#1  
قديم 10-31-2021, 01:35 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي محاضرات في الأدب الأندلسي من الفتح حتى سقوط الخلافة

تعريف الأندلس
المراد بالأندلس شبه جزيرة "أيبيريا" هو إسبانيا الإسلامية التي فتحت في خلافة "الوليد بن عبد الملك " وعلى يد طارق بن زياد و موسى بن نصير سنة 92 هـ/ 711 م، واستمر الحكم الإسلامي فيها حتى سقوط مملكة "غرناطة" آخر مملكة إسلامية في أسبانيا سنة 897 هـ لم يكن الفتح الإسلامي لأسبانيا مجرد احتلال عسكري صعدت فيه الجيوش الإسلامية إلى أقصى الشمال ثم هبطت إلى الجنوب، بل كان حدثاً حضارياً هاماً امتزجت فيه حضارة سابقة !كالرومانية" و "القوطية" مع حضارة جديدة لاحقة وهي الحضارة الإسلامية، ونتج عن هذا المزيج حضارة أندلسية مزدهرة وصلت إلى الفكر الأوروبي المجاور، و أثرت فيه، كما تغلغلت في الحياة الأسبانية وتركت فيها آثارا عميقة ما زالت معالمها واضحة إلى اليوم. ولا شك أن المسلمين حينما دخلوا أسبانيا وجدوا فيها سكاناً مثل "القوط " و "بقايا الرومان "، فاختلطوا بهم، ولم تلبث أن نشأت طبقة اجتماعية جديدة، وهي طبقة المولدين التي هي خليط من دم أهل البلاد الأصليين دم والبربر و العرب الفاتحين. هذا إلى جانب طبقة المستعربين وهم الأسبان المسيحيون الذين ظلوا على ديانتهم المسيحية ولكنهم تعربوا بدراسة اللغة العربية وآدابها وثقافتها، واتخاذ الأسماء والأزياء العربية. وهكذا كانت أسبانيا بعد الفتح الإسلامي مزدحمة بالأجناس المختلفة، وكان من الطبيعي أن تتصل هذه العناصر بعضها ببعض، سواء بالمصاهرة أو الجوار أو الحرب، وأن يأخذ كل منها عن الآخر ويعطيه، مما كان له أثره في مزج هذه العقليات المختلفة والعناصر المتباينة. وما يقال عن تنوع هذه العناصر البشرية التي سكنت الأندلس، يقال أيضاً عن التيارات الثقافية المتنوعة التي تكونت منها حضارتها. فمن المعروف أن الحضارة الأندلسية- مثل كل الحضارات- لم تنشأ فجأة، بل مرت بأدوار مختلفة وخضعت لمؤثرات حضارية مشرقية - شامية وحجازية ومصرية وعراقية - تربطها بالوطن الإسلامي الأم بوصفها جزءاً منه. كما خضعت لمؤثرات أفريقية بحكم ارتباطها ببلاد المغرب والسودان الملاصقة لها من الجنوب. هذا إلى جانب المؤثرات المحلية الأوروبية بحكم البيئة التي نشأت فيها. ولا شك أن وضع الأندلس الجغرافي في الأطراف الغربية البعيدة عن العالم الإسلامي، وبجوار الغرب المسيحي في قلب أوروبا، جعلها في مواجهة مستمرة دائمة مع الدول اللاتينية هناك، وهذا جعلها بالتالي من أكثر الدول الإسلامية معرفة وتأثيراً بها. ذلك لأن الحياة الإسلامية في الأندلس لم تعرف الانفصال الجغرافي أو العنصري أو الحضاري بين المسلمين والمسيحيين، بل كانت حياة مشتركة اختلط فيها الفاتحون مع أهالي البلاد الأصليين. وعلى الرغم من أن ما أخذته الأندلس من أوروبا كان أقل مما أعطته لها من ثقافتها، إلا أن هذا الوضع الجغرافي الأوروبي الذي تميزت به الأندلس، وهذا التداخل المستمر بين الإسلام والمسيحية في شبه جزيرة " أيبيريا"، قد أعطى الأندلس- رغم تعلقها بالوطن الأم- طابعاً فريداً ، وشخصية مستقلة مميزة. فالحضارة الأندلسية على هذا الأساس حضارة إسلامية عربية أسبانية، ولا يمكن أن نسميها إلا بهذه التسميات الثلاث. وعلى هذا النحو يمكن القول بأن حركة الفتح الإسلامية لأسبانيا ، كانت استمراراً لدور سابق، بمعنى أنه لم تعقبها حركة ركود أو توقف حضاري، بل استمرت القافلة تسير بسبب تواصلها مع الحضارة الأسبانية الأوروبية.
مصادر دراسة الادب الاندلسي :
كانت جهود المستشرقين سباقة في ميدان احياء التراث العربي في الاندلس للإمكانيات التي تمتعوا بها وللصلة التي كانت تربطهم ببلاد الاندلس جغرافيا وتاريخيا فضلا عن الاهداف العامة لـلاستشراق واشهر مدارس الاستشراق هذه المدرسة الهولنـدية والاسبـانية والفرنسية وبعـدها الألمانية والإيطالية والروسيّة .
وقد تمثلت المدرسة الهولندية في جهود أبرز علمائها وهو (دوزي) ت(1883م ) فقـد تـوج اعمالـه بترجمـة كتاب(نفح الطيب) للمقري فضـلا عن ترجمتـه كتاب (المعجب في أخبار الأندلس والمغرب) وكذلك نشر الجزأين الأولين من كتاب (البيان المغرب) لابن عذاري المراكشي و(البسامة ) لابن عبدون .
أما المدرسة الأسبانية فيعد المستشرق (كوديرا) ت (1917 م) من ابرز مؤسسيها وتتجلى خدماته للتراث في وجهين :
الاول : جهوده القيمة للأدب الاندلسي فقد أصدر كتاب (الصلة) لابن بشكوال وكتاب التكملة (لابن الابار) وبغية المتلمس (للضبي) وتاريخ علماء الاندلس( لابن الفرضي) وغير ذلك والوجه الثاني : يتمثل في تخريجه لعدد من المستشرقين على منهجه وهم اربعة اطلقوا على انفسهم اسم (الأخوة) او (بني كوديرا ) وهؤلاء هو جوليان ربييرا و أسين بلاثيوس وآنخل جنثالث بالنثيا وغرسيه غومس). وابرز شخصية خدمت تراث الاندلس في المدرسة الفرنسية (ليفي بروفنسال) ت( 1956 م) اذ نشـر (البيـان المغرب في اخبـار الاندلـس والمغـرب) وكتـاب (صلة الصلة ) اضافـة الى جهوده الاخرى وهي عبارة عن محاضرات القاها في الجامعة وقد تمثلت جهود المستشرقين فـي اتجاهين :
الاول : نشر النصوص القديمة وكانوا في ذلك روادا سابقين اذا ان نشرهم لنصوص قد حقق فائدة جديدة .
الثاني : كتابة دراسة التاريخية والحضارية عن الاندلس وحضارتها . اما الدراسات العامة في مجمل الادب الاندلسي فهي لم تكتمل في احدها مقومات البحث بحيث تعكـس صـورة تامة للأدب الاندلسـي منـذ نشـأته وحتى انتهائه بسقـوط الاندلـس واتجهـت الى التعميم في الاحكام التي اصدرتها وفي مقدمتها
1ـ بلاغة العرب في الاندلس لأحمد ضيف ويعنى هذا الكتاب بعرض عام عن فتح الاندلس والفنون الاندلسية والغناء ومجالس الادب ودراسة الشعر والنثر واشهر اعلامها .
2- (نظرات في تاريخ الادب الاندلسي ) لكامل الكيلاني (1924 ) وكتاب (الحلل السندسية في الاخبار والآثار الاندلسية ) لشكيب ارسلان(1936-1939 م.
3ـ الادب العربي في الاندلس لعبد العزيز محمد طبع في القاهرة(1936 م). 4- (تاريخ الادب الاندلسي ) لإبراهيم ابو الخشب (1966 م) وكتاب (الادب الاندلسي ) موضوعاته وفنون لمصطفى الشكعة ) (1974 م.(
وهناك مصادر اخرى تناولت الاندلس من ناحية تاريخ وتتميز هذه الدراسات بالدقة والمنهجية في دراستها الادب والرجوع الى المصادر الاندلسية الاولية والإفادة من النصوص التاريخية والأدبية التي تفسر الاتجاهـات والظواهر الادبيـة منها :
1. الادب الاندلسـي من الفتح حتى سقـوط الخلافة لأحمد هيكل (1958 م ).
2 - تاريخ الادب الاندلسي عصر سيادة قرطبة للدكتور احسان عباس 1959 م . 3- فصول في الادب الاندلسي لحكمت الاوسي 1971 م .
دراسة الاتجاهات المميزة والفنون الخاصة بالأندلس :
وهي اغلبها دراسات اكاديمية منها :(اشبيلية في القرن الخامس هجري ) لصلاح خالص 1965 م والدراسة الاخرى (الشعر في بني عباد ) لمحمـد مجيـد السعيد والطبيعـة في الشعر الاندلسي لجودة الركابـي وكتبـت بحـوث عن الموشح والزجل منها الموشحات الاندلسية عام 1946 م .
والزجـل في الاندلس (1959 م ) وكلاهمـا لعبد العزيز الاهوانـي و(فن التوشيح) لمصطفى عوض وتاريخها في 1959 وفيما يتصل بشخصية الادب الاندلسي وتيارات التجديد فهناك كتاب الشعر (الشعر الاندلسي بين مظاهـر التقليـد والتجـديد) لسليمـان حسن 1978 وملامح الاصـالة لجلال حجازي 1974م وكتاب (التطـور والتجـديد في الشـعر الاندلسي لمحمد عبد المـنعم خفاجـي) وكذلك التفت الشعراء الى النزعة الاسلامية في الشعر الاندلسي مثل كتاب (الاتجاه الاسلامي في الشعر الاندلسي ) عصري ملوك الطوائف والمرابطين للدكتور منجد مصطفى بهجت (الخيال والشعر في تصوف الاندلسي ) لسليمان العطار و ( القصص في الشعر الاندلسي ) لهادي طالب .
المصادر الاندلسية الاصلية
*نفح الطيب
مؤلفه: هو احمد بن محمد بن احمد بن يحيى الشهير بالمقري المغربي المالكي الاشعري التلمساني وفي لقبه المقري لغتان الاولى فتح الميم وسكـون القاف وتخفيف الراء (المقري) والثانية :- فتح الميم وتشديد القاف(المقري) وهو أرجح لأنها وردت في أكثر من موضع فـي مؤلفاته وللمقري مؤلفات كثيرة أهمها كتاب (نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين أبن الخطيب ) والكتاب الاخر أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض وله كتاب اسمه تاريخ الاندلس وأعراب القران و(الاصفياء) وعدد مؤلفات على العموم يبلغ أكثر من أربعين مؤلفا.
الغرض من تأليفه
أما الغرض من تأليف كتابه (نفح الطيب) كان لأهل الشام اليد الطولي في تأليف كتاب (نفح الطيب) فقد رحل المقري الى الشام وعقد المجالس الادبية مع أدبائها وقد تضمنت المطارحات الشعرية حديثا عن الاندلس وأخبار اعلامها وإيراد كلام وزيرها لسان الدين ابن الخطيب فكان ان طلب منه احمد بن شاهين وهو احد كبار أدباء الشام وسادتها التعريف بلسان الدين ابن الخطيب في مصنف يبين مآثر هذا الرجل وصنائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه وقد أعتذر المقري أول الامر ويعد الحاج أبن شاهين عليه عزم المقري على الاستجابة الى رغبته فلما رحل المقري الى مصر شرع بكتابه مصنفه هذا وكان أن كتب شطراً منه ملأ هوامشه وأسطره وعرف بلسان الدين فعزم بعدها على زيادة ذكر الاندلس وبعض مفاخرها وآثار أدبائها ونبذه عن النظم والنثر بالترويج عن القارئ وعلى العموم كان هنالك غرضان ألف من أجلهما الكتاب :-
1- انه أراد تعريف أهل المشرق بالأندلس وأهلها.
2- أنه تحدى به علماء مصر الذين حسدوه وأضمروا له الكيد فوصف كتابه هذا بالتفرد وضمنه معلومات غزيرة من حافظته ليكون دليلاً على غزارة علمه.
منهجه في التأليف :-
أحتوى الكتاب على مقدمة في مجالات مختلفة فقد جاء الكتـاب في قسمـين ضم كل قسـم ثمانية أبواب وذكر المادة المحتواة في كل باب منها ولم يشابه المنهج في الابواب الستة عشر لأنه خص كل باب بمادة معينة أما القسم الاول كما قلنا يتضمن ثمانية أبواب :
الباب الاول : قد أختص بذكر الاندلس وذكر أحوالها وتاريخها من الفتح الى السقوط وعلى كافة الاصعدة من حيث المساحة والموقع والمناخ وما احتوته من صناعات وذكر مقطعات شعرية في مدحها وخصائصها.
الباب الثاني : فقد ذكر فيه فتح الاندلس وذكر الروايات العديدة فيه والأمراء الذين توالوا على الحكم فيها الى ملوك الطوائف.
الثالث : فقد سرد فيه ما كان للدين من عز لدى الاندلسيين كما أنه احتوى على تاريخ الاندلس من عهد عبد الرحمن الداخل الى عهد بني الاحمر .
الرابع : وقد ذكر فيه مرتبة قرطبة ومن وصفها من الشعراء وفيه بعض التراجم ثم ينتهي هذا الباب بذكر المتنزهات.
الخامس: احتوى على تراجم الاندلسيين الراحلين الى المشرق وبإطالة ولا نجد له منهجا واضحاً في طريقة التراجم لأنه لم يرتبها هجائيا او على اساس الطبقات .
السادس : افرده لتراجم الوافدين على الاندلس وهذه كانت اقل من سابقها لقلة الوافدين على الاندلس ولم يراع فيها منهجا معينا .
السابع : فقد ذكر فيه أشعار الاندلسيين ومدى براعتهم كما انه أورد فيه نقولا في فضائل أهل الاندلس ويورد فيه أيضا بعض الأشعار والأخبار لنساء الاندلس .
الثامن : فقد خصه بذكر تغلب العدو على أهل الاندلس لأنه ينهي فيه كتابه.
أما القسم الثاني : فهو مختص بلسان الدين بن الخطيب وفيه ثمانية ابواب كسابقه هي :
الاول : أولوية لسان الدين وذكر اسلافه وفيه بعض الرسائل والتراجم .
الثاني : في نشأته وترقيته والمكائد التي لقيها حتى مماته وفيه ايضا رسائل من انشاء ابن الخطيب نفسه ورسائل لغيره .
الثالث: ذكر فيه شيوخ لسان الدين.
الرابع : فقد اختص في مخاطبات الملوك والأكابر للسان الدين بن الخطيب وقد يورد رسالة قد تكون نثرية او شعرية او تجمع بين الشعر والنثر احيانا ذاكراً جواب ابن الخطيب عليها.
خامسا : أورد فيه جملة من نثر وموشحات وشعر وموشحات لسان الدين .
السادس : اقتصر على مصنفاته.
السابع : على تلاميذه .
الثامن : ترجم فيه باستطراد لأولاد لسان الدين ويختتم الكتاب بمدائح طويلة ومقطوعات في مدح الرسول (صلى الله عليه وآله).
القيمة الادبية لهذا الكتاب:
فكتاب نفح الطيب قد تميز بخصائص كثيرة فهو مصدر لأدب السيرة الذاتية وفيه ثروة غزيرة من شعر ونثر أهل الاندلس لذلك تضمن اراءً نقدية تنحصر في موضوعات عديدة جاء بها الادباء والنقاد الاندلسيين وتتركز ايضا قيمته في محاولة اعطاء الاندلس مكانه جديدة بين الدول الاخرى من الناحية الادبية كما ان المادة التاريخية التي تضمنتها هذا الكتاب والمختصة بالأندلس كانت ذات أهمية كبيرة في الدراسات التاريخية التي تعلقت بتلك البلاد.
المغرب في حلى المغرب
لعلي بن موسى بن محمد بن عبد الملك ابن سعيد الغرناطي الاندلسي ت (685 هـ). ترجمة المؤلف : هو علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك ابن سعيد العماري الغرناطي نور الدين ابو الحسن المؤرخ المالكي ولد سنة (610) هـ ومن تصانيفه :- (ديوان شعره ) ورياضة الادب في المحاضرات وكتاب المحلى بالأشعار والمغرب في محاسن حلى اهل المغرب وله كتاب اخر (المشرق في حلى اهل المشرق) وكتاب المغرب في محاسن حلى اهل المغرب لأبي الحسن نور الدين علي بن سعيد ألفه لمحي الدين بن محمد الصاحب الجزري وذكره في أوله وذكر ان المغرب والمشرق كتابان وهما مائة وخمسين مجلدا صنفهما سعيد نفسه في مائة وبضـعة سنين جماعـة من أهل الاعتنـاء بالأدب خاتمتهم ابن سعيد نفسه وذكر علي الفارسي في طبقاته انه لأحمد بن علي بن سعيد وانه في (ستين مجلدا) .
منهجه في التأليف:
إنّ ابن سعيد عمل على تصنيف البلاد تصنيفاً مرتباً فكلما ذكر بلدا ذكر كورة وما يحيط بها من انهار ومتنزهات وكل من وفد عليها من ملوك وأدباء وشعراء فذكر في البدء طبقة الامراء فطبقة الرؤساء ثم العلماء ثم الشعراء وبعدها طبقة من الاشخاص الذين لم يذكر لهم نظماً بالإضافة الى ذكر النوادر وهذا الكتاب قد استمد ابن سعيد مادته من المسامرات والمشاهدات والروايات الشفهية والمصنفات التي أُلفت حول الاندلس والأدب الاندلسي وقد ذكر ابن سعيد المصنفات التي اخذ عنها مادته في تأليف كتابه هذا وقد أحصى لنا منها الآتي:
*المسهب في غرائب المغرب
*المسالك والممالك لابن حوقل
*جذوة المقتبس للحميدي.
*تاريخ علماء الاندلس لابن الفرضي
*الذخيرة لابن بسام
*زاد المسافر لأبي بحر صفوان ابن ادريس والذين صنفوا الكتاب بالموارثة هم ابو محمد الحجازي واحمد بن عبد الملك وموسى بن محمد وعبد الملك بن سعيد ومحمد بن عبد الملك وعلي ابن موسى.
الفَتْحُ العَرَبِيُّ لِلأندَلُسِ:
على الرُغم من أنَّ جيش المُسلمين تضمَّن عربًا وبربر بشكلٍ أساسيٍّ وغيرهم من العرقيَّات الأقل عددًا)، كما يُعرف في بعض المصادر العربيَّة باسم الفتح الإسلامي لِإسپانيا، وفي بعض المصادر الأجنبيَّة بِالفتح الإسلامي لِهسپانيا، هو حَملةٌ عسكريَّة بدأت سنة 92هـ المُوافقة لِسنة 711م قادها المُسلِمُونْ تحت راية الدولة الأُمويَّة ضدَّ مملكة القوط الغربيين المَسيحيَّة في هسپانيا، التي حَكمت شبه جزيرة أيبيريا والتي عَرفها المُسلِمُونْ بإسم«الأندلُس»، بجيشٍ مُعظمه مِن البربر[ْ 1] بقيادة طارق بن زياد نَزل عام 711م في المنطقة التي تُعرف الآن بِجبل طارق، ثُمَّ توجَّه شمالًا حيثُ هزم ملك القوط لُذريق (رودريك) هزيمةٌ ساحقة في معركة وادي لكة. واستمرت حتى سنة 107هـ المُوافقة لِسنة 726م واستولتْ على مناطق واسعة من إسپانيا والپُرتُغال وجنوب فرنسا المُعاصرة.
كان من أسباب فتح الأندلُس إقبال البربر على اعتناق الإسلام بعد تمام فتح المغرب وتوقهم لِلغزو والجهاد في سبيل الله، وفي نفس الوقت شجَّع والي طنجة الرومي يُليان المُسلمين على مُهاجمة الأندلُس بِسبب خِلافٍ كبيرٍ وقع بينه وبين الملك لُذريق بِسبب اعتداء الأخير على ابنته واغتصابها عندما كانت تُقيم في بلاطه، وفق ما تتفق عليه المصادر العربيَّة والإسلاميَّة، وكذلك لأنَّ المُسلمين رأوا توجيه جُهود الفتح والغزو نحو بلادٍ حضريَّةٍ غنيَّة تُفيد الدولة الأُمويَّة وعُموم المُسلمين، بدل تحويله نحو الواحات والبلاد الصحراويَّة، ولِرغبتهم في الاستمرار بِنشر الإسلام في البُلدان المُجاورة. تمَّ فتحُ الأندلُس خِلال فترةٍ قياسيَّة نسبيًّا، واعترف المُسلمون بعد خُضوع شبه الجزيرة الأيبيريَّة لهم بِحُقوق النصارى واليهود في إقامة شعائرهم الدينيَّة نظير جزيةٍ سنويَّة، كما هو الحال مع سائر أهالي البلاد المفتوحة من المسيحيين واليهود، وأقبل مُعظم القوط على اعتناق الإسلام وامتزجوا مع الفاتحين الجُدد، وانسحب قسمٌ آخر منهم نحو الشمال الأيبيري الذي لم يخضع طويلًا لِلمُسلمين. عاد قائدا الفتح موسى بن نُصير وطارق بن زياد إلى عاصمة الخِلافة دمشق بِأمرٍ من الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ المُوافقة لِسنة 714م حيثُ لم يُمارسا أي عملٍ سياسيٍّ أو عسكريٍّ بعد ذلك لِأسبابٍ اختلف فيها المُؤرخون، ولفَّ الغُموض نهاية طارق بن زياد خُصوصًا حيثُ لم يُعرف ما حلَّ به بُعيد وُصوله إلى دمشق.
كَان هَذا الفَتْحُ بِداَيةٍ لِلتواجد الإسْلَامِيُّ في الأندلُس الذي امتد لِنحو 800 عام تقريبًا، قَضاها المُسلِمُونْ في صِراعٌ مَع الإماراتْ والممالِك المسيحيَّة التي تكوَّنت في الشمال في المناطق التي لم يغزوها المسلمون حتى سقوط مملكة غرناطة عام 897هـ المُوافق فيه 1492م. وخِلال تلك الفترة أسَّس المُسلمون حضارةً عظيمة في البلاد الأندلُسيَّة حتَّى اعتُبرت «منارةُ أوروپَّا» خِلال العُصُور الوسطى، وحصلت حراكات اجتماعيَّة بارزة نتيجة هذا الفتح وتعدُد العرقيَّات البشريَّة التي سكنت البلاد الأندلُسيَّة، فتعرَّبت بعض قبائل البربر وبعض القوط، وتبربرت بعض قبائل العرب، واختلط العرب والبربر والقوط وشكَّلوا مزيجًا سُكانيًّا فريدًا من نوعه في العالم الإسلامي، وأقبل القوط الذين بقوا على المسيحيَّة على تعلُّم اللُغة العربيَّة والتثقُّف بِالثقافة الإسلاميَّة مع حفاظهم على خُصوصيَّتهم الدينيَّة، فعُرفوا بِالمُستعربين، وكتبوا لُغتهم بِالأحرف العربيَّة التي عُرفت باسم «اللُغة المُستعربيَّة».
التقسيم الإداري في الأندلس:
إن من يدرس جغرافية شبه وجزيرة "أيبيريا"، يجد أن حدودها الطبيعية تصلح تماماً لأن تكون حدوداً سياسية إدارية، فسلاسل الجبال ووديان الأنهار التي تقطعها في خطوط مستعرضة من الشرق إلى الغرب أو العكس، قد قسمتها إلى أقسام طبيعية يمكن تحويلها إلى وحدات إدارية وعسكرية واضحة المعالم. فما كان على المنظم أو الإداري إلا أن يثبت حدود هذه الوحدات ويعين قواعدها، فلا يجد صعوبة في إدارتها وجباية خراجها. وهذا ما فعله الرومان والقوط. ثم جاء المسلمون فاحتفظوا بهذه التقسيمات الإدارية ولكنهم سموها مدناً بدلا من كيفتاس ، " وكورا " بمعنى ولايات- بدلاً من بروفنكياس ، وأضافوا إليها عدداً من المنشآت التي تعطيها الطابع الإسلامي المميز لها كالمسجد الجامع، وقصر الإمارة أو الخلافة، والأسواق والقيساريات إلى غير ذلك مما يناسب طبيعة دولتهم الإسلامية. هذا إلى جانب ما أضافوه من مدن جديدة لأن البناء والعمران من مستلزمات التحضر ومثال ذلك:
• الجزيرة الخضراء التي بناها "طارق بن زياد " بجوار جبل طارق، وكانت تعرف بجزيرة أم حكيم محلى اسم زوجته التي تركها هناك أثناء قيامه بفتح الأندلس.
• طريف، غربي الجزيرة الخضراء، وهي على اسم "طريف بن مالك " أحد قوادا، موسى بن نصير" الذي أغار على هذه المنطقة فسميت البلدة باسمه.
• قلعة أيوب في شمال أسبانيا. بناها "أيوب بن حبيب اللخمي) الذي ولي الأندلس بعد مقتل ابن عمته "عبد العزيز بن موسى بن نصير"
• مدينة سالم في شمال أسبانيا. بناها "سالم بن ورعمال المصمودي " أحد قواد البربر الذين شاركوا في فتح الأندلس
• تطيلة على وادي الأبرو في شمال أسبانيا، بناها الأمير! الحكم بن هشام المعروف بالربضي ، وينسب إليها الشاعر "أبو العباس القيسي المعروف بالأعمى التطيلي (ت 532 هـ1127 م
• مرسية في شرق الأندلس وقد تعني المرساة التي أرسيت قواعدها. بناها الأمير "عبد الرحمن الأوسط الأموي سنة 216 هـ/\ 83 م) " وينسب إليها علماء كثيرون مثل "ابن سيده اللغوي (ت 08 4 هـ/065 ام) "صاحب المخصص في اللغة، والعالم "ابن سبعيــن (ت 669 هـ أ" صاحــب الرد العلمــــي المشهور على الإمبراطور "أفريدريك الثاني "، والفيلسوف الصوفي "محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ)، صاحب كتاب الفتوحات الملكية.
عناصر المجتمع
كان المجتمع الأندلسي خليطًا من أجناس مختلفة امتزجت في بوتقة المجتمع الأندلسي لتتكون منها الشخصية الأندلسية المستقلة. وقد كانت عناصر المجتمع الأندلسي كالتالي :
العرب: دخل العرب إلى الأندلس في موجات متعاقبة، إلا أن أبرزها كان ما يسمى بطالعة موسى وهم الجند الغازي الذين دخل الأندلس بصحبة موسى بن نصير عام 93 هـ، والذين كانوا من العرب القيسية واليمانية، والذين انتشروا في الأندلس فسكنت القيسية في نواحي الجنوب، وتوزعت اليمانية بين المناطق الشمالية والشمالية الغربية. كان أبرز الهجرات العربية التالية طالعة بلج بن بشر القشيري، وهم الجند الذين بعثهم الخليفة هشام بن عبد الملك إلى المغرب للقضاء على ثورة البربر هناك، ثم استعان بهم عبد الملك بن قطن الفهري والي الأندلس عام 122 هـ للقضاء على ثورة البربر في شمال الأندلس، واستقروا بها، والذين كان معظمهم من القيسيين، ودخلوا بعد فترة وجيزة في صراع مع عبد الملك بن قطن واليمانية، وخلعوه وسيطروا على قرطبة، إلى أن وزعهم أبو الخطار الكلبي على كور الأندلس، فأسكنهم جيان وباجة وأكشونبة وبعض نواحي تدمير وشذونة والجزيرة وإشبيلية ولبلة ورية وإلبيرة. غلبت النزعة القبلية على عرب الأندلس، وشكلوا النواة الارستقراطية والبرجوازية بالمدن، فتقلدوا مراتب الوزارة والكتابة والقضاء والشرطة والحسبة وبيت المال وضرب السكة. أما عامتهم فقد احترفوا الزراعة ونسج الحرير والغزل والنسيج والتجارة فيهما، وبيع العطر والشمع والفاكهة والخضر والخبز.
البربر: كان البربر يمثلون معظم الجيش الفاتح للأندلس مع طارق بن زياد. ونظرًا لقرب مساكنهم من الأندلس، توالت هجراتهم إليها أن علموا بنجاح الفتح، وخاصة من قبائل زناتة. وبعد أن انتهج العامريون سياسة تقريب البربر والاعتماد عليهم كعماد للجيش بدلاً من العرب والصقالبة، هاجرت جموع كبيرة من البربر إلى الأندلس خاصة من بطون صنهاجة، ولعبوا دورًا كبيرًا في فترة الفتنة. اختار البربر النزول في المناطق الجبلية في الأندلس في الجنوب والوسط والغرب لتقاربها مع طبيعة بلادهم. وقد امتهن من سكن المدن منهم الحرف اليدوية والصيد والسقاية والبناء، فيما امتهن سكان البوادي *** البقر والسمن والزيت والعسل والصوف والدجاج والفواكه والفحم والخشب، وبيعها في المدن.
الموالي والصقالبة: لعب الموالي دورًا كبيرً في تأسيس الدولة الأموية في الأندلس بما قدموه من دعم لعبد الرحمن الداخل عند دخوله الأندلس. أصبح تأثير الموالي مؤثرًا منذ أن دخل ألفان مولى من أصل عشرة آلاف رجل إلى الأندلس في طالعة بلج. وقد اعتمد عليهم الأمويون في بداية دولتهم في الأندلس، وظلت أسر منهم تستأثر بالمناصب لدى الأمراء والخلفاء كبني جهور وبني أبي عبدة. أما الصقالبة فهم الخدم والمماليك الذين ***هم النخاسون الجرمان واليهود من أسرى حروب الجرمان مع الصقالبة، وباعوهم في الأندلس. وكثر عدد الصقالبة أيام الخلافة، حيث كانوا يستخدمون كخدم وجنود، وصار لهم تأثير كبير، خصوصًا وأنهم كانوا في خدمة أصحاب القرار، وقادة للجيوش، وكانت لهم مؤامراتهم داخل القصور كمحاولة فائق وجؤذر كبيرا صقالبة قصر الخلافة بعد وفاة الحكم المستنصر بالله لتنحية وليّ عهده هشام المؤيد بالله، وتولية أخيه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر لدين الله التي نجح الحاجب جعفر المصحفي بمعاونة محمد بن أبي عامر في إفشالهم، واستخدموا أحيانًا في قمع الثوارت كثورة أهل الربض في عهد الحكم الربضي. وإلى جانب الخدمة في القصور، اشتغل الموالي والصقالبة في الحياكة والنسيج وسبك الحديد وصنع آلات الحرب والصباغة والنجارة، وتجارة النعال والجلاليب واللحم وضرب الطبول والقيام بالمساجد والأذان ورصد الوقت ودفن الموتى وحفر القبور وحراسة الأسواق ليلاً وحراسة الفنادق وحمل السلع من بلد إلى بلد.
المستعربون: هم المسيحيون الذين بقوا على دينهم بعد فتح الأندلس، وعاشوا في كنف دولة المسلمين. كان المسلمون يسمونهم بعجم الأندلس، إلا أنه ومنذ القرن الحادي عشر الميلادي، أطلق عليهم لقب المستعربون وهو لقب استخدمه مسيحيو الممالك الشمالية لتمييز هؤلاء المسيحيين الذين تأثروا بالمسلمين ثقافةً ولغةً وأسلوب حياة، فكانت لهم طقوسهم الدينية الخاصة ورجال دين خاصون بهم، بل وكانوا يستخدمون لغة خاصة بهم، ظلت تستخدم كلغة منطوقة حتى القرن الرابع عشر. وخلال فترة الحكم الأموي، استخدمهم الأمويون في إدارة بعض شئون البلاد الاقتصادية وتنظيم الدولة. أما عوامهم فقد امتهنوا الزراعة وتربية الماشية وقطع الأخشاب وصناعة الفحم وصيد الأسماك وصناعة السفن وآلاتها.
المولدون: هم سكان الأندلس الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام وأبناء العرب والبربر من أمهات إسبانيات. لم يكن هناك فرق بين وضعهم العام ووضع العرب والبربر المسلمين في الأصل. بل وبرزت منهم بيوتات كانت لها مكانتها السياسية كبني قسي وبنو الطويل في الثغر الأعلى، وكان منهم العلماء كابن القوطية. إلا أن قطاعًا منهم كانت لهم نزعاتهم العصبية ضد العرب، وكانوا يثورون على سلطة الدولة في فترات ضعفها كابن حفصون وابن مروان الجليقي. وقد امتهنت تلك الطائفة الزراعة والتجارة، واستخدمهم الأمويون في بعض المناصب الإدارية.
اليهود: عاش اليهود في العديد من المدن كقرطبة وإشبيلية ولسيانة وغرناطة وطليطلة وقلعة حماد وسرقسطة وطركونة وطرطوشة. وامتهنوا الخياطة والصباغة والحجامة والدلالة في الأسواق وصناعة الصابون وتجارة الحلي والأصواف والكتان وآلات الطرب، وتجارة العبيد والحرير والتوابل.
طارق بن زياد وانطلاق العرب في الأندلس
يعد طارق بن زياد من أشهر زعماء المقاومة الأمازيغية في العصر العربي الوسيط إلى جانب كسيلا والكاهنة ويوسف بن تاشفين. وقد استطاع بفضل عقيدة الإسلام وسماحة الدين ويسر الشريعة الربانية أن يتعلم القرآن الكريم وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، وبفضلهما نجح طارق في فتح الأندلس ونشر الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا حتى وصلت الفتوحات الإسلامية إلى لابواتييه بفرنسا. واستمر الإسلام في الأندلس مدة ثمانية قرون، واستطاع المسلمون أن يقدموا لأوربا حضارة إنسانية متقدمة كانت من بين العوامل الأساسية لتحقيق النهضة الأوربية، وانتشار الحركة الإنسية، وانطلاق الكشوفات الجغرافية، وتطور المعارف والعلوم والفنون في الغرب المسيحي، والتي أسفرت عن ظهور ما يسمى بغرب الحداثة الذي سيسيطر على العالم بفضل ثمار الحضارة العربية التي ازدهت بالأندلس، والتي كان وراءها القائد البربري المسلم طارق بن زياد. إذا، من هو هذا الفاتح المشهور الذي تحدثت عنه كتب التاريخ سواء العربية منها أم الأجنبية؟ وما هي أهم المراحل التي مر بها فتحه للأندلس؟ وما موقع خطبة طارق بن زياد من التشكيك والإثبات.
من هو طارق بن زياد؟
أورد ابن عذاري المراكشي في كتابه "البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب" أن نسب طارق بن زياد هو طارق بن زياد بن عبد الله بن لغو بن ورقجوم بن نير بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو... فهو نضري. وقد اختلف المؤرخون في نسبته، فهناك من يعتبره فارسيا همذانيا، وهناك من يدافع عن بربريته بأنه من مواليد قبيلة نفزة البربرية. و قد قيل إن طارق: طويل القامة، ضخم الهامة، أشقر اللون، وتنطبق هذه الصفات على عنصر البربر". ومن المعروف أن طارق مولى مغربي أمازيغي لموسى بن نصير، وهو أيضا من البربر الزناتيين أو النفزاويين، وقد أسلم والد طارق منذ أيام عقبة بن نافع الفهري.
وقد كان طارق بن زياد حسب الروايات الأدبية والنقدية شاعرا مفلقا، إذ أورد له المقري في كتابه "نفح الطيب" بعض الأبيات الشعرية نقلا عن الحجاري في المسهب وابن اليسع في المغرب، وهي:
ركبنا سفينــــا بالمجاز مقيرا عسى أن يكون الله منا قد اشتـرى
نفوسا وأموالا وأهلا بـــــجنة إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيســــرا
ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا
وقد قال عبد الله الجراري الدارس المغربي مقوما هذه الأبيات الشعرية: "... وقد اشتد شوق البرابرة وقوي شغفهم باللسان العربي الجديد ساعة ما أخذ القائد طارق يخاطب إخوانه بلون جديد من ألوان الكلام منشدا إخوانه قصيدته في الفتح... بل حسبنا أن نرى هذا اللون من الكلام المقفى والأسلوب المتزن الجديد الذي لا تفتأ تقاطيعه الشعرية ونبراته الغنائية ذات النوبات التفعيلية القارة تجتذب نفسية البربري وتحرك شوقه الحار لهذا النوع الطريف من القول الحافز بهدوئه الموسيقي إلى الإصغاء بقلب واع ونفس تواقة للنسج على منواله الهندسي الدقيق رافعا مكانته في مقام الكلام إلى أسمى ذروة في الوزن والتقفية.
خطبة طارق بن زياد:
قال طارق بن زياد خطبة رائعة أثناء فتحه للأندلس بعد أن أحرق الأجفان والسفن التي حملتهم إلى الجبل المسمى باسمه (جبل طارق) قطعا لأملهم في الهروب والرجوع والفرار، وتحفيزا لهم على المواجهة والمقاتلة ومحاربة العدو. وبذلك تكون خطبة طارق بن زياد أقدم نص أدبي نثري وصل إلينا في الأدب المغربي. ومن ثم، يكون طارق بن زياد أول أديب أمازيغي متعرب أرسى دعائم الأدب المغربي ووطد أسسه الفنية والجمالية على مرتكزات أسلوبية آية في الروعة والبيان والتصوير الفني. ويقول عباس الجراري في هذا السياق: "وربما اعتمد الذين يقولون بوجود أدب في المغرب لأول عهده بالإسلام على الخطبة المشهورة التي ألقاها طارق بن زياد في الجيش المتوجه لفتح الأندلس. والحق أن الباحثين وقفوا بشأن هذه الخطبة مختلفين...
ويذهب والدنا حفظه الله إلى أن جند طارق "كان في مجموعه يدرك مدلول ما احتواه الخطاب الحماسي العربي، وهو ما هو علوا في البيان والروعة والسمو يجعلنا نومن بأن برابرة المغرب لذلكم العهد الإسلامي الفتي كان لهم إلمام واسع ومعرفة لا تقصر عن فهم أمثال هذا الخطاب الحربي البليغ الذي حول فزعهم ثباتا وشجاعة واضطرابهم يقينا وصمودا.
ولما سمع الجيش خطبة طارق "أثرت فيه تأثيرها البليغ المشهود في اندفاعه إلى حومة الوغى، وتهافته على الموت بإيمان وحماس. فكيف يفسر هذا بغير سرعة انتشار العربية، كالسرعة التي انتشر بها الإسلام.
وإليكم خطبة طارق بن زياد كما أوردها الأستاذ والباحث المغربي عبد الله كنون ونقحها في كتابه القيم" النبوغ المغربي في الأدب العربي":
"أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة. وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة. وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لنفسكم بالموت وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس (من غير أن) أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغتكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا. ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين. واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم "لذريق" فقاتله إن شاء الله تعالى فاحملوا معي فان هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه وان هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا لهم من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون.
وتتسم خطبة طارق بن زياد بروعة الأسلوب ونصاعة البيان وتنوع الأساليب وانتقالها من الخبر نحو الإنشاء، ومن الإنشاء الطلبي إلى الإنشاء غير الطلبي. ويعتمد طارق بن زياد في نصه الخطابي هذا على الحجاج الإقناعي والتصوير البلاغي وأسلوب الترغيب والترهيب للتأثير في نفوس مخاطبيه وإقناعهم بضرورة الدفاع عن أنفسهم ومقاتلة الأعداء حتى يتحقق النصر لنشر الإسلام في ربوع الأندلس قاطبة. وتشبه هذه الخطبة في خصائصها الجمالية الخطبة الأموية في استرسالها وبلاغة أسلوبها وسحر كتابتها وجمال ألفاظها وعذوبة بيانها.
خطبة طارق بن زياد بين الشك والإثبات:
أثارت خطبة طارق بن زياد الرائعة في البلاغة والفصاحة ردود كثير من الباحثين والدارسين بين مدافع عن نسبة الخطبة إلى صاحبها لكونه مؤهلا لذلك وقادرا على الإتيان بها مادام قد تربى في بيوت العرب والإسلام في المشرق قبل أن ينتقل إلى المغرب، كما أنه كان متأثرا كثيرا بالإسلام والبيان العربي على غرار الكثير من البربر الذين اندمجوا مع العرب في بوتقة حضارية عربية إسلامية واحدة، ورافض للخطبة بسبب بربرية صاحبها واستحالة أن يأتي طارق بهذه الخطبة التي يعجز عن الإتيان بها حتى العرب الفصحاء وفطاحل البلاغة والبيان، بله عن كونه حديث الإسلام وتعلم اللغة العربية مع بداية الفتوحات الإسلامية.
هذا، ويعد شكيب أرسلان أول من أشاد بخطبة طارق بن زياد وبخطبته البيانية البليغة التي يصعب على البلغاء العرب أن يجاروه في فصاحتها وروعة أسلوبها وصورها الفنية المؤثرة، بيد أنه أول من شكك في هذه الخطبة اعتمادا على بربرية طارق وانتمائه إلى السلالة الأمازيغية، يقول شكيب أرسلان في هذا الصدد:
ويشك عبد الله عنان صاحب كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" في خطبة طارق بن زياد، لأنها لم ترد في المصادر التاريخية الوسيطة:" إنه يسوغ لنا أن نرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، فإن معظم المؤرخين ولاسيما المتقدمين منهم لا يشير إليها، ولم يذكرها ابن عبد الحكم ولا البلاذري، وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية، ولم تشر إليها المصادر الأندلسية الأولى، ولم يشر إليها ابن الأثير وابن خلدون، ونقلها المقري عن مؤرخ لم يذكر اسمه، وهي على العموم أكثر ظهورا في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين. وليس بعيدا أن يكون طارق قد خطب جنده قبل الموقعة، فنحن نعرف أن كثيرا من قادة الغزوات الإسلامية الأولى كانوا يخطبون جندهم في الميدان، ولكن في لغة هذه الخطبة وروعة أسلوبها وعبارتها ما يحمل على الشك في نسبتها إلى طارق، وهو بربري لم يكن عريقا في الإسلام والعروبة، والظاهر أنها من إنشاء بعض المتأخرين، صاغها على لسان طارق مع مراعاة ظروف المكان والزمان.
ومن الذين يشكون في هذه الخطبة الدكتور أحمد هيكل، وتتمثل حيثيات شكه في الأسباب التالية:
1.إن طارق بن زياد كان بربريا مولى لموسى بن نصير ومن شأنه أن يكون حديث عهد بالعربية وألا يستطيع الخطابة والشعر بلغة هو حديث عهد بها.
2.إن المصادر الأولى التي سجلت حوادث الفتح قد خلت تماما من أي حديث عن هذا الأدب مع أنها تناولت تفاصيل يدخل بعضها في باب الأساطير. وقد استوت في ذلك الصمت عن هذا الأدب المصادر الأندلسية والمغربية والمشرقية جميعا، ولم يرد هذا الأدب المنسوب إلى طارق إلا في بعض المصادر المتأخرة كثيرا عن فترة الفتح مثل نفح الطيب...
3. الأسلوب الذي جاءت به لم يكن معروفا في النثر العربي خلال الفترة التي تعزى إليها تلك الخطبة فالسجع الكثير والمحسنات المتكلفة قد شاءت في عصر متأخر كثيرا عن القرن الأول.
4. قوله لجنده وكانوا كلما نعرف من البربر: (وقد اختاركم أمير المؤمنين من الأبطال عربانا). فطارق كان يعرف أن جنوده من البربر وجنوده كانوا يعرفون أنهم ليسوا عربانا. ومن هنا يبعد أن يكون قد خطبهم بهذا الكلام الذي لا يقوله إلا غير عالم بحقيقة جيش طارق.
ومن الذين يثبتون نسبة الخطبة لطارق بن زياد عبد الله كنون أثناء رده على دعوى شكيب أرسلان اعتمادا على أسباب ثلاثة: نشأته في بيت العروبة والإسلام في الشرق قبل انتقاله مع أبيه إلى المغرب، ثم إسلام الكثير من صحابة رسول الله صلعم من الروم والفرس والعجم وكانوا من كبار العلماء والفصحاء والبلغاء، كما أن خطبة طارق بليغة من حيث المعاني لا من حيث الصور والفنيات الجمالية، والمعاني كما قال الجاحظ مطروحة في الأسواق وإنما الاعتداد بالبيان وروعة المجاز والتخييل البلاغي وهذا ما لم يجده كنون في خطبة طارق، وأن هذه الخطبة يمكن لأي متفقه في العربية أن يأتي بها: "يستشكل بعض الباحثين صدور خطبة طارق بن زياد منه وهو بربري قح، يستبعد أن تكون له هذه العارضة القوية في اللغة العربية، حتى يأتي بتلك الخطبة البليغة. وهو استشكال في غير محله،
أولا: لأن طارق بن زياد إن كان أصله بربريا فقد نشأ في حجر العروبة والإسلام بالمشرق، ولم يكن هو الذي أسلم أولا بل والده، بدليل اسمه زياد فإنه ليس من أسماء البربر، ولاشك أنه كان من مسلمي الفتح المغربي الأول، وأنه انتقل إلى المشرق حيث تولاه موسى بن نصير ونشأ ولده في هذا الوسط العربي الذي كونه وثقفه.
ثانيا: لأن نبوغ غير العرب في اللغة العربية منذ اعتناقهم الإسلام أمر غير بدع حتى يستغرب من طارق، وهو قد نشأ في بيت إسلامي عربي. فعندنا سلمان الفارسي الذي قضى شطر حياته في بلاد عجمية فلما أسلم بعد ذلك تفتق لسانه بالعربية إلى أن قال فيها الشعر، وبيته مضروب به المثل في الاعتزاز بالإسلام واعتباره هو نسبه الذي يفخر به، إذ افتخروا بقيس أو بتميم، لا يخفى على أحد.
ونمثل ببربري آخر، غير طارق وهو عكرمة مولى ابن عباس الذي قال فيه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة؛ ومقامه في العلم والرواية لايجهل،
ثالثا: لأنه ليس في الخطبة من صناعة البيان ما يمنع نسبتها لطارق، وبلاغتها في نظرنا إنما ترتكز أولا وبالذات على معانيها، والمعاني ليست وقفا على عربي ولا عجمي. نعم يمكن أن يكون وقع في هذه الخطبة بعض تصرف من الرواة بزيادة أو نقص، ونحن قد صححنا فيها بالفعل إحدى العبارات التي لم تكن واضحة الدلالة على معناها ولكن هذا لا ينفي أصل الخطبة ولا يصح أن يكون حجة للتشكيك في نصها الكامل..
مرحلة عصر الولاة
بعد انتهاء عهد الفتح يبدأ عهد جديد في تاريخ قصة الأندلس يُسمَّى عصر الولاة، الذي يبدأ من عام 95هـ - 714م ويستمرُّ مدَّة اثنين وأربعين عامًا حيث ينتهي عام 138هـ- 755م، وعهد الولاة يعني أنَّ حُكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولاَّه رجل يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في دمشق في ذلك الوقت، وإذا نظرنا إلى عصر الولاة نرى أنه قد تعاقب فيه على حكم الأندلس اثنان وعشرون واليًا، أو عشرون واليًا تولَّى اثنان منهم مرتين؛ فيُصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنتين وعشرين فترة خلال اثنين وأربعين عامًا؛ أي أن كل والٍ حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.ولا شكَّ أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثَّر تأثيرًا سلبيًّا على بلاد الأندلس، إلاَّ أن هذا التغيير في الواقع كان له ما يُبَرِّرُه؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثيرٌ من الوُلاة الذين يُستَشْهَدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، ثم جاءت مرحلة كان فيها كثيرٌ من الوُلاة يُغَيَّرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات وما إلى ذلك، ومِنْ هنا نستطيع أن نُقَسِّم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيستين مختلفتين تمامًا؛ حيث كانت الفترة الأولى فترة جهاد وفتوح وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتدُّ من بداية عهد الولاة من عام 95هـ - 714م وحتى عام 123هـ ــ741م؛ أي: سبعة وعشرين عامًا وكانت الفترة الثانية فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، واستمرَّت من عام 123هـ- ـ741م وحتى عام 138هـ ـ755م؛ أي مدَّة خمس عشرة سنة.يبقى أن نذكر أهم معارك هذه الفترة وهي معركة بلاط الشهداء ، وقعت في 10 أكتوبر عام 732 م بين قوات المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي وقوات الإفرنج بقيادة( تشارلز مارتل). هُزم المسلمون في هذه المعركة وقُتل قائدهم، وأَوقفت هذه الهزيمة الزحف الإسلامي تجاه قلب أوروبا وحفظت المسيحية كديانة سائدة فيها. وبعد تعيين أول والي عليها من قبل بني أمية في المشرق.
أما الأدب فكان منتجوه في تلك الفترة من الوافدين المشارقة، لذلك اتسم شعرهم بأنه مشرقي خالص بمعنى أن خصائصه هي خصائص الشعر المشرقي من حيث الموضوعات والأسلوب، فالموضوعات تقليدية من مديح ورثاء وهجاء...الخ والأسلوب- كذلك- يسير على الاتجاه المشرقي من لغة وصور وبناء للقصيدة. وكان من أبرز شعراء تلك الفترة: أبو الأجرب جعونة بن الصمة وهو من العرب الطارئين على الأندلس ، اشتهر بهجاء الصّميل بن حاتم رئيس القيسيّة هناك ، ثمّ أكثر من مدحه بعد أن تمكن منه وعفا عنه ، وكان ذا شأن في شعره ، وقد التقى أب نواس في بغداد وسمع شعره ن ومن شعره الذي وصل إلينا رغم قلته ، قوله:
ولقد أراني من هوايَ بمنزلِ
عالٍ ورأسي ذو غدائر أفرع

والعيش أغيد ساقطٌ أفنانه
والماء أطيبه لنا والمرتع

ومن شعراء تلك المدّة ، أبو الخطّار حسام بن ضرار وفد على الأندلس واليا سنة 125هـ وكان شاعرا ، وفارسا حتى لقب بعنترة الأندلس ، ومن آثاره بالرغم من قلتها قوله:
فليت أبن أبي جوّاسٍ يُخبّر أنني
سعيتُ به سعيَ امرءٍ غير عاقل

قتلت به تسعين تحسب أنّهم
ولو كانت الموتى تباع اشتريته
جذوعَ نخيلٍ صرِّعت في المسايل
بكفي وما استثنيت منها أناملي

وقد أجملنا خصائص هذا الشعر قبل ذكرنا الأبيات ، وعليه فهذه النماذج مع قلتها تحكي لنا صورة الشعر في تلك المدة ، فهو إنما يساير الاتجاه المحافظ الذي يحفل شعره بالفخامة في العبارة ، والجزالة بالألفاظ ، وربما كان الأنسب في التعبير عن حياة الناس وطبيعة ظروفهم آنئذ، إذ لم يزل معظمهم متمسكا بعاداته البدوية ولم يصب بنصيب من التحضر .
أسس سلالة عهد الإمارة عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام (756-708 م) من أحفاد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وأحد القلائل الناجين من المذابح التي أقامها العباسيون للأمويين (750 م) فر إلى الأندلس ثم استولى على الحكم. عمل عبد الرحمن ثم ابنه هشام ثم حفيده الحكم على إرساء و تقوية دعائم الدولة الجديدة، قاموا بتوحيد أراضي الأندلس الإسلامية و حاربوا الممالك النصرانية في الشمال. عاشت الدولة مجدها الأول في عهد عبد الرحمن الأوسط، وعرفت البلاد ازدهار حركتي الآداب والعلوم وبلغت حالة متقدمة من التمدن، كما عُرف عن الأندلسيين أثناء ذلك العهد تمتعهم بثقافة وطبائع راقية. أصبحت دولة الأندلس مركزاً حضارياً كبيراً في غرب العالم الإسلامي.عبدالرحمن بن معاوية الداخل)هو عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (788م الملقب بصقر قريش.) حكم قرطبة من 756م إلى 788م. جده الخليفة هشام بن عبد الملك عاشر الخلفاء الأمويين، ينتسب لجده أمية بن عبد شمس، و ولد في دمشق يتيما لا أم له و لا أب وفي صغره تنقل كثيرا من بلد لآخر للنجاة من عذاب العباسيين و الاستقرار في بلد آمن بعيدا عنهم فاستقر بمدينة سبتة بالمغرب .تمكن عبدالرحمن الداخل من الهرب إلى أخواله في المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيين الذين تمكنوا من القضاء على الدولة الأموية في المشرق. وكان الداخل يتصف بصفات جميلة وحسنة فكان طيب القلب، وعالما، وشاعرا، وشجاعا، وحازما، وحذرا، وكثير المشورة و أخيرا سريع النهضة فكل هذه الصفات أهلته ليكون قائدا متميزا تحكي عنه الأجيال. لقب عبدالرحمن بألقاب كثيرة فمنها صقر قريش الذي لقب به من قبل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ولقب بالداخل لأنه دخل الأندلس وبنى دولة فيها.
واذا نظرنا لحالة الأدب لوجدناه متطبعا بالطابع المشرقي، فالشعراء يسيرون فيه على تقاليد المدرسة المشرقية المحافظة، غير ان هناك سمات ثلاث تميز شعراء تلك الفترة عن شعراء المشرق وهذه السمات هي:
1-التجديد الموضوعي، بمعنى طرق موضوعات جديدة أو موضوعات قديمة ولكن بطريقة جديدة، كمعالجة الشاعر أبي المخشي للعمى، الذي قاده إليه لسانه ، فقد كان ذا بذاء زائد ، يتسرع به لا يردعه عنه شيئاً ن وكان هشام بن الحكم قد سمل عينيه بعد ان عرض به ، في قصيدته التي أولها :
وليسوا مثل من إن سيل عرفا
يقلّب مقلة فيها اعورارُ

وكان هشام أحول ، فاستدعاه إلى مدينة ماردة ، وفعل به ما فعل وقطع لسانه أيضا ويذكر الرازي في المغرب إن أبا المخشي كان صاحب المعاني الحسنة والنوادر الكثيرة والقول الغزير .وقد اتخذ صبيا كمنشد لشعره بعد أن أعجزته مأساته ز ومن شعره قصيدته التي يمدح بها عبد الرحمن الداخل والتي عبر فيها عن مأساته ، قائلا:
خَضَعَتْ أُمُّ بَنَاتِي لِلْعِدَا
وَرَأَتْ أَعْمَى ضَرِيرًا إِنَّمَا
فَبَكَتْ وَجْدًا وَقَالَتْ قَوْلَةً
فَفُؤَادِي قَرِحٌ مِنْ قَوْلِهَا
وَإِذَا نَالَ الْعَمَى ذَا بَصَرٍ
وَكَأَنَّ النَّاعِمَ المَسْرُورَ لَمْ
أَبْصَرَتْ مُسْتَبْدِلاً مِنْ طَرْفِهِ
بِالْعَصَا إِنْ لَمْ يَقُدْهُ قَائِدٌ
وإذا رَكْبٌ دَنَوْا كَانَ لَهُمْ
إِذْ قَضَى اللهُ بِأَمْرٍ فَمَضَى
مَشْيُهُ فِي الأَرْض لَمْسٌ بِالْعَصَى
وَهْيَ حَرَّى بَلَغَتْ مِنِّي المَدَى
مَا مِنَ الأَدْوَاءِ دَاءٌ كَالْعَمَى
كَانَ حَيًّا مِثْلَ مَيْتٍ قَدْ ثَوَى
يكُ مَسْرُورًا إِذَا لاَقَى الرَّدَى
قَائِدًا يَسْعَى بِهِ حَيْثُ سَعَى
وَسُؤَالَ النَّاسِ يَمْشِي إِنْ مَشَى
هَوْجَلاً فِي المَهْمَهِ الْخَرْقِ الصُّوَى

ليس هذا الشعر من أشعار الفكرة، فليس في القصيدة ركيزة فكرية، وإنما فيها عاطفة حزينة، وثورة منكسِرة تعبِّر عن عجزها واستسلامها للقضاء النازل، والكارثة التي اعترضت حياة الشاعر فبدَّلت نهاره ليلاً وسعادته شقاء، وشموخه ذُلاًّ وانكسارًا، وانعكس ذلك بلا شكٍّ على زوجته وبناته.
إن كلَّ إنسان يقدر على التعبير يمكنه أن يصف ما حدث للشاعر، وأن يقول أيضًا: إنه حزين متألم، لا يجد حلاًّ لمصيبته، وهو يتذكَّر أيامه الماضية بكثيرٍ من التحسُّر، ولكن مثل هذا الوصف مهما بلغت براعته اللغوية فإنها ستظلُّ براعة زائفة سطحية، مثل قشرة الدهان الخزف الرخيص، لا تحوله إلى ذهب، وإن أعطته بعض الوقت لونَ الذهب وبريقَه.هنا الشاعر لم يصرِّح بما حدَث له بصورة محدَّدة، ولا بأسبابه، وتحدَّث عن نتائجه من خلال رؤية امرأته، فكأنها هي التي تتحدَّث وتصف كارثتها التي أحاطت بها، حين أُصِيب زوجها، وهي ليست مجرَّد زوجة، إنها أم بناته، والبنت ترقِّق القلب وتحتاج إلى الرعاية أكثر من الولد، ولم يقل: احتاجت زوجتي بل: خضعت، والخضوع أعلى درجات الاحتياج، وفيه من الذل والانكسار ما فيه، وهي لم تخضع لِمَن يعطفون على مأساتها، وإنما للعدا) وهو شرُّ خضوع.وبعد هذه الافتتاحية الحزينة التي تجسم مقدار الكارثة من خلال ما ينعكس منها على الزوجة وبناتها، يستمرُّ في تقصِّي الجانب المباشر منها من خلال التعبير بالصورة، فها هو ذا رجل أعمى (ضرير) بكل ما في الكلمة من إيحاء صوتي بالضُّرِّ، يتحسَّس الأرض بعصاه، ويسأل الناس عن الطريق، أو يعتمد على مَن يقوده بعد أن كان قائد نفسه.
ويعود الشاعر إلى وصف الكارثة من خلال إحساس زوجته، فهي ترى أنه ما من مصيبة تعدل فَقْدَ البصر، وأن المبصِر إذا فقَد بصره فكأنما مات في الحقيقة "كان حيًّا مثل ميْتٍ قد ثوى"؛ لأن وضعه الجديد يقضي على كافَّة مُتَعِه في حياته قبل آفته، وهي تعبِّر عن فقد البصر بالرَّدى - وهو الموت - والشاعر صابرٌ للكارثة، ولكن حزنه يتضاعَف حين يحسُّها بمقدار رؤية زوجته لها: "ففؤادي قرِحٌ من قولها"، فالحزن يتضاعَف في نفسه عبر زوجته ولشدَّة ألمها وشقائها.

وفي النهاية يصوِّر حالته النفسية وعالمه الخاص، هذا العالم الغارق في الظلام، فكأنه يجتاب الدُّجَى دون أمل في مغادرته، وهو دجى حقيقي، ينعكس على النفس في صورة حرب يصطلي بها دون أمل في انقضائها، وتزيد لوعته حين يكون مع جماعةٍ يسيرون، فيكون سببًا في تعطيلهم لعجزه عن ملاحقتهم، وكأنه يسير في أرض كثيرة الأحجار وعرة المسالك. ولك أن تتصوَّر ما في ذلك من معاناة ومقاساة ومشاقة على النفس.
هذه صورة إنسانية صادقة وبارعة ومؤثِّرة فنيًّا، وليس بموضوعها المؤسِف فقط، شحذ لها هذا الشاعر الفنان كلَّ ما لديه من طاقة فنية، فأحسَن اختيار الكلمات المفردة التي أعطتْ ظلالاً مقصودة تصوِّر ما يعاني، وأحسَن اختيار التعبير عن عاطفته ووصف حاله وحال زوجته، فكأن خياله النشيط خير عَوْنٍ له في التقاط صورة المرأة المَهِيضة الجناح، أم البنات المضطرَّة إلى طلب العَوْنِ من أعدائها، ليجعل هذه الصورة تجسيمًا لعاطفته الحزينة المقهورة، ثم كان اختياره لهذا الوزن السهل الترديد، وتلك القافية الساكنة المقصورة، التي يمتدُّ بها الصوت محاكيًا نواح النائح: (العدا، ثوى، الردى، الدُّجَى، السرى)، يُضاف إلى ذلك بعض الكلمات التي أُشبعت بالمدود مثل: (ضَريرًا، قولها، المسرورَ، الأدواءِ.
إن مدَّ الصوت بهذه الكلمات كتنفُّس الصعداء، وهذه المدود الكثيرة المتنوِّعة المصاحِبة للنص إلى منتهاه، إفضاءات بآلام الشاعر داخل إفضائه الظاهر بشكواه، إنها موسيقا شجوه تخلَّلت موسيقا العروض، إنها أنفاسه داخل كلماته تَهَبُ الأبيات حيويَّة وصدقًا، فلو أضفنا إلى ذلك إيحاء الكلمات: (العمى، المَهْمَه، يصْطلي، يجتابُ)، وهي كلمات تصويرية تصوِّر الألم مجسَّمًا وصاحبه يُعانِي منه ماثلاً
.والقصيدة في تدرُّجها من الاستهلال إلى الخاتمة، وعنايتها بالمشاعر الداخلية وجعلها الصور الحسية محصورة في تلك الدلالات النفسية، وإيجازها بتكثيف التجربة دون عبارات فضفاضة أو جمل خطابية طنَّانة، أو أبيات زائدة عن الحاجة، قد بلغت قدرًا فائقًا من الصدق النفسي والجودة الفنية.هذا الإيجاز وتكثيف التجربة يعطينا فيضًا كثيفًا من الدلالة؛ لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً شفيفة يشتغل بها الذهن، ويعمل فيها الخيال حتى تتَّسع، فتزيد بطريق الإيحاء من دلالة الكلام.
2-التركيز العاطفي: وهو تركيز الشاعر على عواطفه ونقلها عبر نصه الشعري. 3- التجويد الفني: ويعني ايصال المعنى بطريقة الايحاء. ومن ابرز شعراء تلك الفترة: عبد الرحمن الداخل: عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس الملقب بصقر قريش. هو ابن معاوية بن هشام. ولد في دمشق. هرب إلى فلسطين ثم أفريقيا بعد استيلاء العباسيين على الخلافة وملاحقتهم لأمراء الأمويين. حصل على تأييد قبائل البربر في المغرب، وبدأ بالسعي إلى حكم الأندلس التي كانت تعيش خلافات بين اليمنيين والمضريين. كاتب أمراء الأندلس فوعدوا بتأييده، ونزل في المنكّب بالأندلس عام 755، وتوجه إلى إشبيلية حيث لقي الترحيب. حارب حاكم البلاد يوسف الفهري وانتصر عليه، ثم دخل قرطبة ونودي به أميراً سنة 756، فدشن بذلك عهد الدولة الأموية في الأندلس الذي استمر حتى 1031. استمر حكمه ثلاثين عاماً قضاها في توطيد أركان حكمه وإخماد الثورات التي قامت ضده، كما حارب شارلمان ملك فرنسا وانتصر عليه. ترك لابنه هشام دولة قوية وخلف آثاراً معمارية عظيمة أهمها جامع قرطبة..
شعراء مقلدون ومجددون
حسانة التميمية، هي حسانة بنت عاصم ( ابو المخشي) بن زيد بن يحي بن حنظلة بن علقمة بن عُدي بن زيد بن حمّاد بن أيّوب العبّادي التميمي ، كان ابوها من أهل الأندلس وكان والده ( جدها ) من جند الشام ، إتّجه أبو المخشي إلى مجال الشعر ونبغ فيه حتّى أصبح لامعاً .ولدت في أواخر حُكم عبد الرحمن الأوّل أي بحدود سنة 140 هجرية - 758 ميلادية ، وتعتبر من أقدم الشاعرات العربيات في الأندلس ، كان أبوها أبو المخشي شاعراً مميّزاً في الأندلس ، ولمّا توفي أبوها كتبت حُسّانة إلى الحَكَم تمدحه وتشكو ما آلت إليه حالها بعد فقدان أبيها في قصيدة ميمية منها قولها :
إني إليك أبا العاصِ موجِعةً
قد كنت أرتع في نعماه عاكفة
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له
لا شيء أخشى إذا ماكنت لي كنفا
لازلت بالعزة القعســاء مرتديا
أبا الحسين سَقته الواكفُ الدّيم
فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم
وملكته مقاليد النهى الأمم
آوي إليه ولا يعرو لي العدم
حتى تذل إليك العرب والعجم

فاستحسن الحكم شعرها وجعل لها راتباً وكتب إلى عامله على (البيرة ) فجهزها بجهاز حسن وفدت على عبد الرحمن بشكية من عامله جابر بن لبيد والي( البيرة) وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها فلم يفدها فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن فأقامت بفنائه وتلطفت مع بعض نسائه حتى أوصلتها إليه وهو في حال طرب وسرور فانتسبت إليه فعرفها وعرف أباها ثم أنشدته:
إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي
ليجبر صدعي أنه خير جابر
فإني وأيتامي بقبضة كفه كذي
جدير لمثلي أن يقال مروعة لموت
أيمحو الذي خطته يمناه جابر
سقاه الحيا لو كان حياً لما اعتدى
على شحط تصلى بنار الهواجر
ويمنعني من ذي الظلامة جابر
ريش أضحى في مخالب كاسر
أبي العاصي الذي كان ناصري
على زمان باطش بطش قادر
لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر

ولما فرغت رفعت اليه خط والده وحكت جميع أمرها. فرق لها وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينيه وقال: تعدى ابن لبيد طوره حتى رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي يا حسانة فقد عزلته لك ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم. فقبلت يده وأمر لها بجائزة. والملاحظ في شعرها انه مزيج من الرثاء والشكوى والمدح وطلب المعونة وهو على جانب كبير من النضج الفني والتركيز العاطفي المتسم بالصدق والصراحة.
عبّاس بن ناصح الثقفيّ الجزيريّ، نسبة إلى الجزيرة الخضراء (جنوبيّ الأندلس) . و قيل إنّ أباه ناصحا كان عبدا لمزاحمة بنت مزاحم الثقفيّ الجزيريّ (المغرب 1:324)
ولد عبّاس بن ناصح في الجزيرة الخضراء و نشأ فيها. ثمّ إنّه جعل يتردّد على قرطبة و يتّصل بالحكم بن هشام الربضيّ (١٨٠-206 ه‍) و يمدحه. فولاّه الحكم القضاء على الجزيرة الخضراء
و رحل عبّاس إلى المشرق، قيل ذهب ليرى أبا نواس و غيره من شعراء العراق (2). و قيل أرسله عبد الرحمن بن الحكم (206-٢٣٨ ه‍) إلى العراق في التماس الكتب القديمة، فأتاه بالسند هند و غيره. و كانت وفاة عبّاس بن ناصح سنة ٢٣٨(852-853 م) في الأغلب.
كان عبّاس بن ناصح من ذوي الفصاحة عالما باللّغة (4) و النحو و الفقه و الحديث و التعاليم (العلوم العدديّة: الرياضيّات و ما يتّصل بها) ، و لكن غلب عليه الشعر، و كان شعره جزلا متينا يشبه ما ألفه قدماء الشعراء في المشرق.
مختارات من آثاره: في الحلّة السيراء: قال عثمان بن المثنّى النحويّ المؤدّب: قدم بعد الوقعة علينا عبّاس بن ناصح قرطبة، أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شعر الأمير الحكم في الهيج ، فأنشدته إياه. فلمّا بلغت إلى قوله
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعاً
وقدماً لأمت الشعب مذ كنت يافعاً

فسائل ثغوري: هل بها اليوم ثغرة
أبادرها مستنضي السيف دراعاً

وشافه على الأرض الفضاء جماجماً
كأقحاف شريان الهبيد لوامعا

تُنبئك أني لم أكن في قراعهم
بوان، وقدماً كنت بالسيف قارعا

وإني إذا حادوا حذاراً عن الردى
فلست أخا حيد عن الموت جازعا
ولما تساقينا سجال حروبنا
سقيتهم سمّا من الموت ناقعا


فهاك بلادي إنني قد تركتها
مهاداً، ولم أترك عليها منازعا


قال عباس بن ناصح في طول الحياة (بغية الوعاة ) ما خير مدّة عيش المرء لو جعلت... كمدّة الدهر، و الأيام تفنيها فارغب بنفسك أن ترضى بغير رضا... و ابتع نجاتك بالدنيا و ما فيها و في نفح الطيب أنّ العبّاس الشاعر سمع امرأة في مدينة وادي الحجارة تستغيث بالحكم بن هشام لكثرة اعتداء الإسبان على المسلمين. فلما عاد عباس إلى قرطبة دخل على الحكم و أنشده قصيدة كان قد نظمها في ذلك، مطلعها:
تململت في وادي الحجارة مسهرا
أراعي نجوما ما يردن تغوّرا
إليك، أبا العاصي، نضيت مطيّتي
تسير بهمّ ساريا و مهجّرا
تدارك نساء العالمين بنصرةٍ
فإنّك أحرى أن تغيث و تنصرا

هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الاموي وهو الذي هاجر من الشام الى الاندلس فدخلها واسس فيها الدولة الاموية في الاندلس فسمي ( عبد الرحمن الداخل ) و كان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم شديد والدهاء ثابت الحزم والصرامة شديد الحذر، قليل الطمأنينة، لذا تمكن بدهائه وبحملاته المتوالية على المتمردين على سلطته سواء من العرب أو البربر بعد استخدم فيها كل الوسائل المتاحة له في إقرار الأمر في يده، بما في ذلك سلاح الشدة والقوة وحتى الغدر والاغتيال وإزهاق الأرواح دون تردد، فغيّر بذلك فكرة الاندفاع وراء العصبية والقبلية التي كانت سائدة في الاندلس في ذاك الوقت وغيّرها إلى الخضوع والانقياد لسلطة الدولة .كان عبد الرحمن شاعرًا مجيدًا وكان يحن الى الشام ويتشوق لها ومن شعره هذه الأبيات التي تعبر عن شوقه لربوع الشام التي نشأ فيها، حيث قال:
أيها الركـب الميــمم أرضي
أقر من بعـضي السلام لبـعضي
إن جسمـي كما علمت بأرض
وفـــــــــــــــــــــــــــــؤادي ومـالـكيــه بأرض
قـدّر البيـــن بيننـا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمـضي
قد قـضى الله بالفراق علينا
فعـسى باجتمـاعنا سوف يقـضي

بعد ان استقر له الامر من خلال استخدام تلك الطباع القاسية اخذ يقعد للعامة ويستمع منهم وينفذ ما يريدون وينظر بنفسه فيما بينهم. وكان من عاداته، أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، - وتلك عادات العرب الاصيلة - ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه وكذلك حاول استمالة غير المسلمين اليه فكان لين الجانب مع النصارى، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، وجعل لهم رئيسًا يسمى (القومس) اقامه إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور التي تخص عمله .
تُوُفِّي عبد الرحمن الداخل (صقر قريش)بقُرْطُبَة في جُمادى الأولى من سنة 172هـجرية الموافق لشهر تشرين أكتوبر 788ميلادية ودفن فيها وكانت عاصمة ملكه .
يتميز شعره بشعر المشرق في العراق والشام ونسج على منواله و كانت له مكانته المرموقة في قلوب الأندلسيين لأنه مهبط الوحي ومصدر الحضارة ومهد الفكر العربي المبدع. وقد ظهرت آثار التقليد والمحاكاة جلية في الشعر الأندلسي في وقته وبعده سنوات طويلة يقول:
دعني وصيد وقع الغرانق
فإن همي في اصطياد المارق
في نفق إن كان أو في حالق
إذا التظت لوافح الطرائق
كان لفاعي ظل بند خافق
غنيت عن روض وقصر شاهق
بالقفر والإيطان بالسرادق
فقل لمن نام على النمارق
إن العلا شدت بهم طارق
فأركب إليها ثبج المضائق

ومن شعره هذه القصيدة حينما رأى نخلة طلب ***بها من بلاد المشرق إلى بلاد الاندلس إذ من المعتاد لا يوجد بها شجر النخل التي كانت تنتشر بشده في المشرق الاسلامي , فحن لها عبدالرحمن الداخل وحين رأى النخلة التي أمر بزرعها أنشأ قائلا:
تبدت لنا وسـط الرصافـة نخلــة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنـوى وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيهـا غريبـــة فمثلك في الاقصـاء والمنتأى مثلي

عصر الامارة :
لما قامت الخلافة العباسية طارد العباسيون الأمويين، ويشاء الله أن يفلت من أيديهم واحد من بنى أمية : أتدرى من هو؟ إنه عبدالرحمن بن معاوية بن هشام حفيد هشام بن عبد الملك عاشر الخلفاء الأمويين.لقد هرب إلى فلسطين، ومنها إلى مصر ثم المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفى عن عيون العباسيين ومكث عند أخواله الذين أكرموه.ومن هناك راح ينتقل من “برقة” إلى “المغرب الأقصى” حتى وصل إلى مدينة “سبتة” سنة 137هـ/ 755م، وراح يُعِدّ العدة ويلتقط أنفاسه، ويرسم الخطوط العريضة لإقامة دولة تحيا بها أمجاد آبائه وأجداده الأمويين.وأخذ يتطلع إلى “الأندلس الإسلامية” ليقيم فيها الخلافة الإسلامية الأموية من جديد، فهى البلاد التى فتحها الجيش الإسلامى بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير، زمن الأمويين منذ سنة 92هـ/711م، وإليهم يرجع الفضل فى فتحها!ولقد استقرت بها طوائف من أهل الشام وجُنْدِه الموالين للبيت الأموى.وهنا أرسل “عبد الرحمن” أحدَ أتباعه، وهو مولاه “بدر”؛ ليجمع كلمة الذين يدينون لبنى أمية بالولاء والانتماء، ورَحّبَ به أنصارُ بنى أمية، ورأَوْا فيه شخصًا جديرًا بأن يتولى زعامتهم بدلا من ذلك الوالى العباسى، وعبر البحر إلى شاطئ الأندلس، وهناك انضمّ إليه أنصارُ بنى أمية، فقد انتهز عبد الرحمن الداخل فرصة الخلافات بين العرب المُضَريِّين والعرب اليمنيين فى الأندلس، فانضم إلى اليمنيين لأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، وهزم المضريين بقيادة يوسف الفهرى فى موقعة “المصارة” فى 138هـ/ 756م، فاستولى على مدن البلاد الأندلسية الجنوبية دون مقاومة، ثم راح يستولى على “قرطبة” عاصمة “ولاية الأندلس” سنة 141هـ/ 759م، بعد هزيمة الوالى العباسي، وأعلن نفسه أميرًا، وأصدر عفوّا عامًا غداة دخوله قرطبة ليمكن لنفسه فى البلاد، وتم له ما أراد بعد بضع سنوات فقط من تولى العباسيين عرش الخلافة فى بغداد، وبهذا انفصلت ولاية الأندلس، عن الخلافة فى بغداد انفصالا رسميّا.ويأتي هشام الأول:. توفي 180هـ/ 796م. ثم الحكم الأول:توفى سنة 206هـ/228م ، ثم عبدالرحمن الثاني: سنة 238هـ/ 853م. وتمر السنوات سراعًا فيتغير حال الأندلس، وتضطرب الأمور نتيجة للثورات الداخلية، ويتوالى على الحكم ثلاثة من الأمراء:
أولهم محمد بن عبد الرحمن.
الثاني: المنذر بن محمد.
الثالث: عبد الله بن محمد .
الأدب في عهد صراع الإمارة
لعل اكتساب الشعر أهمية في حياة العرب كان له من العناية ما جعل له خصوصيّة لم يحض بها النثر لكونه الفن الأدبي الأكثر تداولا والمعبر به عن العواطف والأحاسيس وبالتالي فهو الرسالة التي تصل إلى الآخرين بسرعة فتستميل لها الأعناق وتطرب النفوس ولما كان عصر الإمارة في الأندلس عصر نزاعات وحروب فهو بذلك أحوج ما يكون إلى الأدب بنوعيه : الشعر والنثر ليكون له وسيلة دعائية ليمكن الراعين في الوقت نفسه من تحقيق مآربهم ، وقد شهد هذا العصر تطورا ملحوظا في النتاج الأدبي وسنتوقف على ذلك من خلال دراستنا لأهم أعلام أعلامه :
يحيى بن الحكم البكري الجياني (156هـ - 250 هـ) الشهير بلقب يحيى الغزال، هو شاعر أندلسي عاصر خمس أمراء للدولة الأموية في الأندلس، وبرع في شعر الغزل والحكمة. وقد سمي بالغزال لجماله وظرفه وتأنقه وقيل إن الغزال لقبٌ لزمه، حين دخل على الأمير الأموي عبد الرحمن الأوسط فاستقبله مرة بشطر من الشعر، فقال: «جاء الغزال بحسنه وجماله»، وأجاز الغزال شطر الأمير فقال:
قـال الأميـر مداعبـاً بمقالـه
أين الجمالُ من امرئ أربى على
جاء الغزال بحسنه وجماله
متعدد السبعين من أحواله


تأثر يحيى الغزال بشعر أبي نواس وأبي تمام في عام 225 هـ، كلفه الأمير عبد الرحمن الأوسط بسفارة إلى بلاط الإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس ردًا على سفارة كان الإمبراطور أرسلها لطلب ود عبد الرحمن . كما أرسله عبد الرحمن في سفارة أخرى إلى بلاط هوريك الأول ملك النورمان في رحلة عاد منها بعد عشرين شهرًا عام 232 هـ.وحدث أن هجا يحيى الغزال زرياب بشعر، فاشتكاه زرياب للأمير عبد الرحمن، فأمر بنفيه من الأندلس، فرحل إلى العراق، وتجول في المشرق لفترة، حتى سمح له الأمير بالعودة.ومن شعره في الحكمة، قوله:
وخيرها أبوها بين شيخ
فقالت كلاهما خسف وما
ولكن إن عزمت فكل شيء
لأن المرء بعد الفقر يثرى
كثير المال أو حدثٌ فقير
أن أرى حظوة للمستخير
أحب إليّ من وجه الكبير
وهذا لا يعود إلى صغير


والغزال يدخل في كبار الشعراء، ويعد في أوائل الرحّالين الأندلسيين، وهو أشهر دبلوماسي لهذه المدة المبكرة من حياة الإسلام في الأندلس، وكان للغزال مشاركة قوية في العلوم العقلية، واشتهر بلقب «العرّاف» لخبرته في علم النُّجوم (الفلك)، إضافةً إلى خبرته ومعرفته بالعلوم النقّلية.أدرك يحيى بن حكم في حياته إمارة خمسة من حكام الأندلس الأموييّن: عبد الرحمن الداخل (ت 172) وهشام ابن عبد الرحمن (ت 180) والحكم بن هشام (ت 206) وعبد الرحمن الأَوسط ابن الحكم (ت 238) ومحمد بن عبد الرحمن (ت 273)، ومن هنا قال الغزال:
أدركتُ بالمِصرِ ملوكاً أَرْبَعِهْ
وخامساَ هذا الّذي نَحنُ مَعَه

وكانت رحلته رحلة الى بلاد الرومان جوابيّة ردّاً على رسالة، مع وفد دنمارك الذي قدم برغبة ملكهم في عقد علاقات سلميّة، ومعاهدة صداقة، وكان النرمانديون قد أغاروا على إشبيلية وغيرها ثم هزمهم الأندّلسيون. وللغزال في رحلته وفي لقائه الملك والملكة شعر حسَن. وعلّق كراتشكوفسكي هنا فقال: «إن الغزال أدى دور الدّبلوماسي مرّتين، وهو شاعر فنان، وعلى معرفة بعدد من اللّغات. وفي الملكة النرَّماندية يقول:
كلفّتِ في قلبي هوى متعباً
إنّي تعلَّقْتُ مَجُوســـِيَّة
غالبْتُ منـه الضّيغمَ الأغَلْبَا
تأبى لشمسِ الحُسْنِ أن تغربا


وقد نجحت مهمّة الغَزال، وسَجّل السبق بريادة السّفارات الديبلوماسّية الأندلسية.

شعر الغزال
نَظم الغَزالُ، في أغراض شَتى من الشّعر: الغَزل والهِجَاء والتعريض، والمَدْح، والوَصْف، والحكمة، والتأمّل في شؤون الحياة، وبَرزتْ مقدرته على مُعالجة النقد الاجتماعيّ في موضوعات متعدّدة، ومن أغراض الشاعر البارزة في شعره الباقي الهجاء والتعريض، وممّن أصابه هجاء الغزال: المغنّي زرياب، ونَصْر الخصيّ ذو النفوذ، ويبرز في شعر النقد الاجتماعي قضايا الغنى والفقر، وعلاقة الرّجُل والمَرأة، والألعاب المُلِهية، واستغلال النفّوذ، وكان للشّاعر نَفَسٌ ممدودٌ في التعّبير عن ظُروفِ حياته.ومن شعره الساخر:
إذا أُخبرتَ عن رجل بريءٍ
فَسًلْهُم عنه: هل هو آدميّ ؟
ولكن بعضنا أهل استتار
ومن إنعام خالقنا علينا
فلو فاحت لأصبحنا هروبا
من الآفات ظاهره صحيحُ فإن قالوا نعم فالقول ريحُ
وعند الله أجمعنا جريح
بأن ذنوبنا ليست تفوح
فرادى بالفلا ما نستريح

وولاه الأمير عبد الرحمن قبض الأعشار ببلاط مروان واختزالها في الأهراء استجابة لرغبة عبر عنها في إحدى قصائده . وفي ذلك العام ارتفعت الأسعار فباع الغزال كل ما لديه من مخزون، ثم نزل المطر ورخص الطعام، فلما علم الأمير بما فعله الغزال أنكره وقال: " إنما تعد الأعشار لنفقات الجند والحاجة إليها في الجهد فماذا صنع الخبيث؟ خذوه بأداء ما باع من أثمانها واشتروا به طعاما " ، وأبى الغزال ان يدفع ثمن ما باعه وقال: " إنما اشتري لكم من الطعام عدد ما بعت من الإمداد "
ويشهد معاصروه انه كان قليل المال مهملا في الأمور المادية، وتدل حادثة بيعه للطعام أيام المجاعة حين ولي قبض الأعشار على انتهاز الفرص ليجد المال، وعلى تصرفه بما ليس له، وعلى تبديده المال الذي قبضه في وقت سريع. ويقولون انه كان مقبلا على اللهو ثم أقلع عن شرب الخمر بعد عودته من المشرق وكانت يومئذ قد علت به السن وشارف الستين، واتجه إلى الزهد عملا وقولا. وقد أورد له ابن عبد ربه قصيدة تدل على انه كان بعيدا من اللهو وانه لم ينقد للذاته أبدا، مطلعها
لعمري ما ملكت مقودي الصبا ... فأمطو للذات في السهل والوعر وفيما يتحدث عن قناعته بشربة ماء وبخبز وبقل دون لحم وانه لو عمر تسعين حجة ؟وقد عمر - ما اشتاق إلى الخمر والمزاهر، بل انه سمع من الناس ان الخمر مرة، ولم يذق لها طعما:
وبالله لو عمرت تسعين حجة
ولا طربت نفسي إلى مزهر ولا

وقد حدثوني أن فيها مرارة
إلى مثلها ما اشتقت فيها إلى خمر
تحنن قلبي نحو عود ولا زمر
وما حاجة الإنسان في الشرب للمر

ج
فان كانت هذه القصيدة للغزال حقا، فأنها قد تغير النظرة إلى سيرته، وإلا فأنها مما قاله بعد ان نسك، على أننا نراه في رحلته يتعذر للملكة بان الخمر حرام في دينه، ولا يعتذر بكبر السن أو بما يقارب ذلك، ولا بد من ان نذكر دائما انه كان ميالا للمداعبة والفكاهة في كل أدوار حياته.شعره شاعر الأندلس المقدم ؟في نظري - على جميع شعراء هذه الفترة، وربما كان ابن شهيد أعمق منه ثقافة وأبصر بالنقد، وكلامه أشد أسرا ومما يميزه بين شعراء الأندلس ميزتان كبيرتان الأولى: قيام شعره على النظرة الساخرة، ووضوح نظراته الفلسفية القائمة على تجربيته، وهما خاصيتان عزيزتان في الشعر الأندلسي. فأما السخرية فأنها القاعدة الصلبة المتصلة بروحه الفكاهية، وهي لا تفارقه في أحرج المواقف أو في أشدها جدية، حتى في الغزل، في مثل قوله:
وهي أدرى فلماذا
أترى أنا اقتضينا
دافعتني بمحال
بعد شيئا من نوال

وقد ترفع هذه السخرية إلى مستوى المرارة في النظر إلى حقائق الحياة كقوله:
قالت: أحبك، قلت: كاذبة
هذا كلام لست أقبله
سيان قولك ذا وقولك
أو أن تقولي: النار باردة
غري بذا من ليس ينتقد
الشيخ ليس يحبّه أحد
إن الريح نعقدها فتنعقد
أو أن تقولي: الماء يتقد



وضاق بكل منتحل صلاحا ... لنتن ذنوبه البلد الفسيح وهذه الفلسفة هي التي جعلته يرى العلاقة الاجتماعية شيئا شبيها بعلاقة القط والفأر والثعلب والدجاج في قولة:
لا ومن أعمل المطايا إليه
ما أرى ها هنا من الناس إلا
أو شبيها بالقط ألقى بعينيـــــ كل من يرتجي إليه نصيبا
ثعلبا يطلب الدجاج وذيبا
ـــه إلى فأرة يريد الوثوبا


ويغرق في هذه النظرة الشكية الكافرة بالخير إذا هو استحضر ذكر المرأة، فالمرأة سرج للتداول، أو خان يتعاقب عليه النازلون أو ثمرة يأكلها أول مار بها :

إن النساء لكالسروج حقيقة
فإذا نزلت فان غيرك نازل
أو منزل المجتاز أصبح غاديا
أو كالثمار مباحة أغصانها
فالسرج ريثما لا تنزل
ذاك المكان وفاعل ما تفعل
عنه، وينزل بعده من ينزل
تدنو لأول من يمر فيأكل


وخلاصة فلسفة الغزال أن الناس جميعا متساوون لأنهم يتساوون في العيوب ولا يتفاوتون في الفضائل، وكل واحد يرى عيب أخيه ولو كان صغيرا ويعمى عن عيب نفسه:يستثقل اللمم الخفيف بغيره ، وعليه من أمثال ذاك جبال ويبدو أن الشيخوخة فعلت فعلها في نفس الغزال ومزجت نظرته إلى الحياة بمرارة شديدة وبعد أن كانت سخريته تريحه، ثقلت عليه وطأة السنين، وكان من جراء ذلك ان امتزج شعره بالموعظة، واتجه اتجاها زهديا فأخذ ينعى على أهل اليسار احتفالهم ببناء قبورهم كأنهم غافلون عما خرب من مدائن وقصور ويذكر الموت، وانه لم يفرق بين من يلبس الصوف ومن يلبس الحرير:
إذا أكل الثرى هذا وهذا
فما فضل الكبير على الحقير


وأخذ يرثي نفسه ويستشعر الغربة بين أجيال لا تعرفه، بل ربما حسدته على طول عمره :
أصبحت والله محسودا على أمد
حتى بقيت بحمد الله في خلف
وما أفارق يوما من أفارقه
أنظر إلي إذا أدرجت في كفن
واقعد قليلا وعاين من يقيم معي

هيهات كلهم في شأنه لعب
من الحياة قصير غير ممتد

كأنني بينهم من خشية وحدي

إلا حسبت فراقي آخر العهد


وانظر إلي إذا أدرجت في اللحد

ممن يشيع نعشي من ذوي ودي

يرمي التراب ويحثوه على خدي

وحتى في هذا الفن لا نحس أن الغزال كان يصطنع هذه الحكمة، ليقال انه مجرب، وإنما هي تفيض عن نفسه طبيعية معقولة ؟وان كانت مريرة - وفي بعض أشعار الزهد هذه تصح له ابتكارات المستغرق في ذات موضوعه كقوله :
ولو كانت الأسماء يدخلها البلى
وما لي لا أبلى لسبعين حجة
إذا عن لي شخص تخيلت دونه
لقد بلي اسمي لامتداد زماني
وسبع أتت من بعدها سنتان
شبيه ضباب أو شبيه دخان


تلك هي النهاية التي انتهى إليها الغزال في الشعر، أما بدايته فكان بصيرا نافذا بالنقد في شبابه أيام كان يدرس في مسجد قرطبة، وعبثا لاذعا بمن حوله من الأشخاص الذين لا يعجبونه، ومحاكاة لأبي نواس في خمرياته ومجونياته، وهجاء مقذعا، وغزلا لا يتميز بالرقة، وربما كان اضعف فنونه، ثم حكمة قائمة على السخرية تنتهي إلى فلسفة شكلية مريرة متشائمة، ورثاء لشيخوخته وضعفه.

الأدب في عهد الخلافة
احمد بن عبد ربه ، حياته وشعره:
هو احمد بن عبد ربّه المكنى (أبو عمر) ولد في قرطبة عاصمة الأندلس سنة(246هـ) وتلقى العلوم على يد شيوخ عصره فدرس الفقه والتاريخ ثم عني بممارسة النظم والكتابة وأدام النظر في كتب المشارقة ويعتقد بعض الباحثين أن ابن عبد ربه رحل إلى المشرق وانه أفاد من ذلك في توسيع دراسته وتعميق العلم وتقوية الاتصال بثقافة المشرق كما يذكر ذلك الدكتور احمد هيكل في كتابه (الأدب الأندلسي) ويبدو من أخبار ابن عبد ربه وأشعاره في مرحلة فتوتة وشبابه انه ميال إلى اللهو ولكنة لم يكن ماجنا، اتصل ابن عبد ربه بأمراء بني أمية في أواخر القرن الثالث ومدحهم ونال عطاءهم كما انه أدرك حكم عبد الرحمن الناصر وفي هذه المرحلة تحول الحكم من نظام الإمارة إلى نظام الخلافة وكان ابن عبد ربه أديبا،بارعا،متعدد الجوانب،فهو شاعر، وكاتب، ومؤلف بارز،ويعد كتابه (العقد الفريد) معرضا لأدبه وذوقه فقد انطوى على مقاطع نثرية أسماها (الفرش) وكان يدلي بالإشعار التي يذكرها للآخرين كما انه نظم كتابه على أبواب وكل باب من هذه الأبواب عرف باسم (جوهرة من الجواهر على عادة الأندلسيين في حب الزينة وإيثار الترف وقد جنح الشاعر إلى العزلة والعبادة بعد أن شاخ على غرار ما جنح إليه من قبل يحيى الغزال في الأندلس وأبو نؤاس في المشرق توفي أبن عبد ربه عام (328 هـ) ويعد في نظر مؤرخي الأدب أول شاعر كبير في الأندلس وقد اتسم أسلوبه الشعري بالعذوبة والرقة وقرب المأخذ . ولعل أول مرحلة من حياة ابن عبد ربه في شعره مرحلة الشباب ففيها أنه لا يوغل في المجاز ولا يغوص على المعنى وهو ينظم برشاقة وخفة ومن هنا كانت عبارته ترق في الأسماع من دون أن يكون وراءها معنى عميق ومن هذا القبيل قوله
يالؤلؤا يسبي العقـول أنيقــا
ورشاً بتقـــطيع القلـوب رفيقــــا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
درأ يعــود مــن الحـياء عقيقـــا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه
أبصرت وجهـك في سناه غريقا
يا من تقطع خصره من رقـــة
ما بــال قلبك لا يكـــــون رقيقا

ففي هذه الأبيات يذكر الشاعر ألفاظ الزينة التي تنم عن ميل الأندلسيين إلى التجمل بالزينة والحلي ولعل ما يلاحظ فضلا عن ذلك تلك الفتاة الأندلسية المولدة ببشرتها البيضاء التي شبهت باللؤلؤ ولم تلبث من الحياء أن تغدو متوردة كالعقيق أما أثر الصنعة فيبدو واضحاً من خلال حرص الشاعر على التصريع حتى في المقطعات وذلك بيّن في قافية المطلع والمجانسة بينهما وكذلك المطابقة بين الدر والعقيق ثم إيراده لهذا الطباق الذي يقوم على التضاد بين رقة خصر ****** وعدم رقة قلبه.
وهنالك شاهد أخر تتجلى فيه السهولة واليسر في اللفظ والقافية كما في قوله :
حكمته لو عـــــــدلا أعطيته ما سألا
ادري به ما فعــــــلا وهبته روحي فما
لا ملّ ذاك الشُغلا قلبي به في شغل

وهذه الظاهرة التي نلمحها في شعر ابن عبد ربه لم تكن سائدة في الشعر الأندلسي على هذا النحو قبل عصر ابن ربه ولعلنا واجهناها أول الأمر في شعر يحيى الغزال على حين كانت سمات الغرابة في اللفظ والجزالة في الأشعار السابقة من قصائد ابن عبد ربه الغزلية لاميته التي عارض فيها قصيدة صريح الغواني(مسلم ابن الوليد) التي يقول فيها :-
ولا تطلبا مــن عند قاتلتي ذحـــــلي أديرا علي الراح لا تشربا قبلي
ولكن على من لا يحــل له قتـــــــلي فيا حزني أني أمــوت صـــبابة
"دعيه الثريا منه اقرب من وصلي " فديت التي صدت وقالت لتربها

فقال ابن عبد ربه معارضاً القصيدة التي بتمامها :-
أتقتلني ظلماً وتجحدني فضلي
وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل
أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن
بعينية سحر فاطلبوا عنده ذحـلي
أغار على قلبي فلما أتيته
أطالبه فيـــــــه أغــار على عقلي
بنفسي التي ضنت بردّ سلامها
ولو سألت قتلي وهبت لـــها قتلـي
إذا جئتها صدت حياء بوجهها
فتهجرني هجـراً ألذ مـــن الوصل
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى
إذا ما أتيت العز فاصبر على الذل
برأيك لا رأيي تعرضت للهوى
وأمرك لا أمري وفعلك لا فعــــلي
وجدت الهوى نصلاً من الموت مغمداً
فجردتــه ثم اتكأت عـــــلى النصل
فان كنت مقتولاً على غير ريبة
فأنت الذي عرضـــــت نفسك للقتل

على هذا النحو يمضي الشاعر في تصوير العلاقة بينه وبين من يحب وكأنها حرب بينه وبين كائن شديد اليأس ولهذا أضحى قتيلاً ولم يكن قاتله غير ذلك ****** وثمة حبيب قاتل ومحب صريع ولا بد أن يتبع ذلك اخذ الثأر وما ذلك القاتل سوى شادن جميل العينين ومن هنا يبدو لنا جليا كيف عمد الشاعر إلى استمداد صوره ومعانيه الجزئية من حياة العرب ويجنح الشاعر في الأبيات الأربعة الأخيرة إلى مناجاة قلبه على هذا النحو الشجي وكأنه مجرد منه كائن ثان انساق وراء نزوته فحق عليه أن يعاني مرارة الحب ومثل هذا الأسلوب ينطوي على جدلية تجعل التعبير متسما بصراع وحركة تتجاذب مستوى العاطفة التي يبثها الشاعر في نصه وقد يعمد أحيانا على إبراز التضاد من خلال الاعتماد على الطباق في أسلوبه إذ يذكر الظلم والعدل والهجر والوصل وعلى العموم يكشف النص السمات التقليدية وعناصر المحافظة ولم يكن هذا النزوع عارضا وإنما قصد إليه قصدا لان النص كان عبارة عن معارضة لنص مسلم بن الوليد ونزعة المعارضة هذه لا تتجلى في هذه القصيدة فحسب بل تكاد أن تكون شاملة في مذهبه الأدبي بالرغم من جنوحه إلى التجديد ولكن هذا التجديد كان ضمن إطار الماضي ويدور داخل فلكه وهذا الأثر جلي من خلال ما يصدر من أحكام وأقوال في كتابه العقد الفريد بل إن كتابه هذا لم يكن إلا رغبة ملحة في مناقشة المشارقة وبلوغ شأوهم .
المرحلة الثانية من حياة ابن عبد ربة الأندلسي هي المرحلة التي تؤذن فيها شمس شباب الشاعر بالمغيب وتثقل عليه وطأة السنين لينكفي على نفسه فلا يلبث ان يجنح للحكمة وينعطف إلى الزهد شأنه في ذلك الشأن أي إنسان ينفتح عن الحياة في ريعان شبابه ثم لا يلبث عندما يدركه الهرم أن يتوارى عن مسرح المباهج هذا ما كان من أمر ابن عبد ربه وهذا ما كان من شأن سلفه الشاعر الغزال بعد حياة من المباهج والمسرات بل ما كان أخيرا من شأن أبي نؤاس في المشرق وهكذا راح ابن عبد ربة يقول في نغم شجي:
إذا اخضر منها جانب جف جانب ألا إنما الدنيـا غضــارة أيكـــــة
عليـها ولا اللـذات إلا المصــائب هي الـــدار ما الآمـال إلا فجائع
وقرت عيون دمعها اليوم ساكـب وكم سخنت بالأمس عـين قريرة
على ذاهب مها فأنــــــــك ذاهـب فـــلا تكتـحل عيناك فيها بعــبرة
ويبدو من الأبيات أن الشاعر في تأملاته هذه كأنما يرثي نفسه قبل حين الرثاء وعلى الرغم من مسحة التشاؤم التي تسربلت بها هذه الأبيات فأنها لطيفة الوقع على الأذن محببة إلى النفس وذلك راجع إلى عوامل خفية يوحي بها إلى مثل هذا الشعر ولعل من عناصر جمال النص هذا مطلعه الذي يشبه به الشاعر الدنيا بشجرة وهذا التشبيه مفعم بالحياة على الرغم من بساطته وقرب مأخذه وهوة من جهة أخرى مستمد من طبيعة البيئة الأندلسية وربما كان أيضا من أسباب جمالية هذه الأبيات أن الشاعر قد استطاع تصوير الدنيا غير المستقرة على حال والحياة المتقلبة والموصوفة بالتحول تصويرا حيا باختياره لمجموعة من الأفعال مما يوحي بعنصر الحركة الذي ابتغاه .
وجنح أيضا بالإضافة إلى ذلك إلى هذه المطابقات التي اقتضتها طبيعة المقارنة بين وجهي الحياة القاتم والمشرق ويؤلف شعر الآداب والأخلاق الإسلامية حيزا مهما في ديوان ابن عبد ربه ويأتي بهذه القصائد في باب الأمثال أيضا في كتابه (العقد الفريد) كما في قوله
حتى يروم التي من دونها العطب والحر لا يكتفي من نيل مكرمة
إن كفة رهب يستدعــــــــه رغب سعى به أمل من دونه أجـــــل
انظر إليك" وفي تسآله عــــــجب لذاك ما سأل موسى ربه" ارني
وهو النجي لديه الوصـل والطلب يبقى التزيد فيما نال مـــن كرم

الشاعر هنا أراد أن يذكر حرص الإنسان على الاستزادة من الحياة وان يبلغ أعلى المراتب لأنه يحدوه عند سعيه الأمل وقد يحول الأجل في كف طموح الشاعر ولكن في أحيان كثيرة يبقى متماديا لا يرعوي حتى يقع في المصيبة.
المرحلة الأخيرة هي التي تناول فيها شعره ما يتصل بشعر الآداب الإسلامية ويأخذ حجما واسعا من الديوان هوة الشعر الزهدي الذي وصلت إلينا منه قصائد كثيرة ذهب فيها ابن عبد ربه مذهبا جديدا أطلق عليه (الممحصات) وهي قصائد يعارض فيها قصائده التي قالها في حياته الأولى يلتزم فيها الوزن والقافية نفسهما ولكنه يناقض نزعته المتساهلة في باب الغزل وجل ما وصل إلينا من هذه القصائد لا تزيد أبياتها على الخمسين بيتا كما في قوله:
يا عاجزاً ليس يعفو حين يقتدر
ولا يقضّى له مـن عيشــه وطر
عاين بقلبك ان العين غافلــة
عن الحقيقة واعلم أنهــا سقـر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت
للظالمـــين فلا تبقــي ولا تذر
إن الذين اشتروا دنيا بآخــرة
وشقــوة بنعيــم ساء ما تجروا
أنت المقول لـه ما قلت مبتدئا
هلا ابتكرت لبين ما كنت مبتكر

لقد أشاد النقاد بشاعرية ابن عبد ربه التي اتسمت بالغزارة في النتاج والتنوع في الموضوعات حتى رأى الباحثون انه كان نقطة تحول في الشعر العربي في الأندلس وقد تأثر فيه شعراء أندلسيون كثر ويمكن ابرز سمات شعره على النحو الآتي:
1- انماز شعر ابن عبد ربه بالبديهة في مرحلة شبابه والمقصود بالبديهة السهولة وطابع الخفة والارتجال وربما كان من اثر الارتجال كما يقول(د.إحسان عباس) وفرة التيار العاطفي في شعره حتى في اشد الحالات التي يمكن أن تثور فيها العاطفة أما في مرحلة الشيخوخة فقد اقترن شعره بالكد والصنعة وظهر ذلك جليا في مظهره الفني الذي ابتدعه حين عارض أشعاره التي قالها في المرحلة الأولى في مرحلته الثانية وخص الأدب الأندلسي بفن طريف سماه (الممحصات) ومن أبياته المشهورة بهذا الاتجاه قوله :
يا من يضن بصوت الطائر الغرد
ما كنت أحسب هــــــذا الضـــن من أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة
أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يـــزد
لولا اتقائي شهابا منك يحرقني
بنـــاره لاسترقت السمــــــــــــع من بعد

2 -عدم التزامه اتجاها واحدا فهو محافظ حينا مجددا حينا آخر كما يراه (د. أحمد هيكل ) مع امتياز شعره بالبساطة والغنائية حيث غلب الجانب الموسيقي والعنصر العاطفي
3- ما يتصل بلغة الشاعر: شيوع الألفاظ ذات الدلالات الموحية بالجمال في مراحله المبكرة ثم كثرت الألفاظ القرآنية والمصطلحات الفقهية ويبدو اثر الاقتباس القرآني واضحا في شعره كما في قوله:
قد ضعف المطلوب والطالب ما انتم شيء ولا علمكم
تغالبون الله في حــكمه والله لا يغلبــــه غـــــــــــــــالب

ففيه اقتباس من قوله تعالى (ضعف الطالب والمطلوب) وقوله( والله غالب على أمره)يوسف/21
والملاحظ أن ابن عبد ربه يجري في الاتجاه العام الذي جرى عليه الشعراء الأندلسيون في مجال الاقتباس إذ تأتي اقتباساتهم غير مباشرة على وفق رأي المالكية في كراهة الاقتباس من القرآن الكريم في الشعر وهذا الكلام لا يبدو دقيقا لما صادفنا من اقتباسات تبدو مباشرة كما في قوله:

لذاك ما سأل موسى ربه ارني أنظر إليك وفي تسآله عجب

وهناك سمة لا بد من التنويه بها وهو ما يتصل بثقافته تبدو هذه السمة في تعلقه في الثقافة المشرقية وموروثها الضخم فهو تارة يورد أشعار القدماء في كتابه(العقد الفريد) وفي صورة أخرى يكون معارضا لشعره كما رأينا في معارضته للامية (صريح الغواني) وليست(ممحصاته) إلا استمرارا لروح المعارضة التي سيطرت عليه فعلى رأي احد الدارسين يقول(فهو حين شبع من معارضة المشارقة عارض نفسه) .
الموشحات :
هي كلام منظوم على وزن مخصوص وظهر في أواخر القرن الثالث الهجري وسمي بموشح لما فيه من ترصيع وتزين فكنه شبه بوشاح المرأة المرصع باللؤلؤ والجواهر ومن قواده مقدم بن معافر القبري وأبي عبادة بن ماء السماء.
أسباب ظهور الموشحات :
1. تأثر الشعراء العرب بالأغاني الإسبانية الشعبية المتحررة من الأوزان والقوافي .
2. ميل النفوس للرقة والدعابة في الكلام .
3.الشعور بضرورة الخروج من الأوزان القديمة المعروفة
4.سهوله الموشحات للغناء والتلحين
5 .اشتمالها على الألفاظ عامية وشعورهم بالملل من النظم على وتيرة القصائد القديمة
6.ميلهم إلى تسكين أواخر الكلام .

أجزاء الموشحات :
1. المطلع و المذهب واللازمة هو القفل الأول من الموشحات وقد يحذف من الموشح ويسمى عند ذلك بالأقرع
2. الأبيات هي أجزاء مألوفة مفردة أو مركبة تكون متفقة مع أبيات الموشحة الباقية في الأوزان وعدد الأجزاء لا قوافي .
3. القفل هو الجزء المؤلف الذي يجب إن يكون متفقا مع بقية الأقفال في الأوزون والقوافي أجراء الذي يتكرر..
4. الدور هو يتكون من البيت والقفل الذي يليه
5. السمط هو كل جزء أو شطر من اشطر البيت .
6. الغصن هو كل جزء أو شطر من اشطر القفل .
7. الخرجة هي القفل الأخير من الموشح
نشأة الموشحات:
نشأت الموشحات في الأندلس، أواخر القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وكانت نشأتها في تلك الفترة التي حكم فيها الأمير عبد الله، وفي هذه السنين التي ازدهرت فيها الموسيقى وشاع الغناء من جانب، وقوى احتكاك العنصر العربي بالعنصر الأسباني من جانب آخر. فكانت نشأة الموشحات استجابة لحاجة فنية أولا، ونتيجة لظاهرة اجتماعية ثانيا، أما كونها استجابة لحاجة فنية، فبيانه أن الأندلسيين كانوا قد أولعوا بالموسيقى وكلفوا بالغناء، منذ أن قدم عليهم زرياب، و أشاع فيهم فنه. والموسيقى والغناء إذا ازدهرا كان لازدهارهما تأثير في الشعر أي تأثير. وقد اتخذ هذا التأثير صورة خاصة في الحجاز والعراق حين ازدهر فيهما الغناء والموسيقى في العصر الأموي ثم العباسي. وكذلك اتخذ هذا التأثير صورة مغايرة في الأندلس حين ازدهر فيها الغناء والموسيقى في الفترة التي نسوق عنها الحديث. فيظهر أن الأندلسيين أحسوا بتخلف القصيدة الموحدة، إزاء الألحان المنوعة، وشعروا بجمود الشعر في ماضيه التقليدي الصارم، أمام النغم في حاضره التجديدي المرن. و أصبحت الحاجة ماسة إلى لون من الشعر جديد، ويواكب الموسيقى و الغناء في تنوعها واختلاف ألحانها ومن هنا ظهر هذا الفن الشعري الغنائي الذي تنوع فيه الأوزان وتعدد القوافي، والذي تعتبر الموسيقى أساسا من أسسه، فهو ينظم ابتداء للتلحين والغناء. وأما كون نشأة الموشحات قد جاءت نتيجة لظاهرة اجتماعية، فبيانه أن العرب امتزجوا بالأسبان، وألفوا شعبا جديدا فيه عروبة وفيه أسبانية، وكان من مظاهر الامتزاج، أن عرف الشعب الأندلسي العامية اللاتينية كما عرف العامية العربية، أي أنه كان هناك ازدواج لغوي نتيجة للازدواج العنصري.
مخترع الموشحات:وقد كان مخترع الموشحات في الأندلس شاعرا من شعراء فترة الأمير عبد الله اسمه مقدم بن معافر القبرى. وقد جاء في بعض نسخ كتاب الذخيرة لابن بسام أن مخترع الموشحات اسمه محمد بن محمود. والمرجح أن مخترع هذا النوع الشعري هو مقدم بن معافر، وعلى ذلك أكثر الباحثين. على أن بسام لم يجزم حين ذكر هذا الأخير، و إنما قال: ((و أول من صنع هذه الموشحات بأفقنا واخترع طريقتها - فيما يلقى- محمد بن محمود القبرى الضرير)). ولعل كون الشاعرين من قبرة جعل ابن بسام يضع اسما محل اسم، فكأنه قد بلغه أن الشاعر القبرى فلانا قد اخترع الموشحات، فذكر محمد بن محمود ونسى اسم مقدم. وقد وردت هذه الموشحة منسوبة إلى هذا الأندلسي في كثير من المصادر الموثوق بها مثل جيش التوشيح لابن الخطيب.
تطور الموشحات:كانت فترة نشأة الموشحات، كفترة نشأة أي فن، من حيث مشاهدتها لأولى المحاولات التي غالبا ما يعفى عليها الزمن. ومن هنا ولبعد الزمن بتلك الفترة، لم تبق لنا من هذه الموشحات الأولى التي نظمها مقدم و أمثاله أي نماذج. ولكننا نستطيع أن نتصورها موشحات بسيطة التركيب قليلة التعقيد، تتخذ مجالها من الموضوعات الغنائية كالخمر والطبيعة والغزل، وتكتب كلها باللغة العربية، ما عدا الخرجة، التي تكتب باللغة الأندلسية الشعبية. كما كانت ترضى بقالبها ولغتها و أغراضها حاجة الأندلسيين حينئذ، وتعكس اختلاط عنصريهما وامتزاج لغتيهما، وشيوع الغناء والموسيقى بينهم. وقد تطورت الموشحات تطورا بعد فترة من نشأتها تطورات عديدة، وكان من أهمها تطور أصابها في القرن الخامس الهجري، أيام ملوك الطوائف. ثم تطور آخر بعد ذلك بقليل فرع عنها ما يسمى بالزجل، حتى أصبح هذا الاتجاه الشعبي ممثلا في لونين: لون الموشحات، وقد صارت تكتب جميعا باللغة الفصحى، ولون الأزجال وقد صارت تكتب جميعا باللغة العامية. وانتقل هذان اللونان من الأندلس إلى المشرق، فكثر فيه الوشاحون والزجالون. وعرفهما كذلك الأدب الأوروبي، فتأثر بهما شعراء جنوب فرنسا المسمون (التروبادور)، كما تأثر بهما كثيرون من الشعراء الأسبان الغنائيين. وانتقل التأثير إلى الشعر الإيطالي ممثلا في عدة أنواع، مثل النوع الديني المسمى(لاودس) والنوع الغنائي المسمى (بالآتا).

واشتهرت الأندلس بأنها هي التي ابتكرت فن الموشحة، وُيظن أنه كان لاتساع موجة الغناء والموسيقى منذ زرياب في عهد عبد الرحمن الأوسط أثر كبير في نشوء الموشحة بقصد الغناء بها مع العزف، وكأنها تتألف من فقرتين: فقرة للمنشد و فقرة ترد بها الجوقة. وكان بدء ظهورها في عهد الأمير عبد الله بن محمد (275-300 هـ) يقول ابن سعيد: "ذكر الحجاري في كتاب المسهب في غرائب المغرب أن المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافر القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني وأخذ عنه ذلك أبو عمر بن عبد ربه صاحب "العقد" ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكدست موشحاتهما". ويسمي ابن بسام في ترجمته لعبادة بن ماء السماء مخترعها خطأ باسم "محمد بن حمود القبرى الضرير"، ويقول: "كان يضعها على أشطار الأشعار، غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة" وظن بعض -الباحثين- وخاصة من المستشرقين الأسبان- أن ذلك يدل على أن الموشحة لم تكن تنظم في نشأتها بالفصحى على أعاريض الشعر العربي وأوزانه إنما كانت تنظم على أعاريض المقاطع مثل الشعر الأوروبي. وهو خطأ في الفهم إذ أن كلمة "الأعاريض المهملة غير المستعملة عند ابن بسام لا تفيد ذلك، إنما تفيد ما ردده العرضيون المشارقة والمغاربة من أن الدوائر الخمس التي ضبط بها الخليل بن أحمد المتوفى سنة 175 للهجرة أعاريض الشعر العربي تفسح لأوزان مهملة لا تنحصر لم يستخدمها العرب في أشعارها، واستخدمها في عصره -كما يقول صاحب الأغاني- تلميذه عبد الله بن هارون بن السميدع البصري، وأخذ ذلك عنه وحاكاه فيه رزين العروضي وأتى فيه ببدائع جمة، وجعل أكثر شعره من هذا الجنس و قد أنشد ياقوت قصيدة له في مديح الحسن بن سهل، وأشار إلى أنها خارجة على أوزان الشعر العربي وأنها إنما تجري على وزن من أوزان الخليل المهملة، وهو في رأينا عكس وزن المنسرح. ويعد أبو العتاهية أهم شاعر عباسي ثان نظم أشعارا له مختلفة على تلك الأوزان المهملة.
موشحة ابن زهر الأندلسي
أيها الساقي إليك المشتكى قــد دعونـــاك وإن لــم تسمع
ونديــم همــت في غرتــــه
وبشرب الــراح مـــن راحته
كلما استيقظ من سكرتـــه
جـــذب الــزق اليه واتكـــى وسقاني أربعا فــــــي أربع

ما لعيني عشيت بالنظــــر
أنــــكرت بعــدك ضوء القمر
وإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيني من طول البكا وبكى بعضي على بعضي معي

غصن بـــان مـــال من حيث استوى
بـــات مــن يهـــواه مـــن فرط الجـوى
خفق الأحشاء مــوهـــون القـــوى
كلما فكر في البين بكـــى ويحـــه يبــــكي لمـــا لم يـــقــــعِ

ليس لي صبر ولا لي جــــلــــدُ
يـــا لقــومي عــذلــوا واجتهدوا
أنـــكروا شكواي مما أجـــــدُ
مثل حــالي حقـــها أن تشتكي كمـــد اليــأس وذل الطمعِ

كبدي حـــري ودمعـــي يكـــــفُ
تعــــرف الذنــــب ولا تعترفُ
أيـــها المعــــرض عــما اصــفُ
قـــد نمــــا حبي بقلبي وزكـــا لا تــــخــل في الحب أنـــي مــدعي
ابن هانئ الأندلسي
ولد محمد بن هانئ الأندلسي سنة هـ / 938 – 973 محمد بن هانئ بن محمد بن سعدون الأزدي الأندلسي، أبو القاسم يتصل نسبه بالمهلب بن أبي صفرة.أشعر المغاربة على الإطلاق وهو عندهم كالمتنبي عند أهل المشرق، وكانا متعاصرين. ولد بإشبيلية وحظي عند صاحبها، واتهمه أهلها بمذهب الفلاسفة وفي شعره نزعة إسماعيلية بارزة، فأساؤا القول في ملكهم بسببه، فأشار عليه بالغيبة، فرحل إلى أفريقيا والجزائر.ثم اتصل بالمعز العبيدي (معدّ) ابن إسماعيل وأقام عنده في المنصورية بقرب القيروان، ولما رحل المعز إلى مصر عاد ابن هانئ إلى إشبيلية فقتل غيله لما وصل إلى (برقة).
وفي وفيات الأعيان” لابن خلكان قال: هو أبو القاسم وأبو الحسن، محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي الشاعر المشهور؛ قيل إنه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقيل بل هو من ولد أخيه روح بن حاتم – وقد تقدم ذكر يزيد وأخيه روح في ترجمة روح في حرف الراء -؛ وكان أبوه هانئ من قرية من قرى المهدية بأفريقية، وكان شاعرا أديبا، فانتقل إلى الأندلس، فولد له بها محمد المذكور بمدينة إشبيلية ونشأ بها واشتغل، وحصل له حظ وافر من الأدب وعمل الشعر فمهر فيه، وكان حافظا لأشعار العرب وأخبارهم، واتصل بصاحب إشبيلية وحظي عنده، وكان كثير الانهماك في الملاذ متهما بمذهب الفلاسفة، ولما اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية وساءت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضا، فأشار الملك عليه بالغيبة عن البلد مدة ينسى فيها خبره، فانفصل عنها وعمره يومئذ سبعة وعشرون عاما.
وحديثه طويل، وخلاصته أنه خرج إلى عدوة المغرب ولقي جوهرا للقائد مولى المنصور – وقد تقدم ذكره وما جرى له عند توجهه إلى مصر وفتحها للمعز -فامتدحه ثم ارتحل إلى يحيى ابني علي – وقد تقدم ذكر جعفر – وكانا بالمسيلة وهي مدينة الزاب، وكانا والييها، فبالغا في إكرامه والإحسان إليه، فنمي خبره إلى المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي – وسيأتي ذكره في هذا الحرف إن شاء الله تعالى – فطلبه منهما، فلما انتهى إليه بالغ في الإنعام عليه.
ثم توجه المعز إلى الديار المصرية فشيعه ابن هانئ المذكور ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به، فتجهز وتبعه، فلما وصل إلى برقة أضافه شخص من أهلها، فأقام عنده أياما في مجلس الأنس، فيقال إنهم عربدوا عليه فقتلوه، وقيل خرج من تلك الدار وهو سكران فنام في الطريق وأصبح ميتا ولم يعرف سبب موته، وقيل إنه وجد في سانيه من سواني برقة مخنوقا بتكة سراويله، وكان ذلك في بكرة يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من رجب سنة اثنتين وستين وثلثمائة، وعمره ست وثلاثون سنة، وقيل اثنتان وأربعون، رحمه الله تعالى، هكذا قيده صاحب كتاب أخبار القيروان وأشار إلى انه في صحبة المعز، وهو مخالف لما ذكرته أولا من تشييعه للمعز ورجوعه لأخذ عياله. ولما بلغ المعز وفاته وهو بمصر تأسف عليه كثيرا وقال: هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك.
وله في المعز المذكور غرر المدائح ونخب الشعر، يستمد ابن هانئ رؤيته من مجموعة من المبادئ التي يرى فيها ما يمكن أن يحقق طموحه الشخصي ، مع ما يتمتع به من مقومات أدبيه تبدو في أحوالها كافة مسايرةً لما يمكن أن يبزّ مكانته 0 فمع ما يتمتع به ممدوحه من مؤهلات سياسية ودنية وأدبية ، كان مغدقاً في عطائه لهذا الشاعر الذي مثل العقيدة الفاطمية في شعره خير تمثيل ، وكأنه أشبع بمبادئها , فقد غلبت هذه العقيدة طموح الشاعر فما كان جلََ سعيه إلاّ من أجل الانتصار لها , ورأى في شخصيه المعز ما يمكن أنْ يجعل من تلك العقيدة ماثلة أمامه ، وكأنه يكشف في همزيته التي يقول في بعض منها:
هو علة الدنيا ومن خلقت له
من شعلةِ القبس التي عُرضت على
من معدن التقديس وهو سلالة
من حيث يقتبس النهار المبـصر
ليست سماء الله ما ترونّها
نزلت ملائكة السماء بنـصرهِ

ولعــــلة ما كانت الأشياءُ موسى وقد حـــارت بــه الظلماءُ
من جوهر الملكوت وهو ضياءُ
وتشق عن مكنونها الأنباءُ
لكنّ أرضاً تحتويه سماءُ
وأطاعهُ الإصباح والإمساءُ




هذه هي الرؤية التي يراها في ممدوحه ، والتي تكشف عن انحيازهِ بقلبه وعقلهِ وولائه لتلك العقيدة التي يرى أصحابها أن الإمام والخليفة الشرعي ، هو سبب كلّ وجود ، وأنه الأكمل جسماً ، وروحاً ، وكأنه يبلغ صفات النبيصلى الله عليه وآله وسلم  ويبدو أنّ ابن هانيء مصرُّ على رؤيته تلك لأنه يرى أن المعزّ إمام وابن إمام الإمام هو ابن النبي وان الإمامة (( كالنبوة لطف من الله تعالى ، وللإمام ما للنبي من الولاية العامة على الناس 000)) ولاشكّ في أن ما تراه الشيعة في آل البيت يرتقي إلى مستوى روحي عظيم يجعل منهم مثابة تلتقي عندها ، كلّ القيم العليا التي يحاول أن يتمثلها الإنسان 0 ومن دون شكّ ، إنّ ابن هانيء على ما يبدو ، ليس جديداً على هذا المذهب ، فقد ((كان من ثمرات دعاية الفاطميين { 000} قضى فترة من فترات شبابه في الأندلس ثمّ طرد منها حين عرف اتجاهه الفاطمي)) لذلك كانت فكرة الإمامة وأهمية الإمام الصورة الأكثر اهميّة في نظر ابن هانيء ، نظراً للخصائص التي تقوم على أساسها تلك الشخصّية 0
لقد مدح ابن هانيء المعزّ في قصائد عديدة ، أظهر فيها بجلاء أثر العقيدة الفاطميّة ، وأطلق الصفات التي تنحو في أحيان منحىً غير طبيعي ، فهو يرى أنّ ممدوحه:
إمام رأيت الدين مرتبطاً به
أرى مدحه كالمدح لله أنه
ويا رازقاً من كفّه نشأ الحيا



فطاعته فوزٌ وعصيانه خُسرُ
قنوت وتسبيح يحطّ به الوزرُ
و إلاّ فمن أسرارها نبع البحرُ








فالإمام صنو الإيمان أو يكاد يكون هو الإيمان نفسه ، فإذا ما كان الإنسان مطيعاً بالإيمان فهو فائز لا محالة ، لذلك كان من الواجب على ابن هانئ أن يجعل طاعتِهَ للإمام كالطاعةِ لله وأن طاعة الله مرتبطة بطاعة الإمام ، لأنّ الإمام كما يراه ، هو سبب الحياة ، ومنبع كلّ شئ حيّ 0 ويتضح لنا أنّ هذا اللون من المديح ناتج عن الملاءمة بين النوازع الذاتيةّ وبين الخارج المتمثل بالممدوح وما يؤمن به ، ومع إشارتها إلى بعض المعتقدات التي يؤمن بها الشيعة في الإمامة وتفضيل أهل البيت فإنها تنحو في أحيان كثيرة منحىًِ باطنياً في النظر إلى الأمور ، ولا تتقيد بالشكليات 0 وعلى العموم فإنَّ الفكرة التي ينفذ منها ابن هانيء إلى هذا النوع من المديح ، إنما ترتبط أساساً بقرابة المعزّ من النبي أو ليس هو المقول فيه :
وعلّمت من مكنون علم الله ما
لله منك سريرة لو أُعلِنتْ
لو كان أعطى الخلق ما أوتيته
لولا حجاب دون علمك حاجز
لو لم تكن سبب النجاة لأهلها
لو لم تعرفْنا بذاتِ نفوسِنا



لم يؤت جبريلاً وميكائيلا
أحيا بذكره قاتلٌ مقتولا
لم يخلق التشبيه والتمثيلا
وجدوا إلى علم الغيوب سبيلا
لم يغن إيمان العباد فتيلا
كانت لدينا عالماً مجهولاً



فعلم الإمام كما يقول ابن هانيء هو علم ربّاني ، لأنّ الأئمة  عليهم السلام 
هم ورثة علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وبما أنَّ علم الرسول رباني ، فعلمهم كذلك .
يتحدد مستوى الأداء الشعري لهذه الأبيات مع ما تحمله من قيم مطلقة ، وُصف بها المعزُّ بأنها تنحو منحىً تخيلياً بني في بعض أركانه على أسس عقدتّه ، استلهمها الشاعر من أصول العقيدة الإسماعلية ، ووظفها توظيفاً ذا قيم فنيةَّ ، جعلت من الممدوح يبلغ الصفات الإلهيّة ، اذا تحد فيها الخيال مع الواقعية والعاطفة مع الموضوع ، عاكساً جوهر تلك العقيدة ، بصورة تبدو مبالغاً فيها وكأن الشاعر قد استغنى عن كلّ شي لأنه بين يدي المعز، حيث جسد المعنوي في صورةٍ معتمدةٍ على التضاد باستعماله لو ثلاث مرات وهي أداة شرط يتوقف تحقق جزائها على
لقد أثبت أشياء معنويةًّ لكنها ظهرت كقيمة معتمدة على التجريد ، فنقل المعنوي إلى شيء معنوي آخر ، قد ارتبط بواقع ماديّ نشاهد حركته ونلحظ سعيه 0
((فالمعزّ)) علمه إلهي و ((المعزّ)) سبب النجاة من العذاب و((المعزّ)) سبب المعرفة بالنفس لأنه إمام ، والإمام (( إلهي الذات سرمدي الحياة ، ولو لم يتأنس بالحدود والصفات لما كان للخلق إلى معرفتِهِ وصول ، فهو شمس فلك الدين ، وآية الله في السموات والأرض ، و به صلاح العالم بأسرهِ.....)) ثمّ أنَّ هناك من الدلائل التي تستند إليها العقيدة الفاطميّة أنها ترى في الإمام سبيل الخلاص من عذاب الآخرة 0
ويقول فيه أيضاً :
يفديك شهر صيامنا وقيامنا
فيه تنـزّل كلّ وحيٍّ منْزَلٍ
فتطول فيه أكفّ آلِ محمد
ما زلت تقضي فرضه وأمامهُ
لا تسألن عن الزمان فإنّهُ
ثمّ الشهور له بذاك فداء
فلأَهل بيت الوحي فيه ثناءُ
وتغلُّ فيه عن الندى الطلقاء
ووراءه لك نائل و حباءُ
في راحتيك يدور كيف تشاءُ

الخصوصيّة التي يمنحها الشاعر لممدوحه هنا تعبر عن حقائق يسترسل فيها وكأنها محطات تستوقف الأداء الشعري ينهل منها ، لتكون عبارة عن عوامل متضافرة تحدد خصائص الممدوح من جهة ومن جهة أخرى تعبر عن نزعات وجدانية تؤثر في وجدان الممدوح ، وتحرك الحقائق الإنسانية التي كانت عبارة عن تراكمات لها سياق ماديّ حقق حضوره في شخصيّة الممدوح 0
فالرؤية هنا تنطلق من مجموعة من الخصائص التي يتصف بها آلُ بيت النبوة
 عليهم السلام  لتحقق حضورها في شخصيَّة الممدوح ، أو قد تنطلق منه في الوقت نفسِهِ لتعبرّ عن ذلك الحضور الذهني الممتدًّ في سياق الحدث التاريخي الذي ينبي عن صفاتهم ويقول :
هذا الشفيع لأُمّة يأتي بِها
هذا أمين الله بين عباده
هذا الأغر الأزهر المتألق المـ
فعليَهِ من سيما النبي دلالةٌ
ورث المقيم بيثربٍ فالمنبر ال

وجد ودهُ لجدودها الشفعاءُ
وبلاده إن عُدّت الأمناءُ
تدفق المتبلجُ الوضاءُ
وعليه من نورِ الإله ضياءُ
أعلى له والترعة العلياءُ

لا يتعامل الشاعر مع ممدوحهِ على أساس أنه حاكم فقط وإنما هناك ثوابت ذاتيّة تطرح نفسها في ساحة التجربة المديحيّة ، يشترك فيها الممدوح والمادح ، حملّت الشاعر أن ينهج منهجاً عقدياً في وصف ممدوحهِ فإطلاقه لصفة (الشفيع) و(أمين الله) ، وتشبيههُ بالنبي الأعظم  صلى الله عليه وآله وسلم  في البيتِ الثالث خلق مساحة أخرى من التطلع لا يريد الشاعرُ من خلالها أن يتباهى بممدوحه على سبيل الذاتيّة المحضة وإنّما حرصاً على تنمية الروح الجماعيّة مستمداً رؤيته تلك من مجموعة من الخصائص التي امتاز بها المعزّ فهو ورث النبي في الشبهِ ، و الخلافة ، والشفاعة ، لذلك فإنّ تكرار اسم الإشارة ((هذا)) أربع مرّات أنّما يعكس مدى اهتمام الشاعر بإبراز صفاتِ ممدوحه، وتعزيز تلك الصفات في ذهن المتلقي ليرسم صورة معكوسةً عن الصورة التي تسيطر على أعماقه ، فكأنّ التكرار (( أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيؤُها بحيث نطلع عليه)) ويرى ابن هانيء أن المعز (وارث الأرض ) عن النبّي وعن علي المرتضى وأنهم انمازوا من غيرهم على وفق اعتبارات خصهم بها الله سبحانه وتعالى فقد نال آدمُ بهم العفو من ربّ العزّة عندما عصى :
لآدم من سرّكم موضعٌ
بهِ استوجب العفوَ لما عـصى


إذ يستنبط ابن هانيء فكرة هذا البيت من الحديث المنقول عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم  فعن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس ، قال : سُئِل النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه فتاب عليه ، قال سأله ((بحقّ محمدًّ وعليًّ و فاطمة والحسن والحسين إلاّما تبتَ عليّ)) ، فتاب عليه 0
وله في صفة الخيل:
وصـواهـل لا الـهـضـب يوم مـغــارهـــا هضـب ولا الـبـيد الــحـــزون حـــزون
عرفـت بـسـاعة سـبـقـهـا، لا أنـــهـــا علـقـت بـهـا يوم الـــرهـــان عـــيون

وله أيضا:
والله لولا أن يسفهني الـهـوى
ويقول بعض القائلين تصابـى
لكسرت دملجها بضيق عناقـه
ورشفت من فيها البرود رضابا
وفي هذا دلالة على علو درجته وحسن طريقته. وديوانه كبير، ولولا ما فيه من الغلو في المدح والإفراط المفضي إلى الكفر لكان من احسن الدواوين، وليس في المغاربة من هو في طبقته: لا من متقدميهم ولا من متأخريهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف ما فيه.
وما زلت أتطلب تاريخ وفاة ابن هانيء المذكور من التواريخ والمظان التي يطلب منها فلا أجده، وسألت عنه خلقا كثيرا من مشايخ هذا الشأن فلم أجده، حتى ظفرت به في كتاب لطيف لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني سماه قراضة الذهب فألفيته كما هو مذكور هاهنا، ونقلت مدة عمره من موضع آخر رأيت بعض الأفاضل قد اعتنى بأحواله فجمعها وكتبها في أول ديوانه، وذكر مدة العمر، ولم يذكر تاريخ الوفاة لأنه ما عثر عليه.
ويقال إن أبا العلاء المعري كان إذا سمع شعر ابن هانئ يقول: ما أشبهه إلا برحى تطحن قرونا، لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ، ولعمري ما أنصفه في هذا المقال، وما حمله على هذا فرط تعصبه للمتنبي، وبالجملة فما كان إلا من المحسنين في النظم،
وقال ابن خلّكان عند ذكره ديوانه :« وليس في المغاربة من هو في طبقته لا من متقدّميهم ولا من متأخريهم بل هو أشعرهم على الإطلاق ، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة وكانا متعاصرين ... ولولا ما فيه ( أي ديوانه ) من الغلوّ في المدح والإفراط المفضي إلى الكفر ، لكان ديوانه من أحسن الدواوين » .كان ابن هاني معجباً بالمتنبي ، ولكنه أنكر عليه النبوّة ، وكان مثله « يفرط في المغالاة حتى يجاوز الحقائق المعقولة في الدنيا » وهو مثله يتغزّل بالبدويات الحسان ، غزلاً ضعيف العاطفة . ولا تظهر في شعره إلا عاطفته الدينية ، وخصوصاً الشيعية الإمامية ، فهي تحتدم في مدحه حتى ليتضاءل عمل العقل معها ، فإذا هو يغالي مغالاة مستنكرة ، فيحمله اعتقاده بالحلولية على أن يجعل المعزّ « إلهاً » ويسوقه غلوّه إلى أن يجعل شسع نعل أبي الفـرج الشيباني « عدنان وما ولدت » .وكان ابن هاني يُعنى باللفظ أكثر من عنايته بالمعنى ، فيعتمد الألفاظ الكثيرة ال***ة والقعقعة وهذا ما جعل أبا العلاء المعرّي يقول حين سمع شعره : « وما أشبهه إلا برحى تطحن فروناً لأجل القعقعة في ألفاظه » يزعم بذلك ، على حدّ قول ابن خلكان : أن لا طائل تحت تلك الألفاظ .ويرى ابن خلكان : « أنّ أبا العلاء لم ينصف الشاعر بهذا المقال الذي حمله عليه تعصّبه للمتنبي » غير أنه قبّح شعره لما فيه من الكفر وفساد العقيدة . وليس في هذا التقبيح ما يضير الشاعر لأن الفنّ الجميل لا يقاس على صحة العقائد وصلاح الشعر ، فلا يمسّ الكفر وفساد العقيدة جوهر الشعر بشيء .
وقد اختلف المؤرخون والأدباء فيه ، فمنهم من أنكروا عليه الاختراع والتوليد إلا فيما ندر ، كابن رشيق ، ومنهم من مدحوا شعره وأبدوا إعجابهم ببدائعه وبما اخترع وولّد ، ولا ينعون عليه « إلا كفره وتجرّده من الدين » كالفتح بن خاقان فقد قال فيه : « علق خطير : وروض أدب نضير ، غاص في طلب الغريب ، حتى أخرج درّه المكنون ، وبهرج بافتنانه فيه كلّ الفنون ، وله نظم تتمنى الثريا أن تتوّج به وتقلّد ، ويودّ البدر أن يكتب فيه ما اخترع وولّد .
وعلى أن ابن هاني أندلسي ، لا نرى له شيئاً يذكر في وصف الطبيعة الذي هو من خصائص الشعر الأندلسي . وكان كالمتنبي في الاحتفال بالحكمة وضرب الأمثال ، ولكنه لم يجاره ، وجاءت حكمة ساذجة ، قائمة في أكثرها على شكوى الدهر وذكر الموت والتحذير من الدنيا الغرور . ولم يكن له يد في وصف المعارك كأبي الطيّب وإنما أجاد في وصف السفن ، وتأثير وقع نيرانها في العدو .
وهو طويل النفس الشعري ، فقليل من قصائده لا يربي على السبعين أو الثمانين أو أكثر ، وكثير منها يتجاوز المئة ومنها ما بلغ المئتين ، على أنّه مهما أطال لا ينحطّ نسجه وإنما يبقى متانته وقوة سبكه .
ومن خصائص شعر ابن هانئ:
1-قوته البيانية والتعبيرية التي خدم بشعره فيها الخلفاء الفاطميين بنشر فتوحاتهم وإشاعة محامدهم خدمة بليغة، وذلك لكونه قابضاً على عنان الكلام يصرفه حيث يريد.
2-معاني شعره سهلة خالصة من التعقيد، غير غامضة بحيث تتمثلها النفس بسرعة، ويتلقاها الذهن بأدنى تأمل، وهذه الخاصة في قصائده جميعها. والتعقيد الذي صبغ شعره إنما ناجم عن إكثاره من الغريب في الألفاظ الحواشي منها.
3-جزالة شعره، وقوة أسره، وحسن سبكه. 4-خلو شعره من التكلف وبعده عن الاستعارات البعيدة والتشبيهات غير المأنوسة شأن شعراء الجاهلية. 5-تعلق كلام شعره بإشاعة الدين، ولأجل هذا في أكثر أبياته هناك الكثير من الاقتباس (من الآيات القرآنية(
ابن درّاج القسطلي
هو أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج ولد سنة ٣4٧ في بيت من بيوت قبيلة صنهاجة المغربية بمدينة من أعمال جيّان تسمى قسطلة دراج، و في نسبتها إلى جده ما يدل على عراقة أسرته، و ألحقه أبوه منذ نعومة أظافره بكتاب حفظ فيه القرآن و بعض الأشعار على عادة لداته، حتى إذا أتم حفظ القرآن انتقل إلى حلقات الشيوخ بجيّان فاتسعت ثقافته اللغوية و الأدبية. و يبدو أن ملكته الشعرية تفتحت مبكرة، فأخذ ينظم الشعر حتى عرف بين شعراء بلدته، و لم يلبث أن تزوج و أنجبت له امرأته بنتا و طمحت نفسه إلى الشهرة، فرأى أن يرحل إلى قرطبة محاكيا بذلك بعض شعراء جيان ممن سبقوه إليها و نالوا فيها غير قليل من الشهرة مثل الغزال يحيى بن حكم شاعر الأمير عبد الرحمن الأوسط و أحمد بن فرج الجياني صاحب كتاب الحدائق شاعر الحكم المستنصر. و رحل إليها مخلفا وراءه زوجته و ابنته سنة ٣٨٢ و كان المنصور بن أبي عامر حاجب المؤيد هشام في الذروة من سلطانه، و كان يرعى الشعراء، و اتخذ لهم ديوانا لأعطياتهم و رواتبهم و أقام عليه أديبا بصيرا بالشعر هو عبد اللّه بن مسلمة فعرض عليه ابن دراج مدحة في المنصور أعجبته فقدمه إليه، و أخذ المنصور يختبر بداهته في نظم الشعر و هو يوفّق فيما يطلبه و يختبره فيه، و ألحقه بدواوينه و فسح له في مجالسه، و طلب إليه ذات مرة أن يعارض أبا نواس في رائيته: «أجارة بيتينا أبوك غيور» فنظم في معارضتها قصيدة بديعة صوّر فيها امرأته متلهفة عليه في وداعه مشفقة و رضيعها في المهد و هي تتجرع مرارة الفراق و تنتحب . . يقول:
و لما تدانت للــــــــــــوداع و قد هفا
ج بصبري منها أنّة و زفير

تناشدني عهد المـــــــــــــودّة و الهوى
و في المهد مبغوم النّداء صغير

تبوّأ ممنوع القلوب و مهّدت
ج له أذرع معطوفة و نحور


و يطيل في تصوير هذا الوداع مما جعل القصيدة تطير شرقا و غربا، و يصور رحلته من جيان إلى قرطبة لزيارة المنصور و مديحه، و يشيد بجهاده للنصارى في الشمال و نصرته للدين الحنيف و انقضاضاته المتوالية على الأعداء. و كان ملوكهم ما يزالون يفدون عليه في قرطبة معلنين خضوعهم له و طاعته، و وفد في أول سنة نزل بها ابن دراج قرطبة ملك نبارّة معلنا ولاءه و محكّما له في نفسه، فأنشده مدحة يقول فيها:
ألا هكذا فليسم للمجد من سما و يحمى ذمار الملك و الدين من حمى
فهذا عظيم الشّرك قد جاء خاضعا و ألقى بكفّيه إليك محكّما
و وفد في نفس السنة أمير قشتالة و ولى عهدها على المنصور، و يصف في لامية له مثوله خانعا بين يدي المنصور و العرض العسكري الرهيب الذي أقيم لاستقباله. و لا يفد أمير و لا ملك إلا و ابن دراج يشيد بالمنصور و يمدحه، و بالمثل كان يوالى مدائحه فيه مع انتصاراته المتعاقبة، و معروف أن المنصور غزا طوال حجابته اثنتين و خمسين غزوة، و حضر ابن دراج غزواته الأخيرة، و مع كل غزوة كان يغزوها ينشده مدحة بديعة كان بحقّ أهلا لها و جديرا، و من أهم تلك الغزوات غزوة شنتياقب في جلّيقية بأقصى الشمال الغربي لإسبانيا و فيها دمر المسلمون تلك البلدة مشعلين النار فيها و في كنيستها، و تعدّ من أهم مراكز الحج عند المسيحيين و في تلك الوقعة يقول ابن دراج في مدحه بديعة:
لقد قصمت عرى دين الضلالة من رأس القواعد ممنوع الحمى أشبه
و سمته جـــــــــــــــــــــــــــــــاحما للنار ما بق نفس من الكفر إلا و هي من حطبه
فاللّه جازيك يا منصـــــــور غزوتــــــه بسيف ماض لنصر الدين محتسبه
و توفى المنصور بن أبي عامر سنة ٣٩٢ و يخلفه ابنه المظفر عبد الملك و كانت مدته حتى سنة ٣٩٩ فترة رخاء و رفاهية، و سكن الناس منه إلى عدالة و نزاهة، و استنّ سنة أبيه في غزو النصارى، و لابن دراج فيه مدائح مختلفة. و خلفه أخوه عبد الرحمن في الحجابة لمدة شهرين إذ قتل في إثرهما و كان نحسا على نفسه و على الأندلس إذ انفتح به باب فتنة ظلت قرطبة تعاني منها أشد العناء نحو عشرين عاما هدّمت فيها أحياء و هدمت الزهراء مدينة عبد الرحمن الناصر و الزاهرة مدينة المنصور بن أبي عامر. و نجد ابن دراج يقدم مدائحه لمن يستولون على صولجان الخلافة و الحكم واحدا بعد الآخر، فهو يقدمها للخليفة الجديد المهدى، ثم للخليفة الثائر عليه المستعين و لوزيره القاسم الحمودي و يعبر الزقاق إلى سبتة لمديح أخيه علي بن حمود و يستظهر في مديحه مشاعر التشيع له، لنسبه و نسب أسرته إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم. و مرّ بنا أن الحموديين لم يستشعروا حقوق أهل البيت النبوي في الخلافة، و لذلك كان مثل هذا التشيع لا يلقى منهم استجابة. و يترك ابن دراج علي بن حمود إلى الأمراء الذين استولوا في أثناء الفتنة على بلدان الأندلس الشرقية: مرسية و شاطبة و طرطوشة و المرية و صاحبها خيران الصقلبي، و يمدحه بنونية يستهلها بقوله لك الخير قد أوفى بعهدك خيران و بشراك قد آواك عزّ و سلطان
و يقصّر خيران في جزائه، و ينتهي به المطاف-بعد سنوات ثمان مضنية-إلى الأمراء التجيبيين في سرقسطة سنة 4٠٨ و يهنأ بها في رعاية منذر بن يحيى التحيبى و لا يترك مناسبة إلا و يمدحه فيها و خاصة حين ينكّل بالنصارى المجاورين لإمارته على نحو ما نرى في عينيه، يهنئه فيها بجهاده في شهر رمضان و ظفره بأعدائه، يقول فيها:
ساقى الحياة لمن سالمت، مطعمها ذعاف سمّ لمن حاربت ناقعه (4)
مواصلا بالنّدى ما اللّه واصله و قاطعا بالظّبى ما اللّه قاطعه
في جيش عزّ و نصر أنت غرّته و شمل دين و دنيا أنت جامعه
و توفى منذر سنة 4١٢ فتظل له نفس المنزلة و الرعاية عند ابنه يحيى، حتى إذا كانت سنة 4١٩ و سمع بما ذاع و شاع عن مجاهد أمير دانية و الجزائر الشرقية و إسباغه العطايا الجزيلة على الشعراء و العلماء وفد عليه مادحا بقصيدة بديعة استهلها بقوله:
إلى أىّ ذكر غير ذكرك أرتاح و من أىّ بحر بعد بحرك أمتاح
و احتفل مجاهد بقدومه عليه و أجزل له في العطاء مما جعله يؤثر المقام عنده و لكن القدر لم يمهله فقد توفي بدانية بعد عامين من نزوله بها سنة 4٢١
و قد أشاد بابن دراج كل من كتبوا عنه شرقا و غربا، فالثعالبي يقول عنه في اليتيمة:
«كان بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام و هو أحد الشعراء الفحول و كان يجيد ما ينظم» و يقول ابن حيان عنه: «أبو عمر بن دراج القسطلي سبّاق حلبة الشعراء العامريين و خاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين» و يصفه ابن شهيد «بجزالة شعره و صحة قدرته على البديع و حوك الكلام و تلاعبه بالمعاني و إطالته فيها» و يقول ابن بسام عنه:
«لسان الجزيرة شاعرا و آخر حاملي لوائها، سار نظمه و نثره مسير الشمس» و يلاحظ بحق كثرة اقتراضه للمعاني من المتنبي، و لا حظ ابن شهيد كثرة استخدامه للبديع، و كأنه يحاكي فيه أبا تمام، و قد عرضنا من ذلك أمثلة في ترجمتنا له بكتاب «الفن و مذاهبه في الشعر العربي» ، كما عرضنا أمثلة أخرى تدل على ميله للتصنع، إذ يتصنع في بعض شعره للمصطلحات العلمية. و مما يلاحظ عليه أنه يكثر عنده حين يلم بمعنى أن يطيل فيه حتى يفقد حرارته، و أيضا يلاحظ عليه كثرة معارضاته لقصائد المشارقة و خاصة أبا نواس و أبا تمام و المتنبي، و هو-كما ذكرنا في كتاب الفن و مذاهبه في الشعر العربي-يلتقي صوته في أشعاره بصوت ابن هانئ في العناية باللفظ الطنان و قعقعاته، و تعلق منذ قصائده الأولى بالشكوى من الدهر و السخط على الناس محاكيا بذلك المتنبي في مطالع كثير من قصائده، و ازداد هذا النغم عنده منذ الفتنة التي جعلته يحس بالضياع سنين عديدة.
النثر في عهد الخلافة (316-400) هـ

بطبيعة الحال كان لابد للنثر أن يختلف في هذا العصر عن العصور السابقة فقد كثر الكتاب في هذا الميدان فيما نقله لنا أبن عذاري المراكشي في كتابه (البيان المغرب) خلال حديثه عن الخليفتين الناصر والمستنصر ومن هؤلاء الكتاب أبن المنذر وأبن جهور وابن فطيس وغيرهم وفضلا عن الكتاب مارست المرأة الأندلسية الكتابة الرسمية ومنهن مزنه كاتبة الناصر ولبنى كاتبه المستنصر .
وليس غريباً أن يختلف النثر الفني في خصائصه العامة فقد بدأ متأثراً من حيث الاستطراد بالمذهب الجاحظي والمحسنات البديعية كما وكثرت فيه الألقاب والجمل الدعائية والاعتراضية وأكثروا من الاقتباس من القران الكريم والأمثال ومن أمثلة النثر الفني في هذا العصر منشور الخلافة الذي أصدره عبد الرحمن الناصر بصيغة رسالة وجهها إلى صاحب الصلاة بقرطبة بأن تكون الخطبة له يوم الجمعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فأنا أحق من استوفى حقه وأجدر من استكمل حظه ولبس من كرامة الله ما ألبسه للذي فضلنا الله به)
ومن أمثلة النثر الفني أيضا ما شاع من المحاورات وفيها تتجلى هذه الخصائص منها ما دار بين الفقيه والمشاور ابن إبراهيم وبين الخليفة الناصر حين دعاه لحضور احتمال بقصر الزهراء فتخلف عن ذلك ووجد الناصر عليه وأمر ولي عهده الحكم أن يكتب إليه فكتب قائلاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله وتولاك وسددك ورعاك لما امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي - أبقاه الله - الأولياء الذين يستعد بهم , وجدك متقدما في الولاية ....)
فأجابه أبو إبراهيم " سلام على ألأمير ورحمة الله وبركاته"
قرأت - أبقى الله الأمير سيدي - هذا الكتاب وفهمته ولم يكن توفقي لنفسي إنما كان لأمير المؤمنين أبقى الله سلطانه - لعلمي بمذهبه....)
ومن الخطباء والكتاب المشهورين قاضي القضاة المنذر بن سعيد وكانت له مكانة كبيرة عند الخليفة عبد الرحمن الناصر وقد اقترن اسمه بحادثة جليلة وذلك حين وفدت سفارة من القسطنطينية عام (336 هـ) فاحتفى الناصر لقدومهم في يوم مشهود وأقيم احتفال بالغوا فيه بإظهار معالم الجاه والسلطان وتبادلوا فيه الهدايا ثم إن الناصر جلس إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه ثم أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه وكان المجلس عامرا بالملوك والأمراء فأوعز إلى الفقيه محمد بن عبد البر القرطبي بإعداد خطبة بليغة تتناسب وذلك المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظه بل غشي عليه وسقط إلى الأرض فقيل لأبي علي القالي وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد من العراق , قم فارفع هذا الواهي فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى الله على نبيه ثم انقطع القول على القالي فوقف ساكتاً مفكراً في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه فلما رأى منذر بن سعيد ذلك قام فوصل افتتاح أبي علي بكلام عصيب كأنما كان يحفظه أو أعده قبل ذلك :
" أما بعد حمد الله والثناء عليه . والتعداد لآلائه و الصلاة والسلام على صفيّه وخاتم أنبيائه فان لكل حادثة مقاماً ولكل مقام مقالاً وليس بعد الحق إلا الضلال وأني قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم , فأصغوا إلي معشر الملأ بأسماعكم والقفوا عني بأفئدتكم أن من الحق ان يقال للمحق : صدقت وللمبطل : كذبت وان الجليل - تعالى في سمائه وتقدس بصفاته وأسمائه - أمر كليمه موسى (ص) وعلى نبينا وعلى جميع أنبيائه أن يذكّر قومه بأيام الله - جل وعز- عندهم وفيه وفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة وأني أذكركم بأيام الله عندكم وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمت سربكم . ورفعت فرقكم بعد أن كنتم قليلاً فكثركم ومستضعفين فقواكم ومستذلين فنصركم ولاه الله ورعايتكم واسند إليه إمامتكم أيام ضربت الفتنه سرادقها على الآفاق حتى صرتم في مثل صدفة البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتعسير فأستبدلكم بخلافته من الشدة بالرخاء ....) وختم خطبته بالدعوة الى وحدة الكلمة فقال فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به فان الله تبارك وتعالى يقول ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين ..
أقول قولي هذا وأختم بالحمد مستغفراً الله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين.
أما الخصائص الفنية:
1- بدأت هذه الخطبة بتقاليد الخطب الإسلامية منذ عصر الرسالة بالحمد والثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على رسوله الكريم ثم ختمت بما بدأت به وفيها إشادة وتمجيد بمقام هذا الخليفة يجليها في موازنة بين العهد السابق وما تحقق في عصره من استقرار.
2-جاءت لغتها مرسلة ميسورة تقوم على أساس الجملة القصيرة والعبارة الموجزة وهي لا تعتمد التزويق اللفظي المتكلف وفيها بعض فنون البديع غير المتكلفة من جناس وطباق واقتباس من القران الكريم مباشرا مرة وإشاريا مرة فمن النوع الأول اقتباس من آيات قرآنية كما في قوله تعالى(ليقضي الله امرأ كان مفعولا).(ولم يخلف الله وعده)و(ولكل نبأ مستقر) وغيرها من الآيات القرآنية وجاء النوع الثاني في عدة مواضع فبعضها جاء من قوله تعالى (فماذا بعد الحق إلا الضلال المبين) و(أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله)(واعتصموا بحبل الله جميعا)
النثر التأليفي:
ظهر هذا النوع من النثر في عصر الخلافة وتمثل في فرعين الفرع الأول: التأريخ الأدبي .والفرع الثاني: التأليف الأدبي، اما الأول فكان تأريخا ساذجا اذ اشتمل على التراجم والأخبار والمختارات والحديث عن الشعر والشعراء ,تمثل ذلك في المؤلفات

طبقات الشعراء في الاندلس, عثمان بن ربيعه القرطبي .

اخبار الشعراء بالأندلس ,محمد بن هشام المرواني .

شعر الخلفاء من بني اميه, عبد الله بن محمد بن مغيث ، وغير ذلك كثير.

واما الفرع الثاني فنعني به تأليف كتب ادب مفهوم القرن الثالث والرابع لكلمة (أدب)في تلك الفترة ,والتي تتمثل في كل ما يكون به التأديب والتهذيب على غرار ما جاء عليه كتاب البيان والتبيين ,وكتاب الكامل للمبرد ,وكتاب الاغاني وما سواها ,وقد اسهم الاندلسيون خلال فترة الخلافة في هذا الفرع الادب بكتاب ضخم هو:

العقد الفريد

وقد ألفه احمد بن عبد ربه الشاعر والاديب الاندلسي ,وقسم ابن عبد ربه كتابه الى خمسة وعشرين بابا", وسمى كل باب باسم حبة من حبات العقد الحقيقي ,وجعل سلك الابواب في ترتيبها كحبات العقد المنظوم فهو يبدأ بكتاب اللؤلؤة في السلطان ثم يثني بكتاب الفريدة في الحروب ومدارها ,ثم يتبع ذلك بكتاب الزبرجدة في الاجوار والاصفاد ثم بكتاب الجمانة في الوفود, ثم بكتاب المرجانة في مخاطبة الملوك ثم بكتاب الياقوته في العلم والادب ثم بكتاب الجوهرة في الامثال ثم بكتاب الزمردة في المواعظ والزهد, ثم بكتاب الدرة في التعازي والمراثي ,ثم بكتاب اليتيمة في النسب وفضائل العرب ,ثم بكتاب العسجدة في كلام الاعراب ,ثم بكتاب المنجية في الاجوبة ,وهنا تأتي الواسطة في الخطب وبعد الواسطة تأتي ابواب بتلك الاسماء السابقة ,كأنها حبات تأتي على الجانب الاخر من واسطة العقد الحقيقي ,فيأتي بعد الواسطة المجذبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور واخبار الكتيبة ثم العسجدة الثانية في الخلفاء وتاريخهم وايامهم ,ثم كتاب اليتيمة الثانية في اخبار زياد والحجاج والطالبين والبرامكة ثم كتاب الدرة الثانية في ايام العرب ووقائعهم ,ثم كتاب الزمردة الثانية في فضائل الشعر ومخارجه ,ثم كتاب الجوهرة الثانية في اعاريض الشعر وعلل القوافي ,ثم كتاب الياقوتة الثانية في علم الالحان والاختلاف فيه ثم المرجانة الثانية من النساء وصفاتهن ,ثم كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الانسان وسائر الحيوان ,ثم الكتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب ثم كتاب اللؤلؤة الثانية في الفكهات والملح ,
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع محاضرات في الأدب الأندلسي من الفتح حتى سقوط الخلافة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رحلة الفقيه الأندلسي الطريد Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 12-25-2015 12:43 AM
خيانة حكام العرب ودورهم السلبي في سقوط الخلافة العثمانية عبدو خليفة شذرات إسلامية 2 05-03-2013 12:20 PM
الاستعراب الإسباني في خدمة الأدب الأندلسي الخميس Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 12-12-2012 08:06 PM
الرحالة الأديب ابن جبير الأندلسي Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 11-14-2012 10:03 PM
محاضرات في علم الإقتصاد احمد ادريس بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 01-23-2012 09:45 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 09:40 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59