الكاتب : حامد عبدالمجيد - مصر
تراث كل أمة هو ذاكرتها، وأمة بلا تراث هي أمة بلا ذاكرة وبلا جذور لذا تعمل الأمة على الحفاظ على ذاكرتها من الضياع والنسيان عن طريق عنايتها بهذا التراث وتيسير دراسته واستيعابه لأفرادها، لكن هذه الدراسة قد تعترضها عوائق نابعة من هذا التراث نفسه، منها صعوبة فهم هذا التراث واستيعابه. وثمة حقيقة تقول باختلاف مستويات الفهم من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان لذا وجبت الدعوة إلى (تجريد) هذا التراث وتيسيره على أفراد هذه الأمة لكي يسهل لهم الاتصال بهذا التراث ونعني بتجريد التراث إزالة الحشو والتكرار وكثرة الأسانيد والاستطرادات وكل ما ليس منه نفع أو فائدة حتى يقبل القارئ عليه ولا يمله. وخير للقارئ المعاصر أن يقرأ جوهر هذا التراث ولبابته من أن يتركه لكثرة استطراداته وأسانيده، وفي هذا المقام يقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين: «نحن بين اثنتين إما أن ننشر مثل هذه الكتب مجردة من الأسانيد والاستطرادات ليقرأها وينتفع بها من لا يملك الوقت والجهد، وإما أن نخلي بين الأدب العربي القديم والنسيان يلقي عليه أستاره الكثيفة ويقصر العلم به على الذين يفرغون له ويتخصصون فيه». ومن الواضح أن القراءة بشكل عام وقراءة التراث بشكل خاص تلقى تحدياً خطيراً في عصرنا هذا وذلك لوجود بدائل ومصادر معرفية أخرى كالصحافة والإعلام المرئي والمسموع وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) وكلها بدائل سهلة وجذابة وعلى كل فليست الدعوة إلى (تجريد) تراث الأدب العربي وليدة عصرنا هذا فقط بل إنك لتعجب كل العجب عندما ترى أن هذه الدعوة وجدت من يرددها في القرن السابع للهجرة وذلك عندما شكا الملك (المنصور محمد بن عمر المظفر الأيوبي) لعالم جليل من أصحابه هو (محمد بن سالم الواصلي الحموي) شكا له كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني وكثرة ما فيه من الاستطرادات والأسانيد وأسماء الأصوات والألحان فدعاه إلى تجريده من هذه الأسانيد والتكرارات (مما لا فائدة في ذكره من الأخبار والأشعار المشتركات ويقتصر على غرر فوائده ودرر فرائده) فما كان من العالم الجليل ابن واصل الحموي إلا أن امتثل لأمر الملك وقام بتجريد كتاب الأغاني للأصفهاني وأضاف إليه وشرح بعض المستغلق من ألفاظه وسماه (تجريد الأغاني) وكان كتاب الأغاني قد ألف في القرن الخامس الهجري أي قبل ثلاثة قرون فقط من تجريد ابن واصل الحموي له لكن الدعوة إلى تجريد التراث تعني عند البعض في زماننا هذا اختصاره وتزييفه بل وإعادة صياغته بعبارات وألفاظ لم يستعملها أصحابها وهذا ما نحذر منه إذ أن ما ندعو إليه هو الإبقاء على لغة هذا التراث كما كتبها أصحابها لكي يتذوقها القارئ الحديث وكل ما ينبغي عمله هو إزالة التكرار والأسانيد والاستطرادات ليبقى جوهر هذا التراث ولبابته فلا تنقطع الصلة بيننا وبينه وفي نفس الوقت يسهل فهمه واستيعابه لغير المتخصصين.