#1  
قديم 01-07-2019, 05:20 PM
الصورة الرمزية صابرة
صابرة غير متواجد حالياً
متميز وأصيل
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 8,880
افتراضي { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ } ..


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ } ..
وكان هذا يكفي كي تُطبِقُ الفَضيحة على عنقها ؛ مثل حبلٍ مَبلول قاسٍ ..
وبألسنتهنّ هنّ؛ يكتُبن نَعيها ..
كان الحديث يكتسبُ حولها بُعدَ الشَماتة ، و تُهنّئ بها النُسوة موتاً لذيذاً !

{ تُراود فَتاها } ..
نعم فتاها ولقد كانَ ذلك حَدثاً استثنائياً فـي عالم القُصور ..
جعل الفَضيحة تجري على ألسنةِ النُسوة ؛ بلا نَعل ..
تَجري حافيةً ؛ لا تلوي على سِـتر !

وللتُهمة تلك صَـدى ..
وما أوجع الصَدى !

{تُراود فَتاها } ..
يَنطقْنها بضآلةٍ متناهيةٍ ؛ فتعبُر الكلمات إليها ..
وفي المجالس ؛ يتَناولنها النُسوة بقسوةٍ تُشبه النَهش .
لَرُبما لهذا ؛ { اعْتَدت لهنّ مُتكئاً وآتتْ كُل واحدةٍ منهنّ سِكّينا } !

كانت القِصة تَنمو في الوسط الحاكم ؛ مثل نَبتة وَحشية ..
ترتفعُ الثَرثرة ؛ زبَـدٌ على زبَـد ..
وتديرها النُسوة ؛ على نسقٍ خَـاص ..
أوّلـه ؛ النَيل من الّلقب " امرأةُ العزيز " ؛ بالّلقب الذي يجعلها تموتُ ألفَ مَرة ..
ثمّ { تُراود فتاها } ..
تلك شتيمةٌ بلغة لا تَخفى !

{ قد شَغفها حُبا } ..
وهو وصفٌ لرعونتها ؛ وليسَ أقل من ذلك !

{ قد شَغَفَهَا حُبًّا } ..
تبدو الكلماتُ هنا؛ ملأى بألفِ معنى .. وفي البواطن ؛ ضجيجُ اتهامٍ عميق !

هكذا إذن تبدو هي في المجتمعات الحاكمة ..
سيدة مهزومة وملوّثة بذكرى تطفحُ بها ألسنة النُسوة ..
نسوةٌ يسترقنَ السَمع ؛ وألسنتهنّ مشغوفةٌ بمحنتها !

والكلماتُ في تعابيرها ؛ موغلةٌ في نَزع السِّتر ..
ويبدو معها قلبُ امرأة العزيز ؛ مَفضوحا !

وعلى حين كانت خُطة النّسيان { يوسُف أعرِض عن هَذا } .. إلا أن { نُسوةٌ } بتعبيرِ القلّة ؛ قلبنَ الخُطة ، وَمضغوها قربانا !

{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } ..
{ إنا لنَراها } ..
هكذا إذنْ تبدو القصة ؛ عاريةً جراحها !
وعلى حين غرة ؛ تُبصر نفسها بوضوح في مرايا الآخرين ، حيثُ يُعبِّر حرف (فـي) عن انغماسٍ شنيع !

{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } ..
هنا يكشفُ القرآن عن حالةٍ شعورية عميقة لدى النّساء ..
أن الإنتقامُ ؛ هو طبيعةٌ نفسية لا تتنازلُ عنها المرأة !

والمكرُ هنا ؛ كان ثرثرةً محبوكة لها غاياتها ..
ولا يُتقـِن ذلك أحدٌ ؛ مثل النساء !

وفي القُصور ..
تملك النساء السُلطة ، والإغواء والقَرار ؛ عبر الثَرثرة !

{ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } ..
فقد كان الغضب جُموحاً معادياً ، وجاء ردّها من ثم قاسياً وجارفاً عبر مشهدٍ غير متوقع !
{ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً } ..
والحالةُ هنا تتشابـه ..
إذ الإتّكاء يوحـي بما غَمَزْنها بـه ..
وهكذا تبدو المَراسم مُكتملةٌ ، والابتساماتُ مرسومة بمكر ، والرَوائح العِطرية تجتاحُ المكان !

وثمّة قرارٍ لديها؛ بإشعال الجَمرة في مواقدهـنّ ..
لذا ؛ أتْقنت الحبكة { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا } !

لقدْ كانت تُعيد رسم المشهد ؛ بكيدٍ هائل ..
تنسلُّ إليهنّ بالدهشة ..
وعلى حين كان الجَو يبدو مبهماً ولا أحد يعلم ما خلفَ السّتارة ..
كانت كُل لحظةٍ بالنسبة إليها ؛ نصراً لخطيئتها !

{ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } ..
يا ليوسُف وهو يقفُ بين عذابِ الصمت ؛ ورتَابة الإنتظـار للمجهول !

{ اخرُج عليهن } ..
كيْ تقتات النُسوة على جمرةٍ ؛ يحترقنَ بها !

ثمّة أسىً ؛ ينتظره في هذه المَسرحية الهزلية ..
يقفُ وحده أمام مُعاناته بقلبٍ مخدوش ، حيث تَفاوُض النُسوة عليه !

{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ..
فجأة تطيرُ نفوسهنّ ؛ شظايا ..
ويحصد يوسُف ألماً جديدا !

{ أكْبَرْنَهُ } ..
فثمّة انفصالٍ مهوّل ؛ بينه وبينهـنّ ..
رُبما كانت تلك عظمة التَسامي التي لا يعرفنها !

{ أكبَرنه } ..
وأدركنَ أنه أكبرُ من الانتهاك !

{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ..
يَـا للمُفارقة !
يُقطِّعن أيديهن في هَذيان ؛ خارج المنطق ..
تماماً كما قطّعنها بألسنتهـن !

{ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } ..
فقدْ كان إنساناً يَمتحنُ البَشرية كُلها ؛ عبر عُروجه !

{ ما هذا بَشر } ..
نفيٌ يتبعه إثباتٌ مؤكد بالقَصر !

{ وَقُلن حاشَ لله } ..
يضجُ المَجلس بكامل وَهجهنّ ، ويتبعثرنَ أمام هذا الهدوء الشاسِع !

تتجوّل أعينهنّ فيه ؛ ولا يعبُرنه .. فقد كانَ زمناً ممتلئٌ بعدم الإنهيار !

يقفُ يوسف في المَشهد ؛ والأصوات الصاخبة تدكّ في قلبه .. ولا أوتادَ حوله !

ثمّة فراغٍ يشدّه إلى الهاوية ..
والروائح العابثة ؛ تكادُ تسحب عنه ملاءَة الثبات !

سَتبقى هذه اللحظةُ ..
خالدة في الذِكرى ؛ لا يقوى عليها النسيان .

ويشهدُ الله في تلك اللحظة ..
أنَ يوسف كَـان معهـنّ ؛ وكَـان هو وحـْده !

{ قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } ..
تحاول هنا أن تنزعَ نفسها من الفَضيحة ؛ عبر مُبررٍ تحاول به طِلاء خارجها ، فيزيدها الطِلاء تشوّه في الداخل !

{ ذلك } ..
بإسم الاشارة للبَعيد ؛ كما كان هو على الحَقيقة !

{ ذلك } ..
فقدْ كانت كلما اقتَربت منه ؛ امتدت المَسافة !

ولقد جَف جسَدها من الإنتظار .. لكن الحَقيقة ؛ أنها كانت ضَئيلة في قلبه ، وكان بوسعه أن يهزمها !

{ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } ..
يا خَجل المعاني !

كانت تلك كلماتُ امرأةٍ طاعنة في قرارها ؛ تُعلن أنه .. (لا) للمَساءات العِجاف مما تَشتهي !

يسمعُ يوسُـف هـذه الصَراحة فـي الحديث ..
ويُدرك .. أن المَسافة الهائلة بدأت تضيق ؛ُ ولاضِفاف آمِنة !

وفجـأة ..
تفيض المَشقّة من كل شيء !

{ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ } ..
كان المُطلوب ؛ أن يرضخ لهذا التَوحُش ..
وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ .. صُراخها ؛ يحاول أنْ يتسلّق يوسُف .. لكنّها تتعثَر !

لذا ..
تُوغِل في التهديد ..
رُبما يَستجيب .. لكن (رُبما) ؛ تبدو احتمالاً خافتا !

تَلُفُّ يوسف بمفردات ؛ الأمْر ، والسِجن ، والصَّغار ، وأدوات التَوكيد ، وفعل المُضارع الذي لايحتملُ التأخير ..
كُل ذلك لتوقِف تَمرّده ..
فالسَادة لايَرون من حولهم ؛ إلا عبيـداً !

تتوعـّده ..
فقد كـان عقلها مُمتلىءٌ بالليل فَقط !

ما أعجَزها ..
وهي ترمّم عجزها بالعَجز !

ما أعجَزها ..
وهـي تُشعل حَريقها مـن رمادهـا !
ولقد كانت أمَامه ؛ مثل (إبرة تُزمجر كَي تحفُر جَبلا) !

{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } ..
(في مرحلةٍ .. تتخلّى عن أهم الأشياء ؛ ليسَ لأنَك جباناً ؛ بل لأنَك أخترتَ أن لا تكونَ جباناً ) !

كان يوسُف بذلك الدعاء يتحرّر من سجنها ؛ ( فتىً جعل الدُنيا أقلّ حذائه ) .. وكان السجن هذا انسحاباً لصالح حُضور أبديّ !

ولقد كانَ يوسف فتىً ؛ كلّما فتّشتَ في سطوره رأيتَ ثباتاً لا تملكُ النفوس مثله !

{ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } ..
فقد كانت الفتن مُحتشدة !

{ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } ..
يَـا لله ..
كُنا نقرأ السُورة ونحنُ صغار ، فلما اشتَدت غرائزنا ؛ أدرَكنا كمْ كان الطَريق مُرهقا ..

{ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ } ..لقد صار يوسف مثل نخلةٍ تَعبِتُ من الصمود !
والشَجاعة ..
أن تعترفَ ببشريتك ..
أنْ تعترف بضَعفك !

الشَجاعة ..
أن تُواجه ذاتكَ ؛ بأنَ بعض الهزيمة انتصار !

{ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } ..
ربـّاه ..
مَن يمسح الآثار عن قلبي إلاّك !

يـا يوسُف حاشاكَ حاشاكَ !

رُبما كان يوسُف غَفلاً مـن سِمَة التَجربة .. لكنّه بين شبابٍ مُقبل وَعقلٌ يكتمل ؛ كانَ كمن ألقى بُردة شبابه على عَقل قدْ اكتمل .. ولذا { أكبَرنَـه } !

شابٌ حُمِدت عزائمه ؛ قَبل أن تنضج سنواته ، وشهِدت مَكرُماته ، وقد درَجت بين يديه لِذَاته !

لـِذا ..
استحق جواب { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } !

إن قصّة يوسُف تعلّمنا ..
أنَ الفَرق بين السُقوط والصُمود زمنٌ ؛ مُتناه في الصِّغَر ..
زمنُ الفَقر المُطلق ؛بينَ يدي الله !

د. كفاح أبوهنّود

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
" يا الله أنتَ قوتي وثباتي وأنا غصنٌ هَزيل "
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الْمَدِينَةِ, وَقَالَ, نِسْوَةٌ


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:54 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59