#1  
قديم 11-11-2012, 02:33 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين



حمل المرجع كاملاً من المرفقات

-أُسسه و تطبيقاته-




الأستاذ الدكتور خالد كبير علال
-الجزائر-

- مسألة الرد على المتكلمين بين الجواز و المنع .

- أهم أسس منهج المحدثين في الرد على المتكلمين .

- نماذج تطبيقية لمنهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين .





















بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم

نتناول في هذا المقال موضوع: منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين ، و نعني به طريقة المحدثين و مسلكهم في النظر و الاستدلال ، و الجدل و المناظرة ، قصد الكشف عنه و التعرّف علي أسسه و تطبيقاته . و أعني بمصطلح أهل الحديث : علماء أهل السنة الذين تخصصوا في علم الحديث و الآثار ، و ألحقتُ بهم كل من كان على منهاجهم و أصولهم ، من الفقهاء و الأدباء و المتكلمين و الوعاظ ،و غيرهم من طوائف علماء أهل السنة . و قصدتُ في الغالب- بمصطلح المتكلمين : المعتزلة و الجهمية و القدرية ، لأنهم هم الذين كانوا أكثر الطوائف تعاطيا للكلام في القرن الثاني و الثالث و النصف الأول من القرن الرابع الهجري، زمن أئمة أهل السنة المجتهدين من المحدثين و الفقهاء ، و قد اجتهدت لذكر أقوالهم و مواقفهم و ردودهم قدر المستطاع ، و هي نماذج من باب التمثيل لا الحصر .

و حددتُ لبحثي هذا إطارا زمنيا شمل قرنين و نصف قرن من الزمان، ابتداء من القرن الثاني ،و انتهاء بالنصف الأول من القرن الرابع الهجري ، لأُثبت أنه كان لأهل الحديث منهج كلامي قديم ، كان موجودا زمن ظهور المعتزلة و من سار على نهجهم من المتكلمين ، و أنه لم يظهر على أ يدي متكلمة أهل الحديث المتأخرين ( ق: 5ه و ما بعده) كالقاضي أبي يعلى الفراء ،وأبي بكر البيهقي ،و أبي الخطاب الكلوذاني، و أبي الحسن الزاغوني ،و ابن تيمية، و ابن قيم الجوزية ، فهؤلاء الأوائل كان لهم منهج كلامي في الرد على المتكلمين من المعتزلة و أمثالهم، له أسسه و تطبيقاته ، ميزهم عن غيرهم من طوائف العلماء .
مسألة الرد على المتكلمين بين الجواز و المنع :

تباينت مواقف أهل الحديث في الرد على المتكلمين ، بين المنع و الذم و الجواز و الإباحة ، فمنهم طائفة منعت الرد عليهم ،و حذّرت من سماع مقالاتهم ،و مناقشتهم ، و مناظرتهم ، و الخوض معهم فيما خاضوا فيه . من هؤلاء : الحافظ محمد بن شهاب الزهري المدني(ت124ه) نهى عن المناظرة بكتاب الله تعالى، و سنة رسوله عليه الصلاة و السلام-[1] . و نهيه هذا محمول على الجدال بالباطل دون فهم للكتاب و السنة ، و إلا فإذا لم يرد العلماء على المنحرفين عن الشرع بكتاب الله و سنة نبيه ، فبماذا يردون عليهم ؟ ! و قد حثنا الله تعالى على مجادلة الكفار بالقرآن الكريم ، في قوله : (( و جاهدهم به جهادا كبيرا)) سورة الفرقان /52- .
و نهى محمد بن سيرين عن مجالسة أهل الأهواء و السماع منهم[2] . و حذّر الحافظ علي بن المديني (ت234ه) من تعلّم الجدل و المناظرة[3] .و كان أبو محمد البربهاري البغدادي الحنبلي (ت 329ه) يذم الكلام و الجدال مطلقا ،و يقول: هو بدعة و ضلالة ،و يقدح الشك في القلب ،و يُوصل إلى الزندقة و الكفر . و نهى أيضا عن التعمق و الجدال و حثّ على التسليم و الكف و السكوت ؛و ذكر قوله تعالى (( و ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا )) سورة غافر/4- . و حثّ أيضا على عدم الرد على أهل الأهواء و البدع، بدعوى أننا أُمرنا بالسكوت عنهم و لا نمكنهم من أنفسنا ، مستدلا بما رُوي عن محمد بن سيرين أنه لم يُجب رجلا من أهل البدع في مسألة واحدة ، و لا سمع منه آية خوفا من أن يُحرّفها فيقع في قلبه شيء . ثم كرر أبو محمد البربهاري تحذيره من المناظرة ، و قال : (( و لم يبلغنا عن أحد من فقهائنا و علمائنا أنه ناظر و جادل أو خاصم )) ،و استدل بقوله تعالى (( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ))- سورة غافر/4-[4] .
و تعليقا عليه أقول: يبدو من كلامه أنه ذم كلام المعتزلة و أمثالهم ، و لم يذم الكلام الصحيح . بدليل أنه عندما قرر أن الكلام في ذات الله تعالى مُحدث و بدعة و ضلالة ، نجده يشرع في الكلام في ذات الله ، و يقرر مذهب أهل السنة ، فيقول : (( و لا يُتكلّم في الرب إلا بما وصف به نفسه عزّ و جلّ- في القرآن و ما بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم- لأصحابه ؛ فهو جلّ ثناؤه واحد (( ليس كمثله شيء ،و هو السميع البصير)) سورة الشورى/11-، ربُنا أول بلا متى وآخر بلا منتهى يعلم السر و أخفى، و على عرشه استوى،و علمه بكل مكان و لا يخلو من علمه مكان ))[5] . فهو هنا قد خاض في الرد على مخالفيه ، فقرر مذهب أهل السنة و رد على بعض أفكار المعتزلة و الجهمية .
و أوافقه في حثّه على التسليم و السكوت ،و التحذير من الجدال و المِراء ، لما قد يحدث عن ذلك من شكوك و خصومات و زندقة ؛ لكنني لا أوافقه على ذمه للجدال مطلقا ، اللهم إلا إذا قصد جدال أهل الأهواء المخالف للشرع و العقل ، فهذا صحيح ؛ لأن الجدال قد يكون طريقا إلى الحق و إقامة الحجة على الخلق . كما أن احتجاجه بقوله تعالى : (( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ))-سورة غافر/4 لا يشمل كل جدال و مناظرة و مناقشة ، لأن الآية تخص الذين يُجادلون في آيات الله إنكارا و عنادا ،و لا تشمل الذين يجادلون لمعرفة الحق ؛ و في القرآن الكريم آيات كثيرة نصت على الجدال الحسن في الدعوة و الإقناع ، كقوله تعالى: (( و جادلهم بالتي هي أحسن ))- سورة النحل / 125- ، و (( و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ))- سورة العنكبوت/46- ، و (( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ))-هود/32- .
كما أنه- أي أبو محمد البربهاري- في نهيه عن التعمّق لم يحدد التعمق الذي يقصده ، فكلامه هذا فيه التباس ، فإذا قصد التعمق في المسائل الغيبية فكلامه صحيح ، لأن الخوض في ذلك هو خطأ كبير ،و فيه ضرر جسيم ،و زج للعقل فيما لا يُدركه . و أما التعمق في العلوم النافعة التي يدركها العقل و التي تتطلب التعمق و التخصص ، كالفقه و الطب و الرياضات و الفيزياء ، فهو تعمق مطلوب و ضروري ،و هو أساس التطور العلمي و التقني و الحضاري على وجه الأرض .
و هو أيضا أي البربهاري لم يُوفق عندما قال : إنه لم يبلغنا أن أحدا من السلف ناظر و جادل ، فها هو القرآن الكريم مليء بجدال الأنبياء لأقوامهم ،و معروف عن كثير من السلف أنهم جادلوا أهل الأهواء ، فعلي بن أبي طالب و ابن عباس- رضي الله عنهما- جادلا الخوارج ،و الإمام أحمد بن حنبل جادل المعتزلة في محنة خلق القرآن ،و أبو سعيد عثمان الدارمي جادل الجهمية . [6]
و ذكر الحافظ أبو الحسن اللاكائي (ت418ه) أن المتكلمين اتخذوا الجدال منهاجا لنصرة مذهبهم ، مخالفين بذلك منهاج السلف الصالح القائم على الكتاب و السنة ،لا على الجدال و الخصومة ، إتباعا لقوله تعالى: (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ))-سورة النحل/125-[7] . ثم ذكر أن جدال المسلمين للمتكلمين و مناظرتهم لهم جنى عليهم أي على المسلمين جناية عظيمة ، أدى إلى الشجار و إظهار بدع هؤلاء و إيصالها إلى العامة و الخاصة ،و بالغ الجميع في التدقيق و صار الطرفان أقرانا و إخوانا . و هو يعتقد أن أعظم قهر و ذل للمبتدعة ، هو تركهم و عدم مناظرتهم كما فعل معهم السلف ، تركوهم يموتون من الغيظ ،و لم يجدوا سبيلا إلى إظهار بدعتهم[8] .
و قوله هذا صحيح إلى حد ما ، فقد كانت للمناظرات التي دارت بين أهل الحديث و المتكلمين آثار سلبية كالتي أشار إليها اللالكائي ؛ لكنني لا أوافقه في كل ما قاله ، لأن أهل السنة اضطروا للرد على المتكلمين اضطرارا ، وذلك أن أهل الكلام هم الذين بدؤوا بنشر مقالاتهم بين الناس ، و استمروا على ذلك زمنا طويلا ،و لم يوقفهم ذم السلف ،و لا هجرهم لهم ؛ ثم أنهم –أي المتكلمون- استعانوا بالدولة العباسية لنشر مقالاتهم و حمل الناس عليها ، و ذلك أيام الخليفة المأمون و المعتصم و الواثق ، من سنة 118 إلى 232 هجرية ، الذين فرضوا على الناس القول بخلق القرآن . فما هو الحل أمام هذا التيار الجارف الذي لا ينفع معه السكوت ؟ ، فهل يتركونهم ينشرون مقالاتهم بين الناس و يبلبلون أفكارهم و يزلزلون عقائدهم ؟ .
و قوله إن السلف لم يجادلوا أهل البدع و تركوهم يموتون من الغيظ ، إتباعا لقوله تعالى : (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة)) ، هو قول غير صحيح على إطلاقه ، لأنه لم يذكر لنا من هؤلاء السلف ،و نحن نعلم أن كثيرا من أئمة أهل السنة قد جادلوا و ناظروا الفرق الكلامية على اختلاف طوائفهم [9] .و استدلاله بالآية كان ناقصا ، و تمامها قوله تعالى: (( و جادلهم بالتي هي أحسن )) ، فالآية فيها دعوة لاستخدام الحكمة في الدعوة ،و من الحكمة استخدام الجدال في المكان المناسب ،و هي أثبتت صراحة وجود جدال حسن حثّت عليه ، و هذا ينقض ما ذهب إليه اللالكائي ، و هو نفسه عندما أثار المتكلمون مسألة الاسم و المسمى و حدث حولها خلاف بين أهل السنة ، مال إلى القول الذي جعل الاسم هو المسمى ، مخالفا بذلك أكثر أهل السنة القائلين بأن الاسم للمسمى[10] .

و أما علماء أهل الحديث الذين أجازوا مناظرة المتكلمين ،و كانت لهم مشاركات في الرد عليهم ، فمنهم أعلام كبار ، كمحمد بن إدريس الشافعي (ت204ه)،و القاسم بن سلام البغدادي(ت 224ه)،و عبد العزيز الكناني (ت240ه) ،و أبي ثور إبراهيم البغدادي(ت 240ه) ،و أحمد بن حنبل (ت241ه) ، و الحسين الكرابيسي البغدادي(ت 248ه) ،و أبي محمد بن قتيبة(ت 276ه) ،و أبي سعيد عثمان الدارمي (ت 280ه) ،و آخرهم ابن خزيمة (ت 211ه) ، رد على المتكلمين في كتابه التوحيد ،و كانت له معهم مناظرات[11] .
و قد كان الإمام احمد بن حنبل بنهي عن مجادلة المتكلمين و مناظرتهم في مقالاتهم ،و يحث على السكوت عن الرد عليهم ؛ لكنه غيّر موقفه و أصبح يقول : (( كنا نسكت حتى دُفعنا إلى الكلام فتكلمنا )) ، فجاء موقفه هذا استجابة للظروف الفكرية الملحة التي عاشها أيام محنته و بعدها ، فصنّف كتابه الرد على الزنادقة و الجهمية،و ناقش المتكلمين و ردّ على شبهاتهم ،و ناظر خالد بن خداش في مسألة القدر ، و ناظر المعتزلة في حضرة الخليفة المعتصم- في قضية خلق القرآن و ظهر عليهم . ثم أصبح يُوجب على العلماء الرد على ما يحدث من البدع و المذاهب الفاسدة بإقامة الحجج المزيلة للشبهة الكاشفة عن غمة الضلالة ، و أصبح يُفضل الذي يتكلم في أهل البدع عن الملتزم بالعبادات الساكت عن الكلام في هؤلاء[12] .
و أما محمد بن قتيبة الدينوري (ت276ه) فقد كان متضايقا من سكوت المحدثين عن تطاول المتكلمين عليهم ،و قال أنه لم يجد- في زمانه- من المحدثين من تصدى للرد على مقالات هؤلاء ، كأنهم رضوا بها و خضعوا لها ؛ لذا قال أنه وجد نفسه مضطرا للرد على شبهات المتكلمين ، فصنف كتابه : تأويل مختلف الحديث ، للرد عليها ، تحت شعار : الكلام لا يُعارض بالسكوت ،و الشك لا يُداوى بالوقوف))[13] . و قد سلك نهجه هذا المحدث أبو سعيد عثمان الدارمي (ت 280ه) ، فذكر أنه لما رأى ارتفاع راية الجهمية المعطلة في زمن أندرس فيه الإسلام ،و ذهب فيه العلماء ، لم يجد بدا من الرد على باطلهم بالحق ، في كتابه : الرد على الجهمية[14] .
و قد كانت لأئمة أهل الحديث -الذين ردوا على المتكلمين مصنفات كثيرة ، كشفوا فيها مغالطات هؤلاء و دحضوا فيها شبهاتهم[15] ، منها : الرد على القدرية لجعفر الصادق ،و الرد على القدرية ، لمالك بن أنس، و الرد على أهل الأهواء ،و الرد على البراهمة، لمحمد بن إدريس الشافعي،و الرد على الزنادقة و الجهمية لعبد العزيز الكِناني ،و نفي التشبيه ، و الرد على الزنادقة،و الإيمان ، لأحمد بن حنبل ،و خلق أفعال العباد ،و الرد على الجهمية، لمحمد بن إسماعيل البخاري، و التبصير في معالم الدين لمحمد بن جرير الطبري .و كان لنعيم بن حماد الخزاعي (ت229ه) ثلاثة عشر كتابا في الرد على الجهمية .[16]
و ختاما لما ذكرناه يتبين أن ذم السلف الصالح للكلام و أهله ، منع بعضهم من مناظرة المتكلمين و الرد عليهم ، لكنه لم يمنع أئمة أهل الحديث من التصدي لأهل الكلام و مناظرتهم و الرد على مقالاتهم ، لوقف تيارهم الجارف ،و نصرة مذهب أهل السنة و الجماعة وفق منهاج شرعي متكامل قامت أسسه على صحيح المنقول و صريح المعقول ،و الفطرة السليمة و العلم الصحيح .
أهم أسس منهج المحدثين في الرد على المتكلمين

كان لأهل الحديث منهج متميز في ردهم على أهل الكلام ، أقاموه على أسس شرعية و عقلية و فطرية متكاملة قوية ، أذكر منها بحول الله تعالى- أثنى عشر أساسا .
الأساس الأول : الاعتماد على القرآن الكريم :
اعتمد أهل الحديث -في ردهم على المتكلمين على القرآن الكريم كأول أساس من أسس منهجهم الكلامي ، فهو كتاب الله الذي (( لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد)) سورة فصلت/42- .و قد قال الإمام احمد ين حنبل : (( و لو تدبر إنسان القرآن ، كان فيه ما يرد على كل مبتدع بدعته ))[17].و قال عامر الشعبي (ت 206ه) : (( ما ابتُدع في الإسلام بدعة ، إلا في كتاب الله عز و جلّ- ما يكذبه ))[18] .
و لأصحاب الحديث أوجه كثيرة في اعتمادهم على القرآن و احتجاجهم به على المتكلمين ، أذكر منها أربعة أوجه ، أولها الاحتكام إلى صريح القرآن ، فعندما نفى المعتزلة و الجهمية صفات الله تعالى ، بدعوى التنزيه و عدم التجسيم ، ردّ عليهم المحدثون بإظهار أن قولهم هذا باطل ، يتناقض مع ما جاء في القرآن الكريم من إثبات للصفات الإلهية ، كالسمع و البصر ،و الرحمة و الكلام ، و بينوا لهم أن إثبات الصفات لا يعني تشبيها و لا تجسيما و لا تعطيلا ، و إنما هو إثبات و تنزيه ، مصداقا لقوله تعالى : (( ليس كمثله شيء ،و هو السميع البصير ))-سورة الشورى/11-[19] .
و عندما أنكر المتكلمون علو الله تعالى و استوائه على عرشه ، و قالوا إنه في كل مكان ، رد عليهم أصحاب الحديث على زعمهم الباطل ،و احتجوا عليهم بآيات كثيرة تنقض ما زعموه ، منها قوله تعالى : (( و ترى الملائكة حافين من حول العرش ))-سورة الزمر/75 - ،و (( ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا ))- سورة الفرقان/59- ،و (( الرحمن على العرش استوى))-سورة طه/5-[20]. كما أنهم عندما نفوا تكلم الله تعالى ردّ عليهم المحدثون بأن الله تعالى صرّح في القرآن الكريم بأنه تكلّم ،و كلّم موسى عليه السلام ، كقوله تعالى : (( و كلّم الله موسى تكليما )) سورة النساء /164 - ،و (( منهم من كلّم الله ، و رفع بعضهم درجات ))- سورة البقرة /253 - ، و (( فتلقى آدم من ربه كلمات ))-سورة البقرة/ 37-[21] .
و الوجه الثاني هو الرد على المتكلمين بما يحتجون به من القرآن الكريم ، فعندما زعموا أن الله تعالى بذاته في كل مكان ،و احتجوا بقوله تعالى: (( ألم تر أن الله يعلم ما في السموات و الأرض ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا و هو رابعهم ،و لا خمسة إلا هو سادسهم ،و لا أدنى من ذلك و لا أكثر ، إلا هو معهم أينما كانوا ، ثم يُنبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ))-سورة المجادلة/ 7- ؛ كان رد أصحاب الحديث عليهم أن بينوا أن معنى الآية هو أن الله تعالى مع كل نجوى و مع كل إنسان بعلمه و بصره و هو فوق عرشه ، لأن علمه مُحيط بالبشر،و بصره نافذ فيهم ؛و ليس معناه أنه تعالى معهم بذاته في الأرض، و عابوا عليهم جهلهم بالآية ، فأخذوا بوسطها و أغفلوا فاتحتها و خاتمتها ، فهي قد فُتحت بالعلم (( ألم تعلم أن الله يعلم)) ،و خُتمت به (( إن الله بكل شيء عليم)) .و مما يُثبت أن المقصود بالآية العلم ، لا أنه تعالى بذاته في كل مكان ، أن آيات قرآنية كثيرة ذكرت أن الله تعالى عاليا مستويا على عرشه[22] .
ثم أنهم أي المتكلمون- احتجوا بآية أخرى لدعم زعمهم أن الله تعالى بذاته في كل مكان- ،و هي قوله تعالى: (( و هو الذي في السماء إله ،و في الأرض إله ))-سورة الزخرف/84 - ، رد عليهم ابن قتيبة مبينا أن مما يُبطل زعمهم أن آيات قرآنية كثيرة نصت على أن الله تعالى على عرشه ،و ليس هو بذاته في كل مكان ؛ ثم بيّن أن معنى الآية هو أنه تعالى إله السماء و إله من فيها ،و أنه إله الأرض و إله من فيها ،و مثاله كقولنا : (( هو بخُراسان أمير و بمصر أمير ، فالإمارة تجتمع له فيهما و هو حال بأحديهما أو بغيرهما ))[23] .
و الوجه الثالث هو التدبّر في القرآن الكريم ،و الاستنباط منه ما يُرد به على مقالات المتكلمين ، فعندما أنكر الجهمية علو الله تعالى و استوائه على عرشه ، رد زعمهم أبو سعيد عثمان الدارمي بقوله تعالى عن فرعون : (( يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى ،و إني لأظنه كاذبا)) سورة غافر/ 36-37 - ،و استنتج منه أن موسى عليه السلام كان يقول لفرعون : إن الله تعالى في السماء ، و إلا ما أمر فرعون ببناء الصرح[24] .
و احتج عليهم أيضا بقوله تعالى : (( و ما كان لبشر أن يُكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه علي حكيم ))-سورة الشورى/ 51- ،و استنبط منه أن فيه إشارة إلى أن الله عز و جل بائن عن خلقه ، فلو كان بذاته مع مخلوقاته في كل مكان ، ما (( كان للحجب معنى ، لأن الذي هو في كل مكان لا يٌحجب بشيء من شيء ))[25] .
و عندما أظهر المعتزلة القول بخلق القرآن ضللهم أهل الحديث[26] ،و أبطل زعمهم احمد بن حنبل ،و قال إنه يُؤدي إلى القول بأن علم الله مخلوق ،و هذا زعم باطل ، لأن القرآن هو من علم الله و أمره ؛ بدليل قوله تعالى: (( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم))-سورة آل عمران/61- ،و قوله (( لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ، مالك من الله من ولي و لا نصير ))-سورة البقرة/120-،و (( ألا له الخلق و الأمر ))-سورة الأعراف/54-[27] . فهذا استنباط صحيح ، فبما أن القرآن من علم الله و أمره ، فإن القول بخلقه يعني أن علمه تعالى مسبوق بجهل ،و هذا نقص و محال على الله تعالى ،و هو القائل : (( و كان الله عليما حكيما )) سورة النساء/170- ،و (( كان الله سميعا عليما ))-سورة النساء/ 148-،و (( عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال))-سورة الرعد /9- .
و يُروى أن الفقيه محمد بن سُحنون المالكي(ت 265ه) ناظر معتزليا في مسألة خلق القرآن ، فقال له : المخلوق يذل لخالقه أم لا ؟ فسكت المعتزلي ، فقال له ابن سحنون : إن قلت بالذلة على القرآن فقد خالفت قوله تعالى : (( و إنه لكتاب عزيز )) سورة فصلت/41-[28] . و رده هذا رد مُفحم ينطوي على فهم ثاقب و استنباط صحيح من الآية الكريمة ، جعل المعتزلي يتوقف و لا يُجيب ، لأنه لو قال : نعم المخلوق يذل لخالقه ، يكون زعمه بأن القرآن مخلوق ، أن تلحق الذلة القرآن الكريم ،و هذا باطل مخالف لصريح الآية التي ذكرها ابن سحنون . و إن قال: لا يذل المخلوق لخالقه ، يكون قد خالف النقل و العقل في أن المخلوق يذل لخالقه ؛ لذا لم يُجب و وجد في السكوت مخرجا للتهرّب عن الإجابة ،و لم يلتزم بما يقتضيه منه الشرع و العقل و مذهبه الاعتزالي ، من أن المخلوق يذل لخالقه ؛و بما أن القرآن الكريم لا يذل فهو إذ، ليس بمخلوق .
و عندما أنكرت طائفة من المتكلمين القدر ،و نفت سبق علم الله تعالى قبل خلقه لمخلوقاته ، احتج عليهم الإمام أحمد بآيات قرآنية كثيرة ، منها قوله تعالى : (( و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب و حكمة ، ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم ، لتؤمنن به و لتنصرنّه )) سورة البقرة/81- ، و (( إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم ،و أخذنا منهم ميثاقا غليظا )) سورة الأحزاب/7- ،و (( إنا كل شيء خلقناه بقدر ))-سورة القمر/49-[29] . ففي الآيتين الأولى و الثانية إخبار من الله تعالى أنه أخذ الميثاق من النبيين قبل خلقهم ؛و في الثانية أخبرنا أنه قدّر مقادير كل المخلوقات قبل أن يخلقها .و عندما قيل لأحمد بن حنبل : إن قوما من القدرية يحتجون بقوله تعالى: (( ما أصابك من حسنة فمن الله ،و ما أصابك من سيئة فمن نفسك ))-سورة النساء/79- ، قال : نعم ذلك صحيح ، لكن الكل بقضاء الله تعالى[30] .
فهو –أي أجمد- قد ربط الآية بغيرها من آيات القدر ،و وضعها في مكانها الصحيح الذي تجاهله هؤلاء القدرية،لأن الله تعالى يقول : (( قُل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا))-سورة التوبة/51-،و (( ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير ))-سورة الحديد /22- .
و أما الوجه الرابع في اعتماد المحدثين على القرآن -في ردهم على المتكلمين- فهو إظهار سوء فهمهم للقرآن و احتجاجهم بمتشابه آياته ، فمن ذلك أن الجهمية في قوله تعالى : (( كلما نَضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ، ليذوقوا العذاب ))سورة النساء/56 - ، قالت : (( فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت و أبدلهم جلودا غيرها ، فلا نرى إلا أن الله عزّ و جل يُعذب جلودا بلا ذنب ، حين يقول : جلودا غيرها )) . فرد عليهم الإمام احمد بن حنبل ،و نسبهم إلى الشك في القرآن و الزعم بأنه متناقض ، ثم بيّن أن معنى بدلّناهم جلودا غيرها ، لا (( يعني جلودا أخرى غير جلودهم ،و إنما يعني بتبديلها تجديدها ، لأن جلودهم إذا نضُجت جددها الله ))[31] . و واصح من قول هؤلاء الجهمية أنهم فهموا الآيات في غير إطارها الشرعي العام ،و بمعزل عن الآيات القرآنية الأخرى ، لذا فهم أساؤوا الفهم و الأدب مع الله تعالى عندما اتهموه بالظلم ، و هو القائل : (( و قُضي بينهم بالقسط و هم لا يُظلمون )) -سورة يونس/54- ،و : (( قُضي بينهم بالحق و هم لا يُظلمون ))-سورة الزمر/ 69- ،و (( ما ربك بظلام للعبيد ))-سورة فصلت/46- .
و ختاما لهذا المبحث أُشير إلى أمرين هامين ، الأول هو أن اعتماد أصحاب الحديث على القرآن الكريم ، كأول أساس لمنهجهم في ردهم على المتكلمين ، هو موقف صحيح يتفق تماما مع النقل و العقل ؛ فلا يٌوجد أعظم حجة من كلام الله تعالى ، و قد أمر نبيه-عليه الصلاة و السلام- بأن يُجاهد و يجادل الكفار بالقرآن الكريم ، في قوله : (( فلا تطع الكافرين و جاهدهم به جهادا كبيرا ))-سورة الفرقان/52- ،و هذا أمر يصدق على كل الضالين و أهل الأهواء من الكفار و المنحرفين من المسلمين .
و الأمر الثاني هو أن موقف المعتزلة و الجهمية و القدرية -في إنكارهم لكثير من حقائق القرآن الكريم- هو موقف غير شرعي و لا عقلي ، ينطوي على تناقض صارخ ، فهم إما أنهم يؤمنون بالقرآن بأنه كتاب الله تعالى ، فيلتزمون به ،و يفهمونه في إطار آياتها المحكمة ،و هذا مُقتضى منطق العقل و الإيمان . و إما أنهم لا يؤمنون به ، فيُلزمهم هذا تركه و عدم الاحتجاج به و عدم التلاعب به ، و يُعلنون ذلك صراحة ، لكي يُناقشهم خُصومهم بالمنطق الذي يُناسبهم . مع العلم أن قضايا الغيب التي لا يُدركها العقل ، يجب الرجوع فيها إلى النقل لا إلى العقل ،و هذا هو منطق النقل الصحيح و العقل الصريح .
الأساس الثاني : الاعتماد على السنة النبوية :
اعتمد المحدثون على السنة النبوية في مناظرة المتكلمين و الرد على مقالاتهم ، اتباعا لقوله تعالى : (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول )) ، و كانت لهم أوجه كثيرة في استدلالهم بالسنة و الاحتجاج بها على المتكلمين ، منها : الاحتكام إلى الحديث النبوي و الاحتجاج به ، فعندما أنكرت الجهمية علو الله على خلقه و مباينته له ،و قالوا إنه في كل مكان بذاته ، ردّ عليهم أبو سعيد عثمان الدارمي بحديث الجارية ،و مفاده أن صحابيا ضرب جارية له ، فندم على فعله و أراد أن يُعتقها ،و أخبر الرسول-عليه الصلاة و السلام- بأمرها ، فقال له : (( أدعها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم- : أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : أعتقها فإنها مؤمنة )) [32]هذا الحديث قال فيه الدارمي أنه صريح في أن الله في السماء دون الأرض ،و أن الرجل إذا لم يعلم ذلك فليس بمؤمن ، لأن رسول الله جعل أمارة إيمان الجارية معرفتها أن الله تعالى في السماء [33] .
و استنتج الدارمي من قوله عليه الصلاة و السلام- : (( أين الله )) ، أن فيه تكذيبا لمن يقول : إن الله في كل مكان ،و لا يوُصف بالأين ، لأن الشيء الذي لا يخلو من مكان (( يستحيل أن يُقال : أين هو ؟ ، و لا يُقال : أين ، إلا لمن في مكان يخلو منه مكان )) .و لو كان الأمر على ما يدعيه هؤلاء الجهمية النفاة لأنكر رسول الله عليه الصلاة و السلام- على الجارية قولها أنه في السماء ردا على سؤاله - ، لكنه صدّقها و شهد لها بالإيمان .و لو كان الله في السماء و الأرض لم يتم إيمانها حتى تعرفه في الأرض كما عرفته في السماء[34] . و استنتاجاته هذه صحيحة مُفحمة ، تدل على بعد نظره و حسن فهمه في تدبر الحديث و تفجير معانيه .
و الوجه الثاني هو الاستنباط من الحديث النبوي ، فمن ذلك أنه عندما أنكرت الجهمية علو الله على خلقه ، استدل عليهم أبو سعيد الدارمي بحادثة إسراء الرسول-صلى الله عليه وسلم- و عروجه إلى السموات حتى وصل إلى سدرة المنتهى فوق سبع سموات ،و استنبط منها أنه لو كان الله في كل مكان كما (( يزعم هؤلاء ، ما كان للإسراء و البراق و المعراج إذن من معنى ،و إلى من يعرج به إلى السماء ؟ و هو بزعمكم الكاذب معه في بيته في الأرض ليس بينه و بينه ستر ))[35].و احتج عليهم أيضا بقوله عليه الصلاة و السلام- : (( إن الله لا ينام ،و لا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط و يرفعه ، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ،و عمل الناهر قيل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ))[36] ، فالحديث ذكر رفع الأعمال ، فإلى (( من تُرفع الأعمال ،و الله بزعمكم الكاذب مع العامل بنفسه في بيته و مسجده ،و منقلبه و مثواه ))[37] ؟ ! .
و الوجه الثالث هو المطالبة بالدليل من السنة النبوية ، فمن ذلك أنه عندما نفى الجهمية علو الله على خلقه ،و نزوله إلى السماء الدنيا ، رد عليهم الدارمي بآيات قرآنية و أحاديث نبوية ، ، ثم طالبهم بالدليل من السنة النبوية ، و تحداهم بأن يأتوا بحديث لرسول الله صلى الله عليه و سلم- ينفي صفتي العلو و النزول ،و يُثبتوا به زعمهم بأن الله تعالى في كل مكان، واقع على كل شيء[38] .
و الوجه الرابع ، هو إظهار تسرّع المتكلمين في إنكار الأحاديث و قلة فهمهم لها ، فعندما ادعى المتكلمون أن أهل الحديث يحملون الكذب و المتناقضات في رواياتهم ، كان الفقيه الأديب ابن فتيبة من بين الذين تصدّوا للرد عليهم ، مبينا أن المحدثين قد ميّزوا الروايات الصحيحة من سقيمها ،و أن المتكلمين هم المتسرّعون في إنكار الأحاديث ، لقلة فهمهم و علمهم ؛ فمن ذلك أنهم ادعوا أن هناك تناقضا بين حديث يقول : (( إن الله مسح على ظهر آدم ،و أخرج منه ذريته ))[39] ،و بين قوله تعالى : (( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ، ألستُ بربكم قالوا بلى )) سورة الأعراف/172- ، فزعموا أن الحديث خالف الآية لأنه ذكر المسح على ظهر آدم و الآية ذكرت الأخذ من ظهور بني آدم ، فردّ عليهم ابن قتيبة مبينا أنه لا تناقض بين النصين ، لأن الآية أجملت و الحديث فصّل المعني ، فالله تعالى عندما أخذ من بني آدم من ظهورهم ، لا يعني أنه لم يمسح على ظهر آدم ، بل هو عندما مسح ظهور بني آدم ، مسح أيضا ظهر آدم و أخرج منه ذريته ، فالذي أجمله الكتاب فصّله الحديث[40] .
واتهموا المحدثين أيضا بالتناقض في روايتهم للأحاديث ، منها حديثان ، الأول فيه : (( إذا انقطع شسع زِمام- نعل أحدكم فلا يمشي في نعل واحد ))[41] ،و الثاني مفاده أنه ربما انقطع شسع رسول الله عليه الصلاة و السلام- فمشى بالنعل الواحدة حتى يُصلح الأخرى[42] . فرأوا أي المتكلمون- في هذين الحديثين تناقضا ، لكن ابن قتيبة جمع بينهما ،و بيّن سوء فهمهم و تسرّعهم في الاعتراض و الإنكار ، وذلك أن الحديث الأول فيه نهي للذي انقطع شسع نعله ، فلا يرميها و لا يعلّقها بيده و يمشي في نعل واحدة ، لأن هذا منظر قبيح ،و إنما عليه أن ينزع الاثنين معا .و في الحديث الثاني على الرجل إذا انقطع شسعه و في إمكانه إصلاحه ، فلا بأس أن يمشي خطوة أو خطوتين إلى أن يُصلح الآخر ؛ و هذا ليس بمنكر و لا قبيح ،و حكم القليل يخالف حكم الكثير في مواضع كثيرة[43].
و ختاما لهذا المبحث أُشير هنا إلى أن اعتماد المحدثين على السنة النبوية كثاني أساس لمنهجهم ، في ردهم على المتكلمين ، هو أمر بديهي و لابد منه ، لأن السنة النبوية هي المفسرة للقرآن الكريم و المبينة له ،و هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي . لذا فمن المنطقي جدا أن يعتمد المحدثون على الحديث النبوي في ردهم على المتكلمين ، لكن غير المنطقي و الغريب جدا أن يُبعد أهل الكلام السنة النبوية و يجعلونها من وراء ظهورهم في تقرير أفكارهم و مقالاتهم ، و هذا تناقض صارخ يأباه منطق الإيمان ، و ترفضه العقول و الفطر السليمة . لكنني أشير هنا أيضا إلى أن بعض أهل الحديث في اعتمادهم على السنة النبوية- فد لا يكتفون بإيراد الأحاديث الصحيحة و الحسنة ،و إنما يتساهلون في رواية الأحاديث الضعيفة في مسائل العقيدة ،و هذا قد يُسيء إلى الدين ،و يُحدث تشويشا و بلبلة في العقول و النفوس .
الأساس الثالث : الاحتجاج بأقوال السلف من الصحابة و تابعيهم :
احتج المحدثون في ردهم على المتكلمين- بأقوال السلف الأول من الصحابة و تابعيهم من أئمة أهل السنة ،و طالبوهم أيضا بأن يأتوا بآثار عنهم لدعم مزاعمهم و مقالاتهم . فمن ذلك أن أبا سعيد الدارمي تحدى الجهمية عندما ناقشهم في مسألة خلق القرآن- بأن يأتوا بنص من القرآن ، أو من السنة ، أو من أقوال السلف ، فيه أي النص- أن القرآن من خلق الله ،و قال لهم : (( فهاتوا عن أحد منهم منصوصا أنه خلق الله كما ادعيتم ، و إلا فأنتم المفارقون لجماعة المسلمين قديما و حديثا ، الملحدون في آيات الله ، المفترون على الله و على كتابه و رسوله ،و لن تأتوا عن أحد منهم ))[44] .
و من أقوال السلف التي احتج بها المحدثون على الجهمية في إنكارهم لعلو الله تعالى ، قول يُروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه و فيه أنه قال : (( أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدون فإن إلهكم قد مات ،و إن كان إلهكم الله الذي في السماء فإن إلهكم لم يمت ))[45] . و موضع الاحتجاج هنا هو قوله : (( إلهكم الله الذي في السماء )) ، و هو صريح بأن الصحابة كانوا يعتقدون أن الله تعالى في السماء . و منها أيضا قول لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه- : (( ما بين السماء الدنيا و التي تليها مسيرة خمسمائة عام ،و بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ،و بين السماء السابعة و بين الكرسي خمسمائة عام ،و بين الكرسي إلى الماء خمسمائة عام ،و العرش على الماء ،و الله تعالى فوق العرش ،و هو يعلم ما أنتم عليه ))[46] . فهذا نص صريح في علو الله تعالى على خلقه .
و منها أيضا قول عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها- : (( و أنزل الله براءتك من فوق سبع سموات ، جاء بها الروح الأمين ))[47] .و موضع الشاهد على علو الله هو قوله : (( من فوق سبع سموات )) ، مما يعني أن الصحابة - منهم ابن عباس كانوا يؤمنون بأن الله تعالى بائن عن خلقه ،و أنه على عرشه فوق سبع سموات ، و ليس هو بذاته في مخلوقاته .
و منها أيضا قول الفقيه المحدث عبد الله بن المبارك في الجهمية : (( إنا نستجيز أن نحكي كلام اليهود و النصارى ،و لا نستجيز أن نحكي كلام الجهمية )) ، لأن كلامهم في تعطيل الصفات فيه ما هو أوحش من كلام اليهود و النصارى[48] .و عندما قيل له : كيف ينبغي أن نعرف ربنا ؟ قال : على السماء السابعة على عرشه ،و لا نقول كما تقول الجهمية أنه هاهنا في الأرض )) ،و في رواية (( بأنه فوق السماء السابعة على العرش ، بائن من خلقه ))[49] .

[1] جمال بادي:الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد ، ط1 الرياض، دار طيبة الرياض، دار الوطن، 1416ه ج2 ص: 674

[2] نفس المرجع ، ج1 ص: 385 .

[3] اللاكائي هبة الله : شرح اعتقاد أصول أهل السنة ، حققه أحمد الغامدي ، ط5، الرياض دار طيبة ،ج 1ص: 186 .

[4] أبو محمد البربهاري: شرح السنة ،حققه ياسر الردادي،السعودية، مكتبة الغرباء ،ص: 71، 94، 95، 106، 128، 130 ، 131 .

[5] نفسه ، ص: 71 .

[6] سترد أقوال كثيرة-فيما بعد - عن مجادلة السلف لأهل الأهواء .

[7] اللالكائي : المصدر السابق ، ج 1ص: 17 .

[8] نفس المصدر ، ص : 19 .

[9] سيأتي ذكر ذلك و توثيقه لاحقا .

[10] جمال بادي: الآثار الواردة ، ص: ج1 ص: 238-239 .

[11] عن هؤلاء انظر : ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ،بيروت ، دار الكتب العلمية، د ت، ص: 11، 20، 23 .و عبد الله بن احمد: السنة ،حققه محمد بن بسيوني ،ط2 بيروت،دار الكتب العلمية ،1414 ص: 35، 35 . و الدارمي: الرد على الجهمية ، حققه بدر بن عبد الله البدر، ط2 الكويت ، دار ابن الأثير ، 1416 . و ابن خزيمة : كتاب التوحيد،حققه عبد العزيز الشهوان، ط6 الرياض، شركة الرياض ،1997 ص: 9، 51، 52 . و أبو الحسين بن أبي يعلى: ظبقات الحنابلة، حققه محمد حامد الفقي،مصر مطبعة السنة المحمدية ، 1962 ج2ص: 280 . و ابن تيمية: درء تعارض العقل و النقل،حققه عبد اللطيف عبد الرحمن، بيروت ، دار الكتب العلمية، 1417 ج 2 ص: 162، 163 .و مجموع الفتاوى، حققه عامر الجزار ،ط1 بيروت ، دار الجيل ،1418ج 7 ص: 242-243 . و الذهبي : تاريخ الإسلام، ج :231-240ه ، حققه عبد السلام تدمري، بيروت ، دار الكتاب العربي، ص: 257 . و ابن كثير : البداية و النهاية ، ط4 بيروت دار المعرفة ، 1998، مج 5 ص: 742. جمال بن بادي : الآثار الواردة ، ج 1ص: 375، 387 .

[12] ابن مفلح : الآداب الشرعية و المنح المرعية،بيروت ، دار العلم للجميع، 1972،ج 1ص: 11، 235-236 . و الخلال : السنة ،حققه عطية الزهراني،ط2 الرياض، دار الراية،1415ج 1ص: 235، 526، 532، 543، 549 . و أبو الحسين بن أبي يعلى : المصدر السابق ،ج 2ص: 280 ..و عبد الإله الأحمدي : المسائل و الرسائل المروية عن الإمام احمد ،ط2 الرياض ، دار طيبة،ج1ص: 167 .

[13] تأويل مختلف الحديث، ص: 19 .و جمال بادي: الآثار الواردة، ج 1 ص: 435 .

[14] ص: 23 .

[15] انظر مثلا: عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ، حققه محي الدين عبد الحميد،بيروت المكتبة العصرية ،1416 . ص: 364. و جمال بادي المرجع السابق، ج1 ص: 31 و ما بعدها .

[16] عن هؤلاء انظر: عبد القاهر البغدادي : الفرق ، ص: 364 .و ابن تيمية: درء التعارض، ج 2ص: 162.و عبد الإله الأحمدي: الآثار الواردة، ج 1 ص: 32 .

[17] الخلال : السنة، ج 1ص: 547 .

[18] نفسه ، ج1 ص: 547 .

[19] انظر مثلا: الدارمي : الرد على الجهمية، ص: 18 .و الطبري: التبصير في معالم الدين ، حققه علي الشبل، ط1 الرياض دار العاصمة، 1416 ، ص: 212 .و ابن القيم : اجتماع الجيوش الإسلامية ، مصر مطبعة الإمام ، دت ، ص : 101-102 .

[20] الدارمي: المصدر السابق ، ص: 32 .و ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص: 251 .

[21] ابن القيم الجوزية: المصدر السابق، ص: 99 .

[22] نفس المصدر، ص: 94 ، 97 .و الدارمي : الرد على الجهمية ، ص: 42-43 .

[23] تأويل مختلف الحديث ، ص: 252 و ما بعدها .

[24] الدارمي : المصدر السابق، ص: 45 .

[25] نفس المصدر ، ص: 73 .

[26] انظر : عبد الله بن أحمد : السنة ، ص: 10 .

[27] نفسه، ص: 9-10 .

[28] جمال بادي: الآثار ، ج1 ص: 287 .

[29] الخلال : السنة ، ج1ص: 532، 547 .

[30] نفس المصدر ، ج1 ص: 545 .

[31] احمد بن حنبل: الرد على الزنادقة و الجهمية ، ص: 7 .و ابن القيم : اجتماع الجيوش الإسلامية ، ص: 96 .

[32] : مسلم بن الحجاج : صحيح مسلم ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي – بيروت ، ج1 ص: 381 ، رقم :537 .

[33] الدارمي : الرد على الجهمية ، ص: 45، 46، 47 .

[34] نفسه ، ص: 47 .

[35] الدارمي : المصدر السابق ، ص: 67 .

[36] مسلم : الصحيح ،ج 1 ص: 161 ، رقم: 179 .

[37] الدارمي ، ص: 64 .

[38] نفس المصدر، ص: 97 .

[39]ضعفه ناصر الدين الألباني . السلسلة الضعيفة ، مكتبة المعارف – الرياض ، ج 7 ص: 27 ، رقم : 3071 .

[40] ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ، ص: 83-84 .

[41] مسلم : الصحيح ، ج 3 ص: 1660 ، رقم : 2098 .

[42]مالك بن أنس : موطأ الإمام مالك ، تحقيق تقي الدين الندوي ،دار القلم ، دمشق ،1413 ، ج 3 ص: 412 ، رقم :923 .

[43] ابن قتيبة : المصدر السابق ، ص: 86، 87 .

[44] الدارمي: الرد على الجهمية ، ص: 180 .

[45] نفس المصدر ، ص: 53 .

[46] نفس المصدر ، ص 55 .

[47] نفس المصدر، ص: 57 .

[48] عبد الله بن احمد : السنة ، ص: 13 .

[49] نفسه ، ص: 13 .و الدارمي : المصدر السابق ، ص: 47 .
المصدر: ملتقى شذرات

الملفات المرفقة
نوع الملف: doc منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين.doc‏ (317.5 كيلوبايت, المشاهدات 3)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أهم, منهج, المتكلمين, الحديث, الرد, على


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
منهج القران في الرد على المخالفين عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 11-10-2014 08:36 AM
ما هو الرد ؟ عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 10-23-2014 08:14 AM
منهج ابن عثيمين في الرد على المخالفين عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 09-17-2014 07:46 AM
منهج القرآن الكريم في الرد على المخالفين من اليهود والنصارى عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 04-10-2014 08:14 AM
الرد على كذب الاعلام السوري Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 06-10-2013 08:52 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:29 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59