#1  
قديم 11-26-2020, 10:44 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,533
افتراضي ســعادة للبيع تأليف : البرتو مورافيا


ســعادة للبيع تأليف : البرتو مورافيا

ترجمة : وفاء شوكت

نحو منتصف بعد ظهر كل يوم، كان الموظف العجوز، المتقاعد، المدعو ميلون، يخرج من منزله، بصحبة زوجته أرمينيا، وابنته جيوفانا. كانت زوجته بدينة ومتقدِّمة في السن، وابنته هزيلة البنية وقد أصبحت الآن مسنَّة ومثل المخبولة. كان آل ميلون الثلاثة، الذين يسكنون ساحة "ديللا ليبيرتا"، يصعدون ببطء، على خطا أرمينيا السمينة، يمسحون شارع "كولادي ريانزو"، متأمِّلين واجهات المخازن الواحدة تلو الأخرى. وكانوا يغيِّرون الرصيف في ساحة ريزور جيمنتو" ويعودون، وهم يتابعون تأمَّل المحلات بالعناية ذاتها، نحو ساحة "ديللا ليبيرتا".‏
كان هذا الذهاب والإياب يستغرق قرابة ساعتين، الوقت الكافي للتجلُّد حتى تحين ساعة العشاء. ولم يعد أفراد عائلة ميلون الثلاثة، الفقراء جداً، يدخلون إلى قاعة سينما أو مقهىً منذ زمنٍ طويل. كان التنزُّه هو تسلية حياتهم الوحيدة.‏
وفي يومٍ من الأيام، وبعد أن خرجوا في الساعة المعتادة وصعدوا شارع "كولادي ريانزو" تقريباً حتى ساحة "ريزور جيمنتو"، لفت انتباه أفراد عائلة ميلون الثلاثة مخزن جديد، وكأنه فُتِح بطريقةٍ سحرية، في المكان الذي لم يكن حتى مساء أمس سوى حِباك(1) مغبرّ. وكان صقيل الزجاج يمنعهم عن تمييز البضاعة. فاقتربوا، ثلاثتهم، من المخزن، ودون أن ينبسوا ببنت شفة، شكلوا نصف دائرةٍ على الرصيف وهم يصطفون أمام واجهاته.‏
كانوا يرون الآن البضاعة بوضوح: السعادة. كان أفراد عائلة ميلون الثلاثة، مثل جميع الناس هنا، قد سمعوا دائماً، الحديث عن هذه السلعة، ولم يروها قط. كانوا يتناقشون حولها هنا وهناك، كأنها شيء نادر جداً، فيصفها البعض بالخيالية، مشككين بوجودها الحقيقي تقريباً. وصحيح أن المجلات كانت تنشر من حينٍ لآخر مقالاتٍ طويلة مصوَّرة، يقولون فيها إن السعادة في الولايات المتحدة إن لم تكن عامة، فهي على الأقل سهلة المنال؛ لكن، كما نعلم، أمريكا بلاد بعيدة، والصحفيون يتخيَّلون أشياء كثيرة. وعلى ما يبدو، كانت توجد وفرة من السعادة في الأزمنة الغابرة، لكن ميلون، مثل كل الذين كانوا طاعنين في السن الآن، لا يتذكَّر أبداً أنه رآها.‏
وها هو متجر الآن، وكأن الأمر لم يحصل، وأن الموضوع يتعلَّق بالأحذية أو أدوات المائدة، يقدِّم صراحةً هذه البضاعة، لأي شخص يريد شراءها. وهذا ما يفسِّر دهشة أفراد عائلة ميلون الثلاثة المسمَّرين إلى الأرض، الجامدين أمام هذا المتجر الغريب.‏
ويجب القول إن هذا المتجر كان يُحسِن عرض بضاعته جيداً في واجهاته الكبيرة المؤطَّرة بحجر الترافرتين(2) اللامع، وكانت لافتته من طراز عام 1900، وجميع إكمالاته وزيناته مصنوعة من المعدن المطلي بالنيكل(3) . وفي الداخل أيضاً، كانت طاولاته على الطراز الحديث، وكان بائعان أو ثلاثة من الشبان الحيويين، أنيقي الملبس، يجذبون، بظهورهم فقط، الزبون الأكثر تردداً. وتظهر في الواجهات "السعادات" مثل بيض "عيد الفصح"، وهي معروضة حسب كبرها، وتوافق جميع الميزانيات. فيوجد منها الصغير والوسط والضخم، قد تكون مزيَّفة، وضعت للدعاية. وكان لكل سعادةٍ بطاقتها الصغيرة، مع السعر المدوَّن عليها بالأحرف الطباعية المائلة.‏
وانتهى الأمر بالعجوز ميلون إلى القول بسطوةٍ، معبِّراً عن أفكارهم: -هذا إذاً، لم أكن لأتوقع ذلك أبداً...‏
فسألته الفتاة ببراءة:‏
-ولماذا يا أبي؟‏
رد عليها العجوز بانزعاج قائلاً:‏
-لأنه، ومنذ سنواتٍ عديدة، يُقال لنا بأنه لا توجد سعادة في إيطاليا، وأنها تنقصنا، وأن استيرادها يكلِّف كثيراً... وها هم فجأةً، يفتحون مخزناً لا يبيعون فيه سواها.‏
قالت الفتاة:‏
-قد يكونون اكتشفوا منجماً.‏
فانبرى ميلون يقول مغتاظاً:‏
-ولكن أين، ولكن كيف؟ ألم يقولوا لنا دائماً إن باطن الأرض في إيطاليا لا يحتوي عليها؟... لا نفط، ولا حديد، ولا فحم، ولا سعادة... ثم، هناك أشياء ينتهي بنا الأمر إلى أن نكتشفها... هل تتخيَّلين... عندي شعور بأنني سأرى عناوين كبيرة تقول: بالأمس، كان "فلان" يتنزَّه في جبال "كادور"، واكتشف منجم سعادة من نوعيةٍ ممتازة... هيه، كلا، كلا... إنها بضاعة أجنبية.‏
وتدخَّلت الأم بهدوءٍ قائلة:‏
-حسناً، أين المشكلة؟ هناك، لديهم الكثير من السعادة وهنا، ليس لدينا شيء منها: إنهم يستوردونها... أين الغرابة؟"‏
رفع العجوز كتفيه حانقاً، وقال:‏
"حججٌ غير معقولة... هل تفهمين فقط ما هو معنى استيراد؟‏
هذا معناه صرف نقودٍ ثمينة... نقود بإمكاننا استخدامها لشراء القمح... إن البلد يتضوَّر جوعاً... نحن بحاجة إلى القمح... ومهما قلتِ، فإن الدولارات اليسيرة التي نجمعها بالحرَام، نقوم بإنفاقها على شراء هذه البضاعة، هذه السعادة!‏
ولفتت ابنته انتباهه قائلة:‏
-ولكننا بحاجةٍ أيضاً إلى السعادة.‏
أجابها العجوز:‏
-هذا شيء غير ضروري. قبل كل شيء، يجب التفكير في الغذاء.. أولاً الخبز، وبعد ذلك السعادة... ولكن على أي حال هذا بلد اللا منطق: أولاً السعادة، وبعد ذلك الخبز.‏
فلاحظت زوجته الحليمة:‏
-كم تغضب سريعاً! حسناً، أنت لا تحتاج إلى السعادة.. لكن الجميع ليسوا مثلك.‏
وخاطرت ابنته بالقول:‏
-أنا، مثلاً...‏
فردَّد الأب بنبرة مهدِّدة:‏
-أنتِ، مثلاً...‏
وتابعت الفتاة بيأس:‏
-أنا، مثلاً، سأشتري حقاً، واحدة، واحدة صغيرةً منها، لأعرف فقط كيف هي مصنوعة هذه السعادة.‏
فقال الأب مقاطعاً ومغتمَّاً:‏
-هيا بنا.‏
وتركت المرأتان نفسيهما تُقْتادان بطاعة. لكن العجوز كان الآن منزعجاً. فقال:‏
-لم أكن أتوقَّع ذلك منكِ حقاً، يا جيوفانا.‏
-ولماذا، يا أبي؟‏
-لأنها بضاعة من السوق السوداء، من محدثي النعمة، من أصحاب الملايين... إن موظفاً في "الدولة" لا يستطيع أن يطمح إلى السعادة ويجب ألا يفعل... وعندما تقولين بأنك تودين شراءها، تثبتين على الأقل عدم إدراكك...‏
كيف... نحن نؤجِّر غرفاً في منزلنا، ويصلني راتبي التقاعدي تقريباً في أول الشهر، وأنتِ... آهٍ، إنك تخيِّبين أملي، إنك تخيِّبين أملي.‏
غشت الدموع عينيّ ابنته. فقالت الأم:‏
-هل ترى كيف أنتَ، إنك تمضي وقتك في تأنيبها. ثم إنها لا تملك شيئاً في الحياة، وهي شابة، فأين الغرابة في أن ترغب في تذوُّق السعادة؟‏
-لا شيء... لقد استغنى والدها عنها، فهي أيضاً باستطاعتها الاستغناء عنها.‏
كانوا الآن قد وصلوا إلى ساحة "ريزور جيمنتو".‏
لكن، خلافاً لعادتهم، أراد العجوز، هذه المرَّة، العودة على الرصيف ذاته. وعندما وصلوا أمام المخزن، توقَّف، ونظر طويلاً إلى الواجهة، وقال:‏
-هل تعرفان ماذا أعتقد؟ إنها مزيَّفة.‏
-ماذا تريد أن تقول.؟‏
-حسناً؛ أمس فقط، كنت أقرأ في الجريدة أن سعادة صغيرةً مثل هذه، في أمريكا، أقول جيداً في أمريكا، تكلِّف عدة مئاتٍ من الدولارات... فكيف من الممكن أن يقدِّموها لنا بهذا الثمن؟ إن سعرها مع تكلفة النقل يكلِّف أكثر بكثير... إنها مزيَّفة، إنها منتجات محليَّة... لا يوجد في ذلك أدنى شك.‏
وجازفت الأم بالقول:‏
-لكن الناس يشترونها.‏
-وما الذي لن يشتريه الناس... سوف يكتشفون ذلك بعد أن يعودوا إلى منازلهم، خلال عدة أيام... غشاشون!‏
وتابعوا نزهتهم. لكن جيوفانا كانت تبتلع دموعها، وتفكِّر بأن السعادة، حتى المزيَّفة، ستعجبها.‏
(1) حِباك: حظيرة من قصب شدَّ بعضه إلى بعض).‏
(2) ترافرتين حجر جيري من مدينة تيبور بإيطاليا).‏
(3) نيكل معدن أبيض).‏


المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للبيع, مورافيا, البرتو, تأليف, ســعادة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع ســعادة للبيع تأليف : البرتو مورافيا
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
هولندي أراد تأليف كتاب ضد الإسلام فاعتنقه Eng.Jordan المسلمون حول العالم 0 02-05-2019 09:45 AM
حمل كتابُ الفتن تأليف أبي عبد الله نعيم بن حماد المروزي Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 4 12-18-2017 12:51 PM
جِراء للبيع صابرة الملتقى العام 0 01-29-2016 07:30 AM
تأليف قصة لحفظ مواضع السجدات عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 01-06-2016 08:43 AM
أرض بمساحة 5 دول عربية للبيع Eng.Jordan أخبار منوعة 0 06-24-2015 12:58 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:25 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59