاء فقط ولا فدية عليهما وبهذا قال: الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء والزهري والضحاك والأوزاعي وربيعة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والطبري وأبو ثور وأبو عبيد وغيرهم. انظر الاستذكار لابن عبد البر 10/ 222.
وقال ابن المنذر بعد أن ذكر أقوال العلماء في المسألة: [وبقول عطاء أقول].
قال الإمام البخاري في صحيحه: [وقال الحسن وإبراهيم في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران ثم تقضيان].وعقب الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: [فأما أثر الحسن فوصله عبد بن حميد عن طريق يونس بن حميد عن الحسن هو البصري: قال المرضع إذا خافت على ولدها أفطرت وأطعمت والحامل إذا خافت على نفسها أفطرت وقضت وهي بمنزلة المريض. ومن طريق قتادة عن الحسن: تفطران وتقضيان.
وأما قول إبراهيم وهو النخعي فوصله عبد بن حميد أيضاً من طريق أبي معشر عن النخعي قال: الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وقضتا صوماً] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/ 245 - 246.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [تفطر الحامل والمرضع في رمضان وتقضيان صياماً ولا تطعمان].وروى أيضاً بإسناده عن عكرمة قال: [تفطر
(1/99)
________________________________________
الحامل والمرضع في رمضان وتقضيان صياماً ولا طعام عليهما].وروى أيضاً بإسناده عن الحسن قال: [تقضيان صياماً بمنزلة المريض يفطر ويقضي والمرضع كذلك] المصنف 4/ 218.وهذا القول هو أقوى المذاهب في رأيي من حيث الدليل:
ويدل على ذلك أن الحامل والمرضع حالهما كحال المريض الذي يرجى شفاؤه فتفطران وتقضيان فالحامل لا تبقى حاملاً والمرضع لا تبقى مرضعاً فإذا ولدت الحامل وأرضعت وفطمت ولدها فإنها تقضي ما أفطرت من رمضان تماماً مثل المريض الذي مرض مدة من الزمان ثم كتب الله له الشفاء فإنه يقضي ما أفطره من رمضان.
قال الإمام الأوزاعي: [الحمل والإرضاع عندنا مرض من الأمراض تقضيان ولا إطعام عليهما] الاستذكار 10/ 222.
ومما يدل على هذا ما ورد في الحديث عن أنس بن مالك - رجل من بني عبد الله بن كعب رضي الله عنه: [قال أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: ادن فكل. فقلت: إني صائم. فقال: ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام. واللهِ لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي أن أكون طعمت من طعام النبي صلى الله عليه وسلم] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن ... والعمل على هذا عند أهل العلم. عارضة الأحوذي 3/ 188. وقال العلامة الألباني: [حسن صحيح] انظر صحيح سنن الترمذي 1/ 218. وظاهر حديث أنس الكعبي أن الحامل والمرضع في حكم المسافر فالمسافر إذا أفطر يقضي فقط.
قال الإمام ابن العربي المالكي: [وظاهر حديث أنس الكعبي يقتضي أن يفطرا ويقضيا خاصة لأن الصوم موضوع عنهما كوضعه عن المسافر إلى عدة أخرى .. ] عارضة الأحوذي 3/ 189.
(1/100)
________________________________________
قال أبو بكر الجصاص الحنفي: [ووجه دلالته - أي حديث أنس الكعبي - على ما ذكرنا إخباره عليه الصلاة والسلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر ألا ترى أن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم المرضع والحامل لأن عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره ثبت بذلك أن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر لا فرق بينهما ومعلوم أن وضع الصوم إنما هو على جهة إيجاب قضائه بالإفطار من غير فدية فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما إذ لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وأيضاً لما كانت الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر] أحكام القرآن 1/ 224.
ومما يدل على أن الحامل والمرضع تقضيان فقط قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 184.فهذه الآية الكريمة بينت الحكم في حق المريض والمسافر وأن عليهما القضاء فقط {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وفي حديث أنس الكعبي عطفت الحامل والمرضع على المسافر فالظاهر اتحاد الحكم في حق الثلاثة إلا إذا دل دليل قوي على خلاف ذلك ولم يوجد. انظر إعلاء السنن 9/ 151 - 152.
وقد قال الإمام مالك بعد أن ذكر أثر ابن عمر عندما سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام قال تفطر وتطعم ... الخ. قال مالك: [وأهل العلم يرون عليها القضاء كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}] الموطأ 1/ 254.وقد رجح هذا القول جماعة من أهل العلم منهم
(1/101)
________________________________________
العلامة ولي الله الدهلوي حيث قال: [والظاهر عندي أنهما - الحامل والمرضع - في حكم المريض فيلزم عليهما القضاء فقط] تحفة الأحوذي 3/ 331.
واختارت هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية حيث جاء في فتواها: [إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من الصوم أفطرت وعليها القضاء فقط شأنها في ذلك شأن المريض الذي لا يقوى على الصوم أو يخشى منه على نفسه قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}] فتاوى إسلامية 1/ 396.
واختار هذا القول أيضاً الدكتور يوسف القرضاوي إلا أنه جعله في حق المرأة التي تتباعد فترات حملها كما هو الشأن في معظم نساء زماننا في معظم المجتمعات الإسلامية وخصوصاً في المدن والتي قد لا تعاني الحمل والإرضاع في حياتها إلا مرتين أو ثلاثاً فالأرجح أن تقضي كما هو رأي الجمهور. فقه الصيام ص 74.
- - -

قضاء ما أفطرته الحائض من رمضان
تقول السائلة: إنها تبلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة ولم تقض ما أفطرته من شهور رمضان السابقة بسبب الحيض، لأنها لم تكن تعلم بوجوب القضاء عليها والآن قد عرفت بوجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان فماذا تصنع؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الحائض لا تصوم لأن من شروط الصيام الطهارة من الحيض وقد كنت أظن أن هذا الحكم معروف بين النساء ولكنني علمت من خلال أسئلة بعض النساء أنهن كن يصمن حال الحيض ولا يعرفن أنه لا يجوز للحائض الصوم، ومما يدل على منع الحائض من الصيام ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ... أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم) رواه البخاري ومسلم.
(1/102)
________________________________________
وينبغي أن يعلم ثانياً أن العلماء قد اتفقوا على وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان بسبب الحيض، فقد ورد في الحديث عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) رواه البخاري ومسلم. ومعاذة هي بنت عبد الله العدوية، وهي معدودة في فقهاء التابعين قولها: (أحرورية أنت؟) الحروري منسوب إلى حرورا، بلدة على ميلين من الكوفة، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي رضي الله عنه بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنسبة إليها وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دل عليه القرآن ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً. تحفة الأحوذي 1/ 345.
وينبغي أن يعلم ثالثاً أن العذر بالجهل ليس مقبولاً على إطلاقه عند أهل العلم بل المسألة فيها تفصيل فهنالك أمور من الدين، العلم بها فرض عين ولا يعذر المسلم بجهلها، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/ 140.
والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده
(1/103)
________________________________________
وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/ 42. وقال الإمام النووي: [ ... فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها] المجموع 1/ 42.
فهذا النوع من العلم هو الذي لا يسع المسلم أن يجهله، وهو علم العامة كما قال الإمام الشافعي: [قال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ. قال: ومِثْل ماذا؟ قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه. وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا] الرسالة ص 357 - 359.
(1/104)
________________________________________
وقال جلال الدين السيوطي: [كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم] الموسوعة الفقهية الكويتية 16/ 199.
وما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في هذا القسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة فلم يعتد بصلاته فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم. ويدخل في هذا القسم وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان فهذا الحكم لا تعذر المرأة بالجهل به بشكل عام ما دامت تعيش في ديار الإسلام. وهنالك حالات يعذر فيها المسلم بالجهل كمن يجهل دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد كما ورد في الحديث عن أبي هريرة أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري ومسلم، وكما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أحرم في ملابس مطيبة فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق أو قال
(1/105)
________________________________________
أثر صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ... قال أين السائل عن العمرة اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على المرأة السائلة أن تقضي جميع الأيام التي أفطرتها من رمضانات سابقة وتبقى ذمتها مشغولة بذلك حتى تقضيها ولا فدية عليها، لأن الراجح من أقوال أهل العلم فيمن أخر قضاء ما عليه من رمضان سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر وجوب القضاء فقط ولا تجب عليه الفدية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 184. وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الحنفية ونقل عن إسحاق بن راهويه والحسن البصري والنخعي واختاره الإمام الشوكاني، وإن كان جمهور الفقهاء على خلافه، قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق، والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها، ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] نيل الأوطار 4/ 263.
وخلاصة الأمر أن المرأة الحائض لا يجزئ منها الصيام ولا يجوز لها الإقدام عليه أصلاً ويلزمها قضاء ما أفطرته من رمضان، وأن المسلم لا يعذر بالجهل في الأحكام المعروفة والمشهورة بين المسلمين ويعذر بالجهل بالمسائل الفرعية التفصيلية.
- - -
(1/106)
________________________________________
إكراه الزوجة على الإفطار في نهار رمضان
تقول السائلة: إنها امرأة تصوم رمضان ولكن زوجها لا يصوم ويكرهها على الجماع في نهار رمضان فماذا تصنع؟
الجواب: إن زوجك رجل فاسق ومرتكب للمحرمات فهو لا يصوم ولا يكتفي بذلك، بل يفسد عليك صيامك والواجب عليك ألا تطيعيه فيما يطلب وأن تحاولي الامتناع منه قدر الاستطاعة، فإذا أكرهك إكراهاً شديداً وحصل الجماع، فقد أفطرت ويجب عليك قضاء ذلك اليوم، ولا إثم عليك إن شاء الله تعالى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). رواه الطبراني في المعجم والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
وعلى زوجك أن يبادر إلى التوبة إلى الله عز وجل وأن يعود عن غيه وضلاله وعليه أن يحذر غضب الجبار سبحانه وتعالى ويجب عليك أن تذكريه بالله وتذكريه بحرمة ما يفعل لعله يذكر أو يخشى فيرجع إلى طريق الحق والصواب.
- - -

حكم استئذان المرأة زوجها في صوم القضاء
تقول السائلة: هل يلزم الزوجة استئذان زوجها في صوم ما أفطرته من رمضان، وما الحكم إذا أفطرت أثناء أيام قضاء رمضان، وهل تلزم الكفارة إذا كان الفطر بالجماع، أفيدونا؟
الجواب: القضاء على من أفطر في نهار رمضان واجب شرعاً، يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
(1/107)
________________________________________
طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184.
وينبغي أن يعلم أن قضاء ما أفطره المسلم من رمضان لعذر واجب على التراخي وليس واجباً على الفور، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وجملة ذلك أن من عليه صوماً من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان، فما أقضيه حتى يجيء شعبان) متفق عليه] المغني 3/ 153. وما ذكره الشيخ ابن قدامة المقدسي هو مذهب جماهير أهل العلم أن قضاء ما أفطره من رمضان لعذر فهو على التراخي، وإن كانت المبادرة للقضاء أفضل لعموم النصوص المرغبة في المبادرة إلى الطاعات كما في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} سورة البقرة/148. وقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} سورة آل عمران/133.
وأما إذا كان الفطر لغير عذر فالقضاء على الفور، قال الإمام النووي: [الصوم الفائت من رمضان كالصلاة فان كان معذوراً في فواته كالفائت بالحيض والنفاس والمرض والإغماء والسفر فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة القابلة ... ، وإن كان متعدياً في فواته ففيه الوجهان كالصلاة أصحهما عند العراقيين قضاؤه على التراخي وأصحهما عند الخراسانيين وبعض العراقيين وهو الصواب أنه على الفور، وأما قضاء الحج الفاسد فهل هو على الفور أم التراخي؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب في موضعهما أصحهما على الفور لأنه متعد بالإفساد، وأما الكفارة فان كانت بغير عدوان ككفارة القتل خطأ وكفارة اليمين في بعض الصور فهي على التراخي بلا خلاف لأنه معذور وإن كان متعدياً فهل هي على الفور أم على التراخي فيه وجهان حكاهما القفال والأصحاب أصحهما على الفور] المجموع 3/ 69 - 70.
(1/108)
________________________________________
إذا تقرر هذا فإن المرأة التي عليها قضاء من رمضان ينبغي أن تستأذن زوجها في القضاء ما دام وقت القضاء متسعاً، وهذا خير لها ولزوجها، وأما إذا ضاق وقت القضاء كأن يكون قد بقي من شعبان بعدد الأيام التي أفطرتها من رمضان فلا يلزمها الاستئذان وإذا صامت الزوجة قضاءً لما أفطرت من رمضان فلا يجوز لزوجها أن يلزمها بالفطر، وهذا بخلاف صومها نافلة فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم، وقد حمل أهل العلم هذا الحديث على صوم النافلة قال الإمام النووي في شرح الحديث: [قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين، وهذا النهي للتحريم صرح به أصحابنا، وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل: فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها، فالجواب: إن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة؛ لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وزوجها شاهد) أي مقيم في البلد، أما إذا كان مسافراً فلها الصوم؛ لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 95.
ويؤيد حمل الحديث على غير رمضان ما ورد في رواية الترمذي (عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال (لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوماً من غير شهر رمضان إلا بإذنه) وهو حديث حسن صحيح، كما قال الترمذي، انظر سنن الترمذي 3/ 151.
وأما إذا أفطرت أثناء أيام قضاء رمضان فلا يلزمها إلا قضاء يوم واحد فقط، ولكن يجب أن يعلم أنه لا ينبغي لمن صام قضاءً أن يقطع صومه لغير عذر ويدل على ذلك
(1/109)
________________________________________
ما ورد في الحديث عن أم هانئ قالت: (لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، قالت يا رسول الله: لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها: أكنت تقضين شيئاً قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعاً) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/ 222.
وإذا أفطرت المرأة بالجماع فلا تلزمها الكفارة المذكورة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تتطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: ثم جلس. فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تمر، فقال صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا. قال: أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه البخاري ومسلم. والعَرَق هو القفة والمكتل ويسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مُدَّاً لستين مسكيناً لكل مسكين مُدّ، قاله الإمام النووي. شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 184.
وهذه الكفارة تجب فقط فيمن أفسد صوم رمضان بالجماع على الراجح من أقوال أهل العلم، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء، وقال قتادة: تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها، فوجبت في قضائها كالحج، ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة، كما لو جامع في صيام الكفارة ويفارق القضاء الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له، بخلاف القضاء] المغني 3/ 138 - 139.
(1/110)
________________________________________
وأخيراً أنبه على جواز قضاء ما أفطر من رمضان مفرقاً فلا يشترط التتابع في أيام القضاء، كما وأنه يجوز تأخير القضاء إلى أيام الشتاء، لأن نهارها أقصر فلا حرج في ذلك. كما وأن الأفضل في حق من كان عليه قضاء أيام من رمضان أن يقضيها أولاً ثم يصوم ستاً من شوال فإن القضاء واجب وصيام الستة سنة، والواجب مقدم على السنة.
وخلاصة الأمر أن المرأة تستأذن زوجها في صوم القضاء ما دام وقت القضاء واسعاً، ولا تستأذنه إن ضاق وقت القضاء، وإن أفطرت في يوم القضاء لزمها قضاء يوم واحد فقط، وإن كان الفطر بالجماع فلا كفارة في ذلك.
- - -

قضاء الصوم عن الميت
يقول السائل: إذا توفي شخص وكان عليه صيام أيام من رمضان لم يصمها بسبب مرضه فهل يجوز لأولاده صيام تلك الأيام عنه؟
الجواب: لا يصح صيام الأولاد عن أبيهم الذي مات وعليه صيام أيام من رمضان لم يصمها بسبب مرضه لأن صوم الفرض عبادة بدنية محضة لا تدخلها النيابة، ولأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة فكما لا يصلي أحد عن أحد فكذلك الصوم لا يصوم أحد عن أحد صوم رمضان.
ويجوز أن يصام عن الميت صوم النذر لأن النذر إلتزام في الذمة بمنزلة الدين فيجوز أن يقوم ولي الميت بالقضاء عنه كما يقضي الدين عنه وعلى هذا يحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم.
وعلى أولاد هذا الشخص أن يطعموا مسكيناً عن كل يوم أفطره والدهم الذي مات مريضاً ويدل على ذلك (ما روت عمرة أن أمها ماتت وعليها من رمضان فقالت
(1/111)
________________________________________
لعائشة: رضي الله عنها: أقضيه عنها؟ قالت عائشة: لا بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين). أخرجه الطحاوي وهو أثر صحيح.
وكذلك ما ورد عن ابن عباس قال: (إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه) رواه أبو داود بسند صحيح كما قال العلامة الألباني.
وهذا القول الذي ذكرته هو قول السيدة عائشة رضي الله عنها وابن عباس، وبه قال الإمام احمد بن حنبل واختاره جماعة من المحققين.

- - -

الفرق بين الفدية والكفارة
يقول السائل: ما الفرق بين الفدية والكفارة في الصيام ومتى تلزم كل منهما؟
الجواب: كثير من الناس يلتبس عليه الفرق بين الفدية والكفارة في الصوم.
والفرق بينهما أن الفدية هي المذكورة في قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184.
وهذه الآية في حق الشيخ الكبير ومن في حكمه ممن لا يستطيع الصوم فإنه يفطر ويخرج عن كل يوم أفطره فدية طعام مسكين. ويلحق بالشيخ الكبير المرأة الكبيرة الهرمة والمريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه.
وألحق بعض العلماء بهم الحامل والمرضع التي تخاف على ولدها تقضي وتطعم مسكيناً ولكن الراجح من أقوال العلماء أن الحامل والمرضع تقضيان فقط.
(1/112)
________________________________________
وقال جمهور الفقهاء من كان عليه قضاء من رمضان فلم يقضه حتى دخل رمضان التالي فعليه القضاء والفدية وقال الحنفية يلزمه القضاء بدون فدية وهو أرجح قولي العلماء في المسألة.
ومقدار الفدية مُدُّ بِمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم ويساوي في زماننا هذا نصف كيلوغرام ويزيد قليلاً عليه (544 غرام) وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
وأما الكفارة فهي التي ورد ذكرها في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تتطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: ثم جلس. فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تمر، فقال صلى الله عليه وسلم: تصدق بهذا. قال: أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه البخاري ومسلم. والعَرَق هو القفة والمكتل ويسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مُدَّاً لستين مسكيناً لكل مسكين مُدّ، قاله الإمام النووي. شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 184.
وهذه الكفارة لها خصال ثلاث:
الأولى: عتق رقبة.
والثانية: صيام شهرين متتابعين دون أن يكون بينهما فاصل إلا من عذر شرعي كالمرض.
والثالثة: إطعام ستين مسكيناً لكل منهم مُدٌّ بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام البغوي: [وفيه -أي حديث أبي هريرة- دلالة من حيث الظاهر أن طعام الكفارة مُدُّ لكل مسكين لا يجوز أقل منه ولا يجب أكثر لأن خمسة عشر صاعاً إذا
(1/113)
________________________________________
قسمت بين ستين مسكيناً يخص كل واحد منهم مُدٌّ وإلى هذا ذهب الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد] شرح السنة 6/ 285.
والكفارة خاصة عند جمهور أهل العلم بمن جامع زوجته في نهار رمضان متعمداً فقط
وقال بعض أهل العلم: تجب الكفارة في حق من تعمد انتهاك حرمة صوم رمضان سواء كان ذلك بأكل أو شرب أو جماع. وقول الجمهور أرجح.
والكفارة واجبة عند جمهور العلماء على الترتيب فيبدأ بالعتق أولاً ونظراً لعدم وجود رقيق في عصرنا الحاضر فيبدأ بصوم ستين يوماً متتابعةً لا يصح قطعها إلا بعذر شرعي. فإن كان عاجزاً عن الصيام فإنه يطعم ستين مسكيناً.
قال الإمام البغوي: [وكفارة الجماع مرتبة مثل الظهار فعليه عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع فعليه أن يطعم ستين مسكيناً هذا قول أكثر العلماء .. ] شرح السنة 6/ 285.
ومما يدل على الترتيب في الكفارة ما جاء في رواية لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (أعتق رقبة. قال: لا أجد. قال: صم شهرين متتابعين. قال: لا أطيق. قال: أطعم ستين مسكيناً. قال: لا أجد ... ) رواه ابن ماجة وقال العلامة الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/ 280.
قال ابن تيمية الجَدُّ رحمه الله: [وفيه - أي الرواية السابقة للحديث - دلالة قوية على الترتيب] نيل الأوطار 4/ 240.
وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم أن الكفارة على الترتيب وقد رجحه ابن قدامة المقدسي في المغني 3/ 140 والشوكاني في نيل الأوطار 4/ 240.
ويجب على من أفطر بالجماع في نهار رمضان بالإضافة للكفارة أن يقضي ذلك اليوم لأنه قد ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة السابق قول النبي صلى الله عليه
(1/114)
________________________________________
وسلم للرجل: (وصم يوماً واستغفر الله) وقد صححها العلامة الألباني في كتابه إرواء الغليل 4/ 90 - 93.
قال الإمام البغوي: [وقوله: (صم يوماً واستغفر الله) فيه بيان أن قضاء ذلك اليوم لا يدخل في صيام الشهرين عن الكفارة وهو قول عامة أهل العلم غير الأوزاعي] شرح السنة 6/ 288 - 289.
فإن عجز عن الكفارة بخصالها الثلاث لم تسقط عنه وتبقى ديناً في ذمته على الراجح من أقوال العلماء إلى أن تتيسر له الكفارة فيكفر.
قال الإمام النووي: [فإن عجز عن الخصال الثلاث فللشافعي قولان أحدهما: لا شيء عليه وإن استطاع بعد ذلك فلا شيء عليه ... والقول الثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياساً على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره.
وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمره بإخراجه فدل على ثبوتها في ذمته وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه كان محتاجاً ومضطراً إلى الإنفاق على عياله في الحال والكفارة على التراخي فأذن له في أكله وإطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته .. ] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 182 - 183.
وينبغي أن يعلم أن الكفارة تجب في حالة إفساد صوم رمضان فقط دون غيره من أنواع الصوم الأخرى كصوم القضاء وصوم النذر وصوم النافلة وصوم الكفارة فإن أفسد صوماً منها فعليه القضاء فقط.
(1/115)
________________________________________
قال الشيخ ابن قدامة: [ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء] المغني 3/ 138.
- - -

مقدار إطعام المسكين في الفدية
يقول السائل: ما هو مقدار طعام المسكين المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، أفيدونا؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآيتان 183 - 184.
وقد اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هل هذه الآية منسوخة أم أنها محكمة؟ وأرجح أقوال العلماء أن الآية الكريمة ليست منسوخة، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعما مكان كل يوم مسكيناً) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/ 225.
وقد روى الإمام الطبري بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: يتجشمونه يتكلفونه.
وروى الإمام الطبري بإسناده أيضاً عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق فيفطر ويطعم كل يوم مسكيناً.
(1/116)
________________________________________
وروى الإمام الطبري بإسناده أيضاً، عن ابن عباس قال: {الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} يتكلفونه، فدية طعام مسكين واحد، ولم يرخص هذا إلا للشيخ الذي لا يطيق الصوم، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى ثم قال الطبري: [هذا عن مجاهد] تفسير الطبري 3/ 431.
وبناءً على أن الآية محكمة يكون معناها وعلى الذين يطيقون الصيام بصعوبة بالغة، أي يلاقون جهداً ومشقة وتعباً في الصوم، فلهم أن يفطروا وعليهم إطعام مسكين عن كل يوم يفطرونه.
قال الإمام البخاري: [وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كبر عاماً أو عامين كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/ 225.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر، وأطعم لكل يوم مسكيناً. وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم، ويشق عليهما مشقةً شديدةً فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكيناً، وهذا قول علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير وطاووس وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي. وقال مالك: لا يجب عليه شيء، لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت، وللشافعي قولان كالمذهبين، ولنا الآية، وقول ابن عباس في تفسيرها: نزلت رخصة للشيخ الكبير، ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء .. ] المغني 3/ 151.
إذا تقرر هذا فإن الواجب على الذي لا يطيق الصيام كالرجل الهرم وكذا المرأة الهرمة، إطعام مسكين عن كل يوم من رمضان، ويلحق بهما المريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه كالمصاب بالسرطان وغيره من الأمراض التي لا يرجى شفاؤها.
(1/117)
________________________________________
وقد اختلف أهل العلم في مقدار طعام المسكين المذكور في الآية الكريمة، فقد ورد عن جماعة من الصحابة كعمر وابنه عبد الله وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن ذلك يقدر بمدٍ من الحنطة عن كل يوم من رمضان، فقد روى الدارقطني بإسناده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أطعم عن كل يوم مداً مداً).
وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مداً من حنطة لكل مسكين).
وروى عبد الرزاق في المصنف عن سعيد بن المسيب قال: هي في الشيخ الكبير، إذا لم يطق الصيام، افتدى مكان كل يوم، إطعام مسكين مداً من حنطة).
وروى عبد الرزاق في المصنف عن عكرمة بن عمار قال: سألت طاووساً عن أمي وكان بها عطاش – مرض - فلم تستطع أن تصوم رمضان، فقال: تطعم كل يوم مسكيناً ... ).
ووردت آثار أخرى عن بعض الصحابة والتابعين قدروا الإطعام فيها بمدين، وفي بعضها بصاع أي أربعة أمداد، وأرجحها التقدير الأول، والذي يظهر لي أن المد كان يكفي المسكين طعاماً ليومه، ويؤيد ذلك أن مقدار الإطعام في كفارة اليمين هو مد لكل مسكين من المساكين العشرة كما هو قول جمهور أهل العلم، فقد ذكر مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مداً من حنطة.
وروى مالك عن سليمان بن يسار أنه قال: [أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئاً عنهم] قال الحافظ ابن عبد البر: [والمد الأصغر عندهم مد النبي صلى الله عليه وسلم] الاستذكار 15/ 87 - 88. والمقصود بالطعام في الكلام السابق أي يطعم من غالب قوت أهل البلد، وكانوا
(1/118)
________________________________________
يطعمون الحنطة والشعير والتمر، وأما في زماننا فلأرز والطحين هما غالب قوت الناس.
وينبغي التنبيه على أنه يجوز إخراج القيمة بدلاً عن الإطعام، أي إعطاء المسكين نقوداً بقيمة الطعام وذلك قياساً على جواز إخراج القيمة في الزكاة وفي صدقة الفطر والكفارات وهو مذهب الحنفية ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو الذي يحقق مصلحة الفقير وخاصة في هذا الزمان وهو قول وجيه تؤيده الأدلة الكثيرة ومنها أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج. وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر أثر معاذ السابق واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/ 54. ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته وكذلك فإن سد حاجة المسكين تتحقق بالنقود أكثر من تحققها بالأعيان وخاصة في زماننا هذا لأن نفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأسرته.
وأخيراً أنبه على جواز إخراج هذه الفدية في أول رمضان أو في آخره أو بعد رمضان حسب الوسع والطاقة، ويجوز إعطاؤها لمسكين واحد أو أكثر، والأفضل دفعها لأسرة فقيرة محتاجة.
(1/119)
________________________________________
وخلاصة الأمر أن إطعام المسكين المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} يقدر بمدٍ وهو ربع صاع والصاع يساوي 2176 غراماً وربعه المد ويساوي 544 غراماً، ويجوز إخراج القيمة بدلاً من الطعام على الراجح من أقوال العلماء. وينبغي أن لا تقل القيمة عن سبعة شواقل في زماننا هذا.
- - -

أكل الصائم ناسياً
يقول السائل: ما حكم من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم وهل هناك فرق بين أن يكون ذلك في صوم فرض أو نافلة وهل يشرع لمن رآه يأكل أو يشرب أن يذكره؟
الجواب: لا شك أن النسيان من طبيعة الإنسان وهو من الأمور الخارجة عن إرادته وإن من يسر الشريعة الإسلامية أنها لا تكلف الإنسان حال نسيانه يقول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} والنسيان ليس من كسب القلوب وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وغيرهم.
والمقصود بالرفع هنا هو حكم هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث والحكم المرفوع هو حكم الدنيا وحكم الآخرة وهذا الكلام ينطبق على من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فلا إثم عليه ولا قضاء عليه وليتم صومه وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم.
(1/120)
________________________________________
ورود في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح كلهم ثقات كما نقله ابن الجوزي في التحقيق 2/ 87.
ويهذا يظهر أن من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فعليه أن يتم صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة وهذا الحكم في مطلق الصوم فرضاً كان أو نفلاً ولا وجه لمن فرق بين صوم الفريضة وصوم النافلة في هذا الحكم وكذلك لا فرق بين أن يأكل الصائم أو يشرب قليلاً أو كثيراً فالحكم لا يختلف ما دام أن الأمر وقع نسياناً فلا حرج في ذلك.
فقد ورد في الحديث عن أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق رضي الله عنها: (أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ومعه ذو اليدين -صحابي- فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً -عظم عليه لحم- فقال: يا أم إسحاق أصيبي من هذا. فذكرت أني كنت صائمة فرددت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قالت: كنت صائمة فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك] رواه أحمد والطبراني في الكبير كما قال الهيثمي.
ويشرع في حق من رأى إنساناً يعلم أنه صائم فرآه يأكل أو يشرب أن يذكره بصومه لأن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
ويتأكد هذا التذكير إذا كان الصائم يأكل أو يشرب في رمضان نسياناً فعليه أن يذكره لأن الأكل والشرب في نهار رمضان من المنكرات والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع
(1/121)
________________________________________
فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. إلا أن ذلك معفو عنه لأنه وقع نسياناً ووقوعه نسياناً من الصائم لا يعفي من رآه من تذكيره.
- - -

حكم تذكير الناسي في الصيام
يقول السائل: ما قولكم فيما يقوله بعض الناس إنهم إذا رأوا شخصاً يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسياً فلا يذكرونه باعتبار أن ذلك الطعام والشراب رزق ساقه الله إليه؟
الجواب: إن ما قاله هؤلاء إنما هو فهم غير صحيح للحديث النبوي وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم. فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن الناسي في رمضان إن أكل أو شرب فيلزمه إتمام الصوم ولا يقطعه، وليس عليه قضاء ذلك اليوم، حيث إن الله قد ساق له رزقاً، فالأكل والشرب نسياناً أثناء الصوم لا يؤثر على الصوم؛ لأن الناسي قد رفع عنه قلم التكليف لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال قد فعلت) رواه مسلم.
(1/122)
________________________________________
ولما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
وورد في رواية أخرى للحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. سنن الدارقطني 2/ 178.
ولما ورد في الحديث عن أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق رضي الله عنها: (أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ومعه ذو اليدين -صحابي- فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً - عظم عليه لحم - فقال: يا أم إسحاق أصيبي من هذا. فذكرتُ أني كنت صائمة فرددت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قالت: كنتُ صائمةً فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك] رواه أحمد والطبراني في الكبير كما قال الهيثمي. وغير ذلك في الأدلة.
وأما قول بعض الناس بعدم تذكير الناسي في نهار رمضان بحجة أن ذلك الطعام والشراب رزق ساقه الله إلى الناسي فغير صحيح لما يلي:
أولاً: لأن الأكل أو الشراب في نهار رمضان محرمٌ شرعاً ومنكرٌ يجب على من رآه أن ينكره وإن كان الناسي معذوراً عند الله سبحانه وتعالى لما سبق من الأدلة. فتذكيره بالصيام أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر وهو الأكل في نهار رمضان.
ثانياً: إن ترك الناسي مستمراً في أكله وشرابه جهاراً وعدم تذكيره بالصيام فيه فتح باب شر على الناس فيجترئون على المجاهرة بالفطر في رمضان.
(1/123)
________________________________________
ثالثاً: إن تذكير الناسي واجب لأنه داخل في باب التعاون على البر والتقوى لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة الآية 2.
رابعاً: يمكن أن تقاس هذه المسألة -وهي تذكير الناسي في الصيام- على تذكير الناسي في الصلاة، فقد شرع التسبيح في الصلاة لتذكير الإمام إذا سها في صلاته. فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم ... فلما سلَّم قيل له يا رسول الله: أحدث في الصلاة شيء؟ قال وما ذاك؟ قالوا صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلَّم فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيءٌ لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين) رواه البخاري ومسلم.
ومن المستظرفات في هذا الباب ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني مما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: (أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: أصبحت صائماً فنسيت فطعمت، قال لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت، قال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك. ثم قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام). فتح الباري 4/ 201.
وخلاصة الأمر أنه يجب تذكير الناسي في نهار رمضان ولا يصح القول بعدم تذكيره بحجة أن ذلك الطعام والشراب رزق ساقه الله إليه.
- - -
(1/124)
________________________________________
المشقة المبيحة للفطر
يقول السائل: ما هي المشقة التي تبيح الفطر في رمضان؟
الجواب: يظن بعض الناس أن اشتغالهم بالأعمال التي فيها شيء من المشقة يبيح لهم الفطر في رمضان كالخباز الذي يقف أمام بيت النار طوال النهار والحداد والحجار ولا بد من بيان متى يجوز الفطر في رمضان بسب المشقة فأقول:
إن الشريعة الإسلامية جاءت برفع الحرج ودفع المشقة عن الناس، بل إن هذا أصل من أصول الشريعة الإسلامية وقد قامت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على اعتبار هذا الأصل يقول الله سبحانه وتعالى: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 6.
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} سورة الحج الآية 78.
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة البقرة الآية 185.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا) رواه البخاري.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لمّا بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم، وغير ذلك من النصوص الشرعية.
(1/125)
________________________________________
ومن خلال هذه النصوص نرى أن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسهولة رفعت الحرج ودفعت المشقة عن الناس وليس معنى هذا أن يتحلل الناس من الأحكام الشرعية لأدنى مشقة تلحق بهم فإنه لا يكاد عمل في الدنيا يخلو من نوع من المشقة وقد جعل العلماء المشقة على نوعين:
1. مشقة معتادة يتحملها الناس عادة ولا تخلو منها التكاليف الشرعية كالوضوء بالماء البارد وكالصوم في اليوم الحارّ والحج في أشهر الصيف وغيرها فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 2/ 7.
2. ومشقة غير معتادة لا يستطيع الناس أن يداوموا عليها باستمرار كالوصال في الصوم وقيام الليل كله باستمرار ونحو ذلك.
فهذه المشاق لا يجوز شرعاً للمكلف أن ي***ها على نفسه فيقع في الحرج والمشقة، وإن حصلت في التكاليف الشرعية فيجوز حينئذ الأخذ بالرخصة الشرعية.
وبناءً على ما تقدم أقول لا يجوز للإنسان أن يفطر في رمضان إلا إذا لحقه أذى شديد بسبب الصوم، فالمريض الذي منعه الأطباء من الصوم لأن الصوم يزيد المرض أو يؤخر الشفاء يجوز له الفطر، وأما أصحاب المهن كالنجار والحداد والخباز والحجار فعليهم أن يصوموا، ولا يجوز لهم الفطر؛ لأن هؤلاء قد اعتادوا على مهنتهم وصارت حياتهم منسجمة تماماً مع أعمالهم، فالخباز الذي يقف أمام بيت النار يومياً صار ذلك بالنسبة له شيء عادي فلا يجوز له أن يفطر.
ومن المعلوم أن صيام رمضان فرض لا يجوز للمكلف تركه إلا لعذر شرعي، والذين يدّعون أن أعمالهم شاقة بإمكانهم أن يأخذوا إجازة من عملهم في شهر رمضان، أو أن يبحثوا عن أعمال أخرى لا مشقة فيها، فإن لم يتيسر لهم ذلك واضطروا للعمل
(1/126)
________________________________________
كما يضطر الإنسان إلى أكل الميتة، فإن عليهم أن يصوموا فإذا شعروا بالحرج والضيق من الصوم أفطروا ثم أمسكوا بقية يومهم وعليهم القضاء فيما بعد.
قال الله جل جلاله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} سورة الطلاق الآيتان2 - 3.
- - -

المرض المبيح للفطر في رمضان
يقول السائل: ما هو المرض الذي يبيح الفطر في رمضان؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184.
وقد أجمع أهل العلم على أن المرض في الجملة عذر يبيح الفطر كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 3/ 155.
ولكن العلماء اختلفوا في تحديد طبيعة المرض المبيح للفطر وأرجح الأقوال في المسألة هو قول من قال هو كل مرض يزيد بالصوم أو يخشى تأخر الشفاء معه بالصوم فهذان يجيزان الفطر في رمضان. وأما القول بأن مطلق المرض يبيح الفطر فقول غير مسلَّم فهناك كثير من الأمراض والأوجاع لا تؤثر على الصائم كمن به صداع أو ألم في يده ورجله أو نحو ذلك فمن كان به شيء من ذلك فلا يجوز له الفطر. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه. قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟ وحكي عن بعض السلف: أنه أباح الفطر بكل مرض
(1/127)
________________________________________
حتى من وجع الإصبع والضرس لعموم الآية فيه ولأن المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فكذلك المريض]. ثم قال ابن قدامة: [والمرض لا ضابط له فإن الأمراض تختلف منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الإصبع والدمل والقرحة اليسيرة والجرب وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطاً وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره] المغني 3/ 155 - 156.
وقال القرطبي: [وقال جمهور العلماء إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده يصح له الفطر قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به] تفسير القرطبي 2/ 276.
وقال الإمام النووي: [ ... ثم كون شرط المرض مبيحاً أن يجهده الصوم معه فيلحقه ضرر يشق احتماله] الروضة 2/ 234 - 235.
وقال الإمام النووي في موضع آخر: [المريض العاجز عن الصوم لمرض لا يرجى زواله لا يلزمه الصوم في الحال ويلزمه القضاء لما ذكره المصنف هذا إذا لحقه مشقة ظاهرة بالصوم ولا يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم بل قال أصحابنا: شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها، قالوا وهو على التفصيل السابق في باب التيمم قال أصحابنا وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة لم يجز له الفطر بلا خلاف عندنا خلافاً لأهل الظاهر] المجموع 6/ 258.
وقال الكاساني: [أما المرض فالمرخص منه هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم وإليه وقعت الإشارة في الجامع الصغير فإنه قال في رجل خاف إن لم يفطر تزداد عيناه وجعاً أو حُمَّاه شدة أفطر وذكر الكرخي في مختصره أن المرض الذي يبيح الإفطار هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة كائناً ما كانت العلة.
(1/128)
________________________________________
وروري عن أبي حنيفة أنه إن كان بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعداً فلا بأس بأن يفطر والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب والوجوب لا يبقى في هذه الحالة وأنه حرام فكان الإفطار مباحاً بل واجباً].
ثم قال الكاساني: [وكذا مطلق المرض ليس بسبب للرخصة لأن الرخصة بسبب المرض والسفر لمعنى المشقة بالصوم تيسيراً لهما وتخفيفاً عليهما على ما قاله الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة البقرة الآية 185 ومن الأمراض ما ينفعه الصوم ويخففه ويكون الصوم على المريض أسهل من الأكل بل الأكل يضره ويشتد عليه ومن التعبد الترخص بما يسهل على المريض تحصيله والتضييق بما يشتد عليه المرض] بدائع الصنائع 2/ 245 - 246.
[وبعد هذا العرض لإقوال العلماء فالصواب من القول في ذلك عندنا أن المرض الذي أباح الله تعالى الإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهداً غير محتمل فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر فإن لم يكن مأذوناً له في الإفطار فقد كلف عسراً ومنع يسراً وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة البقرة الآية 185.
وأما من كان الصوم غير جاهده فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم فعليه أداء فرضه. قلت والذي يظهر لي من أدلة الكتاب والسنة: أن كل مرض يضر صاحبه بالصوم سواء كان بزيادة المرض أو بتباطؤ برئه فإنه يباح له الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر.
أما إذا قدر المريض على الصوم بغير جهد ولا مشقة تلحقه من أجل مرضه ولا يخشى أن يزيد الصيام في مرضه فعليه أن يصوم لأن مطلق المرض ليس سبباً للرخصة
(1/129)
________________________________________
على الصحيح كما أن المسافر لا يباح له الفطر إذا كان سفره دون مسافة قصر فالرخصة بسبب المرض والسفر لمعنى المشقة بالصوم تيسيراً لهما وتخفيفاً عليهما كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة البقرة الآية 185.
ومن الأمراض ما ينفعه الصوم ويكون الصوم علاجاً له أو مفيداً فيه ويكون الصيام على المريض أسهل من الأكل بل الأكل قد يضره ويشتد عليه كمرض التخمة والإسهال ونحو ذلك.
ويدل على أن الرخصة في الإفطار للمريض متعلقة بخوف الضرر ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم) ومعلوم أن الرخصة للحامل والمرضع في الإفطار موقوفة على خوف الضرر على أنفسهما أو على ولديهما وإن لم تكونا مريضتين ... والمريض أيضاً أبيح له الإفطار لخوف الضرر فمتى خاف الضرر جاز له الفطر والله أعلم] أحكام المريض ص94 - 95.
وينبغي التنويه إلى أن المرض الذي يبيح الفطر يعود تقديره إلى المريض نفسه أو إخبار الطبيب الثقة في علمه وإن كان غير مسلم.
قال الدكتور يوسف القرضاوي عن ذلك: [وإنما يعرف ذلك بغلبة الظن فهي كافية في الأحكام العملية وغلبة الظن تعرف هنا بأمرين: إما التجربة - تجربته هو - بأن يكون جرب الصوم يوماً أو أكثر فشق عليه أو زاد وجعه أو تجربة غيره ممن يثق به وحاله كحاله ممن يعاني نفس المرض. وإما بإخبار طبيب مسلم ثقة في دينه ثقة في طبه بأن يكون من أهل الاختصاص في هذا المرض فلا يكفي أن يكون طبيباً وماهراً بل لا بد ان يكون مختصاً فقد عرف عصرنا التخصص الدقيق في الطب إلى حد يجعل بعض الأطباء الحاذقين أشبه بالعوام في الاختصاصات الدقيقة الأخرى] فقه الصيام ص66.
(1/130)
________________________________________
وأخيراً فعلى المريض الذي يجوز له الفطر أن يأخذ بالرخصة فيفطر، يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} سورة البقرة الآية 185. وجاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن أن تؤتى معصيته) رواه أحمد وفي رواية أخرى: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) وهو حديث صحيح بروايتيه كما فصل ذلك العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/ 9 - 13.
- - -

الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض
يقول السائل: من هو الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض في رمضان؟
الجواب: الأصل في الطبيب الذي يقبل قوله إذا أخبر المريض أن يفطر في رمضان هو الطبيب المسلم الثقة الحاذق في الطب وكذا إذا أخبر هذا الطبيب بأن المريض ممنوع من استعمال الماء لمرضه فيجوز له التيمم أو أخبره بأن عليه أن يصلي قاعداً في الفريضة ونحو ذلك من المسائل.
وقد قال جماعة من الفقهاء بأن الإسلام شرط في هذا الطبيب مع كونه حاذقاً، فلا يقبل قول الطبيب غير المسلم قال الإمام النووي: [قال أصحابنا يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصاً في التيمم وأنه على الصفة المعتبرة على معرفة نفسه إن كان عارفاً وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عدل فان لم يمكن بهذه الصفة لم يجز اعتماده] المجموع 2/ 286. وقال الشيخ البهوتي الحنبلي: [(وإذا قال طبيب) سمي بذلك لفطنته وحذقه (مسلم ثقة) أي عدل ضابط فلا يقبل خبر كافر ولا فاسق، لأنه أمر ديني، فاشترط له ذلك كغيره من أمور الدين (حاذق فطن لمريض:
(1/131)
________________________________________
إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك فله) أي المريض (ذلك) أي الصلاة مستلقياً (ولو مع قدرته على القيام)] كشاف القناع عن متن الإقناع.
ومن الفقهاء من أجاز قبول قول الطبيب غير المسلم إذا كان حاذقاً في الطب وهذا أرجح قولي الفقهاء في المسألة وفيه نوع من التيسير على الناس وخاصة في بلادنا حيث إن كثيراً من الناس يتعالجون عند أطباء غير مسلمين، فإذا كان الطبيب غير المسلم حاذقاً وماهراً في تخصصه فيجوز للمسلم أن يقبل قوله في قضايا الإفطار في رمضان وغيرها.
قال الشيخ ابن مفلح الحنبلي: [وقال الشيخ تقي الدين -أي الشيخ ابن تيمية-: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيراً بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطب كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله كما قال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلاً مشركاً هادياً خريتاً والخريت الماهر بالهداية وائتمنه على نفسه وماله وكانت خزاعة عيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - أي موضع سره وأمانته - مسلمهم وكافرهم، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب الحارث بن كلدة وكان كافراً، وإذا أمكنه أن يستطب مسلماً فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي أو استطبابه فله ذلك ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسناً فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}. الآداب الشرعية 2/ 441 - 442. والحديث الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في حادثة الهجرة النبوية هو ما رواه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت واستأجر
(1/132)
________________________________________
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث) والخريت هو الماهر في الدلالة على الطريق.
وقال العلامة ابن القيم معلقاً على استئجار المشرك في حادثة الهجرة: [في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الديلي هادياً في وقت الهجرة، وهو كافر دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والحساب والعيوب ونحوها ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من مجرد كونه كافراً ألا يوثق به في شيء أصلاً، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة] بدائع الفوائد 3/ 208.
والحديث الثاني الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو ما رواه أبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال مرضت مرضاً أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي فقال إنك رجل مفئود ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن) قال صاحب عون المعبود [(مفئود): اسم مفعول مأخوذ من الفؤاد وهو الذي أصابه داء في فؤاده وأهل اللغة يقولون الفؤاد هو القلب، وقيل هو غشاء القلب، أو كان مصدورا فكنى بالفؤاد عن الصدر لأنه محله قاله القاري ... قوله (ثم ليلدك بهن): من اللدود وهو صب الدواء في الفم أي ليجعله في الماء ويسقيك] والحارث بن كلدة الثقفي من أشهر أطباء العرب في الجاهلية وأدرك الإسلام واختلف في إسلامه ولكن لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يتداوى عنده لم يكن مسلماً حينذاك.
وقال الشيخ ابن مفلح الحنبلي أيضاً: [وذكر أبو الخطاب في حديثه صلح الحديبية وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عيناً له من خزاعة وقبوله خبره، إن فيه دليلاً
(1/133)
________________________________________
على جواز قبول المتطبب الكافر فيما يخبر به عن صفة العلة ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه وكان غير مظنون به الريبة] الآداب الشرعية 2/ 442.
وقال الرحيباني الحنبلي: [وسن فطر وكره صوم (لخوف مريض وحادث به في يومه ضرراً بزيادته أو طوله أي المرض ولو بقول طبيب غير مسلم ثقة] مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى.
وقال الشيخ النفراوي المالكي: [الخوف المجوز للفطر هو المستند صاحبه إلى قول طبيب ثقة حاذق أو لتجربة من نفسه] الفواكه الدواني.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [ذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون الإِسلام، وقال: متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً. واستدلُّوا لذلك: بأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بقول الكافر حال ائتمانه؛ لأنه وَثِقَ به فقد استأجرَ في الهجرةِ رَجُلاً مشركاً مِن بني الدِّيلِ، يُقال له: عبدُ الله بن أُريقط ليدلَّه على الطريق مِن مكَّة إلى المدينة، مع أنَّ الحالَ خطرةٌ جداً أن يعتمد فيها على الكافر، لأن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر حتى جعلوا لمن جاء بهما مئتي بعير، ولكن لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل أمين، وإن كان كافراً ائتمنه ليدله على الطريق. فأخذ العلماء القائلون بأن المدار على الثقة أنه يقبل قول الطبيب الكافر إذا كان ثقة، ونحن نعلم أن من الأطباء الكفار من يحافظون على صناعتهم ومهنتهم أكثر مما يحافظ عليها بعض المسلمين لا تقرباً إلى الله أو رجاء لثوابه، ولكن حفاظاً على سمعتهم وشرفهم. فإذا قال طبيب غير مسلم ممن يوثق بقوله لأمانته وحذقه: إنه يضرك أن تصلّي قائماً ولا بد أن تصلّي مستلقياً فله أن يعمل بقوله، ومن ذلك أيضاً لو قال له الطبيب الثقة: إن الصوم يضرك أو يؤخر البرء عنك فله أن يفطر بقوله. وهذا هو القول الراجح لقوة دليله وتعليله.] الشرح الممتع 4/ 482 - 483.
(1/134)
________________________________________
وخلاصة الأمر أنه يقبل قول الطبيب المسلم الثقة المتخصص في الأعذار التي تبيح الفطر في رمضان وكذلك يقبل قول الطبيب غير المسلم المتخصص فيجوز للمريض أن يأخذ بقولهما فيفطر في رمضان، ولكن يجب الحذر من الأخذ بأقوال الأطباء المستهترين بالدين ممن لا يصلون ولا يصومون فهؤلاء ليسوا من الثقات فلا تقبل أقوالهم في المسائل الدينية.
- - -

الخطأ في الفطر
يقول السائل: إنه أفطر في أحد أيام رمضان بناءً على أذان المؤذن في الإذاعة ثم تبين له أن ذلك الأذان كان في دولة أخرى وأنه أفطر قبل أهل بلده، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: يلزم هذا الشخص أن يقضي يوماً بدل اليوم الذي أفطره خطأً حيث إنه ظن أن أذان المغرب كان من الإذاعة في بلده ثم ظهر له أن الأذان كان في دولة مجاورة، أي أن هذا الشخص أفطر قبل الوقت الشرعي للإفطار فيلزمه القضاء على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. فقد روى في البخاري بسنده عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام فأمروا بالقضاء قال لا بد من قضاء وقال معمر سمعت هشاماً لا أدري أقضوا أم لا؟)
قال الحافظ ابن حجر: [وقد اختلف في هذه المسألة فذهب الجمهور إلى إيجاب القضاء، واختلف عن عمر فروى ابن أبي شيبة وغيره من طريق زيد بن وهب عنه ترك القضاء، ولفظ معمر عن الأعمش عن زيد (فقال عمر: لم نقض والله ما يجانفنا
(1/135)
________________________________________
الإثم) وروى مالك من وجه آخر عن عمر أنه قال لما أفطر ثم طلعت الشمس (الخطب يسير وقد اجتهدنا) وزاد عبد الرزاق في روايته من هذا الوجه (نقضي يوماً) وله من طريق علي بن حنظلة عن أبيه نحوه، ورواه سعيد بن منصور وفيه (فقال من أفطر منكم فليصم يوماً مكانه) وروى سعيد بن منصور من طريق أخرى عن عمر نحوه. وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن وبه قال إسحاق وأحمد في رواية ... ، ويرجح الأول أنه لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا] فتح الباري 4/ 255.
وذكر مالك في الموطأ (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين طلعت الشمس فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا) قال مالك يريد بقوله (الخطب يسير) القضاء فيما نرى والله أعلم وخفة مؤونته ويسارته يقول نصوم يوماً مكانه.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وروى الثوري عن جبلة بن سحيم عن علي بن حنظلة عن أبيه: أنه شهد عمر ... فذكر القصة وقال: يا هؤلاء! من كان أفطر فإن القضاء يوم يسير ومن لم يكن أفطر فليتم صومه] الاستذكار 10/ 35. ثم ذكر الحافظ ابن عبد البر قولاً آخر عن عمر أنه لا قضاء على المفطر خطأً، ثم قال: [فهذا خلاف عن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة والرواية الأولى أولى بالصائم إن شاء الله] الاستذكار 10/ 175.
وقد صحح الإمام البيهقي الروايات الواردة عن عمر بالقضاء وضعف الرواية الواردة بعدم القضاء ثم ذكر روايةً تفيد أن جماعة أفطروا مع صهيب رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في يوم غيم فبينما هم يتعشون إذ طلعت
(1/136)
________________________________________
الشمس فقال صهيب: طعمة الله أتموا صيامكم إلى الليل واقضوا يوماً مكانه] سنن البيهقي 4/ 217 - 218.
واستدل الشيخ ابن قدامة المقدسي لقول الجمهور بقوله: [ولنا أنه أكل مختاراً ذاكراً للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان ولأنه يمكن التحرز فأشبه أكل العامد وفارق الناسي فإنه لا يمكن التحرز منه وأما الخبر فرواه الأثرم أن عمر قال من أكل فليقض يوماً مكانه ورواه مالك في الموطأ أن عمر قال الخطب يسير يعني خفة القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء قالت أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام أُمروا بالقضاء قال لا بد من قضاء أخرجه البخاري] المغني 3/ 247.
ومقتضى قول الجمهور التفريق بين الناسي والمخطئ في الأكل في نهار رمضان فإن النسيان آفة طبيعية في الإنسان خارجة عن إرادته والنسيان لا يمكن الاحتراز منه بخلاف الخطأ فإن فيه نوعاً من التقصير حيث إن المخطئ لم يتثبت وكان بإمكانه أن يحترز من الخطأ.
قال الإمام الخطابي: [الناسي لا يمكنه أن يحترز من الأكل ناسياً وهذا يمكنه أن يمكث فلا يأكل حتى يتيقن غيبوبة الشمس، فالنسيان خطأٌ في الفعل وهذا خطأٌ في الوقت والزمان والتحرز ممكن] معالم السنن 2/ 94.
وأما الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
فإن المرفوع في الحديث إنما هو الإثم وأما الحكم وهو القضاء فلا يرفع. انظر المجموع للنووي 6/ 311.
(1/137)
________________________________________
لذا أرجح القول بلزوم القضاء في حق المخطئ دون الناسي لورود النص في الناسي وهو ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن القول بإيجاب القضاء على المخطئ هو أحوط القولين في المسألة.
- - -
(1/138)
________________________________________
مسائل
في صوم التطوع
(1/139)
________________________________________
صوم النافلة بعد منتصف شعبان
يقول السائل ما حكم صوم التطوع بعد منتصف شعبان؟
الجواب: إن صوم التطوع بعد منتصف شعبان جائز ولا بأس به عند جمهورأهل العلم وقد ورد في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
1. عن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلّت وكان إذا صلى صلاة دوام عليها) رواه البخاري.
2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله) متفق عليه.
3. وفي رواية أخرى: (ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلاً) متفق عليه.
إلا أنه يجب أن يعلم أنه يكره للمسلم أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين لئلا يختلط النفل بالفرض، أو حتى يستريح الصائم ليدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم) رواه البخاري.
- - -
(1/141)
________________________________________
صوم ستة أيام من شوال لمن عليه قضاء من رمضان
يقول السائل: هل يجوز صيام ستة أيام من شوال لمن عليه قضاء أيام من رمضان وهل تصام متتابعة أم يجوز تفريقها؟
الجواب: إن صيام ستة أيام من شوال من السنن الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد ذلك في أحاديث منها:
1. عن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذاك صيام الدهر) رواه مسلم وغيره.
2. عن ثوبان مولى رسول الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان وستة بعد الفطر كان تمام السنة)، (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) رواه ابن ماجة والنسائي وهو حديث صحيح.
3. ما رواه ثوبان عند النسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة) وهي رواية صحيحة وغير ذلك من الأحاديث.
وبناء على ذلك فمن السنة أن تصوم ستة أيام من شهر شوال والأفضل في حق من كان عليه قضاء أيام من رمضان أن يقضيها أولاً ثم يصوم ستاً من شوال فإن القضاء واجب وصيام الستة سنة والواجب مقدم على السنة.
ولا يشترط في صيام الأيام الستة من شوال التتابع بل يجوز تفريقها. وإن صامها أيام الاثنين والخميس فهو حسن وله الأجر والثواب الذي يقع بصيام الاثنين والخميس.
- - -
(1/142)
________________________________________
صوم عاشوراء
يقول السائل: ما حكم صوم عاشوراء وهل يصام ذلك اليوم منفرداً أم يصام قبله أو بعده؟
الجواب: إن صوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من محرم من الأمور المستحبة عند أكثر أهل العلم وقد وردت أحاديث كثيرة في صوم عاشوراء منها:
1. عن عائسة رضي الله عنها قالت: (كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه) رواه البخاري ومسلم.
2.وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وانا صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن ابن عباس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أن اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجّى الله فيه موسى وبني اسرلئيل من عدوهم فصامه موسى فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
ويستحب أن يصام اليوم التاسع مع اليوم العاشر من محرم لما ثبت في الحديث عن ابن عباس قال: (لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال: إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
- - -
(1/143)
________________________________________
حكم صيام يوم عاشوراء إذا وافق يوم سبت
يقول السائل: إنه سمع أحد المشايخ يمنع من صيام يوم عاشوراء هذا العام لأنه صادف يوم السبت لما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فما قولكم؟
الجواب: قد أخطأ هذا الشيخ في منعه صيام يوم عاشوراء لأنه صادف يوم السبت اعتماداً على الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجر فليمضغه) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
وهذا الحديث اختلف فيه أهل الحديث اختلافاً كبيراً فصححه بعضهم وأعله آخرون بالاضطراب وقد فصل الكلام عليه العلامة الألباني في إرواء الغليل 4/ 118 - 125 وحكم بصحته. وقال أبو داود صاحب السنن إنه منسوخ ولم يسلم له ذلك.
وعلى كل حال فإن الحديث ثابت إلا أنه لا يؤخذ منه منع صوم يوم عاشوراء إن صادف يوم سبت فهذا الفهم غريب عجيب وإذا قلنا به فمعنى ذلك أنه لا ينبغي لنا أن نصوم يوم عرفة أيضاً إن وافق يوم سبت وهذا لم يقل به أحد من العلماء فيما أعلم.
فنحن نصوم يوم عاشوراء لأنه يوم عاشوراء بغض النظر صادف الجمعة أو السبت أو الأحد، وكذلك نصوم يوم عرفة بغض النظر صادف الجمعة أو السبت أو الأحد اقتداءً بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد قال العلماء إن المقصود بالنهي في الحديث هو إفراد يوم السبت بالصيام، قال الإمام الترمذي بعد أن ذكر الحديث: [ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم السبت] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 2/ 220.
(1/144)
________________________________________
وقال العلامة ابن القيم: [وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد.
قال: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال: إن صومه نوع تعظيم له فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه وإن تضمن مخالفتهم في صومه فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم ولا ريب أن الحديث لم يجئ بإفراده وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم. والله أعلم] زاد المعاد 2/ 79 - 80.
وقال العلامة علي القاري: [قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة والمقصود مخالفة اليهود فيهما والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء، أو وافق ورداً] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/ 599.
وقال الإمام النووي: [والصواب على الجملة ما قدمناه عن أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له] المجموع 6/ 440.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي بعد أن ذكر الحديث: [والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره] المغني 3/ 171.
ويوم السبت وافق صوماً لمحمد صلى الله عليه وسلم فنصومه ولا نسمع لقول من منع صومه لجموده على ظاهر النص.
- - -
(1/145)
________________________________________
صيام يوم السبت في النافلة
يقول السائل: إن يوم عرفة يصادف هذا العام يوم السبت فما حكم صيامه حيث إنني قد سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن صوم يوم السبت إلا في الفريضة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: يوم عرفة يوم من أيام الله سبحانه وتعالى ويوم عظيم مبارك، ومن أفضل أعمال المؤمن أن يصوم يوم عرفة وقد ثبت في فضل صيامه أحاديث كثيرة منها:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: (قال وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفر السنة الماضية والباقية).
وعن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة بعده) رواه ابن ماجة، وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على مشروعية صوم يوم عرفة وفضله، وصوم يوم عرفة مشروع مهما كان اليوم الذي وقع فيه سواء كان يوم الجمعة أو السبت أو الأحد وأما الحديث الذي أشار إليه السائل وهو عن عبد الله بن بسر عن أخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، فإن هذا الحديث محل خلاف بين المحدثين فمنهم من ضعفه ومنهم من قال بنسخه ومنهم من قال إنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من حسنه أو صححه ومنهم من أولَّه وجمع بينه وبين غيره من الأحاديث التي أثبتت صوم السبت في النافلة.
(1/146)
________________________________________
قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر الحديث: [فقال مالك رحمه الله هذا كذب يريد حديث عبد الله بن بسر ذكره عنه أبو داود، قال الترمذي: هو حديث حسن، وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ وقال النسائي هو حديث مضطرب وقال جماعة من أهل العلم لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة فإن النهي عن صومه إنما هو إفراده وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد قالوا ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده] زاد المعاد في هدي خير العباد 2/ 79 - 80.
وقال الشيخ سليمان العلوان عن الحديث: [هذا الخبر منكر سنداً ومتناً. قال عنه الإمام مالك هذا كذب ذكره عنه أبو داود في سننه. وقال الأوزاعي. مازلت له كاتماً حتى رأيته انتشر يعني حديث ابن بسر هذا في صوم يوم السبت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده) متفق عليه من حديث أبي هريرة. وهو دليل على صوم يوم السبت والأحاديث في ذلك كثيرة].
وقال بعض أهل العلم: [ ... وهذا الحديث وإن كان رجاله ثقات معروفون، إلا أنه ليس بالقائم بل هو مضطرب ... وفي متنه نكارة، ومخالفة للأحاديث الصحاح في صوم يوم الجمعة ويوماً بعده، كما في الصحيحين من حديث جويرية وكذلك صوم أيام البيض، وصيام داود صيام يوم وفطر يوم كما في الصحيحين، وصوم يوم عرفة وست من شوال كما في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب وغيرها. وقد أنكر هذا الخبر الحفاظ، قال الأوزاعي رحمه الله: لم نزل نكتمه حتى انتشر. قال الإمام أحمد: يحيى بن سعيد ينفيه أبى أن يحدثني به. وقال الأثرم: حجة أبي عبد الله -أحمد بن حنبل- في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبدالله بن بسر].
(1/147)
________________________________________
ومن أهل العلم من يرى جواز إفراد السبت بالصيام وهو اختيار الزهري والأوزاعي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد لما ورد في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.
وقال جماهير أهل العلم يكره إفراد يوم السبت بالصيام فإذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلا كراهة وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد. قال الإمام الترمذي: [ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم يوم السبت] سنن الترمذي 3/ 120.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال أصحابنا يكره إفراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) ... والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره لما قدمناه] المغني 3/ 171.
قال أبو بكر الأثرم في كتابه (ناسخ الحديث ومنسوخه) الجزء الثالث الورقة (1/أمخطوط) باب صوم السبت، روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فجاء هذا الحديث ثم خالفته الأحاديث كلها.
فمن ذلك حديث علي وأبي هريرة وجندب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصوم المحرم. ففي المحرم السبت، وليس فيما افترض. قال النسائي في سننه الكبرى 2/ 145: الرخصة في صيام يوم السبت.
ثم روى بسنده عن جنادة الأزدي أنهم: (دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية نفر وهو ثامنهم فقرب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً يوم جمعة،
(1/148)
________________________________________
فقال: كلوا، قالوا: صيام، قال: صمتم أمس؟ قالوا: لا، قال: فصائمون غداً؟ قالوا: لا، قال: فأفطروا). عزاه الحافظ ابن حجر في الاصابة 1/ 256 إلى أحمد البغوي، وصححه.
قال الطحاوي بعد أن روى حديث عبد الله بن بسر السابق: فذهب قوم إلى هذا الحديث فكرهوا صوم يوم السبت تطوعاً. وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بصومه باساً.
وكان من الحجة عليهم في ذلك: أنه قد جاء الحديث عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله يوم، أو بعده يوم. وقد ذكرنا ذلك بأسانيد فيما تقدم من كتابنا هذا فاليوم الذي بعده هو يوم السبت ففي هذه الآثار المروية في هذا إباحة صوم السبت تطوعاً، وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء، من هذا الحديث الشاذ الذي خالفها.
وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء وحض عليه ولم يقل: إن كان يوم السبت فلا تصوموه ففي ذلك دليل على دخول كل الأيام فيه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الصيام إلى الله عز وجل، صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) الحديث في الصحيحين عن ابن عمرو رضي الله عنهما.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بصيام أيام البيض، وروى عنه في ذلك ما حدثنا ... عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أمره بصيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. [رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن.
وعن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم ليالي البيض: ثلاث عشر وأربع عشرة وخمس عشرة
(1/149)
________________________________________
وقال: هي كهيأة الدهر) ورواه أيو داود والنسائي وسنده حسن، وقد يدخل السبت في هذه، كما يدخل فيها غيره من سائر الأيام. ففيها أيضاً إباحة صوم يوم السبت تطوعاً. اهـ شرح معاني الآثار 2/ 80 - 81، مع اختصار يسير.
قال ابن حبان في صحيحه 5/ 250: فصل في صوم يوم السبت: (ذكرُ الزجر عن صوم يوم السبت مفرداً) ثم ذكر حديث عبد الله بن بسر السابق، ثم عقبه بقوله: (ذكر العلة التي من أجلها نهي عن صيام يوم السبت مع البيان بأنه إذا قرن بيوم آخر جاز صومه) ثم ذكر حديث أم سلمة السابق.
وقال ابن خزيمة في صحيحه 3/ 316: [باب النهي عن صوم يوم السبت تطوعاً إذا أفرد بالصوم بذكر خبر مجمل غير مفسر بلفظ عام مراده خاص، وأحسب أن النهي عن صيامه، إذ اليهود تُعظمه وقد اتخذته عيداً بدل الجمعة.
ثم ذكر حديث عبد الله بن بسر السابق. ثم قال: باب ذكر الدليل على أن النهي عن صوم يوم السبت تطوعاً إذا أفرد بصوم، لا إذا صام صائم يوماً قبله أو يوم بعده. وقال: في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله أو بعده يوماً، دلالة على أنه قد أباح يوم السبت إذا صام قبله يوم الجمعة أو بعده يوماً. ثم قال: باب الرخصة في يوم السبت إذا صام يوم الأحد بعده: ثم ذكر حديث كريب مولى ابن عباس: أن ابن عباس وناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوني إلى أم سلمة أسألها أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها صياماً؟ قالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم وكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا وذكر أنك قلت كذا وكذا، فقالت صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، كان يقول: (إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم)].
(1/150)
________________________________________
قال البيهقي في سننه الكبرى 4/ 302: [(باب ما ورد من النهي عن تخصيص يوم السبت بالصوم). ثم ذكر حديث عبد الله بن بسر السابق. ثم قال: وقد مضى في حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها في الباب قبله مادل على جواز صوم يوم السبت، وكأنه أراد بالنهي تخصيصه بالصوم على طريق التعظيم له، والله اعلم). ثم استدل بحديث أم سلمة رضي الله عنها].
قال البغوي في شرح السنة، 6/ 361 باب كراهية صوم يوم السبت وحده، ثم ساق حديث عبد الله بن بسر. وعقبه بقوله: [ومعنى الكراهية في تخصيص يوم السبت بالصوم أنه يوم تعظمه اليهود].
وقال الإمام النووي: [يكره إفراد يوم السبت بالصوم، فإن صام قبله أو بعده معه لم يكره صرح بكراهة إفراده أصحابنا منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم؛ لحديث عبد الله بن بسر ... قال الحاكم أبو عبد الله: ... وله معارض صحيح وهو حديث جويرية السابق في صوم يوم الجمعة قال: وله معارض آخر بإسناد صحيح. ثم روى بإسناده (عن كريب مولى ابن عباس أن ابن عباس وناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً لها؟ قالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا فذكر أنك قلت كذا وكذا، فقالت: صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد، وكان يقول: (إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم) هذا آخر كلام الحاكم. وحديث أم سلمة هذا رواه النسائي أيضا والبيهقي وغيرهما. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(1/151)

والصواب على الجملة ما قدمناه عن أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له؛ لحديث الصماء ... وأما الأحاديث الباقية التي ذكرناها في صيام السبت فكلها واردة في صومه مع الجمعة والأحد فلا مخالفة فيها لما قاله أصحابنا من كراهة إفراد السبت وبهذا يجمع بين الأحاديث] المجموع 6/ 439 - 440.
قال الحافظ المنذري عبد العظيم بن عبد القوي: قال المنذري في كتابه (الترغيب والترهيب من الحديث الشريف) 2/ 128 بعد أن ذكر حديث ابن بسر: [وهذا النهي إنما هو عن إفراده بالصوم لما تقدم من حديث أبي هريرة: (لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده) فجاز إذاً صومه]. ثم ذكر حديث أم سلمة رضي الله عنها.
قال المناوي -محمد عبد الرؤوف المناوي-: قال في شرحه للحديث (لا تصوموا يوم السبت إلا في فريضة ... ): [وهذا النهي للتنزيه لا للتحريم، والمعنى فيه: إفراده كما في الجمعة، بديل حديث (صيام يوم السبت لا لك ولا عليك) وهذا شأن المباح، والدليل على أن المراد إفراده بالصوم حديث عائشة (إنه كان يقوم شعبان كله) وقوله (إلا في فريضة) يحتمل أن يراد ما فرض بأصل الشرع كرمضان لا بالتزام كنذر ويحتمل العموم] فيض القدير 6/ 408.
قول ابن القيم أبو بكر محمد بن عبد الله، وقال ابن القيم في تهذيب سنن بي داود 3/ 297 - 301: [وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديماً وحديثاً فقال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبدا لله يسأل عن صيام يوم السبت ... (فذكر نحو الكلام الذي سقناه في أول البحث عن الإمام أحمد والأثرم) ثم قال: واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره وحديث النهي على صومه وحده، وعلى هذا تتفق النصوص].
(1/152)

وهذه طريقة جيدة، لولا أن قوله في الحديث (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفرداً أو مضافا، لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه، إلا بصورة الفرض، ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد، لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجمعة فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها.
وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة (إلا أن تصوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده) فدل على أن الحديث غير محفوظ، وأنه شاذ. وقد قال أبو داود: قال مالك هذا كذب، وذكر بإسناده عن الزهري: أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت، يقول: هذا حديث حمصي، وعن الأوزاعي قال: مازلت كاتماًَ له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا. سنن أبي داود 2/ 806 - 807. وقالت طائفة، منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ المصدر السابق.
وقالت طائفة، وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه.
قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل، فإنه سئل في رواية الأثرم عنه؟ فأجاب بالحديث، وقاعدة مذهبه: أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به، لأنه ذكره في معرض الجواب فهو متضمن للجواب والاستدلال معاً.
قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد: فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث.
(1/153)

قالوا: وإسناده صحيح، ورواته غير مجروحين ولا متهمين، وذلك يوجب العمل به، وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه، لأنها تدل على صومه مضافاً، فيحمل النهي على صومه مفرداً كما ثبت في يوم الجمعة.
ونظير هذا الحكم أيضاً: كراهية إفراد رجب بالصوم وعدم كراهيته موصولاً بما قبله أو بعده.
ونظيره أيضاً: ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان: أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه، وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول، فلا يكره.
لم يصح في فضل صيام شهر رجب شيء من الحديث. وللحافظ ابن حجر رسالة باسم (تبيين العجب بما ورد في فضل رجب) ذكر فيها ما ورد في فضله من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
قالوا وقد جاء هذا مصرحاً به في صوم يوم السبت ففي مسند الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة: حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني الصماء (أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت، وهو يتغدى، فقال: تعالي تغدي فقالت: إني صائمة، فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا قال: كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك) وهذا وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد لكن يدل عليه ما تقدم من الأحاديث وعلى هذا: فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا يوم السبت) أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت، فإنه يصومه وحده. وأيضاً فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه، أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضاً، لا المقارنة بينه
(1/154)

وبين غيره وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة، ونحو ذلك. قالوا: وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول -إلى آخره- فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم، فكلا الصورتين مخرج: أما الفرض: فبالمخرج المتصل، وأما صومه مضافاً فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد، واللفظ متناول لها، ولا مخرج لها من عمومه، فيتعين حمله عليها ثم انتقل ابن القيم للكلام على سبب كراهية صومه منفرداً فقال: ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة، فعللها ابن عقيل: بأنه يوم يمسك فيه اليهود، ويخصونه بالإمساك، وهو ترك العمل فيه، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبها بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد. ولا يقال: فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره ومع هذا فإنه لا يكره، لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصداً تخصيصه المقتضى للتشبه، وشاهده: استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده إليه، لتنتفي صورة الموافقة. وعلله طائفة أخرى: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه، فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيماً له فكره ذلك، كما كره إفراد يوم عاشوراء بالتعظيم، لما عظمه أهل الكتاب، وإفراد رجب أيضاً لما عظمه المشركون، وهذا التعليل قد تعارض بيوم الأحد، فإنه يوم عيد للنصارى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى) ومع ذلك فلا يكره صومه. وأيضاً فإذا كان يوم عيد، فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر، فالصوم فيه تحقيق للمخالفة ويدل على ذلك: ما رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال: (أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياماً؟ فقالت: كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم) وصححه بعض الحفاظ،
(1/155)

فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم، فكيف نعلل كراهة صومه بكونه عيداً لهم؟ وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس) قال الترمذي: حديث حسن، وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان، ولم يرفعه وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بصوم.
وهذا الكلام متين، تجتمع به، الأدلة وهو اختيار ابن القيم كما يدل عليه السياق وصرح به في الزاد 2/ 79 - 80.
ومن فتاوى العلماء المعاصرين: [سئل فضيلة الشيخ الفقيه عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمةً واسعة: ما هي الأيام التي يكره فيها الصيام؟
الجواب: الأيام التي ينهى عن الصيام فيها يوم الجمعة حيث لا يجوز أن يصوم يوم الجمعة مفرداً يتطوع بذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وهكذا لا يفرد يوم السبت تطوعاً ولكن إذا صام الجمعة ومعها السبت أو معها الخميس فلا بأس كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ينهى عن صوم يوم عيد الفطر وذلك محرم، وكذلك يوم عيد النحر وأيام التشريق كلها لا تصام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك إلا أن أيام التشريق قد جاء ما يدل على جواز صومها عن هدي التمتع والقران خاصة لمن لا يستطع الهدي لما ثبت في البخاري عن عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) أما كونها تصام تطوعاً أو لأسباب أخرى فلا يجوز كيوم العيد وهكذا يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال فإنه يوم شك لا يجوز صومه في أصح قولي العلماء سواء كان صحواً أو غيما للأحاديث الصحيحة الدالة على النهي عن ذلك والله ولي التوفيق] فتاوى إسلامية 2/ 168 جمع محمد المسند.
(1/156)

وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى عن هذه المسألة، فقال السائل: [قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أوعود شجر فليمضغها) رواه الخمسة.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد، وكان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم) أخرجه النسائي. أفيدونا عن معنى هذين الحديثين جزاكم الله خيراً؟
الجواب: الحديث الأول هو عن صيام يوم السبت اختلف العلماء في تصحيحه فمنهم من صححه، ومنهم من ضعفه، والذين صححوه قال بعضهم: إنه منسوخ وقال بعضهم: إن النهي عن إفراده فقط، فأما لو صامه هو ويوم الأحد فلانهي في ذلك، وعلى هذا فلا يعارض الحديث الثاني، الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم هو يوم السبت والأحد.
وعلى كل حال فإن أهل العلم اختلفوا في صوم يوم السبت، فمهم من قال: إنه ليس بمكروه وأطلق، ومنهم من فصل فقال: إن أفرد فهو مكروه، وإن جمع مع يوم الأحد الذي بعده، أو يوم الجمعة الذي قبله فلاكراهة في ذلك وهذا هو الأقرب، والله اعلم] فتاوى منار الإسلام 2/ 365 - 366.
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز: [يجوز صيام يوم عرفة مستقلاً سواء وافق يوم السبت أو غيره من أيام الأسبوع لأنه لا فرق بينها لأن صوم يوم عرفة سنة مستقلة وحديث النهي عن يوم السبت ضعيف لاضطرابه ومخالفته للأحاديث الصحيحة] فتاوى اللجنة الدائمة 10/ 396. عن الإنترنت.
ومن الأدلة الدالة على جواز صيام يوم السبت ماجاء في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) واليقين حاصل بهذا الحديث أنه يوافق يوم السبت، وجاء في صحيح الإمام مسلم عن أبي
(1/157)

أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان واتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر. والغالب في هذه الستّ أن يوافق أحدها يوم السبت. وقد استحب أهل العلم صيام ست من شوال متتابعه، وأيضاً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبعه ستاً من شوال إلا يوم السبت)، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز.
ومن الأدلة مارواه الشيخان أيضاً عن جويرية (أنّها صامت يوم الجمعة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي صائمة فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً (يعني السبت)، قالت: لا، قال إذاً أفطري). فهذا الحديث صريح بجواز صيام السبت بغير الفرض
ومنها: عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت، ويوم الأحد، وكان يقول: (إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم). رواه النسائي وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
هذا الخبر رواه النسائي (الكبرى) من طريق عبدالله بن المبارك عن عبدالله بن محمد بن عمر عن أبيه عن كريب عن أم سلمة رضي الله عنهما. وعبدالله بن محمد وأبوه قد روى عنهما جمع وذكرهما ابن حبان في ثقاته ومن ثمّ صحح لهما الإمام ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
والحديث يدل على جواز صيام يوم السبت بل يدل الخبر على استحباب ذلك مخالفة لليهود فإنهم يعظمون يوم السبت والأحد ويجعلونهما عيداً لهم ومعلوم عندنا أن العيد لايشرع صيامه فشرع لنا مخالفتهم وصيام هذين اليومين فدل هذا الخبر عن نكارة حديث الصماء. وأم سلمة رضي الله عنها أدرى بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم من الصماء.
(1/158)

فخبر الباب منكر من حيث الإسناد وباطل من حيث المتن، وأكثر الحفاظ على إنكاره كالأوزاعي ويحيى بن سعيد بل قال مالك هذا كذب وأنكره الإمام أحمد وغير هؤلاء من الحفاظ الذين أنكروا هذا الخبر وأعلوه سنداً ومتناً.
فكيف بعد هذا يصحح الحديث وقد اجتهد العلامة الألباني رحمه الله فصحح الحديث وجاء بعض تلامذته فتعصب له وألف رسالة في تصحيحه ولا شك بأن اتباع كلام الأئمة المتقدمين في تضعيفه بالاضطراب والنكارة والشذوذ أولى والله أعلم بالصواب.
وخلاصة الأمر أنه يجوز إفراد يوم السبت بصيام إذا كان له سبب كيوم عرفة وعاشوراء وصيام البيض ولا يكره صيام السبت إذا صام يوماً قبله أو بعده ويكره إفراد يوم السبت بصيام إذا قصد المسلم تعظيمه لأنه من أعياد اليهود.
وأقول للقراء الكرام صوموا يوم عرفة لأنه يوم عرفة وبغض النظر أنه وافق يوم السبت.
- - -
(1/159)

حكم صيام يوم الجمعة تطوعاً
يقول السائل: إنه قد صام يوم الجمعة الثاني من شوال لهذا العام ونوى أن يصوم الستة من شوال متتابعة ولكن أحد المشايخ أفتاه بأن يفطر لأنه لا يجوز صوم يوم الجمعة ولا يوم السبت وعليه أن يبدأ صوم الستة من شوال يوم الأحد فما قولكم أفيدونا؟
الجواب: إن إفراد يوم الجمعة بالصوم وكذا إفراد يوم السبت بالصوم مكروه عند جمهور أهل العلم، ولكن إن صام يوماً قبلهما أو يوماً بعدهما فلا حرج في ذلك وعليه دلت السنة النبوية فقد روى البخاري بإسناده عن محمد بن عباد قال: سألت جابراً رضي الله عنه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم زاد غير أبي عاصم، يعني أن ينفرد بصوم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (لا يصوم أحدكم) كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي، وفي رواية الكشميهني (لا يصومن) بلفظ النهي المؤكد ... ولمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش (لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يصوم بعده) وللنسائي من هذا الوجه (إلا أن يصوم قبله يوماً أو يصوم بعده يوماً) ولمسلم من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) ورواه أحمد من طريق عوف عن ابن سيرين بلفظ (نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم)، وله من طريق أبي الأوبر زياد الحارثي (أن رجلاً قال لأبي هريرة: أنت الذي تنهى الناس عن صوم يوم الجمعة؟ قال ها ورب الكعبة ثلاثاً، لقد سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصوم أحدكم يوم الجمعة وحده إلا في أيام
(1/160)

معه) وله من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها).
وهذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة، ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلا أو يوم شفاء فلان] فتح الباري 4/ 296 - 297.
وعن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري). وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب أن جويرية حدثته فأمرها فأفطرت. رواه البخاري.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، ونقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية، وكأنه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم فهذا قد يشعر بأنه يرى بتحريمه. وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر، قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفاً من الصحابة. وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه ... واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال: أحدها: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره.
(1/161)

وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها: لئلا يضعف عن العبادة وهذا اختاره النووي، وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه، وأجاب أنه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتور أو تقصير، وفيه نظر فإن الجبران لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيراً كثيراً يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن أعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك. وأيضا فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف لا من يتحقق القوة، ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه. ثالثها: خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت، وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام، وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه لأنهم لا يصومونه. وقد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم). رابعها: خوف اعتقاد وجوبه، وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس ... خامسها: خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك، قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم لارتفاع السبب، لكن المهلب حمله على ذلك اعتقاده عدم الكراهة على ظاهر مذهبه. سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم نقلها القمولي وهو ضعيف. وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها، وورد فيه صريحاً حديثان: أحدهما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعاً (يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو
(1/162)

بعده). والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال (من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب) وذكر] فتح الباري 4/ 297 - 299.
وقال النووي: [(باب كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً) قوله: (سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: نعم ورب هذا البيت) وفي رواية أبي هريرة: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده). وفي رواية: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) هكذا وقع في الأصول (تختصوا ليلة الجمعة، ولا تخصوا يوم الجمعة) بإثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد وبحذفها في الثاني، وهما صحيحان. وفي هذه الأحاديث الدلالة الظاهرة لقول جمهور أصحاب الشافعي وموافقيهم، وأنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق عادة له، فإن وصله بيوم قبله أو بعده، أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبداً، فوافق يوم الجمعة لم يكره; لهذه الأحاديث. وأما قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه، فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، فيتعين القول به. ومالك معذور; فإنه لم يبلغه. قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكاً هذا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه، قال العلماء: والحكمة في النهي عنه: أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة: من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها; لقول الله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله
(1/163)

واذكروا الله كثيرا) وغير ذلك من العبادات في يومها، فاستحب الفطر فيه، فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة، وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة، فإن السنة له الفطر كما سبق تقريره لهذه الحكمة، فإن قيل: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه، فهذا هو المعتمد في الحكمة في النهي عن إفراد صوم الجمعة، وقيل: سببه خوف المبالغة في تعظيمه، بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت، وهذا ضعيف منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور من وظائف يوم الجمعة وتعظيمه، وقيل: سبب النهي لئلا يعتقد وجوبه، وهذا ضعيف منتقض بيوم الاثنين فإنه يندب صومه ولا يلتفت إلى هذا الاحتمال البعيد، وبيوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك، فالصواب ما قدمنا. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 209 - 211.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد يوم الجمعة بصوم) رواه أحمد.
قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر معظم الأحاديث السابقة: [والنهي إنما هو عن الإفراد فمتى وصلهن بغيره زال النهي].
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه، مثل من يصوم يوماً ويفطر يوماً فيوافق صومه يوم الجمعة ومن عادته صوم أول يوم من الشهر أو آخره أو يوم نصفه ونحو ذلك. نص عليه أحمد في رواية الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديث النهي أن يفرد. ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه. وأما أن يفرد فلا قال: قلت: رجل كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم
(1/164)

السبت فصام الجمعة مفرداً؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة] المغني 3/ 170.
وقال الشيخ ابن عثيمين بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة: [والصحيح أنه يجوز بدون إفراد يعني إذا صمت معه الأحد أو صمت معه الجمعة فلا بأس والدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لزوجته: أتصومين غداً؟ أي: السبت] الشرح الممتع 6/ 466. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بذلك أيضاً انظر فتاوى اللجنة 10/ 347.
وخلاصة الأمر أنه يجوز أن يبدأ صوم الستة من شوال من يوم الجمعة ويصوم السبت أيضا ما دام أنه لم يفرد واحداً منهما بالصوم وكذا يجوز صومهما إن وافقا يوم عاشوراء أو وافقا يوم عرفة.
- - -
(1/165)

صيام العشر الأوائل من ذي الحجة
يقول السائل: سمعت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم من ذي الحجة وسمعت من بعض المشايخ الحث على صيامها فأي القولين هو الصحيح؟ أفيدونا.
الجواب: أبين أولاً فضل العشر الأوائل من ذي الحجة ثم أجيب على السؤال، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه العشر فهذا يدل على فضلها العظيم قال الله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} سورة الفجر الآيتان 1 - 2.
قال القرطبي: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} أي ليال عشر من ذي الحجة وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هو عشر ذي الحجة وقال ابن عباس ومسروق: هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام وأتممناها بعشر وهي أفضل أيام السنة وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {َالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قال: عشر الأضحى فهي ليال عشر. على هذا القول لأن ليلة يوم النحر داخلة فيه إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفاً لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة، وإنما نكرت ولم تُعرَّف لفضيلتها على غيرها فلو عرفت لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير فنكرت من بين ما أقسم به للفضيلة التي ليست لغيرها والله أعلم] تفسير القرطبي 20/ 39.
وقد وردت عدة أحاديث في فضيلة هذه العشر منها:
ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء). وفي رواية للطبراني في الكبير بإسناد جيد كما قال المنذري: (ما من أيام أعظم عند الله
(1/166)

ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير). وفي رواية للبيهقي في شعب الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى) قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه ذكره المنذري في الترغيب 2/ 150. وروى الحديث الدارمي أيضاً وإسناده حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/ 398.
وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) رواه أحمد وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر.
وفي حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة) رواه أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما. وغير ذلك من الأحاديث.
وقد ذكر أهل العلم أنه يؤخذ من هذه النصوص أن الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة هي أفضل أيام السنة.
قال الشيخ ابن كثير: [وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث وفضله كثير على عشر رمضان الأخير لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه وقيل ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وتوسط آخرون فقالوا أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل وبهذا يجتمع شمل الأدلة] تفسير ابن كثير 3/ 217.
(1/167)

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ولا يتأتى ذلك في غيره، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال] فتح الباري 2/ 593.
وقال المباركفوري: [وذكر السيد اختلف العلماء في هذه العشر، والعشر الأخير من رمضان فقال بعضهم: هذه العشر أفضل لهذا الحديث، وقال بعضهم: عشر رمضان أفضل للصوم والقدر، والمختار أن أيام هذه العشر أفضل ليوم عرفة وليالي عشر رمضان أفضل لليلة القدر، لأن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، ولذا قال ما من أيام ولم يقل من ليال كذا في الأزهار وكذا في المرقاة] تحفة الأحوذي 3/ 386.
وقال الشيخ المنجد: [واعلم -يا أخي المسلم- أن فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة منها:
1. إن الله تعالى أقسم بها: والإقسام بالشيء دليل على أهميته وعظم نفعه، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة. قال ابن كثير: وهو الصحيح، تفسير ابن كثير8/ 413.
2. إن النبي صلى الله عليه وسلم شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدّم في الحديث الصحيح.
3. إنه صلى الله عليه وسلم حث فيها على العمل الصالح: لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان - أيضاً - وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام.
4. إنه صلى الله عليه وسلم أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير.
5. إن فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدّين وصيامه يكفّر آثام
(1/168)

سنتين، وفي العشر أيضا يوم النحر الذي هو أعظم أيام السنّة على الإطلاق وهو يوم الحجّ الأكبر الذي يجتمع فيه من الطّاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره.
6ز إن فيها الأضحية والحج ... إن إدراك هذا العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يقدّرها حق قدرها الصالحون المشمّرون. وواجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة. وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لعبادة مولاه] موقع الشيخ على شبكة الإنترنت.
وأما ما ذكره السائل من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر فهذا قد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنا قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط) وفي رواية (لم يصم قط) رواه مسلم وغيره. وقد أجاب عنه العلماء أنه لا يعارض ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صام العشر.
قال الإمام النووي: [(باب صوم عشر ذي الحجة) فيه قول عائشة: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط) وفي رواية: (لم يصم العشر) قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشرة، والمراد بالعشر هنا: الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه) - يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة - فيتأول قولها: لم يصم العشر، أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم عن ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى
(1/169)

الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين من الشهر والخميس) ورواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد والنسائي وفي روايتهما (وخميسين) والله أعلم) شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 251
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد، وأجيب بأنه محمول على الغالب، ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، كما رواه الصحيحان من حديث عائشة أيضاً] فتح الباري 2/ 593.
وقال الشوكاني: [وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط) وفي رواية (لم يصم العشر قط) فقال العلماء المراد أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أن عدم رؤيتها له صائماً لا يستلزم العدم على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب فلا يقدح في ذلك عدم الفعل] نيل الأوطار 4/ 324.
وقال الشوكاني أيضاً: [وقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط) وفي رواية (لم يصم قط) وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم] الدراري المضية 1/ 230.
وبهذا يظهر لنا أنه لا تعارض بين النصوص التي حثت على صوم هذه الأيام وبين حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرَ صائماً فيها.
(1/170)

وخلاصة الأمر أنه يسن صوم الأيام التسعة الأوائل من ذي الحجة وخاصة صوم يوم عرفة لغير الحاج وأما صوم يوم العيد فيحرم وينبغي على المسلم أن يكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام المفضلة شرعاً.
- - -

صوم شهر رجب
يقول السائل: ما حكم صيام شهر رجب وما مدى صحة الحديث الذي يقول: (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي)؟
الجواب: أما الحديث المذكور فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ العراقي: [حديث ضعيف جداً وهو من مرسلات الحسن رويناه في كتاب الترغيب والترهيب للأصفهاني ومرسلات الحسن لا شيء عند أهل الحديث ولا يصح في فضل رجب حديث].
وذكر المناوي أن الديلمي رواه في مسنده وقد عده ابن الجوزي في الموضوعات أي من الأخبار المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيض القدير 4/ 24، كشف الخفاء 1/ 433.
وأما بالنسبة للصوم في شهر رجب فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء على وجه التخصيص. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه] لطائف المعارف ص 228.
ولكن وردت أحاديث عامة في صوم الأشهر الحرم وشهر رجب أحدها فمن ذلك ما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ومن ذلك
(1/171)

حديث أسامة قال: (قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
قال الشوكاني: ظاهر قوله في حديث أسامة: (أن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجباً به) نيل الأوطار 4/ 276.
- - -
(1/172)

قطع صوم التطوع
يقول السائل: إنه صام يوم اثنين تطوعاً لله تعالى ولما كان وقت الظهر زار قريباً له فدعاه إلى الطعام فأفطر ويسأل هل يلزمه قضاء يوم مكان اليوم الذي أفطره؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم إذا بدأ بأمر مندوب كصلاة مندوبة (نافلة) أو صوم مندوب أن يتمه ويكمله (كصوم الإثنين والخميس).
والذي عليه جمهور الفقهاء أن ذلك ليس واجباً وإنما هو في دائرة الاستحباب وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تفيد ذلك منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليّ رسول الله يوماً فقال هل عندكم شيء؟ فقلت لا قال: فإني صائم ثم مر بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس قلت يا رسول الله أهدي إلي حيس فخبأت لك منه قال: أدنيه أما إني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال لنا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها) رواه مسلم وأبو داود والنسائي واللفظ له.
والحيس: تمر نزع نواه ويدق مع إقط ويعجنان بالسمن كما في المصباح المنير 1/ 159.
2. عن أم هانئ رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخل عليها فدعى بشراب ثم ناولها فشربت فقالت: يا رسول الله أما إني كنت صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد والبيهقي وضعفه الترمذي وغيره إلا أن الحديث يتقوى بكثرة طرقه كما قال العلامة الألباني.
وقال النووي إسناده جيد وقال الحاكم صحيح ووافقه الذهبي وقال الحافظ العراقي إسناده حسن.
(1/173)

3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فلما وضع قال رجل: أنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك أخوك وتكلف لك أفطر وصم مكانه إن شئت) رواه البيهقي وإسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 5/ 112.
4. عن أبي جحيفة قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال كل فإني صائم فقال سلمان ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما ذهب الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال سلمان نم فنام ثم ذهب يقوم فقال سلمان نم فلما كان آخر الليل قال سلمان قم الآن فصليا فقال سلمان: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) رواه البخاري وغيره.
فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن المتطوع أمير نفسه فيجوز له أن يتم وهو الأفضل ويجوز له أن يقطع تطوعه ولا شيء عليه فلا يلزمه القضاء وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة ونقل عن جماعة من الصحابة كعمر وابن عباس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم أجمعين.
إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه استثني من هذا الحكم الذي ذكرته الحج والعمرة فإذا شرع المسلم بحج أو عمرة فيجب عليه إتمامهما بلا خلاف كما قال النووي: [وأما إذا دخل في حج تطوع أو عمرة فإنه يلزمه إتمامها بلا خلاف] المجموع 6/ 393.
- - -
(1/174)

مسائل
في صلاة التراويح
(1/175)

عدد ركعات صلاة التراويح
يقول السائل: هل تصلى التراويح عشرون ركعة أم ثماني ركعات وهل تصح صلاة التراويح في البيت؟
الجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رغب في قيام رمضان وحث عليه في أحاديث منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في رمضان في عدة ليال في أوله وفي آخره كما ثبت ذلك عنه، وكان هديه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم.
ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم المداومة على صلاة التراويح لأنه خشي أن تفرض على الأمة كما ثبت ذلك في الصحيحين.
وقد اختلف أهل العلم في عدد ركعات صلاة التراويح فأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرين ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا القول مشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ورد أنه جمع الناس على إمام واحد يصلي بهم ثلاثاً وعشرين ركعة كما ورد في الحديث عن عبد الرحمن بن عبد القاري، قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس
(1/177)

يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله) رواه البخاري.
ورى البيهقي بإسناد صحيح كما قال النووي: عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال: [كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة وكانوا يقومون بالمئتين ... ] المجموع 4/ 32.
ومن أهل العلم من يرى عدم زيادة صلاة التراويح عن إحدى عشرة ركعة لحديث عائشة السابق وغيره من الأحاديث الثابتة في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وترى طائفة أخرى من أهل العلم عدم تحديد عدد معين من الركعات في صلاة قيام رمضان أي التراويح ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الشوكاني وغيرهما وأنا أميل إلى هذا القول، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاثة عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة
(1/178)

كأحمد وغيره. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع الفتاوى 22/ 272.
- - -

تصح الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح
يقول السائل: نشرت إحدى المجلات الإسلامية مقالاً حول عدد ركعات صلاة التراويح وخلص الكاتب إلى أن عدد الإحدى عشر ركعة هو الأولى والأحرى أن يستمسك به ويعض عليه بالنواجذ بل هو الذي يجب أن يصار إليه ولا يلتفت إلى سواه لأنه وحده هو السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أجمعين والتي لم يثبت عنهم سواها. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: صلاة التراويح من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلف أهل العلم في عدد ركعاتها فمنهم من يرى أنها إحدى عشرة ركعة مع الوتر.
ويرى جمهور الفقهاء أنها عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا قول مشهور من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا الحاضر وكثير من مساجد المسلمين تصلى فيها التراويح كذلك ومنهم من زاد على العشرين فقيل تسع وثلاثين وقيل إحدى وأربعين وقيل غير ذلك.
ومن أهل العلم من يرى أنه لا حد لعدد ركعات صلاة التراويح فيجوز أن يزيد على إحدى عشرة ركعة ولا حرج في ذلك.
وأقول من يزعم أنه لا تجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة فقد حجر واسعاً وضيق على المسلمين بدون دليل يركن إليه أو يعول عليه، فصلاة التراويح من السنن والسنن يتساهل فيها ما لا يتساهل في الفرائض، وزعم صاحب المقال المشار إليه بأنه يجب الأخذ بالإحدى عشرة ركعة ولا يلتفت إلى سواه زعم غير صحيح وإيجاب لما لم
(1/179)

يوجبه الشارع الحكيم فصلاة التراويح ذاتها ليست واجبة فضلاً أن يوجب هذا العدد من الركعات.
ولم يأت دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب هذا العدد وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمجرده لا يدل على الإيجاب حتى تدل القرائن على ذلك والحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم، لا يدل على إيجاب ذلك العدد كما قاله المحققون من أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على ثلاث عشرة ركعة ولكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث، وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين؛ فإنه وسط بين العشر والأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/ 272.
(1/180)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: [ ... ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان ويوتر بثلاث، فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر، واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم.
وقال طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة) واضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين.
والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عدداً، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام بالليل حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة (أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات) وأبي بن كعب لما قام بهم - وهم جماعة واحدة - لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة، ثم بعد ذلك كأن الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعاً وثلاثين] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/ 112 - 113.
وقال الإمام الشوكاني: [والحاصل أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشبهها هو مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى فقصر الصلاة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة] نيل الأوطار 3/ 61.
(1/181)

وقال الشيخ المرداوي: [قوله وهي عشرون ركعة هكذا قال الأصحاب وقال في الرعاية عشرون وقيل أو أزيد. قال: في الفروع والفائق ولا بأس بالزيادة، نص عليه، وقال: روي في هذا ألوان ولم يقض فيها بشيء، وقال الشيخ تقي الدين: كل ذلك أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة حسن كما نص عليه أحمد لعدم التوقيت فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره] الإنصاف 2/ 180.
وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله عن سؤال حول عدد ركعات صلاة التراويح بما يلي: [صلاة التراويح سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دلت الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ... وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة فوجب أن يحمل كلام عائشة رضي الله عنها في قولها (ما كان يزيد صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) على الأغلب جمعاً بين الأحاديث ولا حرج في الزيادة على ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد في صلاة الليل شيئاً بل لما سئل عن صلاة الليل قال: (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق عليه، ولم يحدد إحدى عشرة ركعة ولا غيرها فدل على التوسعة في صلاة الليل في رمضان وغيره] فتاوى اللجنة الدائمة 7/ 194 - 196.
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [وليس في قيام رمضان حد محدود لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت لأمته في ذلك شيئاً وإنما حثهم على قيام رمضان ولم يحدد ذلك بركعات محدودة ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن قيام الليل قال: (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) ... فدل ذلك على التوسعة في هذا الأمر فمن أحب أن يصلي عشرين ركعة
(1/182)

ويوتر بثلاث فلا بأس ومن أحب أن يصلي عشر ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس ومن أحب أن يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس ومن زاد عن ذلك أو نقص عنه فلا حرج عليه والأفضل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالباً وهو أن يقوم بثماني ركعات يسلم من كل ركعتين ويوتر بثلاث مع الخشوع والطمأنينة وترتيل القراءة] فضل الصوم وقيامه ص 7.
وبعد هذه النقول عن هؤلاء العلماء يظهر لنا أن الإنصاف يقضي بأن القول بأن الواجب إحدى عشرة ركعة في التراويح قولٌ غير مسلّم وأن الراجح من أقوال أهل العلم جواز الزيادة على ذلك العدد وأن الأمر فيه سعة ولا دليل على قصر التراويح على إحدى عشرة ركعة فقط.
- - -

الرد على من منع الزيادة في صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة
يقول السائل: ما حكم الزيادة في صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة حيث إن بعض طلبة العلم يمنعون الزيادة بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد عليها، أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن صلاة التراويح سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هديه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم. وأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا قول مشهور من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا الحاضر وكثير من مساجد المسلمين تصلى فيها التراويح
(1/183)

كذلك ومنهم من زاد على العشرين فقيل تسع وثلاثين وقيل إحدى وأربعين وقيل غير ذلك. ومن أهل العلم من يرى أنه لا حد لعدد ركعات صلاة التراويح فيجوز أن يزيد على إحدى عشرة ركعة ولا حرج في ذلك وهذا أرجح أقوال أهل العلم فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد عدداً محدوداً لصلاة التراويح تمنع الزيادة عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على ثلاث عشرة ركعة ولكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن .... ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/ 272.
وقال الإمام الشوكاني يرحمه الله: [والحاصل أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشبهها هو مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى فقصر الصلاة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة] نيل الأوطار 3/ 61.
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز لأحد أن ينكر على من يصلي التراويح بأكثر من إحدى عشرة ركعة كمن يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة فإن الأمر فيه سعة.
قال الإمام الشافعي يرحمه الله: [رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق].
(1/184)

وقال الحافظ ابن عبد البر يرحمه الله: [وقد أجمع العلماء على أن لا حدّ ولا شيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلَّت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود] الاستذكار 5/ 244.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني يرحمه الله: [ ... والأعداد الأخرى سوى الإحدى عشرة أُثرت عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والقاعدة عندهم في ذلك أنهم كانوا إذا أطالوا القراءة قللوا عدد الركعات وإذا أخفوا القراءة زادوا في عدد الركعات] فتح الباري.
وقال العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [وإن أوتر بثلاث وعشرين كما فعل ذلك عمر والصحابة رضي الله عنهم في بعض الليالي من رمضان فلا بأس، فالأمر واسع، وثبت عن عمر والصحابة أيضاً أنهم أوتروا بإحدى عشرة، كما في حديث عائشة، فقد ثبت عن عمر هذا وهذا، ثبت عنه رضي الله عنه أنه أمر من عين من الصحابة أن يصلي إحدى عشرة، وثبت عنهم أنهم صلوا بأمره ثلاثاً وعشرين، وهذا يدل على التوسعة في هذا، وأن الأمر عند الصحابة واسع، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) ولكن الأفضل من حيث فعله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، وسبق ما يدل على أن إحدى عشرة أفضل لقول عائشة رضي الله عنها: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) يعني غالباً، ولهذا ثبت عنها أنه صلى إحدى عشرة وثبت عن غيرها، فدل ذلك أن هذا هو الأغلب، وهي تطلع على ما كان يفعله عندها وتسأل أيضاً، فإنها كانت أفقه النساء وأعلم النساء بسنة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تخبر عما يفعله عندها وعما تشاهده وتسأل غيرها من أمهات المؤمنين ومن الصحابة، وتحرص على العلم، ولهذا حفظت علماً عظيماً وأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب حفظها العظيم وسؤالها غيرها من الصحابة عما حفظوا رضي الله عن الجميع.
(1/185)

ثم استفسر من الشيخ سائل قائلاً: أحسن الله إليك، بعض المصلين يرون أن هذه هي السنة، وعندما يأتون إلى مساجد تصلي ما يزيد على ثلاث وعشرين ركعة يصلون إحدى عشرة ركعة أو عشر ركعات ولا يتمون مع الإمام؟
يوضح الشيخ رحمه الله قائلاً: لا، السنة الإتمام مع الإمام ولو صلى ثلاثاً وعشرين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قام مع افمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة) ... فالأفضل للمأموم أن يقوم مع الإمام حتى ينصرف، سواء صلى إحدى عشرة أو ثلاث عشرة أو ثلاثاً وعشرين، هذا هو الأفضل؛ أن يتابع الإمام حتى ينصرف والثلاث والعشرون فعلها عمر رضي الله عنه مع الصحابة، فليس فيها نقص وليس فيها خلل، بل هي من السنن، من سنة الخلفاء الراشدون] عن شبكة الإنترنت.
وقال العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطأ مخالف للأدلة. وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته بل ثبت عنه أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وربما صلى ثلاث عشرة ركعة وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل قال: (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق على صحته ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عنه في بعض الأحيان ثلاثاً وعشرين ركعة وفي بعضها إحدى عشرة ركعة كل ذلك ثبت عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في عهده. وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستاً
(1/186)

وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث وبعضهم يصلى إحدى وأربعين ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم كما ذكر رحمة الله عليه أن الأمر في ذلك واسع] عن شبكة الإنترنت.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: [ ... لا ينبغي لنا أن نغلو أو نفرط فبعض الناس يغلو من حيث التزام السنة في العدد فيقول لا تجوز الزيادة على العدد الذي جاءت به السنة وينكر أشد النكير على من زاد على ذلك ويقول إنه آثم عاصي وهذا لا شك أنه خطأ وكيف يكون آثماً عاصياً وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟ فقال: (مثنى مثنى) ولم يحدد بعدد ومن المعلوم أن الذي سأله عن صلاة الليل لا يعلم العدد لأن من لا يعلم الكيفية فجهله بالعدد من باب أولى وليس ممن خدم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نقول إنه يعلم ما يحدث داخل بيته فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم بين له كيفية الصلاة دون أن يحدد له بعدد علم أن الأمر في هذا واسع وأن للإنسان أن يصلي مئة ركعة ويوتر بواحدة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهذا ليس على عمومه ... وإنما المراد (صلوا كما رأيتموني أصلي) في الكيفية أما في العدد فلا إلا ما ثبت النص بتحديده. وعلى كلٍ ينبغي للإنسان أن لا يشدد على الناس في أمر واسع حتى إنا رأينا من الإخوة الذين يشددون في هذا من يبدعون الأئمة الذين يزيدون على إحدى عشرة ويخرجون من المسجد فيفوتهم الأجر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وقد يجلسون إذا صلوا عشر ركعات فتتقطع الصفوف بجلوسهم وربما يتحدثون أحياناً فيشوشون على المصلين وكل هذا من الخطأ ونحن لا نشك بأنهم يريدون الخير وأنهم مجتهدون لكن ليس كل مجتهد يكون مصيباً] الشرح الممتع 4/ 73 - 74.
(1/187)

قال الشيخ العلامة محمد صالح العثيمين: [إذا قال قائل: صَحَّحتُم أنها إحدى عشرة ركعة، فما رأيكم لو صَلَّينا خلف إمام يُصلِّيها ثلاثاً وعشرين، أو أكثر، هل إذا قام إلى التَّسليمة السَّادسة نجلسُ وَنَدَعُهُ، أو الأفضل أنْ نكمِلَ معه؟
فالجواب: أنَّ الأفضلَ أنْ نكملَ معه، ودليلُ ذلك من وجهين:
الوجه الأول: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان: (نَّه مَنْ قَامَ مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيامُ ليلةٍ) ومَن جَلَسَ ينتظر حتى يَصِلَ الإمامُ إلى الوِتر ثم أوتر معه، فإنه لم يُصلِّ مع الإمام حتى ينصرفَ؛ لأنه تَرَكَ جُزءاً مِن صَلاته.
الوجه الثاني: عُموم قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم: (نما جُعِلَ الإمامُ ليؤتمَّ به) هذا يشمَلُ كلَّ فِعْلٍ فَعَلَه الإمامُ ما لم يكن منهيًّا عنه، والزيادةُ على إحدى عشرة ليس منهيًّا عنها، وحينئذٍ نتابع الإمامَ.
أما لو كانت الزِّيادةُ منهيًّا عنها مثل: أنْ يُصلِّيَ الإمامُ صلاةَ الظُّهر خمساً فإننا لا نتابعُه. ثم ينبغي أنْ نعلمَ أنَّ اتفاقَ الأُمَّة مقصودٌ قصداً أوَّليًّا بالنسبة للشَّريعة الإسلامية؛ لأنَّ الله يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]، والتَّنازع بين الأمة أَمْرٌ مرفوضٌ، قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وقال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: من الآية 13]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم)، يقوله في تساوي النَّاس في الصَّفِّ.
(1/188)

ولما صَلَّى عثمانُ في مِنَى في الحَجِّ الرُّباعية أربعاً ولم يقصر بعد أنْ مَضى مِنْ خِلافته ثماني سنوات، وأنكرَ النَّاسُ عليه، وقالوا: قَصَرَ النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعُمرُ، يعني: وأنت في أول خِلافتك، لكنه تأوَّل، فكان الصَّحابة الذين ينكرون عليه يصلُّون خلفَه أربعاً، وهم ينكرون عليه، مع أنَّ هذه زيادة متَّصلة بالصَّلاة مُنكرَة عندهم، ولكن تابعوا الإمام فيها إيثاراً للاتِّفاق.
فما بالك بزيادة منفصلة، لو تعمَّدها الإنسان لا تؤثِّر على بطلان الصَّلاة؟ ثم يقول: إننا متمسِّكون بالسُّنَّة ومتَّبعون لآثار الصَّحابة. مع مخالفته في هذه المسألة.
فإني أقول: إنَّ كلَّ إنسان يقول: إنه متَّبعٌ للسُّنَّة متَّبعٌ لهدي السَّلف؛ فإنه لا يسعه أن يدعَ الإمامَ إذا صَلَّى ثلاثاً وعشرين ويقول: أنا سأَتَّبعُ السُّنَّةَ وأصلِّي إحدى عشرة؛ لأنك مأمورٌ بمتابعة إمامك منهيٌّ عن المخالفة، ولست منهيًّا عن الزيادة عن إحدى عشرة.
فيجب على طَلَبَةِ العِلم خاصَّة، وعلى النَّاس عامَّة أن يَحْرِصُوا على الاتفاق مهما أمكن؛ لأن مُنْيَةَ أهل الفِسقِ وأهلِ الإلحاد أنْ يختلفَ أصحابُ الخير، لأنه لا يوجد سلاحٌ أشدُّ فتكاً مِن الاختلاف، وقد قال موسى للسَّحرة: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ} [طه:61 - 62]، فلما تنازعوا فَشِلوا وذهبت ريحُهم.
فهذا الاختلاف الذي نجده من بعض الإخوة الحريصين على اتِّباع السُّنَّة في هذه المسألة وفي غيرها، أرى أنه خِلاف السُّنَّةِ، وخِلافُ ما تقصده الشَّريعة مِن توحّدِ الكلمة واجتماعِ الأمَّة، لأنَّ هذا -ولله الحمد- ليس أمراً محرَّماً ولا منكراً، بل هو أمْرٌ يسوغ فيه الاجتهادُ، فكوننا نولِّد الخِلافَ ونشحنُ القلوبَ بالعداوة والبغضاء والاستهزاء بمن يخالفنا في الرَّأي، مع أنه سائغٌ ولا يخالف السُّنَّة، فالواجب على الإنسان أنْ يَحْرِصَ على اجتماع الكلمة ما أمكن] الشرح الممتع 4/ 83 - 86.
(1/189)

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم يرحمه الله مفتي المملكة السعودية السابق: [وإذا كان من عادة أهل بلد فعل صلاة التراويح على وجه آخر مما له أصل شرعي فلا وجه للإنكار عليهم أيضاً. والمقصود من ذلك كله هو البعد عن أسباب الشقاق والنزاع في أمر فيه سعة. ولقد لاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وترك أمراً عظيماً مخافة ما يقع في قلوب الناس كما جاء في حديث عائشة (لولا حدثان قومك بالإسلام ... ) الحديث. وترجم البخاري في هذا المعنى فقال: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقع في أشد منه وساق حديث عائشة (لولا حدثان قومك بالإسلام لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين) الحديث، وقال علي: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذبَ اللهَ ورسوله؟) وفي رواية (ودعوا ما ينكرون)، وقال ابن مسعود: الخلاف شر. أ. هـ.
وقال الشيخ إسماعيل الأنصاري: الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة) فالجواب عنه أنه ليس فيه دليل على منع الزيادة على إحدى عشر ركعة في التراويح وغيرها، قال الحافظ ابن العراقي في طرح التثريب: قد اتفق العلماء على أنه ليس له - أي لقيام الليل - حد محصور] غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 5/ 458 - 459.
قال الشيخ العبيكان: [قلت والراجح أن قيام الليل ليس له حد محدود، بل للمسلم أن يصلي ما شاء من الركعات في التراويح وغيرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة)، والقول مقدم على الفعل عند التعارض، مع أنه ليس هناك تعارض بين القول والفعل، حيث ما ورد عن عائشة من نفي الزيادة على إحدى عشرة، فقد أثبت غيرها أكثر من ذلك، والمثبت مقدم على النافي، ولو سلم عدم حصول الزيادة، فلا يمنع مشروعية الزيادة، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة جداً بحيث لا يبقى وقت
(1/190)

للزيادة، يوضحه أنه صلى أقل من ذلك تسعاً وسبعاً وأقل. ومن العجيب أن بعض الناس الذين يزعمون أنهم يتمسكون بالسنة يصلون إحدى عشرة في وقت وجيز يقارب النصف ساعة، ثم يجلسون يتحدثون ويلهون ويزعمون أن فعلهم أفضل من فعل الذين يستمرون في الصلاة ويزيدون على ذلك العدد، فهم تمسكوا بالعدد وتركوا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الوقت، ومن فعل ذلك فلا يعتبر مقتدياً والله أعلم] غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 5/ 462 - 463.
وخلاصة الأمر أنه لا يصح الإنكار على من صلى التراويح أكثر من إحدى عشرة ركعة وأن الأمر واسع فلا ينبغي لطلبة العلم أن يحجروا واسعاً فيحدثوا تشويشاً على عامة المصلين والخطب في هذه المسألة سهل يسير.
- - -

مسح الوجه بعد دعاء القنوت بدعة
يقول السائل: ما حكم مسح الوجه وبعض الجسم باليدين بعد الإنتهاء من دعاء القنوت كما يفعله كثير من الناس؟
الجواب: إن مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء القنوت أمر مشهور بين عامة الناس، ولكن هذا الأمر مع شهرته وانتشاره وعمل كثير من الناس به لا سند له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح رضي الله عنهم، وإن قال به بعض الفقهاء.
قال الإمام النووي رحمه الله عند حديثه عن هذه المسألة أن فيها وجهين:
الأول: أنه يستحب وذكر جماعة من الفقهاء الذين قالوا بذلك ثم قال النووي:
والثاني: لا يسمح وهذا هو الصحيح صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين. المجموع 3/ 501.
(1/191)

ثم ذكر كلام البيهقي التالي، وأنقله من سننه رحمه الله حيث قال: [فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظ عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة.
وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس، فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة وبالله التوفيق] السنن الكبرى 2/ 212.
وأقول جزى الله أئمتنا وعلمائنا خيراً فإنهم وقافون عند موارد النصوص فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الأبتداع.
وأما الحديث الذي أشار اليه البيهقي فهو ما رواه أبو داود في سننه بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسأله بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم) قال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق امثلها وهو ضعيف أيضاً. عون المعبود 4/ 251.
وقد علق العلامة الألباني على هذه الرواية: (فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم) فقال: [ ... وعلى ذلك فهذه الزيادة منكرة ولم أجد لها حتى الآن شاهداً ... ثم قال: لا يصلح شاهداً للزيادة حديث ابن عمر مرفوعاً (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه) لأن فيه متهماً بالوضع -أي الكذب- وقال أبو زرعة: حديث منكر أخاف أن لا يكون له أصل] السلسلة الصحيحة 3/ 146.
وروى البيهقي بسنده عن علي الباشاني قال: [سألت عبد الله بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه، قال: لم أجد له ثبتاً، أي مستنداً].
(1/192)

وورد عن العز بن عبد السلام سلطان العلماء أنه قال: [لا يمسح وجهة إلا جاهل]. وبمناسبة الحديث عن دعاء القنوت أذكر بعض الأمور منها:
أولاً: ما نراه من بعض المصلين من المبالغة برفع أيدهم فوق رؤوسهم، وأرى أن هذا الأمر فيه مبالغة واضحة وأن الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين عند الدعاء تدل على مد اليدين وبسطهما، ولا تدل على هذا الرفع المبالغ فيه.
قال الحافظ ابن حجر عند كلامه على حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الإستسقاء وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه، قال الحافظ: [وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الإستسقاء ... الى أن قال: وذهب آخرون الى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة أما الرفع البليغ فيدل عليه قوله: [حتى يرى بياض إبطيه] ويؤديه أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء وكأنه عند الإستسقاء مع ذلك زاد فرفعمها الى جهة وجهه حتى حاذتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه] فتح الباري 3/ 171.
لذلك فإني أرى أن ما يفعله بعض الناس من المبالغة الشديدة في رفع اليدين وجعلهما فوق الرأس إنما هو من الغلو في الدين وقد نهينا عن ذلك.
والأمر الثاني الذي أود التنبيه عليه وأذكر به إخواننا أئمة المساجد وهو التطويل في دعاء القنوت وغيره من الأدعية والأذكار، والأفضل هو الاقتصار على الأدعية والأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن زاد على ذلك فلا بأس به بشرط ألا يكون الدعاء متكلفاً أو متضمناً مخالفة شرعية.
(1/193)

قال الإمام النووي عند ذكره لآداب الدعاء: [الخامس: أن لا يتكلف السجع وقد فسر به الاعتداء في الدعاء والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة فما كل أحد يحسن الدعاء فيخاف عيه الاعتداء] الأذكار ص 342.
فبعض أئمة المساجد من أجل أن يحافظ على السجع يأتي بأمور غير مقبولة في الدعاء.
- - -
(1/194)

مسائل
في
الاعتكاف
(1/195)

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف؟ وهل يصح للمسلم أن ينوي الاعتكاف كلما دخل المسجد؟ وما حكم الاعتكاف؟
الجواب: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: [كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل وتركه مرة فقضاه في شوال.
واعتكف مرة في العشر الأول ثم الأوسط ثم العشر الأخير يلتمس ليلية القدر ثم تبين له أنها في العشر الأخير فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل.
وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل وكان إذا اراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخله .. وكان يعتكلف كل سنة عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً .. وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه الا لحاجة الأنسان وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضه له سريره في معتكفه ... الخ] زاد المعاد 2/ 88 - 90.
هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف وعلينا الاقتداء به، وأما حكم الاعتكاف فهو مسنون عند أكثر أهل العلم في العام كله، وأوكد الاعتكاف ما كان في العشر الأواخر من رمضان وإذا نذر المسلم الاعتكاف صار الوفاء به فرضاً.
وأما زمان الاعتكاف ومدته فجمهور العلماء يرون جواز الاعتكاف مدة يسيرة في المسجد كساعة أو ساعتين ونحو ذلك.
قال ابن حزم: [كل اقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب اليه اعتكاف، فالاعتكاف يقع على ما ذكرنا مما قل من الأزمان أو كثر، إذ لم يخص القرآن والسنة عدداً من عدد ولا وقتاً من وقت، عن سويد بن غفلة قال: من جلس في المسجد وهو طاهر فهو
(1/197)

عاكف فيه ما لم يحدث. وعن عطاء بن أبي رباح عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: إني لأمكث في المسجد ساعة وما أمكث إلا لأعتكف، قال عطاء: هو اعتكاف ما مكث فيه وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف وإلا فلا] المحلى 3/ 412.
وينبغي أن يعلم أن الاعتكاف لا بد أن يكون في المسجد الذي تقام فيه الجمعة والجماعة؛ حتى لا يحتاج المعتكف للخروج لهما، ولا بد في الاعتكاف أيضاً من النية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
والمطلوب من المعتكف أن يلبث في المسجد وينشغل بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وعليه أن يبتعد عن الخوض في أمور الدنيا. وعليه أن يجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، ويجتنب أيضاً المراء والجدال والسباب، ويقلل الكلام في أمور الدنيا ولا يتكلم إلا بخير.
ويكره للمعتكف أن يترك الكلام تركاً مطلقاً معتقداً أن ذلك قربة لله، لأن ذلك بدعة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذر ترك الكلام أن يتكلم. ويجوز للمعتكف أن يأكل ويشرب وينام في المسجد مع وجوب محافظته على نظافة وطهارة المسجد، ويجوز له أن يتطيب ويلبس ما شاء من الملابس الحسنة، وإذا نوى المسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فعليه أن يلبث في المسجد، ولا يجوز له الخروج إلا لحاجة، ويجوز أن يخرج للوضوء والغسل وللأعمال الضرورية لأن الخروج من المسجد يفسد الاعتكاف إلا ما ذكرنا.
- - -
(1/198)

يجوز الاعتكاف في جميع المساجد
يقول السائل: ما قولكم فيما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال؟
الجواب: الاعتكاف من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في رمضان في العشر الأواخر منه. رواه البخاري ومسلم.
ويشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد وقد قال الله تعالى: {ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} سورة البقرة الآية 187. ولم يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المسجد فلا يصح الاعتكاف في البيوت.
واتفق العلماء على أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال أفضل من الاعتكاف في غيرها من المساجد وجمهور أهل العلم لا يرون أن الاعتكاف خاص بالمساجد الثلاثة كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء ونصره الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني ودافع عنه في أكثر من كتاب من كتبه.
قال العلامة الألباني: [ثم وقفت على حديث صحيح صريح يخصص المساجد المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) وقد قال به من السلف فيما اطلعت حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب وعطاء إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً وخالف آخرون فقالوا: ولو في مسجد بيته ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي ينبغي المصير إليه والله سبحانه وتعالى أعلم] قيام رمضان للألباني ص 36.
(1/199)

وقال العلامة الألباني أيضاً: [واعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية المسجد للاعتكاف وصفته كما تراه مبسوطاً في (المصنفين) المذكورين و (المحلى) وغيرهما وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} سورة البقرة الآية 187. وهذا الحديث الصحيح والآية عامة والحديث خاص ومقتضى الأصول أن يحمل العام على الخاص وعليه فالحديث مخصص للآية ومبين لها وعليه يدل كلام حذيفه وحديثه والآثار في ذلك مختلفة أيضاً فالأولى الأخذ بما وافق الحديث منها كقول سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي. أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه] سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد السادس القسم الأول ص670.
وقد تابع العلامة الألباني بعض تلاميذه كما جاء في كتاب صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ص 93: [لا يشرع الاعتكاف إلا في المساجد لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وليست هذه المساجد على الاطلاق فقد ورد تقييدها في صحيح السنة المشرفة وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)]. وقد أطال العلامة الألباني الكلام على الحديث السابق في الموقع المشار إليه في السلسلة الصحيحة وحكم على الحديث بالصحة ورأى أنه مخصص لعموم الآية السابقة.
وما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم اشتراط المساجد الثلاثة لصحة الاعتكاف هو القول الراجح بل هو القول الصحيح من حيث الدليل وبيان ذلك فيما يلي:
إن قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} عام في كل مسجد ولا يصلح الحديث المذكور سابقاً لتخصيص الآية لأنه يشترط في المخصص من السنة أن يكون صحيحاً لا شك فيه والحديث المذكور محل خلاف بين المحدثين فمنهم من صححه
(1/200)

ومنهم من ضعفه ومنهم من أوَّله كما سيأتي وما كان حاله كذلك لا يصلح أن يكون مخصصاً لعموم الكتاب.
قال الإمام مالك: [الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها فإن كان مسجداً لا يجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه فإني لا أرى بأساً بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فعمَّ الله المساجد كلها ولم يخص شيئاً منها قال مالك: فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة] الموطأ 1/ 285.
وقال الإمام البخاري: [باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}].
قال الحافظ ابن حجر: [قوله (باب الاعتكاف في العشر الأواخر) والاعتكاف في المساجد كلها أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد ... واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان. وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه وفيه قول للشافعي قديم وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات وخصه أبو يوسف بالواجب منه وأما النفل ففي كل مسجد وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي في الجامع وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة ويجب بالشروع عند
(1/201)

مالك وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقاً. وأومأ إليه الشافعي في القديم وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجد مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة] فتح الباري 5/ 176.
وقال العيني: [وقالت طائفة الاعتكاف يصح في كل مسجد روي ذلك عن النخعي وأبي سلمة وأبي ثور وداود وهو قول مالك في الموطأ وهو قول الجمهور والبخاري أيضاً حيث استدل بعموم الآية في سائر المساجد] عمدة القاري 8/ 286.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن سعيد بن جبير أنه اعتكف في مسجد قومه ومثله عن همام بن الحارث ومثله عن إبراهيم النخعي وعن أبي الأحوص وعن يحيى بن أبي سلمة وعن عامر الشعبي.
وروى ابن أبي شيبة أيضاً بإسناده عن شداد بن الأزمع قال: [اعتكف رجل في المسجد الأعظم وضرب خيمته فحصبه الناس فبلغ ذلك ابن مسعود فأرسل إليه رجلاً فكف الناس عنه وحسَّن ذلك] انظر المصنف 3/ 9 - 91. وانظر أيضاً مصنف عبد الرزاق 4/ 346 - 348.
قال الإمام النووي: [(فرع في مذاهب العلماء في مسجد الاعتكاف) قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف وأنه يصح في كل مسجد، وبه قال مالك وداود، وحكى ابن المنذر عن سعيد بن المسيب أنه قال: إنه لا يصح إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وما أظن أن هذا يصح عنه، وحكى هو وغيره عن حذيفه بن اليمان الصحابي أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى. وقال الزهري والحكم وحماد ولا يصح إلا في الجامع، وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور يصح في كل مسجد يصلى فيه الصلوات كلها وتقام فيه الجماعة. واحتج لهم بحديث عن جويبر عن الضحاك عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح)
(1/202)

رواه الدارقطني وقال: الضحاك لم يسمع من حذيفة، قلت وجويبر ضعيف باتفاق أهل الحديث فهذا الحديث مرسل ضعيف فلا يحتج به، واحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ووجه الدلالة من الآية لاشتراط المسجد أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لأنها منافية للاعتكاف فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد وإذا ثبت جوازه في المساجد صح في كل مسجد ولا يقبل تخصيص من خصه ببعضها إلا بدليل ولم يصح في التخصيص شيء صريح] المجموع 6/ 483.
وقال ابن حزم الظاهري: [والاعتكاف جائز في كل مسجد ... وبرهان ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فعمَّ الله تعالى ولم يخص].
ثم قال ابن حزم: [أما من حدَّ مسجد المدينة وحده أو مسجد مكة ومسجد المدينة أو المساجد الثلاثة أو المسجد الجامع فأقوال لا دليل على صحتها فلا معنى لها وهو تخصيص لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ... فإن قيل فأين أنتم عمَّا رويتموه من طريق سعيد بن منصور ... : قال حذيفه لعبد الله بن مسعود قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) أو قال: (مسجد جماعة)؟ قلنا: هذا شك من حذيفه أو ممن دونه ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك ولو أنه عليه السلام قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا ولم يُدْخِل فيه شكاً. فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط] المحلى 3/ 428 - 431.
وقال الشوكاني معلقاً على حديث حذيفه أنه قال لابن مسعود: [لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال في مسجد جماعة) الحديث الأول أخرجه ابن أبي شيبة ولكن لم يذكر المرفوع منه واقتصر على المراجعة التي فيه بين حذيفة وابن مسعود ولفظه: (إن حذيفه جاء إلى عبد الله فقال:
(1/203)

ألا أعجبك من قوم عكوف بين دارك ودار الأشعري يعني المسجد قال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت) فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وعلى أن عبد الله يخالفه ويجوز الاعتكاف في كل مسجد ولو كان ثم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خالفه وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج أحد شقيه. وقد استشهد بعضهم لحديث حذيفه بحديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مرفوعاً بلفظ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) وهو متفق عليه ولكن ليس فيه ما يشهد لحديث حذيفة لأن أفضلية المساجد الثلاثة واختصاصها بشد الرحال إليها لا تستلزم اختصاصها بالاعتكاف وقد حكى في الفتح عن حذيفة أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة] نيل الأوطار 4/ 301
وقال العلامة صديق حسن خان: [وإنما اختلفوا هل يجزئ الاعتكاف في كل مسجد؟ أم في الثلاثة المساجد فقط؟ أو في المسجد الحرام فقط؟ والظاهر أنه يجزئ في كل مسجد قال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ولا حجة في قول عائشة ولا في قول حذيفه في هذا الباب] الروضة الندية 2/ 41.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [فكل مساجد الدنيا يسن فيها الاعتكاف وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة كما روي ذلك عن حذيفه بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لااعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) فإن هذا الحديث ضعيف. ويدل على ضعفه أن ابن مسعود رضي الله عنه وهنه حين ذكر له حذيفه رضي الله عنه أن قوماً يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفه وبيت ابن مسعود رضي الله عنه فجاء إلى ابن مسعود زائراً له وقال إن قوماً كانوا معتكفين في المسجد الفلاني فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: [لعلهم أصابوا فأخطأت وذكروا فنسيت] فأوهن هذا حكماً ورواية. أما حكماً ففي قوله: [أصابوا فأخطأت] وأما رواية: [فذكروا
(1/204)

ونسيت] والإنسان معرض للنسيان وإن صح هذا الحديث فالمراد به: لا اعتكاف تام أي أن المساجد الأخرى الاعتكاف فيها دون المساجد الثلاث كما أن الصلاة في المساجد فيها دون الصلاة في المساجد الثلاثة. ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. فقوله: في المساجد (ال) هنا للعموم فلو كان الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة لقلنا: إن (ال) هنا للعهد الذهني ولكن أين الدليل؟ وإذا لم يقم دليل على أن (ال) للعهد الذهني فهي للعموم هذا الأصل ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها ثم نقول لا يصح إلا في المساجد الثلاثة فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية ثم نقول: إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة كالطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام. فالصواب: أنه عام في كل مسجد لكن لا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل] الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/ 504 - 505.
ويضاف لما سبق أن اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية قد اختارت أن الاعتكاف يصح في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة. انظر فتاوى اللجنة الدائمة 10/ 410.
وخلاصة الأمر أن الاعتكاف يصح في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة وليس مقصوراً على المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال.
- - -

حكم اعتكاف المرأة
يقول السائل: ما حكم اعتكاف المرأة في العشر الأواخر من رمضان؟
الجواب: الاعتكاف من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد صح (أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في رمضان في العشر الأواخر منه) رواه البخاري ومسلم. ويشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد قال الله تعالى: {ولا تُبَاشِرُوهُنَّ
(1/205)

وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} سورة البقرة الآية 187. ولم يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المسجد فلا يصح الاعتكاف في البيوت.
والاعتكاف مشروع للنساء كما هو مشروع للرجال إلا أنه يشترط لصحة الاعتكاف من المرأة أن تكون طاهراً من حيض أو نفاس على قول جمهور أهل العلم
ويدل على مشروعية الاعتكاف للنساء ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده) رواه البخاري ومسلم
وثبت في الحديث الآخر عن عائشة رضي الله عنها قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف، صلى الفجر، ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائه فضرب، أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان. فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من ازواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، نظر فإذا الأخبية، فقال: آلبر تردن؟ فأمر بخبائه فَقُوّضَ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان. حتى اعتكف في العشر الأول من شوال) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (فترك الاعتكاف) في رواية أبي معاوية (فأمر بخبائه فقوض) وهو بضم القاف وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة أي نقض، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة والتنافس الناشىء عن الغيرة حرصاً على القرب منه خاصة فيخرج الاعتكاف عن موضوعه، أو لما أذن لعائشة وحفصة أولاً كان ذلك خفيفاً بالنسبة إلى ما يفضي إليه الأمر من توارد بقية النسوة على ذلك فيضيق المسجد على المصلين أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته وربما شغلنه عن التخلي لما قصد من العبادة فيفوت مقصود الاعتكاف] فتح الباري 4/ 351
(1/206)

ويجب أن يعلم أنه يشترط إذن الزوج وموافقته لجواز اعتكاف الزوجة وكذا غير المتزوجة فلا بد من موافقة وليها قال الحافظ ابن حجر العسقلاني [قوله: (فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء) في رواية الأوزاعي المذكورة (فاستأذنته عائشة فأذن لها وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت) وفي رواية ابن فضيل المذكورة (فاستأذن عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت قبة، فسمعت بها حفصة فضربت قبة)] فتح الباري 4/ 350.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً: [ ... قال ابن المنذر وغيره: في الحديث أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها وأنها إذا اعتكفت بغير إذنه كان له أن يخرجها، وإن كان بإذنه فله أن يرجع فيمنعها. وعن أهل الرأي إذا أذن لها الزوج ثم منعها أثم بذلك وامتنعت، وعن مالك ليس له ذلك، وهذا الحديث حجة عليهم] فتح الباري 4/ 351
ويشترط لصحة اعتكاف المرأة أمن الفتنة، فلا يصح اعتكاف المرأة في مسجد لا يوجد فيه مكان خاص بالنساء؛ لأنها حينئذ ستختلط بالرجال، وهذا فيه مفاسد تنافي الحكمة من الاعتكاف، ومن المعلوم أن درء المفاسد مقدم على *** المصالح، وإن اعتكفت مجموعة من النساء في مسجد خاص بهن فأمر حسن إن كان المسجد آمناً.
ولا يشترط لصحة اعتكاف المرأة أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة ولا الجماعة لأنهما ليستا واجبتين على المرأة. قال الشيخ ابن قدامةالمقدسي: [وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد، ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة، عليها وبهذا قال الشافعي. وليس لها الاعتكاف في بيتها وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها، وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل، وحكي عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه
(1/207)

وقال: (آلبر تردن) ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل. ولنا قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها، وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجداً كان مجازاً، فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً) ولأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن، ولو لم يكن موضعاً لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه ونبههن عليه. ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف، وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا، وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرت أبنيتهن لما رأى من منافستهن، فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء المقصد به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (آلبر تردن) منكراً لذلك أي لم تفعلن ذلك تبرراً، ولذلك ترك الاعتكاف لظنه أنهن يتنافسن في الكون معه، ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن، ولم يأذن لهن في المسجد وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها، فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه] المغني 3/ 190 - 191.
وخلاصة الأمر أن الاعتكاف للنساء مشروع كالرجال بشروطه السابقة ولكن نظراً للظروف الصعبة التي نعيشها في هذه البلاد فأرى أنه لا ينبغي للنساء أن يعتكفن في المساجد في العشر الأواخر من رمضان ولا في غيرها إلا إذا اعتكفت المرأة في المسجد ساعة من النهار أو سويعات فلا بأس بذلك وأما أن تعتكف ليلاً في المسجد فلا.
- - -
(1/208)

مسائل
في زكاة
الفطر
(1/209)

من أحكام زكاة الفطر
يقول السائل: ما حكم إخراج النقود في صدقة الفطر؟ وما هو وقتها؟ وهل يجوز تعجيلها؟ ولمن تعطى؟
الجواب: صدقة الفطر أو زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد ثبتت بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:
حديث ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد الحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيهما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء -أي القمح الشامي- قال: أرى مداً من هذه يعدل مدين) رواه البخاري.
وجمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يرون وجوب إخراج الأعيان في صدقة الفطر كالتمر والشعير والزبيب أو من غالب قوت الناس ولا يجيزون إخراج القيمة أي إخراج النقود.
ومذهب الحنفية جواز إخراج القيمة ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا هو القول الراجح إن شاء الله لما يلي:
أولاً: إن الأصل في الصدقة المال لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}. والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة وأطلق على ما يقتنى من الأعيان مجازاً وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج لا لتقييد الواجب وحصر المقصود.
(1/211)

ثانياً: إن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج.
وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر الأثر عن معاذ ونصه [وقال طاووس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة] واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ بن حجر في فتح الباري 4/ 54.
ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل.
وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته.
ثالثاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة فجعل من التمر والشعير صاعاً ومن البر نصف صاع وذلك لكونه أكثر ثمناً في عصره فدل على أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر القيمة.
ورواية نصف الصاع من البر ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة ولا يسلم ضعفها كما قال بعض المحدثين.
رابعاً: إن المقصود من صدقة الفطر إغناء الفقراء وسد حاجتهم وهذا المقصود يتحقق بالنقود أكثر من تحققه بالأعيان وخاصة في زماننا هذا لأن نفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته
(1/212)

وحاجات أولاده وأسرته ومن المشاهد في بعض بلاد المسلمين أن الفقراء يبيعون الأعيان (القمح والأرز) إلى التجار بأبخس الأثمان نظراً لحاجتهم إلى النقود.
خامساً: قال الدكتور يوسف القرضاوي: [أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض زكاة الفطر من الأطعمة السائدة في بيئته وعصره إنما اراد بذلك التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم فقد كانت النقود الفضية أو الذهبية عزيزة عند العرب وأكثر الناس لا يكاد يوجد عنده منها إلا القليل أو لا يوجد عنده منها شيء وكان الفقراء والمساكين في حاجة إلى الطعام من البر أو التمر أو الزبيب أو الإقط، لهذا كان إخراج الطعام أيسر على المعطي وأنفع للآخذ ولقصد التيسير أجاز لأصحاب الإبل والغنم أن يخرجوا (الإقط) وهو اللبن المجفف المنزوع زبده فكل إنسان يخرج من الميسور لديه. ثم إن القدرة الشرائية للنقود تتغير من زمن لآخر ومن بلد لآخر ومن مال لآخر فلو قدر الواجب في زكاة الفطر بالنقود لكان قابلاً للارتفاع والانخفاض حسب قدرة النقود على حين يمثل الصاع من الطعام إشباع حاجة بشرية محددة لا تختلف فإذا جعل الصاع هو الأصل في التقدير فإن هذا أقرب إلى العدل وأبعد عن التقلب].
وهناك أدلة أخرى كثيرة تدل على رجحان مذهب الحنفية القائلين بجواز إخراج القيمة في صدقة الفطر ومن أراد الاستزادة فليراجع كتاب الإمام المحدث أحمد بن محمد الغماري بعنوان (تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال).
وأما بقية الأسئلة فأقول في الجواب عنها:
إن وقت وجوب صدقة الفطر هو غروب شمس آخر يوم من رمضان عند الجمهور وطلوع فجر يوم العيد عند الحنفية. هذا وقوت الوجوب وقد أجازوا تقديمها عن وقت الوجوب وهو الأصلح والأنفع للفقراء فعند الحنفية يجوز تعجيلها من أول العام وعند الشافعية يجوز تعجيلها من أول شهر رمضان وعند المالكية والحنابلة يجوز تقديمها بيوم أو يومين لقول ابن عمر: (كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه
(1/213)

البخاري. وهذا قول حسن وثبت من فعل جماعة من الصحابة تعجيلها بيوم أو يومين أو ثلاثة حتى يتمكن الفقير من شراء ما يلزمه قبل يوم العيد.
وتصرف صدقة الفطر للفقراء والمساكين والمحتاجين فقط ولا تصرف في مصارف الزكاة الثمانية على الراجح من أقوال أهل العلم.

- - -

لمن تعطى زكاة الفطر
يقول السائل: لمن تعطى صدقة الفطر وهل يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر؟
الجواب: تُصرف صدقة الفطر للمساكين والفقراء والمحتاجين ولا تصرف في مصارف الزكاة الثمانية لورود الأحاديث في ذلك فمنها ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (طعمة للمساكين) أي طعام للمساكين وهذا واضح في صرفها للمساكين دون غيرهم. ولما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما.
والمراد إغناء الفقراء عن المسألة في ذلك اليوم أي يوم العيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ساق الحديثين السابقين: [ولهذا أوجبها الله طعاماً كما أوجب الكفارة وعلى هذا القول فلا يجزئ إطعامهما إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم فلا يعطى منها المؤلفة قلوبهم ولا الرقاب ولا غير ذلك وهذا القول أقوى في الدليل] مجموع الفتاوى 25/ 73.
(1/214)

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة ولا أمر بذلك ولا فعله أحد من أصحابه ولا من بعدهم بل أحد القولين عندنا - أي عند الحنابلة - إنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية] زاد لمعاد في هدي خير العباد 2/ 22.
وقد اختار بعض الفقهاء المعاصرين مثل الدكتور يوسف القرضاوي قولاً قريباً من ذلك وهو: [تقديم الفقراء على غيرهم إلا لحاجة ومصلحة إسلامية معتبرة] فقه الزكاة 2/ 958.
وأما بالنسبة لنقل صدقة الفطر فالحال فيها كنقل زكاة المال من بلد إلى بلد فإن الأصل أن توزع الزكاة في البلد الذي جمعت منه ويجوز نقلها من بلد إلى آخر إذا كان هنالك مصلحة في نقلها كأن يكتفي أهل البلد الذي وجبت فيه الزكاة فيجوز نقلها إلى بلد آخر وأن ينقلها ليعطيها للأرحام والأقارب فهذا نقل جائز ولا بأس به. وكذلك إذا كان فقراء البلدان الأخرى أشد حاجة من فقراء بلده فيجوز نقل الزكاة إليهم لا بأس في ذلك إن شاء الله.
- - -
(1/215)

مضى العيد ولم يخرج زكاة الفطر
يقول السائل: ما حكم شخص لم يخرج زكاة الفطر حتى مضى العيد؟
الجواب: إن صدقة الفطر واجبة مؤقتة بوقت محدد وهو قبل صلاة العيد فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وقد أورد ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: [يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} سورة الأعلى الآيتان 14 - 15.
فإذا قامت صلاة العيد ولم يخرج صدقة الفطر فقد أتى مكروهاً كما قال جمهور الفقهاء وأما إن أخرها حتى انقضاء يوم العيد فأكثر الفقهاء على أن ذلك التأخير حرام ولكنها لا تسقط بل تبقى ديناً في ذمته حتى يخرجها.
قال بعض أهل العلم إن تأخيرها عن يوم العيد حرام بالاتفاق لأنها زكاة واجبة فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج الصلاة عن وقتها. نيل الأوطار 4/ 207.
ويدل على ذلك حديث ابن عباس قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة لصلائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه.
قال ابن حزم: [فمن لم يؤدها حتى خرج وقتها فقد وجبت في ذمته وماله لمن هي له فهي دين لهم وحق من حقوقهم وقد وجب إخراجها من ماله وحرم عليه إمساكها في ماله فوجب عليه أداؤها أبداً وبالله تعالى التوفيق ويسقط بذلك حقهم ويبقى حق
(1/216)

الله تعالى في تضييعه الوقت لا يقدر على جبره إلا بالاستغفار والندامة] المحلى 4/ 266.
- - -

كيف تقدر القيمة في صدقة الفطر؟
يقول السائل: ما هو الأساس الذي يبنى عليه تقدير قيمة صدقة الفطر؟
الجواب: صدقة الفطر واجبة كما هو معلوم فقد ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى والحر والعبد والكبير والصغير من المسلمين) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من إقط أو من زبيب) رواه البخاري ومسلم. وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على وجوب صدقة الفطر.
وقد أجاز جماعة من أهل العلم إخراج القيمة في صدقة الفطر وقد نقل هذا القول عن جماعة من الصحابة والتابعين منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وبه العمل وعليه الفتوى عند الحنفية وهو أرجح أقوال أهل العلم في المسألة كما سبق وأن بينت ذلك مفصلاً في الجزء الأول.
وتقدير القيمة يكون بناء على قيمة الأصناف المذكورة في الحديث ولكن ينبغي أن يعلم أن هذه الأصناف التي ذكرت في الحديث ليست على سبيل التعيين وإنما لأنها كانت غالب قوت الناس في المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ويدل على ذلك ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كنا نخرجها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام وكان
(1/217)

طعامنا يومئذ التمر والزبيب والشعير). [فقوله من طعام فيه إشارة إلى العلة وهي أنها طعام يؤكل ويطعم ويرجح هذا ويقويه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكن يقويه حديث ابن عباس رضي الله عنه: (فرضها -أي زكاة الفطر- طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين) وعلى هذا فإن لم تكن هذه الأشياء من القوت كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها لا تجزئ]. الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/ 180 - 181.
لذلك ينبغي أن يكون تقدير القيمة على حسب غالب قوت البلد من الطعام وإن لم يكن مذكوراً في الحديث فمن المعلوم أن بعض البلاد يقتاتون غالباً على الأرز فتخرج صدقة الفطر من الأرز أو قيمة الأرز.
قال الحطاب المالكي: [فذكر أنها تؤدى من أغلب القوت يعني أغلب قوت البلد الذي يكون فيه المخرج لها إذا كان ذلك الأغلب من المعشرات -ما تجب فيه الزكاة- أو من الإقط ... فإن اقتات أهل بلد غير المعشرات أخرجت زكاة الفطر مما يقتاتونه ... وأنها تؤدى من أغلب القوت من هذه الأصناف التسعة التي هي: القمح والشعير والسلت والتمر والزبيب والإقط والدخن والذرة والأرز فإن كان غالب القوت في بلد خلاف هذه الأصناف التسعة من علس أو قطنية أو غير ذلك وشيء من هذه الأصناف موجود لم تخرج إلا من الأصناف التسعة فإن كان أهل بلد ليس عندهم شيء من الأصناف التسعة وإنما يقتاتون في غيره فيجوز أن تؤدى حينئذ من عيشهم ولو كان من غير الأصناف التسعة، قال في المدونة: قال مالك: وتؤدى زكاة الفطر من القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والتمر والزبيب والإقط صاع من كل صنف منها ويخرج ذلك أهل كل بلد من جل عيشهم من ذلك والتمر عيش أهل المدينة ولا يخرج أهل مصر إلا القمح لأنه جل عيشهم إلا أن يغلو سعرهم فيكون عيشهم الشعير فيجزئهم] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 3/ 260 - 261.
(1/218)

وقال القرافي: [يخرج أهل كل بلد من غالب عيشهم ذلك الوقت وفي الجواهر قال أشهب: من عيشه هو وعيش عياله إذا لم يشح على نفسه وعليهم لنا: قوله عليه السلام: (أغنوهم عن سؤال هذا اليوم) والمطلوب لهم غالب عيش البلد وقياساً على الغنم المأخوذ في الإبل قال سند: إن عدل عن غالب عيش البلد أو عيشه إلى ما هو أعلى أجزأ وإلى الأدنى لا يجزئ عند مالك ... وقال ابن حبيب: إن كان يأكل من أفضل القمح والشعير والسلت فأخرج الأدنى أجزأ وكان ابن عمر رضي الله عنه يخرج التمر والشعير والسلت ويأكل البر واحتجوا بأن الخبر ورد بصيغة التخيير فيخير. جوابهم: أن أو فيه ليست للتخيير بل للتنويع ومعناه إن كان غالب العيش كذا فأخرجوه أو كذا فأخرجوه فهو تنويع للحال كما قال فيه حراً أو عبداً ذكراً أو أنثى ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم)] الذخيرة 3/ 169.
وقال الخطيب الشربيني: [ويجب الصاع من غالب قوت بلده إن كان بلدياً وفي غيره من غالب قوت محله لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي وقيل من غالب قوته على الخصوص وقيل يتخير بين جميع الأقوات فأو فى الخبرين السابقين على الأولين للتنويع وعلى الثالث للتخيير والمعتبر في غالب القوت غالب قوت السنة كما في المجموع لا غالب قوت وقت الوجوب خلافاً للغزالي في وسيطه] مغني المحتاج 2/ 117 - 118.
وبناء على ما تقدم يظهر لنا أن الأصناف المذكورة في أحاديث صدقة الفطر ليست على التعيين وإنما هي من باب التمثيل لأنها كانت غالب قوت أهل المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن تقدير قيمة صدقة الفطر يكون على هذا الأساس وعليه فإن تقدير القيمة في بلادنا يكون على أساس القمح والطحين والأرز والخبز لأن هذه الأصناف هي غالب قوت أهل بلدنا فيؤخذ متوسط أسعار هذه المواد فيكون هو
(1/219)

مقدار قيمة صدقة الفطر وقد جربت ذلك بنفسي اليوم فوجدت أن قيمة صدقة الفطر ستة شواكل تقريباً أو دينار أردني إذا تقرر هذا فإنه لا يصح الادعاء بأن تقدير صدقة الفطر بالمبلغ المذكور سابقاً (ستة شواكل) غير صحيح وأن الصواب أنه ثلاثة أضعافه لأن قائل هذا القول زعم أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار ثمن صاع التمر وصاع الإقط عند تقدير قيمة صدقة الفطر.
فهذا الكلام مردود لأن التمر والإقط لا يعتبران قوتاً غالباً في بلادنا فلذلك لا يدخلان في تقدير قيمة صدقة الفطر وتقديرها بستة شواكل هو الصحيح وهذا هو الحد الأدنى لصدقة الفطر فإن رغب أحد في أن يدفع أكثر من ذلك فلا حرج عليه بل هو زيادة في الخيرات. كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} سورة البقرة الآية 184. ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً - أي لجمع الزكاة - فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض فقلت له أدّ ابنة مخاض فإنها صدقتك فقال ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها فقلت له ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت عليَّ فافعل فإن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته قال فإني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض عليَّ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي وأيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما عليَّ فيه ابنة مخاض وذلك ما لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى عليَّ وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك. قال: فها هي ذه يا رسول الله قد
(1/220)

جئتك بها فخذها قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة) رواه أبو داود وقال العلامة الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن أبي داود 1/ 298. - - -
لا يشترط ملك النصاب في صدقة الفطر
يقول السائل: على من تجب صدقة الفطر وهل يشترط لها ملك نصاب معين حتى تجب على المسلم؟
الجواب: صدقة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم لما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) رواه البخاري ومسلم.
وقد صرح جماعة من السلف بفرضيتها كما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية وعطاء وابن سيرين بل إن ابن المنذر قد نقل الإجماع على فرضيتها. ولكن في نقله الإجماع نظر. انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/ 463.
وقال الشوكاني: [(قوله فرض) فيه دليل على أن صدقة الفطر من الفرائض وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، ولكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية] نيل الأوطار 4/ 201.
وتجب صدقة الفطر على كل مسلم ذكراً كان أو أنثى صغيراً كان أو كبيراً عبداً كان أو حراً ويخرجها الزوج عن زوجته وأولاده ومن يمونهم من أقاربه كأمه التي تعيش معه أو أخته التي تعيش معه.
وقد ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (أمر الله بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون) رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما، وقال العلامة الألباني: حديث حسن. انظر إرواء الغليل 3/ 320.
(1/221)

وتجب صدقة الفطر على من ملك قوته وقوت عياله وقوت من يمونهم ليلة العيد ويومها لأن صدقة الفطر تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان أو طلوع فجر يوم عيد الفطر على خلاف بين أهل العلم ولا يشترط لوجوبها ملك النصاب على الراجح من أقوال العلماء.
قال الخرقي الحنبلي: [وإذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته] وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً عبارة الخرقي: [وجملة ذلك أن صدقة الفطر واجبة على من قدر عليها ولا يعتبر في وجوبها نصاب وبهذا قال أبو هريرة وأبو العالية والشعبي وعطاء وابن سيرين والزهري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبو ثور وقال أصحاب الرأي: لا تجب إلا على من يملك مائتي درهم أو ما قيمته نصاب فاضل عن مسكنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صدقة إلا عن ظهر غنىً) والفقير لا غنى له فلا تجب عليه ولأنه تحل له الصدقة فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها. ولنا: ما روى ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أدوا صدقة الفطر صاعاً من قمح أو قال بر عن كل إنسان صغير أو كبير حر أو مملوك غني أو فقير ذكر أو أنثى أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى) وفي رواية أبي داود: (صاع من بر أو قمح عن كل اثنين) ولأنه حق مال لا يزيد بزيادة المال، فلا يعتبر وجوب النصاب فيه كالكفارة ولا يمتنع أن يؤخذ منه ويعطى لمن وجب عليه العشر والذي قاسوا عليه عاجز فلا يصح القياس عليه وحديثهم محمول على زكاة المال] المغني 3/ 94. وحديث عبد الله بن ثعلبة الذي ذكره الشيخ ابن قدامة المقدسي رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وذكر العلامة الألباني أصل الحديث في السلسلة الصحيحة 3/ 170.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [واستدل بقوله في حديث ابن عباس (طهرة للصائم) على أنها تجب على الفقير كما تجب على الغني وقد ورد ذلك صريحاً في
(1/222)

حديث أبي هريرة عند أحمد وفي حديث ثعلبة بن أبي صعير عند الدارقطني وعن الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصاباً ومقتضاه أنها لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغني والفقير واستدل لهم بحديث أبي هريرة المتقدم (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) واشترط الشافعي ومن تبعه أن يكون ذلك فاضلاً عن قوت يومه ومن تلزمه نفقته. وقال ابن بزيزة: لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها لأنها زكاة بدنية لا مالية] فتح الباري 3/ 465.
وقال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في ضبط اليسار الذي تجب به الفطرة ذكرنا أن مذهبنا أنه يشترط أن يملك فاضلاً عن قوته وقوت من يلزمه نفقته ليلة العيد ويومه حكاه العبدري عن أبي هريرة وعطاء والشعبي وابن سيرين وأبي العالية والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وأبي ثور وقال أبو حنيفة لا تجب إلا على من يملك نصاباً من الذهب أو الفضة أو ما قيمته نصاب فاضلاً عن مسكنه وأثاثه الذي لا بد منه قال العبدري ولا يحفظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة] المجموع 6/ 113.
وقد اشترط الحنفية ملك النصاب لوجوب صدقة الفطر وقولهم مرجوح وما احتجوا به من أدلة فغير مسلم عند المحققين من أهل العلم قال الشوكاني: [قد اختلف في القَدْر الذي يعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة فقال الهادي والقاسم وأحد قولي المؤيد بالله أنه يعتبر أن يملك قوت عشرة أيام فاضلاً عما استثني للفقير وغير الفطرة لما أخرجه أبو داود في حديث ابن أبي صعير عن أبيه في رواية بزيادة (غني أو فقير) بعد (حر أو عبد) ويجاب عن هذا الدليل بأنه وإن أفاد عدم اعتبار الغنى الشرعي فلا يفيد اعتبار ملك قوت عشر. وقال زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه إنه يعتبر أن يكون المخرج غنياً غنىً شرعياً واستدل لهم في البحر بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الصدقة ما كانت عن ظهر غنى) وبالقياس على زكاة المال. ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب لأنه بلفظ (خير الصدقة ما كان على ظهر غنىً) كما أخرجه أبو داود
(1/223)

ومعارض أيضاً بما أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (أفضلُ الصدقة جهد المقل) وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامه مرفوعاً (أفضلُ الصدقة سرٌ إلى فقير وجهد من مقل) وفسره في النهاية بقدر ما يحتمل حال قليل المال. وما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال: على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به فهذا تصدق بنصف ماله) الحديث. وأما الاستدلال بالقياس فغير صحيح لأنه قياس مع الفارق إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان والزكاة بالأموال. وقال مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحق والمؤيد بالله في أحد قوليه: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً لقوت يوم وليلة لما تقدم من أنها طهرة للصائم. ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك ويؤيد ذلك ما تقدم من تفسيره صلى الله عليه وسلم من لا يحل له السؤال بمن يملك ما يغديه ويعشيه وهذا هو الحق لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنياً ولا فقيراً ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً له لا سيما العلة التي شرعت لها الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهر من اللغو والرفث واعتبار كونه واجداً لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم كما أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر قال (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: أغنوهم في هذا اليوم) وفي رواية للبيهقي (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) وأخرجه أيضاً ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغنائه في ذلك اليوم لا من المأمورين إخراج الفطرة وإغناء غيره وبهذا يندفع ما اعترض به صاحب البحر عن أهل هذه المقالة من أنه
(1/224)

يلزمهم إيجاب الفطرة على من لم يملك إلا دون قوت اليوم ولا قائل به] نيل الأوطار 4/ 208 - 209.
وقال الدكتور القرضاوي: [والذي أراه أن للشارع هدفاً أخلاقياً تربوياً - وراء الهدف المالي - من فرض هذه الزكاة على كل مسلم غني أو فقير ذلك هو تدريب المسلم على الإنفاق في الضراء كما ينفق في السراء والبذل في العسر كما يبذل في اليسر ومن صفات المتقين التي ذكرها القرآن أنهم {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}. وبهذا يتعلم المسلم وإن كان فقير المال رقيق الحال أن تكون يده هي العليا وأن يذوق لذة الإعطاء والإفضال على غيره ولو كان ذلك يوماً في كل عام. ولهذا أرجح مذهب الجمهور الذين لم يشترطوا لوجوب هذه الزكاة ملك النصاب] فقه الزكاة 2/ 930.
وخلاصة الأمر أنه لا يشترط ملك النصاب لوجوب صدقة الفطر بل تجب على من ملك قوته وقوت عياله يومه وليلته.
- - -
(1/225)

تعجيل زكاة الفطر
يقول السائل: هل يجوز لي أن أعجل صدقة الفطر من أول رمضان لأن لي جاراً فقيراً وهو بحاجة ماسة. أفيدونا؟
الجواب: صدقة الفطر أو زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على وجوب صدقة الفطر. وقد ثبتت صدقة الفطر بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
ووقت وجوب صدقة الفطر محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من يرى أنها تصير واجبة بغروب الشمس ليلة الفطر، لأنه وقت الفطر من رمضان. وقالت جماعة أخرى من العلماء إن وقت وجوبها هو طلوع الفجر من يوم العيد.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما وقت الوجوب فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان ... وبما ذكرنا في وقت الوجوب قال الثوري وإسحاق ومالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه. وقال الليث وأبو ثور وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهو رواية عن مالك لأنها قربة تتعلق بالعيد، فلم يتقدم وجوبها يوم العيد وهو رواية عن مالك كالأضحية ولنا قول ابن عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث) ولأنها تضاف إلى الفطر فكانت واجبة به كزكاة المال، وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص والسبب أخص بحكمه من غيره والأضحية لا تعلق لها بطلوع الفجر ولا هي واجبة ولا تشبه ما نحن فيه] المغني3/ 89. وينبغي إخراجها قبل صلاة العيد فقد جاء في الحديث عن ابن عمر
(1/226)

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه. وقد أورد ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: [يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} سورة الأعلى الآيتان 14 - 15. انظر فتح الباري 3/ 472.
وقد أجاز العلماء تعجيل صدقة الفطر عن وقت الوجوب فمنهم من قال يجوز تعجيلها من أول العام. ومنهم من قال يجوز تعجيلها من أول الشهر. ومنهم من قال يجوز تعجيلها من نصف الشهر. ومنهم من قال يجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين وهذا القول الأخير هو أرجح أقوال العلماء في المسألة ويدل له ما كان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلونه فعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه قال: (وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أيضاً (أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) رواه مالك في الموطأ والبيهقي في السنن وغيرهما.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وقد وقع في رواية ابن خزيمة من طريق عبد الوارث عن أيوب (قلت متى كان ابن عمر يعطي؟ قال: إذا قعد العامل. قلت متى يقعد العامل؟ قال قبل الفطر بيوم أو يومين). ولمالك في الموطأ عن نافع (أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) وأخرجه الشافعي عنه وقال: هذا حسن وأنا أستحبه -يعني تعجيلها قبل يوم الفطر- انتهى.
(1/227)

ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في الوكالة وغيرها عن أبي هريرة قال (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان) الحديث. وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليال وهو يأخذ من التمر فدل على أنهم كانوا يعجلونها .. ] فتح الباري 3/ 474.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه وجملته أنه يجوز تقديم الفطرة قبل العيد بيومين لا يجوز أكثر من ذلك وقال ابن عمر: كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين وقال بعض أصحابنا: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل وقال أبو حنيفة: ويجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة فأشبهت زكاة المال وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها، كزكاة المال بعد ملك النصاب ولنا ما روى الجوزجاني: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو معشر عن نافع، عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر به فيقسم -قال يزيد أظن: هذا يوم الفطر- ويقول: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم)، والأمر للوجوب، ومتى قدمها بالزمان الكثير لم يحصل إغناؤهم بها يوم العيد وسبب وجوبها الفطر بدليل إضافتها إليه وزكاة المال سببها ملك النصاب، والمقصود إغناء الفقير بها في الحول كله فجاز إخراجها في جميعه وهذه المقصود منها الإغناء في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت فأما تقديمها بيوم أو يومين فجائز لما روى البخاري بإسناده عن ابن عمر، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان وقال في آخره: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين) وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعاً ولأن تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها، فإن الظاهر أنها تبقى أو
(1/228)

بعضها إلى يوم العيد فيستغنى بها عن الطواف والطلب فيه ولأنها زكاة، فجاز تعجيلها قبل وجوبها كزكاة المال والله أعلم] المغني3/ 89 - 90.
وخلاصة الأمر أنه يجوز تعجيل صدقة الفطر قبل يوم العيد بيوم أو يومين وفي ذلك تحقيق لمصلحة للفقير.
وينبغي التنبيه على أنه يجوز إخراج القيمة في صدقة الفطر أي إخراجها نقداً وهو مذهب الحنفية ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى وهو الذي يحقق مصلحة الفقير وخاصة في هذا الزمان وهو قول وجيه تؤيده الأدلة الكثيرة ومنها أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج. وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر أثر معاذ رضي الله عنه السابق واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/ 54. ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته وصدقة الفطر زكاة بلا خلاف.
ولا يصح القول بأن من أخرج القيمة في صدقة الفطر فإنها غير مجزئة فالمسألة محل خلاف بين العلماء ومسائل الخلاف إن أخذ أحد من الناس بقول أحد العلماء المجتهدين فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى وجواز إخراج القيمة قال به جماعة من
(1/229)

أهل العلم المعتبرين كما سبق وأخيراً أقول لبعض طلبة العلم الذين لا يأخذون بالقيمة لا تحجروا واسعاً ورفقاً بالمسلمين.
- - -

زكاة الفطر في حق من لم يصم رمضان لعذر
يقول السائل: إن والده كبير في السن وعاجز عن الصيام ولم يصم في رمضان الحالي فهل تجب زكاة الفطر عليه أفيدونا؟
الجواب: زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد ثبتت بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد أو رجل أو امرأة صغير أو كبير صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغيرٍ وكبير حرٍ أو مملوكٍ صاعاً من طعام أو صاعاً من أقط أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجاً أو معتمراً فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت) رواه مسلم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه
(1/230)

وسلم بعث منادياً في فجاج مكة: (ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب. وغير ذلك من الأحاديث.
وزكاة الفطر هي زكاة الأبدان بخلاف زكاة الأموال وقد ذكر أهل العلم أن الحكمة من مشروعية زكاة الفطر هي المشار إليها في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وحسَّنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم 1420. ومما ذكره بعض أهل العلم من الحِكَمِ أن زكاة الفطر تطهير وتنقية للصائم مما اقترفه في صيامه من اللغو: وهو الكلام الباطل الذي لا فائدة فيه، أو الرفث: وهو ما قبح وساء من الكلام. قال وكيع بن الجراح: زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة، وقال الشيخ ولي الله الدهلوي: [وإنما وقتت بعيد الفطر لمعانٍ: منها أنها تكمل كونه من شعائر الله، وأن فيها طهرة للصائمين وتكميلاً لصومهم بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة] حجة الله البالغة 2/ 79.
وكذلك فإنها من شكر الله عز وجل على إتمام الشهر، ونعمة إكمال الصيام. وكذلك ما فيها من إشاعة المحبة، وبث السرور بين الناس، وخاصة المساكين، فالعيد يوم فرح وسرور، فاقتضت حكمة الشارع أن يفرض للمسكين في يوم العيد ما يعفّه عن السؤال، ويغنيه عن الحاجة، وقد روي في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكن يقويه حديث ابن عباس السابق كما قال العلامة العثيمين في الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/ 181.
(1/231)

إذا تقرر هذا فإن شرط وجوب زكاة الفطر أمران: أولهما الإسلام وثانيهما أن يكون عند المسلم ليلة العيد ما يزيد عن قوته وقوت عياله، ولذا لا يشترط لوجوبها ملك النصاب على قول جمهور العلماء. وبناءً على ذلك تجب زكاة الفطر على كل مسلم حضر رمضان صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً أو مريضاً، مقيماً أو مسافراً، صام أم لم يصم، ومما يدل على ذلك أن النصوص التي أوجبت زكاة الفطر جاءت عامة مطلقة وورد فيها الأنثى ومن المعلوم أن من الإناث من لا تصوم كل رمضان إما للحيض وإما للنفاس وإما أن تكون حاملاً أو مرضعاً، وورد فيها الصغير والكبير، والصغير لفظ عام يشمل كل صغير حتى الرضيع ومن المعلوم أن الصيام ليس بواجب على الصغار وإن صاموا قبل منهم، وكذلك الكبير فمن المعلوم أن من الكبار من لا يطيق الصيام بسبب الهرم كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة الآية 184. وكذلك فقد يكون من الكبار من هو مريض أو مسافر لا يلزمه الصوم كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية 184.
ومما يؤيد ذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يُخرجوا زكاة الفطر، ولم يفصِّل، حيث لم يقل: (من أفطر شيئاً من رمضان فلا زكاة عليه)، ولم يقل: (من كان شيخاً كبيراً فأفطر فلا زكاة عليه)، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه) من موقع الشيخ الشنقيطي عن الإنترنت.
ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي (أنه كان يقول صدقة الفطر عمن صام من الأحرار وعن الرقيق من صام منهم ومن لم يصم، نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير). وروى أيضاً عن الحسن البصري (أنه قال مثل قول الشعبي فيمن لم يصم من الأحرار) المصنف 3/ 171.
(1/232)

ومما يؤيد ذلك أيضاً ما قاله بعض أهل العلم في تسمية زكاة الفطر بهذا الاسم كأنها من الفطرة التي هي الخلقة، فوجوبها عليها تزكية للنفس، وتنقية لعملها فيدخل في ذلك من صام ومن لم يصم. انظر فقه الزكاة 2/ 917.
وأما ما نقل عن بعض الفقهاء من أن زكاة الفطر واجبة على من صام رمضان فقط لأنه ورد في الحديث: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين)، فقد أجاب عن ذلك الإمام النووي بقوله [وتعلق من لم يوجبها أنها تطهير والصبي ليس محتاجاً إلى التطهير لعدم الإثم، وأجاب الجمهور عن هذا بأن التعليل بالتطهير لغالب الناس، ولا يمتنع ألا يوجد التطهير من الذنب، كما أنها تجب على من لا ذنب له، كصالح محقق الصلاح، وككافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، فإنها تجب عليه مع عدم الإثم] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 50.
وأجاب الشيخ الشنقيطي أيضاً بقوله: [والصحيح: ما نص عليه الجماهير من أنها شرعت طعمةً للمساكين وغناءً لهم يوم العيد، وعلى هذا كونها تطهِّر الصائم من اللغو والرفث مشترك مع غيره من العلة الموجودة، ويجوز تعليل الحكم بعلتين على أصح أقوال الأصوليين، وحينئذٍ يستقيم أن يخاطب بها إعمالاً للأصل؛ لأنه أفطر من رمضان، والمراد أنه دخلت عليه ليلة العيد وهي ليلة الفطر من رمضان. ألا ترى أنهم نصوا على أنه لو أسلم الكافر قبل مغيب الشمس ولو بلحظة أنه تجب عليه زكاة الفطر مع أنه لم يصم، وبناءً على ذلك لا يشترط أن يكون قد صام، بل زكاة الفطر واجبة على من صام أو أفطر بعذر] من موقع الشيخ الشنقيطي عن الإنترنت.
وقد سئل الشيخ العلامة العثيمين عمن تجب عليه زكاة الفطر؟ فأجاب فضيلته بقوله: تجب على كل إنسان من المسلمين ذكراً كان أو أنثى، صغيراً كان أم كبيراً،
(1/233)

سواء كان صائماً أم لم يصم، كما لو كان مسافراً ولم يصم فإن صدقة الفطر تلزمه] عن الإنترنت.
وخلاصة الأمر أن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم شهد رمضان صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً أو مريضاً، مقيماً أو مسافراً، صام أم لم يصم.
(1/234)

مسائل
العيد
(1/235)

هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم العيد
يقول السائل: ما هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في يوم العيد؟
الجواب: كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في مصلى العيد وهو ليس المسجد النبوي، وإنما كان أرض خلاء وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بإخراج النساء يشهدن الصلاة ويسمعن الذكر حتى الحيض منهن فقد جاء في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها ***اب قال: لتلبسها أختها ***ابها) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى: (والحيّض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس) رواه مسلم، والعواتق أي الشابات، والحيّض: جمع حائض، وذوات الخدور: ربات البيوت.
وكان من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الاغتسال للعيد.
وكان يلبس أجمل ثيابه يوم العيد، فإن التجمل باللباس يوم العيد والجمعة واجتماع الناس من الأمور المشروعة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الخروج ماشياً إلى الصلاة فإذا وصل إلى المصلى بدأ الصلاة من غير أذان ولا إقامة فكان يصلي ركعتين فيهما تكبيرات زوائد.
وأصح ما ورد في صفة صلاة العيد وعدد التكبيرات الزوائد ما جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها) رواه أحمد وابن ماجة وقال الحافظ العراقي إسناده صالح ونقل الترمذي تصحيحه عن البخاري.
ويكون التكبير سبعاً في الأولى قبل القراءة وخمساً في الثانية قبل القراءة وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة.
(1/237)

وأما ما ورد في التكبير ثلاثاً في الأولى قبل القراءة وثلاثاً في الثانية بعد القراءة فإن الحديث فيه ضعيف لا يعول عليه وما تقدم أصح.
وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة (ق) وفي الركعة الثانية سورة القمر. كما جاء في الحديث عن أبي واقد الليثي وقد سأله عمر: ما كان رسول الله يقرأ به في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ (ق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر) رواه مسلم.
وأحياناً كان يقرأ في الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة الغاشية كما في الحديث عن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية) رواه أحمد.
وبعد انتهائه عليه الصلاة والسلام من الصلاة كان يشرع في الخطبة وكان يبدؤها بالحمد لله وليس بالتكبير كما يفعل أكثر الخطباء اليوم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير] زاد المعاد 1/ 447 وكان عليه الصلاة والسلام يكبر كثيراً خلال خطبتي العيد.
ومما يجدر ذكره أن التكبير في عيد الأضحى يبدأ من فجر يوم عرفة ويستمر حتى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق وقد صح ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، فصح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق. ويكون التكبير في أعقاب الصلوات المفروضة وغيرها من الأوقات.
قال الإمام الشوكاني: [والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات المفروضة بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام] نيل الأوطار 3/ 358.
(1/238)

وينبغي أن يعلم أن أيام العيد هي أيام ذكر لله تعالى وليست أياماً للتحلل من الأحكام الشرعية كما يظن كثير من الناس قال عليه الصلاة والسلام (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) رواه مسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام بعد انتهاء الصلاة والخطبة يأتي النساء فيعظهن ويذكرهن فقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكأً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن) رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يعود من المصلى من طريق غير الطريق الذي سلكه في ذهابه ليكثر الناس الذين يسلم عليهم أو لغير ذلك من الحكم. وبعد رجوعه إلى منزله كان يتولى أضحيته بنفسه أو يوكل أحداً بذبحها فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ... ) رواه مسلم.
وأخيراً ينبغي التذكير بصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والمساكين يوم العيد وكذلك فلا بأس بالتهنئة بالعيد والتوسعة على الأهل والأولاد.
- - -

التهنئة بحلول العيد
يقول السائل: كيف تكون التهنئة بحلول العيد؟
الجواب: إن أصل التهنئة مشروع في الجملة فقد ثبت في الحديث الصحيح في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه حين تاب الله عليه بعد تخلفه عن غزوة تبوك حيث ورد في قصة توبته: (قال سمعت صوت صارخ يقول بأعلى صوته يا كعب بن
(1/239)

مالك، أبشر فذهب الناس يبشروننا وأنطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أقصده - يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنؤني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني وكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) رواه البخاري ومسلم.
وهذا الحديث في التهنئة بشكل عام وأما التهنئة بالعيد والدعاء فيه فقد ورد في الحديث عن محمد بن زياد قال: [كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض يتقبل الله منا ومنك] قال الإمام أحمد بن حنبل إسناده إسناد جيد وجوَّده أيضاً العلامة ابن التركماني، الجوهر النقي 3/ 319.
ونقل ابن قدامة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال: [ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد تقبل الله منا ومنك].
وقال حرب: [سئل أحمد عن قول الناس في العيدين: تقبل الله منا ومنكم قال: لا بأس به يرويه أهل الشام عن أبي أمامة قيل وواثلة بن الأسقع؟ قال: نعم، قيل فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد: قال: لا] المغني 2/ 295 - 296.
وسئل الإمام مالك عن قول الرجل لأخيه يوم العيد تقبل الله منا ومنك يريد الصوم فقال: ما أعرفه ولا أنكره، قال ابن حبيب المالكي معناه لا يعرفه سنة ولا ينكره على من يقوله لأنه قول حسن ولأنه دعاء.
وقد عقد الإمام البيهقي باباً في سننه الكبرى بعنوان: [باب ما روي في قول الناس يوم العيد بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك].
(1/240)

ثم ساق فيه بعض الأحاديث الواردة في ذلك وضعّفها وساق فيه أيضاً أثراً عن عمر بن عبد العزيز فقال: [عن أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال: كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيد تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا ولا ينكر ذلك علينا] سنن البيهقي 3/ 319.
وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فلا بأس أن يعمل بها في مثل هذا الأمر الذي يعد من فضائل الأعمال وخاصة إذا أضفنا إليها الحديث الذي لم يذكره البيهقي وهو حديث أبي أمامة المذكور سابقاً، وخلاصة الأمر أنه لا بأس أن يقال في التهنئة بالعيد تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال أو نحوها من العبارات.
- - -

التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم يصلي صلاة العيد على مذهب أبي حنيفة فيكبر في الأولى ثلاثاً بعد تكبيرة الإحرام ثم يقرأ، وفي الركعة الثانية يبدأ بالقراءة ثم يكبر ثلاثاً ثم يكبر للركوع. وأنه لاحظ أن كثيراً من المصلين يخطئون في الصلاة فيركعون عند تكبير الإمام التكبيرة الأولى من التكبيرات الزوائد في الركعة الثانية فما قولكم في ذلك؟
الجواب: اختلف أهل العلم في التكبير في صلاة العيدين اختلافاً كبيراً في عدد التكبيرات الزوائد وفي موضعها وقد ذكر الشوكاني عشرة أقوال في المسألة في كتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 3/ 339 - 340. وذكر غيره من العلماء أكثر من ذلك. ولكن يجب أن يعلم أن التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين من السنن المستحبة عند جمهور أهل العلم ولا تبطل الصلاة بتركها عمداً أو سهواً. الروضة الندية 1/ 383.
(1/241)

وأرجح أقوال أهل العلم أن السنة في تكبيرات صلاة العيد أن يكبر سبعاً في الأولى قبل القراءة وخمساً في الثانية قبل القراءة قال الحافظ العراقي: [هو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة قال وهو مروي عن عمر وعلي وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وزيد بن ثابت وعائشة وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومكحول وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد واسحق] نيل الأوطار 3/ 339. وانظر المجموع 5/ 9 - 20. المغني 2/ 282.
وقد استدل لهذا القول بالأدلة التالية: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى والقراءة بعدهما كلتيهما] رواه أبو داود وابن ماجة. وفي رواية عند أحمد وابن ماجة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها) قال الإمام أحمد وأنا أذهب إلى هذا. وحديث عمرو بن شعيب حديث صحيح، صححه أحمد وعلي بن المديني والبخاري فيما حكاه الترمذي قاله الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 2/ 84.
وقال الإمام النووي: [وحديث عمرو بن شعيب هذا حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد حسنة] المجموع 5/ 16.
وقال الحافظ العراقي: [إسناده صالح ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال إنه حديث صحيح] نيل الأوطار 3/ 338. وقال الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن أبي داود 1/ 213.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمساً) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وقال العلامة الألباني حديث صحيح. انظر إرواء الغليل 3/ 107.
(1/242)

وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الثانية خمساً قبل القراءة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم. سنن الترمذي مع شرحه التحفة 3/ 66. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/ 166.
وعن سعد القرظ رضي الله عنه مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الآخرة خمساً قبل القراءة) رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وصححه الألباني بشواهده في صحيح سنن ابن ماجة 1/ 215.
وعن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: (التكبير في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات وفي الآخرة خمس تكبيرات) رواه الدارقطني والبزار وهو حديث ضعيف. وعن جابر رضي الله عنه قال: [مضت السنة أن يكبر للصلاة في العيدين سبعاً وخمساً] رواه البيهقي. وغير ذلك من الأحاديث.
ويلاحظ على هذه الأحاديث أن كل حديث منها لم يسلم من النقد ولكن مجموع هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً قال العلامة الألباني بعد أن فصَّل الكلام على حديث عائشة السابق: [وبالجملة فالحديث بهذه الطرق صحيح ويؤيده عمل الصحابة به منهم أبو هريرة فيما رواه نافع مولى ابن عمر قال: [شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءة] أخرجه مالك ومن طريقه الفريابي والبيهقي. ثم أخرجاه وكذا ابن أبي شيبة من طرق أخرى عن نافع به. وزاد البيهقي: وهي السنة ... ومنهم عبد الله ابن عمر مثل حديثه المرفوع المتقدم، أخرجه الطحاوي وسنده صحيح. ومنهم عبد الله بن عباس (أنه كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الافتتاح وفي
(1/243)

الآخرة ستاً بتكبيرة الركعة كلهن قبل القراءة). رواه ابن أبي شيبة عن ابن جريح عن عطاء عنه وهذا سند صحيح على شرط الشيخين ... إلخ] إرواء الغليل 3/ 110 - 111.
وقد رجح جماعة من أهل العلم أن السنة في التكبير في صلاة العيد سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية منهم الحافظ ابن عبد البر حيث قال: [وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق حسان أنه كبر في العيدين سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية من حديث عبد الله بن عمر وابن عمرو وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني ولم يرد عنه في وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا وهو أولى ما عمل به] المنهل العذب المورود 6/ 331 وانظر أيضاً فتح المالك 3/ 346 - 347 حيث فصَّل الحافظ ابن عبد البر الكلام على روايات الأحاديث الواردة في التكبيرات ثم قال عن مذهب الحنفية: [ليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه قوي ولا ضعيف مثل قول هؤلاء] فتح المالك 3/ 347.
وقال الشوكاني: [وأرجح هذه الأقوال أولها في عدد التكبير وفي محل القراءة] نيل الأوطار 3/ 341. والأول الذي ذكره أنه يكبر في الأولى سبعاً قبل القراءة وفي الثانية خمساً قبل القراءة.
وقال الحافظ المباركفوري: [فالأولى للعمل هو ما ذهب إليه أهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم لوجهين: الأول أنه قد جاء فيه أحاديث مرفوعة عديدة وبعضها صالح للاحتجاج والباقية مؤيدة لها وأما ما ذهب إليه أهل الكوفة فلم يرد فيه حديث مرفوع غير حديث أبي موسى الأشعري وقد عرفت أنه لا يصلح للاحتجاج. والوجه الثاني أنه قد عمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد تقدم في كلام الحافظ الحازمي أن أحد الحديثين إذا كان عمل به الخلفاء الراشدون دون الثاني فيكون آكد وأقرب إلى الصحة وأصوب بالأخذ هذا ما عندي والله تعالى أعلم]
(1/244)

تحفة الأحوذي 3/ 71. وممن رجح هذا القول الصنعاني في سبل السلام 2/ 68. وصديق حسن خان كما في الروضة الندية 1/ 382.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن السنة أن يرفع المصلي يديه مع كل تكبيرة من التكبيرات قال العلامة ابن عثيمين: [لأن هذا ورد عن الصحابة رضي الله عنهم ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ومثل هذا العمل لا مدخل للاجتهاد فيه لأنه عبادة فهو حركة في عبادة فلا يذهب إليه ذاهب من الصحابة إلا وفيه أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح عن ابن عمر (أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة في كل تكبيرة) بل إنه روي عنه مرفوعاً ومنهم من صححه مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك هنا فعن عمر (أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد) وكذلك عن زيد رواهما الأثرم) الشرح الممتع على زاد المستقنع 5/ 182. ورفع اليدين مع كل تكبيرة هو قول عطاء والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي ومحمد وداود وابن المنذر وغيرهم. ويستحب أن يحمد الله ويسبحه ويكبره ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين.
ومن العلماء من قال يستحب أن يقول: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
ومن العلماء من قال يستحب أن يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم اغفر لي وارحمني.
ومنهم من قال يستحب أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وإن أحب قال غير ما ذكر إذ لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر مؤقت والأمر فيه سعة. انظر غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 1/ 344 –345.
- - -
(1/245)

خطبتان في صلاة العيد لا خطبة واحدة
يقول السائل: ما صحة القول بأن الإمام يخطب خطبة واحدة بعد صلاة العيد لا خطبتين؟
الجواب: ذهب جمهور أهل العلم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم إلى أن الإمام يخطب في العيد خطبتين يجلس بينهما كصلاة الجمعة تماماً قال الإمام الشافعي [ ... أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله عن إبراهيم بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس] الأم 1/ 238.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول أبي القاسم الخرق: [فإذا سلم خطب بهم خطبتين يجلس بينهما] وجملته أن خطبتي العيدين بعد الصلاة، لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين ... إذا ثبت هذا فإن صفة الخطبتين كصفة خطبتي الجمعة ... وروى سعد مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبتي العيدين. رواه ابن ماجه ... ويجلس بين الخطبتين؛ لما روى ابن ماجه بإسناده عن جابر قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام] المغني 2/ 285 - 286.
وقال الإمام النووي: [فإذا فرغ الإمام من صلاة العيد صعد المنبر وأقبل على الناس بوجهه وسلم وهل يجلس قبل الخطبة؟ وجهان الصحيح المنصوص يجلس كخطبة الجمعة ثم يخطب.0خطبتين أركانهما كأركانهما في الجمعة ويقوم فيهما ويجلس بينهما كالجمعة] روضة الطالبين 1/ 580.
وقال الكاساني الحنفي: [وكيفية الخطبة في العيدين كهي في الجمعة فيخطب خطبتين يجلس بينهما جلسة خفيفة .. ] بدائع الصنائع 1/ 619.
(1/246)

وقال الدردير المالكي عند حديثه عن صلاة العيد: [وندب خطبتان لها كالجمعة أي كخطبتها في الصفة .. ] الشرح الكبير 1/ 400
وقد جرى العمل على هذا عند المسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخطب الخطيب خطبتين في العيد وهذا ما تناقله أهل العلم قديماً ولا خلاف فيه بين السلف كما بين ذلك الشيخ ابن حزم الظاهري حيث قال: [فإذا سلم الإمام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما فإذا أتمهما افترق الناس ... كل هذا لاخلاف فيه] المحلى 3/ 293.
وقال الصنعاني بعد أن ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم الناس يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم فيعظهم ويأمرهم) متفق عليه، قال الصنعاني: [ ... وفيه دليل على مشروعية خطبة العيد، وأنها كخطب الجمع أمر ووعظ، وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة وأنه يقعد بينهما، ولعله لم يثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة] سبل السلام 2/ 493.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: [وقوله (خطبتين) هذا ما مشى عليه الفقهاء رحمهم الله، أن خطبة العيد اثنتان، لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر (أنه كان يخطب خطبتين) ومن نظر في السنة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه لا يصح، لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهنّ وهذا احتمال] الشرح الممتع 5/ 191 - 192.
(1/247)

إذا تقرر هذا فيجب أن يعلم أنه لم يثبت في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب خطبتين في صلاة العيد وما ورد في ذلك فضعيف كما قرر ذلك أهل الحديث فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً ثم قعد قعدة ثم قام) رواه ابن ماجة والبيهقي في السنن الكبرى وهو ضعيف كما بينه الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 2/ 86. وضعّفه البوصيري في الزوائد أيضاً. وضعفه العلامة الألباني أيضاً.
وما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائماً، فيفصل بينهما بجلسة) رواه البزار وهوضعيف كما بين ذلك العلامة الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 348
وعن عبيد الله بن عتبة بن مسعود أنّه قال: (السنة أن يخطب في العيدين بخطبتين يفصل بينهما بجلوس) قال الإمام النووي: [ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، والمعتمد فيه القياس على الجمعة] خلاصة الأحكام 2/ 838.
وقال الشوكاني: [وعبيد اللَّه بن عبد الله تابعي كما عرفت فلا يكون قوله من السنة دليلاً على أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقرر في الأصول] نيل الأوطار 3/ 347
وما قاله الشوكاني غير مسلَّم فإن التابعي إذا قال من السنة كذا فهو يشير إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا قيدها بسنة غيره بل إن الشوكاني نفسه بين هذه المسألة حيث قال: [وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه
(1/248)

أراد سنة صاحب الشريعة. قال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم (سنة العمرين) ونحو ذلك] إرشاد الفحول ص 61.
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ما نصه: [العلماء ألحقوا العيد بالجمعة في الخطبتين فلا ينبغي العدول عن هذا].
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز أيضاً: [خطبة العيد خطبتان وأثر عبيد الله مرسل فهو ضعيف؛ لكن يتأيد عند الجمهور بأنه مثل الجمعة فألحقوها بها، وتتابع العلماء على ذلك] عن شبكة الإنترنت.
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين: هل للعيد خطبة أم خطبتان فأجاب: المشهور عند الفقهاء أن خطبة العيد اثنتان لحديث ضعيف ورد في هذا لكن في الحديث المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة وأرجو أن الأمر في هذا واسع] مجموع فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين 16/ 248.
وخلاصة الأمر أن الذي يظهر لي أن في العيد خطبتان وأن هذا من العمل المتوارث وقد عمل به فقهاء الأمة على مر العصور والأيام فلا ينبغي تركه.
- - -

من فاتته صلاة العيد يصليها منفرداً
يقول السائل: ماذا يفعل من فاتته صلاة العيد مع الإمام؟
الجواب: يشرع لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يقضيها على صفتها أي أنه يصلي ركعتين ويكبر التكبيرات الزوائد، سبع في الركعة الأولى وخمس في الركعة الثانية لأن هذا أصح ما ورد في عدد التكبيرات الزوائد. ومن فاتته صلاة العيد يصليها بدون خطبة لأن الخطبة مشروعة مع الجماعة.
(1/249)

قال الإمام البخاري في صحيحه: [(باب إذا فاتته صلاة العيد يصلي ركعتين)، وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عيدنا أهل الإسلام. وأمر أنس بن مالك مولاه ابن أبي عتبة بالزاوية فجمع أهله وبنيه وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم. وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام. وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين. وذكر الحافظ ابن حجر أن أثر أنس المذكور قد وصله ابن أبي شيبة في المصنف وقوله الزاوية اسم موضع بالقرب من البصرة كان به لأنس قصر وأرض وكان يقيم هناك كثيراً. وقول عكرمة وعطاء وصلهما ابن أبي شيبة أيضاً] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/ 127 - 128.
وروى البيهقي بإسناده عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [كان أنس إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام، جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد].
ثم قال البيهقي: [ويذكر عن أنس بن مالك أنه كان بمنزله بالزاوية فلم يشهد العيد بالبصرة جمع مواليه وولده ثم يأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة فيصلي بهم كصلاة أهل المصر ركعتين ويكبر بهم كتكبيرهم].
وذكر البيهقي أن عكرمة قال: [أهل السواد - أهل الريف - يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام. وعن محمد بن سيرين قال: كانوا يستحبون إذا فات الرجل الصلاة في العيدين أن يمضي إلى الجبان فيصنع كما يصنع الإمام. وعن عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين ليس فيهما تكبيرة] سنن البيهقي 3/ 305.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن قتادة قال: [من فاتته صلاة يوم الفطر صلى كما يصلي الإمام.
(1/250)

قال معمر: إن فاتت إنساناً الخطبة أو الصلاة يوم فطر أو أضحى ثم حضر بعد ذلك فإنه يصلي ركعتين] مصنف عبد الرزاق 3/ 300 - 301.
وروى ابن أبي شيبة أيضاً بإسناده عن الحسن البصري قال: [فيمن فاته العيد يصلي مثل صلاة الإمام.
وروى أيضاً عن إبراهيم النخعي قال: إذا فاتتك الصلاة مع الإمام فصل مثل صلاته].
قال إبراهيم: [وإذا استقبل الناس راجعين فلتدخل أدنى مسجد ثم فلتصل صلاة الإمام ومن لا يخرج إلى العيد فليصل مثل صلاة الإمام].
وروى عن حماد في من لم يدرك الصلاة يوم العيد قال: [يصلي مثل صلاته ويكبر مثل تكبيره] مصنف ابن أبي شيبة 2/ 183 - 184.
وبمقتضى هذه الآثار قال جمهور أهل العلم أن من فاتته صلاة العيد صلى ركعتين كما صلى الإمام مع التكبيرات الزوائد.
ومن العلماء من قال: يصليها أربعاً واحتج بأثر وارد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من فاته العيد فليصل أربعاً] ولكنه منقطع كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 3/ 121. ومن العلماء من خيره بين صلاة ركعتين أو أربع ركعات.
وأولى الأقوال هو القول الأول وهو أنه يقضيها ركعتين كأصلها، ولا يصح قياسها على الجمعة فمن فاتته الجمعة صلى أربعاً أي الظهر لأن الجمعة إنما تفوت إلى بدل وهو الظهر.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن شاء صلاها على صفة صلاة العيد بتكبير، نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعد واختاره الجوزجاني وهذا قول النخعي ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لما روي عن أنس: أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات وهو مخير إن
(1/251)

شاء صلاها وحده وإن شاء في جماعة. قيل لأبي عبد الله: أين يصلي؟ قال: إن شاء مضى إلى المصلى وإن شاء حيث شاء] المغني 2/ 290.
ونقل القرافي أن مذهب الإمام مالك كما في المدونة أنه يستحب لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يصليها على هيئتها. الذخيرة 2/ 423.
وقال الإمام الشافعي: [ونحن نقول: إذا صلاها أحد صلاها كما يفعل الإمام يكبر في الأولى سبعاً وفي الآخرة خمساً قبل القراءة] معرفة السنن والآثار 5/ 103. وذكر المرداوي الحنبلي أن المذهب عند الحنابلة هو أنها تقضى على صفتها. الإنصاف 2/ 433.
واختارت هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -يرحمه الله- فقد جاء في فتواها: [ومن فاتته وأحب قضاءها استحب له ذلك فيصليها على صفتها من دون خطبة بعدها وبهذا قال الإمام مالك والشافعي وأحمد والنخعي وغيرهم من أهل العلم والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا) وما روي عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فيصلي بهم ركعتين يكبر فيهما. ولمن حضر يوم العيد والإمام يخطب أن يستمع الخطبة ثم يقضي الصلاة بعد ذلك حتى يجمع بين المصلحتين] فتاوى اللجنة الدائمة 8/ 306.
وخلاصة الأمر أن من فاتته صلاة العيد فإنه يقضيها كما صلاها الإمام أي مع التكبيرات الزوائد.
- - -
(1/252)

المخالفات
والبدع
في العيد
(1/253)

تحرم مصافحة المرأة الأجنبية
يقول السائل: في يوم العيد وأثناء زيارتنا للأقارب تخرج بعض النساء متبرجات ويمددن أيديهن للمصافحة فإذا لم نصافحهن يغضبن ونُعتبر عندهن من المتشددين ويقلن لنا هذا يوم عيد لا يجوز أن تزورونا بدون مصافحتنا؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن أيام العيد هي أيام طاعة لله سبحانه وتعالى وذكرٍ له جل جلاله ففي هذه الأيام المباركة التي قال الله فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} سورة البقرة الآية 203. وهي أيام التشريق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) رواه مسلم.
وأيام التشريق هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة. قال الإمام النووي: [وفي الحديث استحباب الإكثار من الذكر في هذه الأيام من التكبير وغيره] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 209.
وقد ورد عن طائفة من السلف التكبير في هذه الأيام المباركة مطلقاً ومقيداً بعد الصلوات الخمس وقد سبق أن بينت ذلك مفصلاً.
فهذه الأيام المباركة لا يجوز التحلل من الأحكام الشرعية فيها بحجة أنها أيام عيد وهذا مفهوم خاطئ لدى كثير من الناس بل يجب أن تزداد طاعتنا لله عز وجل في هذه الأيام المباركة الفاضلة.
وأما تبرج النساء فلا شك في تحريمه سواء كان في العيد أو في غير العيد بل هو مجمع على تحريمه، يقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} سورة الأحزاب الآية 33.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون
(1/255)

بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسمنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [هذا الحديث من معجزات النبوة فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان وفيه ذم هذين الصنفين قيل: معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها. وقيل: معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهاراً بحالها ونحوه. وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها. وأما مائلات فقيل: معناه عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه. مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم. وقيل: مائلات يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات يمشطن المشطة المائلة، وهي مشطة البغايا. مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة. ومعنى رؤوسهن كأسنمة البخت أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوهما] شرح النووي على صحيح مسلم 5/ 291.
ويجب على الآباء والأزواج والأولياء عامة منع بناتهم وزوجاتهم وأخواتهم من التبرج ومن قَبل تبرجهن فهو ديوث ينطبق عليه ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يُقر الخبث في أهله). رواه الإمام أحمد في مسنده
وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه أحمد وذكر العلامة الألباني أن حديث ابن عمر رواه النسائي والحاكم والبيهقي في سننه من طريقين صحيحين وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما الألباني على ذلك. ***اب المرأة المسلمة ص 145.
(1/256)

وعن عمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر. قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرَجُلة من النساء؟ قال: التي تَشبَّهُ بالرجال) رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وهو حديث حسن، وقال المنذري: [رواه الطبراني ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً وشواهده كثيره] الترغيب والترهيب 3/ 214. والديوث هو الذي يقر الخبث في أهله كما ورد مفسراً في حديث ابن عمر، وقال ابن منظور: [الديوث هو الذي لا يغار على أهله] لسان العرب 4/ 456، وفسره به ابن الأثير في النهاية 2/ 147.
وقال العلامة علي القاري: [والديوث الذي يقر أي يثبت بسكوته على أهله أي من امرأته أو جاريته أو قرابته الخبث أي الزنا أو مقدماته وفي معناه سائر المعاصي كشرب الخمر وترك غسل الجنابه ونحوهما، قال الطيبي: أي الذي يرى فيهن ما يسوءه ولا يغار عليهن ولا يمنعهن فيقر في أهله الخبث] مرقاة المفاتيح 7/ 241.
ويجب التحذير مما يحصل من بعض الرجال في العيد من دخولهم على النساء في البيوت وهن لوحدهن بحجة أنها زيارة يوم العيد فهذا لا يجوز شرعاً وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال في الحديث: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه. فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم، وعادة الناس
(1/257)

المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت. وهو أولى بالمنع من الأجنبي لما ذكرناه فهذا الذي ذكرته هو صواب معنى الحديث] شرح النووي على صحيح مسلم 5/ 329.
وروى الإمام مسلم بسنده عن عبد الرحمن بن جبير أن عبد الله بن عمرو بن العاص حدثه أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ -أي زوجته- فرآهم فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لم أر إلا خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان).
قال الإمام النووي: [المُغِيبة بضم الميم وكسر الغين المعجمة وإسكان الياء وهي التي غاب عنها زوجها والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب عن المنزل وإن كان في البلد هكذا ذكره القاضي وغيره وهذا ظاهر متعين. قال القاضي: ودليله هذا الحديث وأن القصة التي قيل الحديث بسببها وأبو بكر رضي الله عنه غائب عن منزله لا عن البلد، والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 5/ 330.
وأما مصافحة النساء الأجنبيات فهي حرام سواء في العيد أو غير العيد باتفاق العلماء والخلاف في ذلك شاذ غير معتبر بل مردود وقد دل على تحريم المصافحة أدلة كثيرة منها:
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... } الخ الآية. قالت: من أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله
(1/258)

صلى الله عليه وسلم انطلقن فقد بايعتكن. لا والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فمن أقرَّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاماً. لا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله قد بايعتك على ذلك).
وفي رواية أخرى لحديث عائشة عند ابن ماجة: [ولا مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاماً). صحيح سنن ابن ماجة رقم 2324.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله قد بايعتك كلاماً أن يقول ذلك كلاماً فقط لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة] فتح الباري 10/ 261.
وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: [أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه فقلن نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم (فيما استطعتن وأطقتن)، قالت: فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله. فقال: (إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة)] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ومالك وأحمد وابن حبان والدارقطني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح سنن الترمذي 4/ 152. وقال الحافظ ابن كثير: هذا إسناد صحيح. تفسير ابن كثير 4/ 352.
وعن معقل بن يساررضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي. قال المنذري: [رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح]. الترغيب
(1/259)

والترهيب 3/ 39. وقال العلامة الألباني: [رواه الروياني في مسنده، وهذا سند جيد رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين غير شداد بن سعيد فمن رجال مسلم وحده، وفيه كلام يسير لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن ... والمِخيَط بكسر الميم وفتح الياء ما يخاط به كالإبرة والمسلة ونحوهما. وفي الحديث وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له، ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء لأن ذلك مما يشمله المس دون شك]. سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الأول، الحديث رقم 326.
وخلاصة الأمر أن تبرج النساء في العيد وغيره حرام شرعاً ولا يجوز الدخول على النساء الأجنبيات منفردات وتحرم مصافحتهن وعلى الناس أن يتقوا الله في تصرفاتهم في أيام العيد وغيرها.
- - -
(1/260)

تحريم تقبيل المرأة الأجنبية
يقول السائل: كما تعلمون فإن الناس في العيد يزور بعضهم بعضاً وفي أثناء زيارتنا لابنة عمي وهي امرأة متزوجة قام أخي بتقبيلها على خدها ولما أخبرته أن ذلك لا يجوز قال لي إن هذه القبلة من باب التحية ولا شهوة فيها فهي جائزة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن ما قام به أخوك من تقبيل ابنة عمه من المحرمات المتفق على تحريمها عند أهل العلم
فمن المعروف أن ابنة العم تعتبر أجنبية على ابن عمها فلا يجوز له أن يصافحها ولا يجوز له أن يقبلها مطلقاً حتى لو كانت القبلة بدون شهوة والمقصود بالمرأة الأجنبية عند العلماء هي كل امرأة يجوز للرجل نكاحها وهي غير القريبة المحرم وغير الزوجة.
وقد نص العلماء من أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم على حرمة تقبيل المرأة الأجنبية بشهوة أو بدون شهوة فمن أقوالهم في ذلك: قال الإمام المرغيناني الحنفي صاحب كتاب الهداية: [ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة] الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/ 460. وقال صاحب الاختيار: [ولا ينظر إلى المرأة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة، فإن خاف الشهوة لا يجوز إلا للحاكم والشاهد ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة]. الاختيار لتعليل المختار 4/ 156.وقال الزيلعي: [ولا يجوز له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن أمن الشهوة لوجود المحرم وانعدام الضرورة والبلوى]. تبين الحقائق 6/ 18.وقال ابن عابدين: [فلا يحل مس وجهها وكفها وإن أمن الشهوة]. حاشية ابن عابدين 6/ 367.
(1/261)

وقال الإمام النووي: [وقد قال أصحابنا كل من حرم النظر إليه حرم مسه بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها وفي حال البيع والشراء والأخذ والعطاء ونحو ذلك، ولا يجوز مسها في شيء من ذلك]. الأذكار ص 228.وقال الحصني الشافعي: [وأعلم أنه حيث حرم النظر حرم المس بطريق الأولى لأنه أبلغ لذة] كفاية الأخيار ص 353.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان ومن استحله كفر إجماعاً ويحرم النظر مع وجود ثوران الشهوة وهو منصوص الإمام أحمد والشافعي .. وكل قسم متى كان معه شهوة كان حراماً بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع النظر أو كانت شهوة الوطء، واللمس كالنظر وأولى]. الاختيارات العلمية ص 118 ضمن الفتاوى الكبرى المجلد الخامس. وقال صاحب منار السبيل: [ولمس كنظر وأولى لأنه أبلغ منه فيحرم المس حيث يحرم النظر]. منار السبيل 2/ 142. وغير ذلك من أقوالهم.
وقد احتج العلماء على تحريم تقبيل المرأة الأجنبية بأدلة كثيرة منها: إن الله تعالى سبحانه وتعالى قد حرم النظر إلى المرأة الأجنبية من غير سبب مشروع فما بالك بتقبيلها قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} سورة النور الآيتان 30 - 31.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث المسلم على أن يصرف بصره إذا وقع على امرأة أجنبية فقد ثبت في الحديث عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: إصرف بصرك) رواه مسلم.
(1/262)

وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث حسن والأدلة على تحريم النظر إلى الأجنبية بدون سبب مشروع كثيرة فإذا كان النظر محرماً فمن باب أولى القبلة لأن القبلة أعظم أثراً في النفس من مجرد النظر حيث إن القبلة أكثر إثارة للشهوة وأقوى داعياً للفتنة من النظر بالعين وكل منصف يعلم ذلك.
ومما يدل على تحريم تقبيل المرأة الأجنبية ما ورد في الحديث عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي.
وقال المنذري: [رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح] الترغيب والترهيب 3/ 39. وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول حديث رقم 326.
وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم القبلة للأجنبية نوعاً من الزنا كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لكل ابن آدم حظه من الزنا ... واليدان تزنيان فزناهما البطش، والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفم يزني فزناه القُبَل) والقُبَل جمع قُبلة والحديث رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 404.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمراً فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه فدخلت معي في البيت فأهويت إليها فقبلتها. فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً فلم أصبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال له (أخلفت غازياً في سبيل
(1/263)

الله في أهله بمثل هذا؟) حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحي إليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه: يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: (بل للناس عامة). رواه الترمذي وقال العلامة الألباني حديث حسن كما في صحيح سنن الترمذي 3/ 63.فهذا الحديث يدل على أن تقبيل الأجنبية محرم وانظر إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للرجل: استر على نفسك وتب. وانظر إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل وهذا فيه أبلغ دلالة على التحريم.
وأما ادعاء أخيك بأن تقبيل ابنة عمه يعتبر من باب التحية فهذا كلام باطل لأن الدين شرع التحية وبينها كما في الأدلة الواردة في كتاب الله وسنة رسولهصلى الله عليه وسلم وليس من التحية تقبيل المرأة الأجنبية!! ولا يقول بجواز تقبيل المرأة الأجنبية وأن ذلك من المباحات إلا فاسق أو جاهل بالأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة المحمدية. وينبغي نبذ الفتاوى العرجاء التي تبيح تقبيل المرأة الأجنبية ولا تصدر هذه الفتاوى إلا من جهلة لا يعرفون ألف باء الإفتاء الشرعي.
وخلاصة الأمر أن تقبيل المرأة الأجنبية بشهوة أو بدون شهوة من المحرمات وأن على أخيك أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى مما اقترف ومما قال لأنه قال منكراً من القول وزوراً.
- - -
(1/264)

زيارة القبور يوم العيد غير مشروعة
يقول السائل: جرت العادة عندنا أن يذهب الناس يوم العيد بعد انتهاء صلاة العيد لزيارة القبور وتخرج النساء كذلك معهم ويوزعون الحلوى والقهوة والشاي ويضعون جريد النخل والزهور على القبور فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن زيارة القبور سنة مشروعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام (كنت نهيتكم عن زيارة القبورألا فزورها فإنها تذكركم بالآخرة) رواه مسلم.
ولكن الشرع لم يحدد يوماً معيناً لزيارة القبور لذلك فإن تخصيص يومي العيد بزيارة القبور بدعه مكروهة وقد تكون حاماً إذا رافقتها الأمور المنكرة التي نشاهدها في أيامنا هذه يوم العيد من خروج النساء المتبرجات إلى القبور ووطئها بالأقدام وغير ذلك من الأمور المخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز تخصيص زمان أو مكان بشيء من العبادة إلا بدليل شرعي. وتخصيص يوم العيد بزيارة القبور مما لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولا صحابته رضي الله عنهم زيارة القبور يوم العيد وإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع.
وأما قراءة القران على القبور فأمر غير مشروع أيضاً بل هو بدعة منكرة ما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقلت عن صحابته رضي الله عنهم ولا يجوز فعل ذلك وعلى المسلم أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار رضي الله عنهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم علم الصحابة ما يقولون عند زيارتهم للقبور فقد ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم
(1/265)

إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم.
فالمشروع في حق من يزور المقابر أن يسلم على الأموات بهذه الصيغة أو نحوها وأن يدعو ويستغفر لهم وأما قراءة الفاتحة كما يفعله أكثر الناس اليوم وكذا قراءة غيرها من القرآن لا أصل له في الشرع وإن توارثه الناس في بلادنا كابراً عن كابر فإن الحق في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يعتاده الناس.
قال الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار: [ ... فأعلم أن ما اشتهر وعمّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة] 8/ 268.
ومما يدل على عدم مشروعية قراءة القران على القبور قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر فأن لشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة) رواه مسلم.
فهذا يدل على أن القبور ليست محلاً لقراءة القرآن شرعاً فلذلك حض الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءة القران في البيوت ونهى عن جعل البيوت كالمقابر في عدم قراءة القرآن.
وأما خروج النساء الى زيارة القبور في أي يوم من أيام السنة فالأصل فيه الجواز لدخول النساء في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم (كنت نهيتكم ... ألا فزوروها) ولأن في زيارة القبور وهي التذكرة بالأخرة تشارك النساء فيها الرجال ولثبوت ذلك بأحاديث منها حديث عبد الله بن أبي مليكة: أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبد الرحمن
(1/266)

ابن أبي بكر فقلت لها: أليس كان رسول الله نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، ثم أمر بزيارتها) رواه الحاكم والبيهقي واسناده صحيح قاله الألباني
وفي رواية عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة لقبور) رواه ابن ماجة. وفي الباب أيضاً حديث عائشة عند مسلم وهو حديث طويل لم اذكره لذلك.
وأما خروج النساء لزيارة القبور يوم العيد فحكمة كما قلت سابقاً لا يجوز فهو بدعة مكروهة لأنه تخصيص لعبادة بزمان معين بدون دليل وقد يصل إلى درجة التحريم إذا عرفنا حال كثير من النساء اللواتي يخرجن إلى المقابر من التبرج، وإبداء الزينة والإختلاط الفاحش بالرجال فأرى أنه يجب على أولياء أمورهن منعهن من الخروج إلى المقابر وهن على تلك الحال وإن لم يفعلوا فهم آثمون والعياذ بالله.
وأما وضع جريد النخل وباقات الزهور أو أكاليل الزهور على القبور فلا يجوز أيضاً فهو أمر محدث ولا يصح الاحتجاج بحديث ابن عباس وهو بما معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير .. ثم أخذ جريدة فشقها نصفين فوضع كل نصف على قبر وقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
فهذا الحديث صحيح ولا شك ولكن لا دلالة على فيه على أن وضع جريدة النخل وأكاليل الزهور على قبور الأموات عامة جائز لما يلي:
أولاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله أن الرجلين يعذبان ونحن لا نعرف هل أصحاب القبور يعذبون أم لا؟
ثانياً: إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الأموات لأننا نظن ظن السوء أنهم يعذبون وما يدينا لعلهم ينعمون.
ثالثاً: إن وضع الجريد والزهور مخالف لما كان عليه سلف الأمة الصالح الذين هم أعلم بشريعة الله منا.
(1/267)

رابعاً: إن وضع جريدج النخل على القبر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخطابي في معالم السنن [أنه من التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما .. إلى أن قال: والعامة في كثير من البلدان تغرس الخوص في قبور موتلاهم وأراهم ذهبوا الى هذا وليس لما تعاطوه من ذلك وجه] 1/ 27.
ويؤيد أن وضع الجريد الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم ما ورد في حديث جابر عند مسلم وفيه (أني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين) فهذا دليل على أن رفع العذاب عنهما كان بسبب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بسبب نداوة الغصنين.
وبناء على ما تقدم لا أنصح أحداً من المسلمين بوضع جريد النخل أو أكاليل الزهور على القبور وأنصح من يفعلون ذلك بأن يتصدقوا بثمن ذلك عن أمواتهم فإن ذلك ينفعهم ويصلهم ثوابه إن شاء الله كما قاله بعض المحققين من العلماء.
- - -
(1/268)

قراءة القرآن على القبور
يقول السائل: ما حكم قراءة القرآن على القبور؟
الجواب: يقصد كثير من الناس القبور لزيارتها في يومي العيد ويجلسون حول القبر ومعهم المصاحف فيقرؤون ما تيسر من القرآن الكريم وخاصة سورة يس.
وقراءة القرآن على القبور من البدع المنتشرة وليست عبادة مشروعة على الصحيح من أقوال أهل العلم حيث إنها لم تثبت عن الرسولصلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم.
قال الشيخ علي محفوظ: [ومن هذا الأصل العظيم تعلم أن أكثر أفعال الناس اليوم من البدع المذمومة كقراءة القرآن الكريم على القبور رحمة بالميت: تركه النبيصلى الله عليه وسلم وتركه الصحابة مع قيام المقتضي للفعل وهو الشفقة بالميت وعدم المانع منه، فعلى هذا الأصل المذكور يكون تركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة - وكيف يعقل أن يترك الرسولصلى الله عليه وسلم شيئاً نافعاً يعود على أمته بالرحمة وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، فهل يعقل أن يكون هذا باباً من أبواب الرحمة ويتركه الرسول طول حياته ولا يقرأ على ميت مرة واحدة مع العلم بأن القرآن الحكيم ما نزل للأموات وإنما نزل للأحياء نزل ليكون ترغيباً للمطيع وترهيباً للعاصي، نزل لتهذيب نفوسنا وإصلاح شؤوننا أنزل الله عز وجل القرآن كغيره من الكتب السماوية ليعمل على طريقه العاملون ويهتدي بهديه المهتدون، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَثبيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فهل سمعتم أن كتاباً من الكتب السماوية قرئ على الأموات أو أخذت عليه الأجور والصدقات، والله يقول لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
(1/269)

عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} لهم أن يتصدقوا على موتاهم لكن لا ثمناً للقرآن] الإبداع ص 44.
ومذهب جمهور العلماء على أن القراءة على القبور غير مشروعة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولا يحفظ عن الشافعي في هذه المسألة كلام لأن ذلك كان عنده بدعة وقال مالك ما علمت أحداً يفعل ذلك فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه] اقتضاء الصراط المستقيم ص 380، وانظر الإنصاف 2/ 557 - 558، الفروع 2/ 302.
جاء في الشرح الكبير: [وكره قراءة بعده أي بعد موته وعلى قبره لأنه ليس من عمل السلف]. وقال الدسوقي معلقاً عليه: [قوله لأنه ليس من عمل السلف أي فقد كان عملهم التصدق والدعاء لا القراءة] حاشية الدسوقي 1/ 423.
ولم يصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن على القبر بخلاف ما ذكره بعض العلماء في الاستدلال على جواز القراءة عند القبر فمما ذكروه:
1. ما ذكره ابن عابدين عند تعليقه على قول صاحب الدر: قوله (ويقرأ يس) لما ورد: [من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات] حاشية ابن عابدين 2/ 242 - 243. فهذا الحديث موضوع مكذوب على رسول اللهصلى الله عليه وسلم أخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق محمد بن أحمد الرياحي ... الخ السند.
وبين العلامة الألباني أن هذا الإسناد مظلم هالك مسلسل بالعلل ثم بين حال رواته سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 397 - 398. وتكلم على الحديث أيضاً الحافظ السخاوي وقال إنه لا يصح. الأجوبة المرضية 1/ 170.
2. ما روي في الحديث: (من مرَّ بالمقابر فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات)، فهذا الحديث قال عنه
(1/270)

العلامة الألباني: [موضوع أخرجه أبو محمد الخلال في "فضائل الإخلاص" والديلمي في مسند الفردوس ... وذكره السيوطي في ذيل الأحاديث الموضوعة] سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 452 - 453، وانظر الأجوبة المرضية 1/ 170.
وقال العلامة الألباني أيضاً: [وأما حديث (من مرَّ بالمقابر فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات) فهو حديث باطل موضوع، رواه أبو محمد الخلال في القراءة على القبور والديلمي عن نسخة عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه وهي نسخة موضوعة باطلة لا تنفك عن وضع عبد الله هذا أو وضع أبيه كما قال الذهبي في الميزان وتبعه الحافظ ابن حجر في اللسان ثم السيوطي في ذيل الأحاديث الموضوعة وذكر له هذا الحديث وتبعه ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة] أحكام الجنائز ص 193.
3. ما روي في الحديث (من زار قبر والديه كل جمعة فقرأ عندهما يس غفر له بعدد كل آية وحرف).
قال العلامة الألباني: [موضوع رواه ابن عدي وأبو نعيم ... وقال ابن عدي: باطل ليس له أصل بهذا الإسناد ... ولهذا أورده ابن الجوزي في الموضوعات من رواية ابن عدي فأصاب] سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 66 - 67، وانظر الأجوبة المرضية 1/ 171.
إذا ثبت هذا فإن المشروع عند زيارة القبور هو السلام على الأموات وتذكر الآخرة والدعاء والاستغفار وأما قراءة القرآن فلا ويدل على ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هديه صلى الله عليه وسلم لزيارة القبور.
قال العلامة ابن القيم: [فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم وهذه هي الزيارة
(1/271)

التي سنها لأمته وشرعها لهم وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية) زاد المعاد 1/ 526.
وهذا الحديث الذي ذكره ابن القيم رواه مسلم عن بريدة ولفظه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول - في رواية أبي بكر -: السلام على أهل الديار).
وفي رواية زهير: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية) صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 39.
وصح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) المصدر السابق 3/ 35 - 36. وغير ذلك من الأحاديث.
فإن قيل إنه قد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى إذا دفن أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها كما ذكره جماعة من أهل العلم في قصة منقولة عن الإمام أحمد المغني 2/ 422، الروح ص 10.
قال العلامة ابن القيم: [وقال الخلال في الجامع، كتاب القراءة عند القبور أخبرنا العباس بن محمد الدوري حدثنا يحيى بن معين حدثنا مبشر الحلبي حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال أبي إذا أنا مت فضعني في اللحد وقل: بسم الله وعلى سنة رسول الله وسُنَّ عليَّ التراب سناً واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك، قال عباس الدوري: سألت أحمد
(1/272)

ابن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئاً؟ فقال: لا وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث.
قال الخلال: وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق حدثني علي بن موسى الحداد وكان صدوقاً، قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئاً، قال: نعم، فأخبرني مبشر عن عبد الحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك، فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ] الروح ص 10.
قال العلامة الألباني: [فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن في ثبوت هذه القصة عن أحمد نظر، لأن شيخ الخلال الحسن بن أحمد الوراق لم أجد له ترجمة فيما عندي الآن من كتب الرجال وكذلك شيخه على بن موسى الحداد لم أعرفه وإن قيل في هذا السند أنه كان صدوقاً فإن الظاهر أن القائل هو الوراق هذا وقد عرفت حاله.
الثاني: أنه إن ثبت ذلك عنه فإنه أخص مما رواه أبو داود عنه، وينتج من الجمع بين الروايتين عنه أن مذهبه كراهة القراءة عند القبر إلا عند الدفن.
الثالث: أن السند بهذا الأثر لا يصح عن ابن عمر ولو فرض ثبوته عند أحمد وذلك لأن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج معدود في المجهولين، كما يشعر بذلك قول الذهبي في ترجمته من الميزان: ما روى عنه سوى مبشر هذا، ومن طريقه رواه ابن عساكر ... وأما توثيق ابن حبان إياه فمما لا يعتد به لما اشتهر به من التساهل في التوثيق ولذلك لم يعرج عليه الحافظ في التقريب، حين قال في المترجم: مقبول،
(1/273)

يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة ومما يؤيد ما ذكرنا أن الترمذي مع تساهله في التحسين لما أخرج له حديثاً آخر وليس له عنده غيره سكت عليه ولم يحسنه!
الرابع: أنه لو ثبت سنده عن ابن عمر فهو موقوف لم يرفعه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه أصلاً] أحكام الجنائز ص 192 - 193، وانظر السلسلة الضعيفة 1/ 67.
(1/274)

مسائل متفرقات
(1/275)

العبادة في رمضان فقط
يقول السائل: نرى كثيراً من الناس يقبلون على عبادة الله في شهر رمضان فيصلون ويصومون ويرتادون المساجد فإذا انتهى شهر مضان انقطعوا عن عبادتهم فما تقولون في هؤلاء؟
الجواب: لا شك أن إقبال الناس على الصلاة والصيام وقراءة القرآن وارتياد المساجد في رمضان يشير إلى جوانب إيجابية في حياة الناس وإلى تعظيمهم لشهر مضان ولكنه يشير في الوقت ذاته إلى خلل في حقيقة تصور هؤلاء الناس لعبادة الله سبحانه وتعالى فالمفهوم الحقيقي لعبادة الله يتسم بطابع الاستمرارية وعدم الانقطاع فعبادة الله ينبغي أن تكون مستمرة ومتصلة طوال الوقت وعلى مدار الأيام وعبادة الله سبحانه وتعالى ليست موسمية في رمضان فقط وإنما في كل شهور العام فرب رمضان هو رب شوال وشعبان، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي استمر على عبادة الله حتى يأتيك الموت.
ونقول لهؤلاء الناس الذين يتقربون لله تعالى في رمضان أن عليهم أن يعتبروا قدوم شهر رمضان فرصة عظيمة لتجديد التوبة الصادقة والبدء بحياة جديدة في ظل الإيمان والالتزام بمنهج الرحمن وعليهم أن يجعلوا إقبالهم على الله في رمضان فاتحة خير للاستمرار على طريق الخير والرشاد ونوصيهم بأن يستمروا في هذا الطريق ونحذرهم من النكوص على أعقابهم بعد نهاية رمضان فإن فعلوا ذلك فقد ساروا في طريق الخذلان والعياذ بالله.
- - -
(1/277)

صوم الأطفال
يقول السائل: في أي سن يصوم الأطفال؟
الجواب: إن الأطفال ليسوا من أهل التكليف شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يفيق) رواه ابن ماجة وغيره وإسناده صحيح.
فهم غير مكلفين شرعاً ولكنهم يؤمرون بالصوم إذا أطاقوه وهذا الأمر على سبيل التمرين والتعويد وعلى هذا أكثر أهل العلم من أجل أن يتمرن الطفل على الصوم وكذلك يفعل معه بالنسبة لبقية الأحكام الشرعية فقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه.
ولا شك أن الصوم أشق من الصلاة فلذلك فإن الصبي إذا أطاق الصوم يطلب منه ذلك ولا بد أن يكون صومه بالتدريج حتى لا يكون شاقاً عليه وقد يطيق الصبي الصوم وهو ابن ثمان أو تسع أو عشر ويعود تحديد السن إلى ولي أمره الذي يعرف مقدرة الصبي على الصوم من عدمها.
ومطالبة الصبي بالصوم أمر معهود منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم فقد ورد في الحديث عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائماً فليصم قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار) رواه البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث تخبر الصحابية الربيع أنهم كانوا يصومون الأطفال في صوم عاشوراء ويشغلونهم عن الطعام باللعب يصنعونها من الصوف فإذا كان الحال كذلك
(1/278)

في صوم عاشوراء فمن باب أولى أن يكون في صوم رمضان حتى يتمرنوا على الصوم ويكون الأمر سهلاً إذا ما بلغوا وهكذا ينبغي أن يكون الأمر في بقية التكاليف الشرعية قال ابن عباس رضي الله عنهما: (اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم ولكم من النار).
- - -

فتح المطاعم في نهار رمضان
يقول السائل: إنه صاحب مطعم في مدينة القدس ويسأل عن فتح مطعمه في نهار رمضان مع العلم أن الزبائن هم من السياح الأجانب فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز فتح المطاعم والمقاهي ونحوها في نهار رمضان، وإن كان زبائنها من غير المسلمين؛ محافظةً على حرمة شهر رمضان. فإن الواجب على كل مسلم أن يسعى جاهداً لمنع مظاهر التهاون في الصيام بشكل عام، فلا يجوز تقديم الطعام والشراب للمفطرين في رمضان من المسلمين، وكذلك لغير المسلمين، لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، والمفروض في الشخص المسلم الذي يبتلى بالإفطار في رمضان لعذر شرعي كالمرض أو السفر أو الحيض أو النفاس أو غير ذلك من الأعذار، أن لا يجاهر بالفطر على مرأى من الصائمين، فعليهم أن يستتروا عن أعين الصائمين.
وأما الذين يفطرون عمداً دونما عذر، فهؤلاء فسقة فاسدون، فإذا جاهروا بالفطر فقد ازدادوا فسقاً على فسقهم، وأما غير المسلمين فينبغي لهم أن يراعوا مشاعر المسلمين في الصوم فلا يجاهروا بالأكل والشرب بين المسلمين، فإن جاهروا ولا حول ولا قوة للمسلمين كما هو حال المسلمين الآن فالمطلوب من المسلم ألا يعينهم على هذا الأمر وهذا أقل الواجب.
(1/279)

وبناءً على ذلك لا يجوز فتح المطاعم والمقاهي في نهار رمضان ويحرم على المسلم أن يقدم الطعام للمسلم المفطر في نهار رمضان المجاهر بالمعصية فإن أعانه على ذلك فهو آثم وهذا من التعاون على الإثم والعدوان.
- - -

معنى حديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)
يقول السائل: ما معنى ما ورد في الحديث (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، أفيدونا؟
الجواب: هذا جزء من حديث قدسي ونصه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب -الخصام والصياح-، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم -الرائحة- أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
وقد ذكر شرَّاحُ الحديث وجوهاً عديدة في معنى قوله تعالى في الحديث القدسي (إلا الصوم فإنه لي) فمن ذلك ما أورده الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال: [وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: (الصيام لي وأنا أجزي به) مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال:
أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد، ولفظ أبي عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي
(1/280)

يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب. ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم (ليس في الصيام رياء) حدثنيه شبابة عن عقيل عن الزهري فذكره يعني مرسلاً قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس، وهذا وجه الحديث عندي، انتهى. وقد روى الحديث المذكور البيهقي في "الشعب" من طريق عقيل، وأورده من وجه آخر عن الزهري موصولاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده ضعيف ولفظه (الصيام لا رياء فيه، قال الله عز وجل: هو لي وأنا أجزي به) وهذا لو صح لكان قاطعاً للنزاع. وقال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: (يدع شهوته من أجلي) وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ، بخلاف الصوم. وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم فإن حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً يعني في الصورة الظاهرة ...
ثانيها: أن المراد بقوله (وأنا أجزي به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين
(1/281)

لمقداره، وهذا كقوله تعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال ...
ثالثها: معنى قوله: (الصوم لي) أي أنه أحب العبادات إليَّ والمقدم عندي ... رابعها: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله.] فتح الباري 4/ 140 - 142.
ثم ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني بقية الأجوبة العشرة، وذكر أن أقرب الأجوبة إلى الصواب الأول والثاني. ولعل أصحها هو القول الأول، ولا بد أن يعلم أن المراد بالصيام هنا هو الصيام الذي سلم من المعاصي قولاً وفعلاً كما نقل الشيخ العيني اتفاق العلماء على ذلك. انظر عمدة القاري 8/ 14.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وقوله (الصيام لي وأنا أجزي به) معناه والله أعلم أن الصوم لا يظهر من بن آدم في قول ولا عمل وإنما هو نية ينطوي عليها لا يعلمها إلا الله وليست مما يظهر فيكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر أعمال الظاهر، لأن الصوم في الشريعة ليس هو بالإمساك عن الطعام والشراب دون استشعار النية واعتقاد النية بأن تركه الطعام والشراب والجماع ابتغاء ثواب الله ورغبته فيما ندب إليه تزلفاً وقربةً منه كل ذلك منه إيماناً واحتساباً لا يريد به غير الله - عز وجل - ومن لم ينو بصومه أنه لله عز وجل فليس بصيام، فلهذا قلنا إنه لا تطلع عليه الحفظة لأن التارك للأكل والشرب ليس بصائم في الشرع إلا أن ينوي بفعله ذلك التقرب إلى الله تعالى بما أمره به ورضيه من تركه طعامه وشرابه له وحده لا شريك له لا لأحد سواه فمعنى قوله الصوم لي والله أعلم وكل ما أريد به وجه الله فهو له ولكنه ظاهر والصوم ليس بظاهر] الاستذكار 10/ 249.
ويؤيد ما تقدم ما ورد في الأحاديث من ترتيب الأجر العظيم على كون الصيام إيماناً واحتساباً وكذلك قيام رمضان عامة وليلة القدر خاصة، كما في قوله صلى الله عليه
(1/282)

وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [معنى إيماناً: تصديقاً بأنه حق معتقد فضيلته، ومعنى احتساباً، أنه يريد الله تعالى لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص] شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 378.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [المراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى] فتح الباري 4/ 149.
وقال المباركفوري: [قوله: (من صام رمضان وقامه إيماناً) أي تصديقاً بأنه فرض عليه حق وأنه من أركان الإسلام ومما وعد الله عليه من الثواب والأجر قاله السيوطي. وقال الطيبي: نصب على أنه مفعول له أي للإيمان وهو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والاعتقاد بفرضية الصوم، (واحتساباً) أي طلباً للثواب منه تعالى، أو إخلاصاً، أي باعثه على الصوم ما ذكر لا الخوف من الناس ولا الاستحياء منهم ولا قصد السمعة والرياء عنهم] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 2/ 293.
إذا تقرر هذا فإن الصيام يجب أن يكون خالصاً لله تعالى لا تشوبه شائبة، وخاصة أن الصيام عبادة خفية لا يطلع عليها الناس، وهذا الحكم ينسحب على بقية أعمال المسلم ولكنه في الصيام أظهر وأوضح، وقد ورد في بعض النصوص النبوية الإشارة إلى الإيمان والاحتساب كما ورد في الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها،
(1/283)

فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط) رواه البخاري.
وروى البيهقي بإسناده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقالت: (حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين فليس عبد يقع الطاعون فيقيم ببلده إيماناً واحتساباً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد) أخرجه البخاري من حديث داود بن أبي الفرات كما قال البيهقي في السنن الكبرى 3/ 376.
وخلاصة الأمر أن معنى كون الصوم لله وأنه يجزي به أن الصوم أبعد الأعمال عن الرياء لأنه أمر خفي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل. ولا بد للمسلم من أن يخلص عمله كله لله تعالى لأننا قد أمرنا بإخلاص الأعمال كلها لله تعالى كما قال جل جلاله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} سورة البينة الآية 5.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى) رواه البخاري وغيره.
- - -

تصفيد الشياطين في رمضان
يقول السائل: ورد في بعض الأحاديث أن الشياطين تصفد في رمضان ومع ذلك نرى معاصي كثيرة فما تعليل ذلك، أفيدونا؟
الجواب: تصفيد الشياطين في رمضان ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلِّقت أبواب النار وصفدت
(1/284)

الشياطين) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) رواه الترمذي وغيره، وقال العلامة الألباني: حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي 1/ 209.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما بينه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 55.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا شهر رمضان قد جاءكم تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتسلسل فيه الشياطين) رواه أحمد والنسائي وهو حديث صحيح كما ذكره العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير حديث رقم 6995. وفي صحيح الترغيب والترهيب 2/ 69.
وقال الإمام ابن خزيمة في صحيحه: [باب ذكر البيان أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: وصفدت الشياطين مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين إذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم، وذكر دعاء الملك في رمضان إلى الخيرات والتقصير عن السيئات مع الدليل على أن أبواب الجنان إذا فتحت لم يغلق منها باب ولا يفتح باب من أبواب النيران إذا أغلقت في شهر رمضان. ثم ساق بسنده عن أبي
(1/285)

هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار) وقال العلامة الألباني: إسناده حسن.
وقد اختلف شرَّاحُ الحديث في معنى تصفيد الشياطين وغلها وسلسلتها كما ورد في الأحاديث، وأجمع كلام في ذلك ما كتبه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، فقد نقل عن الحليمي قوله: [يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر. وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه وأورد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن) وأخرجه النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة بلفظ (وتغل فيه مردة الشياطين) زاد أبو صالح في روايته (وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) لفظ ابن خزيمة، وقوله (صفدت) بالمهملة المضمومة بعدها فاء ثقيلة مكسورة أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت، ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود وقال فيه (فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب الشهر كله). قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين،
(1/286)

ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين. قال: ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم (فتحت أبواب الرحمة) قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات وذلك أسباب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزين بن المنير: والأول أوجه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره .... وجزم التوربشتي شارح المصابيح بالاحتمال الأخير وعبارته: فتح أبواب السماء كناية عن تنزل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات ... وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟
فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. وقال غيره: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية].فتح الباري 4/ 147
(1/287)

إذا تقرر هذا فإن وقوع المعاصي في رمضان لا ينافي تصفيد الشياطين لأننا إذا حملنا الحديث على ظاهره فإن بعض الشياطين هي التي تصفد وهم مردتهم أو أنهم يصفدون في ليالي رمضان دون نهاره كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وإذا حملنا الحديث على المجاز فيكون المعنى كما قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البر: [(صفدت الشياطين) وجهه عندي والله أعلم أنه على المجاز وإن كان قد روي في بعض الأحاديث سلسلت فهو عندي مجاز والمعنى فيه والله أعلم أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي ولا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليهم في سائر السنة وأما الصفد (بتخفيف الفاء) فهو الغل عند العرب] الاستذكار 10/ 252.
ونحو كلام ابن عبد البر قاله القاضي عياض كما نقله الإمام النووي: [قال: ويحتمل أن يكون المراد المجاز، ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء، ولناس دون ناس، ويؤيد هذه الرواية الثانية (فتحت أبواب الرحمة) وجاء في حديث آخر: (صفدت مردة الشياطين) قال القاضي: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى صفدت: غللت، والصفد بفتح الفاء، الغل بضم الغين، وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى. هذا كلام القاضي] شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 154.
وخلاصة الأمر أن تصفيد الشياطين في رمضان حق وصدق نؤمن به ونصدقه لأنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل
(1/288)

أنه قال: سألت أبي عن حديث (إذا جاء رمضان صفدت الشياطين) قال: نعم، قلت: الرجل يوسوس في رمضان ويصرع، قال هكذا جاء الحديث. ووقوع المعاصي من الناس في رمضان لا ينافي الحديث حيث حمل العلماء الحديث على عدة وجوه كما سبق.
- - -

أحاديث مشهورة في شهر رمضان
هنالك أحاديث يكثر ترديدها في شهر رمضان المبارك على ألسنة الوعاظ والخطباء وهي منتشرة وشائعة وتكرر السؤال عنها فرغبت في ذكرها وبيان ما قاله أهل الحديث في الحكم عليها وهذه الأحاديث هي:
الحديث الأول: عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان قال: (يا أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار واستكثروا فيه من أربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غناء بكم عنهما فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة
(1/289)

أن لا إله إلا الله وتستغفرونه وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار ومن أسقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة).
قال الحافظ المنذري: [رواه ابن خزيمة في صحيحه] ثم قال: [إن صح الخبر ورواه من طريقه البيهقي].
ثم ذكر المنذري رواية أخرى للحديث وقال: [وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان] الترغيب والترهيب 2/ 24 - 25.
وعلي بن زيد ضعيف ضعفه جماعة من أهل الحديث، قال الحافظ ابن حجر: [مداره أي الحديث على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ويوسف بن زياد الراوي عنه ضعيف جداً] نقل كلام الحافظ محقق شعب الإيمان 3/ 305.
وقال العلامة الألباني عن الحديث السابق إنه منكر. سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 263.
الحديث الثاني: (صوموا تصحوا).
قال الزبيدي: [قال العراقي رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف] إتحاف السادة المتقين 7/ 401.
فالحديث ضعيف وممن ضعفه أيضاً العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة 1/ 277، وفي ضعيف الجامع الصغير أيضاً ص 512.
وقد اعتبر الإمام الصاغاني الحديث من الأحاديث الموضوعة كما في رسالته في الأحاديث الموضوعة ص 104.
وأنظر أيضاً المقاصد الحسنة ص 236 كشف الخفاء 1/ 445، تمييز الطيب من الخبيث ص 146.
(1/290)

الحديث الثالث: عن أبي مسعود الغفاري رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأهلَّ رمضان فقال: لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان. فقال رجل من خزاعة: يا نبي الله حدثناّ. فقال: إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق أشجار الجنة فتنظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا ربنا! اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجاً تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا. قال: فما من عبد يصوم يوماً من رمضان إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درة كما نعت الله عز وجلّ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} سورة الرحمن الآية 72. على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى وتعطى سبعين لوناً من الطيب ليس منه لون على ريح الآخر لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها وسبعون ألف وصيف مع كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون طعام يجد لآخر لقمة منها لذة لم يجد لأوله ولكل امرأة منهن سبعون سريراً من ياقوتة حمراء على كل سرير سبعون فراشاً بطائنها من استبرق فوق كل فراش سبعون أريكة ويعطي زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر موشحاً بالدر عليه سواران من ذهب هذا بكل يوم صامه من رمضان سوى ما عمل من الحسنات) رواه ابن خزيمة والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الكبير وغيرهم وهو حديث موضوع أي مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم كما قرر ذلك أهل الحديث وقد ذكره في الموضوعات ابن الجوزي والشوكاني وغيرهما. انظر الفوائد المجموعة ص 88، الترغيب والترهيب 2/ 31 - 32.
(1/291)

الحديث الرابع: حديث: (يوم صومكم يوم نحركم يوم رأس سنتكم).
قال الإمام أحمد لا أصل له، وذكره في الموضوعات ابن الصلاح وابن عراق وملا علي القاري وابن القيم وغيرهم. انظر المنار المنيف ص 124، المقاصد الحسنة ص 480، المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 219، تمييز الطيب من الخبيث ص 313.
الحديث الخامس: حديث: (السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس، قريب من النار وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) رواه الترمذي وضعفه ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.
وقد عده الشيخ ابن الجوزي في الموضوعات وكذلك ابن القيم، وقال العلامة الألباني: ضعيف جداً. وقال الحافظ أبو حاتم هذا حديث منكر، وقال أيضا عن رواية أخرى للحديث هذا حديث باطل. انظر السلسلة الضعيفة 1/ 184 - 185، المنار المنيف ص 26.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن في صحيح السنة النبوية وحسنها ما يغني عن ذكر هذه الأحاديث الموضوعة والواهية وينبغي على الخطباء والوعاظ أن يعتنوا عناية خاصة بالأحاديث التي يذكرونها في خطبهم ودروسهم وأن يراجعوا كلام أهل الحديث عليها حتى لا يقعوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقصدون أو لا يقصدون فإن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على سواه.
- - -
(1/292)

المسلسلات التلفزيونية في رمضان
يقول السائل: ما قولكم فيما تقدمه كثير من المحطات الفضائية في رمضان من مسلسلات دينية وبرامج ترفيهية حيث يحرص كثير من الناس على متابعتها بحجة الاستفادة العلمية أو الترويح عن النفس، أفيدونا؟
الجواب: إن معظم وسائل الإعلام المعاصرة المسموعة والمرئية والمقروءة تقوم بدور هدام في المجتمع المسلم، وخاصة المحطات الفضائية التي ترفع راية محاربة البقية الباقية من القيم والأخلاق المستمدة من ديننا وقيمنا وعادتنا الصحيحة الشريفة. إن ما يقدم للناس من عري فاضح ورقص وقح واختلاط ماجن باسم الفن لهو الفاحشة بعينها فأي فن هذا الذي يقدم فيما يعرف (بالفيديو كليب)!؟ عشرات الفتيات شبه عاريات وعشرات المخنثين يتراقصون ويغنون بأجسادهم لا بأصواتهم، وأما ما يسمونه مسلسلات دينية فإن الدين من معظمها براء وليس لها حظ من الدين إلا في الاسم، فمتى كان الفسقة والفجرة يقدمون الدين للناس!؟ وأما المسلسلات التاريخية فهي تشويه لحقائق التاريخ وتشويه للصور المضيئة لقادتنا وأئمتنا كما هو الحال في مسلسل تعرضه إحدى الفضائيات عن الخليفة العباسي هارون الرشيد وابنيه الأمين والمأمون والذي تقدم فيه خليفة المسلمين الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً على أنه زير نساء سكير يقضي وقته مع الغلمان والجواري وغير ذلك من التشويه المتعمد، إن هذا لشيء عجاب، وأما البرامج الترفيهية فإنها تدعو إلى الخنا والفجور من خلال تقديم الفنانات والممثلات والراقصات وأشباههن من قليلات الأدب والحياء [ففي إحدى القنوات والتي عرضت برنامجاً بعد الإفطار في شهر رمضان المبارك حيث يستضيف الممثلين والممثلات، استضاف في إحدى حلقاته إحدى الراقصات، فسألتها مقدمة البرنامج: كيف وصلت إلى ما وصلت له من مجد؟! فأجابت هذه الراقصة: أنا هربت من أسرتي وعمري 12 سنة ومارست حياتي! حتى وصلت وأصبحت
(1/293)

فلانة صاحبة الشهرة والملايين!! ثمَّ سألتها المذيعة: أنت تزوجت 3 مرات رسمياً و4 عرفياً؟ فقالت: لا بل 4 رسمياً و7 عرفياً!! هكذا تقدم بعض فضائياتنا العربية قليلات الحياء والأدب والدين في شهر رمضان ليتحدثوا عن مجدهن الملطَّخ الذي مارسوا فيه حياتهن بكلِّ حريَّة!
وفي برنامج آخر في شهر رمضان سئلت إحدى الفاسقات عن عدد مرَّات الزواج؟ فقالت أربع رسمياً أمَّا العرفي فلا أعرف له عدداً، فسألوها لم كل هذا العدد؟ يبدو أنَّ العيب في الرجال؟! فقالت: لا العيب في نظام الزواج لأنَّه نظام بالٍ ومتخلِّف عفاه الزمن!!] مجلة البيان عدد 141ص 39. هذا غيض من فيض مما تقدمه المحطات الفضائية في رمضان وأما في غير رمضان فحدث ولا حرج!؟ إن هؤلاء الفسقة ينطبق عليهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور الآية 19. وإن هؤلاء المفسدين يجاهرون بفسادهم وإفسادهم في رمضان بل في أعظم أوقاته وأكثرها بركة كقبيل الإفطار وبعده وفي وقت صلاة التراويح ووقت صلاة القيام ولا يستحون من الله ولا من الناس مع أن فساق الماضي كان عندهم قليل من الحياء [فهذا أبو نواس الشاعر الماجن كان يستحي من إظهار المعصية في شهر رمضان ويقول:
منع الصوم عقاراً وذوي اللهو فغارا
وبقينا في سجون الصوم للهم أسارى
غير أنَّا سنداري فيه ما ليس يدارى]
إن واجب المسلمين أن يحذروا أعوان الشيطان الذين يحاولون بشتى السبل والوسائل سرقة شهر رمضان منا ويحاولون إفساد هذه العبادة العظيمة على الناس ويفرغونها من مضامينها الإيمانية عبر تقديم مسلسلات وتمثيليات وفوازير ومسابقات ونحوها. إن واجبنا أن نحيي هذا الشهر الفضيل كما أراده الله عز وجل وكما أحياه رسولنا
(1/294)

الكريم صلى الله عليه وسلم وكما أحياه سلف هذه الأمة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة الآية 179. "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى. وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابَّك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه العلامة الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه العلامة الألباني. فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الصوم لا يقصد به مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من صوم الجوارح عن المعاصي، فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ومنها متابعة ما أشرت إليه من تمثيليات ومسلسلات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله، كما أشار إلى ذلك الحديث الأخير، وله رواية أخرى وهي: (رب صائم حظه من
(1/295)

صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة. وقد فهم السلف الصالح هذه المعاني الجليلة فقال بعضهم: أهون الصيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكن في السمع مني تصاونٌ وفي بصري غضٌ وفي منطقي صمتُ
فحظي إذن من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صُمْتُ يومي فما صمتُ
وعلى المسلم أن يشغل وقته في رمضان بأنواع الطاعات فيحافظ على الصلوات الخمس في الجماعات ويحافظ على صلاة التراويح ويقوي صلته بكتاب الله عز وجل فرمضان شهر القرآن قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة:185، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن في رمضان كما ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي الانتباه إلى تدبر الآيات والتفكر فيها أثناء القراءة وليس المقصود هو كثرة القراءة وسرعتها وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال: [إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة – والمفصل هو السبع السابع من القرآن الكريم ويبدأ بسورة الحجرات إلى سورة الناس - فقال ابن مسعود: أهذَّاً كهذِّ الشعر؟! إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع] وكان ابن
(1/296)

مسعود يقول: [إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأصغ لها سمعك، فإنه خير تُؤْمَر به أو شر تُصْرَف عنه].
وقال الحسن البصري: [أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً].
وخلاصة الأمر أن على المسلم أن يصرف جميع وقته في طاعة الله عز وجل وبالذات في رمضان وأن لا يضيع وقته في متابعة ما يقدمه شياطين الإنس في الفضائيات وغيرها من فساد وانحلال ومن فحشاء ومنكر.
- - -

تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى
(1/297)

فهرس المحتويات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 5
الهدي النبوي في الصيام ... 7
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان ... 9
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ... 13
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان ... 19
أكثر شهر صامه النبي صلى الله عليه وسلم نافلة ... 25
بداية الصوم ونهايته ... 27
رؤية الهلال والحسابات الفلكية ... 29
الاختلاف في بداية الصوم ... 32
تفرق الناس في نهاية الصوم ... 36
حكم من بدأ الصيام في غير بلده ... 40
حكم الأكل والشرب أثناء أذان الفجر ... 47
الإمساك قبل طلوع الفجر ... 49
مسائل في النية ... 51
النية في الصيام ... 53
التشريك في نية الصيام ... 55
ما يفطر الصائم وما لا يفطره ... 59
المفطرات المعتبرة ... 61 ...
(1/298)

اختلاف العلماء في المفطرات ... 63
دواء مرض الربو والتحاميل والصوم ... 68
هل القطرة تفطر الصائم؟ ... 68
استعمال الصائم فرشاة الأسنان ... 69
المسائل الطبية في الصيام ... 70
سحب الدم لا يفطر الصائم ... 75
حكم إكراه الزوجة على الجماع في نهار رمضان ... 77
معاشرة الرجل زوجته في ليالي رمضان ... 79
حكم من أصبح في أول يوم من رمضان مفطراً ... 82
يصح صوم من أصبح جُنباً ... 83
استعمال أدوية لتأخير الحيض للصائمة ... 84
انقطاع دم الحيض أثناء النهار وأثره على الصيام ... 85
عقوبة من أفطر عامداً في رمضان ... 86
تأثير المعاصي والآثام على الصيام ... 87
المجاهرة بالفطر في رمضان ... 90
مسائل في القضاء والنسيان والخطأ في الصيام ... 93
من أفطر في رمضان يلزمه القضاء ... 95
قضاء الحامل ما أفطرته من رمضان ... 97
الحامل والمرضع تقضيان ما أفطرتا من رمضان فقط ... 98
قضاء ما أفطرته الحائض من رمضان ... 102
إكراه الزوجة على الإفطار في نهار رمضان ... 107 ...
(1/299)

حكم استئذان المرأة زوجها في صوم القضاء ... 107
قضاء الصوم عن الميت ... 111
الفرق بين الفدية والكفارة ... 112
مقدار إطعام المسكين في الفدية ... 116
أكل الصائم ناسياً ... 120
حكم تذكير الناسي في الصيام ... 122
المشقة المبيحة للفطر ... 125
المرض المبيح للفطر ... 127
الطبيب الذي يؤخذ بقوله في إفطار المريض ... 131
الخطأ في الفطر ... 135
مسائل في صوم التطوع ... 139
صوم النافلة بعد منتصف شعبان ... 141
صوم ستة أيام من شوال لمن عليه قضاء ... 142
صوم عاشورء ... 143
حكم صوم عاشوراء إذا وافق يوم السبت ... 144
صيام يوم السبت في النافلة ... 146
حكم صيام يوم الجمعة تطوعاً ... 160
صيام العشر الأوائل من ذي الحجة ... 166
صوم شهر رجب ... 171
قطع صوم التطوع ... 173
مسائل في صلاة التراويح ... 135 ...
(1/300)

عدد ركعات صلاة الترايح ... 177
تصح الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح ... 179
الرد على من منع الزيادة في صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة ... 183
مسح الوجه بعد دعاء القنوت ... 191
مسائل في الاعتكاف ... 195
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف ... 197
يجوز الاعتكاف في جميع المساجد ... 199
حكم اعتكاف المرأة ... 205
مسائل في زكاة الفطر ... 209
من أحكام زكاة الفطر ... 211
لمن تعطى زكاة الفطر ... 214
مضى العيد ولم يخرج زكاة الفطر ... 216
كيف تقدر القيمة في زكاة الفطر؟ ... 217
لا يشترط ملك النصاب في زكاة الفطر ... 221
تعجيل زكاة الفطر ... 226
زكاة الفطر في حق من لم يصم رمضان بعذر ... 230
مسائل العيد ... 235
هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم العيد ... 237
التهنئة بحلول العيد ... 239
التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين ... 241
خطبتان في صلاة العيد لا خطبة واحدة ... 246 ...
(1/301)

من فاتته صلاة العيد يصليها منفرداً ... 249
المخالفات والبدع في العيد ... 253
تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ... 255
تحريم تقبيل المرأة الأجنبية ... 261
زيارة القبور يوم العيد ... 265
قراءة القرآن على القبور ... 269
مسائل متفرقات ... 275
العبادة في رمضان فقط ... 277
صوم الأطفال ... 278
فتح المطاعم في نهار رمضان ... 279
معنى حديث: (كل عمل ابن آم له ... ) ... 280
تصفيد الشياطين في رمضان ... 284
أحاديث مشهورة في رمضان ... 289
المسلسلات التلفزيونية في رمضان ... 293
فهرس الموضوعات ... 298
(1/302)

الأعمال العلمية للمؤلف الأستاذ الدكتور
حسام الدين عفانة
1. الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة وعلاقتهما بالأحكام الشرعية (رسالة الماجستير)
2. بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه)
3. الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية (كتاب)
4. أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية (كتاب)
5. يسألونك الجزء الأول (كتاب)
6. يسألونك الجزء الثاني (كتاب)
7. بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي (كتاب)
8. صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة (كتاب)
9. يسألونك الجزء الثالث (كتاب)
10. يسألونك الجزء الرابع (كتاب)
11. يسألونك الجزء الخامس (كتاب)
12. المفصل في أحكام الأضحية (كتاب)
13. شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق)
14. فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي / الجزء الأول
15. الفتاوى الشرعية (1) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
16. الفتاوى الشرعية (2) بالاشتراك (هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي)
(1/303)

17. الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب (بحث)
18. الزواج المبكر (بحث)
19. الإجهاض (بحث)
20. مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات (كتاب)
21. مختصر كتاب ***اب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني (كتاب)
22. إتباع لا ابتداع (كتاب)
23. بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي (دراسة وتعليق وتحقيق)
24. يسألونك الجزء السادس (كتاب)
25. رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي (دراسة وتعليق وتحقيق)
26. الخصال المكفرة للذنوب (يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني) (كتاب)
27. أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (كتاب)
28. التنجيم (بحث بالاشتراك)
29. الحسابات الفلكية (بحث بالاشتراك)
30. يسألونك الجزء السابع (كتاب)
31. المفصل في أحكام العقيقة (كتاب)
32. يسألونك الجزء الثامن (كتاب)
33. يسألونك الجزء التاسع (كتاب)
34. فهرس المخطوطات المصورة الجزء الثاني (الفقه الشافعي) (كتاب)
35. فقه التاجر المسلم وآدابه (كتاب)
وقد ترجم الكتاب إلى اللغة التركية الدكتور ثروت بايندر من جامعة إستنبول
(1/304)

36. يسألونك الجزء العاشر (كتاب)
37. يسألونك الجزء الحادي عشر (كتاب)
38. يسألونك عن الزكاة (كتاب)
39. يسألونك الجزء الثاني عشر (كتاب)
40.فهرس المخطوطات المصورة الجزء الثالث (الفقه الحنفي) (كتاب)
41. يسألونك الجزء الثالث عشر (كتاب)
42. يسألونك عن رمضان (هذا الكتاب)

موقع الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة على شبكة الإنترنت:
www.yasaloonak.net
وعنوان البريد الإلكتروني:
husam@is.alquds.edu
أو:
fatawa@yasaloonk.net
(1/305)




http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
يسألونك, رمضان


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع يسألونك عن رمضان
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حدث في رمضان عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 28 06-24-2017 08:03 PM
فضل رمضان صباح الورد شذرات إسلامية 0 06-29-2014 09:05 AM
موسوعة رمضان المنوعة 2013 | رمزيات - خلفيات جوالات - صور فوانيس - بنرات - خلفيات سطح المكتب موسوعة رمضان المنوعة رمزيات رمضان Eng.Jordan الصور والتصاميم 0 07-05-2013 08:19 PM
شهر رمضان .. علي عبدالرحمن شذرات إسلامية 1 06-23-2013 03:03 PM
رمضان صلاح ريان نثار الحرف 2 07-20-2012 11:27 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:17 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59