#1
|
||||
|
||||
إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم
الكتاب: إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم المؤلف: عبد السلام مقبل مجبرى (المتوفي: معاصر) الناشر: دار الإيمان - القاهرة الطبعة: - عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الإهداء إلى: سيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... صاحب خبر السماء صلّى الله عليه وسلّم ... نفسي له الفداء ... أنفاسك الطاهرة ... طالما أقرأت الكتاب المجيد ... فكان من يديك- يا سيدي- كلّ برّ أمين مبين رشيد ... فخلف من بعدهم- يا سيدي- خلف ورثوا الكتاب ... يأخذون عرض هذا الأدنى ... طمعا في السراب ... وبلي القران في صدور أقوام كما تبلى الثياب ... وانطلق الملأ منهم ينتجون: إن سيرهم على حرف الكتاب لفي ضلال مبين ... فحرفوه، ورموا به في غيابات الجب، وكانوا فاعلين ... وهم يصعدون ... يصعدون- يا سيدي- ولا يلوون على أحد ... واشتري بايات الله ثمن قليل ... وحشرج الصدر لذلك بعويل الأسوار، وسمعت اهات نداء الحق خلف أسوار العويل ... وملأ من المؤمنين للحق كارهون ... يجادلون في الحق بعدما تبين، وهم ينظرون ... وأحلوا الخسر؛ إذ حطموا باستكبارهم التواصي بحق وصبر، وهم لا يشعرون ... وصار ما سوى الكتاب المجيد عندهم هو العجاب ... فمسنا حين من الدهر تاهت عنا فيه حقيقة المتاب ... وأفل عنا كل نور صالح، وتركتنا شفقة عبد لله ناصح، ولغبنا بعوج ماديات المصالح، ونأت خلفنا هدايات عليّ حكيم ... فذهبت الريح ... وبكى الغار ... وأنّ أحد وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ... ألم تدعهم في أخراهم ... وأخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ... فكان نداؤك- يا حبيبي- يشق الأزمان للولهى، ويغيث أمة من اضطرام الفتنة حيرى: «هذا الكتاب ... فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا بعده أبدا» ، فسارع إلى الخيرات كلّ ممسّك بالكتاب يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ... يبتغي الحق مظانه، وعلى شدة القروح انقلبوا بنعمة من الله وفضل ... لم يمسسهم سوء ... فإذا (1/3) ________________________________________ سعيهم محمّد محمود أحمد ... بما علمتهم من الكتاب المجيد ... حتى كادوا يكونون عليه- لهفا وشوقا- لبدا ... ينتظرون ورود الحوض، وشروق شمسك أمامه ... كأن وجهك ورقة مصحف علّمته ... وما زالوا- يا حبيبي- يخرون للأذقان ... يبكون ابتغاء شربة هنيئة لا تظمأ بعدها قلوب لهفى طالما ظمئت إلى يدك الشريفة- أبدا ... يرددون مع ****** الجليل ابن أم عبد- إذ أمرتهم بالتمسك بعهده-: «اللهم أسالك إيمانا لا يرتد ... ونعيما لا ينفد ... ومرافقة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في أعلى جنان الخلد ... (1/4) ________________________________________ بسم الله الرّحمن الرّحيم المقدّمة الحمد لله على الائه ... هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ... لقد جاءت رسل ربنا بالحق، ومقال الصدق، صلى اللة عليهم اجمعين ... اللهم صلّ على محمد صلاة أزدلف بها إلى مغفرتك، وسلم عليه تسليما يحشرني في زمرة أوليائه ... الهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة ... الهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والاخرون، وعلى اله وأصحابه الكرام الطيبين، الأخيار الطاهرين. اللهم إني أعوذ بك أن أقول بحقّ أطلب به غير طاعتك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك ... أعوذ بك أن أستعين بشيء من معاصيك على ضرّ نزل بي ... أعوذ بك أن تجعلني عبرة لأحد من خلقك في مقام الخزي ... اجعلى ممن ابتدأته بفضلك ... وأعقبته بودك، ورأفتك، ورحمتك. وبعد: فكم عللت الفؤاد العليل بإشراق غده ان أن كان يتطلع لهفا وشوقا إلى معرفة المنهجية النبوية الصافية في تعليم اللفظ القراني ... فمتى غده إن لم يكن الان؟ والاخرة على الأبواب ... ومعرفة كهذه تفتح أبواب الإيمان واليقين والعمل والإخبات ففيها لكل ذلك مغتسل بارد وشراب ... وقد كانت رسالة العالمية العليا (الدكتوراه) محاوله أولية في سبيل تحقيق ذلك، إلا أن طولها، وعمق أبواب كثيرة من مسائلها دعا عددا من الأحباب النصحة لكتاب الله وللمسلمين إلى طلب اختصارها عسى أن يعم النفع بها لعامة المسلمين بعد أن كان موقوفا على (1/5) ________________________________________ المختصين والباحثين ... فكان هذا الكتاب ... ملتمسا من الله عز وجل خير ختام وحسن ماب. المنهجية النبوية في تعليم اللفظ القراني ... لماذا؟ 1- لأن حاجة علماء الإقراء والتجويد ماسة وضرورية إلى منهج محدد يوضح لهم كيفية إقراء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللفظ القراني، ليكون أساسا تقعيديا يعتمدون عليه في تأصيل عمليات الإقراء، وركنا واضحا يتخذونه سبيلا تطبيقيا في تعليم اللفظ القراني وتعلمه. 2- ليستبين المقياس المطلق لصحة المنهجية التعليمية للفظ القراني، وبالتالي يتم تصحيح بعض الأخطاء الشائعة في المنهجيات التعليمية السائدة كالغلو في حفظ الألفاظ دون مصاحبة ذلك لمنهجية في تعلم المعاني، والتخلق بالخلق القراني ... فتكون هذه الدراسة محاولة في سبيل إعادة المنهجية النبوية إلى واقع الأمة، وتمثل أساسا لتقويم واقع الإقراء وتسديده في العصر الحاضر. 3- ليأوى معلم القران ومتعلمه من المسلمين عامة إلى ظلال وارفة عيشا مع قضايا علم القراءة والتجويد في صورتها الصافية، وسيرتها الأولى ... حيث كان الموجه القران الكريم، والسنة النبوية قبل حدوث الأقوال وتعددها- على فضلها- ... عسى أن ينشر الله له فيها من رحمته، ويهيئ له من أمره مرفقا إذا دلف إلى جنانها في عصر أحزاننا المستديمة على حد قول القائل: دخلت، وقلبي قد طار مني ... ولكنه عاد لمّا دخلت دخلت الرحاب، وأسلمت نفسي ... إلى تلف الوجد حتى سلمت وكان المقام العظيم العظيم ... عليه يخيم نور وصمت فطوف بي من جلال القران ... ذهول فهمت، وهمت، وهمت (1/6) ________________________________________ 4- لسد الثغرة القائمة في مؤلفات علوم القران الكريم؛ إذ لا يوجد- فيما أعلم- كتاب جامع يتضمن دراسة وصفية لتعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم القران الكريم لأصحابه رضى الله عنهم، ويؤصل لقواعد علم التجويد، وإن سدت كتب فضائل القران ومقدمات التفاسير جزا عظيما وهاما من ذلك. الأهداف التفصيلية للكتاب: 1- التأصيل الشرعي الدقيق لمناهج القراء، وقواعد التجويد حيث تخلو الكتب المؤلفة في هذا العلم- غالبا- من ذلك. 2- الوصول إلى نتائج مبينة في بعض قضايا اللفظ القراني الشائكة كمسألة التواتر القراني ... والتكبير عند خواتم القران ... عدد الحفاظ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ... صورة حفظ القران مسألة عامة شائعة ... التأكيد على حفظ كبار الصحابة رضي الله عنهم للقران كله في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ... العرضة الأخيرة ... حل إشكالات في الفهم لبعض الروايات والنصوص التعليمية ... الكلام عن القراءة التفسيرية ... نظرية القراءة بالمعنى ... أسلوب إدارة النبي صلّى الله عليه وسلّم للجامعة النبوية القرانية ... تخرج الاف الحفاظ للقران الكريم على أيدي أئمة الإقراء من أصحابه رضي الله عنهم. 3- إظهار الأداة الواقعية التي تؤدي إلى الاطمئنان على دقة نقل ألفاظ القران الكريم، وعدم طروء أي تطور مخالف لما كان عليه الأمر قديما في نقلها إلا ما كان عائدا إلى خدمة الأصل التوقيفي ... فتتجلى عند ذاك واقعية الحقيقة الإيمانية (العقدية) الخالدة (حقيقة الحفظ الإلهي للقران الكريم) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: 2) ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (السجدة: 2) ، من خلال وصف ذلك في العهد النبوي، وعرض حقائق التلاوة بطريقة فيها تنوع جديد. (1/7) ________________________________________ 4- رام المؤلف أن يبين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان- في أداء البلاغ المبين للفظ القراني- كرئيس جامعة عصرية تضم تحتها عددا من الكليات، ومجموعة متخصصة من هيئة التدريس يبرز بعضهم ككبار المدرسين، ويمكن تشبيه بعضهم بالمعلم الأول في عصرنا ... وأما الطلاب فأعداد غفيرة تشكل الأمة بأسرها، ومنهم المتفرغون لتعلم القران الكريم كالسبعين الذين قتلوا في بئر معونة، كما حاول أن يبين مفردات المنهج الذي يجب على جميعهم أن يتعلموه «الواجب العيني» ، ثم يرتقي بعضهم إلى الدراسات العليا ليحيطوا بنسبة أكثر وأدق من المعرفة القرانية لهذا المنهج التعليمي «الفرض الكفائي» ... 5- فصّل الكتاب كيفية تعليم الناس اللفظ القراني وفق منهجية التلقي، وكيف كانت تتم عملية التلقين والتلقي على الرغم من كثرة العدد، مع ضرورة تطبيق اللفظ القراني، ومعرفة معانيه. لماذا اختار الكتاب مصطلح (أصحاب) ولم يختر مصطلح (تلاميذ) ؟ لأن هذا هو المصطلح النبوي لتلاميذ النبي صلّى الله عليه وسلّم ... والاصطلاح على المتعلم بأنه (تلميذ) نشأ متأخرا «1» ، والأصحاب مأخوذ من الصحبة التي «تعني المصاحبة والمرافقة والمجالسة على حب الله تعالى وحب رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والصحابة هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين صاحبوه وجالسوه وسمعوا منه وأخذوا عنه هدي الإسلام وسننه، فنصروه وعزّروه وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. ولقد قام المنهج النبوي على تأسيس الصلة والصحبة والجندية كلها على المتابعة بالمحبة والصدق والإخلاص» «2» ، ولا شك أن الظلال النفسية لمصطلح صاحب لها __________ (1) انظر: لسان العرب (3/ 478) ومما ذكره أن التلاميذ هم الخدم والأتباع واحدهم تلميذ. (2) أحمد علي الإمام (دكتور) : الصحبة والصحابة (ص 6) ، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم. (1/8) ________________________________________ أثرها الراقي بصورة أعلى بكثير من الظلال التي يثيرها مصطلح تلميذ خاصة في المرحلة الثانوية والجامعية، وقد طلب البعض عدم استعمال مصطلح تلميذ لطلاب العلم في هاتين المرحلتين. حول الروايات الواردة في الكتاب: يلتزم الكاتب إيراد الروايات المقبولة دون غيرها في صلب البحث، وقد يورد غيرها مما لم يشتد ضعفه على سبيل الاستشهاد- إن كانت تلك الروايا صالحة للاعتبار- وذلك ينسجم مع ما قاله الإمام أحمد- رحمه الله-: «الأحاديث الضعيفة قد يحتاج إليها في وقت، والمنكر أبدا منكر» «1» ، وكل ذلك بحسب ما يلائم كل قضية من درجة في التوثيق. وقد يذكر الكاتب تخريج الهيثمي في مجمع الزوائد وحكمه على الرواية، مع أنه إنما يحكم على السند الذي أمامه وليس على الحديث، ولذا فقد يضعّف بعض الأحاديث مع أنها مقواة من جهات أخرى، فأرجو ألا يغتر بذلك. معوقات في مواجهة البحث: 1- شح المادة العلمية التفصيلية لهذا البحث، وما ذاك إلا لصيرورة مفردات مناهج التعليم للفظ القراني بدهيات لا يستغنى عنها، فصار الجانب العملي فيها مغنيا عن النقل العلمي، كما أن هذا اقتضى التنقيب البالغ عن النصوص المطلوبة في كل كتاب علمي يمكن الاطلاع عليه ... وهو ما جعل العبء مضاعفا. 2- غموض الترتيب في المادة المجموعة لعدم النسج على مثال سابق في خصوص الموضوع، كما أن جلالة الموضوع، وهيبته؛ إذ إن حقيقته محاولة العيش بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم والقران الكريم والصحابة رضي الله عنهم مع أشرف وظيفة بعث بها __________ (1) أحمد علي الإمام (دكتور) : الصحبة والصحابة (ص 6) ، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم. (1/9) ________________________________________ الرسول صلّى الله عليه وسلّم هي تعليم الكتاب ... وهذا قد يؤود الباحث فيتنكب الصواب في ثنايا الاضطراب ... وذا أثر نفسي لا ينكره الباحث. منهج الاختصار للبحث: 1- قرئ أصل هذا الكتاب عدة مرات أخر من أوله إلى اخره حتى يتم حذف ما يمكن حذفه، وتعديل ما يجب تعديله بحيث يتناسب مع الحيز المقترح له من عدد الصفحات. 2- حذفت الاراء الفقهية المختلفة، واكتفي ببيان الراجح فقط عند وجود الاختلاف في المسألة ... ومن أراد الاستزادة فعليه بالأصل. 3- اكتفي بأهم النصوص القرانية والحديثية التي توضح فكرة الموضوع، واقتصر على واحد منها عندما يسوغ ذلك، كما اكتفي في غالب الأحيان بموضع الشاهد من النص القراني أو النبوي، وحذف تفصيل الكلام على تخريج الأحاديث، وكلام الشراح حولها إلا ما لابد منه في نظر الكاتب. 4- حذفت العبارات التي يمكن بدونها فهم الفكرة الأصلية، وكان وجودها زيادة إيضاح وبيان، وامتد هذا التصرف إلى النصوص المنقولة عن أهل العلم. 5- حذفت الاعتراضات على الفكرة أو المعنى الراجح والأجوبة على ذلك غالبا. 6- دمجت عدد من المطالب والمباحث، وحذف بعضها لكن الكاتب أبقى على الهيكل العام (الفصول) كما هو. 7- تم حذف كثير من تفاصيل براهين النظريات التي مال إليها الباحث في الفصل الخامس، كما حذف موضوع التواتر القرائي بأكمله من هذا الفصل مما لا أظن الباحث يستطيع الاكتفاء بما هو موجود في هذا المختصر، فأنصح بالرجوع إلى الأصل في هذا الموضوع الكبير. (1/10) ________________________________________ 8- حذفت معلومات المرجع من أول موضع ورد فيه غالبا، واكتفى بمختصره، حيث يغني فهرس المراجع عن ذلك، كما تم حذف تراجم الأعلام، وتفاصيل التعريفات اللغوية. 9- تركت ما فيه ذكر لأخبار القراء من الصحابة والتابعين مما يزيّن القارئ به مجالسه وحلقته. فإن اعترض على هذه الطريقة في الاختصار ... فأنا أسلم بذلك، وليكن هذا كتاب جديد يكون مدخلا للأصل. الهيكل العام للبحث «خطة البحث» : يتكون البحث من مقدمة وخمسة فصول، وقد اختار الباحث أن يسير سيرا متدرجا بالنسبة لتعليم قراءة القران الكريم، ابتداء بما قبل القراءة وحتى ختامها ... ولما كان البحث دائرا حول شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية في الإطار الخاص وهو تعليم ألفاظ القران الكريم لا التعليم لكل ما يتعلم فقد انعقد الفصل الأول لأجل ذلك فكان حول شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية من الناحية العامة إشارة إليها، ومن الناحية الخاصة المتعلقة بتعليم اللفظ القراني. ولما كان البحث دائرا حول تعليم ألفاظ القران الكريم فقد لزم من هذا بيان أصول هذا التعليم في منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم من الناحية الإدارية والمنهجية وعقد الفصل الثاني لأجل ذلك. ولما كان محور البحث متركزا في كيفية تعليم تلاوة الألفاظ القرانية فقد عقد الفصل الثالث لإيضاح ذلك بالتفصيل، وبيان منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعليم الترتيل «التجويد» . (1/11) ________________________________________ ولما كان حفظ «جمع» القران يمثل الغاية من هذا التعليم فقد انعقد الفصل الرابع لبيان جمع القران كتابة وعن ظهر قلب، واستتبع هذا الكلام عن جامعي القران الكريم من الصحابة على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم «المخرجات التعليمية» . ولأن القران قد اختص من بين سائر الكتب السماوية بنزوله على لغة العرب ومن ثم امتناع ترجمته حرفيا، مع الإذن بقراءته على سبعة أحرف ... فقد انعقد الفصل الخامس لبيان كيفية تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، واستتبع هذا ربط ذلك بحقيقة التواتر القراني واثاره التي تدل على عدم مس القران الكريم كما أنزله الله تعالى بزيادة أو نقصان، وبيان الحقائق التي تجلي بعض الاستشكالات التي أوردت على المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم. وعلى هذا انحصرت تبويبات البحث بعد المقدمة في التالي: الفصل الأول: شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. المبحث الثاني: وظيفة التلاوة. المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه. الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه ألفاظ القران: وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية تعلمه لكلام الله القراني. المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى الله عليه وسلّم. المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى الله عليه وسلّم. المبحث الرابع: القواعد التربوية المصاحبة لعملية الإقراء «من حيث اللفظ» . (1/12) ________________________________________ الفصل الثالث: جماع منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم في تحفيظ الألفاظ وترتيلها: وفيه ستة مباحث وهي: المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أساسيات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية» . المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ماهية التجويد وحكمه. المبحث الثالث: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أهمية التجويد وضوابطه الشرعية. المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ترتيل ألفاظ القران الكريم. المبحث الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم مراتب الأداء الأعلى من التجويد. المبحث السادس: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم الملحقات بأحكام التجويد. الفصل الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم جمع القران الكريم حفظا وكتابة «المخرجات التعليمية» : وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه «منهجية النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعليم الصغار» . المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم ألقاب حامل القران وصفاته. المبحث الثالث: أصحاب «تلاميذ» النبي صلّى الله عليه وسلّم من أئمة الإقراء «المخرجات التعليمية» . المبحث الرابع: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم جمع القران. الفصل الخامس: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم قراءة القران على أحرفه المنزلة: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم القراءة بما تيسر من الأحرف السبعة. المبحث الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول. (1/13) ________________________________________ المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم «التواتر في نقل ألفاظ القران» . رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ. وهذا أوان انطلاق القلم في البحث سائرا بسم الله مجراه ومرساه، وحسبنا الله ونعم ال****، على الله ربنا توكلنا. الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي (1/14) ________________________________________ الفصل الأول: شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية «الرسول المعلم» : وفيه ثلاثة مباحث: يتناول هذا الفصل شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم التعليمية بما يعطي لمعلم القران الكريم الدلالات الاتية: 1- الاعتزاز بهذه الوظيفة، واستشعار أنها فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهديه، وسمته ... فهي أفضل الأعمال. 2- استشعار الاهتمام الشديد الذي أولاه الشرع لتلاوة القران وتعليمه بما يعين الفرد والمجتمع على استيعاب مدى الأهمية الشرعية ومن ثم الواقعية لهذين العملين في الحياة، وذلك لأن جميع وظائف النبي صلّى الله عليه وسلّم تفصيلا تعود إلى تلاوة الكتاب المجيد، وتعليمه ... وبناء على ذلك يبين الفصل الأخير حكم تعلم ألفاظ القران الكريم وتعليمه، ولتحقيق الغاية من هذا الفصل فقد انقسم منطقيا إلى ثلاثة مباحث هي: المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. المبحث الثاني: وظيفة التلاوة. المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه. ولما كان المبحث الأول كالتقدمة للثاني والثالث كالتتمة كان الثاني أطول منهما. (1/15) ________________________________________ المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: وفيه ثلاثة مطالب: يناقش هذا المبحث وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم العامة، ويحلل الدلالات اللفظية لوصفها المصطلحي، وماهية مرتكزاتها تفصيلا ... ويرجع ذلك إلى ثلاثة مطالب: المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم. المطلب الثاني: تحليل دلالات الوصف الإجمالي للوظيفة النبوية. المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يمكن إيجاز وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم في أن الله جل جلاله إنما بعثه معلما كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لم يبعثني معنتا، ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» «1» ، وجعل وظيفته الكاملة القيام ب (البلاغ المبين) كما قال عزّ وجل: فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (المائدة: 92) وهذا الأسلوب يفيد حصر الوظيفة على البلاغ، وقصر المهمة على أن يكون البلاغ مبينا، وحصرت مهمته صلّى الله عليه وسلّم في ذلك ليعلم طبيعتها أهل المشرق والمغرب ممن اهتدى، أو اثر الردى ... فقد بين الله جل جلاله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن المعاندين إن «جادلوك بالأقاويل المزورة، والمغالطات فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ» » . __________ (1) صحيح مسلم (2/ 110) . (2) الجامع لأحكام القران (4/ 45) عند تأويل قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ... (ال عمران: 20) . (1/16) ________________________________________ تحديد نطاق وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: وإذا كان ما سبق هو إخبار للمخاطبين يبين مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويحصرها؛ فقد أكّد هذا الحصر بخطاب الله تعالى للرسول صلّى الله عليه وسلّم ذاته مباشرة بما يبين له نطاق مهمته ووظيفته صلّى الله عليه وسلّم قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: 82) ، وعمم الأمر خطابا للرسول صلّى الله عليه وسلّم وغيره زيادة في الإيضاح والتأكيد في قوله سبحانه وتعالى: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (العنكبوت: 18) ، وهذه هي وظيفة الرسل عامة كما قال جل جلاله: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: 35) ، وقد أخذ هذا التحديد النظري طابعا تطبيقيا في إيضاح الرسل وظيفتهم لأقوامهم كما في قوله سبحانه وتعالى على لسان نوح وهود- عليهما السّلام- أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: 62، 68) ، وعلى لسان صالح عليه السّلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي (الأعراف: 79) ، وشعيب عليه السّلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: 93) ، ورسل صاحب يس: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «1» (يس: 17) . تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه رضي الله عنهم حدود مهمته: وقد علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه نطاق مهمته الرسالية، لما يترتب على ذلك من ضرورات منهجية ترجع إلى حفظ أصول الدين وقواعده، وتتلخص في عنصر واحد: أن يكونوا شهودا على ذلك في الدنيا والاخرة: أما في الدنيا فحتى لا يفتري عليه أحد بكتمان، أو نقصان، ويعلم الثقلان أن ما بلغه هو الدين الكامل. __________ (1) هذه إشارات، ويستعان لمزيد من التحليل ب: المعجم المفهرس لمعاني القران العظيم (1/ 225) . (1/17) ________________________________________ وأما في الاخرة فحتى يشهدوا له عند الله جل جلاله. من أجل ذلك بين لهم صلّى الله عليه وسلّم- غير ما تقدم- أن الله عزّ وجلّ أوجب عليه البلاغ لكل ما أوحى إليه من ربه عزّ وجلّ، وإن لم يفعل فما قام بوظيفته التي أرسل من أجلها، كما قال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: 67) ، كما قال الزهري في فقه هذه الاية: «من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم» «1» ، ... فكل شيء سكت عنه صلّى الله عليه وسلّم فهو مما لم يؤمر بتبليغه- إن كان ثم شيء يبلّغ-، وقد علم الصحابة رضي الله عنهم بأنه لو كان ثم شيء يستحق البلاغ لأمر بتبليغه فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- قال إبراهيم: زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصّلاة شيء؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا: صلّيت كذا وكذا. قال: فثنى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثمّ سلّم، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: «إنّه لو حدث في الصّلاة شيء أنبأتكم به» «2» . استشهاده صلّى الله عليه وسلّم الخلق على قيامه بالبلاغ: وقد شهّد أمته على إبلاغه الرسالة، واستنطقهم بذلك في أعظم المجامع، كما في خطبته في حجة الوداع، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبة حجة الوداع: «أيها الناس! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول: اللهم اشهد» «3» . __________ (1) صحيح البخاري (6/ 2738) . (2) البخاري (1/ 156) ، مسلم (1/ 400) ، مرجعان سابقان. (3) وورد مثل ذلك عن أبي بكرة عند البخاري (1/ 52) ، ومسلم (3/ 1305) ، وعن ابن عباس عند البخاري (2/ 619) ، وقد جاء مثل ذلك أيضا عن عدد من الصحابة في أكثر من موطن.. انظر: الأصل. (1/18) ________________________________________ وشهد له الصحابة رضي الله عنهم بكمال البلاغ في الدنيا: فمنعوا بذلك أوهام المتخرصين أن يكون فرّط أو كتم أو خص بعض الناس بشيء من البيان العام الواجب تبليغه عليه صلّى الله عليه وسلّم، فعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال له: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله سبحانه وتعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «1» ، وعن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب وهو يقول يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «2» . مادة البلاغ الأساسية: ومادة البلاغ الأساسية هي القران الكريم كما قال جل جلاله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19) ، وقال عزّ وجلّ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (الأنعام: 92) أي: «مكة ومن حولها من أحياء العرب وسائر طوائف بني ادم من عرب وعجم» «3» ، وقال جل جلاله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (هود: 17) ، وقال سبحانه وتعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1) . ولأن مادة البلاغ الأساسية هي القران قال ابن عباس رضي الله عنها في قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: 67) : «يعني إن كتمت اية مما أنزل __________ (1) تفسير ابن كثير: (2/ 78) ، وقال عن هذا الحديث: «وهذا إسناد جيد» ، وتتمته: «والله ما ورثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوداء في بيضاء» . (2) البخاري (6/ 2739) ، مرجع سابق. (3) ابن كثير (2/ 157) ، مرجع سابق. (1/19) ________________________________________ إليك من ربك لم تبلغ رسالته» «1» ، وقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً (الأنعام: 90) ، «أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القران أجرا أي أجرة ولا أريد منكم شيئا» «2» كما كان يبين أن هذا العلم الذي أوتيه، وأمر بتبليغه خير كثير كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «قد علمني الله عز وجل خيرا» «3» ، فتحددت وظيفة البلاغ بإيصال مادته الأساسية إلى هؤلاء الأحزاب باختلاف أمصارهم وأعصارهم. الإبانة في البلاغ: ونلحظ أن (الإبانة) صفة ضرورية ملازمة لوظيفة البلاغ، والإبانة نوعان: 1- إبانة لفظية: أي يجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يكون لفظه بالبلاغ مبينا كما في قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: 195) . 2- وإبانة معنوية: أي يجب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يبين تأويل الكلام الذي أمر بتبليغه كما في قوله سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (النحل: 44) ، فمما «يجب أن يعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بين لأصحابه رضي الله عنهم معاني القران، كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يتناول هذا وهذا» «4» . الاتصال بين الإبانة اللفظية والإبانة المعنوية: واللفظ والمعنى متصلان اتصالا وثيقا إلا أنه لا يمكن للمعنى الثبات مع اهتزاز لفظه أو تغييره في الكلام المعجز إذ أول أوجه إعجازه تتمثل في إعجازه في لفظه كما لخص الخطابي- رحمه الله تعالى- أركان إعجاز القران في: «اللفظ الحامل، __________ (1) ابن كثير (2/ 79) ، مرجع سابق. (2) ابن كثير (2/ 157) ، مرجع سابق. (3) أحمد (5/ 368) ، وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 456) ، مرجع سابق: «وهذا إسناد صحيح» . (4) مقدمة في أصول التفسير (ص 208) . (1/20) ________________________________________ المعنى القائم به، الرباط الناظم لهما» «1» ، ولأن إعجاز القران يعتمد على حقيقة واحدة هي أن الله سبحانه وتعالى قاله، كان لا بد من بلوغ أقصى درجات الإبانة اللفظية في كلام الله جل جلاله تمهيدا للإبانة المعنوية؛ ولذا يظهر الاهتمام بألفاظ القران واضحا في القران، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ «أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، ولهذا قال تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ أي أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب فصيحا واضحا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تفهمونه وتتدبرونه كما قال عزّ وجلّ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «2» . وصار الطلب الشرعي لضبط ألفاظ القران الكريم استحضارا واستظهارا وإتقانا للأداء بديهية شرعية في حياة الصحابة رضي الله عنهم، كما كان تعظيمه، وصونه باستظهار ألفاظه، والعمل على نشره كتابة وحفظا وتعليما من أبرز مقاصد التنزيل الحكيم: أي ليعظم عندهم بألفاظه، فيحافظ عليها، ويتبع معانيها: كما في قوله سبحانه وتعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: 4) ف «بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض ... » «3» وكما قال تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) (الواقعة: 77- 80) وقال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (عبس: 11- 16) فإذا كانت «الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القران في الملأ __________ (1) بيان إعجاز القران (ص 26) . (2) ابن كثير (4/ 123) ، مرجع سابق. (3) ابن كثير (4/ 123) ، مرجع سابق. (1/21) ________________________________________ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى لأنه نزل عليهم وخطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم لقوله جل جلاله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: 4) » «1» . وبايات الله التي تبلغ البحار، وما وراء البحار ... كان مستمسك العارفين ... ولها كان تعظيم السادات من المؤمنين ... يعظمون ايات الله ... وهي حبل النجاة في يوم الهول المبين: قرت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم إن تتلها خيفة من حر نار لظى ... أطفأت نار لظى من وردها الشبم كأنها الحوض تبيض الوجوه به ... من العصاة وقد جاؤه كالحمم وكالصراط وكالميزان معدلة ... فالقسط من غيرها في الناس لم يقم المطلب الثاني: تحليل دلالات الوظيفة الرسالية الإجمالية: بعد أن استقر أن وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي (البلاغ) ، وعلمت مادته فيجب معرفة ماهيته؛ وسر اختيار هذا المصطلح للدلالة عليه. فأصل البلاغ البلوغ وهو الوصول من بلغ يبلغ بلوغا «2» ، وتظهر من مفاهيم البلاغ الدلالات التالية: 1- أنه يجب وصول المبلّغ به ليتم البلاغ: فعدم وصوله نقص في التبليغ، إذ بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبلاغا: وصل وانتهى، والبلاغ: ما بلغك، وفي التنزيل العزيز: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ __________ (1) ابن كثير (4/ 123) ، مرجع سابق. (2) تفسير القرطبي (6/ 327) . (1/22) ________________________________________ (الجن: 23) ، أي لا أحد منجى إلا أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به، والإبلاغ: الإيصال، وكذلك التّبليغ، والاسم منه البلاغ «1» ، وهذا يقتضي فعل الوسائل القولية والعملية لإيصال المبلغ به. 2- الكفاية بالمبلغ به كما في قوله جل جلاله: إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (الأنبياء: 106) ، وكما في قوله سبحانه وتعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52) والإشارة للقران الكريم كما في قوله عزّ وجلّ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ (العنكبوت: 51) والبلاغ هنا الكفاية «أي كفاية لأنه يبلغ مقدار الحاجة» «2» ؛ ومنه قول الراجز: تزجّ من دنياك بالبلاغ ... وباكر المعدة بالدّباغ «3» ويظهر من هذه الايات أن المادة الأساسية للتبليغ هو القران الكريم. 3- أن القران المبلغ به هو السبيل الوحيد الذي يوصل إلى مطلوب الإنسان من السعادة، فالبلاغ ما يتبلّغ ويتوصّل به إلى الشيء المطلوب «4» ، وتبلّغ بالشيء: وصل به إلى مراده «5» . 4- الاجتهاد في أداء الرسالة فقولك: «أراه من المبالغين في التبليغ، بالغ يبالغ مبالغة وبلاغا إذا اجتهد في الأمر» «6» . __________ (1) لسان العرب (8/ 419) . (2) القرطبي (6/ 327) ، مرجع سابق. (3) معجم مقاييس اللغة (1/ 156) . (4) النهاية في غريب الأثر (1/ 152) . (5) انظر: لسان العرب (8/ 419) ، مرجع سابق. (6) لسان العرب (8/ 419) ، مرجع سابق. (1/23) ________________________________________ 5- ويدل الوصف الشخصي للنبي صلّى الله عليه وسلّم ب (الرسول) ، والوصف الوظيفي له ب (البلاغ) على المصدر الإلهي لتعلم الأنبياء، وذكر هذا والتأكيد عليه هو دأب كل نبي ورسول يقولون: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ (الأحقاف: 23) أي لا أعلم من ذلك إلا ما علمني الله، وإنما أنا رسول إليكم من الله مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة «1» ، فهذا قول هود عليه السّلام، ومثله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (الكهف: 110) «أي قل يا محمد إنما أنا بشر مثلكم من بني ادم لا علم لي إلا ما علمني الله» «2» ومثله على لسان يوسف عليه السّلام: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (يوسف: 37) ، وكان يبلغهم بالقران كمادة أساسية في منهاج التبليغ، فيحاولون إبعاده عن ذلك، وصرفه عنه فيقولون ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ (يونس: 15) ، فيكون رده هو التأكيد على هذه المصدرية كما في قوله تعالى قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي (يونس: 15) «وإنما هو رسول مبلّغ، ومأمور متبّع» «3» . ونظرا لهذه المقتضيات يحاسب الرسل على ذلك كما في قوله عزّ وجلّ: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ (الجن: 28) ، وكما في قوله جل جلاله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ (المائدة: 117) . __________ (1) انظر: تفسير الطبري (26/ 25) . (2) الطبري (16/ 39) ، مرجع سابق. (3) الطبري (11/ 95) ، مرجع سابق. (1/24) ________________________________________ المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي صلّى الله عليه وسلّم: جاء تفصيل هذه الوظيفة (البلاغ) ، وبيان امتداداتها في ايات أخر؛ إذ ورد بيانها في أربع ايات من القران الكريم: في سورة البقرة موضعان، وموضع في سورة ال عمران، وموضع في سورة الجمعة، وترجع صيغها الإجمالية إلى قوله سبحانه وتعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 151) وقوله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (الجمعة: 2) ، وقد فرّعت هذه الايات وظيفة البلاغ إلى ثلاثة فروع: [فروع وظيفة البلاغ] الأول: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ: وقدم تلاوة الايات على سائر الفروع الاخرى في كل الايات، بل قد انفردت هذه الوظيفة بالذكر في عدد من المواضع كقوله جل جلاله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (البينة: 2) ، وكذلك قوله عزّ وجلّ: رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ (الطلاق: 11) ، ويَتْلُوا هنا في موضع نصب نعت لرسول ومعناه يقرأ، والتلاوة القراءة، وآياتِ اللَّهِ يعني القران «1» فقوله سبحانه وتعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يقرأ عليهم اي كتابه وتنزيله «2» . __________ (1) انظر: القرطبي (18/ 92) ، مرجع سابق. (2) انظر: الطبري (4/ 163) ، مرجع سابق. (1/25) ________________________________________ الثاني: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ: فالكتاب يعني القران، ويعني بالحكمة السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيانه له، وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط، وقال مالك بن أنس: الحكمة الفقه بالدين «1» ، ولخص بعضهم معاني الحكمة بقوله: والحكمة العلم وقول الحق ... وفعله مقترنا بالصدق «2» فالمراد أنه يعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه مقروا ومكتوبا، ويبين لهم تأويله ومعانيه «3» ، و (يعلمهم الكتاب والحكمة) صفة أيضا ل (رسولا) مترتبة في الوجود على التلاوة «4» ، وكذلك التزكية تترتب في الوجود على التلاوة ... والفرعان الأولان هما مدار هذا الكتاب؛ إذ يتحدث الأول عن التلاوة، والاخر عن تعليم الكتاب تلاوة وكتابة ... وبذلك تعلم ألفاظ القران الكريم. الثالث: وَيُزَكِّيهِمْ: التزكية هي التطهير والزكاة النماء والزيادة فيكون معنى قوله جل جلاله وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الشرك بالله، وعبادة الأوثان، ودنس الكفر والذنوب، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله» ، فالتطهير إنما يكون باتباعهم إياه، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم «6» ، فيحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد __________ (1) انظر: القرطبي (18/ 92) ، مرجع سابق. (2) التيسير في علوم التفسير (ص 29) . (3) وانظر: الطبري (4/ 163) ، مرجع سابق. (4) انظر: روح المعاني (28/ 93) ، مرجع سابق. (5) انظر: الطبري (1/ 558) ، مرجع سابق. (6) انظر: الطبري 4/ 163، مرجع سابق. (1/26) ________________________________________ والأعمال «1» ، وبذلك «يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان» كما قاله ابن عباس «2» ، وبين ابن كثير- رحمه الله تعالى- الوسيلة العملية لأداء عملية التزكية بقوله: «يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم» «3» . ومعنى الاية إجمالا: «يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات، ويعلمهم القران، والحكمة وما يكمل به نفوسهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة» «4» . من حكم ترتيب هذه الفروع في المواضع الأربعة «5» : نلحظ أن التلاوة جاءت في الايات كلها في أول الفروع، ثم اختلف ترتيب الفرعين الاخرين حيث جاء التعليم للكتاب والحكمة أولا في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام في قوله عزّ وجلّ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 129) ، والدعاء من أساليب الطلب، وجاءت التزكية قبل التعليم في ايات الإخبار في الموضع الثاني من سورة (البقرة: 151) ، و (ال عمران: 16) ، و (الجمعة: 2) ، وقد تجلت من ذلك عدة حكم: 1- جاءت الفروع بهذه الهيئة في الترتيب مع أنها تعود لأمر واحد هو البلاغ المبين لأن المقام مقام تفصيل للنعم المطلوبة أو المرادة في العباد، ويدل على ذلك __________ (1) انظر: روح المعاني (28/ 93) ، مرجع سابق. (2) انظر: القرطبي (18/ 92) ، مرجع سابق. (3) ابن كثير (1/ 425) ، مرجع سابق. (4) تفسير أبي السعود (1/ 162) . (5) يسمى هذا العلم (علم توجيه متشابه الكتاب) ، وهو فن مستقل من علوم القران ... انظر: في الكتب المؤلفة فيه في مقدمة (السخاوي) علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي ت 643 هـ: كتاب هداية المرتاب وغاية الحفاظ والطلاب في تبيين متشابه الكتاب. (1/27) ________________________________________ قوله عزّ وجلّ: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: 151) فإن الموصول مع كونه عبارة عن الكتاب والحكمة قطعا قد عطف تعليمه على تعليمهما وما ذلك إلا لتفصيل فنون النعم في مقام يقتضيه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (هود: 58) عقب قوله تعالى نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا (هود: 58) «والمراد بعدم علمهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغير ذلك من طرق العلم لانحصار الطريق في الوحي» «1» . 2- رتّبت بهذا الشكل دلالة على ضرورتها وترتبها في الوجود، والمعلم البارز في الترتيب أن التلاوة جاءت أولا في كل الايات، وذلك لأنها أساس الفرعين الاخرين، إذ حقيقة التعليم للكتاب تلاوة متعدية بإقراء ألفاظه، وتحفيظها وتفهيمها ببيان أحكامه للاخرين، وقد كان معظم تبليغه وكلامه صلّى الله عليه وسلّم تلاوة القران لا يزيد عليه إلا الأقل منه، ويدل على أن ذلك هو أساس وظائفه قوله عزّ وجلّ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ (النمل: 91- 92) . 3- وجاءت وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ثانية في الدعاء: لأنها صفة أخرى مترتبة في الوجود على التلاوة، وأخر التزكية لأنها عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة «2» . 4- ويمكن النظر إلى الحكمة في الترتيب في كل سورة على حدة بالنظر إلى طبيعة وصف المخاطبين أو المتكلم عليهم: فلما كان ظاهر دعوته عليه السّلام أن البعث __________ (1) انظر: تفسير أبي المسعود (1/ 178) ، روح المعاني (28/ 93) ، مرجعان سابقان. (2) تفسير أبي السعود (1/ 178) ، مرجع سابق. (1/28) ________________________________________ لأمة مسلمة كانوا إلى تعليم ما ذكر أحوج منهم إلى التزكية؛ فإن أصلها موجود بالإسلام، فأخر قوله وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهر قلوبهم بما أوتي من دقائق الحكمة فترتقي بصفائها ولطفها من ذروة الدين إلى محل يؤمن عليها فيه من أن ترتد على أدبارها، وتحرف كتابها كما فعل من تقدمها، والتزكية اكتساب الزكاة بما هو لها بمنزلة الغذاء للجسم، «ولما ذكر سبحانه في سورة الجمعة بعثه في الأميين عامة اقتضى المقام تقديم التزكية التي رأسها البراءة من الشرك الأكبر ليقبلوا ما جاءهم من العلم، وأما تقديمها في ال عمران مع ذكر البعث للمؤمنين فلاقتضاء الحال بالمعاتبة على الإقبال على الغنائم الذي كان سبب الهزيمة لكونها إقبالا على الدنيا التي هي أم الأدناس» «1» . 5- ومن حكم الترتيب أن التلاوة عامة لجميع الناس، والتزكية خاصة بمن استجاب للايات فامن بها، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعض المؤمنين «2» . 6- وفي هذا الترتيب يظهر لنا الفرق في عملية تعليم القران (علم القراءة) عن عملية تعليم الأحكام، فعلم القراءة طريقه (التلقي) الذي تشير إليه لفظة يَتْلُوا، وعلم الأحكام أعم من التلقي فقد يكون بالاستنباط مثلا كما تشير إليه لفظة وَيُعَلِّمُهُمُ فرتب «التعليم على التلاوة كما هو الواقع لأن التلاوة أول ما يقرع السمع، والتعليم الذي هو التفهم بعده» «3» . __________ (1) (البقاعي) برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي ت 885 هـ: نظم الدرر في تناسب الايات والسور. (2) أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/ 185) إلى شيء يشبه هذا مع خلاف في جزئية من الفكرة. (3) (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكرت 911 هـ: قطف الأزهار في كشف الأسرار، تحقيق د. أحمد بن محمد الحمادي، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر، 1414 هـ- 1994 م. (1/29) ________________________________________ 7- ومن الحكم الظاهرة لهذا الترتيب: أن التلاوة للقران يجب أن تكون عامة للناس، وعامة في مجتمع المؤمنين ظاهرة لا يكون أحد من المؤمنين في المجتمع إلا سامعا أو قائما بها ... بالقدر الذي يجعل هجران القران المذكور في قول جل جلاله: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30) ، منتف عنه.. أما التعليم للكتاب تعليما تفصيليا دقيقا ففرض كفاية يقوم به بعض المؤمنين عن المجتمع كله. وهذا يقتضي منهجيا من الدولة المسلمة: العمل على إشاعة القران بالوسائل الإعلامية والتوجيهية المختلفة، ومواكبة تطور العصر في هذا السبيل. علاقة البلاغ بالتلاوة والتعليم: تقدم أن البلاغ هو الوصف المجمل لوظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويزاد هنا توضيح ذلك: فالبلاغ هو غاية التلاوة وهو باعث التعليم كما في قوله تعالى بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (المائدة: 67) ، ولا يبلغه إلا إذا تلاه، ولا بد من الإبانة في محاور البلاغ الثلاثة: التلاوة، والتعليم، والتزكية ... وهذا البلاغ ينبغي أن يبقى متواصلا لكل الأجيال القادمة كما في قوله- تعالى ذكره-: «لأنذركم به ومن بلغ» ، فاقتضى هذا أمورا من حيث العملية التعليمية لألفاظ القران الكريم: بقاء تلاوته بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ليحدث البلاغ. أن تكون تلاوته بالطريقة ذاتها التي تلاه بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث أداء اللفظ الخارجي ومن حيث أداؤه الداخلي، وإن لم يكن هذا فما بلغت رسالة الله إلى العالمين. أن يعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم صحابته طريقة تلاوته للقران الكريم وحفظه وأدائه ليتم ذلك البلاغ المتواصل، وأن يعلمهم صلّى الله عليه وسلّم طريقة التعليم ليعلموا من بعدهم حتى يبقى البلاغ متصلا. (1/30) ________________________________________ .. وبذا مضى خليل الله الأكرم صلّى الله عليه وسلّم معلم الناس أكرم كلام ... وخير هدي ونظام ... مضى يجذب القلوب إليه وهو يجري من فمه الطاهر الزكي عسلا مصفى ... يتلو ... ولتلاوته مذاق لم يتغير طعمه أبد الدهر ... فأنى عن حبه يبتعد اللاهون؟ وبمن غيره تستشفي نظرات المتيمين؟ قلبي- وحبّك للقلوب شفاء- ... بهواك يخفق، والهوى استهداء يا من بعثت مسددا ومؤيدا ... و «محمدا» ، وزكت بك الالاء الوحي وحي الله أنت مكانه ... وبيانه، وصراطه الوضاء قرانه يهدي لأقوم منهج ... في العالمين، وايه غراء (1/31) ________________________________________ المبحث الثاني: وظيفة التلاوة: لما كانت تلاوة ألفاظ القران الكريم هي أساس الوظائف الاخرى ... فإن هذا يقتضي التوسع في شرح مفهوم التلاوة، وبيان أهميته، وحيزه الواقعي من وظيفة البلاغ ... ولتحقيق ذلك انقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب: المطلب الأول: مدلول التلاوة: المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم: والمراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟. المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة والتعليم. المطلب الرابع: قيامه صلّى الله عليه وسلّم بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق. المطلب الأول: مدلول التلاوة: اقترن هذا اللفظ (التلاوة) دون غيره من الألفاظ بقراءة القران الكريم لما له من دلالات تجعله دون غيره المعبر عن مراد الله عزّ وجلّ من القراءة، وأهم مدلولين لهذا اللفظ: أولا: التلاوة تعني القراءة: فتلوت القران تلاوة: قرأته، ومن ذلك قول الله جل جلاله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها (ال عمران: 93) «1» ، وعمّ به بعضهم كل كلام؛ كما في قوله جل جلاله: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (الصافات: 3) سواء كانوا هم الملائكة، أو غيرهم ممن يتلو ذكر الله تعالى، وكما في قوله سبحانه وتعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ (البقرة: 102) ؛ قال عطاء: على ما تحدّث __________ (1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 510) . (1/32) ________________________________________ وتقصّ، وقيل: ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب الله أي: يقرؤه ويتكلم به، ثم صارت التلاوة حقيقة عرفية في قراءة القران الكريم، وقد تكون قراءة لغيره لكن في النادر وعند التقييد بذلك «1» . وسميت القراءة تلاوة لأن الايات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر، والتلو التبع «2» ، كما قال الثعالبي: «يقرؤنه حق قراءته، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال» «3» ، «فاستعملت التلاوة في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه» «4» ، وفي قوله سبحانه وتعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ (يونس: 30) ، قرأ حمزة والكسائي تتلو «من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار» «5» ، والتلاوة بمعنى القراءة من أعظم خصائص القران الكريم فالكتب المتقدمة لا يجب فيها هذه التلاوة «6» . ثانيا: الاتباع: إذ «التاء واللام والواو أصل واحد، وهو الإتباع. يقال: تلوته إذا تبعته» «7» . __________ (1) انظر: التبيان في تفسير غريب القران (ص 351) . (2) التبيان في غريب القران (ص 82) ، مرجع سابق. (3) (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القران (1/ 104) ، دار القلم، بيروت. (4) انظر: القرطبي 1/ 369، مرجع سابق. (5) تفسير البيضاوي المسمى بأنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/ 195) . (6) (القاضي عبد الجبار) قاضي القضاة عماد الدين أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد ت 415 هـ: تنزيه القران عن المطاعن، طبعت على نفقة: محمد سعيد الرافع- صاحب المكتبة الأزهرية- ط 1 1329 هـ- طبعت بمطبعة الجمالية بمصر. (7) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181) ، مرجع سابق. (1/33) ________________________________________ والمراد بالاتباع هنا أمران: أ- الاتباع اللفظي: بأن يتبع اللفظ اللفظ في قراءة القران الكريم على هيئة مخصوصة، فسميت قراءة القران تلاوة لأته يتبع اية بعد اية «1» ، ومنه جاءت الخيل تتاليا أي متتابعة «2» . ب- الاتباع العملي: ومنه تلا إذا اتّبع «3» فعلى قارئ القران يتبع في قراءته ما أنزله الله عز وجل، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبع ذلك إذا قرأه عليه جبريل عليه السّلام، ويقال: كان يتلو كتاب الله؛ هو الذي يقرؤه ويعمل بما فيه، فيكون تابعا له، والقران يكون سائقا له وقائدا «4» ، ومنه (فإذا قرأناه فاتبع قرانه) ، ويوضح ذلك قوله جل جلاله: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ (البقرة: 44) ففيه توبيخ عظيم لمن فهم، وتتلون تقرؤن الكتاب التوراة وكذا من فعل فعلهم وكان مثلهم، وفلان يتلو فلانا أي: يحكيه ويتبع فعله «5» ، واتباعه هنا يكون بامتثال الأمر والنهي، وروى سفيان الثوري في تفسيره عن أبي رزين في قوله سبحانه وتعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121) قال: «يتبعونه حق اتباعه، ويعملون به حق عمله» ، وقال قتادة: «هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم آمنوا بكتاب الله، وعملوا بما فيه» «6» . __________ (1) انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 181) ، مرجع سابق. (2) مختار الصحاح (ص 23) ، لسان العرب (14/ 102) . (3) لسان العرب (14/ 102) ، مرجع سابق. (4) انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 91) ، مرجع سابق. (5) انظر: لسان العرب (14/ 104) ، مرجع سابق. (6) فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 510) ، مرجع سابق. (1/34) ________________________________________ وأما قول الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ (البقرة: 121) فشامل للمعنيين «1» ؛ إذ معناه يقرأونه حق قراءته ... ويعملون بما فيه فيتّبعونه حقّ اتّباعه «2» كما قال الغزالي: «وتلاوة القران حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار، والائتمار. فاللسان يرتل، والعقل يترجم، والقلب يتعظ» «3» . ثالثا: أن تكون القراءة في التلاوة على هيئة مغنّاة مخصوصة أي مرتلة ترتيلا مع التغني، ف «العرب تسمي المراسل في الغناء والعمل المتالي، والمتالي الذي يراسل المغنّي بصوت رفيع؛ قال الأخطل: صلت الجبين كأنّ رجع صهيله ... زجر المحاول، أو غناء متال» «4» كما تظهر المحاكاة في التلاوة ومحاولة التقليد المقطعي والتنغيمي، ومنه قولهم: فلان يتلو فلانا أي يحكيه ويتبع فعله «5» . __________ (1) الصحيح أنه يجوز إرادة المعنيين بعبارة واحدة، وقد وضع الأصوليين بناء على ذلك أصولا، واستخرجوا للألفاظ دلالات، أشار المفسرون لذلك، وقد عقد الراغب الأصفهاني فصلا بعنوان: (فصل في جواز المعنيين المختلفين بعبارة واحدة) انظر: مقدمة التفسير (ص 425) . (2) انظر: (السخاوي) علم الدين علي بن محمد ت 643 هـ: جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 91) ، مرجع سابق. (3) (الغزالي) أبو حامد محمد بن محمد ت 505 هـ: إحياء علوم الدين (1/ 287) ، دار المعرفة، بيروت. (4) لسان العرب (14/ 102) ، مرجع سابق. (5) انظر: لسان العرب (10/ 104) ، مرجع سابق. (1/35) ________________________________________ العلاقة بين التلاوة والقراءة: مما سبق يتبين أن العلاقة بين التلاوة القراءة علاقة عموم وخصوص وجهي، فكل منهما خاصة من وجه عامة من وجه اخر، فالتلاوة خاصة من الناحية العرفية بقراءة القران الكريم أو ما يماثله من الكتب المنزلة، عامة من حيث ضرورة اجتماع الاتباع اللفظي مع المعنوي، والقراءة عامة من حيث شمولها لكل مقروء كتابا منزلا أو غيره، خاصة في الأمر النظري دون المعنوي، وعلى هذا ينزل قول الراغب: «التلاوة الاتباع، وهي تقع بالجسم تارة، وتارة بالاقتداء في الحكم، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى، والتلاوة في عرف الشرع تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بامتثال ما فيه من أمر ونهي، وهي أعم من القراءة فكل قراءة تلاوة من غير عكس» «1» . المطلب الثاني: علاقة التلاوة بالتعليم: والمراد هنا هل التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها؟ وما خصائصها الدالة على ذلك؟. التلاوة وظيفة تعليمية: وذلك لأن مجرد إلقاء اللفظ القراني يتضمن الإشارة إلى السامع أن يؤمن به ويتعلمه من حيث هو قران، ويدعم هذه الحقيقة الواقعية من الناحية الشرعية قوله جل جلاله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها (الإسراء: 110) كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القران، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القران حتى يأخذوه عنك» » ، وفي هذا إيضاح لطبيعة الوظيفة التعليمية لألفاظ القران الكريم، وإصرار على تثبيتها في نفوس الملأ على أنها أساس وظائفه، وجوهر تبليغه. __________ (1) (الراغب) أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ت 502 هـ: المفردات في غريب القران (ص 79) . (2) ابن كثير (3/ 70) ، مرجع سابق، والحديث في صحيح ابن خزيمة (3/ 39) . (1/36) ________________________________________ وإذا كان البلاغ أصل التعليم، فإن أول جزء في التعليم والبلاغ المبين هو إبانة لفظ القران الكريم تلاوة فردية على نفسه، ومتعدية بقراءته على الغير أو بتعليمه لهم. من خصائص التلاوة التعليمية للقران الكريم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم: 1- ألزم صلّى الله عليه وسلّم برفع صوته رفعا معتدلا تبين معه الايات حتى يستبين لسامعه مع سرية الدعوة أو اشتداد الأذى عليها فيؤخذ عنه، كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما. 2- التكرار لتلاوة ألفاظ القران الكريم: للناس عامة، ويدل له التكرار في الكلام على مواقف الكفار من القران الكريم، كما في قوله عزّ وجلّ: وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (الانشقاق: 21) ، وقوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت: 26) ، فقد كانوا يشتطون في محاولة صرف الناس عن سماع كلام الله بالاستهزاء والسخرية حتى كان ذلك مبررا كافيا لرد اعتدائهم بالقتل فقد روى ابن جرير أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله! أسيري؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه كان يقول في كتاب الله عزّ وجلّ ما يقول» فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله أسيري؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد: هذا الذي أردت. وفيه أنزلت هذه الاية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأنفال: 31) «1» . __________ (1) الطبري (9/ 231) ، مرجع سابق، ورواه أبو داود في المراسيل (ص 249) ، انظر: (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275 هـ: المراسيل، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1408 هـ. (1/37) ________________________________________ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر من تلاوة القران الكريم على من يبلغهم عامة، فيصل إلى شغاف من أراد الله بهم خيرا، ويحجب عن غفلة القلوب فكانوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (الكهف: 101) ف «لعداوتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلو عليهم» «1» . 3- نقله صلّى الله عليه وسلّم الوظيفة لأصحابه رضي الله عنهم تعبدا لجعل نطاق المستمعين أكثر: فقد قام الصحابة رضي الله عنهم بتلاوة القران الكريم على الناس منذ وقت مبكر فعن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة- وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج، ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك. فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه __________ (1) (الواحدي) أبو الحسن علي بن أحمد ت 468 هـ: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 673) ، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دار القلم- بيروت، ط 1، 1415 هـ. (1/38) ________________________________________ في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القران، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى بن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك وأرضى بجواز الله. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بمكة «1» . وهذا يدل على أن القراءة العامة كانت مذ كان الوحي، ولم تكن قاصرة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم. 4- زيادة التكرار على المؤمنين، ليحفظوها ويعوها كما قال سبحانه وتعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ (الأنعام: 51) ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (ق: 45) مع أنه ينذر به إنذارا عاما كما في قوله جل جلاله: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف: 2) ، وكما في قوله عزّ وجلّ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (الرعد: 30) . __________ (1) . البخاري (2/ 803) ، مرجع سابق. (1/39) ________________________________________ 5- أمر بمداومة التلاوة والحرص عليها كما في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ (النمل: 91- 92) ، اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ (العنكبوت: 45) ، ف (اتل) هنا «أمر من التلاوة والدأب عليها» «1» . 6- كان يقرأ جميع القران في الصلاة وإن لم يرو حديثيا جزئيات تلك القراءة، لكن روي إجمالا ما يدل على ذلك فروى عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال: «ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤم بها الناس في الصلاة» «2» ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أنزل الله عزّ وجلّ على رسوله صلّى الله عليه وسلّم المفصل بمكة، فكنا حججا نقرؤه لا ينزل غيره «3» . وصف التلاوة في القران الكريم: تكرر وصف مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلاوة القران وحصرها في ذلك كما في قوله تعالى ذكره وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (القصص: 59) ، وعرف الصحابة أن هذه الوظيفة هي أساس وظائفه كما كان يؤديها بمقتضياتها كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع «4» __________ (1) القرطبي 13/ 347، مرجع سابق. (2) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 2/ 114. (3) سنن سعيد بن منصور 2/ 388، وإسناده قوي كما في التعليق على شرح مشكل الاثار 4/ 397. (4) البخاري 1/ 387 ابن كثير 3/ 460، مرجعان سابقان. (1/40) ________________________________________ ولا شك في المراد التعليمي مع القصد التعبدي المحض في هذه القراءة كما يقول (سير وليم موير) الذي نقل رأيه صاحب كتاب (حياة محمد) : «كان الوحي المقدس أساس أركان الإسلام، فكانت تلاوة ما تيسر منه جزا جوهريا من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضا وسنة يجزى من يؤديهما جزاء دينيا صالحا ... لذلك وعت القران ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعا. وقد يسرت عادات العرب هذا العمل. فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم ... ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم، وبذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو ... وقد بلغ بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوة الذاكرة ودقتها، ومن التعلق بحفظ القران واستذكاره حدا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه» «1» . ملامح تعليمية في حياة المعلم القدوة صلّى الله عليه وسلّم: 1- ظهر التأكيد على التلاوة في الايات المدنية، فالايات الأربع التي ذكرت فيها وظائف النبي صلّى الله عليه وسلّم الثلاث كلها في سور مدنية دلالة على أهمية إيلاء هذا الجانب أشد الاهتمام بعد تأمين الدولة الإسلامية، وليس معنى ذلك عدم الاستنفار لأداء هذه الوظيفة في عهد قبل ذلك بل المراد توسيع دائرة التعليم في هذا العهد، وابتكار محاضن فردية ومؤسسية له بحسب نمو المجتمع مدنيا، واتساعه جغرافيا، ولذا ورد المن بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما أرسل لأجل ذلك كما قال جل جلاله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ (البقرة: 151) . __________ (1) انظر: حياة محمد ليهكل بواسطة محمد طاهر عبد القادر الكردي المكي: تاريخ القران وغرائب رسمه وحكمه (ص 1) ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. (1/41) ________________________________________ 2- أن هذه الوظيفة وظيفة مشتركة بين جميع الأنبياء، على أنه قد تميز بها النبي صلّى الله عليه وسلّم تميزا ظاهرا لتميزه بالقران ثم بالخاتمية، وقد حدد هذه الوظيفة ابتداء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام «1» . 3- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تأهل بالصفات التعليمية اللازمة للمعلم الكامل القدوة (النموذج) ، وعرف الصحابة عنه ذلك، ومما يؤشر في هذا السبيل: ما قاله معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: «فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني» «2» ، والمراد الإشارة إلى هذا المعلم من صفاته صلّى الله عليه وسلّم لا التفصيل. 4- كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجعل ذلك أول شيء يجب أن يتعلمه العبد عند إسلامه، وإن كان مقدار المحفوظ المعلّم يتفاوت بحسب الأهلية للتصدر معلّما دائما للإقراء، أو مسلما يجب عليه حفظ ورد معين ... ويوضح ذلك ما رواه سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت فيمن أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الطائف، فخرجت من أهلي من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر فصاعدت في الجبل، ثم هبطت فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلمت، وعلمني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص: 1) وإِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (الزلزلة: 1) وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال: «هن الباقيات الصالحات وفي رواية قل يا أيها الكافرون» «3» . __________ (1) انظر: ابن كثير (1/ 184) ، مرجع سابق. (2) مسلم (1/ 381) ، مرجع سابق. (3) الطبراني في الكبير (6/ 51) ، الحديث في مجمع الزوائد (7/ 166) ، مرجع سابق، وانظر: الإصابة (3/ 49) . (1/42) ________________________________________ ويتضح مما سبق أن تعليم القران الكريم على الهيئة التي كانت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأعمال: وقد أثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الحقيقة بقوله: «خيركم من تعلم القران وعلمه» «1» ، ولا شك أن أول ما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتعليمه إنما كان تعليم ألفاظ القران الكريم كما في صريح تلك الايات المتقدمة، وهو أول جزء من أجزاء وظيفة البلاغ الذي أمر به في رسالته، وقد سئل الثوري- رحمه الله تعالى- عن الجهاد وإقراء القران فرجح الثاني واحتج بهذا الحديث. فإن اعترض على كون تعليم القران الكريم أفضل أنواع التعليم بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القران ويدعون الله، والاخرى يتعلمون ويعلّمون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ على خير: هؤلاء يقرؤون القران ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلّمون وإنما بعثت معلما» فجلس معهم «2» ، فدل هذا بظاهره على تقديم تعليم غير القران من أمور الشرع. فالجواب: ليس في الحديث ذكر لتعليم القران الكريم في الحلقة الأولى بل غاية ما فيه ذكر قراءتهم للقران لا تعليم ألفاظه، وليس هذا مدار المسألة، على أن ذكر التعليم في الحلقة الثانية منصرف أول ما ينصرف إلى تعليم القران الكريم، ولذا طلب الأوس والخزرج من يعلّمهم القران الكريم، كما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندما طلب منه إرسال من يعلم القبائل كان يرسل معهم القراء، ويحمل على هذا الرواية الاخرى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بمجلسين في __________ (1) البخاري (4/ 1919) ، ابن حبان (1/ 324) ، الترمذي (5/ 173) ، مراجع سابقة. (2) سنن ابن ماجه (1/ 83) . (1/43) ________________________________________ مسجده فقال: «كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه: أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم، ويعلّمون الجاهل، فهم أفضل وإنما بعثت معلما» قال: ثم جلس فيهم «1» ، وفي لفظ: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم المسجد وقوم يذكرون الله عزّ وجلّ، وقوم يتذاكرون الفقه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلا المجلسين إلى خير، أما الذين يذكرون الله عز وجل ويسألون ربهم فان شاء أعطاهم وان شاء منعهم، وهؤلاء يعلّمون الناس ويتعلمون، وإنما بعثت معلما وهذا أفضل» فقعد معهم «2» . وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على ذلك، وكانت له الحلقات الخاصة للقراءة والإقراء: كما في قول الله- تعالى ذكره-: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ (الكهف: 28) ، فقد قال بعض المفسرين فيها: «كان ذلك تعلّمهم القران وقراءته» «3» ، ويدل لهذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين، ورجل منا يقرأ علينا القران ويدعو لنا، وإن بعضنا لمستتر ببعض من العري وجهد الحال؛ إذ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء وجلس إلينا، فقال بيده، فاستدارت له حلقة القوم فقال: «ألم تكونوا ترادون حديثا بينكم» قالوا: بلى يا رسول الله صاحبنا يقرأ علينا القران ويدعو لنا. قال: «فعودوا في حديثكم» فقال الرجل: يا رسول الله اقرأ وأنت فينا؟ قال: «نعم» . ثم قال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن __________ (1) (الدارمي) أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن 255 هـ: سنن الدارمي (1/ 111) ، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407 هـ، دار الكتاب العربي- بيروت. (2) (الطيالسي) أبو داود سليمان بن داود الفارسي البصري ت 204 هـ: مسند الطيالسي (ص 298) ، دار المعرفة، بيروت. (3) الطبري (7/ 205) ، مرجع سابق. (1/44) ________________________________________ أصبر نفسي معهم» .. «1» .، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم، فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القران وجلس إليهم، فقال: «بهذا أرسلني ربي» ثم قام إلى الثانية فوجدهم يتكلمون في الحلال والحرام وجلس إليهم ولم يقل شيئا ثم قام إلى الثالثة فوجدهم يذكرون توحيد الله عز وجل ونفي الأشباه والأمثال عنه وجلس إليهم كثيرا ثم قال: «بهذا أمرني ربي» قال جابر: لأن التوحيد معرفة الله عز وجل، ومن لا يعرف توحيد الله فليس بمؤمن «2» . المطلب الثالث: المنهج المقرر للتلاوة والتعليم: بعد تقرير أن التلاوة وظيفة تعليمية في ذاتها ولكن للألفاظ فقط كالتعليم للكتاب الذي يزيد عليها في تفهيم المعاني لا بد من الكلام على المنهج الذي اختاره الله جل جلاله للبلاغ تلاوة وتعليما، وحدوده اللفظية «3» ، غير أننا نشير هنا إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم أصحابه عمومية القران وعدم جعله مادة خاصة، لا يعلمها إلا المتخصصون «4» : __________ (1) (الطبراني) مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ت 360 هـ: المعجم الأوسط (8/ 357) ، مراجعة: محمود الطحان، 1405- 1985، مكتبة المعارف- الرياض. (2) (الأزدي) الربيع بن جبيب بن عمر البصري: مسند الربيع (ص 32) ، تحقيق محمد إدريس وعاشور بن يوسف، دار الحكمة، بيروت، ط 1، 1415 هـ ... وإسناد هذا الحديث والذي قبله بحاجة إلى مزيد نظر. (3) انظر في مناقشة تعريف القران الكريم: تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم (ص 289) للمؤلف. (4) والحديث عن القران من حيث هو قران لا عن القراات. (1/45) ________________________________________ الحدود اللفظية للقران الكريم: كانت سور القران وآياته النازلة معلومة معروفة، ومن ثم فحدوده باتت بدهية عند جملة المسلمين، وسوره النازلة يتابعها كل مسلم يكون قريبا من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك للتالي: 1- لأنه مادة البلاغ الأساسية: فليس للنبي صلّى الله عليه وسلّم من همّ صباح مساء إلا تبليغه تلاوة وتعليما: بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم القران الكريم بخصوصه، وغيره من أنواع الوحي كالحديث النبوي تابع له إيضاحا وتفسيرا غالبا، فالقران هو أساس البلاغ كما هو منهاج التعليم فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول صلّى الله عليه وسلّم يعرض نفسه على النّاس في الموقف فقال ألا رجل يحملني إلى قومه فإنّ قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربّي «1» ، ولذا اشتد اهتمامه بإقراء القران: فهو وسيلة إنذاره وإبلاغه رسالته هي القران فبه ينطق، وبه يتكلم، وبه يخبر عن ماهية رسالته عندما يريد البيان، وبه يجادل، وبه يجاهد كما قال جل جلاله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19) ، فمن بلغه هذا القران من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له ولهذا قال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (هود: 17) ، ولا يكفرون به إلا بعد سماعه» «2» ، وهي في الدّلالة كقوله سبحانه وتعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1) فصارت المهمة في المقام الأول إبلاغ القران، ولما جادل عتبة بن ربيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعد جواب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قرأ صلّى الله عليه وسلّم على عتبة بن ربيعة أوائل سورة فصلت لما أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليه «3» . __________ (1) أحمد (3/ 390) ، الترمذي (5/ 184) وقال: «هذا حديث غريب صحيح» . (2) ابن كثير (1/ 3) ، مرجع سابق. (3) في حديث طويل أخرجه الحاكم (2/ 278) ، مرجع سابق، وصححه. (1/46) ________________________________________ وكما أن القران بلاغ فهو بيان لسائر المكلّفين من النّاس من عرف لغة العرب منهم ومن لم يعرف، «وإن كان من لا يعرف لغة العرب يحتاج إلى أن يعرف معناه بلغته وينقل إلى لسانه» كما في قوله سبحانه وتعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ (ال عمران: 138) ، وقال سبحانه وتعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (التكوير: 27) فلما كان يخبرهم عن القران إنما كان يخاطبهم به عنه حتى كأنه بدهية معروفة بينهم، يعلمونها، ويعلمون حدودها كما لو كانت أسماءهم «1» . ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلّم انقطع الوحي كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الان بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة» «2» ... وانقطاعه يعني كمال المنزل، وضرورة إبلاغه للعالمين، فالانقطاع دليل الكمال. 2- تكرير ذكره في مقام الإيصاء: ويتضح ذلك بذكره له في مقام الإيصاء ... فلا يوصيهم بمجهول فعن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أبشروا وأبشروا أليس تشهدون ألاإله إلا الله وأني رسول الله؟» قالوا: نعم قال: «فإن هذا القران سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا» «3» ، وعن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة، فحمد الله، __________ (1) أتى الباحث في هذا المقام باية مكية، واية مدنية اختصارا وللدلالة على المراد. (2) البخاري (2/ 934) ، مرجع سابق، ووردت مثل هذه العبارة عن أم أيمن فيما رواه مسلم (4/ 1907) . (3) ابن حبان بترتيب ابن بلبان (1/ 329) ، وصححه الألباني في: صحيح الجامع الصغير (1/ 69) . (1/47) ________________________________________ وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» (هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» «1» ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاءه فقال: أوصني فقال: «سألت عما سألت عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبلك» فقال: «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القران فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض» «2» . وهو عندما يوصيهم بذلك، ويكرر، ويؤكد ... أفتراه يوصيهم بمجهول، غير معلوم الماهية أو الحدود عندهم؟ وقد حصر وصيته بالكتاب الشريف، وأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» «3» ليدل على عمومه وشيوعه، وصيرورته من العلم العام بينهم، فمن لم يحفظه عرف ماهيته الجملية وحدوده العامة، بخلاف الحديث النبوي الذي لا يعلمه إلا الخاصة غالبا، وقد يعترض معترض هاهنا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القران فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ... » «4» ، فالحديث يدل على __________ (1) مسلم (4/ 1873) ، مرجع سابق. (2) مسند أحمد (3/ 82) ، مرجع سابق، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 498) ، مرجع سابق. (3) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 125) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 826) . (4) أبو داود (4/ 200) ، مرجع سابق. (1/48) ________________________________________ حجية السنة، وهذا صحيح وليس تقرير الباحث حول ذلك؛ إنما التقرير حول شيوع القران وصيرورته من العلم العام بين المسلمين وغيرهم، على أن هناك فرقا ضروريا بين علم القران وعلم الحديث أن القران محدود معلوم ومعروف يتردد في المحاريب أما الأحاديث فيعلمها الخاصة دون غيرهم. 3- القران هو معجزته التي قامت مقام العصا عند موسى عليه السّلام وأربت عليها، وقامت مقام إحياء الموتى عند عيسى عليه السّلام وأربت عليها ... لذاك لا يعرض على الناس مسلمهم وكافرهم إلا القران ... فصار شيوع العلم به، وبماهيته وحدوده كالعلم بهذه المعجزات ... وقد ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله امن عليه البشر وإنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» . 4- حديث القران عن نفسه حديث يدل على شدة ظهوره بين الناس، كما في قوله هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52) ، وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: 41- 42) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (الواقعة: 77- 78) وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) (الطور: 1- 3) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) (الشعراء: 196) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) (الأعلى: 18) ، وقال: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) (الزخرف: 1- 2) ، (الدخان: 1- 2) . وقال الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا (الأعراف: 204) وقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ __________ (1) البخاري (4/ 1905) ، مرجع سابق. (1/49) ________________________________________ قالُوا أَنْصِتُوا (الأحقاف: 29) . وقال الله سبحانه وتعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (الجن: 1- 2) . 5- تحديده كتابيا بشكل دقيق: حدد النبي صلّى الله عليه وسلّم القران الكريم مكتوبا على صورة دقيقة؛ فكان القران- كلام الله المنزل- محصورا معلوما معروفا لا يعتريه ريب ولا التباس عند المسلمين واليهود والنصارى وباقي العالمين، وهو الموجود بين الدفتين عندنا فيما عدا ما هو معلوم من أسماء السور، والتحزيب، وقد ورد تحديد هذا المنهج على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه بين دفتين قبل أن يجمع بين دفتين فقد قدم أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المقدس ليصلي فيه، فلما انصرف خرجوا معه ليشيعوه، فلما أرد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا أن أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلنا: هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، وفي لفظ: ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقلنا: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا؟ امنا بك واتبعناك. قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء؟ بلى قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا» » . __________ (1) مسند الروياني (2/ 513) ، الاحاد والمثاني (4/ 152) ، الطبراني في الكبير (4/ 23) . تنبيه: عظم الأجر لا يعني زيادة الفضل، إذ لا شك أن أجور من بعد الصحابة للصحابة مثلها إلى يوم القيامة كما ثبت في مسلم، فلا يبلغ أحد مد أحد الصحابة ولا نصيفه ... ولعل الأجر المذكور على احاد الأعمال لا على جملتها ... (1/50) ________________________________________ وترى النبي صلّى الله عليه وسلّم انتقل من ذكر الكتاب وتحديده بأنه بين لوحين إلى ذكر الإيمان به والعمل دلالة على ظهوره، ولا شك أن العمل به لا يكون إلا عن معرفته أي معرفة ما فيه. و (علم القران) هو المصطلح العلمي المعروف لعلوم القراات والتجويد عند السلف: فقد قال أهل العلم في تقسيم العلم: «العلوم الاعتقادية إما متعلقة بالنقل، أو فهم المنقول وتقريره وتشييده بالأدلة، أو استخراج الأحكام المستنبطة، فالنقل إن كان مما أتى به الرسول صلّى الله عليه وسلّم بواسطة الوحي فهو علم القران ... » «1» ، وقد يطلق على علم القران علم القراءة كما يكثر هذا الاصطلاح في كشف الظنون «2» . __________ (1) أبجد العلوم، الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم 1/ 98. تنبيه: استخدم الباحث هذا المصطلح العلمي- علم القران- بدلا من مصطلح علم القراءة لانصراف الذهن عند سماع هذا الأخير إلى علم القراات مع أن نقل القران يدخل فيه دخولا أوليا وانظر ورود مصطلح علم القران على ألسنة العلماء مثلا في: (الهروي) أبو عبيد القاسم بن سلام ت 224 هـ: غريب الحديث (2/ 12) ، تحقيق: د. محمد عبد المعيدخان، دار الكتاب العربي، بيروت، 1396 هـ، وكذلك في: (ابن الجوزي) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي إبن عبيد الله بن حمادي بن أحمد بن جعفر ت 597 هـ: غريب الحديث (2/ 37) ، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1985 م، لسان العرب (9/ 41) ، مرجع سابق، وفي (11/ 130) قال ابن منظور تعليقا على حديث «إن من العلم جهلا» : «قيل وهو أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل ويدع ما يحتاج إليه في دينه من علم القران والسنة» ، وانظر: (ابن النديم) محمد بن إسحاق أبو الفرج ت 385 هـ: الفهرست (1/ 128، 1/ 326) ، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ- 1978 م، وتكرر هذا المصطلح في أبجد العلوم كثيرا، انظر: (2/ 52، 2/ 106، 2/ 303 ... ) ، مرجع سابق. (2) انظر: كشف الظنون (1/ 11، 1/ 15، 3/ 1317) ، مرجع سابق. (1/51) ________________________________________ ويتضح أن (علم القران) هو أساس بقية العلوم: في تقديم التلاوة على تعليم الكتاب والحكمة، فقد تكرر بذلك تعليم القران في التلاوة ثم في تعليم الكتاب لأن تعليم ألفاظ القران تدخل في ذلك دخولا أوليا، فهو أساس وظائف النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالتلاوة أساس التعليم، والتعليم أساس التزكية كما في قوله عزّ وجلّ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى إذ كان المطلوب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقرئ ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وكان علم نقل اللفظ القراني أساس العلوم الشرعية الاخرى وعليها تأسس بناؤها ثم شمخ واشمخر، فالألفاظ أساس التفسير، والمباني أوعية المعاني، ولذا عرفوا علم التفسير بما يفيد شمول نقل علم اللفظ القراني: فقالوا: «هو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام الله سبحانه وتعالى من حيث الدلالة على مراد الله تعالى» «1» ، ففي كل ذلك يكون علم القران في مقدمات مصادر علم التفسير. وكون الإقراء هو الأساس بالنسبة إلى تعليم العلوم الاخرى: مما عرفه السلف فقد سئل ابن محيريز عن مسألة فقال للسائل: ما تصنع بالمسائل؟ قال: لولا المسائل لذهب العلم قال: لا تقل ذهب العلم، إنّه لا يذهب العلم ما قرئ القران ولكن لو قلت يذهب الفقه، وعن الوليد بن مسلم قال: كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثا قال: يا غلام! قرأت القران؟ فإن قال: نعم قال: اقرأ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (النساء: 11) ، وإن قال: لا! قال: اذهب تعلم القران قبل أن تطلب العلم، وعن أبى هشام الرفاعي يقول: كان يحيى بن يمان إذا جاءه غلام أمرد استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف فإن قرأه حدّثه وإلا لم يحدثه «2» . __________ (1) انظر: كشف الظنون (1/ 427) ، مرجع سابق. (2) الجامع لأخلاق الراوي واداب السامع (1/ 80) . (1/52) ________________________________________ ومجالس العلم التي كان يحييها الصحابة رضي الله عنهم تنصرف في الغالب للإقراء: وغيره يأتي تبعا فقد قال بعض أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القران فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك.. «1» .، وعن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يقرئنا يجلسنا حلقا حلقا عليه ثوبان أبيضان، فإذا قرأ هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) (العلق: 1) قال: «هذه الاية أول سورة أنزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم» «2» . ومن ناحية عقلية: فقد اجتمعت ثلاثة أمور توجب في الضرورة العقلية البدء بتعليم ألفاظ القران الكريم، وصرف الأوقات إليه: أحدها «من جهة الموضوع فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة. وثانيها من جهة الغرض فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى. وثالثها من جهة شدة الحاجة فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى» «3» ولأن ألفاظ القران الكريم تكون حقيقة (القران) وماهيته، فهي أول العلم بكتاب الله ودينه مما يجعل تحديده يظهر ظهورا عاما على مستويين إجمالي، وتفصيلي. __________ (1) أحمد (1/ 398) ، مرجع سابق. (2) مجمع الزوائد (7/ 139) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» . (3) أبجد العلوم (1/ 175) ، مرجع سابق. (1/53) ________________________________________ من جهة أخرى: تنقسم العلوم الشرعية إلى نقلية وعقلية «وأصناف العلوم النقلية كثيرة؛ لأن المكلف يجب عليه أن يعلم أحكام الله سبحانه وتعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق، فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا، وهذه هي علوم أداء الألفاظ القرانية من تلقين وتجويد وإقراء. ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء به من عند الله سبحانه وتعالى واختلاف روايات القراء في قراءته وهو علم القراات ... » «1» . تعريف القران (المنهج التعليمي) : وعلى هذا فكتاب الله سبحانه هو كلامه، وهو القران الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعترض على هذا بأن البعض قد ذهبوا إلى أن الكتاب غير القران، إذ هذا القول على غرابة فلسفته عن الدين، فهو مخالف لصريح القران الكريم؛ إذ يقول الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (الأحقاف: 29- 30) ، وقال فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (الجن: 1) فأخبر الله تعالى أنهم استمعوا القران وسموه قرانا وكتابا، وقال تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف: 1- 3) سماه قرانا وكتابا وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين وهو «ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلا متواترا، وقيدناه بالمصحف __________ (1) وانظر: كشف الظنون (1/ 40) ، مرجع سابق، والكلام مأخوذ منه بتصرف وتغيير بما يوافق رؤية الباحث. (1/54) ________________________________________ لأن الصحابة رضي الله عنهم بالغوا في نقله وتجريده عما سواه حتى كرهوا التعاشير والنقط كيلا يختلط بغيره فنعلم أن المكتوب في المصحف هو القران وما خرج عنه فليس منه؛ إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي عل حفظ القران أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه» «1» ، واحد أول القران واخره من بدهيات الإسلام، فالقران هو الكتاب، وهو قول الله، وهو «الذي أجمع المسلمون عليه من السور والايات في القران» «2» . المطلب الرابع: قيامه بوظيفة تعليم القران على أوسع نطاق: تقدمت الإشارة إلى أن التلاوة وظيفة تعليمية بحد ذاتها، أضيف لها وظيفة التعليم التفصيلي للكتاب والحكمة ... فصار ملخص ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما بعث معلما وهو ما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا» «3» ... ولذا قام بوظيفة تلاوة الكتاب وتعليمه على أوسع نطاق: تلاوته صلّى الله عليه وسلّم على المشركين: أما تلاوته صلّى الله عليه وسلّم القران على المشركين، فمن مؤشراته ما تقدم من ايات وأحاديث، وقد قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة النجم على أهل مكة مسلمهم وكافرهم، فسجد فيها وسجد من معه «4» ... __________ (1) (ابن قدامة) موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي ت 620 هـ: روضة الناظر وجنة المناظر (2/ 62) ، مكتبة المعارف- الرياض. (2) (الجويني) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي إمام الحرمين ت 478 هـ: البرهان في أصول الفقه (1/ 366) ، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء، المنصورة- مصر، 1418 هـ، ط 4. (3) مسلم 2/ 1104، مرجع سابق. (4) البخاري 1/ 363، مرجع سابق. (1/55) ________________________________________ تعليمه صلّى الله عليه وسلّم القران للمسلمين: وأما إقراؤه للمسلمين، فذلك دأبه ودينه، فكان يقرئ من استطاع من المسلمين بنفسه، وذلك ظاهر، وهو ما يشغل معظم يومه وليلته: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر بمجلسين في مسجده، فقال: «كلاهما على خير وأحدهما أفضل من صاحبه أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وان شاء منعهم واما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم ويعلمون الجاهل فهم أفضل وإنما بعثت معلما» قال ثم جلس فيهم «1» ، وقد سبق أن رأس التعليم الذي بعث له صلّى الله عليه وسلّم تعليم القران الكريم، وصرح النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك في قوله: «خيركم (وفي لفظ: إن أفضلكم) من تعلم القران وعلمه» «2» والتعليم ليس إلا الإقراء كما ثبت في الرواية الاخرى «خيركم من قرأ القران وأقرأه» «3» وكمثل تطبيقي على ذلك فإن سعد بن أبي وقاص روى أن رسول الله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خياركم من تعلم القران، وعلم القران» ثم قال الراوي عن سعد: فأخذ بيدي وأقعدني هذا المقعد أقري «4» . وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى أبو طلحة أم سليم وهي أم أنس فقال: عندك يا أم سليم شىء؟ فإني مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع ... الحديث «5» . __________ (1) ابن ماجه (1/ 83) ، الدارمي (1/ 111) ، مرجعان سابقان. (2) البخاري (4/ 1919) ، مرجع سابق. (3) الطبراني في الكبير (10/ 161) عن ابن مسعود. (4) سنن سعيد بن منصور (1/ 102) ، مرجع سابق، الدارمي (2/ 529) ، مرجع سابق. (5) الطبراني في الأوسط (3/ 267) ، مرجع سابق. (1/56) ________________________________________ وقد كان جبريل عليه السّلام يقرئه الايات فيقرئ أصحابه من فوره ولئن سألوه عن المعنى لأحرى أن يستوثقوا من اللفظ قبل المعنى ومن ذلك ما ذكره أبو سعيد الخدري: لما نزلت وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (الفجر: 23) تغير لون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرف في وجهه حتى أشتد على أصحابه ثم قال: أقرأني جبريل كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (الفجر: 21- 23) .. «1» .. وقد كان القراء والمقرئون أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضجة في المسجد يقرؤون القران ويقرئونه فقال: طوبى لهؤلاء! هؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» . إرساله صلّى الله عليه وسلّم المقرئين لتأدية الوظيفة: من لم يستطع صلّى الله عليه وسلّم أن يقرئه أرسل إليه المعلمين للقران الكريم إلى مختلف الأصقاع كوظيفة أساسية في بدء نشر الإسلام في أي منطقة: فعن أبي موسى رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلّما النّاس القران «3» ، وإلى المدينة أرسل مصعب بن عميرو هو المقرئ الذي بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأنصار يقرئهم القران بالمدينة قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم معه خلق كثير «4» . __________ (1) انظر: القرطبي (20/ 55) . (2) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 214) . (3) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 256) . (4) الحاكم (3/ 728) ، مرجع سابق. (1/57) ________________________________________ وكذلك كان يفعل مع البلاد المفتوحة، ومن ذلك أنه لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة استخلف عليها عتاب بن أسيد يصلي بهم وخلف معاذا يقرئهم ويفقههم «1» . وعن أنس رضي الله عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا كتاب ربّنا والسّنّة قال فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي عبيدة فدفعه إليهم وقال: «هذا أمين هذه الأمّة» «2» ، ويعني باليمن هنا أهل نجران. داخل بيته صلّى الله عليه وسلّم: وقد قام بذلك خير قيام داخل بيته كما قام خارجه: فقد كان الوحي ينزل داخل بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقران يتلى كما قال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (الأحزاب: 34) ف آياتِ اللَّهِ القران ووَ الْحِكْمَةِ السنة «3» . تعيينه صلّى الله عليه وسلّم عرفاء الإقراء: وكان لضرورة إقرائه القران الكريم يدفع من قدم عليه إلى إمام من أئمة الإقراء فعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران، فدفع إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا، وكان معي في البيت أعشّيه عشاء أهل البيت فكنت أقرئه القران ... » «4» ، وهذا يدل أيضا على مقدار اعتناء الصحابة بحفظ القران الكريم، وتعلمه وتعليمه. __________ (1) سير أعلام النبلاء (1/ 447) . (2) الحاكم (3/ 299) ، مرجع سابق، وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بذكر القران» . (3) تفسير الجلالين (ص 554) ، دار الحديث، القاهرة، ط 1، وانظر: القرطبي (14/ 182) ، الطبري (22/ 9) . (4) أبو داود (3/ 265) ، الحاكم (3/ 401) ، أحمد (5/ 324) . (1/58) ________________________________________ إقراؤه صلّى الله عليه وسلّم للجن: حتى أقرأ الجن القران كما فعل مع الإنس فهو مرسل إلى الثقلين: فقد سئل علقمة تلميذ ابن مسعود: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا: إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم؟ فقال: «اتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القران» «1» ومعنى عدم حضوره الوارد في قوله: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووددت أني كنت معه «2» أي قربه مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في المكان ذاته. وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن داعي الجن جاءه فأمره الله بالإجابة كما في رواية لابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت الليلة أن أقرأ على الجن واقفا بالحجون» «3» . وقد اهتم الجن لذلك وفرحوا به حتى كادوا يكونون عليه لبدا فعن ابن عباس رضي الله عنه في الاية قال: «لما سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلو القران كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه ودنوا منه ... وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه فقالوا: لقومهم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ __________ (1) مسلم (1/ 332) ، مرجع سابق، وتتمته: قال: فانطلق بنا فأرانا اثارهم، واثار نيرانهم ... ) . (2) مسلم (1/ 333) ، مرجع سابق. (3) موارد الظمان إلى زوائد ابن حبان (1/ 438) . (1/59) ________________________________________ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (الجن: 19) » «1» ... ألا يكون الفرح في الإنس بكتاب الله أولى وأحرى. ولم تكن قراءته صلّى الله عليه وسلّم عليهم لمرة واحدة بل تكررت فعن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى اخرها فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي الاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» «2» ... فأين مردود الإنس- أخي- أين؟. أمره صلّى الله عليه وسلّم للصحابة رضي الله عنه ومن بعدهم بتعليم القران وتبليغ الاي: فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتعليم القران وحثنا عليه.. الحديث «3» ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عني ولو اية» » . وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرض بعضهم القران على بعض، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف.. «5» .. ونعى صلّى الله عليه وسلّم على قوم عدم قيامهم بواجب التعليم العام فكيف يذهب التصور بشأن التعليم القراني؟، فعن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال: __________ (1) تفسير الشوكاني (5/ 313) ، دار الفكر، بيروت ... وهذا على أحد التفسيرين الواردين في الاية، وانظر: مفاتح فهم القران (ص 573) . (2) الترمذي (5/ 399) . (3) وقال في مجمع الزوائد (7/ 159) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك وأثنى عليه هشيم خيرا وبقية رجاله ثقات» . (4) البخاري (3/ 1275) ، مرجع سابق، وتتمته: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» . (5) البخاري (6/ 2670) ، مرجع سابق. (1/60) ________________________________________ «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم؟ ولا يعلمونهم؟ ولا يفطنونهم؟ ولا يأمرونهم؟ ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم؟ ولا يتفقهون؟ ولا يتفطنون؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويفطنونهم، ويأمرونهم، وينهوهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتفطنون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا» . ثم نزل فدخل بيته، فقال قوم: من ترونه عني بهؤلاء؟ قالوا: نراه عنى الأشعريين، هم قوم فقهاء، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب، فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، ذكرت قوما بخير، وذكرتنا بشر، فما بالنا؟ فقال: «ليفقهن قوم جيرانهم، وليفطننهم، وليأمرنهم، ولينهونهم، ولتيعلمن قوم من جيرانهم، ويتفطنون، ويتفقهون، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا» فقالوا: «يا رسول الله أنفطن غيرنا؟» فأعاد قوله عليهم، فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا. فقالوا: «أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة ليفقهوهم، ويعلموهم، ويفطنوهم» . ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الاية: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (المائدة: 78- 79) «1» . __________ (1) الحديث قال فيه الألباني: «ضعيف ... » ، انظر: (الألباني) محمد ناصر الدين: أحاديث المزارعة والمؤاجرة والرد على المفترين على الصحابة والتابعين والعلماء (ص 41) ضمن كتاب البرهان في رد البهتان والعدوان، وانظر: عبد الفتاح أبو غدة: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم (ص 15) ، وقد (1/61) ________________________________________ [حثه ص تعليم الأجيال الناشئة القرآن الكريم أولا] وكان صلّى الله عليه وسلّم يحث على أن تعلّم الأجيال الناشئة القران الكريم أول ما تعلّم: فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعته يقول: «تعلموا البقرة ... وإن القران يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك فيقول: أنا صاحبك القران الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان: عم كسينا هذا فيقال: بأخذ ولد كما القران، ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» الحديث «1» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجيء القران يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني أنا الذي كنت أسهر ليلك وأظمئ هواجرك وإن كل تاجر من وراء تجارته وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا وما فيها فيقولان يا رب أنى لنا هذا فيقال لهما بتعليم ولد كما القران» «2» . __________ قال في تخريجه: قال الحافظ ابن السكن: «إسناد هذا الحديث صالح» كما نقله في «كنز العمال» (3: 685) ، وقال الحافظ المنذري: رواه الطبراني في «الكبير» ، وقال الحافظ الهيثمي: «وفيه بكير بن معروف» ، قال البخاري: أرم به، ووثقه أحمد في رواية، وضعفه في أخرى، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به فعلى هذا يكون سند الحديث ضعيفا إن لم نعتد بالرواية عن أحمد في توثيقه، وإن اعتددنا بها فهو حديث حسن أو يقارب الحسن. وهذا الذي جزم به الحافظ المنذري في «الترغيب والترهيب» فإنه أورده بلفظ «عن علقمة ... » الرسول المعلم (ص 17) . (1) الحاكم (1/ 756) ، الدارمي (2/ 543) ، مرجعان سابقان. (2) روى الدارمي نحوه 2/ 543، أحمد 5/ 348. (1/62) ________________________________________ وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قال سبحان الله العظيم نبت له غرس في الجنة، ومن قرأ القران فأكمله وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا هو أحسن من ضوء الشمس في بيوت من بيوت الدنيا لو كانت فيه فما ظنكم بالذي عمل به» «1» ، وعن أبي هريرة يبلغ به النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من رجل يعلم ولده القران في الدنيا إلا توج أبوه يوم القيامة بتاج في الجنة يعرفه به أهل الجنة بتعليم ولده القران في الدنيا» «2» . والأحاديث يعضد بعضها بعضا، وهي تدل بدلالة الإشارة على الحض الشديد للوالدين على تعليم أولادهم القران، وتحفيظهما إياه وما يستتبع ذلك من العمل به، وهذا يوحي بضرورة أن تكون مادة القران الكريم جزا مستقلا من التعليم العام والتعليم العالي، وأن تكون مادة ملزمة لسائر التخصصات، مع تفاوت الكمية المناسبة لكل بحسبه كلما أنتهي من جزء لفظي أو معنوي انتقل إلى غيره بحيث يبقى الجيل المسلم على صلة لا تنقطع بها. ولذلك كله كان تعلم القران بدهية في حياة الصحابة رضي الله عنهم حتى صار مقياسا لغيره كما قال عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض واللحن والسنة كما تعلمون القران «3» . __________ (1) أبو داود (2/ 170) ، مرجع سابق. (2) الطبراني في الأوسط (1/ 100) . (3) سنن البيهقي الكبرى (6/ 209) . (1/63) ________________________________________ من المقتضيات المنهجية التعليمية لذلك في خطط التنمية الأساسية في البلاد الإسلامية: 1- رسم خطط استراتيجية في مجالات التربية والتعليم والتوجيه والثقافية والعلاقات الخارجية تشمل كيفية تبليغ القران الكريم وتعليمه، والوصول إلى حد الاكتفاء من المتخصصين في جوانبه المختلفة، وفروعه الدقيقة. 2- متابعة بعث المتقنين من القراء إلى الافاق للتأكد من نشر القران ومعرفة الواجب منه على الأقل، ومن تسلسل المنهجية عند عمر رضي الله عنه في ذلك ما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه أنّه قال حين قدم البصرة: بعثني إليكم عمر بن الخطّاب أعلّمكم كتاب ربّكم، وسنّتكم، وأنظّف طرقكم «1» . 3- الاعتزاز والافتخار بوظيفة معلم القران الكريم، وعدم التصاغر من قبل القائم بها، وأن يقذف في وعي الأمة وإدراكها مقدار جلالة هذه الوظيفة، فتتغير النظرة السائدة الان على ضالة وظيفة معلم الصبيان. 4- أن تعطى هذه الوظيفة حقها من الرعاية والاهتمام سواء من حيث الرواتب الدائمة أو من حيث المحفزات المصاحبة، وحرصا عليها من الابتذال فيهتم بإعداد ملاكاتها التعليمية وفق بقية الصفات التي ستظهرها هذه الدراسة فتكون في مكانها اللائق. هذا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ... صارخ في برية التيه التي سيطرت على العالم: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ... أبلغه للصغير __________ (1) الدارمي (1/ 149) ، مرجع سابق، وفي مجمع الزوائد (5/ 213) ، مرجع سابق: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح» . (1/64) ________________________________________ والكبير، والإنس والجن، والرجال والنساء، والأعراب والأعاجم ... لم يترك تبليغ القول الثقيل في ليل أو نهار ... فذا ميراثه.. فأين هم ورثته؟ أين ورثته؟ ... لكنّ النور الذي نزل عليك قد عمّ انتشر ... يا رسول الله ... ف: كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء أمع الصبح للنجوم تجل ... أم مع الصبح للظلام بقاء وإذا ما تلا كتابا من الله ... تلته كتيبة خضراء حبذا عقد سؤدد وفخار ... أنت فيه اليتيمة العصماء (1/65) ________________________________________ المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه: وبعد ما تقدم لا بد من الخوض بشيء من التفصيل الفقهي في حكم تعليم القران وتعلمه وذلك في الجهتين اللتين تكونان الأمة، وهاتان الجهتان تشكلان مطلبين: المطلب الأول: على النبي صلّى الله عليه وسلّم. المطلب الثاني: على الأمة. المطلب الأول: حكم تعلم القران على النبي صلّى الله عليه وسلّم: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم معلما، وكان أول أدب قراني أدبه ربه سبحانه وتعالى به هو قوله جل جلاله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (العلق: 1) ، مع أنه ليس بقارئ ولا كاتب فيكون المراد بالقراءة التلاوة عن ظهر قلب ... وعلى هذا يكون تعلم القران الكريم وتعليمه جزا من حقيقة كونه نبيا، وهو يمثل ماهية رسالته ... فلا تتصور نبوته، ولا تتأتى حقيقة رسالته إلا بكونه متعلما للقران الكريم من جبريل عليه السّلام، معلما له للثقلين ... وهذا من أعظم أدلة وجوب حفظ القران عليه، والحفظ يشكل أرقى صور تعلم كتاب الله تعالى، ولذا اشتد حرصه صلّى الله عليه وسلّم على استظهار القران وحفظه أنه كان يحرك لسانه فيه في أشد حالات حرجه وشدته حتى قال الله عزّ وجلّ فقال له في سورة القيامة لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (القيامة: 16- 19) ، وقال جل جلاله له في سورة طه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) (طه: 114) ، «ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلّم أول جامع للقران في قلبه الشريف، وسيد الحفاظ في عصره المنيف، ومرجع المسلمين في كل ما يعنيهم من أمر القران (1/66) ________________________________________ وعلوم القران، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرؤه على الناس على مكث كما أمره مولاه وكان يحيي به الليل، ويزين الصلاة، وكان جبريل عليه السّلام يعارضه إياه في كل عام مرة وعارضه إياه في العام الأخير مرتين» «1» . وأما تفصيل ذلك فقد أشير إليه في كتاب تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم للمؤلف. المطلب الثاني: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه على الأمة: أول مسألة في هذا الموضوع تتعلق بحفظ القران: هل هو واجب على أمة النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ الجواب: نعم! والأدلة ذاتها الواردة على وجوب حفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ظهر قلب ترد هنا لعالمية الرسالة الزمانية والمكانية، والأمة هي التي تحمل هذه الرسالة بعده صلّى الله عليه وسلّم. [حقيقتان] وأما قوله سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: 9) ، وقوله جل جلاله لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ (الأنعام: 115) فخبر يدل على حقيقتين: 1- الحقيقة الخبرية: حيث تكفل الله سبحانه وتعالى بالحفظ لكتابه فلا مبدل لكلماته، فتكفل الله بحفظه أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقولون له- أيا كان-: الصواب كذا «2» ، وأما التوراة فقال الله جل جلاله عن أحبارها بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ (المائدة: 44) «فجعل حفظه إليهم فضاع» كما قال __________ (1) (الزرقاني) الشيخ محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القران (1/ 168) ، ط 3، 1943 هـ، دار إحياء الكتب العربية. (2) انظر: روح المعاني (14/ 16) ، مرجع سابق. (1/67) ________________________________________ سفيان بن عيينة «1» ، وأما القران فاستحفظه أهله مع تكفل الله بالحفظ، فإن يتول قوم من أهله عن ذلك استبدل الله بهم غيرهم، ولكن الاستحفاظ عام على الأمة جميعا، وهذا معنى ما قرره أهل العلم من أن جمع القران عن ظهر قلب فرض كفاية، مما سيأتي تفصيله بعد قليل- إن شاء الله تعالى-. 2- الحقيقة الإنشائية: حيث أمر الله جل جلاله عباده بأن يحاولوا التشرف بالدخول في الأدوات الواقعية التي يحفظ الله بها كتابه، ومن هذا الباب فعل الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهم في الجمع الأول للمصحف بعد زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفعل عثمان رضي الله عنه في الجمع الثاني، ولم يقولوا قد تكفل الله بحفظه فلا شأن لنا. وعلى هذا التقرير يكون «المختار أن حفظ القران وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز وجل، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله عنهم لجمعه» «2» . وتعلم القران الكريم وتعليمه على الأمة: أمران مجتمعان لا ينفكان؛ إذ الجامع بين تعلم القران وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل الخلق كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خيركم من تعلم القران وعلمه» «3» ، وهو من جملة من يدخل في قوله جل جلاله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 33) «والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم __________ (1) القرطبي (10/ 6) ، مرجع سابق. (2) روح المعاني (14/ 16) ، مرجع سابق. (3) البخاري (4/ 1919) ، ابن حبان (1/ 324) ، الترمذي (5/ 173) ، مراجع سابقة. (1/68) ________________________________________ القران، وهو أشرف الجميع وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال سبحانه وتعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها» «1» . وثاني مسألة: ما هو المقدار الواجب حفظه على الأمة من القران الكريم؟ والجواب: هذه المسألة ذات جهتين: الجهة الأولى: تعلم شيء من القران تؤدى به الصلوات: فهذا فرض عين إجماعا قطعيا عند الأمة، وهو أمران: سورة الفاتحة، ثم أي قدر من القران يجزئ بعدها، فقد قرر أئمة الفقه أنه « (يجب) أن يحفظ (منه) أي القران (ما يجب في الصّلاة) أي الفاتحة على المشهور، أو الفاتحة وسورة على مقابله» «2» ، ومن أهم المؤشرات في هذا الموضوع أنه لا يوجد أحد من الأمة يسقط عنه ذلك إلا العاجز الذي ورد في مثله حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني لا أحسن من القران شيئا فعلمني شيئا يجزئني منه، فقال: «قل سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر» قال: هذا لربي فما لي؟ قال: «قل اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني وعافني» «3» ، وقول الرجل (إني لا أحسن) معناه لا أستطيع التعلم كما في قوله في الرواية الاخرى: يا رسول الله إني لا أستطيع أن أتعلم القران فعلمني ما يجزئني من القران «4» حتى أوجب بعض العلماء على من لم يتعلم القران إلا بعد زمن أن يعيد جميع صلواته التي صلاها قبل تعلمه إن وجد للتعلم سبيلا قبل ذلك فلم يتعلم، ففي حلية العلماء: «واتسع الزمان له __________ (1) فتح الباري (9/ 76) ، مرجع سابق. (2) كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 429) ، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 500) . (3) ابن حبان (5/ 116) ، مرجع سابق. (4) صحيح ابن حبان (9/ 76) ، مرجع سابق، ابن خزيمة (1/ 273) ، مرجع سابق، أبو داود (1/ 220) ، مرجع سابق. (1/69) ________________________________________ ووجد من يعلمه فصلى بغير القراءة وجب عليه إعادة ما صلى إذا تعلم القران وفي قدر ما يعيده وجهان أصحهما أنه يعيد كل صلاة صلاها إلى أن تعلم» «1» ، كما أوجبوا على الحائض المتحيرة مراجعة القران خوف النسيان «2» ، وفي هذا قرر أهل العلم أن تعليم الواجب العيني من القران واجب عيني تحرم عليه الأجرة، واختلفوا فيما بعد ذلك. الجهة الثانية: تعلم ما فوق ذلك وتعليمه: ينبغي أن يشار هنا إلى أن مسألتي التعليم والتعلم مرتبطتان ارتباطا لا ينفك، فلا تفرد مسألة التعلم عن مسألة التعليم، وكل دليل لهذه هو دليل لأختها. والصورة العليا لهذه الجهة: أن يتعلم المرء جميع ألفاظ القران وأن يحيط بجوانبها اللفظية المختلفة، إذ «المقصود من التّعليم للقران أن يكون حفظا وإتقانا لقوانينه من إخفاء وإظهار ونحوهما وتعليم مخارج الحروف» «3» ، فقد علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا فرض كفاية على الأمة، ولكن ثم نوع من التلاوة التي تقتضي التعليم والتعلم هو واجب عيني على المكلفين وهو القراءة لأقل شيء لا يكون به القران مهجورا «4» ، ... وقرر ذلك السيوطي- رحمه الله تعالى- فقال: «اعلم أن حفظ القران فرض كفاية على الأمة صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما ... وتعليمه أيضا فرض كفاية» «5» وقال في كشف القناع: «وحفظه فرض كفاية __________ (1) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء (2/ 92) . (2) حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (التجريد لنفع العبيد) (1/ 140) ، المكتبة الإسلامية، ديار بكر- تركيا. (3) (أطفيش) محمد بن يوسف بن عيسى أطفيش: شرح النيل وشفاء العليل (في الفقه الأباضي) (1/ 354) . (4) وهل تكفي القراءة في الصلاة لئلا يكون القران مهجورا؟ فيه نظر. (5) الإتقان في علوم القران (1/ 264) . (1/70) ________________________________________ إجماعا» «1» ، وقال في حاشية البجيرمي: «تعلّم القران فرض كفاية بأن تحفظه على ظهر قلب» «2» ، وقرر الزركشي- رحمه الله تعالى- أنه «إذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القران أثموا بأسرهم» «3» ، وهذا الذي عناه ابن الجزري- رحمه الله تعالى- بقوله: «تعلم القراءة فرض كفاية فإن لم يكن من يصلح له إلا واحد تعين عليه، وأن كان جماعة يحصل المقصود ببعضهم فإن امتنعوا كلهم أثموا، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين» «4» ، ومن جملة شواهد تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم ذلك غير ما تقدم: 1- علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله سبحانه وتعالى يأمرهم بأن تكون حالة حفظ القران (تعلمه) وتعليمه هي صفتهم الدائمة كأمة في قوله سبحانه وتعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (ال عمران: 79) ، فقد قال الضحاك في هذه الاية: «لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القران جهده فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» «5» . 2- علمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله عزّ وجلّ يأمرهم بقراءة القران وذلك لا يكون دون تعليم وتعلم، وذلك في قوله جل جلاله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (المزمل: 20) ، فقد قيل في تأويلها: «إن المراد به قراءة القران في غير الصلاة» «6» ، والصحيح أن الأمر هنا فيه تفصيل فلا يقال بأنه للوجوب مطلقا ولا للاستحباب مطلقا بل هو للوجوب في حالتين: __________ (1) كشف القناع عن متن الإقناع (1/ 235) مرجع سابق. (2) حاشية البجيرمي على الخطيب في الفقه الشافعي (تحفة ****** على شرح الخطيب) (1/ 229) . (3) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (8/ 150) . (4) منجد المقرئين ومرشد الطالبين (ص 14) . (5) تفسير القرطبي (4/ 122) ، مرجع سابق. (6) تفسير القرطبي (19/ 58) ، مرجع سابق. (1/71) ________________________________________ الأولى: لأقل ما لا يطلق عليه هجرا للقران الكريم، وهذا في حق جميع الأمة. الثانية: وللوجوب له جميعا على من يؤدى بهم فرض الكفاية، وللاستحباب فيما عدا ذلك، وقد قيل بأنه للوجوب مطلقا لأن المراد قراءته ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه «لأن حفظ القران من القرب المستحبة دون الواجبة» «1» وهذا قريب من التفصيل المذكور إن لم يكن هو. وأما مقدار ما تضمنه هذا الأمر من القراءة فورد فيه خمسة أقوال: أحدها جميع القران لأن الله تعالى يسره على عباده قاله الضحاك، الثاني ثلث القران حكاه جويبر، الثالث مائتا اية قاله السدي الرابع مائة اية قاله ابن عباس الخامس ثلاث ايات كأقصر سورة قاله أبو خالد الكناني» «2» ، والظاهر أن القدر المطلوب هو ما لا يعد به عرفا هاجرا للقران، ولا مستهينا به، على أن الترك الذي يسمى هجرا لا يحتاج إلى استحضار نية، بل العمل فيه دليل عليه، وإن لم يقصد ... وسبب هذا الترجيح القرائن التي تتمثل بكل ما في هذا الكتاب من أدلة تبين عظمة القران ومكانته، وحرمة هجره. 3- وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان: 30) ، ومهجورا مفعول ثان أي صيروا القران مهجورا بإعراضهم عنه «3» بأن «تركوه وصدوا عنه وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «من تعلم القران وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني __________ (1) تفسير القرطبي (19/ 58) ، مرجع سابق. (2) تفسير القرطبي (19/ 58) ، مرجع سابق. (3) التبيان في إعراب القران (2/ 162) . (1/72) ________________________________________ وبينه» «1» ، فإن هجر القران أنواع ومنها: هجر تعلمه ثم تلاوته، وسماعه والإيمان به، والإصغاء إليه «2» . والاية توجب تعلم القران بطريق أسلوب الحكيم، حيث يظهر فيها التهديد على الهجر، وتسمية فاعله من المجرمين عند توضيح دعاء الرسول؛ إذ قال تعقيبا على دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي جاء بصيغة شكوى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ (الفرقان: 31) ، فبين أن من هجر القران فهو من أعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأن هذه العداوة أمر لابد منه ولا مفر عنه» «3» ، كما أن هذا الفعل فيه تشبه بالمشركين الذين هجروا القران وأعرضوا عنه ولم يسمعوا له فهم كما قال الله جل جلاله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ (الأنعام: 26) «4» ؛ ولذا جاء عن الأوزاعى قال: كان يعجبهم النظر في المصحف بعد القراءة هنيهة، قال بعضهم: وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم ايات يسيرة ولا يتركه مهجورا «5» . ملحوظة: يتضح من الدليلين السابقين أن حفظ القران أو النظر الدوري فيه ملزم لكل أفراد الأمة حتى لا يحدث الهجر له، وحتى يقرأ ما تيسر منه امتثالا للأمر الذي تكرر مرتين في اية واحدة هي الاية الأخيرة من سورة المزمل ... دلالة على التأكيد والأهمية مع إعلام الله عزّ وجلّ للقوم أنه يعلم تشتت أحوالهم الدنيوية، وعلى الرغم من ذلك فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، وهذا أمر عام لكل قطاعات الأمة يتطلب بذل الوسائل المتاحة لتعميم التعليم القراني. __________ (1) تفسير البيضاوي (4/ 215) ، مرجع سابق، والحديث المذكور ذكره البيضاوي ولم أعثر عليه. (2) وانظر: الفوائد (ص 82) . (3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (4/ 106) . (4) وانظر: الطبري (19/ 9) ، مرجع سابق. (5) انظر: (الزركشي) : البرهان في علوم القران (1/ 463) . (1/73) ________________________________________ 4- الأمر الصريح بتعلم كتاب الله سبحانه وتعالى، مع إجماع الأمة على أن الوجوب كفائي: ومن هذه الأوامر: قوله «تعلموا القران، واقرؤه (وفي لفظ: فاقرؤوه، وفي لفظ للترمذي: وأقرئوه «1» » ... ) فقوله (تعلموا القران) «أي لفظه ومعناه» «2» ، والفاء في قوله (فاقرأوه) كحرف العطف (ثم) في قوله سبحانه وتعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ (هود: 3) ، أي تعلموا القران، وداوموا تلاوته، والعمل بمقتضاه يدل عليه، والدلالة في الحديث تصريحا وتشبيها واضحة على الأمر بتعلم القران وتعليمه، وإنما تترتب تلاوته وقراءته على ذلك. 5- أن ذلك التعلم والتعليم هو حقيقة الرسالة النبوية لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، توجد بوجوده، وتنتفي بانتفائه.. وهو قد أرسل للعالمين نذيرا كما في قول الله سبحانه وتعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (الأنبياء: 107) ، والشيء الذي أمر بتبليغه والإنذار به هو القران كما في قوله جل جلاله: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان: 1) ، وما سبق من إيضاح لحقيقة وظيفة البلاغ للنبي صلّى الله عليه وسلّم يفصل هذا المعنى، ولأنه مات صلّى الله عليه وسلّم فلا يستطيع تجاوز حدود الزمان والمكان فإن أتباعه يدعون إلى سبيله قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: 108) ، وهذا يدل على وجوب تعلم القران عليهم وتعليمه، ولذا خص الاية بذكر البلاغ في قوله (بلغوا عني ولو اية) مع أنه قد يبلغ غيرها من الأحاديث مثلا، وقد سبق أن تبليغ القران هو الأصل كما في قول الله جل جلاله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: 19) ، وسمى الله جل جلاله القران بلاغا هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ (إبراهيم: 52) . __________ (1) الترمذي (5/ 156) ، مرجع سابق. (2) تحفة الأحوذي (8/ 150) ، مرجع سابق. (1/74) ________________________________________ 6- كل أصل عقدي، أو حكم فقهي، أو قاعدة شرعية ... يحتاج إلى القران، ويفتقر إليه، فأي دليل يساق على وجوب العلم، أو العمل بشيء من ذلك هو دليل على وجوب تعلم القران الكريم، وتعليمه، ولذا قال ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: «فإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على تعلم القران وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال» «1» . 7- أن ذلك من النصيحة المطلوبة لكتاب الله سبحانه وتعالى كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم» «2» ، كما قرر الطحاوي- رحمه الله تعالى-: «أنّ ذلك عندنا على تعليم كتابه ... » «3» . 8- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا القران وعلموه الناس ... » «4» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي بكرة نحوه «5» ورواه الدارقطني عن أبي سعيد أيضا ولكنه قال: «تعلموا العلم ... » بدلا من «القران» «6» ، وبقية الحديث مثل حديث ابن مسعود ... وهو يدل على ما هو معلوم من كون القران مصدر العلم والبصيرة والبيان. 9- وكتب معاوية إلى عبد الرحمن بن شبل أن علم الناس ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجمعهم فقال إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تعلموا القران __________ (1) ابن تيمية (24/ 316) ، مرجع سابق. (2) البخاري معلقا (1/ 30) ، مسلم (1/ 74) ، ابن حبان (10/ 435) ، الترمذي (4/ 324) ، مراجع سابقة. (3) (الطحاوي) أحمد بن محمد بن سلامة مشكل الاثار (2/ 300) ، دار الكتب العلمية. (4) رواه (النسائي) السنن الكبرى (4/ 63) . (5) الطبراني في الأوسط (4/ 237) ، مرجع سابق. (6) سنن الدارقطني (4/ 82) . (1/75) ________________________________________ فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به» فذكر الحديث «1» . وقد كثر في الأحاديث تكرار الأمر (تعلموا القران، تعلم كتاب الله ... ) ونكتفي بما سبق. معنى الكفائية في هذا الفرض: أي «هل يشترط في كلّ ناحية، تعلّم واحد أو لا بدّ من جمع بحيث يظهر حفّاظه، أو لا بدّ في كلّ بلد من ذلك؟» «2» ، بين أهل العلم أن معنى فرض الكفاية هنا «ألا ينقطع عدد التواتر فيه فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف، فإن قام بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقين وإلا أثم الكل، وتعليمه أيضا فرض كفاية» «3» ، بل ذكروا ضرورة الاحتياط بموت بعض هذا العدد أو نسيانهم؛ ومما قرروه هنا أنه ينبغي أن يكون حافظ القران كالقاضي والمفتي في لزوم وجودهما، وهذا مما يرفع من مكانة الحافظ، ويجعله شديد الاعتزاز بما عنده في غير غرور «4» . تفريعات على هذه المسألة: استنبط العلماء من الأدلة السابقة وأمثالها عدة أمور تعليمية في المنهجية النبوية في علم القراءة، منها: __________ (1) أحمد (3/ 428) ، شرح معاني الاثار (3/ 18) ، مرجعان سابقان وقال في مجمع الزوائد (4/ 95) ، مرجع سابق: «رواه أحمد وأبو يعلي باختصار والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات» ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (260) ، مرجع سابق، وانظر: لمحات الأنوار رقم (507) ، مرجع سابق. (2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 345) ، مرجع سابق. (3) الإتقان (1/ 264) ، مرجع سابق. (4) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/ 345) ، مرجع سابق. (1/76) ________________________________________ 1- قرروا أنه يجوز للحائض: «القراءة للتعلم لأن تعلم القران من فروض الكفايات وينبغي لها جواز مس المصحف وحمله إذا توقفت قراءتها عليهما» «1» . 2- أكدوا على تقديم حفظ القران على غيره من العلوم الكفائية فقد «سئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: أيّما طلب القران أو العلم أفضل؟ فأجاب: أمّا العلم الّذي يجب على الإنسان عينا كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدّم على حفظ ما لا يجب من القران، فإنّ طلب العلم الأوّل واجب، وطلب الثّاني مستحبّ، والواجب مقدّم على المستحبّ. وأمّا طلب حفظ القران: فهو مقدّم على كثير ممّا تسمّيه النّاس علما: وهو إمّا باطل، أو قليل النّفع، وهو أيضا مقدّم في التّعلّم في حقّ من يريد أن يتعلّم علم الدّين من الأصول والفروع، فإنّ المشروع في حقّ مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القران، فإنّه أصل علوم الدّين» «2» . 3- ولكن لابد للباحث أن يكرر أن المراد بحفظ القران هنا هو على المنهجية النبوية التي يقوم هذا البحث بتوضيحها لا على المنهجية السائدة من بتر المحفوظ عن معانيه أو العمل به على ما سيأتي تفصيله في الفصول القادمة- إن شاء الله تعالى-. 4- كما قرروا أن «تعلّم بواقي القران أفضل من صلاة التّطوّع» «3» . أثر ذلك في حياة الصحابة رضي الله عنهم: ما سبق وأمثاله- وهو كثير «يحفز الهمم ويحرك العزائم إلى حفظ القران، واستظهاره والمداومة على تلاوته» «4» فضلا عن تعلم شيء منه. __________ (1) انظر: حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (1/ 140) ، مرجع سابق. (2) الفتاوى الكبرى (1/ 212) . (3) بريقة محمودية (1/ 245) ، مرجع سابق. (4) مناهل العرفان (1/ 207) ، مرجع سابق. (1/77) ________________________________________ وكان تعلم القران هو الأصل، بل هو بدهية إسلامية في مجتمع المسلمين، ويظهر هذا من قول عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض واللحن والسنة كما تعلمون القران «1» ، فجعل تعلم القران هو الأصل الذي يتم بناء عليه القياس، فمن هنا هب الصحابة «هبة واحدة يحفظون القران ويفهمون القران ويعملون بالقران وينامون ويستيقظون على القران، نقرأ في القران الكريم قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (فاطر: 29- 30) ، فتأمل كيف قدم تلاوة القران على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة» «2» ، وكانوا يقلون من الحديث عن رسول الله رضي الله عنه، «وكأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك فإنه كان يحض على قلة التحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لوجهين أحدهما خشية الاشتغال عن تعلم القران» «3» . تسلسل المنهجية: وكان هذا هو منهج أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع تلاميذهم حثا على تعلم القران وتلاوته فقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «تعلموا القران، واتلوه، تؤجروا بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» «4» ، وعنه رضي الله عنه قال: «يا أيها الناس تعلموا القران فإن أحدكم لا يدري متى يخيل إليه» ، وأتى بمصحف قد زيّن بذهب فقال رضي الله عنه: «إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق» «5» . __________ (1) الدارمي (2/ 441) ، مرجع سابق، البيهقي في الكبرى (6/ 209) . (2) مناهل العرفان (1/ 205) ، مرجع سابق. (3) فتح الباري (13/ 243) ، مرجع سابق. (4) سعيد بن منصور في سننه (1/ 35) ، ابن أبي شيبة (6/ 118) ، مرجعان سابقان. (5) مصنف عبد الرزاق (4/ 323) . (1/78) ________________________________________ كما حث أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قراءة للقران يكون معها المرء غير هاجر لكتاب الله فقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «إذا فرغ الرجل من حاجته ثم رجع إلى أهله ليأت المصحف فليفتحه فليقرأ فيه فإن الله سيكتب له بكل حرف عشر حسنات أما أني لا أقول ألم ولكن الألف عشر واللام عشر والميم عشر» ، وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه» «1» . وبذا تتوافر أدوات الحفظ الواقعي المعجز للقران الكريم، وهذا جعل واحدا من المستشرقين المعاصرين يقول عن القران الكريم: «فبين أيدينا كتاب معاصر فريد في أصالته وفي سلامته لم يشك في صحته كما أنزل أي شك جدي، وهذا الكتاب هو القران، وهو اليوم كما كان يوم كتب لأول مرة تحت إشراف محمد، وعلى الرغم من أن الأفكار قد دونت في الرقاع وسعف النخل، والعظام في لحظات غريبة فالسور والايات الأصلية قد حفظت ... وهذا الكتاب ليس مجموعة أحاديث أو تقارير يفترض فيها أن محمدا قد قالها فهي نفس الايات التي أملاها بنفسه يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر خلال حياته ... والمهم هو أن القران هو العمل الوحيد الذي عاش أكثر من اثني عشر قرنا دون أن يبدل فيه، ولا يوجد شيء يمكن أن يقارن بهذا أدنى مقارنة في الديانة المسيحية» «2» . __________ (1) الحاكم (2/ 494) ، مرجع سابق. (2) هو المستشرق الأمريكي (ف. بودلي) . انظر: عماد الدين خليل (دكتور) : الإسلام والوجه الاخر للفكر الغربي (قراات) (ص 50) ، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م. (1/79) ________________________________________ الفصل الثاني: أصول تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه ألفاظ القران: يناقش هذا الفصل أصول تعليم اللفظ القراني عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي تقوم على أربعة محاور: تعليمهم كيف تعلم هو اللفظ القراني ليتم الاقتداء به في تلك الكيفية ما دامت في حدود الطاقة البشرية. والوسائل التي اعتمد عليها مكانا وأسلوبا وطريقة إدارة ليتم التعليم. ووسائل النشر لقيام هذا التعليم باتساع أفقي ورأسي. والقواعد التربوية الضرورية المصاحبة لتعليم اللفظ القراني. وبها تتضح الهيئة الإدارية للجامعة القرانية النبوية، كما تتضح بعض ملامح مفردات المنهج العلمي فيها ... فهذه محاور أربعة في أربعة مباحث ... وإليها تشد رحال أهل العزم من حملة القران ومقرئيه المصطفين الأخيار: (1/81) ________________________________________ المبحث الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية تعلمه لكلام الله القراني: وفيه ثلاثة مطالب: يبين هذا المبحث دقة ضبط النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم لما يتعلق بألفاظ القران الكريم كما يبين تعلم الصحابة رضي الله عنهم ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه علمهم كيف تلقى القران الكريم عن جبريل عليه السّلام عن الله عزّ وجلّ، ليقتدوا به في حدود قدرتهم البشرية، ولذا انقسم المبحث إلى ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية نزول ألفاظ القران وتلقيها. المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أماكن القراءة. المطلب الثالث: مقتضيات ذلك: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته لألفاظ القران الكريم. المطلب الأول: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية نزول ألفاظ القران وتلقيها: علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه رضي الله عنهم التفاصيل الدقيقة التي أحاطت بالنزول القراني من السماء إلى الأرض حيث بين لهم زمن النزول، ومدته، وسببه: فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «أنزل الله القران إلى السماء الدنيا (في رمضان) في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، أو أن يحدث منه في الأرض شيئا أحدثه» «1» ، ومثل هذا لا يقال بمحض الرأي فله حكم الرفع، فهو تعليم منه صلّى الله عليه وسلّم لأنه أضافه إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما هو مقرر في مواضعه «2» . __________ (1) الحاكم (2/ 240) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . (2) انظر في هذه المسألة في كتب أصول الحديث: مثل تدريب الراوي في تقريب النواوي (1/ 185) . (1/82) ________________________________________ وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم اليوم والشهر الذي نزل فيه القران، فالشهر كما في قوله عزّ وجلّ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) واليوم وصفا كما في قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (الدخان: 3) وقول الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) واليوم تاريخا كما في قول الله سبحانه وتعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ (الأنفال: 41) ، واليوم تحديدا كما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا قال له: يا رسول الله صوم يوم الاثنين؟ قال: «فيه ولدت، وفيه أنزل علي القران» «1» . وعلمهم صلّى الله عليه وسلّم متى يكثر النزول: فقد تتابع الوحي قبل وفاته مثلا، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه: «أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفي أكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله» «2» ، والمراد بالنسبة لما كان ينزل سابقا، فالأمر نسبي على ما هو معلوم. كما علمهم صلّى الله عليه وسلّم متى يقل كما في حديث عائشة: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «3» ، وعائشة رضي الله عنها لم تشهد ذلك، فيكون علمها بذلك عن تعليم تلقيني. وتعلموا أماكن النزول، وهو ما يسمى بعلم المكي والمدني، وهو علم مستقل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القران في ثلاثة أمكنة مكة والمدينة والشام» «4» ، ولعله يعني بالشام- إن صح الحديث- أطراف الجزيرة حيث تبوك ... كما ضبطوا الليلي والنهاري، والصيفي والشتائي «5» . __________ (1) مسلم (2/ 820) ، مرجع سابق. (2) مسلم (4/ 2312) ، مرجع سابق. (3) البخاري (4/ 1894) ، مرجع سابق. (4) مجمع الزوائد (7/ 157) ، مرجع سابق، وقال الهيثمي: «رواه الطبراني وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف» . (5) انظر تفاصيل ذلك في: الإتقان (1/ 65) ، مرجع سابق. (1/83) ________________________________________ وتعلموا كم بين نزول أول القران وبين اخره: فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: «فكان بين أوله واخره عشرين سنة» ، بل ضبطوا كيفية النزول في السماء، ومقدار النازل منه، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «فصل القران من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السّلام ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم [يتلوه] يرتله ترتيلا» قال سفيان: خمس ايات ونحوها «1» ، وتعلموا مدة نزوله في كل مكان نزل فيه: فعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القران وبالمدينة عشرا» «2» . وقد علمهم صلّى الله عليه وسلّم تفاصيل أدق من ذلك: بعضها علموها من القران مباشرة، وبعضها منه صلّى الله عليه وسلّم حتى ضبطوا هيئة النزول: من حيث كمية المنزل الجملي إلى السماء الدنيا، والمنزل التفصيلي إلى الأرض، وعلامات نزوله (سبب النزول) ، ومن ذلك- مثلا- ما جاء عن ابن عباس قال: «أنزل القران جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة» وقرأ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) الاية وفي رواية (فرّق في السنين) ، وفي أخرى: «وضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم» «3» ، وعنه في الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) قال: «أنزل القران جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ونزله جبريل عليه السّلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم بجواب كلام __________ (1) الحاكم (2/ 667) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وكذلك رواه الضياء في المختارة (10/ 154) ، مرجع سابق. (2) مسند الإمام الربيع بن حبيب (ص 284) . (3) فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 4) ، مرجع سابق. (1/84) ________________________________________ العباد وأعمالهم» «1» ، وعنه قال: نزل القران جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، وكان بموقع النجوم، وكان الله عزّ وجلّ ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضه في أثر بعض فقالوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً (الفرقان: 32) «2» . وعلمهم صلّى الله عليه وسلّم كيف علمه الله سبحانه وتعالى قراءة القران وإقرائه كما في قول الله جل جلاله: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (المزمل: 4) ، وقوله لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ (الإسراء: 106) «3» . وكان فقهاء الصحابة رضي الله عنهم يجمعون بين الأدلة وفق هذه القاعدة: فقد قال ابن عباس رضي الله عنه وسئل عن قوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) وقوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) وهو ينزل في غيره- فقال: «نزل به جبريل عليه السّلام جملة واحدة ثم كان ينزل منه في الشهور» «4» . وذكر الله عزّ وجلّ ذلك التنجيم في كتابه تعليما للصحابة رضي الله عنهم ثم لمن بعدهم في الإسراء والفرقان والواقعة، وقد صرح بذلك في الواقعة عدد من المفسرين «5» ، ويرجحه ذكر القران بعده وحفظه جملة في السماء «6» ، فقد جاء «عن عكرمة في قول الله عزّ وجلّ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (الواقعة: 75) قال: القران نزل جملة واحدة فوضع في مواقع النجوم فجعل جبريل عليه السّلام ينزل بالاية والايتين وقال غيره: بمواقع النجوم بمساقط نجوم القران كلها أوله واخره» ، ومن الحجة لهذا __________ (1) الطبراني في الكبير (12/ 32) ، مرجع سابق. (2) النسائي في الكبرى (6/ 519) ، مرجع سابق. (3) وانظر تفصيل ذلك في كتاب التلقي كاملا، مرجع سابق. (4) التمهيد (17/ 50) ، مرجع سابق. (5) أكد على ذكرها للخلاف الوارد في تفسير معنى المواقع، والظاهر ألا مانع من إرادة المعنيين. (6) ولا ينفي هذا المعنى الثاني. (1/85) ________________________________________ القول قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (الواقعة: 76- 77) . كمية المنزل: الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القران كان ينزل بحسب الحاجة خمس ايات وعشرا وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر ايات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر ايات من أول المؤمنون جملة، وصح نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (النساء: 95) ، واحدها وهي بعض اية، وكذا قوله جل جلاله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (التوبة: 28) نزلت بعد نزول أول الاية وذلك بعض اية، وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف عن عكرمة قال: «أنزل الله القران نجوما ثلاث ايات وأربع ايات وخمس ايات» «1» . وكل هذا تعليم منه صلّى الله عليه وسلّم لكيفية نزول ايات القران عليه. تعليمه صلّى الله عليه وسلّم كيفية تلقيه للقران: وتم تعليمهم هذا النوع تعليما تفصيليا، وقد بحث في رسالة ماجستير تحت عنوان تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم فيرجع إليه «2» ، وقد قالت أم سلمة: كان جبريل عليه السّلام يملي على النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، أي يلقنه الحروف تلقينا بطيئا كهيئة المملي، وكما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلقى من جبريل الحرف بعد الحرف، كذلك كان الصحابة منه صلّى الله عليه وسلّم. والحكمة الواضحة من هذا كله متابعة التعلم على هيئة متدرجة تمكّن أكبر قدر منهم على حفظ المنزل الجديد من القران. __________ (1) الإتقان (1/ 123) ، مرجع سابق. (2) تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم، مرجع سابق. (3) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 197) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (7/ 157) ، مرجع سابق. (1/86) ________________________________________ تسلسل المنهجية: وكذلك كان من بعدهم عنهم فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: «قرأت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه القران كثيرا، وأمسكت عليه المصحف فقرأ علي، وأقرأت الحسن والحسين حتى قرا عليّ القران، وكانا يدرسان على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فربما أخذ على الحرف بعد الحرف» «1» . المطلب الثاني: تعليمه صلّى الله عليه وسلّم أماكن القراءة: مكان القراءة الأساس هو المسجد فهو المقر الرئيس للجامعة النبوية القرانية، فعن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما ونحن في الصّفّة، فقال: «أيّكم يحبّ أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي كلّ يوم بناقتين كوماوين زهراوين فيأخذهما في غير إثم ولا قطع رحم؟ قال: قلنا: كلّنا يا رسول الله يحبّ ذلك قال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلّم ايتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهنّ من الإبل» «2» . وكان يحثهم على لزوم المسجد لذلك حثا شديدا: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من قوم يجتمعون في بيت من بيوت الله عزّ وجلّ يقرؤن ويتعلّمون كتاب الله عزّ وجلّ يتدارسونه بينهم إلا حفّت بهم الملائكة، وغشيتهم الرّحمة، وذكرهم الله فيمن عنده ... » «3» ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم أن ذلك جزء من وظيفة المسجد: فقد قال صلّى الله عليه وسلّم لهم معلما: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة، __________ (1) كتاب السبعة في القراات (ص 68) . (2) مسلم (1/ 552) ، مرجع سابق. (3) مسلم (4/ 2074) ، مرجع سابق. (1/87) ________________________________________ وقراءة القران ... » الحديث «1» ، وهذا يقتضي منهجيا: أن تقوم خطط المؤسسات القرانية الرسمية وغيرها على جعل المسجد هو المكان النموذجي للإقراء، وفي حالة التوسع لا مانع من جعل دور القران دائرة حول المسجد أو ملتصقة به بطريقة أو بأخرى. هل الإقراء منحصر في المسجد؟: وكون المسجد هو المكان النموذجي لتعلم القران وتعليمه، لا يمنع ذلك من قراءة القران في أي مكان، وعلى أي حال، ويدل على ذلك حديث عبد الله ابن مغافل رضي الله عنه حيث قال: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع» «2» ، ففيه دليل على «ملازمته صلّى الله عليه وسلّم للعبادة لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة» «3» ، وقد بوب البخاري لذلك: «باب القراءة على الدابة» «4» أي لراكبها، «وكأنه أشار إلى الرد على من كره ذلك» ، وقال ابن بطال: «إنما أراد بهذه الترجمة أن في القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة قوله سبحانه وتعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ (الزخرف: 13) » «5» ، فالأمر واسع في اتخاذ أماكن الإقراء، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن البيت الذي يقرأ فيه القران يكثر خيره والبيت الذي لا يقرأ فيه القران يقل خيره» «6» ، فالأصل أن كل مكان __________ (1) مسلم (1/ 236) ، مرجع سابق. (2) البخاري (4/ 1925) ، مرجع سابق. (3) فتح الباري (9/ 92) ، مرجع سابق. (4) البخاري (4/ 1921) ، مرجع سابق. (5) فتح الباري (9/ 83) ، مرجع سابق. (6) عبد الرزاق (3/ 369) ، وله شواهد أخرجها صاحب لمحات الأنوار (1/ 280) ، برقم (353) وما بعده، مرجع سابق. (1/88) ________________________________________ صالح لقراءة القران وإقرائه كما أن الأرض جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مسجدا وطهورا إلا ما ورد النص بالمنع من الصلاة فيه، فيمنع فيه من قراءة القران كذلك. هل المسجد مناسب لتعليم الصبيان القراءة؟: ولا يرد على هذا التقرير تعليم الصبيان وما قد يجره من مفاسد تلويث المسجد والضوضاء والتشويش على المصلين؛ إذ قد يمنع من ذلك لعارض لا لذات الأمر، وقد سئل ابن تيمية: هل تعليم القران بالمسجد من حيث هو حرام أم لا؟ فأجاب: إقراء القران في المسجد قربة عظيمة ففي الحديث الصّحيح «إنّما بنيت المساجد لذكر الله والصّلاة وقراءة القران» قال تعالى: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (النور: 36) وهذا عامّ في إقراء البالغين وغيرهم بشرطهم الاتي، وأمّا ما راه مالك من كراهة القراءة في المصحف في المسجد، وأنّه بدعة أحدثها الحجّاج، وأن يقاموا إذا اجتمعوا للقراءة يوم الخميس أو غيره فهو رأي انفرد به ومن ثمّ قال الزّركشيّ: «هذا استحسان لا دليل عليه، والّذي عليه السّلف والخلف استحباب ذلك لما فيه من تعميرها بالذّكر وقراءة القران للحديث الصّحيح، أي الّذي قدّمناه هذا كلّه حيث كان المتعلّمون مميّزين يؤمن منهم تنجيس المسجد وتقذيره وعدم التّشويش على المصلّين، فإن كان فيهم غير مميّزين لا يؤمن تنجيسهم أو تقذيرهم له حرم على المعلّم إدخالهم وعلى الحاكم- وفّقه الله وسدّده- زجره وردعه عن إدخاله مثل هؤلاء، وكذلك عليه نهيه أيضا عن رفع الصّوت لإقامة صلاة فيه، والحاصل أنّه لا يجوز إخراجه من المسجد بالكلّيّة لأجل ذلك من أوّل وهلة، وإنّما يمنع أوّلا من تمكينه من تنجيس المسجد أو تقذيره بمن يدخل إليه فيه ... » «1» . __________ (1) الفتاوى الكبرى (1/ 345) ، مرجع سابق. (1/89) ________________________________________ المقاعد: وقد كان صلى الله عليه وسلم يجلس ليتلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي من جبريل عليه السّلام في المسجد في مكان يدعى بمقاعد جبريل عليه السّلام فعن عائشة: أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص صلّى الله عليه وسلّم أرسل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد.. «1» .. وعن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه جبريل عليه السّلام جالس في المقاعد، فسلمت عليه، ثم أجزت فلما رجعت وانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل رأيت الذي كان معي» قلت: نعم! قال: «فإنه جبريل وقد رد عليك السلام» «2» . والمقاعد هي الدكاكين «3» التي كانت عند باب دار عثمان كانوا يجلسون عليها فسميت المقاعد «4» . __________ (1) مسلم (2/ 688) ، مرجع سابق. (2) رواه أحمد (5/ 433) ، مرجع سابق، ورواه الطبراني في الكبير (3/ 227) مرسلا، مرجع سابق، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 313) ، مرجع سابق: «ورجاله ثقات» ، وقال ابن حجر في الإصابة (1/ 618) : «وروى أحمد والطبراني من طريق الزهري أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة عن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه جبرائيل جالس في المقاعد، فسلمت عليه فلما رجعت قال: «هل رأيت الذي كان معي» قلت: نعم! قال: «فإنه جبريل وقد رد عليك السلام» وقال ابن حجر تعقيبا: «إسناده صحيح أيضا» ، انظر: (ابن حجر) أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي ت 852 هـ: الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 618) ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ- 1992 م.. (3) الدّكّان هو الذي يقعد عليه أي الدكة المبنية ... والدّكّان أيضا واحد الدّكاكين وهي الحوانيت فارسي معرب. انظر: مختار الصحاح (ص 87) ، النهاية (2/ 128) مرجعان سابقان. (4) التمهيد (22/ 213) ، مرجع سابق. (1/90) ________________________________________ وهي مصاطب حول المسجد «1» ، فهذه المقاعد عرفت بمقاعد جبريل عليه السّلام، وقد صرّح بذلك فيما رواه أنس رضي الله عنه قال: «صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الظهر يوما ثم انطلق حتى قعد على المقاعد التي كان يأتيه عليها جبريل فجاء بلال فناداه بالعصر» «2» . وهذا يدل على أن التعلم يمكن أن يكون حول المسجد ملتصقا به على هيئة دور التحفيظ اليوم ... وهذه الأماكن بمثابة قاعات الكليات التي يتمم فيها ما قد يفوت في المسجد. المطلب الثالث: إلزامهم الاقتداء به في هيئة تلاوته للفظ القراني: والدليل الكلي الجامع لهذا: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب: 21) ؛ إذ إن معنى أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها» «3» ، ويدخل في ذلك تلاوته لألفاظ القران الكريم أصلا وأداء ف «الأسوة القدوة، والأسوة ما يتأسى به أي يقتدى به في جميع أفعاله، ويتعزى به في جميع أحواله» «4» ، وعلى رأس ذلك تلاوة القران الكريم، وعلى هذا فالاية «عامة في __________ (1) (الزرقاني) محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ت 1122 هـ: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (1/ 98) ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ، وهي- جمعا بين الأحاديث- غير الحجارة أو الدرج أو الدكاكين التي بقرب دار عثمان، وفي كل الأحوال فهي مواضع جرت العادة بالقعود فيها. (2) مسند أحمد (3/ 139) ، مرجع سابق، وتتمته: «فقام كل من كان له بالمدينة أهل يقضي الحاجة ويصيب من الوضوء، وبقى رجال من المهاجرين ليس لهم أهالي بالمدينة فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدح أروح فيه ماء فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفه في الإناء فما وسع الإناء كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلها فقال بهؤلاء الأربع في الإناء ثم قال: «ادنوا فتوضؤوا» ويده في الإناء فتوضؤوا حتى ما بقى منهم أحد إلا توضأ قال قلت: يا أبا حمزة! كم تراهم؟ قال: بين السبعين والثمانين» . (3) البيضاوي (4/ 368) ، مرجع سابق. (4) القرطبي (14/ 155) ، مرجع سابق. (1/91) ________________________________________ كل أفعاله صلّى الله عليه وسلّم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته» «1» ، وبذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون بها في جميع أحوالهم، فقد قال بعض أصحاب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما له: رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها؟ فقال: يا ابن أخي صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها، ويقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «2» ، وعن ابن عمر أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ فقال: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطاف بالبيت، وصلّى خلف المقام ركعتين، وسعى بين الصفا والمروة» ثم قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» ... وإنما كان هذا الاستطراد في وجه الدلالة لئلا يقول قائل بأن السياق هنا يخصص المنساق ... كما ترد هنا جميع أدلة الاقتداء نحو فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (الأنعام: 90) . حكمة تعليمه صلّى الله عليه وسلّم لهم ما سبق: وإنما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم بما ذكر في القران، وبما يخبرهم به من حديثه الشريف عن كيفية تلقيه للفظ القران الكريم لأجل أن يقتدوا به في تلاوة القران الكريم وجمع ألفاظه تعلما وتعليما فيما كان في حدود طاقتهم البشرية ... وزاد عن ذلك بما كان يصنعه في حلقات الإقراء التي كان يؤدي فيها درسا يوميا لإقرائهم القران، بالإضافة إلى عرضه اليومي لشيء من القران في ست ركعات جهرية يومية من صلاته حيث كان إمامهم، فلا بد لهم من الاقتداء به في أركان الصلاة وهيئاتها التفصيلية، وكذلك في تلاوة لفظ القران الكريم أصلا وأداء، ومما يوضح __________ (1) روح المعاني (21/ 167) ، مرجع سابق. (2) (أبو عوانة) يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني ت 316 هـ: مسند أبي عوانة (2/ 337) . (3) البخاري (1/ 154) ، مرجع سابق. (1/92) ________________________________________ ذلك أكثر ما جاء عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى امرأة: «انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا، أكلم الناس عليها» ، فعمل هذه الثلاث الدرجات عندما أمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة، ولقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عليه فكبر، وكبر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقرى، حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من اخر صلاته ثم أقبل على الناس، فقال: «يا ايها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي» «1» . التقعيد على ذلك: تأدية اللفظ كما سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم: ولقد كان من أهم القواعد التعليمية المصاحبة لعملية الإقراء: تأدية اللفظ كما سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا (فحفظه حتى يبلغه غيره) فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع، (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) » «2» ، ولا شك أن مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله (حديثا) يتسع ليتضمن القران أولا، أو ليدخل من باب قياس الأولى كما قال الله عزّ وجلّ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ (الطور: 34) ، فسمى القران حديثا. وهذا الحديث بين أن من أهم الأهداف التعليمية التي أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تتحقق في الصحابة رضي الله عنهم: الحث على البلاغ لما يسمعه الصحابي من النبي صلّى الله عليه وسلّم. __________ (1) مسلم (1/ 386) ، مرجع سابق. (2) ابن حبان (1/ 268) ، مرجع سابق، وما بين القوسين عنده من رواية زيد بن ثابت. (1/93) ________________________________________ وأن يكون المبلّغ كما سمع منه صلّى الله عليه وسلّم، ولذ قال ابن حبان تبويبا لهذا الحديث: «ذكر البيان بأن هذا الفضل إنما يكون لمن أدى ما وصفنا كما سمعه سواء من غير تغيير ولا تبديل» «1» . فهذه الأدلة العامة في مسألة الاقتداء في أداء اللفظ القراني. ومن الأدلة الخاصة: قول علي رضي الله عنه: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم» «2» ، فهذا في أداء اللفظ، وويدل على الاقتداء به في الهيئة التي يكون عليها المرء عند أداء اللفظ ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي حاجته فيقرأ القران، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه- وربما قال- يحجزه عن القران شيء ليس الجنابة» «3» ، ومن أجل هذا الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم فقد ظهر تعليمه صلّى الله عليه وسلّم في تعليم الصحابة رضي الله عنهم من تلاميذه، وتميّز أساليبهم وهي انعكاس صحيح لأسلوبه، وما ذكر من أخبارهم في ذلك حجة على ما لم قيام ما لم يذكر. __________ (1) ابن حبان (1/ 271) ، مرجع سابق. (2) ابن حبان (3/ 21) ، مرجع سابق. (3) المختارة (2/ 215) ، أبو داود (1/ 59) ، البيهقي في سننه الكبرى (1/ 38) ، مراجع سابقة. (1/94) ________________________________________ المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي صلّى الله عليه وسلّم: يبين هذا المبحث وسائل التعليم القراني التي سلكها النبي صلّى الله عليه وسلّم مكانا وأسلوبا وطريقة إدارة ليتم التعليم، وهي ترجع إلى الحلقات القرانية، وإلى القراءة العامة (الجماعية) ، وإلى القراءة الفردية والإقراء الفردي، وإلى أسلوب التعلم الأساسي في ذلك هو التلقي، ويحاول المبحث تجلية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل من وسائل هذا التعليم تقسيمه إلى تعليم ملزم، وغير ملزم يشبه أن يكون ملزما، واستتبع هذا الكلام على أجرة التعليم؛ كما تحدث البحث عن ظهور التدرج في تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم ليتم الاستيعاب الكلي للقران الكريم، ولذا انقسم هذا المبحث إلى خمسة مطالب: المطلب الأول: الحلقات القرانية. المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة لألفاظ القران الكريم (التلقي) . المطلب الثالث: العرضة الأخيرة. المطلب الرابع: التعليم القراني العام. المطلب الخامس: التدرج في التعليم. (1/95) ________________________________________ المطلب الأول: الحلقات القرانية: الدلالة اللغوية للحلقة: الحلقة بالتسكين: كلّ شيء استدار كحلقة الحديد والفضّة والذهب، وكذلك هو في الناس، فالحلقة فيهم هي الجماعة من الناس مستديرون، وتحلّق القوم جلسوا حلقة حلقة «1» ، والجمع حلق وحلقات وحلق «2» . فيكون تعريف الحلقة من الناس: القوم الذين يجتمعون متراصين وذلك لاستفادة ما يلقيه شيخ الحلقة من العلوم، ويبثه من أحكام الشريعة، وتعليم الأمة ما ينفعهم في الدارين «3» . ثانيا: المدلول النفسي لهذا الاجتماع: ولهذا النوع من الاجتماع مدلول نفسي بين المناسبة يبيّن سبب انتقائها كوسيلة تعليمية أساسية؛ إذ إن الحلقة تضرب مثلا للقوم إذا كانوا مجتمعين مؤتلفين كلمتهم وأيديهم واحدة لا يطمع عدوّهم فيهم ولا ينال منهم، ولذا يقال للسلاح والحديد حلقة لمناعته وبأسه ... ورود (الحلقة) في الحديث بمعناها المصطلحي: وردت كلمة الحلقة بمعناها العرفي في كثير من الأحاديث ومن ذلك ما جاء عند البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة وجلس فيها، وأما الاخر فجلس خلفهم، وأما __________ (1) انظر: مختار الصحاح ص 65، مرجع سابق. (2) انظر: مختار الصحاح ص 65، مرجع سابق، لسان العرب (10/ 61) ، مرجع سابق. (3) انظر: عبد الرؤوف المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 120) ، وانظر: لسان العرب (10/ 61) ، مرجع سابق. (1/96) ________________________________________ الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟: أما أحدهم فأوى إلى الله فاواه الله، وأما الاخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الاخر فأعرض فأعرض الله عنه» «1» ، كما كان صلّى الله عليه وسلّم يحضهم على الاجتماع على تلاوة القران، وتدارسه بينهم، وتكوين حلقات جانبية، ولو كانت دون إشرافه عليهم: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « ... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» «2» . وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك فيجتمعون حلقا يذكرون الله جل جلاله أو يتدارسون القران: والقران أعظم الذكر فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله! قال: الله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك! قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقل عنه حديثا مني وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: «الله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك! قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل عليه السّلام فأخبرني أن الله عزّ وجلّ يباهي بكم الملائكة» «3» . __________ (1) البخاري (1/ 36) ، مسلم (4/ 1713) ، ابن حبان (1/ 286) ، الترمذي (5/ 73) ، مراجع سابقة. (2) مسلم (4/ 2074) ، الترمذي (4/ 34) ، الدارمي (2/ 340) ، أبو داود (4/ 287) ، النسائي في الكبرى (4/ 309) ، أحمد (2/ 252) ، مراجع سابقة. (3) مسلم (4/ 2075) ، مرجع سابق. (1/97) ________________________________________ الأحكام العامة للحلقات (النظم الإدارية المنظمة للحلقات القرانية) : صارت الحلقات العلمية التعليمية في المسجد مكانا تعليميا، ومرتعا تربويا له ادابه ونظمه التي أرشد لها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وباتت هذه النظم بمثابة لائحة تفصيلية، وتقنين دقيق للحلقات التعليمية، كما صار لها أحكامها المستقلة التي تنظم انعقادها، ووقته، وكيفيته، ومتى يجوز التعدد، ومتى يجتمعون في حلقة واحدة ... وهذا يدل على شيوع هذه الوسيلة التعليمية، واعتيادها، وصيرورتها جزا من النظام التعليمي العام، والأحكام التعليمية للحلقات هي: 1- اعتيادها وكونها جزا من النسيج التعليمي: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس جلس إليه أصحابه حلقا حلقا «1» ، وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحلقة إذ جاء رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى القوم.. «2» .، وكان رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم له بني صغير يأتيان النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن بنيّه هلك، فمنعه الحزن عليه أن يحضر الحلقة فلقيه النبي صلّى الله عليه وسلم فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك، فعزاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا فلان! أيما كان أحب إليك أن تمتاع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه ففتحه لك؟» قال: فقال: «يا نبي الله! لا بل يسبقني إلى أبواب الجنة أحب إلي» قال: «فذاك لك» قال: فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله! جعلني الله فداءك أهذا لهذا خاصة أو من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له؟ قال: «لا! بل من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له» «3» . __________ (1) البزار (8/ 249) . (2) ابن حبان (3/ 125) ، والحديث الأول في: المختارة (5/ 285) ، والنسائي في الكبرى (4/ 409) . (3) النسائي (4/ 118) ، البيهقي في الكبرى (4/ 59) ، مرجعان سابقان. (1/98) ________________________________________ 2- نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القعود وسط الحلقة: وهذا ينظّم الهيكل العام للحلقة كما يجمل منظرها: فقد قعد رجل وسط حلقة فقال حذيفة رضي الله عنه: «ملعون على لسان محمد أو لعن الله على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم من قعد وسط الحلقة» «1» ، وذلك لأنه إذا جلس في وسطها استدبر بعضهم بظهره فيؤذيهم بذلك فيسبّونه ويلعنونه «2» ... والنهي عن القعود وسط الحلقة يجعل منظرها العام شبيها إلى حد كبير بما يحاوله منظمو قاعات التعليم أو العرض بحيث يمكن للجميع مشاهدة مديري الحلقة. ويستثنى من ذلك أن يرى الإمام أو المعلم المصلحة في بقاء أحدهم وسط الحلقة: فعن واثلة ابن الأسقع رضي الله عنه قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في نفر من أصحابه فجلست وسط الحلقة» فقال بعضهم: يا واثلة! قم من هذا المجلس فإنا قد نهينا عنه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوا واثلة فإني أعلم بالذي أخرجه من منزله» قلت: «يا رسول الله! وما الذي أخرجني من منزلي؟» قال: «خرجت تسأل عن البر من الشك» قلت: «والذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره» قال: «فإن البر ما استقر في النفس واطمأن في القلب، والشك ما لم يستقر في النفس، ولم يطمئن إليه القلب، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون» «3» . __________ (1) الترمذي (5/ 90) ، وقال: «هذا حديث حسن صحيح، أحمد (5/ 384) . (2) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 426) . (3) (الطبراني) : مسند الشاميين (1/ 117) . (1/99) ________________________________________ 3- كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ينظم كيفية تحلقهم بنفسه في حلقات الإقراء وغيرها: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنت في حلقة من الأنصار، وإن بعضنا ليستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فنحن نسمع إلى كتاب الله؛ إذ وقف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقعد فينا ليعد نفسه معهم، فكفّ القاري، فقال: ما كنتم تقولون؟ فقلنا: «يا رسول الله! كان قارئ لنا يقرأ علينا كتاب الله» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، وحلق بها يومي إليهم أن تحلقوا، فاستدارت الحلقة.. «1» .. 4- نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التحلق قبل صلاة الجمعة: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البيع والابتياع، وأن ينشد الضوال، وعن تناشد الأشعار، وعن التحلق للحديث يوم الجمعة قبل الصلاة» يعني في المسجد «2» ، ولعل من حكم ذلك أن تكون «الجماعة كثيرة والمسجد صغيرا وكأن فيه منع المصلين عن الصلاة» «3» ، كذا ذكر البيهقي ولكن هذا عام في كل حلقة ... والظاهر أن المراد التهيؤ لخطبة الجمعة، والتفرغ قبلها للقران دون التشويش بمناقشة شيء قد يضر بخطبة الخطيب لقرب العهد فيبطلها عن دورها. وربما تكون الحلق كثيرة فيما يمكن فيه الاجتماع في حلقة واحدة، ولا يظهر لتعدد الحلق إلا التشويش: فعن جابر بن سمرة قال: دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن حلق متفرقون فقال: «مالي أراكم عزين؟» «4» أي في حلق متفرقة. __________ (1) أحمد (3/ 63) ، أبو يعلى (2/ 382) . (2) ابن خزيمة (2/ 275) ، أبو داود (1/ 283) ، النسائي في الكبرى (1/ 262) ، النسائي في الصغرى (2/ 47) ، الطبراني في الأوسط (6/ 358) . (3) البيهقي في الكبرى (3/ 234) ، مرجع سابق. (4) مسلم (1/ 322) ، ابن حبان (4/ 534) ، المسند المستخرج على مسلم (2/ 54) ، أبو عوانة في مسنده (1/ 419) . (1/100) ________________________________________ 5- حق من كان في الحلقة في حماية مكانه، والعودة إليه إذا خرج لعارض قريب: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به» «1» ، ولو وضع ما يدل على رجوعه فهو أولى فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس وجلسنا حوله، فقام فأراد الرجوع نزع نعليه أو بعض ما يكون عليه فيعرف ذلك أصحابه فيثبتون «2» . 6- حق أصحاب الحلقة في حماية حلقتهم فلهم رد من يريد السير من وسط الحلقة: فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا حمى إلا في ثلاث ثلاثة: البئر ومربط الفرس وحلقة القوم» «3» ، أي لهم أن يحموها حتى لا يتخطّاهم أحد ولا يجلس وسطها «4» ... وهل يدل هذا على ما يسمى في عصرنا الحرم الجامعي؟ فيه نظر، ولكن لا شك أن لمكان كالجامعة حماها الخاص بها. 7- وكانوا يجلسون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم متحلقين معه حلقة دون حلقة: أي كأنهم صفوف دائرية مرتبة بعضها خلف بعض على وجه لا يحجب المتأخر فيها بالمتقدم كما في القاعات الكبيرة اليوم، ولذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم، ففي حديث إسلام كعب ابن زهير الشاعر: « ... ثم دخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه مكان المائدة من __________ (1) البيهقي في الكبرى (6/ 151) ، مرجع سابق. (2) البيهقي الكبرى (6/ 151) ، مرجع سابق. (3) ابن أبي شيبة (4/ 389) ، وبعض الأحاديث وإن لم تثبت فهي مما تناقله أهل العلم من اداب الحلقات. (4) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 426) ، مرجع سابق. (1/101) ________________________________________ القوم متحلقون معه حلقة دون حلقة يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم ... » «1» . ولكن هذا التنظيم ليس توقيفيا بل يسلك المنظمون لها أقرب السبل لتتم الاستفادة الكاملة منها. خامسا: أنواع الحلقات: تنقسم الحلقات التعليمية إلى نوعين هما: أولا: الحلق العامة الكبيرة: 1- فكان صلّى الله عليه وسلّم يعقد الحلق العامة الكبيرة للتلاوة كجزء من البلاغ للقران، وقد بدأها النبي صلّى الله عليه وسلّم منذ بدأ نزول الوحي كما جاء ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا فرأيته بعد ذلك قتل كافرا «2» ، واستمرت الحلقات العامة إلى أواخر نزول الوحي فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ عام الفتح سجدة فسجد الناس كلهم فمنهم الراكب والساجد في الأرض حتى أن الراكب ليسجد على يده «3» ، ولكن هذه الحلقة قد يستفيد منها المستمع البلاغ، وقد يزيد على ذلك فيعدها جزا من التعليم، فيحفظ ويتقن ما يستمعه ... 2- وقد تكون القراءة في الحلقة قراءة عرض بأن يقرأ أحدهم وهو صلّى الله عليه وسلّم يستمع، وهذا ما يحتمله حديث ابن عمر قال: كنا نقرأ السجدة عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فيسجد ونسجد معه.. «4» .. __________ (1) الحاكم (3/ 671) ، مرجع سابق. (2) البخاري (1/ 363) ، مرجع سابق. (3) ابن خزيمة (1/ 279) ، مرجع سابق. (4) ابن خزيمة (1/ 279) ، مرجع سابق. (1/102) ________________________________________ 3- وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرف على الحلقات الاخرى التي لا يباشر فيها التعليم بنفسه: فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: كنا في المسجد نتعلم القران، فدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلم علينا، فرددنا عليه السلام فقال: «تعلموا القران واقتنوه وتغنوا ... » «1» ، ومما يدل على هذا الإشراف أيضا ما جاء عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلى المسجد، فوجد أصحابه عزين يتذاكرون فنون العلم فأول حلقة وقف عليها وجدهم يقرؤون القران وجلس إليهم فقال: بهذا أرسلني ربي.. «2» .. 4- وعملية الإقراء منه صلّى الله عليه وسلّم دائمة فعن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرئنا القران على كل حال ما لم يكن جنبا» . ثانيا: حلقات الإقراء الخاصة: 1- فقد كانت معروفة كأساس لشكل الملتقى التعليمي كما تقدم، وجاء عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه وذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتحرى ذلك المكان «3» . 2- وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرف على حلقات الإقراء الخاصة بنفسه أيضا: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين ورجل منا يقرأ علينا القران ويدعو لنا، وإن بعضنا لمستتر ببعض من العري وجهد الحال، إذ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما راه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء فجلس إلينا، فقال بيده فاستدارت له حلقة القوم ... الحديث «4» . __________ (1) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (2/ 734) . (2) مسند الربيع ص 32، مرجع سابق. (3) صحيح مسلم (1/ 364) ، مرجع سابق. (4) الطبراني في الأوسط (8/ 357) ، مرجع سابق. (1/103) ________________________________________ 3- وقد يكون الإقراء فيها أي تعلم القران وتعليمه ثنائيا، كما هو شائع في حلقات المسلمين اليوم: فقد دخل حذيفة رضي الله عنه المسجد فمر على قوم يقرئ بعضهم بعضا فقال: «إن تكونوا على الطريقة لقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن تدعوه فقد ضللتم» قال: ثم جلس إلى حلقة فقال: «إنا كنا قوما امنا قبل أن نقرأ وإن قوما سيقرأون قبل أن يؤمنوا» فقال رجل من القوم: تلك الفتنة؟ قال: «أجل قد أتتكم من أمامكم حيث تسوء وجوهكم، ثم لتأتينكم ديما ديما، إن الرجل ليرجع فيأتمر الأمرين أحدهما عجز والاخر فجور» «1» . وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يعقدون حلقات الإقراء فعن أبي إسحاق قال: رأيت رجلا سأل الأسود بن يزيد وهو يعلم القران في المسجد فقال: كيف تقرأ هذه الاية فهل من مدكر أدالا أم ذالا؟ قال: بل دالا سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: مدكر دالا «2» ، ووصف بعض تلاميذ أبي موسى الأشعري تعليم شيخهم رضي الله عنه لهم فقال: (تعلمنا القران في هذا المسجد يعني مسجد البصرة وكنا نجلس حلقا حلقا، وكأنما أنظر إليه بين ثوبين أبيضين وعنه أخذت هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (العلق: 1) قال: وكانت أول سورة أنزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم «3» . __________ (1) ابن أبي شيبة (7/ 451) ، مرجع سابق. (2) صحيح مسلم (1/ 565) ، مرجع سابق. (3) الحاكم (2/ 240) ، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم» . (1/104) ________________________________________ المطلب الثاني: تعليمهم هيئة التعلم الواجبة للفظ القراني (التلقي) «1» : صارت هيئة التعلم الواجبة للألفاظ القرانية (التلقي) بدهية من البدهيات في حياة المسلمين حتى لقّبوا من تعلم القران بهيئة تعليمية غيرها كالأخذ من المصحف (مصحفيا) فقالوا: «لا تحملوا العلم عن صحفي، ولا تأخذوا القران من مصحفي» «2» فلا مجال لإثبات القران الكريم بالكتابة واحدها، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الطريقة الواجبة في تعلم الألفاظ القران الكريم صراحة في قوله سبحانه وتعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (النمل: 6) مع قوله جل جلاله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (النجم: 5) إذ دل مجموع الايتين على أن تعلم النبي لألفاظ القران الكريم كان تعلما خاصا هو التلقي. وقد أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتلقي فقال لهم: «خذوا القران من أربعة: من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة» «3» ، وهذا «يدل على أن قراءة القران تؤخذ بالتلقي من أفواه المقرئين، أتدري من خاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «خذوا القران من أربعة» ؟ خاطب الصحابة رضي الله عنهم، وهم عرب فصحاء، بل هم أفصح الأمة، ومع ذلك لم يكلهم إلى فصاحتهم بل أمرهم بالتلقي، وما ذاك إلا لأن قراءة القران لها هيئة مخصوصة توقيفية» «4» . __________ (1) ينظر في تعريف التلقي وبيان قواعده: تلقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القران الكريم ص 127. (2) الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري أبو أحمد ت 382 هـ: تصحيفات المحدثين ص 7، تحقيق: محمود أحمد ميرة المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، ط 1، 1402 هـ. (3) البخاري (3/ 1385) ، مسلم (4/ 1913) ، الحاكم (3/ 250) ، الترمذي (5/ 674) ، مراجع سابقة. (4) عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ (دكتور) : سنن القراء ومناهج المجودين ص 48، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1414 هـ. (1/105) ________________________________________ ولذا كان الصحابة يظهرون طريقة تعلمهم لألفاظ القران الكريم عند إثبات أهليتهم ليصدر عنهم الناس في القراءة كما في قول ابن مسعود: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غار إذ نزلت عليه وَالْمُرْسَلاتِ (المرسلات: 1) فتلقيناها من فيه وإن فاه لرطب بها.. «1» .، وقال عندما غضب من تولية زيد ابن ثابت أمر نسخ المصاحف: «لقد أخذت من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي فلا أدع ما أخذت من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «2» . وكان الصحابة رضي الله عنهم يجعلونه أسلوب تعلمهم للفظ القراني عند النزاع: وكما كان التلقي من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم (سماعا أو عرضا) هو الأداة الوحيدة لتعلم القران الكريم وتعليمه، فإنه كان أيضا الحكم بين المتخاصمين في القراءة فعن عاصم ابن أبي النجود عن زر- وهو شيخ عاصم في القران- عن ابن مسعود رضي الله عنه- وهو شيخ زر في القران- قال: أتيت المسجد فجلست إلى أناس وجلسوا إلي فاستقرأت رجلا منهم سورة ما هي إلا ثلاثون اية وهي حم الأحقاف «3» فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرأها فقلت من أقراك قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستقرأت الاخر فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرؤها أنا وصاحبي فقلت: من أقرأك؟ قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانطلقنا إليه فأخذت بأيديهما حتى أتيت بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده رجل يعني عليا فقلت: يا رسول الله! إنا اختلفنا في قراءتنا قال: فتغير وجهه حين ذكرت الاختلاف فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف» فقال __________ (1) البخاري (4/ 1879) ، مرجع سابق، وبقية الحديث: إذ خرجت حية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم اقتلوها» قال: فابتدرناها فسبقتنا قال: فقال: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» . (2) مسند أبي داود الطيالسي (1/ 54) ، مرجع سابق. (3) سورة الأحقاف في عد الكوفيين خمس وثلاثون اية فيحمل قول ابن مسعود على عدم نزول بعض اياتها انذاك، أو اختلافهم في العدد، أو على عدم اعتبار الكسر كالمعتاد في خطاب العرب. (1/106) ________________________________________ علي- فلا أدري أسر إليه ما لم أسمع أو علم الذي في نفسه فتكلم به-: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علّم» «1» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم «ليقرأ كل إنسان كما علّم كل حسن جميل» «2» ، وعن أبي الجهم رضي الله عنه أن رجلين اختلفا في اية من القران قال هذا: تلقنتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الاخر: تلقنتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «3» ، وعن بن عباس رضي الله عنهما قال: بينما أنا أقرأ اية من كتاب الله عز وجل وأنا أمشي في طريق من طرق المدينة، فإذا أنا برجل يناديني من بعدي: أتبع ابن عباس، فإذا هو أمير المؤمنين عمر فقلت: أتبعك على أبي بن كعب، فقال: أهو أقرأكها كما سمعتك تقرأ؟ قلت: نعم! قال: فأرسل معي رسولا قال: اذهب معه إلى أبي بن كعب فانظر أيقرئ أبي كذلك؟ قال: فانطلقت أنا ورسوله إلى أبي ابن كعب قال: فقلت: يا أبي قرأت اية من كتاب الله فناداني من بعدي عمر ابن الخطاب اتبع ابن عباس فقلت: أتبعك على أبي بن كعب فأرسل معي رسوله أفأنت أقرأتنيها كما قرأت؟ قال أبي: نعم! قال: فرجع الرسول إليه، فانطلقت أنا إلى حاجتي، قال: فراح عمر إلى أبي فوجده قد فرغ من غسل رأسه، ووليدته تدري لحيته بمدراها فقال أبي: مرحبا يا أمير المؤمنين! أزائرا جئت أم طالب حاجة؟ فقال عمر: بل طالب حاجة. قال: فجلس ومعه موليان له حتى فرغ من لحيته وأدرت جانبه الأيمن من لمته ثم ولاها جانبه الأيسر حتى إذا فرغ أقبل إلى عمر بوجهه، فقال: ما حاجة أمير المؤمنين؟ فقال عمر: يا أبي علام تقنط الناس؟ فقال أبي: يا أمير المؤمنين! إني تلقيت القران ممن تلقاه- وقال عفان ممن يتلقاه- من جبريل عليه السّلام وهو __________ (1) أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ت 335 هـ: المسند للشاشي (2/ 105) . (2) الطبراني في الكبير (5/ 198) ، مرجع سابق. (3) مجمع الزوائد (7/ 151) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» . (1/107) ________________________________________ رطب «1» وفي رواية فقال أبي: صدق تلقيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عمر: أنت تلقيتها من رسول الله؟ قال: نعم أنا تلقيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات كل ذلك يقوله وفي الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل وأنزلها على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه. فخرج عمر وهو رافع يديه وهو يقول: الله أكبر الله أكبر «2» . التلقي عند أبي رضي الله عنه: وبمناسبة أنهم كانوا رضي الله عنهم يجعلون التلقي عمدة أدلتهم في إثبات القراءة، فإن البحث يشير إلى أن سيد القراء أبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحتج بذلك، ولكن القراات الثابتة عنه قرائيا بل وفي كثير من روايات الحديث الثابتة لم تخرج عن القراات المتناقلة إلى اليوم إلا أن تكون تفسيرا فأما قرائيا: فإن معظم أسانيد القراء العشرة ترجع إليه رضي الله عنه. وأما حديثيا فالأمثلة السابقة توضح رجوع ما نسب إليه إلى القراات المتناقلة إلى اليوم، ومن الروايات الحديثية ما جاء عن ابن عباس قال: أقرأني أبي ابن كعب كما أقرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ (الكهف: 86) مخففة «3» ، وهذا المثال جد حسن؛ إذ يوضح أن قراءة أبي التي يستغربها عمر إنما هي إحدى قراات من الأحرف السبعة، ولا تخرج عن ذلك، ومثاله أيضا في قراءة أبي ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلّم له: «أمرت أن أقرأ عليك القران» قال فقلت: وسماني لك __________ (1) الحاكم (2/ 245) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، ورواه الضياء في المختارة (3/ 415) . (2) الحاكم (3/ 345) ، مرجع سابق. (3) النسائي في الكبرى (4/ 34) ، مرجع سابق. (1/108) ________________________________________ ربك؟ قال: «نعم» قال: فقرأ علي فقال أبي قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (يونس: 58) «1» قرأها بالتاء (فلتفرحوا) .. «2» .، وهذه الأمثلة تدل على عدم خروج قراءة أبي عن المتناقل من القراات ... ومن احتج ببعض ما ذكر عنه من قراات مخالفة يقال له عمدتنا: هو التلقي الذي جعله أبي عمدته أيضا، ومنهج إثبات قرانية أو قرائية قراءة غير منهج إثبات حديث، على أن أبيا لم يثبت عنه حديثيا إلا ما وافق القراات المتناقلة، أو ما كان تفسيرا ظاهرا وقد ينسبه إلى القران تجوزا على أنه المراد من الاية، أو لأنه سمع فيه شيئا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. منهجية إثبات القراات غير منهجية إثبات الأحاديث: وبما أن التلقي هو السبيل لإثبات القراءة فإن ما ثبت حديثيا على غير ما ثبت قرائيا- حال وجوده- لا يعول عليه في النسبة إلى القراء فقد تثبت اية قرائيا على غير ما وردت حديثيا كالذي روي عن نافع بن أبي نعيم- رحمه الله تعالى-: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (البقرة: 283) ، قرأها (فرهن) ، ثم قال نافع: أقرأني خارجة بن زيد بن ثابت وقال: أقرأني زيد بن ثابت، وقال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ بغير ألف «3» ، فإن الثابت عن نافع قرائيا فرهان «4» وهو اختياره فلا يقرأ بالاخرى لعدم التلقي، وأما توجيه الرواية فلها محامل: إما الصحة سندا __________ (1) انظر: الشاطبية عند قول الناظم: (وحق رهان ضم كسر وفتحة) من سورة البقرة ص 79، مرجع سابق. (2) الحاكم (2/ 247) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . (3) الحاكم (2/ 256) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . (4) انظر: (الشاطبي) القاسم بن فيرة ت 590 هـ: حرز الأماني ووجه التهاني (متن الشاطبية) سورة البقرة وانظر: (ابن الجزري) محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833 هـ: طيبة النشر في القراات العشر- سورة البقرة. (1/109) ________________________________________ ومتنا ولكن نافعا قرأ بالأمرين وبقي المتناقل عنه أحدهما، وإما بأن نافعا أراد إثبات صحة هذه القراءة ولكن لم يقرئ بها، وإما بالغلط في متن الرواية الحديثية. كما أن التلقي هو المرجعية لتصويب كل قراءة: تسلسل المنهجية: قال ابن مسعود رضي الله عنه: «فاقرأوا كما علمتم» «1» ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعلمون الناس القران بذلك، كما قال أنس رضي الله عنه: بعثني الأشعري إلى عمر رضي الله عنه فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القران، فقال: أما إنه كيس ولا تسمعها إياه «2» ... فكيف كان تعليمه القران للناس؟ كان تلقيا وتلقينا، فقد قال بعض تلاميذه واصفا هيئة تعليمه رضي الله عنه: كان أبو موسى رضي الله عنه إذا صلّى الصبح استقبل الصفوف رجلا رجلا يقرئهم.. «3» .. الحرص على التلقي من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو ممن تلقاه عنه: وكان الصحابة رضي الله عنهم يأمرون غيرهم بأخذ القران عمن تلقاه مباشرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم طلبا للإسناد العالي، وتثبتا في الحفظ فعن معدي كرب قال: أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال: ما هي معي ولكن عليكم من أخذها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبّاب بن الأرتّ قال: فأتينا خبّاب ابن الأرتّ فقرأها علينا «4» ... وهل كان هذا في حياته صلّى الله عليه وسلّم أو بعد مماته؟ احتمالان، وهل مراد ابن مسعود رضي الله عنه أنه لا يحفظ السورة أو أنه لم يتلقها مباشرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ ... المسألة محتملة، والثاني أرجح لأن سورة الشعراء مكية، وعن عقبة بن عامر قال: __________ (1) النسائي في الصغرى (1/ 566) ، مرجع سابق. (2) سير أعلام النبلاء (2/ 389) ، مرجع سابق. (3) سير أعلام النبلاء (2/ 389) ، مرجع سابق. (4) قال في مجمع الزوائد (7/ 84) ، مرجع سابق: «رواه أحمد ورجاله ثقات ورواه الطبراني» . (1/110) ________________________________________ كنت أقود برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناقته في السفر فقال لي: «يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا فعلمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (الفلق: 1) وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (الناس: 1) قال: فلم يرني سررت بهما جدا، فلما نزل لصلاة الصبح صلّى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة التفت إلي فقال: «يا عقبة كيف رأيت» «1» ، وهذا من أقوى أنواع التلقي، وطلب العلو في الإسناد. ولضرورة التلقي فقد انتشرت الحلق القرانية التي يحييها أئمة الإقراء: ويتلقن فيها الناس ألفاظ القران الكريم: فصار لأبي حلقة، ولزيد بن ثابت أخرى، ولابن مسعود ثالثة ... كما قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة وأقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي ... تكرار عرض القران: ولأن عرض القران على الشيخ يمثل أسلوبا من أساليب التلقي؛ فقد تعلم الصحابة رضي الله عنهم من تكرار عرض النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على جبريل عليه السّلام في رمضان «2» ، تكرار عرض أصحابهم القران عليهم، وتسلسلت بذلك منهجية تكرار العرض، ومن أمثلته في أئمة الإقراء: ما رواه عاصم بن بهدلة وعطاء بن السائب ومحمد بن أبي أيوب وعبد الله بن عيسى أنهم قرؤوا على أبي عبد الرحمن السلمي وذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان عامة القران، وكان يسأله عن القران فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس فعليك بزيد بن ثابت فإنه يجلس للناس ويتفرغ لهم، ولست أخالفه في شيء من القران، وكنت ألقى عليا __________ (1) أبو داود (2/ 73) ، مرجع سابق. (2) رواه البخاري (1/ 6) ، مسلم (4/ 1802) ، مرجعان سابقان، وانظر: تلقي النبي ألفاظ القران الكريم ص 177، مرجع سابق. (1/111) ________________________________________ فأسأله: فيخبرني، ويقول: عليك بزيد فأقبلت على زيد فقرأت عليه القران ثلاث عشرة مرة «1» . وفي تكرار العرض تأكيد بليغ على: دقة المحافظة على النص القراني، ومقدار إتقان القراءة من القراء. تعليمه صلّى الله عليه وسلّم طرق تحمل القران الكريم: وفيما سبق ذكره يتضح لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علمهم طرق تحمل القران الكريم عنه صلّى الله عليه وسلّم «2» ، وأنهما طريقان لا غير: السماع من لفظ الشيخ أو السماع عليه بقراءة غيره، والعرض (القراءة) عليه، وعد أهل العلم من حكم قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم على أبي أن يسنّ «عرض القران على حفاظه البارعين فيه المجيدين لأدائه، وليسن التواضع في أخذ الانسان القران وغيره من العلوم الشرعية من أهلها وإن كانوا دونه في النسب والدين والفضيلة والمرتبة والشهرة وغير ذلك» «3» . ... وما بقي من الطرق المعروفة عند المحدثين من مناولة وإجازة (بالمعنى الحديثي) ... ونحوها «4» . «فلا مكان لها في تحمل القران الكريم» «5» ، كما قال الناظم: __________ (1) سير أعلام النبلاء (4/ 270) ، مرجع سابق، وقال: «إسنادها ليس بالقائم» ، وهذه سنة أئمة الإقراء فقد قال ابن مجاهد- مثلا-: «فأما قراءة نافع بن أبي نعيم فإني قرأت بها على عبد الرحمن بن عبدوس من أول القران إلى خاتمته نحوا من عشرين مرة» انظر: السبعة ص 88. (2) أشار إلى هذا الموضوع الإمام السيوطي في الإتقان (1/ 264) ، مرجع سابق. (3) (النووي) أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي 676 هـ: صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 19) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ. (4) انظر في طرق تحمل الحديث: ألفية السيوطي في مصطلح الحديث بتعليق الشيخ شاكر ص 60. (5) انظر: الإتقان (1/ 264) ، مرجع سابق. (1/112) ________________________________________ ولا يجوز أخذها من الكتب ... كما به قد صرحوا، بل يجب عليك أن تعرفها ممن يريك ... كيفية النطق بها فاه لفيك «1» إلا أن الإجازة قد توجد بشرط أن تكون تابعة لهاتين الطريقتين بمعنى أنه تم سماع الطالب أو عرضه على شيخ اخر ثم أجيز بعد أن اختبره المجيز، ... أما المناولة ونحوها فلا مكان لها لأمرين أساسين يختلف في علوم القراءة عن علوم الحديث هما: 1- أن علوم القراءة لا تختلف إلا اختلافا محدودا في هيئة أداء اللفظ الداخلية غالبا أما الأحاديث فقد يوجد في هذا الكتاب ما لا يوجد عند ذاك من متن الحديث أو سنده ... 2- ولأن المقصود هنا كيفية الأداء وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته بخلاف الحديث فإن المقصود فيه المعنى أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القران، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه نزل بلغتهم، دون حاجة كبيرة إلى العرض والمران على قواعد التجويد التي تمثل ظواهر لغوية، ويحكى أن الشيخ شمس الدين بن الجزري لما قدم القاهرة وازدحمت عليه الخلق لم يتسع وقته لقراءة الجميع فكان يقرأ عليهم الاية ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة فلم يكتف بقراءته. ولكن المستعمل عند القراء سلفا وخلفا هو العرض بالقراءة على الشيخ وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما أخذوا القران من النبي صلّى الله عليه وسلّم لكن لم يأخذ به أحد من القراء، وقد يمنع منه؛ إذ ظن أنه لن يؤدي الغرض. __________ (1) انظر: سنن القراء ص 15، مرجع سابق. (1/113) ________________________________________ ومما يتنبه له: أنه تجوز القراءة على الشيخ ولو كان غيره يقرأ عليه في تلك الحالة إذا كان بحيث لا يخفى عليه حالهم وقد كان الشيخ علم الدين السخاوي يقرأ عليه اثنان وثلاثة في أماكن مختلفة ويرد على كل منهم، وكذا لو كان الشيخ مشتغلا بشغل اخر كنسخ ومطالعة، وأما القراءة من الحفظ فالظاهر أنها ليست بشرط بل يكفي ولو من المصحف. المطلب الثالث: العرضة الأخيرة: حقيقتها وإثبات وجودها: العرضة من العرض، وهي مأخوذة من معارضة النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على جبريل عليه السّلام ومعارضة النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على أصحابه، والمعارضة هنا مفاعلة؛ لأنها ثبتت في حديث المعارضة «1» ... وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اخر معارضة له مع جبريل عليه السّلام بقوله: «أن جبريل عليه السّلام كان يعارضني بالقران كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين ... » «2» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان يعرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم القران كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه «3» . الهدف العام من معارضته صلّى الله عليه وسلّم له عليه السّلام بالقران كل سنة: لتتم مقابلة ما حفظه صلّى الله عليه وسلّم على ما أوحاه إليه جبريل عليه السّلام عن الله سبحانه وتعالى ليبقى ما بقي، ويذهب ما نسخ توكيدا واستثباتا وحفظا، ومراجعة للمحفوظ، ولتكون سنة رمضانية في الاتصال بالقران الكريم من جميع الأمة. __________ (1) انظر تفصيل ذلك في: تلقي النبي ألفاظ القران الكريم ص 177، مرجع سابق. (2) صحيح البخاري (5/ 2317) ، مرجع سابق. (3) البخاري (4/ 1911) ، مرجع سابق. (1/114) ________________________________________ وبعد أن علمنا أن جبريل عليه السّلام كان يعارض النبي صلّى الله عليه وسلّم القران في ليل رمضان، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعارض أصحابه رضي الله عنهم وأئمة الإقراء منهم خاصة ما كان يعارضه جبريل عليه السّلام في وقت اخر ... فهو صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ الرسالة، وكيف يبلغها ولم يعلمهم ويتثبت من حفظهم؟ ومما يدل على إثبات هذه العرضة على أصحابه رضي الله عنهم ما جاء عن سمرة رضي الله عنه قال: عرض القران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرضات فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة «1» ، ويدل له ما سيأتي من إثبات شهود ابن مسعود للعرضة الأخيرة، فهم كانوا يعارضون القران على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبذا تم التيقن من ثبوت كامل القران كتابة وحفظا عند أئمة الإقراء. وأما معنى قول الزهري: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن الله سبحانه وتعالى تابع الوحي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد. هذا لفظ البخاري؛ ولمسلم: إن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» ، فقال فيه أبو شامة: «يعني عام وفاته أو حين وفاته، يريد أيام مرضه كلها، كما يقال: يوم الجمل ويوم صفين، وكانت أياما» «3» ، والظاهر عند الباحث أن المراد من كلام أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما توفي حتى اكتمل الوحي، ولذا نزل كثير منه في الفترة التي سبقت وفاته، وقد تمتد لتكون أكثر من سنة، وعرض ذلك في رمضان إلا ايات قلائل محصورة هي التي قيل إنها اخر ما نزل من القران، فليس ما ذكره خارجا عن العرضة. __________ (1) الحاكم (2/ 250) ، مرجع سابق، وقال ابن حجر في الفتح (9/ 44) ، مرجع سابق: «وإسناده حسن» . (2) البخاري (4/ 1906) ، مسلم (4/ 2312) ، مرجع سابق. (3) المرشد الوجيز ص 30، مرجع سابق. (1/115) ________________________________________ ولكن لم يكن يشهد العرضة كل الناس، للاكتفاء بوجوب تبليغ بعضهم البعض: فقد قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها-: كان فيما أنزل من القران عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهن فيما يقرأ من القران «1» فقولها (وهن فيما يقرأ) «أي يقرؤها بعض الناس لكونهم لم يبلغهم النسخ الواقع في العرضة الأخيرة لقرب عهداهم فلما بلغهم رجعوا وأجمعوا على أنه لا يتلى» «2» وهذا ما قرره بعض العلماء، وللفظ عائشة تقرير اخر عند الباحث- ربما كان أكثر وجاهة- هو أن يكون معنى قولها هذا على سبيل التأكيد البالغ على التحريم بالرضاع بهذا العدد دون نسخه، ولكن ذلك من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وليس من قول الله جل جلاله، وأرادت التأكيد على الالتزام فعزته إلى القران- وهذا من خواص لغة الصحابة- كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القران فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عزّ وجلّ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: 7) .. «3» . ومن هذا الباب أيضا إطلاق لفظ اية أو نسبته إلى الله سبحانه وتعالى لزيادة التأكيد على ثبوته __________ (1) مسلم (2/ 1075) ، مرجع سابق. (2) (السيوطي) أبوالفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911 هـ: الديباج على صحيح مسلم (4/ 61) ، مراجعة: أبو إسحاق الحويني الأثري- دار ابن عفان- الخبر- السعودية. (3) البخاري (4/ 1853) ، مسلم (3/ 1678) ، مرجع سابق. (1/116) ________________________________________ بسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» حتى يظن بعضهم أنها من القران نحو ما جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال: عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله قد بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه اية الرجم قرأناها، ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف «2» وينظر التعبير الوارد في اخر الحديث (فريضة أنزلها الله) ، وقوله (الرجم في كتاب الله حق) ... كقول ابن مسعود المتقدم. وتناقل التابعون نبأ وجود هذه العرضة: فعن ابن سيرين قال: كان جبريل عليه السّلام يعارض النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل شهر رمضان فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين. قال ابن سيرين: فيرجى أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة «3» ، واستنبط بعضهم من كتابة عثمان للمصاحف أنها إنما تمت وفق العرضة الأخيرة فعن ابن سيرين قال: جمع عثمان اثني عشر رجلا من قريش والأنصار منهم أبى بن كعب، وأرسل إلى الربعة «4» __________ (1) وما زال- بعد هذا- يحتمل توجيها اخر هو أن يكون الحديث المذكور بلفظ يوهم أنه اية أن يكون حديثا قدسيا ... وقد يضطرب الأمر على صحابي أو تابعي فيحسبه قرانا، والأمر القاطع الذي يحسم هذه المسألة مرده إلى التواتر القراني الذي يزيل كل شبهة بإثبات أو نفي ... ولم أجد من أشار إلى هذه المسألة بهذا النوع من المعالجة. (2) البخاري (6/ 2503) ، مسلم (3/ 1317) ، مرجعان سابقان. (3) الضياء في المختارة (7/) ، سعيد بن منصور في سننه (1/ 237) ، مرجعان سابقان. (4) الربعة: إناء مربع كأنه مغطى ملتف يشبه الصندوق ... انظر: النهاية (2/ 189) ، مرجع سابق. (1/117) ________________________________________ التي في بيت عمر، قال فحدثني كثير بن أفلح- وكان ممن يكتب- قال فكانوا: إذا اختلفوا في الشيء أخروه قال ابن سيرين: «أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة» «1» . الجمع بين كتابة زيد للمصاحف في عهد عثمان وشهود ابن مسعود للعرضة: والنصوص التي بين أيدينا تدل على شهود ابن مسعود للعرضة الأخيرة، وأنه تعلم من النبي صلّى الله عليه وسلّم القران بعد أن عرضه على جبريل عليه السّلام، ويدل لذلك ما رواه أبو ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تقرؤون؟ قلنا قراءة عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض عليه القران في كل عام مرة وإنه عرض عليه العام الذي قبض فيه مرتين فشهد عبد الله ما نسخ «2» ، وفي لفظ عنه: قال ابن عباس: أي القراءتين تعدون القراءة الأولى؟ قالوا: قراءة عبد الله. قال: قراءتكم القراءة الأولى وقراءة عبد الله القراءة الاخرة! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض عليه القران كل رمضان عرضة، فلما كان العام الذي قبض فيه عرض عليه عرضتان فشهده عبد الله، وشهد ما نسخ منه وما بدل «فقراءة عبد الله الاخرة» «3» ، وورد عن زر بن حبيش الأسدي «4» ، وورد عن مجاهد «5» ، وقد بين في بعض ألفاظ هذا الحديث ماذا يعنون بالقراءة الاخرة، وأنها قراءة زيد فعن ابن عباس قال: أي __________ (1) فتح الباري (9/ 19) ، مرجع سابق. (2) الضياء في المختارة (9/ 542) ، مرجع سابق. (3) النسائي في الكبرى (5/ 7) ، مرجع سابق، وقال ابن حجر في الفتح (9/ 45) ، مرجع سابق: «وإسناده صحيح» . (4) الطبراني في الكبير (12/ 103) ، مرجع سابق. (5) مسند أحمد (1/ 275) ، مرجع سابق، وفي مجمع الزوائد (9/ 288) ، مرجع سابق، قال: «رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح» . (1/118) ________________________________________ القراءتين ترون كان اخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد. قال: لا! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض القران كل سنة على جبريل عليه السّلام فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين فكانت قراءة ابن مسعود اخرهن «1» وقال: إنه لاخر حرف عرض به النبي صلّى الله عليه وسلّم على جبريل عليه السّلام «2» . ومما تقدم من الروايات يظهر لنا أن ابن مسعود شهد العرضة الأخيرة بإثبات ابن عباس، وإثباته هو رضي الله عنه، فقد ورد صريحا عنه رضي الله عنه فقد قال رضي الله عنه متحدثا عن أخر عام عرض فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على جبريل عليه السّلام، وكان عرضه عرضتين-: فقرأت القران من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك العام، والله لو أني أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغينه الإبل لركبت إليه والله ما أعلمه «3» . وتدل الروايات السابقة على أن عبد الله بن مسعود شهد العرضة الأخيرة، وهذا يدل على سماعه ما هو أكثر من اثنتين وسبعين سورة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لأن النازل من سور القران الكريم حتى العرضة الأخيرة كان أكثر من ذلك قطعا، وإنما أثبت لنفسه هذه السور من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الظاهر من ذلك أنه تلقنها بمفرده مباشرة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذا جاء في رواية عنه: «فلقد أخذت من فيه صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة ما نازعني فيها بشر» «4» وأما العرضة فهي عامة، والظاهر من العرضة على الناس إنها سماع منهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم لا عرض، وقد ذكر أنه أتم الباقي على علي بن أبي طالب، فعنه رضي الله عنه قال: قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين __________ (1) الحاكم (2/ 250) ، مرجع سابق. (2) انظر: فتح الباري (9/ 44) ، مرجع سابق. (3) (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (168 هـ- ت 230 هـ) : الطبقات الكبرى (2/ 194) ، دار صادر بيروت. (4) ابن حبان (14/ 433) ، أبو يعلى (8/ 403) ، مرجعان سابقان. (1/119) ________________________________________ سورة وختمت القران على خير الناس علي بن أبي طالب «1» ... وفي كل الأحوال فزعم عدم ختمه قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يرقى إلى مستوى الرأي المطروح مع هذه القرائن الدالة على إتمامه المصحف، وسماعه كل ما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اخر رمضان قبل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأقل، وهذا الزعم لو صح لكان كافيا للرد على ابن مسعود في تقديم زيد عليه، وماذا يقول من ينفي ختم ابن مسعود في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم بحديث: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة» «2» ؟ فقرنه صلّى الله عليه وسلّم بكبار أئمة الإقراء، بل بسيد سادات القراء وهو أبي بن كعب، وقدمه عليهم. وقد قرر مكي بن أبي طالب ذلك بما يشبه هذا- ضمن احتمالات وضعها-: «وأما ابن مسعود فإنه قال: قرأت من لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة، وقد كنت أعلم أنه يعرض عليه القران في كل رمضان حتى كان عام قبض، فعرض عليه القران مرتين، قال: فكان إذا فرغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرأ عليه فيخبرني أني محسن، فأما ما بقي عليه فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقوم سماعه منه مقام قراءته عليه من القران ... » «3» ، وأما الاحتمالات الاخرى التي ذكرها مكي فيردها ما سبق. وما ورد مما ينافي حفظ ابن مسعود لبعض السور فضعيف، ويظهر منه أن تصوره كاف في إبطاله.. «4» .. __________ (1) مجمع الزوائد (9/ 288) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني وفيه يحيى ابن سالم وهو ضعيف» والحديث بحاجة لزيادة تمحيص ليتم قبوله أو رده، والظاهر أنه إن صح فالمراد العرض مرة ثانية ... وإلا فما حاجة ابن مسعود لذلك وقد شهد العرضة الأخيرة؟. (2) البخاري (3/ 1385) ، مسلم (4/ 1913) ، الحاكم (3/ 250) ، الترمذي (5/ 674) ، مراجع سابقة. (3) (القيسي) مكي بن أبي طالب حموش القيسي 437 هـ: الإبانة عن معاني القراات ص 117، قدم له وحققه، وعلق عليه، وشرحه، وخرج قرااته: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شبلي: المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة. (4) انظر الأصل ففيه تفصيل حول تلك الروايات. (1/120) ________________________________________ إثبات حفظ ابن مسعود للقران الكريم في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم: فثبت- بما سبق- إكمال ابن مسعود رضي الله عنه القران على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقائل بأن ابن مسعود لم يكمل القران أراد تبرير تقديم أبي بكر وعمر وعثمان لزيد، ولكن لا ينبغي أن يؤتى بمبرر خاطئ ينفي حقيقة حفظ ابن مسعود رضي الله عنه وجلالته في علم القران وعلم القراءة: فأما ملازمة زيد للنبي ف فهي للكتابة أما الملازمة بغير ذلك فما أكثر ما لازمه ابن مسعود رضي الله عنه حتى كان يلقب ب «صاحب النعلين والطهور والوساد، والسواد وهو السرار» «1» ، وحتى كان أشبه الناس هديا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعن عبد الرحمن بن يزيد قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من ابن أم عبد «2» ، ومن شدة ملازمته رضي الله عنه ظنّ الناس أنه من ال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، بل روى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت مستخلفا أحدا عن غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد» «4» . ومن الثناء البديع على ابن مسعود رضي الله عنه مما يمثل مؤهلا كبيرا له لنسخ المصاحف: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وكرهت __________ (1) البخاري (1/ 69) ، و (3/ 1368) ، مرجعان سابقان. (2) البخاري (3/ 1383) ، مرجع سابق. (3) البخاري (3/ 1383) ، مرجع سابق. (4) ابن أبي شيبة (6/ 384) ، الطبراني في الأوسط (6/ 272) ، مرجعان سابقان. (1/121) ________________________________________ لأمتي ما كره لها ابن أم عبد» «1» فقد رضي لها النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يرضاه ابن أم عبد في عامة أمورها، وأما في خصوص الإقراء فتقدم حديث: «خذوا القران من أربعة من بن أم عبد فبدأ به ... » . ومضت منزلة ابن مسعود رفعة وقوة في حياة الأمة فروى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واهتدوا بهدي عمار بن ياسر وتمسكوا بعهد ابن أم عبد» «2» ، وشهادة حذيفة كافية في هذا الباب؛ إذ يقول: «لقد علم المحظوظون من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله وسيلة» «3» . ومنزلة ابن أم عبد في القراءة هي منزلته حتى فاق في نظر بعض العلماء منزلة أبي كما قال بعض أهل العلم: «فإن قيل فهل لأحد من الصحابة من الرتبة في القران مثل ما لأبي منها؟ قلنا: لعبد الله بن مسعود زيادة على ما وجدناه لأبي ... » «4» ، وشهد الصحابة له بذلك فقد اجتمع بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار أبي موسى رضي الله عنه وهم ينظرون في مصحف فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترك بعده أحدا أعلم بما أنزل الله عز وجل من هذا القائم، فقال أبو موسى: أما لأن قلت ذاك لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا حجبنا «5» ... فماذا بعد هذه المؤهلات العظيمة من أدلة تدل على تمام حفظ ابن __________ (1) ابن أبي شيبة (6/ 384) ، والطبراني في الأوسط (7/ 70) ، مرجعان سابقان. (2) ابن أبي شيبة (7/ 433) ، الطبراني في الأوسط (6/ 76) ، مرجعان سابقان. (3) الطبراني في الأوسط (3/ 20) ، مرجع سابق. (4) (أبو المحاسن) يوسف بن موسى الحنفي أبو المحاسن: المعتصر من المختصر من مشكل الاثار (2/ 361) ، عالم الكتب، مكتبة المتنبي، بيروت، القاهرة. (5) مسلم (4/ 1912) المعجم الكبير (9/ 90) ، مرجع سابق. (1/122) ________________________________________ مسعود وقوة أهليته في علم القران؟ ولذا كان يملي المصاحف في عهد عمر من حفظه بإقرار عمر رضي الله عنه ورضاه. وأما رواية من روى عن ابن مسعود أنه سئل عن طسم فقال: «لا أحفظها سل خبابا عنها» «1» فدليل على ما قرره البحث؛ إذ ليس هكذا لفظها بل لفظها ما جاء عن معديكرب قال أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال: ما هي معي ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبّاب بن الأرتّ قال: «فأتينا خبّاب بن الأرتّ فقرأها علينا» «2» ، فترك إقراءها لا لعدم حفظه، بل لعدم تلقيها مباشرة من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأشار عليهم بالإسناد العالي. وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في عبد الله بن مسعود: «من أحب أن يقرأ القران غضا كما أنزل فليقرأه على رواية ابن أم عبد» «3» «فمؤهل ظاهر له في علم القران ... ولا شك أن التحقيق العلمي يثير علامة استغراب حول ما تأوله بعضهم في معناه، وأن عبد الله بن مسعود كان يرتل القران فحض النبي صلّى الله عليه وسلّم على ترتيل مثل ترتيله لا غير» «4» ، فهذه المنقبة مالها استحالت مثلبة؟ وفي هذا التأويل نظر أيضا- إن اكتفي به-، بل مراده جودة الأداء، وإتقان الحفظ ... ، وهذا الذي فهمه عمر رضي الله عنه من الحديث أن المراد الحفظ مع إتقان الأداء فعن قيس بن مروان قال: أتى رجل عمر فقال: يا أمير المؤمنين! قد تركت بالعراق رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب. فغضب عمر رضي الله عنه حتى احمر وجهه فقال له: عمر اعلم ما تقول! مرارا فقال: __________ (1) انظر: الناسخ والمنسوخ ص 483، مرجع سابق. (2) أحمد (1/ 419) ، المعجم الكبير (4/ 55) ، مرجعان سابقان، مجمع الزوائد (7/ 84) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله ثقات ورواه الطبراني» . (3) المختارة (1/ 93) ، مرجع سابق. (4) انظر: الناسخ والمنسوخ ص 483، مرجع سابق. (1/123) ________________________________________ ما أتيتك إلا بحقّ فقال عمر رضي الله عنه: من هو؟ قال: ابن أم عبد. فسكن حتى ذهب عنه الغضب ثم قال: ما أصبح على ظهر الأرض أحد أحق بذلك منه، وسأحدثكم عن ذلك: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمر في بيت أبي بكر رضي الله عنه ذات ليلة لبعض حاجته حتى أعتم، ثم رجع بيني وبين أبي بكر حتى انتهيت إلى المسجد إذا رجل من المهاجرين يصلي فقام فتسمع لقراءته ما أدري أنا وصاحبي من هو قال: فلما قام ساعة قلت: يا رسول الله! رجل من المهاجرين يصلي لو رجعت وقد أعتمت قال: فغمزني وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يستمع لقراءته قال: فركع وسجد ثم قعد يدعو فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سل تعطه! سل تعطه!» ولا أدري أنا وصاحبي من هو، حتى سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سره أن يقرأ القران غضا كما أنزل فليقرأه كما يقرأ ابن أم عبد» قال: فذلك حين علمت أنا وصاحبي من هو، قال: فغدوت إلى عبد الله لأبشره فقال: قد سبقك أبو بكر، وأيم الله ما سابقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني «1» ، ولكن مع أنهما بشراه إلا أنهما لم يولياه أمر المصحف في عهد أبي بكر لعلة ظاهرة تأتي الإشارة إليها. فقد اجتمع لابن أم عبد الجليل حديثان يأمران بالأخذ عنه حفظا وإتقانا للترتيل والأحكام ... العرضة الأخيرة هي قراءة العامة: يظهر أن الذي جمعه زيد في عهد عثمان هي قراءة العامة كما ورد هذا المصطلح في غير ما موضع من البخاري «2» كقوله: «قراءة العامة يُطِيقُونَهُ (البقرة: 184) » «3» . __________ (1) المختارة (1/ 385) ، مرجع سابق، وقال في مجمع الزوائد (9/ 288) ، مرجع سابق: «رواه البزار وإسناده حسن» . (2) انظر: البخاري (3/ 1216) ، مرجع سابق. (3) البخاري (4/ 1638) ، مرجع سابق، وورد هذا المصطلح في المختارة (7/ 180) ، مرجع سابق. (1/124) ________________________________________ وقراءة العامة لابد أن تكون العرضة الأخيرة قد اشتملت عليها لأنها العامة! ... وهذا الذي قاله عبيدة السلماني: «القراءة التي عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم» «1» . وبعد سرد ما تقدم: يمكن أن يقرّر أن العرضة الأخيرة ليست حكرا على زيد ولا على ابن مسعود لأنها العامة أيضا، وإن لم يحضرها كل الصحابة فإنه لا ريب في حضور جمع كبير من أئمة الإقراء لها، لأنها العامة أيضا ... اجتماع ابن مسعود وزيد في العرضة الأخيرة: قرر ابن عباس أن الذي شهد العرضة الأخيرة هو ابن مسعود رضي الله عنه وهو ما صرح به ابن مسعود من قوله مع أن ابن عباس إنما تتلمذ على زيد وأبي في القراءة «2» ، وكان ابن عباس يجل زيدا ويعظمه، فليس يتجنى عندما يشهد لابن مسعود، والذي يثبت أن زيدا هو الذي شهد العرضة الأخيرة هم التابعون كأبي ظبيان ومجاهد وزرّ وجماعات ... ويردهم ابن عباس لكن بلفظ يثبت شهود العرضة الأخيرة لابن مسعود دون أن ينفي شهود زيد بن ثابت لها ... وقد يقال ها هنا: إن ابن عباس أراد نفي ما زعموه بشأن تغيب ابن مسعود عن العرضة الأخيرة لا إثبات تغيب زيد، وقد يسوغ عند هذا أن نقول بأن زيدا حضر هذه العرضة أيضا وهو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم «3» ، ويعضده أن زيدا هو كاتب __________ (1) ابن أبي شيبة (6/ 154) ، مرجع سابق. (2) انظر إثبات ذلك في ترجمة زيد بن ثابت عند: (القيسراني) محمد بن طاهر بن القيسراني ت 507 هـ: تذكرة الحفاظ (1/ 30) ، تحقيق: حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1415 هـ، وكذلك في ترجمة ابن عباس في: يوسف بن الزكي عبد الرحمن أبو الحجاج المزي ت 742 هـ: تهذيب الكمال (ص 15/ 155) ، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400- 1980. (3) انظر مثلا: سير أعلام النبلاء 1/ 488، مرجع سابق، مناهل العرفان 1/ 174، مرجع سابق. (1/125) ________________________________________ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الملازم، وتقديم زيد أقوى لذلك، وهو الذي أجمع عليه الصحابة في عهد أبي بكر رضي الله عنه وهم الأكابر، على أن بعض الوحي قد نزل بعد رمضان، والكاتب المتلقن الملازم يقدم على الكاتب المتلقن غير الملازم. السبب الحقيقي لتقديم زيد في جمع المصحف المصاحف ونسخه: وبعد هذا البحث عن العرضة الأخيرة، وتقرير حضور ابن مسعود رضي الله عنه لها يمكن للباحث القول بأن البعض قد جانبه الصواب حينما جعل معيار تقديم زيد هو حضور العرضة الأخيرة «1» ، والذي نريد تقريره هنا لتتضح الصورة الكلية أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ما تولى كتابة المصاحف في عهد عثمان إلا رئيسا للجنة قامت بهذا العمل، شارك فيها أبي- وكذلك في عهد أبي بكر-، وأما ابن مسعود فلم يكن في المدينة حيث كان العمل لنعلم أيعزل عنها كما قال هو أم لا، والأمر كان أعجل من أن يؤخر حتى يرسل إلى ابن مسعود ليأتي من الكوفة حيث المسافة ذهبا وإيابا تقرب من شهرين، مع وجود الأكفاء، ثم وجد الكاتب الإمام الذهبي يقرر هذا التقرير ذاته حيث قال: «إنما شق على ابن مسعود لكون عثمان ما قدمه على كتابة المصحف، وقدم في ذلك من يصلح أن يكون ولده وإنما عدل عنه عثمان لغيبته عنه بالكوفة ولان زيدا كان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو إمام في الرسم، وابن مسعود إمام في الأداء» «2» . وأما أيام أبي بكر رضي الله عنه فإن المؤهل الذي قدم زيدا على ابن مسعود مع إجلال أبي بكر وعمر له- وهما راويا حديث «من أحب أن يقرأ القران غضا ... » - __________ (1) انظر مثلا في: مختارات فصول الجاحظ- مخطوط مصور بدار الكتب رقم 24069، وعنه نقل (دكتور) عبد الصبور شاهين: تاريخ القران ص 123، دار القلم 1966 م، وعنه نقلا مؤلفا كتاب معجم القراات القرانية ص 9 معتبرين إجابة الجاحظ إجابة حكيمة واعية- وهي كذلك- لولا أنها مبنية على وهم. (2) سير أعلام النبلاء (1/ 488) ، مرجع سابق. (1/126) ________________________________________ أن ابن مسعود لم يكن في المدينة فيما يظهر، بل كان على النفل في اليرموك، وهذا يدل على أنه كان في حرب خارج المدينة ... هذا بالإضافة إلى أن زيدا كان الكاتب الملازم وهو سبب قوي ذكره الشيخان في محاورتهما لزيد وإقناعه بأن يتولى ذلك. وثمة أسباب أخر ليس هذا ميدانها ولا مكان بسطها. مشكل قراءة منسوبة لابن مسعود وأبي الدرداء: عن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء فقال: أفيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد الله؟ فقلت: نعم! أنا قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الاية وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال: سمعته يقرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى والذَّكَرَ وَالْأُنْثى قال: وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ وَما خَلَقَ فلا أتابعهم «1» فهذه القراءة المنسوبة للشيخين شاذة، وفي الحديث علة ظاهرة توجب إما التأويل وإما الاطّراح، وهي: أولا: مخالفة رجال سند هذا الحديث لكل الأمة الإسلامية في هذه الرواية، وليست المخالفة لأربعة أو لخمسة من الثقات حتى تصير رواية الأقل شاذة لمخالفتها رواية الأكثر على ما هو مقرر في مصطلح الحديث.. وهذه علامة تعجب من بعض الذين يشذذون رواية في صحيح مسلم، ومع ذلك لا يشذذون ما ورد في هذا الحديث؟. ولذا قال الشافعي: «من متناقض القول الجمع بين قبول رواية القراءة الشاذة في القران وبين رد الزيادة التي ينفرد بعض الرواة الثقات مع العلم بأن سبيل إثبات القران أن ينقل استفاضة وتواترا» «2» . __________ (1) البخاري (3/ 1368) ، مسلم (1/ 565) ، مرجعان سابقان. (2) البرهان (1/ 426) ، مرجع سابق. (1/127) ________________________________________ ثانيا: مخالفة رجال السند في هذا الحديث لأهل المصرين اللذين انتشرت فيهما قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: الكوفة والشام، وقراءة علقمة لها يدل على أنها سادت في الكوفة ولو لفترة قريبة لكننا لم نسمع همسا في الكوفة فضلا عن الشام، وتعجب من ذلك ابن حجر فقال: «والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وعن ابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء، ولم يقرأ أحد منهم بهذا فهذا مما يقوي أن التلاوة بها نسخت» «1» ، ولعل في القول بالنسخ نظرا؛ إذ ثم موازين دقيقة وضعها علماء الحديث كان ينبغي بحث هذا الحديث في ضوئها أيضا مثل القلب، والاضطراب، والشذوذ. ومما يؤكد الرد السابق: أن ابن عامر القارئ الرابع من السبعة قرأ على أبي الدرداء اتفاقا مباشرة، وهو قارئ أهل الشام وقراءته إلى القرن الخامس الهجري كانت هي الغالبة على أهل الشام ... فما باله لم ينقل هذه القراءة؟ ولذا نؤكد على أن منهج إثبات القراءة هو التلقي، وليس البحث في السطور التي يعتريها الوهم، أو الشذوذ، ولا يؤمن فيها من الدس ... أما تقرير من قال بأن العرضة الأخيرة كانت وفق قراءة زيد لأنه حضرها فقد بينا أن النصوص الموجودة تبين حضور ابن مسعود بصورة أصرح من حضور زيد (مع التأكيد على حضور زيد كما سبق) ، والفارق بين قراءة زيد وابن مسعود غير ظاهر، وقد نظّر بعض المحققين على من زعم أن قراءة زيد هي السائدة؛ إذ كان هدف نسخ المصاحف في عهد عثمان تعميم المصاحف، وإعطاء الشرعية للقراات، وابن مسعود لم بغضب لأنه سيجبر على قراءة زيد بل لتولية زيد دونه __________ (1) فتح الباري (8/ 707) ، مرجع سابق. (1/128) ________________________________________ مع كبر سن ابن مسعود وأهليته «وأيضا فمن المحال أن يكون عثمان أقرأ الخلفاء، وأقدمهم صحبة وكان يحفظ القران كله ظاهرا ويقوم به في ركعة ... ويترك قراءته التي أخذها من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويرجع إلى قراءة زيد وهو صبي من صبيانه» «1» . ولذا فإن الذي يمكن استنتاجه مما سبق أن الفرق بين عرضات القران المتتابعة يسير- حتى مع القول بوجود النسخ- ولعل الفرق الظاهر الجلي بينها هو ما يزيد من القران مما نزل منه في السنة الجديدة. المطلب الرابع: التعليم القراني العام: يدرس هذا المطلب وجود الصبغة الإلزامية للتعليم القراني، وتعميمه على كافة فئات المجتمع، وجعله مادة أساسية للمسلمين دون استثناء، وتشجيعه برفده بما يجعل تعلم جزء من القران اختياريا له مبررات النمو، ولذا ينقسم الكلام فيه إلى: كيفية الإقراء، الكلام عن التعليم الإلزامي، والتعليم غير الإلزامي، واستتبع هذا الكلام عن أخذ الأجرة على تعليم القران الكريم، والقول الراجح فيها، وأثر ذلك على نشر التعليم القراني. كيفية الإقراء: الإقراء الجماعي العام، والإقراء الفردي الخاص: التلقين للصحابة قد يأخذ الصبغة الخاصة بإقراء النبي صلّى الله عليه وسلّم لحلقة أو لصحابي معين للايات، وقد يأخذ الصبغة العامة بالقراءة على الجمع الكثير في المسجد وهم يتلقون الايات، مع بقاء الصبغة الخاصة: كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما نزلت الايات من __________ (1) (ابن حزم) علي بن أحمد بن حزم الأندلسي أبو محمد ت 456 هـ: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 268) ، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1404 هـ. (1/129) ________________________________________ اخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد فقرأهن على الناس ثم حرم التجارة في الخمر «1» . وكانت المجامع العامة المعتادة فرصة لقراءة ايات جديدة نزلت، أو التذكير بايات أخرى فعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكرنا أيام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال: متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الان؟ فأشار إليه: أن اسكت فلما انصرفوا قال: سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني؟ فقال أبي: «ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت» فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له وأخبره بالذي قال أبي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق أبي» «2» . وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك أيضا فيما بينهم، فيقرأ قارئ منهم وهم يستمعون، فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّهم كانوا جلوسا يقرؤن القران ويدعون.. «3» .. وقد يقوم بالقراءة العامة أصحابه (تلاميذه) رضي الله عنهم فيقرؤون على الناس في المجامع العامة السورة بأكملها: فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كان بالعرج ثوب بالصبح ثم استوى ليكبر فسمع الرغوة خلف ظهره فوقف على التكبير، فقال: __________ (1) البخاري (2/ 743) ، مسلم (3/ 1206) ، المنتقى لابن الجارود (1/ 149) ، ابن حبان (11/ 318) ، مراجع سابقة. (2) ابن ماجة (1/ 352) ، مرجع سابق، وفي مصباح الزجاجة (1/ 134) ، مرجع سابق: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» . (3) أبو داود (3/ 323) ، أحمد (3/ 96) ، أبو يعلى (2/ 382) ، الطبراني في الأوسط (3/ 348) ، مراجع سابقة. (1/130) ________________________________________ هذه رغوة ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقد بدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحج فلعله أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنصلي معه فإذا علي عليها فقال له: أبو بكر أمير أم رسول؟ فقال: لا! بل رسول أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ، قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون فعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ براءة علي على الناس حتى ختمها «1» . الإقراء الفردي: ونظام الحلقات، والقراءة العامة لم يمنع من الإقراء الفردي، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستقرئون النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيقوم بإقرائهم: فعن ابن عباس في قوله جل جلاله: عَبَسَ وَتَوَلَّى (عبس: 1) قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له: عبد الله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم فجعل عبد الله يستقرىء النبي صلّى الله عليه وسلّم اية من القران وقال: يا رسول الله! علمني مما علمك الله فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبس في وجهه __________ (1) النسائي في الكبرى (2/ 416) ، مرجع سابق. (1/131) ________________________________________ وتولى وكره كلامه، وأقبل على الاخرين.. «1» .، وكما طلب ذلك منه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: تبعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما وهو راكب فوضعت يدي على يده فقلت: يا رسول الله! أقرئني من سورة هود ومن سورة يوسف.. «2» .. والأصل أن يقوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإقراء: إلا أن يشغله شاغل فيحيل المستقرئ على أحد عرفاء الإقراء أو أئمته الذين قام بتأهيلهم صلّى الله عليه وسلّم، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشغل فإذا قدم الرجل مهاجرا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفعه إلى رجل منا يعلمه القران.. «3» .، وعن أبي سعيد رضي الله عنه وكان قرأ القران على أبي هريرة قال: ما قرأت القران إلا على أبي هريرة هو أقرأني «4» . وقد استبان لنا من هيئة جلسة الصحابة بين يديه صلّى الله عليه وسلّم في القراءة الفردية: الهيئة التي ذكرها ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القران التحيات لله.. «5» .، فالتشبيه يحتمل شمولاه لهيئة الجلوس مع التدقيق في الحفظ وإتقان الأداء. __________ (1) الطبري (30/ 51) ، مرجع سابق، وأخرجه عن عائشة مختصرا ابن حبان (2/ 293) ، الترمذي (5/ 432) ، مرجعان سابقان. (2) ابن حبان (3/ 75) ، النسائي في الكبرى (1/ 330) ، مرجع سابق. (3) المختارة (8/ 266) ، مرجع سابق. (4) الطبري (28/ 226) ، مرجع سابق. (5) البخاري (5/ 2311) ، مسلم (1/ 302) ، مرجع سابق. (1/132) ________________________________________ تعميم التعليم القراني: أولا: التعليم القراني الإلزامي: كان من أسس رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلزام المسلمين بالارتباط بالقران الكريم تلاوة وتعلما لأصل اللفظ ولأدائه يوميا، وتمثلت مظاهر هذا الإلزام في عدة أساليب تربوية: 1- ربط صحة أعظم عبادة يومية بإتقان شيء من القران الكريم: فاتحة كتاب أو ما يقوم مقامها، ولا بد من إخراج حروفها من مخارجها، وإعطائها حقها ومستحقها. 2- وسم من لم يقرأ عشر ايات في اليوم بالغافلة في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «1» . 3- الأمر بتلاوة الكتاب عموما، وهو أمر يقتضي الوجوب، ويصدق على أقل ما يسمى قرانا كما في قوله جل جلاله: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ (الكهف: 27) . 4- الإشارة إلى ذم من لم يتعلم سورا بعينها: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» «2» . 5- وجوب تعليمه على من علمه بدون أخذ أجرة في مقابله ما دام لم يتفرغ لذلك كليا أو جزئيا ... لأن منع تعليمه كتمان للعلم، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ __________ (1) الحاكم (1/ 742) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» . (2) مسلم (1/ 553) ، مرجع سابق.. (1/133) ________________________________________ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (البقرة: 159) ، وقد تقدم وجوب التبليغ ولو لاية واحدة. وكتطبيق لهذا نرى النبي صلّى الله عليه وسلّم يرسل المقرئين إلى البلاد التي دخلها الإسلام: كإرساله مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم إلى المدينة، وكذلك أرسل إلى البلاد التي ترغب بالدخول في الإسلام كإرساله السبعين مقرئا إلى قبائل نجد التي زعم أصحابها أنهم دخلوا في الإسلام: فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه رعل وذكوان وبنو لحيان فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوا على قومهم، فأمدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبعين رجلا من الأنصار كنا ندعوهم القراء كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، فلما بلغوا بئر معونة، غدروا بهم فقتلوهم، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقنت شهرا في صلاة الصبح يدعو عليهم «1» . وهذا كله مقتض من الناحية المنهجية إنشاء المؤسسات الخاصة بتعليم القران الكريم، وإيجاد الاليات المناسبة لذلك، ويكون هذا من أهم واجبات الدولة، ولذا فلابد من أن يكون تعلم القران الكريم جزا من الحياة التعليمية للطالب المسلم في مرحلة التعليم العام، أو التعليم المتخصص الجامعي أيا كان تخصصه، ولا ينبغي أن تكون للرياضة وزارة خاصة ويقل القران عن أن تكون له الرعاية ذاتها، وإن كانت المقارنة هنا غير قائمة ... والمراد الاعتناء بالجوانب القرانية اللفظية الخاصة، وإلا فالأصل صدور كل تصرفات الأمة عن هدي القران. __________ (1) مسلم (1/ 469) ، البخاري (1/ 340) ، أبو عوانة في مسنده (4/ 464) ، مراجع سابقة. (1/134) ________________________________________ ثانيا: التعليم الذاتي: (التعليم غير الإلزامي) : وتمثل هذا النوع في الحث الشديد لكل أفراد الأمة ليحصّلوا أكبر قدر ممكن من فرض الكفاية في تعلم اللفظ القراني سواء من حيث الكمية، أو من حيث الهيئات والظواهر الصوتية التي تتصل بالجوانب اللفظية للقران الكريم، ومن هذه المظاهر: 1- بيان الأجر العظيم لمن يعلم ولده القران: فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القران وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا فما ظنكم بالذي عمل بهذا» «1» . 2- بيان تميز حافظ القران، وغناه ولو بايات معدودة: فعن أنس ابن مالك صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل رجلا من صحابته فقال: «أي فلان هل تزوجت؟» قال: لا! وليس عندي ما أتزوج به. قال: «أليس معك قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك إِذا زُلْزِلَتِ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» قال: بلى! قال: «ربع القران» قال: «أليس معك اية الكرسي؟» قال: بلى! قال: «ربع القران» ، قال: «تزوج تزوج تزوج» «2» . 3- وكان هذا الحث يصل إلى حد الاستفزاز للفعل فعن عبد الله بن عمرو أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو يقول: ألا نستطيع أن نقوم بثلث القران __________ (1) أبو داود (2/ 70) ، أحمد (3/ 440) ، مرجعان سابقان، وانظر: لمحات الأنوار رقم 57، مرجع سابق. (2) رواه الترمذي (5/ 166) ، مرجع سابق، وقال: «حسن» ، وانظر: لمحات الأنوار رقم (1522) ، مرجع سابق. (1/135) ________________________________________ كل ليلة؟ قالوا: وهل نستطيع ذلك؟ قال: فإن قل هو الله أحد ثلث القران، قال فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يسمع أبا أيوب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق أبو أيوب» «1» . 4- تسمية سور مخصوصة وربطها بالحوادث الدينية والكونية: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «ومن قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه ولم يكن له عليه سبيل ومن قرأ خاتمة سورة الكهف أضاء نوره من حيث قرأها ما بينه وبين مكة» «2» ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: مات رجل فجاءته ملائكة العذاب فقعدوا عند رأسه فقال: لا سبيل لكم عليه قد كان يقرأ لي سورة الملك، فجلسوا عند رجليه، فقال لا سبيل لكم إنه كان يقوم علينا يقرأ سورة الملك، فجلسوا عند بطنه، فقال لا سبيل لكم عليه إنه أوعى في سورة الملك فسميت المانعة «3» . 5- ومن أساليب النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحث على حفظ السور، وتعظيم القران مما يؤدي إلى الحفظ الذاتي: الترغيب بأقوى الأساليب الصادقة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي بن كعب ... قال: «أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟» قلت: نعم أي رسول الله! قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأرجو ألاأخرج من هذا الباب حتى تعلمها» ، قال: فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث فلما دنونا من الباب، قلت: أي رسول الله ما __________ (1) مجمع الزوائد (7/ 147) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف» . (2) عبد الرزاق (3/ 378) ، مرجع سابق، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي ... انظر: لمحات الأنوار برقم 1018، مرجع سابق. (3) رواه الحاكم (2/ 540) ، مرجع سابق، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: لمحات الأنوار برقم 1378، مرجع سابق. (1/136) ________________________________________ السورة التي وعدتني؟ قال: ما تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأت عليه أم القران قال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني «1» ، وعن عبد الله بن جابر الأنصاري رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القران؟» قلت: بلى يا رسول الله! قال: «اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها» «2» . ونتيجة لذلك فقد انتشر حفظ القران بين كبار الصحابة وصغارهم رضي الله عنهم حتى كان البعض يتلقنه من أفواه المسافرين ويكفيه ذلك كعمرو بن سلمة، وساعد هذا أن الصحابة كانوا أمة يضرب بها المثل في الذكاء والألمعية وقوة الحافظة وصفاء الطبع وسيلان الذهن واحدة الخاطر حتى لقد كان الرجل منهم ربما يحفظ ما يسمعه لأول مرة مهما كثر وطال، وحسبك أن تعرف أن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم، وأن صدورهم كانت سجل أنسابهم، وأن قلوبهم كانت كتاب وقائعهم، وأيامهم ثم جاء الإسلام فأرهف فيهم هذه القوى والمواهب، وزادهم من تلك المزايا والخصائص بما أفاد طبعهم من صقل ونفوسهم من طهر وعقولهم من سمو خصوصا إذا كانوا يسمعون لأصدق الحديث وهو كتاب الله «3» . ثالثا: تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم في مسألة أخذ الأجرة على إقراء القران: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقبلوا أجرا على تعليم القران الكريم، وقال: «من يأخذ على تعليم القران قوسا قلده الله قوسا من نار» «4» ، وقد كثرت الأحاديث في هذا المعنى ... وبناء على هذا منع بعض أهل العلم أخذ الأجرة على تعليم القران __________ (1) أحمد (2/ 412) ، مرجع سابق. (2) الضياء في المختارة (9/ 130) ، مرجع سابق، وقال ابن كثير (1/ 11) : «هذا إسناد جيد» . (3) انظر: مناهل العرفان (1/ 204) ، مرجع سابق. (4) مجمع الزوائد (4/ 95) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني في الكبير» . (1/137) ________________________________________ الكريم، وعلة التحريم عندهم هي وجوب هذا التعليم وتعينه على المسلم: فالتعليم للقران واجب إلزامي عام يجب بذله لمن لم يطلبه فكيف بمن طلبه؟ «1» . وذهب الجمهور كعطاء ومالك «2» والشافعي وأبي ثور إلى جواز الاستئجار على قراءة القران- بل ذهب إلى ذلك الأئمة الثلاثة، ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القران عن العلماء كافة إلا الحنفية- «3» ، وقال الحكم: لم أسمع أحدا كره أجر المعلم «4» ، وأجابوا عن أدلة المانعين، واستدلوا لمذهبهم بأدلة تعليمية صريحة في مشروعية حل الأجرة، ومن أبرز الأدلة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» «5» ، وهذا نص عام، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصاب برقية باطل فقد أصبت برقية حق كل وأطعم أصحابك» «6» . وفصّل بعض أهل العلم بالنظر إلى الواقع الحقيقي للمسلمين، فنظر إلى أن المسلمين يشغلون عن ذلك بمعائشهم، وليس فيهم من يقوم به ويكفي الأمة ثغرته، فقال: «أخذ الأجرة على تعليم القران له حالات: فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه لأن فرض ذلك لا يتعين عليه، وإذا كان في حال أو في موضع لا يقوم به غيره لم تحل له الأجرة وعلى هذا يؤول اختلاف الأخبار فيه» «7» . __________ (1) انظر: بداية المجتهد (2/ 168) ، مرجع سابق. (2) انظر: الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي: المدونة الكبرى (1/ 62) ، دار صادر، بيروت. (3) انظر: فتح الباري (9/ 213) ، شرح الزرقاني (3/ 169) ، مرجعان سابقان. (4) البخاري (2/ 795) ، مرجع سابق. (5) البخاري (5/ 2166) ، مرجع سابق. (6) ابن حبان (13/ 474) ، الحاكم (1/ 747) ، والحديث في مجمع الزوائد (1/ 95) ، مرجع سابق، وتفصيل الموضوع في الأصل. (7) انظر: عون المعبود (9/ 204) ، مرجع سابق. (1/138) ________________________________________ وصفة الكلام هنا أن علة الاختلاف هي إلزامية تعليم القران، وأن القائلين بالإباحة يجدون الأجرة تعين على التفرغ، وهي أجرة على حق في مقابل من يأكله على باطل، وإن كانت الكمية الملزمة تختلف من فرض العين إلى فرض الكفاية- حتى كان من أجوبة من أباح الأجرة على أدلة من منعها: «أن تكون الاية- أي وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا (البقرة: 41) - فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذه عليه أجرا فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة» «1» ومن ثم فيجب على الإمام أن يعين المقرئين لإقامة الدين من بيت المال، وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال: ومن أين أنفق على عيالي؟ فردوه وفرضوا له كفايته «2» . ورجح ابن تيمية أن الأجرة تباح «للمحتاج، ولهذا اتفق العلماء على أنه يرزق الحاكم وأمثاله عند الحاجة وتنازعوا في الرزق عند عدم الحاجة وأصل ذلك في كتاب الله في قوله سبحانه وتعالى في ولي اليتيم وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (النساء: 6) «3» . والحاجة- فيما يظهر- ليس للشخص الذي لا بد من تفرغه، بل لسد ثغرة الدين الأعظم من كل الثغور، وهي تعليم أصل أصول الإسلام والمسلمين، وجعله عاما شائعا في حياة المسلمين ... والتفرغ في الغالب مطلوب لذلك لجسامة المهمة التي يقوم بها معلم القران، وضرورة تفرغه في الغالب لتبعاتها ... __________ (1) القرطبي (1/ 336) ، مرجع سابق. (2) القرطبي (1/ 336) ، مرجع سابق. (3) ابن تيمية (30/ 193) ، مرجع سابق. (1/139) ________________________________________ ولذلك فجواز الأجرة لمعلم القران كالإجماع، بل ذهب بعض المتأخرين إلى وجوبها، حتى أن فتوى الحنفية «اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القران ... استحسنوا ذلك وقالوا: بنى أصحابنا المتقدمون الجواب على ما شاهدوا من قلة الحفاظ، ورغبة الناس فيهم، ولأن الحفاظ والمعلمين كان لهم عطايا في بيت المال، وافتقادات من المتعلمين في مجازات التعليم من غير شرط وهذا الزمان قل ذلك، واشتغل الحفاظ بمعائشهم، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر لذهب القران فأفتوا بالجواز، والأحكام تختلف باختلاف الزمان وكان محمد بن الفضل يفتي بأن الأجرة تجب ويحبس عليها» «1» . وينبغي التنبيه إلى أن هذا الخلاف إنما هو في أخذ الأجرة من المتعلم لا إذا كانت الأجرة من بيت مال المسلمين كما هو واضح من كلام أهل العلم فيما تقدم، والكلام المتقدم لأهل العلم يدل صريحا على أن ذلك من مسؤوليات الدولة المباشرة ... ولذا تنبغي المناداة بقيام وزارات لرعاية شؤون القران الكريم تكون رديفة لوزارات التعليم والتوجيه والمعارف، وتستقل للأهمية البالغة ... وليست الرياضة بأحق في منحها وزارة مستقلة. على أن الباحث يختم هه المسألة بضرورة التذكير بالإخلاص وابتغاء وجه الله عزّ وجلّ والتعفف عن أجر القران ما دام المرء في غنى عنه قدر الإمكان فذلك أدعى أن يبسط للمرء باب القبول في الدنيا والاخرة، وقد قال الحسن البصري: «قرأ القران ثلاثة: رجل أخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس، وقوم قرؤوا القران وحافظوا حروفه وضيعوا حدوده، واستنزلوا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم، فقد كثر هذا الضرب في حملة القران لا كثرهم الله، ورجل __________ (1) البحر الرائق (8/ 22) ، مرجع سابق، وانظر: تحفة الأحوذي (6/ 191) ، مرجع سابق. (1/140) ________________________________________ قرأ القران فتداوى بدواء القران فوضعه على داء قلبه فسهر ليله، وعملت عيناه، تسربلوا الحزن، وارتدوا بالخشوع» «1» . المطلب الخامس: التدرج في التعليم: نقف عند تأمل ما ورد في هذا الباب أمام جهاز تربوي عظيم له أساليبه المتعددة في التوجيه والتحضيض، والنشر والإعلام ... ومن مظاهر هذا التدرج: 1- نزول القران الكريم منجما في ذاته على الرغم من أنه قد أنزل إلى بيت العزة من السماء الدنيا جملة: وفي هذا أعظم البيان على إرادة الله سبحانه وتعالى ثم رسوله المبلغ صلى الله عليه وسلّم أن يتدرج الصحابة رضي الله عنهم في حفظه ويستوعبوه بأيسر طريق، ولا يعترض على هذا بأن المراد بالتنجيم هنا نزوله على الحوادث، لعدم التنافي بين الأمرين من جهة، على أنه ليس كل ما في القران نزل بسبب أو بحادثة. 2- كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرئهم قليلا قليلا: ف «كان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم خمسا خمسا، وعشرا عشرا» «2» ، ويتلقونها كذلك ... وهذا مقتضى تربوي ومنهجي من مقتضيات نزول القران منجما ... 3- كان صلى الله عليه وسلّم يحثهم على حفظ عدد معين من الايات كعشر، ويتدرج في الحث والإلزامية لذلك على نحوين: __________ (1) (البيهقي) أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت 458 هـ: شعب الإيمان (2/ 531) ، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 هـ. (2) شعب الإيمان (2/ 331) ، ابن أبي شيبة (6/ 117) مرجعان سابقان. (1/141) ________________________________________ الأول: إخراج القارئ أو الحافظ القارئ لهذا القدر من حيز الغافلة كما في قوله صلى الله عليه وسلّم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر ايات في ليلة لم يكتب من الغافلين» «1» . الثاني: بيان الربح الحسي العظيم عند حفظ هذا القدر: فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله! اشتريت مقسم بني فلان في تخت فيه كذا وكذا قال: «أفلا أنبئك بما هو أكثر منه ريحا» قال: وهل يوجد؟ قال: «رجل تعلم عشر ايات» فذهب الرجل فتعلم عشر ايات، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره «2» ، ومثل هذا الربح ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من قرأ عشر ايات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربعا من أولها وأية الكرسي وايتان بعدها وثلاث خواتيمها أولها لله ما في السماوات» «3» . ويمثل البيان للفضل نوعا من التدرج ليحفظ المخاطب أكثر بغية الحصول على فضل أكثر أو فضل معين متميز. 4- التعلم الجزئي والجملي: وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يحثهم على التعلم جمليا للقران كله تشويقا وتهييجا، ثم يعود صلى الله عليه وسلّم فيحثهم جزئيا ليتدرج بهم، ويقدح في خلدهم إمكانية فعل بعضها على الأقل ... فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرأوا القران فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة ال عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو __________ (1) الحاكم (1/ 742) ، مرجع سابق، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» . (2) الحاكم (1/ 743) ، مرجع سابق، ورواه الضياء في المختارة (8/ 278) . (3) الدارمي (2/ 541) ، مرجع سابق. (1/142) ________________________________________ كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» «1» . أنموذج تطبيقي: ولأن التدرج في الإقراء كان فعله صلّى الله عليه وسلّم فقد كانت طريقته التعليمية الإرشادية هي التي تستفز الصحابة رضي الله عنهم للحفظ والإتقان على هيئة متدرجة، ولذا فسنأخذ نموذجا تستبين فيه الطريقة العلمية التي كان يسلكها النبي صلّى الله عليه وسلّم لإلزام أصحابه بحفظ القران واستظهاره دون إلزام! مباشر، فقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ عشر ايات من الكهف عصم من فتنة الدجال» «2» ، دون تحديد لمكان العشر وهو تحضيض على حفظ أي عشر منها، وروى النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدجال فقال: «من راه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف» «3» دون تحديد لكمية هذه الفواتح، وحددت الفواتح بعشر فيما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا: «من حفظ عشر ايات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» وفي لفظ عنده: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف» ، ورواية «العشر الأخيرة» تدرج اخر وحثّ فبقيت كل أجزاء السورة محفوظة بين الغالب الأعم من المسلمين، وإنما نوّع الكمية التي تحفظ ومكانها من السورة بغية الوصول بالمسلمين إلى حفظها كلها، أو إلى أن يحفظها معظم المسلمين __________ (1) مسلم (1/ 553) ، مرجع سابق. (2) ابن حبان (3/ 65) ، مرجع سابق، انظر: (النسائي) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ت 303 هـ: فضائل القران ص 95، تحقيق: د. فارروق حمادة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 2، 1992 م. (3) مسلم (4/ 2252) ، الحاكم (4/ 538) ، الترمذي (4/ 510) ، أبو داود (4/ 117) ، النسائي في الكبرى (5/ 15) ، ابن ماجة (2/ 1356) ، مراجع سابقة. (1/143) ________________________________________ ولو بالتوزيع بينهم، فقد يفضل البعض أولها، وقد يختار بعضهم اخرها، وقد يختار البعض ما بين ذلك، والعادة جارية بذلك كله ... هذا إن لم يقم الواحد منهم بحفظها مع أن التحضيض على ذلك شديد، وبذا جمع السيوطي بين الروايات المختلفة فقال: «وعلى هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع من روى من اخرها ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها» «1» ، وهذا أرجح وأملح من جعل بعض الروايات شاذة بالميزان الحديثي لأول وهلة؛ إذ الترجيح فرع التعارض، ولا تعارض مع الجمع. وفي حال عدم الحفظ لهذه السورة- وهذا نادر مع هذا الحض الشديد والتهييج البالغ لحفظها- فقد حث النبي صلّى الله عليه وسلّم على قراءتها ولو نظرا فيما رواه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق» «2» وفي لفظ: «أضاء له النور ما بين الجمعتين» «3» . وحفنا الله عزّ وجلّ بتنوع الأجر فيها زيادة في التحضيض على حفظها والتدرج على حفظها، فعن معاذ ابن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قرأ أول سورة الكهف واخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين الأرض إلى السماء» «4» ، على أنه- مع ذلك- أمر بإتقانها __________ (1) نقله عنه صاحب عون المعبود (11/ 304) ، وصاحب تحفة الأحوذي (8/ 157) ، مرجعان سابقان. (2) الدارمي (2/ 546) ، مرجع سابق، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 6471، مرجع سابق. (3) الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 6470، مرجع سابق. (4) الطبراني في الكبير 20/ 197، مرجع سابق. (1/144) ________________________________________ إتقانا بينا من حيث الأداء فيما رواه أبو سعيد الخدري أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا من مقامه إلى مكة ومن قرأ بعشر ايات من اخرها فخرج الدجال لم يسلط عليه» «1» . وهو هنا حثّ على حفظ الأصل اللفظي وقراءته كما حث على إتقان أداء اللفظ بأسلوب تعليمي متدرج كاد يشبه الإلزام التكليفي والفعلي ويظهر أنه فاق ذلك، ولكن بأسلوب فريد كم هو بحاجة وإلى تأمل وإعجاب. وليس المراد من الحديث مجرد القراءة والحث بفضل مزيّف ... حاشا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، وقد أنكر ذلك العلماء فقد قال الغزالي: «وأما قوله عليه السّلام قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص) تعدل ثلث القران فما أراك أن تفهم وجه ذلك فتارة تقول هذا ذكره للترغيب في التلاوة وليس المعنى به التقدير وحاشا منصب النبوة عن ذلك» «2» ، بل هذا الذي ذكر ها هنا من إرادة الحفظ إنما دلت عليه دلالة التنبيه، وهي فوق دلالة الإشارة «3» . __________ (1) النسائي في الكبرى (6/ 236) ، مرجع سابق. (2) (الغزالي) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ت 505 هـ: جواهر القران ص 77، تحقيق: د. محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، ط 1، 1985 م. (3) انظر في دلالة التنبيه (الامدي) علي بن محمد الامدي أبو الحسن ت 631 هـ: الإحكام في أصول الأحكام (3/ 71) ، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404 هـ. (1/145) ________________________________________ المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي صلّى الله عليه وسلّم: تقدم في الفصل الأول أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام بوظيفته على أوسع نطاق جغرافي وتاريخي، وظهر هناك ما قام به النبي صلّى الله عليه وسلّم لذلك، ويذكر هنا الوسائل التعميمية للقران الكريم، كما جعلت هذه الوسائل نشر القران مسألة ضرورية ذاتية لكون المسلمين مسلمين إجمالا، ولكون المجتمع المسلم مجتمعا مسلما، فلا يكتفي المسلم بمجرد مصحف معلّق في بيته- مع حسن ذلك-، ولأن هذه الوسائل تنقسم إلى وسائل عامة، ووسائل خاصة أكثر ظهورا في النشر، فإن البحث ينقسم إلى: المطلب الأول: وسائل النشر العامة. المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران وتعليمه. المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية وقيادة الناس. المطلب الرابع: تعليمهم تسمية السور وألقابها. المطلب الأول: وسائل النشر العامة: وهي تمثل عمل جهاز تعميمي للثقافة القرانية خارج نطاق الحيز المكاني للجامعة القرانية: وتنقسم إلى وسائل تطبيقية فيه شيء من شبه الإلزام، وإلى وسائل إغرائية دعائية ولكن بالحق، والصدق، وليس بمجرد الإغراء والدعاية: أولا: وسائل تطبيقية شبه إلزامية وهي وسائل النشر العامة: 1- التعليم العام للقران الكريم: فقد أقرأ صلّى الله عليه وسلّم مبلغ جهده، وخصص مقرئين للافاق ... (1/146) ________________________________________ 2- ربط الحياة اليومية للمسلمين بايات القران الكريم: فالمسلم يستيقظ فيقرأ عشر ايات من اخر سورة ال عمران، ثم يقرأ اية الكرسي والمعوذات في مواضعها من يومه، ويختم ليلته بقراءة لسور الإسراء والزمر أو الملك أو أواخر البقرة على الأقل، ولا بد أن يقرأ عشر ايات في اليوم حتى لا يكون من الغافلين. 3- أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بكتابة القران والتشديد في ذلك حتى منع من كتابة غيره معه في أول الأمر: كما قال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكتبوا عني، ومن كتب غير القران فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «1» . 4- ربط الحرز اليومي، أو سد التقصير بالقران الكريم: فقد جاء عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقيت أبا مسعود عند البيت فقلت: حديث بلغني عنك في الايتين في سورة البقرة؟ فقال: نعم! قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الايتان من اخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» «2» والمعنى: «أغنتاه عن قيام اللّيل وقيل أراد أنهما أقلّ ما يجزئ من القراءة في قيام الليل، وقيل تكفيان الشّرّ وتقيان من المكروه» «3» ، وكالمعوذات، والتحرز من الشيطان باية الكرسي ... 5- الأمر بتعلمه وجعله أول مادة دراسية في إطار منهج بناء الأمة: كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هذا القران مأدبة الله فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل فإن أصغر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن __________ (1) مسلم (4/ 2298) ، ابن حبان (1/ 265) ، الحاكم (1/ 216) ، أحمد (3/ 12) ، مراجع سابقة. (2) البخاري (4/ 1174) مسلم (1/ 554) ، مرجعان سابقان. (3) النهاية (4/ 193) ، مرجع سابق. (1/147) ________________________________________ الشيطان يخرج من البيت يسمع فيه سورة البقرة» «1» وظاهر أن الحديث له حكم الرفع فقوله: «فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل» ظاهر فيه الإلزام للتعلم، وتقدمت في الفصل الأول الأدلة الامرة بالتعلم ... ومع هذه الأدلة التي تعم الراعي والرعية فإن نفي الاستطاعة غير موجود في مؤسسات المجتمعات الإسلامية ويأمل المرء أن يجد مناهج كليات الطب والهندسة، والحاسوب ... ونحوها من الكليات الفنية غير خلية من هذه المادة العامة الأساسية، مع أنه يوجد المتفوقون والنابهون في الغالب، وقد تقرر عليهم محفوظات كثيرة، ولا يقرر عليهم حفظ شيء من القران مفسرا تفسيرا ميسرا «2» ، بالإضافة إلى الربط الإسلامي التربوي للمناهج المأخوذة في مثل هذه الكليات بالقران الكريم والمعتقدات الإسلامية، ولو بإشارات خفيفة قياما بالتذكير، ودرا للغافلة. 6- وكان صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم سماع القران إذا لم يريدوا تلاوته مباشرة لعارض كسل، أو لإرادة تدبر، أو غيره: كما سمع صلّى الله عليه وسلّم من ابن مسعود رضي الله عنه، ولذا بوب البخاري باب «من أحب أن يسمع القران من غيره» «3» . 7- صبغ الأجواء ومختلف الأمكنة بالقران: فيحثهم على قراءة القران في البيت، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن البيت يقرأ فيه القران يكثر خيره والبيت الذي لا يقرأ فيه القران يقل خيره» «4» ، ومن هذا الباب قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ... (ال عمران: 191) __________ (1) الدارمي (2/ 521) ، عبد الرزاق (3/ 368) ، المعجم الكبير (9/ 129) مراجع سابقة. (2) انظر: أحمد علي الإمام (دكتور) : مفاتح فهم القران: تفسير لغريبه، وتأويل لمشكله، دار المنى، دمشق، ط 1، 1421 هـ- 2000 م كمقترح لهذا التفسير الميسر، أو يعتمد تفسير الجلالين. (3) البخاري (4/ 1925) ، مرجع سابق. (4) رواه الدارقطني في الأفراد. انظر: مجمع الزوائد (7/ 171) . (1/148) ________________________________________ والقران أعظم الذكر، ومن هذا الباب حديث عبد الله بن المغافل في قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم القران على دابته ... ليصير الجو مصبوغا بصبغة الله جل جلاله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً (البقرة: 138) ، ويبلغ التفاعل مع القران وصبغ الأجواء به حدا أن يصبغ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بصبغة القران: فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شيبتني هود وأخواتها سورة الواقعة وسورة القيامة والمرسلات وإذا الشمس كورت وإذا السماء انشقت وإذا السماء انفطرت قال وأحسبه ذكر سورة هود» «1» . 8- ترديد القران في مواضع حياتهم اليومية: كقراءة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (الكافرون: 1) عند النوم، ومثلها اية الكرسي وأواخر سورة البقرة: فعن جبلة رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت علمني شيئا ينفعني، قال: «إذا أخذت مضجعك فاقرأ قل يا أيها الكافرون حتى تختمها فإنها براءة من الشرك» «2» ، وتكثر الايات التي تردد عقب الصلوات وقبل النوم وبعد الاستيقاظ منه ... 9- الأمر بقراءة أقل قدر مستطاع من القران الكريم خارج الفاتحة: ففي صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله! أقرئني القران. قال: «اقرأ ثلاثا من ذوات الر» قال الرجل: كبر سني، وثقل لساني، وغلظ قلبي. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ ثلاثا من ذوات حم» فقال الرجل مثل ذلك ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة فأقرأه رسول الله إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ (الزلزلة: 1) حتى بلغ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره قال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أبالي ألاأزيد عليها حتى ألقى الله، ولكن أخبرني بما علي من العمل أعمل ما أطقت العمل. __________ (1) الحاكم (2/ 374) ، الترمذي (5/ 402) ، سعيد بن منصور في سننه (5/ 370) ، مرجع سابق. (2) النسائي في الكبرى (6/ 200) ، مرجع سابق. (1/149) ________________________________________ قال: الصلوات الخمس، وصيام رمضان، وحج البيت، وأد زكاة مالك، ومر بالمعروف وانه عن المنكر «1» . ومراد الرجل أن يحفظ فلينظر كيف أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بحفظ هذه السور الطوال؟ ولذا فإن معنى قوله: «وغلظ قلبي» أي غلب عليه قلة الحفظ وكثرة النسيان و «ثقل لساني» أي ثقل بحيث لم يطاوعني في تعلم القران ولا تعلم السور الطوال» «2» . 10- قيام كتبة الوحي بتبليغ النازل من القران الكريم: فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم سرى عنه فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة فأكتب وهو يملي علي، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القران، حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت قال: «اقرأ» فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ثم أخرج به إلى الناس «3» . 11- ومثله إقامة النواب عنه صلّى الله عليه وسلّم في الإقراء: فعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشغل فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القران ... » «4» . 12- جعله خير ما يتقرب به المتقربون: فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما وما تقرّب العباد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه يعني القران» «5» . __________ (1) ابن حبان (3/ 50) ، أبو داود (2/ 57) ، النسائي في الكبرى (5/ 16) ، والصغرى (2/ 158) ، أحمد (4/ 149) ، مراجع سابقة. (2) انظر: عون المعبود (4/ 192) ، مرجع سابق. (3) الطبراني في الأوسط (2/ 257) ، والكبير (5/ 142) ، مرجعان سابقان. (4) المختارة (8/ 267) ، أحمد (5/ 324) ، مرجعان سابقان. (5) الترمذي (5/ 176) ، أحمد (5/ 268) ، مرجعان سابقان. (1/150) ________________________________________ 13- التفضيل لبعض السور من باب التحضيض التنويعي على قراءتهن: مما يجعل النفس تتشوف إلى حفظها أو تلاوتها ... ولنأخذ سورة البقرة نموذجا لأنها أطول السبع الطول: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» «1» . 14- الترهيب من عدم القراءة: وفيه تعميم للقراءة فهي قراءة عامة تتوجه لكل الأمة: كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي تقدم قبل قليل في رقم (5) من هذه الفقرة. ثانيا: وسائل إغرائية دعائية ولكن بالحق، والصدق، وليس بمجرد الإغراء والدعاية الباطلة: فتلحظ من طريقة القران وأسلوب النبي صلّى الله عليه وسلّم في نشر القران وتعميم تعليمه منهجا تشويقيا إغرائيا يؤدي إلى تعظيم القران وتبجيله، وتعلمه- من بعد- ليصبغ جو المسلمين بالثقافة القرانية، وتمثل ذلك في عدة مظاهر: كثرة الأسماء المعنوية، والصفات المختلفة للقران: فإن ذلك يجذب المرء إليه، ويجعله شديد التعظيم له، على أن مقاصد القران الكريم مختصرة في أسمائه، وهو إعجاز من نوع اخر ... فمن أسمائه المذكورة في ثناياه: التنزيل، والذكر، والزبور، والسبع المثاني، والصحف، والفرقان، والكتاب، والنور، والبشرى، والبصيرة، والبلاغ، والحق، والحكيم، والذكرى، والرحمة، والشفاء، والعربي، والعزيز، والعظيم، والعلي، والكريم، والمبارك، والمبين، والمجيد ... __________ (1) مسلم (1/ 539) ، وانظر ما جمعه الغافقي في لمحات الأنوار ابتداء من الحديث رقم 726 حول فضلها، وكيف تنوع أسلوب بيان الفضل عند النبي صلّى الله عليه وسلّم. (1/151) ________________________________________ نسبة التعليم فيه إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) (الرحمن: 1- 2) ، وهذا شبيه بنسبة فضل الصوم إليه في قوله جل جلاله «الصوم لي وأنا أجزي به» ، ولكن هذا ورد في الحديث والأول في القران، وفي ذلك إغراء شديد بتعلم ألفاظ القران الكريم. الأمر بتلاوته وتفصيل ادابها في القران الكريم ذاته، وهو أمر لافت ... أن يختزل ذكر بعض الأحكام الفقهية اليومية كالوضوء والصلاة، فتذكر إجمالا في القران الكريم، ويذكر الأمر بالتلاوة وتفصل ادابها وفضائلها. إخبار الله ونبيه صلّى الله عليه وسلّم عن الأجور العظيمة التي يهبها الله لمن يتقن القران أو بعضا منه مما يجعل المرء يقدس القران أعظم التقديس فمن ذلك فعن بريدة رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعته يقول: «تعلموا البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة، قال: ثم سكت ساعة ثم قال: تعلموا البقرة وال عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف وإن القران يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول هل تعرفني فيقول ما أعرفك فيقول أنا صاحبك القران الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان عم كسينا هذا فيقال بأخذ ولد كما القران ثم يقال اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ حدرا كان أو ترتيلا» «1» ، وكان التابعون من تلاميذ الصحابة رضي الله عنهم يذكرون هذا الحديث بأسلوبهم، فعن وهب الذّماريّ قال: __________ (1) الدارمي (2/ 543) ، أحمد (5/ 348) ، مرجعان سابقان. (1/152) ________________________________________ من اتاه الله القران فقام به اناء اللّيل واناء النّهار وعمل بما فيه ومات على الطّاعة بعثه الله يوم القيامة مع السّفرة والأحكام- قال سعيد السّفرة الملائكة والأحكام الأنبياء- قال: ومن كان حريصا وهو يتفلّت منه وهو لا يدعه أوتي أجره مرّتين، ومن كان عليه حريصا وهو يتفلّت منه ومات على الطّاعة فهو من أشرافهم، وفضّلوا على النّاس كما فضّلت النّسور على سائر الطّير، وكما فضّلت مرجة خضراء على ما حولها من البقاع فإذا كان يوم القيامة قيل: أين الّذين كانوا يتلون كتابي لم يلههم اتّباع الأنعام فيعطى الخلد والنّعيم فإن كان أبواه ماتا على الطّاعة جعل على رؤسهما تاج الملك فيقولان: ربّنا ما بلغت هذا أعمالنا؟ فيقول بلى إنّ ابنكما كان يتلو كتابي، ومن ذلك ما جاء عن كعب قال: عليكم بالقران فإنّه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالرّحمن عهدا وقال في التّوراة: يا محمّد إنّي منزّل عليك توراة حديثة تفتح فيها أعينا عميا واذانا صمّا وقلوبا غلفا «1» . التشويق بالتشبيه بالمحسوسات: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مثل الذي يقرأ القران ولا يعمل به كمثل ريحانة ريحها طيب ولا طعم لها، ومثل الذي يعمل بالقران كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الذي يعمل بالقران ويقرؤه كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل الذي لا يقرأ القران ولا يعمل كمثل الحنظلة طعمها خبيث وريحها خبيث» «2» . __________ (1) الدارمي (2/ 525) ، مرجع سابق. (2) مجمع الزوائد (7/ 159) ، مرجع سابق، وقال: «روى ابن ماجه منه طرفا رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» . (1/153) ________________________________________ المطلب الثاني: (الصلاة) وسيلة لنشر القران وتعليمه: ربط العبادات الإسلامية بالقران الكريم: ربطت العبادات الإسلامية بالقران الكريم سماعا وإسماعا، وقراءة وإقراء ... سواء كانت هذه العبادات: يومية (كالصلاة) ، أو قراءة ايات أو سور عند النوم، أو عند الاستيقاظ منه فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في كل ليلة سورة بني إسرائيل والزمر «1» ، وفعله للاقتداء كما سبق. أم كانت أسبوعية كيوم الجمعة كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» «2» ، ومن ذلك قراءته التعليمية على المنبر في خطبة الجمعة حيث يجتمع أكبر قدر من المسلمين، حيث قد ثبتت هذه الناحية التعليمية لألفاظ القران في خطبة الجمعة بصفة عامة كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كانت له صلّى الله عليه وسلّم خطبتان يجلس بينهما: يقرأ القران ويذكر الناس «3» ، ومن أمثلة أثر هذا النوع من تعليم القران ما جاء عن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد مكثنا سنة أو سنتين كان تنّورنا وتنّور النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة وما أخذت ق والقران المجيد إلّا على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها كلّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب النّاس وفي لفظ: كان يعلم الناس يقرأها كل جمعة على المنبر «4» . __________ (1) الحاكم (2/ 472) ، النسائي في السنن الكبرى (6/ 444) ، الترمذي (5/ 475) ، مراجع سابقة. (2) الحاكم (2/ 399) ، النسائي (1/ 372) ، مرجعان سابقان. (3) مسلم (2/ 589) . (4) مسلم (2/ 595) . (1/154) ________________________________________ - أم كانت العبادات سنوية كما في رمضان وهو شهر القران حيث ينفر الناس خفافا وثقالا لتدارس القران وأقل المسلمين في الغالب الأعم من يختم مرة على الأقل. أم كانت عمرية (الحج) . وهذا الربط بالقران الكريم إما فهما وإما قراءة في معظم تفاصيل وجزيئات تلك العبادة ... وبذا لا يستطيع مسلم داخل في هذا المسمى (الإسلام) إلا أن يتعلم الواجب العيني من القران الكريم، وهذه نقطة جديرة بالنظر ... الصلاة: وإنما أفردناها بالذكر لأثرها البالغ فهي عبادة تؤدى خمس مرات يوميا، منها ست ركعات جهرية- على الأقل-، ولنذكر بشيء من التفصيل ربط الصلاة بالقران الكريم، والأثر التعليمي لذلك على مستوى ألفاظ القران الكريم عظيم؛ إذ أضحت هذه المفروضات اليومية وسيلة لنشر القران الكريم تحفيظا وإقراء، وصارت الصلاة بذلك مدار قراءته وتلقينه للايات «قارن هذه النقطة فقط بما عند أهل الكتابين فضلا عن غيرهم في حفظ كتاب الله عزّ وجلّ، أو جعله عاما» : فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ معظم القران موزعا على ركعات الفريضة اليومية: وذلك إن لم يكن يقرؤه كله، ويدل على هذا ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما من سورة من المفصل صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأها كلها في الصلاة «1» ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يعدد الاي في الصلاة فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعدد الاي في الصلاة «2» ، وكان الصحابة رضي الله عنهم __________ (1) الطبراني في الكبير (12/ 365) ، مرجع سابق، وهو في مجمع الزوائد (2/ 114) ، مرجع سابق. (2) الحديث عزاه في مجمع الزوائد (2/ 114) إلى الطبراني، مرجع سابق، وانظر: البيهقي في الكبرى (2/ 253) ، أبو داود (2/ 253) ، مرجعان سابقان فقد بوبا لعد الاي في الصلاة. (1/155) ________________________________________ يختمون القران في الصلاة، ولا يفعلون ذلك إلا عن اقتداء فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرؤن القران من أوله إلى اخره في الفرائض «1» ، وعن أبي العالية: قال أخبرني من سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لكل سورة حظها من الركوع والسجود» «2» ، وعن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الغداة من الستين إلى المائة «3» وفي هذا دلالة واضحة على متابعتهم الدقيقة له، حتى كانوا يعدون الايات؛ إذ لم تكن عدد الايات قد دونت بالصورة السهلة الموجودة في عهدنا، ثم استمر العلماء على استحباب ذلك القدر في الصلاة «4» ، وعن ابن عباس قال: إن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (المرسلات: 1) فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لاخر ما سمعت رسول الله يقرأ بها في المغرب «5» ، وروى ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الركعة الأولى من الفجر ب «ألم تنزيل السجدة» ، وفي الاخرى ب «هل أتى على الإنسان» «6» ، بل كان ذلك واضحا حتى قبل الصدع بالدعوة، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر، والمشركون يسمعون «فبأى الاء ربكما تكذبان» «7» . __________ (1) الطبراني في الأوسط 8/ 123، مرجع سابق. (2) أحمد (5/ 59) ، مجمع الزوائد (2/ 114) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» . (3) البخاري (1/ 202) ، مسلم (1/ 338) ، مرجعان سابقان. (4) انظر مثلا: علاء الدين الكاساني ت 587 هـ: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 205) ، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1982. (5) مسلم (1/ 338) ، مرجع سابق، (الشافعي) محمد بن إدريس أبو عبد الله ت 204 هـ: مسند الشافعي ص 215، دار الكتب العلمية، بيروت. (6) البخاري (1/ 303) ، مسلم (2/ 599) ، الحاكم (2/ 554) ، أبو داود (1/ 282) ، ابن ماجه (1/ 269) ، مراجع سابقة. (7) مجمع الزوائد (2/ 115) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام» . (1/156) ________________________________________ وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بالطوال كثيرا، ويكمل السورة غالبا، فعن زيد بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال «1» ، وقد يقرأ بغيرها لعارض كما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمع بكاء الصبي وهو في الصلاة مع أمه فيقرأ بالسورة الخفيفة أو السورة القصيرة «2» . وتسلسلت هذه المنهجية فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ في الفجر سورة البقرة فلما فرغ قال له عمر: كادت الشمس تطلع يا خليفة رسول الله؟ فقال رضي الله عنه: لو طلعت لم تجدنا غافلين «3» ، وعن نافع قال: ربما أمنا ابن عمر رحمه الله بالسورتين والثلاث في الفريضة «4» . ووصل الاعتناء بنشر القران الكريم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسمعهم الايات في الصلاة السرية أحيانا، وضبطوا السور التي كان يقرؤها في الصلاة السرية، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة، وكان يسمعنا أحيانا الاية وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية، وكان يقرأ في الركعتين الاخريين بفاتحة الكتاب في كل ركعة. قيل: وكذلك في صلاة العصر؟ قال: وكذلك في صلاة العصر «5» ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ في المغرب بالأعراف فرقها في الركعتين «6» ، وعن __________ (1) مجمع الزوائد (2/ 118) ، مرجع سابق، وقال: «رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح» . (2) أبو عوانة في مسنده (1/ 422) ، مرجع سابق. (3) ابن أبي شيبة (1/ 310) ، مرجع سابق، عبد الرزاق (2/ 113) ، مرجع سابق. (4) مجمع الزوائد (2/ 114) ، مرجع سابق، وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» . (5) البخاري (1/ 270) ، مسلم (1/ 333) ، المنتقى (1/ 56) ، أبو عوانة في مسنده (1/ 474) ، مراجع سابقة. (6) سنن النسائي الكبرى (1/ 340) . (1/157) ________________________________________ أنس رضي الله عنه أم أهل بيته فصلّى بنا الظهر والعصر فقرأ قراءة همسا فقرأ بالمرسلات والنازعات وعم يستاءلون ونحوها من السور «1» ، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الظهر والعصر سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية «2» ، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بهم الهاجرة فرفع صوته، فقرأ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (الشمس: 1) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (الليل: 1) فقال له أبي بن كعب: يا رسول الله أمرت في هذه الصلاة بشيء؟ قال: «لا! ولكني أردت أن أوقت لكم» «3» . كان صلّى الله عليه وسلّم يسمعهم قراءته في الغالب في نوافل الليل خاصة فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يوتر بتسع ركعات، فلما أسن وثقل أوتر بسبع، وصلّى ركعتين وهو جالس يقرأ فيهن بالرحمن والواقعة قال أنس: ونحن نقرأ بالسور القصار إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (الزلزلة: 1) وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (الكافرون: 1) ونحوهما «4» . ومثل ذلك كان فعل الصحابة، فتسلسلت المنهجية بذلك عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلّى ابن مسعود العشاء الاخرة فاستفتح بسورة الأنفال حتى بلغ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الأنفال: 40) ركع، ثم قرأ في الركعة الثانية بسورتين من المفصل وفي رواية بسورة من المفصل «5» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدمت __________ (1) الطبراني في الأوسط (3/ 147) ، وهو في مجمع الزوائد (2/ 116) ، مرجعان سابقان. (2) مجمع الزوائد (2/ 116) ، مرجع سابق، وقال: «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط» . (3) الطبراني في الأوسط (9/ 106) ، والحديث في مجمع الزوائد (2/ 116) ، مرجعان سابقان. (4) صحيح ابن خزيمة (2/ 143) ، مرجع سابق. (5) البخاري (1/ 268) معلقا، ووصله الطبراني في الكبير (9/ 263) . (1/158) ________________________________________ المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر ورجل من بني غفار يؤم الناس فقرأ في الركعة الأولي بسورة مريم، وفي الثانية ويل للمطففين أحسبه قال في صلاة الفجر «1» . ووضع ابن عباس قاعدة عامة لحفظ السور من في النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، فعن كريب قال: سألت ابن عباس عن جهر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة بالليل فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو شاء حافظ أن يتعلمها لفعل «2» . بل كانت القراءة في الصلاة وسيلة بلاغ وإنذار فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بالطور في المغرب، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي «3» . وربط الاجتهاد في النوافل بالقران الكريم: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام بعشر ايات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة اية كتب من القانتين ومن قام بألف اية كتب من المقنطرين» «4» ، والمقنطرين أي من المالكين مالا كثيرا والمراد كثرة الأجر «5» . __________ (1) شرح معاني الاثار (1/ 183) . (2) شعب الإيمان (2/ 383) ، مرجع سابق. (3) البخاري (4/ 1475) ، مسلم (1/ 338) ، مرجعان سابقان. (4) أبو داود (2/ 57) ، ابن خزيمة (2/ 181) ، مرجعان سابقان. (5) انظر: عون المعبود (4/ 172) ، مرجع سابق. (1/159) ________________________________________ المطلب الثالث: منح قراء القران الصدارة في الألقاب العلمية وقيادة الناس: وتمثل ذلك في التالي: أولا: جعل حملة القران ممن يتلوه حق تلاوته هم المقدمون في إمامة الناس الدينية والدنيوية: فأما الدينية فيكاد يكون هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، لذا بوب ابن خزيمة: «باب استحقاق الإمامة بالازدياد من حفظ القران وإن كان غيره أسن منه وأشرف» «1» ، ثم ذكر حديث أبي مسعود «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» «2» الحديث، ورواه الحاكم في مستدركه ولكن عوض قوله فأعلمهم بالسنة «فأفقههم فقها فإن كانوا في الفقه سواا فأكبرهم سنا» ، وقول بعضهم: إن الأقرأ زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان الأعلم صحيح، لكن قد ورد تخصيص القراءة من حيث هي قراءة، ولفظه: «يؤم القوم أكثرهم قرانا، فإن كانوا في القران واحدا فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة واحدا فأفقهم فقها، فإن كانوا في الفقه واحدا فأكبرهم سنا» «3» . وعلى هذا: فلا يقدّم أي معيار اخر إلا مع التماثل في القراءة، فعن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال قال لنا: «إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما» ، فقيل لأبي قلابة: فأين القراءة؟ قال: كانا متقاربين «4» . __________ (1) ابن خزيمة (3/ 5) ، مرجع سابق. (2) مسلم (1/ 465) . (3) الحاكم (1/ 370) ، مرجع سابق. (4) مسلم (1/ 466) ، ابن خزيمة (1/ 206) ، أبو داود (1/ 161) ، مراجع سابقة. (1/160) ________________________________________ وأما ما جاء عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم، وأسأل عن عواقبها، فقيل: تعلم القران. فقلت: إذا حفظته فما يكون اخره؟ قالوا: تجلس في المسجد فيقرأ عليك الأحداث، ثم لا يلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو مساويك فتذهب رئاستك ... فحكاية هشة لا يستسيغها اللسان لمكان أبي حنيفة، وقد قال الذهبي تعليقا عليها: «قلت: من طلب العلم للرئاسة قد يفكر في هذا وإلا فقد ثبت قول المصطفى صلوات الله عليه «أفضلكم من تعلم القران وعلمه» ، يا سبحان الله! وهل محل أفضل من المسجد؟ وهل نشر لعلم يقارب تعليم القران؟ كلا والله وهل طلبة خير من الصبيان الذين لم يعملوا الذنوب؟» «1» . وعلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك تطبيقيا: فجعل الحافظ (حامل القران) هو المقدم على أمور الناس الدينية والدنيوية ما دامت العوامل المساعدة الاخرى قد وجدت فيه، وقد جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن أبي العاص أمير الطائف «2» لما كان أكثرهم قرانا على الرغم من أنه أصغرهم سنا فعنه رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمّ قومك» . «3» .، وبيان قصة تأميره رضي الله عنه عليهم فيما جاء عنه قال: قدمت في وفد ثقيف حين قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلبسنا حللنا بباب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا؟ فكل القوم أحب الدخول على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكره التخلف عنه، قال عثمان- وكنت أصغرهم- فقلت: إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم. __________ (1) سير أعلام النبلاء (6/ 396) ، مرجع سابق. (2) انظر: فتح الباري (13/ 241) ، مرجع سابق. (3) أبو عوانة في مسنده (1/ 420) ، مرجع سابق. (1/161) ________________________________________ قالوا: فذلك لك فدخلوا عليه، ثم خرجوا، فقالوا: انطلق بنا! قلت: أين؟ قالوا: إلى أهلك. فقلت: خرجت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي صلّى الله عليه وسلّم أرجع، ولا أدخل عليه، وقد أعطيتموني ما قد علمتم. قالوا: فاعجل فإنا قد كفيناك المسألة فلم ندع شيئا إلا سألناه. فدخلت: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يفقهني في الدين ويعلمني. قال: «ماذا قلت» ، فأعدت عليه القول فقال: «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أصحابك اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من يقدم عليك من قومك» فذكر الحديث «1» ، وفي رواية أخرى مختصرة قال: فيها فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته مصحفا كان عنده فأعطانيه «2» ، وما سأل مصحفا إلا لأنه كان أحفظهم. فصارت الإمامة الدنيوية استحقاقا واجبا من استحقاقات الحافظ (حامل القران) ، بل يقدم الصغير على الكبار إذا كان قارئا كما ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا أوحى إليه، كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامها، فيقولون: أتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبي الله حقا. قال: «صلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرانا» فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرانا لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو __________ (1) الطبراني في الكبير (9/ 50) . (2) الاحاد والمثاني (3/ 191) . (1/162) ________________________________________ سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشىء فرحي بذلك القميص «1» ، وهذا يردّ ما ذهب إليه بعضهم من أن الصحابة لم يكونوا يؤمون إلا لأنهم فقهاء حيث أسلموا على كبر. تسلسل المنهجية: لقي نافع بن عبد الحارث عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة فقال عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى. قال: ومن بن أبزى؟ قال: رجل من موالينا. قال عمر: فاستخلفت عل |