#1  
قديم 12-26-2013, 12:24 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي علـم النفــس في القرن العشرين


د. بدر الدين عامود










علـم النفــس
في القرن العشرين
دراســة
( الجزء الأول )








من منشورات اتحاد الكتاب العرب


دمشق - 2001


حمل من المرفقات الجزء 1 والجزء 2




المصدر: ملتقى شذرات

الملفات المرفقة
نوع الملف: rar علم النفس في القرن العشرين ج1.rar‏ (444.4 كيلوبايت, المشاهدات 18)
نوع الملف: rar علم النفس في القرن العشرين ج2.rar‏ (282.5 كيلوبايت, المشاهدات 18)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-26-2013, 12:25 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الجزء الأوَّل


القســم الأوَّل
مقدمات ظهور علم النفس واستقلاله








الفصل الأول:
لماذا علم النفس؟



قد يكون الاعتراض على الحديث عن أهمية علم النفس وسماته في هذا المقام صحيحاً فيما لو كانت المسألة التي نعالجها تتعلق بأحد موضوعات هذا العلم أو بفرع من فروعه، خاصة وأن معظم كتب علم النفس المنشورة بلغتنا تتناول هذه القضايا في فصولها الأولى بصرف النظر عن مهمتها وعناوينها. وهذا ما خبره القراء في بلادنا، ولم يجدوا، في كثير من الحالات، مسوغاً منطقياً له. غير أن الأمر يختلف إلى حد كبير حين تكمن مهمة العمل في تتبع مراحل تطور علم النفس، وعرض أهم مدارسه و أشهر تياراته والتعريف بزعماء تلك المدارس والتيارات وأنصارها، وتحديد الموقع الفكري لكل منهم. ففي حالةٍ كهذه يبدو ضرورياً أن يقوم المؤلف، في البداية، بإبراز الخصائص العامة لهذا العلم، التي ينبغي مراعاتها والنظر إليه على أساسها.
إنَّ الفهم الخاطئ لخصائص علم النفس يعدّ واحداً من الأسباب التي تدعو إلى العودة إليها من أجل توضيحها، وتحفز على تحديد غايات هذا العلم ووسائله. فقد شهد هذا العلم، وما يزال يشهد، تبايناً في وجهات نظر العاملين فيه، مثلما عانى، ويعاني حتى الآن، من آراء بعض المفكرين والمثقفين القاصرة حيناً، والسلبية أحياناً. وهذا ما يميز "مناخ" علم النفس عن "مناخات" العلوم الأخرى: الطبيعية منها والاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة.
صحيح أن التباين في الآراء الذي يصل في بعض الأحايين إلى حدّ التناقض في مضمار علم النفس كان سبباً للمواقف السلبية والقاصرة خارجه، وأن ما كان قائماً وما هو موجود الآن على "خطوط التماس" أو بعيداً عنها قليلاً إن هو إلا صدى أو، على الأصح، ردّ فعل على ما يجري في داخله، ولكنه صحيح أيضاً أن يكون التأثير عكسياً. ذلك أن موقف الآخرين من علم النفس وخلافاتهم تؤثر، على نحو ما، على ممثلي هذا العلم عبر العديد من القنوات، وفي مختلف الأطوار والمراحل التي يمرون بها قبل نشاطهم العلمي وأثناءه.
ولعل تأثير الوسط الثقافي للباحث السيكولوجي لا يقتصر على مرحلة عطائه العلمي، ولا ينحصر ضمن حدود معرفية معينة، وإنما يتعدى ذلك ليشمل جميع سني حياته وكافة عناصر وعيه وأشكاله. وربما وضع البعض مسألة تأثير الثقافة الاجتماعية على العالم السيكولوجي في مرحلة نضجه الذهني والفكري على هامش الصفحة، ريبةً في صحتها أو، في أحسن الأحوال، محاولةً لإعمال الفكر فيها وتحليلها والتأكد من صدقها. وهذا ما لا نستغربه حينما نعرف أنَّ ما يمليه إجراء كهذا هو النظر إلى الموضوع المطروح بنظرة أحادية الجانب، أي من زاوية الأثر الذي يحدثه فكر العالم السيكولوجي ونظرته إلى مادة نشاطه وموضوعه في وسطه الاجتماعي، دون الاهتمام إلى الحدّ الكافي بالجانب الآخر المتمثل في دور ذلك الوسط بمختلف حلقاته ودوائره، وخاصة القريبة والضيقة منها، في هذا الفكر. فمن خلال هذا الدور تتحدد آراء الباحث وتتشكل مواقفه.
إنّ مرحلة النضج والعطاء عند الإنسان عامة، والباحث خاصة، ما هي إلا نتاج التفاعل والتواصل الاجتماعيين وثمرة من ثمار التربية بأوسع معاني هذه الكلمة عبر المراحل العمرية السابقة. ومهما حاول بعض العلماء تجاهل أو تجاوز كنه هذه العلاقة واتجاهها، فإن المعاينة الدقيقة تكشف عن وجود بصمات الوعي الاجتماعي على مجمل نشاطهم كمظهر من مظاهر الوعي الإنسانيّ. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف البريطاني برترند راسل حين قال: "إن كل الحيوانات سلكت سلوكاً يتفق مع الفلسفة التي يعتنقها الشخص الملاحظ قبل أن يبدأ ملاحظاته. بل وأكثر من ذلك، فإنّ هذه الحيوانات قد أوضحت الخصائص القومية لصاحب الملاحظة. فالحيوانات التي قام الأمريكيون بإجراء الدراسات عليها تندفع في حالة من الهياج وبنشاط واستثارة واضحة غير عادية، وفي النهاية تصل إلى النتيجة المنشودة عن طريق الصدفة. أما الحيوانات التي قام الألمان بملاحظتها فتقف ساكنة وتفكّر، وفي النهاية تصل إلى الحلّ الذي يكون بعيداً عن شعورها الداخلي"،(منصور طلعت وآخرون، 1978، 101).
وما يهمنا من قول راسل، ونحن بصدد الحديث عن علم النفس وتاريخه، هو ضرورة العودة إلى الفلسفات التي كانت المنطلقات النظرية لعلماء النفس على اختلاف نزعاتهم، للوقوف على دورها الكبير في نشاطهم العلمي والنتائج التي توصلوا إليها. ومن غير هذا الإجراء، وما لم توضع النظرية في سياقها التاريخي –الفكري تظل في الكثير من جوانبها ومفاهيمها مجردة بصورة ما، ويتحول التأريخ لها إلى مجرد وصف أقرب للتصوير منه إلى العلم.
ومن المفيد أن نسوق مثالاً لا يقل أهمية من حيث قيمته التعبيرية وقدرته على إبراز العلاقة المذكورة عمّا قاله راسل. فقد كرس أصحاب "الأنتروبولوجيا السيكولوجية" أو "علم النفس الأنتروبولوجي" نشاطهم لخدمة النظرية العرقية النازية. فوجد الألماني آرنولد في كتابه "البنى السيكوفيزيائية عند الدجاج" أن سلوك الدجاج الذي ينتمي إلى المناطق الجنوبية من الكرة الأرضية يغلب عليه الخضوع السريع للدجاج الشمالي الذي يظهر على سلوكه الميل إلى التفوق وحب السيطرة والرغبة في إخضاع الأنواع الأخرى من الدجاج لسلطته. ويقول زميله ومواطنه ينيش بوجود خصائص عرقية موروثة عند الكائنات الحية تجعل من تفوّق بعضها على البعض الآخر أمراً حتمياً وطبيعياً.(منصور ف، 114-116).
إنّ هذه الأحكام لا تحتاج إلى تعليق. فهي، أياً كانت الزاوية التي يُنظر إليها من خلالها، تبرز بجلاء آثار المنطلقات النظرية للباحث السيكولوجي على تفسيره لمظاهر السلوك المختلفة.
كما تؤكد على ضرورة وضع الواقعة العلمية السيكولوجية، مهما كان حجمها وامتدادها، في مسارها الصحيح، ودراستها وفقاً لذلك.
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن من غير الممكن معرفة جوهر الظاهرة من غير تتبع مراحل تطورها، والوقوف على كمية ونوعية الصلات التي تربطها بغيرها من الظواهر القريبة منها والبعيدة عنها، والوصول، أخيراً، إلى القانون الذي ينظم حركتها. وهذا ينطبق على ظواهر الطبيعة، مثلما ينطبق على الظواهر الاجتماعية والإنسانية. ومن خلال هذا الفهم يكون التشديد على أهمية دراسة تاريخ علم النفس. فعندما يتم تناول مراحل تطور هذا العلم، وإبراز سمات كلّ مرحلة منها، وربط هذه السمات بعضها ببعض من جهة، وربطها بالشروط الثقافية لنشأتها وتبلورها من جهة ثانية، يصبح واقع هذا العلم وأهميته واتجاهه من الأمور الواضحة إلى حدّ يمكّن الدارس من معرفة ما لهذا العلم وما عليه، والتنبؤ بما يمكن وما ينبغي أن يكون حاله في المستقبل.
لقد نشأت وتطورت مدارس سيكولوجية عديدة. وتأتي مدرسة التحليل النفسي في طليعة هذه المدارس من حيث انتشارها وذيوعها. إذ تعدى أثر هذه المدرسة في فترة ما بين الحربين العالميتين خصوصاً ميدان علم النفس إلى ميادين أخرى كالأدب والتربية والفن.
إن لظهور هذه المدرسة أو تلك أسبابه الموضوعية المتعلقة أساساً بثقافة المجتمع(أو المجتمعات) التي عرفته. وهذا يعني ببساطة أن أياً من هذه المدارس هي الابنة الشرعية للمجتمع الذي ولدت فيه. وتبعاً لتوجهاته وتوجيهاته(المباشرة وغير المباشرة) ومستوى قبوله بها وتقبله لها تنمو وتتطور. وانطلاقاً من ذلك يمكن تفسير ظهور السلوكية وتعديل تعاليم مؤسسها ونشوء السلوكية الجديدة، وكذلك ضعف صدى حركة التحليل النفسي بعد الحرب العالمية الثانية... الخ.
وما قيل يؤلف –بالنسبة لنا- المبدأ العام الذي سوف نعتمد عليه في عرضنا التاريخي لعلم النفس في القرن العشرين. ويتجسد هذا المبدأ، مرةً أخرى وباختصارٍ، في وحدة الفكر الإنساني بما يحمله من تناقضات أولاً، ووحدة شخصية الإنسان ووعيه ثانياً، وأثر هذا الفكر في الشخصية والوعي ثالثاً.
لقد تحدثنا، حتى الآن، عن جانب واحد من المسألة المطروحة. أما الجانب الثاني فيحتوي على الصورة التي يحملها جمهور المثقفين والمتعلمين من غير المشتغلين في حقل علم النفس عن هذا العلم. ونبادر للقول بأن هذه الصورة ما زالت تتسم حتى الآن بالكثير من المغالطات والتشويهات، على الرغم ممّا كتب ونشر حول علم النفس.
إننا لا نجد كبير عناء في البرهان على وجود مثل هذه الصورة لدى الأغلبية الساحقة من الناس. فالحياة اليومية تزخر بالأمثلة والشواهد. وهي تقدمها لنا في كل حديث، وعبر أي حوار أو مقابلة نجريها مع الآخرين. ولكي لا يظل كلامنا نظرياً وتعسفياً فإننا نستعين بالنتائج التي انتهى إليها الدكتور مصطفى سويف.
قام الدكتور سويف بدراسةٍ مسحية على عينة تمثل مختلف قطاعات المجتمع المصري، وذلك من أجل معرفة نظرة الناس إلى علم النفس، من حيث موضوعه وأهميته على الصعيد العملي.
وقد كشفت الدراسة عن وجود أكثر من 1/5 أفراد العينة البالغ عددهم 500 شخصاً، يحمل تصوراً يضع علم النفس في صف واحد مع السّحر والشعوذة، وأن 3/5 المستجوبين قصروا موضوع علم النفس على جانب واحد فقط، هو الجانب الانفعالي. واعترف خمسهم بعدم وجود أي تصور لديه عن الموضوع. ولم يستطع تقديم إجابة قريبة من الواقع، حول مجال اهتمام علم النفس سوى عشرة أشخاص فقط.
وبيّنت الدراسة أيضاً أن 47% من العينة لا يعرفون أي عالم أو باحث يشتغل في حقل علم النفس، وأن 40% أوردوا اسم فرويد(ومعظمهم لم يذكر إلا اسمه). بينما صرح 53% من المجموعة بأنهم لا يعرفون شيئاً عن علم النفس، ولم يقرؤوا أو يطلعوا على أي شيء يتعلق به. واقتصرت مطالعة 18% من العيّنة على كتب ليست ذات صلة بتراث علم النفس، ككتاب "كيف تكسب الأصدقاء؟..."، ومطالعة 10% على بعض ما كتبه فرويد أو بعض ما كُتب عنه.(سويف، 1978، 3-20).
وتدلّل هذه المعطيات على أن علم النفس لم يتبوأ بَعْدُ مكانته الصحيحة لدى فئة المتعلمين والمثقفين في مجتمعنا، وأن معالمه وموضوعات اهتمامه غير معروفة إلى حدّ بعيدٍ من قبلهم.
وما دمنا نتكلم عن التصور العام حول علم النفس فمن الضروري أن لا ننسى ما يعكسه هذا التصور من فهم لدور الاختصاصي النفسي ومهماته. إننا لو رجعنا إلى العيّنة التي وزع على أفرادها الاستبيان وطرحنا عليهم سؤالاً عن طبيعة عمل الاختصاصي النفسي، لألفينا أن نسبة من الإجابات التي يمكن أن يدلي بها هؤلاء تعبر عن فهم ضيق أو مشوه لهذا العمل. فقد يتصور الكثير منهم أن المشتغل في علم النفس أشبه ما يكون بالساحر أو المنجم أو المشعوذ، وأن علم النفس يمدّ الإنسان بقدرة عجيبة على معرفة ما يجري في أذهان الآخرين وما يفكرون به، أو ما يرغبون بالتحدث عنه، أو معرفة أسرارهم لمجرد إجراء حوار قصير معهم. وفي أحسن الأحوال قد يرى بعضهم أن مهمة الاختصاصي النفسي تتمثل في تشخيص الأمراض النفسية وعلاجها.
إن لكل واحدة من الحالتين المذكورتين بعداً ثقافياً تتأثر به وتقوم عليه في تقديم مثل هذه الإجابات. فالحالة الأولى تعكس –كما هو بيّن- فهم ممثليها لوظيفة علم النفس من زاوية أحد فروعه فقط، وهو الطب النفسي، دون غيره من الفروع الأخرى، أو من وجهة نظر التحليل النفسي دون غيره من الاتجاهات السيكولوجية. في حين ينطلق هؤلاء في الحالة الثانية من نظرتهم إلى الاختصاصي النفسي إلى أنه يتعامل مع موضوعات غير محسوسة. وهي بالتالي –حسب اعتقادهم- ذات طبيعة غريبة لا يُعرف مصدرها ولا تدرك نشأتها. وواضحٌ ما تحمله هذه النظرة في طياتها من رواسب الفكر القديم.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود عوامل موضوعية وأخرى ذاتية تدفع بحالات كهذه إلى الوجود. فمن غير الإنصاف أن نُحمّل المتعلم وحتى المثقف مسؤولية ذلك كله، ونعفي الدوائر الثقافية والإعلامية والتربوية في المجتمع منها، إذا لم يكن هدفنا تجريد هذه الدوائر من صلاحياتها وإلغاء دورها أو تقزيمه بحكم قبلي.
إن ما ذكرناه حتى الآن يعتبر أحد الأسباب التي جعلت من هذا الفصل أمراً لازماً. ومن خلاله نعتقد بأننا أجبنا على الاعتراض الذي استهلينا به الحديث. ونوجز ما قلناه في هذا الشأن بعبارات أوضح. إن مهمة هذا الفصل تتجسد في تناول دور علم النفس وأهميته، ومع التأكيد على الروابط القائمة بين هذه المسألة ومسألة تكون الظواهر النفسية وتطورها والقوانين التي يخضع لها إبان ذلك، فإننا نعتبر أن دراسة الأولى منهما هي مهمة تاريخ علم النفس، بينما تشكل الثانية المهمة المركزية التي يجب على علم النفس العام أن يضطلع بها.
ويمكن أن يدور الحديث عن دور علم النفس وأهميته على محورين رئيسيين يرتبط كل منهما بالآخر، ويتضمن الأول فروع هذا العلم وأقسامه، والثاني –علاقته بالعلوم الأخرى.
فمن المعروف أن علم النفس –كعلم قائم بذاته- هو علم حديث. وعلى الرغم من حداثته فقد استطاع أن يطال باهتماماته معظم مناحي الحياة، إن لم نقل جميعها على الإطلاق.
ومضى قدماً في دراسة الخصائص النفسية لأوجه النشاط المختلفة التي يمارسها الإنسان وأثرها في سلوكه، ومحاولته الوصول إلى أدق القنوات التي تربط الفرد بالآخرين خلال مراحل حياته. وهذا ما يعكسه تعدد فروع هذا العلم وأقسامه.
إن ظهور هذه الفروع والأقسام لم يكن تجسيداً لقرار أو إرادة فرد أو مجموعة من الأفراد، وإنما أملته الحاجة المتزايدة إلى معرفة أشمل وأعمق وأدق بالنفس البشرية. فقد كان من نتائج التقدم السريع للعلم والتقنية في عصرنا، ونشوء ضروب جديدة من النشاط الإنساني، أن وقف علم النفس أمام زيادة كبيرة في حجم اهتماماته تكافئ ما استجد من قطاعات إنتاجية وخدمية وسواها وما سُخر في سبيلها من أدوات ووسائل وآلات. وكان عليه أن ينهض بمسؤولياته ويواكب، بل ويسهم، في تهيئة أسباب التطور اللاحق وتحسين شروطه وأدواته. ومن خلال هذا المسعى ظهرت فروع علم النفس وتشعبت استجابة لمتطلبات العصر وأهداف المجتمعات وحاجات الأفراد المتزايدة.
وهكذا يمكن تصنيف فروع علم النفس بالاعتماد على أسس ثلاثة، وهي:
1-النشاط الذي يمارسه الإنسان.
2-النمو النفسي.
3-علاقة الإنسان(الذي ينشط وينمو) بالآخرين.
فلقد أدى اهتمام علم النفس بدراسة الظواهر النفسية من خلال أوجه النشاط الإنساني المختلفة إلى ظهور عدد من الفروع والأقسام، ومن بينها:
-علم النفس التربوي: الذي يدرس القوانين النفسية للنشاط التربوي والتعليمي عبر محاولاته لحل المسائل المرتبطة بتوجيه عملية اكتساب المعارف والمهارات والقدرات والعوامل التي تؤثر في نجاحها، والفروق الفردية بين الدارسين... الخ.
وينقسم هذا الفرع إلى: علم النفس التعليمي، وعلم نفس المعلم، وعلم نفس الأطفال الشواذ وتربيتهم... الخ.
-علم نفس العمل: ويتناول دراسة الخصائص النفسية للنشاط العملي للإنسان والأساليب والأدوات الواجب استخدامها في تنظيمه تنظيماً علمياً.
-الهندسة البشرية: ويدرس هذا النوع نشاط العامل في منظومات التسيير المؤتمتة، وتعيين الوظائف التي يؤديها كل من الإنسان والآلة وسبل إحلال الانسجام والتناغم إلى الحدود القصوى بينهما.
-علم النفس الطبي: ويهتم بدراسة نشاط الطبيب وسلوك المريض. ويشتمل هذا الفرع على عدة أقسام، منها: علم النفس العصبي(النيروسيكولوجيا) الذي يدرس علاقة الظواهر النفسية ببنية الدماغ، وعلم نفس الصيدلة(السيكوفارموكولوجيا) الذي يتتبع الآثار التي تتركها العقاقير الطبية على سلوك الإنسان، والطب النفسي الذي يبحث في علاج الأمراض عن طريق إحداث التأثيرات النفسية.
-علم النفس العسكري: ويُعنى بدراسة سلوك المقاتل وعلاقة الرئيس بالمرؤوس في ظروف السلم والحرب، وطرائق تكوين الصفات الإرادية الإيجابية والمهارات والقدرات الضرورية عند أفراد الجيش والقوات المسلحة، وزيادة كفاءتهم على تمثل الأسلحة العصرية واستخدامها بفعالية ونجاح. وتقع "الحرب النفسية" أو "الدعاية والدعاية المضادة" ضمن اهتمامات هذا الفرع.
-علم نفس الطيران: ويدرس التغّيرات التي تطرأ على سلوك الطيار أثناء التدريب والقتال الجوّي. ويعمل على الكشف عن أسبابها بقصد التخفيف، ما أمكن، من آثارها السلبية.
-علم نفس الفضاء: ويبحث في الخصائص النفسية لنشاط رجل الفضاء، وظهور حالات التوتر النفسي والعصبي في ظروف انعدام الجاذبية الأرضيّة.
-علم النفس التجاري: ويتولى البحث في مسائل الشروط النفسية للإعلان وأساليب التأثير على الزبائن والخصائص السيكولوجية للطلب.
-علم نفس الإبداع الفني وعلم نفس الإبداع العلمي: ويهتم الأول ببحث السمات النفسية لشخصية الفنان، والعوامل المؤثرة في نشاطه الفّني. بينما يهتم الثاني بدراسة هذه السمات عند العالم والعوامل التي تؤثر في نشاطه العلمي.
-علم النفس الرياضي: ويدرس الخصائص النفسية عند الرياضي، ويعالج شروط ووسائل إعداده.
-علم النفس القانوني: وينظر في المسائل التي تضمن تطبيق القانون واحترامه. وينقسم هذا الفرع إلى أقسام عديدة، منها: علم النفس القضائي الذي يهتم بدراسة الخصائص النفسية للمجرمين وأقوال الشهود وسلوك المتهمين وكيفية إجراء التحقيق معهم، وعلم النفس الجنائي الذي يدرس سلوك المجرم والقضايا المرتبطة بتكوين شخصيته، ولا سيما الدوافع التي تكمن وراء ارتكابه للجريمة، وعلم نفس الجانح الذي يدرس الصفات النفسية عند الأحداث الجانحين والعوامل الذاتية والبيئية التي تدفعهم إلى الجناح، وعلم نفس إعادة تربية المجرمين الذي يهتم بالكشف عن السمات النفسية لدى السجناء ومعالجة القضايا السيكولوجية المتعلقة بتربيتهم.
ومن خلال متابعة علم النفس لسلوك الإنسان وتطور صفاته النفسية في مختلف مراحل الحياة ظهرت فروع أخرى لعل أهمها ما يلي:
-علم النفس النمائي أو النشوئي: ويدرس الحالات والعمليات النفسية وخصائص شخصية الإنسان عبر مراحل نموه المتعاقبة. وتبعاً لهذه المراحل نجد الأقسام التالية: علم نفس الطفولة وعلم نفس المراهقة وعلم نفس الشباب وعلم نفس الرشد وعلم نفس الكهولة والشيخوخة.
-علم نفس الشواذ أو علم النفس الخاص: ويتفرع عنه علم النفس المرضي الذي يدرس الظواهر النفسية في ظل مختلف أمراض الدماغ، وعلم نفس الضعف العقلي الذي يُعنى بدراسة الإصابات الدماغية(الموروثة والمكتسبة) وأثرها في الحياة النفسية عند الإنسان، وعلم نفس العاهات السمعية والبصرية.
-علم النفس المقارن: وموضوعه مقارنة سلوك الحيوانات بالنشاط النفسي عند الإنسان، والوقوف على أوجه الشبه والتباين بينهما. كما يتولى البحث في أنماط وأساليب الحياة النفسية عند الإنسان عبر تاريخه المديد. ويتفرع عن هذا الفرع علم النفس الحيواني الذي تعتبر دراسة سلوك الحيوانات على اختلاف أنواعها ومستوى تطورها(النحل، الأسماك، الطيور، الفئران، الكلاب، القردة...) ومعرفة أصوله وآلياته موضوعاً رئيسياً له.
ومن الضروري الإشارة إلى أن تتبع الظواهر النفسية عند الإنسان وتحديد فترات نشوئها والأطوار التي تمر بها لا يعنيان إهمال الشروط والعوامل التي تؤثر فيها. فمن مهمات الباحث أن يكشف عن العلاقة القائمة بين هذه الظواهر من ناحية، وبينها وبين الظواهر الأخرى، البيئية والفيزيولوجية وسواهما من ناحية ثانية.
وانطلاقاً من مبدأ علاقة الفرد بالمجتمع يمكن تمييز فرعين اثنين، هما: علم نفس الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، ويحمل علم نفس الشخصية اسم علم النفس الفارقي. وموضوع هذا العلم هو الخصائص النفسية عند الفرد كالطبع والمزاج ونمط السلوك والنشاط العصبي العالي والدوافع والقدرات وغيرها، بالإضافة إلى العوامل المؤثرة فيها.
وتقع الظواهر النفسية التي تنشأ خلال تفاعل الإنسان مع الآخرين، سواء أكان الآخر فرداً أم جماعة(الأسرة، الجماعة المنظمة، الجماعة غير المنظمة...) ضمن اهتمام علم النفس الاجتماعي. ويتولى هذا الفرع أيضاً دراسة الرأي العام والإشاعة والصرعة والقيم والمعتقدات والتقاليد الاجتماعية وأثر ذلك كله في سلوك الفرد.
وتظهر هذه اللوحة بوضوح المساحة الواسعة التي يغطيها علم النفس. فهو، باختصار، يتولى دراسة النشاط النفسي للإنسان أينما وجد وأياً كان عمله ومهما كان عمره الزمني وموقعه الاجتماعي. والباحث السيكولوجي من خلال وجوده في المؤسسات الإنتاجية ومراكز الخدمات الثقافية والتربوية والصحية يتصدى لمعالجة موضوعات محددة متسلحاً بالمناهج: العيادية والتجريبية والرياضية ومستخدماً أدوات ووسائل عصرية. وهذا ما يطبع نشاطه بطابع العلميّة، ويبتعد به عن التصورات ما قبل العلمية والمنهج الميتافيزيائي والتأملية. وهو، إذ يقوم بنشاطه هذا، إنما يسعى إلى حلّ مشكلات الوعي عند الإنسان بهدف تطويره، وزيادة قدرته على العمل والعطاء والتعاون و الانسجام مع الآخرين.
إن تصنيف فروع علم النفس وأقسامه على نحو ما تقدم يطرح سؤالاً حول علم النفس العام وموقفه. فالإجابات التي يقدمها المشتغلون في علم النفس ما زالت متباينة: حيث أنه في الوقت الذي يرى فيه البعض([1]) أن علم النفس العام هو فرع من فروع علم النفس، يعدّه آخرون([2]) أصل هذه الفروع جميعاً. بينما يقف طرف ثالث موقفاً مخالفاً لهؤلاء وأولئك في ضوء نظرتهم إلى أن علم النفس العام، يُعنى قبل كل شيء بتعميم القوانين والمفاهيم التي يتم الكشف عنها في إطار الفروع الأخرى والمبادئ التي تعتمد عليها، ومناهج البحث والطرائق التي تستخدمها. إن مهمة هذا العلم، من وجهة النظر هذه، تنصب على تنظيم نشاط العاملين في مختلف ميادين علم النفس والتنسيق بينها. ولعل أخذ هذه الخصوصية التي يتمتع بها علم النفس العام بالاعتبار يجعل من الأصوب أن لا ينظر إليه كفرع مستقل، مثلما هو الشأن بالنسبة لعلم النفس التربوي أو علم النفس النمائي أو علم نفس الشخصية... الخ أو كأصل تستمد منه بقية الفروع وجودها.
والسؤال الثاني الذي يطرحه التصنيف السابق يتضمن العلاقة بين فروع علم النفس المعاصر وأقسامه. إن هذه الفروع، وإن اتخذت من الظواهر النفسية موضوعاً لها –كما سبقت الإشارة إلى ذلك- فإنها تختلف من حيث ميادين عملها واتجاهها نحو العلوم القريبة منها، كالطبّ وعلم الحيوان والتربية والرياضيات وغيرها. ويرجع السبب في ذلك إلى اختلاف هذه العلوم وتباعدها بعضها عن بعض إلى حدّ يصعب معه إيجاد "قواسم" مشتركة فيما بينها.
وإلى جانب هذه السمة(التباين والاختلاف) تتصف فروع علم النفس بالتكامل. فتبعاً للنشاط الذي يمارسه علماء النفس تقترب هذه الفروع أكثر فأكثر من العلوم المتاخمة، مثلما هو الحال بالنسبة لعلم النفس والطب من خلال الطب النفسي أو علم الطب النفسي، أو بالنسبة لعلم النفس وعلم الحيوان عبر علم النفس الحيواني، أو بالنسبة لعلم النفس والأرغنوميا عن طريق علم النفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس والرياضيات والإحصاء لدى إخضاع ما يؤول إليه بحث هذه الظاهرة النفسية أو تلك من معطيات للمعالجة الرياضية والإحصائية.
إن هذه الإجابة تنقلنا مباشرة إلى الكلام عن المحور الثاني: علاقة علم النفس بالعلوم الأخرى. وإذا كانت هذه العلاقة هي واقع لا يختلف، من حيث المبدأ، حوله العلماء والباحثون اليوم، فإن دور علم النفس فيها لا يزال موضوع جدل وحوار. ويُشير الكثير من المؤلفات إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى وجود اختلاف في فهم تاريخ الفكر الإنساني وتطور أدواته ووسائله وموضوعاته كماً ونوعاً، والنظرة إلى القوانين التي خضعت لها عملية انعكاس هذه المسيرة الفكرية في تراثه الثقافي. ولما كنا قد خصصنا مكاناً لمعالجة هذه المشكلة في فصول لاحقة، فإننا سوف نقصر كلامنا، هنا، على جانب واحد من جوانبها، بالقدر الذي يقتضيه تحديد الموقف من السؤال الذي طرحناه من قبل حول مهمة علم النفس ودوره.
تبيّن النظرة المتأنية إلى بنية علم النفس المعاصر ونشاطاته والنجاحات التي أحرزها حتى الآن حضوره الإيجابي والفعّال داخل مؤسسات الإنتاج والمصالح العامة والخاصة، وفي المدارس والعيادات والمستشفيات ومراكز التدريب المهني والعسكري وقواعد إطلاق الصواريخ والمركبات الفضائية وغيرها. وهذا ما يعكس، من الناحية العملية، حاجة المجتمع المتزايدة إلى علم النفس أولاً، وقدرة هذا العلم على تلبية هذه الحاجة ثانياً.
إن التطور العلمي والتقني بما يجسده من آلات وأجهزة إلكترونية ومركبات فضائية وأقمار صناعية، وما يخلّفه من "انفجار" معرفي وإعلامي يطرح سلسلة من المشكلات المعقدة التي تتوقف ديمومته واستمراره على معالجتها وحلها. فما هي الجهة(أو الجهات) التي يترتب عليها القيام بذلك؟ وما هي العوامل التي تكمن وراء هذا التطور والشروط التي يضمن توافرها الحفاظ على إيقاعه ووتيرته؟.
لقد أصبح معروفاً أن مهمةً كهذه تقع على عاتق المؤسسات والمصالح والإدارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية... الخ. إذ بها جميعاً تناط مسؤولية تهيئة العوامل والشروط التي من شأنها أن تمهد السبيل أمام تقدم العلم والتقنية. ومن بين هذه الشروط والعوامل تحتل عملية تنظيم الإمكانات البشرية والتحكم بها وتوظيفها بصورةٍ عقلانيةٍ أهمية قصوى. وعندما يدور الكلام حول هذه العملية، فإن ما يقصد به هو قدرة المجتمع، متمثلاً بمؤسساته وإداراته ومصالحه المتعددة، على الإفادة من معطيات العلوم الإنسانية، وفي مقدمتها علم النفس. ولتوضيح ذلك نسوق مثالين نستقيهما من ميدانين مختلفين.
والمثال الأول يترجم أهمية التعرف على آليات النشاط الدماغي(التذكر، التفكير..) أثناء قيامه بحل المشكلات والمسائل المطروحة، باعتبارها شرطاً من شروط التقدم العلمي والتقني.
فالبحث في هذا المجال والوقوف على مركباته ودقائقه بصورة أعمق وأشمل يؤلف حجر الزاوية في تطوير الأجهزة والعقول الإلكترونية، طالما أن اختراعها يقوم على أساس محاكاة الدماغ البشري وعملها تقليد لنشاطه. زد على ذلك أن استخدام الأجيال المتطورة منها يفرض وجود خصائص نفسية نامية لدى الإنسان كطرف رئيسي في علاقة الإنسان- الآلة. وهنا ينبغي أن يتدخل علم النفس(الإبداع، التفكير المبدع) للحصول على مزيدٍ من المعارف والمعلومات حول نشاط الدماغ الإنساني(في الحالة الأولى)، ومعالجة الخصائص النفسية الجديدة التي تستدعيها تقنيات العصر(في الحالة الثانية).
ويبرز المثال الثاني قيمة البحث في الطرائق والوسائل التي تتمكن الأجيال الصاعدة بفضلها من استيعاب المعطيات العلمية والتقنية استيعاباً صحيحاً ومنظماً ومنطقياً، والإسهام في زيادة هذه المعطيات وإثرائها بنشاطهم العلمي والعملي في المستقبل.
لقد كشف علم النفس التربوي في ظلّ معارف هذا العصر ومعطياته المتعاظمة والمتجددة باستمرار عن ضعف الطرائق التربوية وقصور مضامين المواد التعليمية القائمة حالياً. ولذا وجد نفسه أمام ضرورة إعادة النظر في موقفه من الطفل والمدرسة والمعلم والمنهج الدراسي والعلاقات القائمة بينهم. فلم يعد مقبولاً بالنسبة لهذا العلم اليوم أن يكون الطفل صفحة بيضاء يسجل عليها المعلم ما يريد، أو أن يبقى المنهج الدراسي مليئاً بالمعلومات التي يطلب من التلاميذ حفظها واسترجاعها أثناء الامتحان. وبينت الدراسات الحديثة التي أجريت في العقود الأخيرة، أن إمكانات الطفل وقدراته هي أكبر بكثير ممّا كان يعتقده علم النفس قبل هذا التاريخ. ولكن اكتشافها يتطلب تحويل المدرسة إلى معهد للبحث، يعتبر كلّ فصل فيه مخبراً.
ويتوجب الأمر كذلك وضع مضامين جديدة للمواد الدراسية وطرائق فعالة من شأنها إيصال هذه المضامين إلى أذهان الدارسين.
وممّا ينبغي التأكيد عليه هو أن من الخطأ حصر الهدف الذي يرمي إليه علم النفس التربوي، كنتيجة لما قلنا، في إكساب الناشئة القدرة على تحقيق مستوى مقبول من التكيف مع المجتمع العصري. فعلى الرغم مما يحمله هذا الجانب من أهمية على صعيد الفرد والمجتمع على حد سواء، إلا أنه ينبغي عدم نسيان الجانب الآخر، المتمثل في تزويد التلاميذ بأنماط جديدة من النشاط النفسي تمكنهم من التفاعل الإيجابي مع منجزات عصرهم والمشاركة في تحسينها وتطويرها.
إن بالإمكان تقديم طائفة من الأمثلة التي تدل حسياً على أهمية علم النفس في تطور الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية عن طريق ما تكشف عنه هذه المجالات من إمكانات لبناء الحياة الداخلية للفرد بناءً علمياً. كتب م. غ. ياروشيفسكي في هذا الصدد يقول: "إن الظواهر التي يدرسها علم النفس غاية في التعقيد، متعددة الجوانب. فعلم النفس حينما يدرس الإنسان، إنما يلاحظ سلوكه ويغيّره تجريبياً ويصممه ويخضعه للتحليل الكمي. والهدف من ذلك كله هو بناء النظرية القادرة على أن تصبح الأساس لتوجيه الأفعال النفسية للناس من خلال التعليم والعمل والمعاشرة".(ياروشيفسكي، 1971، 7).
وعندما يمارس علم النفس نشاطه، فإنه يعتمد على منجزات علم الأحياء والفيزيولوجيا وعلم الاجتماع والرياضيات والفلسفة والمنطق وغيرها. ذلك لأن من غير الممكن أن يحقق أي تقدم أو نجاح في عمله خارج هذا الإطار. تلكم هي طبيعة هذا النشاط العلمي السيكولوجي ووظيفة علم النفس التي تبرهن عليهما دراسة كل طور من أطوار هذا العلم.
لقد نشأ علم النفس –كما سوف نرى- في مخابر الطب وعلوم الطبيعة والفيزيولوجيا، واعتمد في تطوره على الفلسفة والأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والمنطق، واستخدم المعادلات والقوانين الرياضية وهذا ما عناه عالم النفس المعروف جان بياجيه في محاضرته أمام المؤتمر الثامن عشر لعلماء النفس الذي عقد في موسكو عام 1966، حين أكد على أن مستقبل علم النفس يتوقف على صلاته بالرياضيات والفيزياء وعلوم اللغة والاقتصاد السياسي وعلم الأحياء والمنطق وسواها من العلوم التي تؤلف –حسب رأيه- معارف العصر المعقدة. إن إقامة مثل هذه العلاقة والسعي إلى تدعيمها وتعزيزها على الدوام مسؤولية تمليها النظرة إلى موقع علم النفس بين سائر العلوم. وقد وجد بياجيه أن هذا العلم يتبوأ مكاناً حساساً بين العلوم. وهذه حقيقة تؤلف في نظره مصدر فخر واعتزاز للمشتغل فيه. وهذا ما أعرب عنه في المحاضرة المذكورة حين قال: "... أود أن أعرب عن شعوري بشيء من الاعتزاز لأن علم النفس يشغل موقعاً مفتاحياً في منظومة العلوم".(سمير نوف، 1969، 152).
ونجد هذه الآراء أو ما يشبهها لدى علماء النفس، كما نجدها عند المؤرخين والفلاسفة والمربين وغيرهم. وإذا كان التقدم العلمي والتقني قد وضع بين أيدي هؤلاء جميعاً الأدلة والأمثلة على أهمية علم النفس وموقعه المتميز، فإن ذلك لم يكن بعيداً أو غريباً عن بصائر الأجيال السابقة من العلماء والمفكرين. فقد أكد الكثير منهم على أهمية علم النفس في تقدم العلوم، ودوره في حياة الإنسان. فها هو ك. د. أوشينسكي يتحدث في أكثر من مناسبة عن المكانة الرفيعة التي يحتلها علم النفس بين كافة العلوم عامة، وقيمته الكبيرة بالنسبة للتربية خاصة. وانطلاقاً من ذلك وجد أن الشرط الأساسي لتربية الإنسان من كافة النواحي يكمن في معرفة خصائصه النفسية معرفة شاملة ودقيقة. ويتجلى موقفه هذا بوضوح في ندائه إلى المربين، حيث قال: "ادرسوا قوانين الظواهر النفسية التي تودون توجيهها، وتصرفوا بمقتضى هذه
القوانين وتلك الظروف التي تريدون تطبيقها من خلالها".(أوشينسكي، 1950، ج1، 55).

ويجد الفيلسوف ب. م. كيدروف، بدوره، أن علم النفس يحتل مركز المثلث الذي تمثل زواياه العلوم الطبيعية والاجتماعية والفلسفية.(كيدروف، 1965، ج2).
إن تمثّل العلاقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي، بين الشروط الداخلية والشروط الخارجية، بين السبب والنتيجة يمكننا من التعريف بموضوع البحث، أياً كانت طبيعته، وتحديد معالمه وتخومه. وهذا يعني، بالنسبة لنا، أن الوقوف على العلاقة القائمة بين ما هو فردي وما هو اجتماعي، بين ما هو طبيعي وما هو تاريخي يشكل الزاوية التي ينبغي النظر منها إلى موقع علم النفس بين العلوم الأخرى وعلاقته بها. وهو الأساس المنهجي الذي يجنبنا الوقوع في خطأ المبالغة في دور علم النفس أو التقليل من شأنه.
ويؤلف هذا الأساس، إضافة إلى ما سبق، المدخل السليم لفهم طبيعة النفس الإنسانية الذي يمدنا بالقدرة على تجاوز الصراعات الدائرة بين الميتافيزياء والميكانيكية أو العدمية، أي بين النظرة إلى الوقائع النفسية كحقيقة قبلية وجوهر مستقل، والنظرة إليها كعمليات عضوية أو فيزيولوجية بحتة.
ولا يفوتنا أن نشير في هذا السياق إلى الارتباط الوثيق بين النظرة إلى النفس والموقف من العلم الذي يعنى بدراستها ومكانته العلمية والاجتماعية والأخلاقية. فالنظرة إلى مشكلة البحث تدفع الباحث ليس إلى استخدام أدوات ووسائل وطرائق محددة فحسب، بل وإلى تحديد أهمية نشاطه وغايته على هذا الصعيد أو ذاك. كما أن موقف الباحث من علمه وعمله ينعكس من خلال رأيه في مادة بحثه وتقنياته مهما كانت طبيعة هذه المادة وجدوى تلك الأداة.
ولعلَّ فهم اتجاه هذا الارتباط على النحو الذي ذكرناه يمكننا من تحديد مكانة علم النفس ورسم مراحل تطوره، وإبراز هوية كلَِّ واحدة من مدارسه ونظرياته.


¾¾

([1]) انظر على سبيل المثال، معالم علم النفس، د. عبد الرحمن عيسوي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1984، ص 13، وأسس علم النفس العام، د. طلعت منصور وآخرون، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1978، ص17.

([2]) انظر، مثلاً، علم النفس المعاصر، د. حلمي المليجي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط2، بيروت 1972، ص 32.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-26-2013, 12:25 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الجزء الأوَّل


القســم الأوَّل
مقدمات ظهور علم النفس واستقلاله








الفصل الأول:
لماذا علم النفس؟



قد يكون الاعتراض على الحديث عن أهمية علم النفس وسماته في هذا المقام صحيحاً فيما لو كانت المسألة التي نعالجها تتعلق بأحد موضوعات هذا العلم أو بفرع من فروعه، خاصة وأن معظم كتب علم النفس المنشورة بلغتنا تتناول هذه القضايا في فصولها الأولى بصرف النظر عن مهمتها وعناوينها. وهذا ما خبره القراء في بلادنا، ولم يجدوا، في كثير من الحالات، مسوغاً منطقياً له. غير أن الأمر يختلف إلى حد كبير حين تكمن مهمة العمل في تتبع مراحل تطور علم النفس، وعرض أهم مدارسه و أشهر تياراته والتعريف بزعماء تلك المدارس والتيارات وأنصارها، وتحديد الموقع الفكري لكل منهم. ففي حالةٍ كهذه يبدو ضرورياً أن يقوم المؤلف، في البداية، بإبراز الخصائص العامة لهذا العلم، التي ينبغي مراعاتها والنظر إليه على أساسها.
إنَّ الفهم الخاطئ لخصائص علم النفس يعدّ واحداً من الأسباب التي تدعو إلى العودة إليها من أجل توضيحها، وتحفز على تحديد غايات هذا العلم ووسائله. فقد شهد هذا العلم، وما يزال يشهد، تبايناً في وجهات نظر العاملين فيه، مثلما عانى، ويعاني حتى الآن، من آراء بعض المفكرين والمثقفين القاصرة حيناً، والسلبية أحياناً. وهذا ما يميز "مناخ" علم النفس عن "مناخات" العلوم الأخرى: الطبيعية منها والاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة.
صحيح أن التباين في الآراء الذي يصل في بعض الأحايين إلى حدّ التناقض في مضمار علم النفس كان سبباً للمواقف السلبية والقاصرة خارجه، وأن ما كان قائماً وما هو موجود الآن على "خطوط التماس" أو بعيداً عنها قليلاً إن هو إلا صدى أو، على الأصح، ردّ فعل على ما يجري في داخله، ولكنه صحيح أيضاً أن يكون التأثير عكسياً. ذلك أن موقف الآخرين من علم النفس وخلافاتهم تؤثر، على نحو ما، على ممثلي هذا العلم عبر العديد من القنوات، وفي مختلف الأطوار والمراحل التي يمرون بها قبل نشاطهم العلمي وأثناءه.
ولعل تأثير الوسط الثقافي للباحث السيكولوجي لا يقتصر على مرحلة عطائه العلمي، ولا ينحصر ضمن حدود معرفية معينة، وإنما يتعدى ذلك ليشمل جميع سني حياته وكافة عناصر وعيه وأشكاله. وربما وضع البعض مسألة تأثير الثقافة الاجتماعية على العالم السيكولوجي في مرحلة نضجه الذهني والفكري على هامش الصفحة، ريبةً في صحتها أو، في أحسن الأحوال، محاولةً لإعمال الفكر فيها وتحليلها والتأكد من صدقها. وهذا ما لا نستغربه حينما نعرف أنَّ ما يمليه إجراء كهذا هو النظر إلى الموضوع المطروح بنظرة أحادية الجانب، أي من زاوية الأثر الذي يحدثه فكر العالم السيكولوجي ونظرته إلى مادة نشاطه وموضوعه في وسطه الاجتماعي، دون الاهتمام إلى الحدّ الكافي بالجانب الآخر المتمثل في دور ذلك الوسط بمختلف حلقاته ودوائره، وخاصة القريبة والضيقة منها، في هذا الفكر. فمن خلال هذا الدور تتحدد آراء الباحث وتتشكل مواقفه.
إنّ مرحلة النضج والعطاء عند الإنسان عامة، والباحث خاصة، ما هي إلا نتاج التفاعل والتواصل الاجتماعيين وثمرة من ثمار التربية بأوسع معاني هذه الكلمة عبر المراحل العمرية السابقة. ومهما حاول بعض العلماء تجاهل أو تجاوز كنه هذه العلاقة واتجاهها، فإن المعاينة الدقيقة تكشف عن وجود بصمات الوعي الاجتماعي على مجمل نشاطهم كمظهر من مظاهر الوعي الإنسانيّ. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف البريطاني برترند راسل حين قال: "إن كل الحيوانات سلكت سلوكاً يتفق مع الفلسفة التي يعتنقها الشخص الملاحظ قبل أن يبدأ ملاحظاته. بل وأكثر من ذلك، فإنّ هذه الحيوانات قد أوضحت الخصائص القومية لصاحب الملاحظة. فالحيوانات التي قام الأمريكيون بإجراء الدراسات عليها تندفع في حالة من الهياج وبنشاط واستثارة واضحة غير عادية، وفي النهاية تصل إلى النتيجة المنشودة عن طريق الصدفة. أما الحيوانات التي قام الألمان بملاحظتها فتقف ساكنة وتفكّر، وفي النهاية تصل إلى الحلّ الذي يكون بعيداً عن شعورها الداخلي"،(منصور طلعت وآخرون، 1978، 101).
وما يهمنا من قول راسل، ونحن بصدد الحديث عن علم النفس وتاريخه، هو ضرورة العودة إلى الفلسفات التي كانت المنطلقات النظرية لعلماء النفس على اختلاف نزعاتهم، للوقوف على دورها الكبير في نشاطهم العلمي والنتائج التي توصلوا إليها. ومن غير هذا الإجراء، وما لم توضع النظرية في سياقها التاريخي –الفكري تظل في الكثير من جوانبها ومفاهيمها مجردة بصورة ما، ويتحول التأريخ لها إلى مجرد وصف أقرب للتصوير منه إلى العلم.
ومن المفيد أن نسوق مثالاً لا يقل أهمية من حيث قيمته التعبيرية وقدرته على إبراز العلاقة المذكورة عمّا قاله راسل. فقد كرس أصحاب "الأنتروبولوجيا السيكولوجية" أو "علم النفس الأنتروبولوجي" نشاطهم لخدمة النظرية العرقية النازية. فوجد الألماني آرنولد في كتابه "البنى السيكوفيزيائية عند الدجاج" أن سلوك الدجاج الذي ينتمي إلى المناطق الجنوبية من الكرة الأرضية يغلب عليه الخضوع السريع للدجاج الشمالي الذي يظهر على سلوكه الميل إلى التفوق وحب السيطرة والرغبة في إخضاع الأنواع الأخرى من الدجاج لسلطته. ويقول زميله ومواطنه ينيش بوجود خصائص عرقية موروثة عند الكائنات الحية تجعل من تفوّق بعضها على البعض الآخر أمراً حتمياً وطبيعياً.(منصور ف، 114-116).
إنّ هذه الأحكام لا تحتاج إلى تعليق. فهي، أياً كانت الزاوية التي يُنظر إليها من خلالها، تبرز بجلاء آثار المنطلقات النظرية للباحث السيكولوجي على تفسيره لمظاهر السلوك المختلفة.
كما تؤكد على ضرورة وضع الواقعة العلمية السيكولوجية، مهما كان حجمها وامتدادها، في مسارها الصحيح، ودراستها وفقاً لذلك.
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن من غير الممكن معرفة جوهر الظاهرة من غير تتبع مراحل تطورها، والوقوف على كمية ونوعية الصلات التي تربطها بغيرها من الظواهر القريبة منها والبعيدة عنها، والوصول، أخيراً، إلى القانون الذي ينظم حركتها. وهذا ينطبق على ظواهر الطبيعة، مثلما ينطبق على الظواهر الاجتماعية والإنسانية. ومن خلال هذا الفهم يكون التشديد على أهمية دراسة تاريخ علم النفس. فعندما يتم تناول مراحل تطور هذا العلم، وإبراز سمات كلّ مرحلة منها، وربط هذه السمات بعضها ببعض من جهة، وربطها بالشروط الثقافية لنشأتها وتبلورها من جهة ثانية، يصبح واقع هذا العلم وأهميته واتجاهه من الأمور الواضحة إلى حدّ يمكّن الدارس من معرفة ما لهذا العلم وما عليه، والتنبؤ بما يمكن وما ينبغي أن يكون حاله في المستقبل.
لقد نشأت وتطورت مدارس سيكولوجية عديدة. وتأتي مدرسة التحليل النفسي في طليعة هذه المدارس من حيث انتشارها وذيوعها. إذ تعدى أثر هذه المدرسة في فترة ما بين الحربين العالميتين خصوصاً ميدان علم النفس إلى ميادين أخرى كالأدب والتربية والفن.
إن لظهور هذه المدرسة أو تلك أسبابه الموضوعية المتعلقة أساساً بثقافة المجتمع(أو المجتمعات) التي عرفته. وهذا يعني ببساطة أن أياً من هذه المدارس هي الابنة الشرعية للمجتمع الذي ولدت فيه. وتبعاً لتوجهاته وتوجيهاته(المباشرة وغير المباشرة) ومستوى قبوله بها وتقبله لها تنمو وتتطور. وانطلاقاً من ذلك يمكن تفسير ظهور السلوكية وتعديل تعاليم مؤسسها ونشوء السلوكية الجديدة، وكذلك ضعف صدى حركة التحليل النفسي بعد الحرب العالمية الثانية... الخ.
وما قيل يؤلف –بالنسبة لنا- المبدأ العام الذي سوف نعتمد عليه في عرضنا التاريخي لعلم النفس في القرن العشرين. ويتجسد هذا المبدأ، مرةً أخرى وباختصارٍ، في وحدة الفكر الإنساني بما يحمله من تناقضات أولاً، ووحدة شخصية الإنسان ووعيه ثانياً، وأثر هذا الفكر في الشخصية والوعي ثالثاً.
لقد تحدثنا، حتى الآن، عن جانب واحد من المسألة المطروحة. أما الجانب الثاني فيحتوي على الصورة التي يحملها جمهور المثقفين والمتعلمين من غير المشتغلين في حقل علم النفس عن هذا العلم. ونبادر للقول بأن هذه الصورة ما زالت تتسم حتى الآن بالكثير من المغالطات والتشويهات، على الرغم ممّا كتب ونشر حول علم النفس.
إننا لا نجد كبير عناء في البرهان على وجود مثل هذه الصورة لدى الأغلبية الساحقة من الناس. فالحياة اليومية تزخر بالأمثلة والشواهد. وهي تقدمها لنا في كل حديث، وعبر أي حوار أو مقابلة نجريها مع الآخرين. ولكي لا يظل كلامنا نظرياً وتعسفياً فإننا نستعين بالنتائج التي انتهى إليها الدكتور مصطفى سويف.
قام الدكتور سويف بدراسةٍ مسحية على عينة تمثل مختلف قطاعات المجتمع المصري، وذلك من أجل معرفة نظرة الناس إلى علم النفس، من حيث موضوعه وأهميته على الصعيد العملي.
وقد كشفت الدراسة عن وجود أكثر من 1/5 أفراد العينة البالغ عددهم 500 شخصاً، يحمل تصوراً يضع علم النفس في صف واحد مع السّحر والشعوذة، وأن 3/5 المستجوبين قصروا موضوع علم النفس على جانب واحد فقط، هو الجانب الانفعالي. واعترف خمسهم بعدم وجود أي تصور لديه عن الموضوع. ولم يستطع تقديم إجابة قريبة من الواقع، حول مجال اهتمام علم النفس سوى عشرة أشخاص فقط.
وبيّنت الدراسة أيضاً أن 47% من العينة لا يعرفون أي عالم أو باحث يشتغل في حقل علم النفس، وأن 40% أوردوا اسم فرويد(ومعظمهم لم يذكر إلا اسمه). بينما صرح 53% من المجموعة بأنهم لا يعرفون شيئاً عن علم النفس، ولم يقرؤوا أو يطلعوا على أي شيء يتعلق به. واقتصرت مطالعة 18% من العيّنة على كتب ليست ذات صلة بتراث علم النفس، ككتاب "كيف تكسب الأصدقاء؟..."، ومطالعة 10% على بعض ما كتبه فرويد أو بعض ما كُتب عنه.(سويف، 1978، 3-20).
وتدلّل هذه المعطيات على أن علم النفس لم يتبوأ بَعْدُ مكانته الصحيحة لدى فئة المتعلمين والمثقفين في مجتمعنا، وأن معالمه وموضوعات اهتمامه غير معروفة إلى حدّ بعيدٍ من قبلهم.
وما دمنا نتكلم عن التصور العام حول علم النفس فمن الضروري أن لا ننسى ما يعكسه هذا التصور من فهم لدور الاختصاصي النفسي ومهماته. إننا لو رجعنا إلى العيّنة التي وزع على أفرادها الاستبيان وطرحنا عليهم سؤالاً عن طبيعة عمل الاختصاصي النفسي، لألفينا أن نسبة من الإجابات التي يمكن أن يدلي بها هؤلاء تعبر عن فهم ضيق أو مشوه لهذا العمل. فقد يتصور الكثير منهم أن المشتغل في علم النفس أشبه ما يكون بالساحر أو المنجم أو المشعوذ، وأن علم النفس يمدّ الإنسان بقدرة عجيبة على معرفة ما يجري في أذهان الآخرين وما يفكرون به، أو ما يرغبون بالتحدث عنه، أو معرفة أسرارهم لمجرد إجراء حوار قصير معهم. وفي أحسن الأحوال قد يرى بعضهم أن مهمة الاختصاصي النفسي تتمثل في تشخيص الأمراض النفسية وعلاجها.
إن لكل واحدة من الحالتين المذكورتين بعداً ثقافياً تتأثر به وتقوم عليه في تقديم مثل هذه الإجابات. فالحالة الأولى تعكس –كما هو بيّن- فهم ممثليها لوظيفة علم النفس من زاوية أحد فروعه فقط، وهو الطب النفسي، دون غيره من الفروع الأخرى، أو من وجهة نظر التحليل النفسي دون غيره من الاتجاهات السيكولوجية. في حين ينطلق هؤلاء في الحالة الثانية من نظرتهم إلى الاختصاصي النفسي إلى أنه يتعامل مع موضوعات غير محسوسة. وهي بالتالي –حسب اعتقادهم- ذات طبيعة غريبة لا يُعرف مصدرها ولا تدرك نشأتها. وواضحٌ ما تحمله هذه النظرة في طياتها من رواسب الفكر القديم.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود عوامل موضوعية وأخرى ذاتية تدفع بحالات كهذه إلى الوجود. فمن غير الإنصاف أن نُحمّل المتعلم وحتى المثقف مسؤولية ذلك كله، ونعفي الدوائر الثقافية والإعلامية والتربوية في المجتمع منها، إذا لم يكن هدفنا تجريد هذه الدوائر من صلاحياتها وإلغاء دورها أو تقزيمه بحكم قبلي.
إن ما ذكرناه حتى الآن يعتبر أحد الأسباب التي جعلت من هذا الفصل أمراً لازماً. ومن خلاله نعتقد بأننا أجبنا على الاعتراض الذي استهلينا به الحديث. ونوجز ما قلناه في هذا الشأن بعبارات أوضح. إن مهمة هذا الفصل تتجسد في تناول دور علم النفس وأهميته، ومع التأكيد على الروابط القائمة بين هذه المسألة ومسألة تكون الظواهر النفسية وتطورها والقوانين التي يخضع لها إبان ذلك، فإننا نعتبر أن دراسة الأولى منهما هي مهمة تاريخ علم النفس، بينما تشكل الثانية المهمة المركزية التي يجب على علم النفس العام أن يضطلع بها.
ويمكن أن يدور الحديث عن دور علم النفس وأهميته على محورين رئيسيين يرتبط كل منهما بالآخر، ويتضمن الأول فروع هذا العلم وأقسامه، والثاني –علاقته بالعلوم الأخرى.
فمن المعروف أن علم النفس –كعلم قائم بذاته- هو علم حديث. وعلى الرغم من حداثته فقد استطاع أن يطال باهتماماته معظم مناحي الحياة، إن لم نقل جميعها على الإطلاق.
ومضى قدماً في دراسة الخصائص النفسية لأوجه النشاط المختلفة التي يمارسها الإنسان وأثرها في سلوكه، ومحاولته الوصول إلى أدق القنوات التي تربط الفرد بالآخرين خلال مراحل حياته. وهذا ما يعكسه تعدد فروع هذا العلم وأقسامه.
إن ظهور هذه الفروع والأقسام لم يكن تجسيداً لقرار أو إرادة فرد أو مجموعة من الأفراد، وإنما أملته الحاجة المتزايدة إلى معرفة أشمل وأعمق وأدق بالنفس البشرية. فقد كان من نتائج التقدم السريع للعلم والتقنية في عصرنا، ونشوء ضروب جديدة من النشاط الإنساني، أن وقف علم النفس أمام زيادة كبيرة في حجم اهتماماته تكافئ ما استجد من قطاعات إنتاجية وخدمية وسواها وما سُخر في سبيلها من أدوات ووسائل وآلات. وكان عليه أن ينهض بمسؤولياته ويواكب، بل ويسهم، في تهيئة أسباب التطور اللاحق وتحسين شروطه وأدواته. ومن خلال هذا المسعى ظهرت فروع علم النفس وتشعبت استجابة لمتطلبات العصر وأهداف المجتمعات وحاجات الأفراد المتزايدة.
وهكذا يمكن تصنيف فروع علم النفس بالاعتماد على أسس ثلاثة، وهي:
1-النشاط الذي يمارسه الإنسان.
2-النمو النفسي.
3-علاقة الإنسان(الذي ينشط وينمو) بالآخرين.
فلقد أدى اهتمام علم النفس بدراسة الظواهر النفسية من خلال أوجه النشاط الإنساني المختلفة إلى ظهور عدد من الفروع والأقسام، ومن بينها:
-علم النفس التربوي: الذي يدرس القوانين النفسية للنشاط التربوي والتعليمي عبر محاولاته لحل المسائل المرتبطة بتوجيه عملية اكتساب المعارف والمهارات والقدرات والعوامل التي تؤثر في نجاحها، والفروق الفردية بين الدارسين... الخ.
وينقسم هذا الفرع إلى: علم النفس التعليمي، وعلم نفس المعلم، وعلم نفس الأطفال الشواذ وتربيتهم... الخ.
-علم نفس العمل: ويتناول دراسة الخصائص النفسية للنشاط العملي للإنسان والأساليب والأدوات الواجب استخدامها في تنظيمه تنظيماً علمياً.
-الهندسة البشرية: ويدرس هذا النوع نشاط العامل في منظومات التسيير المؤتمتة، وتعيين الوظائف التي يؤديها كل من الإنسان والآلة وسبل إحلال الانسجام والتناغم إلى الحدود القصوى بينهما.
-علم النفس الطبي: ويهتم بدراسة نشاط الطبيب وسلوك المريض. ويشتمل هذا الفرع على عدة أقسام، منها: علم النفس العصبي(النيروسيكولوجيا) الذي يدرس علاقة الظواهر النفسية ببنية الدماغ، وعلم نفس الصيدلة(السيكوفارموكولوجيا) الذي يتتبع الآثار التي تتركها العقاقير الطبية على سلوك الإنسان، والطب النفسي الذي يبحث في علاج الأمراض عن طريق إحداث التأثيرات النفسية.
-علم النفس العسكري: ويُعنى بدراسة سلوك المقاتل وعلاقة الرئيس بالمرؤوس في ظروف السلم والحرب، وطرائق تكوين الصفات الإرادية الإيجابية والمهارات والقدرات الضرورية عند أفراد الجيش والقوات المسلحة، وزيادة كفاءتهم على تمثل الأسلحة العصرية واستخدامها بفعالية ونجاح. وتقع "الحرب النفسية" أو "الدعاية والدعاية المضادة" ضمن اهتمامات هذا الفرع.
-علم نفس الطيران: ويدرس التغّيرات التي تطرأ على سلوك الطيار أثناء التدريب والقتال الجوّي. ويعمل على الكشف عن أسبابها بقصد التخفيف، ما أمكن، من آثارها السلبية.
-علم نفس الفضاء: ويبحث في الخصائص النفسية لنشاط رجل الفضاء، وظهور حالات التوتر النفسي والعصبي في ظروف انعدام الجاذبية الأرضيّة.
-علم النفس التجاري: ويتولى البحث في مسائل الشروط النفسية للإعلان وأساليب التأثير على الزبائن والخصائص السيكولوجية للطلب.
-علم نفس الإبداع الفني وعلم نفس الإبداع العلمي: ويهتم الأول ببحث السمات النفسية لشخصية الفنان، والعوامل المؤثرة في نشاطه الفّني. بينما يهتم الثاني بدراسة هذه السمات عند العالم والعوامل التي تؤثر في نشاطه العلمي.
-علم النفس الرياضي: ويدرس الخصائص النفسية عند الرياضي، ويعالج شروط ووسائل إعداده.
-علم النفس القانوني: وينظر في المسائل التي تضمن تطبيق القانون واحترامه. وينقسم هذا الفرع إلى أقسام عديدة، منها: علم النفس القضائي الذي يهتم بدراسة الخصائص النفسية للمجرمين وأقوال الشهود وسلوك المتهمين وكيفية إجراء التحقيق معهم، وعلم النفس الجنائي الذي يدرس سلوك المجرم والقضايا المرتبطة بتكوين شخصيته، ولا سيما الدوافع التي تكمن وراء ارتكابه للجريمة، وعلم نفس الجانح الذي يدرس الصفات النفسية عند الأحداث الجانحين والعوامل الذاتية والبيئية التي تدفعهم إلى الجناح، وعلم نفس إعادة تربية المجرمين الذي يهتم بالكشف عن السمات النفسية لدى السجناء ومعالجة القضايا السيكولوجية المتعلقة بتربيتهم.
ومن خلال متابعة علم النفس لسلوك الإنسان وتطور صفاته النفسية في مختلف مراحل الحياة ظهرت فروع أخرى لعل أهمها ما يلي:
-علم النفس النمائي أو النشوئي: ويدرس الحالات والعمليات النفسية وخصائص شخصية الإنسان عبر مراحل نموه المتعاقبة. وتبعاً لهذه المراحل نجد الأقسام التالية: علم نفس الطفولة وعلم نفس المراهقة وعلم نفس الشباب وعلم نفس الرشد وعلم نفس الكهولة والشيخوخة.
-علم نفس الشواذ أو علم النفس الخاص: ويتفرع عنه علم النفس المرضي الذي يدرس الظواهر النفسية في ظل مختلف أمراض الدماغ، وعلم نفس الضعف العقلي الذي يُعنى بدراسة الإصابات الدماغية(الموروثة والمكتسبة) وأثرها في الحياة النفسية عند الإنسان، وعلم نفس العاهات السمعية والبصرية.
-علم النفس المقارن: وموضوعه مقارنة سلوك الحيوانات بالنشاط النفسي عند الإنسان، والوقوف على أوجه الشبه والتباين بينهما. كما يتولى البحث في أنماط وأساليب الحياة النفسية عند الإنسان عبر تاريخه المديد. ويتفرع عن هذا الفرع علم النفس الحيواني الذي تعتبر دراسة سلوك الحيوانات على اختلاف أنواعها ومستوى تطورها(النحل، الأسماك، الطيور، الفئران، الكلاب، القردة...) ومعرفة أصوله وآلياته موضوعاً رئيسياً له.
ومن الضروري الإشارة إلى أن تتبع الظواهر النفسية عند الإنسان وتحديد فترات نشوئها والأطوار التي تمر بها لا يعنيان إهمال الشروط والعوامل التي تؤثر فيها. فمن مهمات الباحث أن يكشف عن العلاقة القائمة بين هذه الظواهر من ناحية، وبينها وبين الظواهر الأخرى، البيئية والفيزيولوجية وسواهما من ناحية ثانية.
وانطلاقاً من مبدأ علاقة الفرد بالمجتمع يمكن تمييز فرعين اثنين، هما: علم نفس الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، ويحمل علم نفس الشخصية اسم علم النفس الفارقي. وموضوع هذا العلم هو الخصائص النفسية عند الفرد كالطبع والمزاج ونمط السلوك والنشاط العصبي العالي والدوافع والقدرات وغيرها، بالإضافة إلى العوامل المؤثرة فيها.
وتقع الظواهر النفسية التي تنشأ خلال تفاعل الإنسان مع الآخرين، سواء أكان الآخر فرداً أم جماعة(الأسرة، الجماعة المنظمة، الجماعة غير المنظمة...) ضمن اهتمام علم النفس الاجتماعي. ويتولى هذا الفرع أيضاً دراسة الرأي العام والإشاعة والصرعة والقيم والمعتقدات والتقاليد الاجتماعية وأثر ذلك كله في سلوك الفرد.
وتظهر هذه اللوحة بوضوح المساحة الواسعة التي يغطيها علم النفس. فهو، باختصار، يتولى دراسة النشاط النفسي للإنسان أينما وجد وأياً كان عمله ومهما كان عمره الزمني وموقعه الاجتماعي. والباحث السيكولوجي من خلال وجوده في المؤسسات الإنتاجية ومراكز الخدمات الثقافية والتربوية والصحية يتصدى لمعالجة موضوعات محددة متسلحاً بالمناهج: العيادية والتجريبية والرياضية ومستخدماً أدوات ووسائل عصرية. وهذا ما يطبع نشاطه بطابع العلميّة، ويبتعد به عن التصورات ما قبل العلمية والمنهج الميتافيزيائي والتأملية. وهو، إذ يقوم بنشاطه هذا، إنما يسعى إلى حلّ مشكلات الوعي عند الإنسان بهدف تطويره، وزيادة قدرته على العمل والعطاء والتعاون و الانسجام مع الآخرين.
إن تصنيف فروع علم النفس وأقسامه على نحو ما تقدم يطرح سؤالاً حول علم النفس العام وموقفه. فالإجابات التي يقدمها المشتغلون في علم النفس ما زالت متباينة: حيث أنه في الوقت الذي يرى فيه البعض([1]) أن علم النفس العام هو فرع من فروع علم النفس، يعدّه آخرون([2]) أصل هذه الفروع جميعاً. بينما يقف طرف ثالث موقفاً مخالفاً لهؤلاء وأولئك في ضوء نظرتهم إلى أن علم النفس العام، يُعنى قبل كل شيء بتعميم القوانين والمفاهيم التي يتم الكشف عنها في إطار الفروع الأخرى والمبادئ التي تعتمد عليها، ومناهج البحث والطرائق التي تستخدمها. إن مهمة هذا العلم، من وجهة النظر هذه، تنصب على تنظيم نشاط العاملين في مختلف ميادين علم النفس والتنسيق بينها. ولعل أخذ هذه الخصوصية التي يتمتع بها علم النفس العام بالاعتبار يجعل من الأصوب أن لا ينظر إليه كفرع مستقل، مثلما هو الشأن بالنسبة لعلم النفس التربوي أو علم النفس النمائي أو علم نفس الشخصية... الخ أو كأصل تستمد منه بقية الفروع وجودها.
والسؤال الثاني الذي يطرحه التصنيف السابق يتضمن العلاقة بين فروع علم النفس المعاصر وأقسامه. إن هذه الفروع، وإن اتخذت من الظواهر النفسية موضوعاً لها –كما سبقت الإشارة إلى ذلك- فإنها تختلف من حيث ميادين عملها واتجاهها نحو العلوم القريبة منها، كالطبّ وعلم الحيوان والتربية والرياضيات وغيرها. ويرجع السبب في ذلك إلى اختلاف هذه العلوم وتباعدها بعضها عن بعض إلى حدّ يصعب معه إيجاد "قواسم" مشتركة فيما بينها.
وإلى جانب هذه السمة(التباين والاختلاف) تتصف فروع علم النفس بالتكامل. فتبعاً للنشاط الذي يمارسه علماء النفس تقترب هذه الفروع أكثر فأكثر من العلوم المتاخمة، مثلما هو الحال بالنسبة لعلم النفس والطب من خلال الطب النفسي أو علم الطب النفسي، أو بالنسبة لعلم النفس وعلم الحيوان عبر علم النفس الحيواني، أو بالنسبة لعلم النفس والأرغنوميا عن طريق علم النفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس والرياضيات والإحصاء لدى إخضاع ما يؤول إليه بحث هذه الظاهرة النفسية أو تلك من معطيات للمعالجة الرياضية والإحصائية.
إن هذه الإجابة تنقلنا مباشرة إلى الكلام عن المحور الثاني: علاقة علم النفس بالعلوم الأخرى. وإذا كانت هذه العلاقة هي واقع لا يختلف، من حيث المبدأ، حوله العلماء والباحثون اليوم، فإن دور علم النفس فيها لا يزال موضوع جدل وحوار. ويُشير الكثير من المؤلفات إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى وجود اختلاف في فهم تاريخ الفكر الإنساني وتطور أدواته ووسائله وموضوعاته كماً ونوعاً، والنظرة إلى القوانين التي خضعت لها عملية انعكاس هذه المسيرة الفكرية في تراثه الثقافي. ولما كنا قد خصصنا مكاناً لمعالجة هذه المشكلة في فصول لاحقة، فإننا سوف نقصر كلامنا، هنا، على جانب واحد من جوانبها، بالقدر الذي يقتضيه تحديد الموقف من السؤال الذي طرحناه من قبل حول مهمة علم النفس ودوره.
تبيّن النظرة المتأنية إلى بنية علم النفس المعاصر ونشاطاته والنجاحات التي أحرزها حتى الآن حضوره الإيجابي والفعّال داخل مؤسسات الإنتاج والمصالح العامة والخاصة، وفي المدارس والعيادات والمستشفيات ومراكز التدريب المهني والعسكري وقواعد إطلاق الصواريخ والمركبات الفضائية وغيرها. وهذا ما يعكس، من الناحية العملية، حاجة المجتمع المتزايدة إلى علم النفس أولاً، وقدرة هذا العلم على تلبية هذه الحاجة ثانياً.
إن التطور العلمي والتقني بما يجسده من آلات وأجهزة إلكترونية ومركبات فضائية وأقمار صناعية، وما يخلّفه من "انفجار" معرفي وإعلامي يطرح سلسلة من المشكلات المعقدة التي تتوقف ديمومته واستمراره على معالجتها وحلها. فما هي الجهة(أو الجهات) التي يترتب عليها القيام بذلك؟ وما هي العوامل التي تكمن وراء هذا التطور والشروط التي يضمن توافرها الحفاظ على إيقاعه ووتيرته؟.
لقد أصبح معروفاً أن مهمةً كهذه تقع على عاتق المؤسسات والمصالح والإدارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية... الخ. إذ بها جميعاً تناط مسؤولية تهيئة العوامل والشروط التي من شأنها أن تمهد السبيل أمام تقدم العلم والتقنية. ومن بين هذه الشروط والعوامل تحتل عملية تنظيم الإمكانات البشرية والتحكم بها وتوظيفها بصورةٍ عقلانيةٍ أهمية قصوى. وعندما يدور الكلام حول هذه العملية، فإن ما يقصد به هو قدرة المجتمع، متمثلاً بمؤسساته وإداراته ومصالحه المتعددة، على الإفادة من معطيات العلوم الإنسانية، وفي مقدمتها علم النفس. ولتوضيح ذلك نسوق مثالين نستقيهما من ميدانين مختلفين.
والمثال الأول يترجم أهمية التعرف على آليات النشاط الدماغي(التذكر، التفكير..) أثناء قيامه بحل المشكلات والمسائل المطروحة، باعتبارها شرطاً من شروط التقدم العلمي والتقني.
فالبحث في هذا المجال والوقوف على مركباته ودقائقه بصورة أعمق وأشمل يؤلف حجر الزاوية في تطوير الأجهزة والعقول الإلكترونية، طالما أن اختراعها يقوم على أساس محاكاة الدماغ البشري وعملها تقليد لنشاطه. زد على ذلك أن استخدام الأجيال المتطورة منها يفرض وجود خصائص نفسية نامية لدى الإنسان كطرف رئيسي في علاقة الإنسان- الآلة. وهنا ينبغي أن يتدخل علم النفس(الإبداع، التفكير المبدع) للحصول على مزيدٍ من المعارف والمعلومات حول نشاط الدماغ الإنساني(في الحالة الأولى)، ومعالجة الخصائص النفسية الجديدة التي تستدعيها تقنيات العصر(في الحالة الثانية).
ويبرز المثال الثاني قيمة البحث في الطرائق والوسائل التي تتمكن الأجيال الصاعدة بفضلها من استيعاب المعطيات العلمية والتقنية استيعاباً صحيحاً ومنظماً ومنطقياً، والإسهام في زيادة هذه المعطيات وإثرائها بنشاطهم العلمي والعملي في المستقبل.
لقد كشف علم النفس التربوي في ظلّ معارف هذا العصر ومعطياته المتعاظمة والمتجددة باستمرار عن ضعف الطرائق التربوية وقصور مضامين المواد التعليمية القائمة حالياً. ولذا وجد نفسه أمام ضرورة إعادة النظر في موقفه من الطفل والمدرسة والمعلم والمنهج الدراسي والعلاقات القائمة بينهم. فلم يعد مقبولاً بالنسبة لهذا العلم اليوم أن يكون الطفل صفحة بيضاء يسجل عليها المعلم ما يريد، أو أن يبقى المنهج الدراسي مليئاً بالمعلومات التي يطلب من التلاميذ حفظها واسترجاعها أثناء الامتحان. وبينت الدراسات الحديثة التي أجريت في العقود الأخيرة، أن إمكانات الطفل وقدراته هي أكبر بكثير ممّا كان يعتقده علم النفس قبل هذا التاريخ. ولكن اكتشافها يتطلب تحويل المدرسة إلى معهد للبحث، يعتبر كلّ فصل فيه مخبراً.
ويتوجب الأمر كذلك وضع مضامين جديدة للمواد الدراسية وطرائق فعالة من شأنها إيصال هذه المضامين إلى أذهان الدارسين.
وممّا ينبغي التأكيد عليه هو أن من الخطأ حصر الهدف الذي يرمي إليه علم النفس التربوي، كنتيجة لما قلنا، في إكساب الناشئة القدرة على تحقيق مستوى مقبول من التكيف مع المجتمع العصري. فعلى الرغم مما يحمله هذا الجانب من أهمية على صعيد الفرد والمجتمع على حد سواء، إلا أنه ينبغي عدم نسيان الجانب الآخر، المتمثل في تزويد التلاميذ بأنماط جديدة من النشاط النفسي تمكنهم من التفاعل الإيجابي مع منجزات عصرهم والمشاركة في تحسينها وتطويرها.
إن بالإمكان تقديم طائفة من الأمثلة التي تدل حسياً على أهمية علم النفس في تطور الحياة الثقافية والعلمية والاقتصادية عن طريق ما تكشف عنه هذه المجالات من إمكانات لبناء الحياة الداخلية للفرد بناءً علمياً. كتب م. غ. ياروشيفسكي في هذا الصدد يقول: "إن الظواهر التي يدرسها علم النفس غاية في التعقيد، متعددة الجوانب. فعلم النفس حينما يدرس الإنسان، إنما يلاحظ سلوكه ويغيّره تجريبياً ويصممه ويخضعه للتحليل الكمي. والهدف من ذلك كله هو بناء النظرية القادرة على أن تصبح الأساس لتوجيه الأفعال النفسية للناس من خلال التعليم والعمل والمعاشرة".(ياروشيفسكي، 1971، 7).
وعندما يمارس علم النفس نشاطه، فإنه يعتمد على منجزات علم الأحياء والفيزيولوجيا وعلم الاجتماع والرياضيات والفلسفة والمنطق وغيرها. ذلك لأن من غير الممكن أن يحقق أي تقدم أو نجاح في عمله خارج هذا الإطار. تلكم هي طبيعة هذا النشاط العلمي السيكولوجي ووظيفة علم النفس التي تبرهن عليهما دراسة كل طور من أطوار هذا العلم.
لقد نشأ علم النفس –كما سوف نرى- في مخابر الطب وعلوم الطبيعة والفيزيولوجيا، واعتمد في تطوره على الفلسفة والأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والمنطق، واستخدم المعادلات والقوانين الرياضية وهذا ما عناه عالم النفس المعروف جان بياجيه في محاضرته أمام المؤتمر الثامن عشر لعلماء النفس الذي عقد في موسكو عام 1966، حين أكد على أن مستقبل علم النفس يتوقف على صلاته بالرياضيات والفيزياء وعلوم اللغة والاقتصاد السياسي وعلم الأحياء والمنطق وسواها من العلوم التي تؤلف –حسب رأيه- معارف العصر المعقدة. إن إقامة مثل هذه العلاقة والسعي إلى تدعيمها وتعزيزها على الدوام مسؤولية تمليها النظرة إلى موقع علم النفس بين سائر العلوم. وقد وجد بياجيه أن هذا العلم يتبوأ مكاناً حساساً بين العلوم. وهذه حقيقة تؤلف في نظره مصدر فخر واعتزاز للمشتغل فيه. وهذا ما أعرب عنه في المحاضرة المذكورة حين قال: "... أود أن أعرب عن شعوري بشيء من الاعتزاز لأن علم النفس يشغل موقعاً مفتاحياً في منظومة العلوم".(سمير نوف، 1969، 152).
ونجد هذه الآراء أو ما يشبهها لدى علماء النفس، كما نجدها عند المؤرخين والفلاسفة والمربين وغيرهم. وإذا كان التقدم العلمي والتقني قد وضع بين أيدي هؤلاء جميعاً الأدلة والأمثلة على أهمية علم النفس وموقعه المتميز، فإن ذلك لم يكن بعيداً أو غريباً عن بصائر الأجيال السابقة من العلماء والمفكرين. فقد أكد الكثير منهم على أهمية علم النفس في تقدم العلوم، ودوره في حياة الإنسان. فها هو ك. د. أوشينسكي يتحدث في أكثر من مناسبة عن المكانة الرفيعة التي يحتلها علم النفس بين كافة العلوم عامة، وقيمته الكبيرة بالنسبة للتربية خاصة. وانطلاقاً من ذلك وجد أن الشرط الأساسي لتربية الإنسان من كافة النواحي يكمن في معرفة خصائصه النفسية معرفة شاملة ودقيقة. ويتجلى موقفه هذا بوضوح في ندائه إلى المربين، حيث قال: "ادرسوا قوانين الظواهر النفسية التي تودون توجيهها، وتصرفوا بمقتضى هذه
القوانين وتلك الظروف التي تريدون تطبيقها من خلالها".(أوشينسكي، 1950، ج1، 55).

ويجد الفيلسوف ب. م. كيدروف، بدوره، أن علم النفس يحتل مركز المثلث الذي تمثل زواياه العلوم الطبيعية والاجتماعية والفلسفية.(كيدروف، 1965، ج2).
إن تمثّل العلاقة الجدلية بين الذاتي والموضوعي، بين الشروط الداخلية والشروط الخارجية، بين السبب والنتيجة يمكننا من التعريف بموضوع البحث، أياً كانت طبيعته، وتحديد معالمه وتخومه. وهذا يعني، بالنسبة لنا، أن الوقوف على العلاقة القائمة بين ما هو فردي وما هو اجتماعي، بين ما هو طبيعي وما هو تاريخي يشكل الزاوية التي ينبغي النظر منها إلى موقع علم النفس بين العلوم الأخرى وعلاقته بها. وهو الأساس المنهجي الذي يجنبنا الوقوع في خطأ المبالغة في دور علم النفس أو التقليل من شأنه.
ويؤلف هذا الأساس، إضافة إلى ما سبق، المدخل السليم لفهم طبيعة النفس الإنسانية الذي يمدنا بالقدرة على تجاوز الصراعات الدائرة بين الميتافيزياء والميكانيكية أو العدمية، أي بين النظرة إلى الوقائع النفسية كحقيقة قبلية وجوهر مستقل، والنظرة إليها كعمليات عضوية أو فيزيولوجية بحتة.
ولا يفوتنا أن نشير في هذا السياق إلى الارتباط الوثيق بين النظرة إلى النفس والموقف من العلم الذي يعنى بدراستها ومكانته العلمية والاجتماعية والأخلاقية. فالنظرة إلى مشكلة البحث تدفع الباحث ليس إلى استخدام أدوات ووسائل وطرائق محددة فحسب، بل وإلى تحديد أهمية نشاطه وغايته على هذا الصعيد أو ذاك. كما أن موقف الباحث من علمه وعمله ينعكس من خلال رأيه في مادة بحثه وتقنياته مهما كانت طبيعة هذه المادة وجدوى تلك الأداة.
ولعلَّ فهم اتجاه هذا الارتباط على النحو الذي ذكرناه يمكننا من تحديد مكانة علم النفس ورسم مراحل تطوره، وإبراز هوية كلَِّ واحدة من مدارسه ونظرياته.


¾¾

([1]) انظر على سبيل المثال، معالم علم النفس، د. عبد الرحمن عيسوي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1984، ص 13، وأسس علم النفس العام، د. طلعت منصور وآخرون، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1978، ص17.

([2]) انظر، مثلاً، علم النفس المعاصر، د. حلمي المليجي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط2، بيروت 1972، ص 32.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12-26-2013, 12:26 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل الثاني
الفكر السيكولوجي في الفلسفة




مهما تعددت العلوم وتعقدت شبكتها وتنوعت الأدوات والطرائق التي تستخدمها، فإن الطبيعة والإنسان كانا وسيبقيان الموضوع المركزي لنشاطها جميعاً. وما يراه الدارس اليوم من ميادين وفروع علمية تعد بالمئات، إن لم نقل أكثر، يمكن تصنيفه في أربع مجموعات كبيرة، هي: العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والفلسفة والعلوم التكنولوجية. وتتجه كافة هذه العلوم نحو دراسة الظواهر الطبيعية والإنسانية. فكلّ منها يتناول، عبر ما تشتمل عليه فروعه، عدداً ذا طبيعة محددة أو مستوى معيناً من الظواهر، كما هو الشأن بالنسبة للفيزياء وعلم الأحياء، وعلم الاجتماع والتاريخ... الخ.
ولقد كان ظهور هذا العدد الضخم من العلوم نتيجة التطور الذي عرفته البشرية على مدى آلاف من السنين على الصعيدين الذهني والعملي في علاقتهما الجدلية. فالنشاط الفكري والعمل اليدوي مكنا المجتمعات الإنسانية من تجميع كمية هائلة من الخبرات والتجارب المتعلقة بما يراه ويسمعه ويلمسه من حوادث وأشياء، وبكيفية التعامل معها ووضعها في خدمة بقائه واستمراره وسعادته.
ولئن كان نشاط الباحث أو العالم في الأزمنة الحديثة مؤطراً ومنظماً وموجهاً بسبب وضوح الحدود بين العلوم وجلاء موضوع اهتمام كلّ واحد منها وتطور أدوات البحث فيه، فإنه لم يكن يعرف هذا التمايز بَعْدُ في القرون القليلة الماضية، حيث كانت الميادين العلمية واسعة ومعالمها غير محددة. ويبرز عدم التمايز هذا أكثر فأكثر كلما توغلنا في تاريخ الفكر الإنساني، حتى نصل إلى ذلك الزمن الذي كان المفكر أو الفيلسوف فيه يهتم بمظاهر الطبيعة والمجتمع وسلوك الأفراد في آن واحد.
إن الباحث في عصرنا الراهن يوجه اهتمامه نحو موضوعات ضيقة ومحددة. فالاختصاصي في الأعصاب يدرس تركيب الجهاز العصبي ووظائفه عند الإنسان والحيوانات العليا، وعالم الحيوان يبحث في تركيب الكائنات الحية وأنماط حياتها وشروط بقائها واستمرارها. وعالم المساحة التطبيقية يسعى إلى التعرف على شكل الأرض وحساب أبعادها ومساحتها. ولقد كان كل موضوع من هذه الموضوعات فيما مضى جزءاً من اهتمام أعمّ وأشمل من قبل العالم والفيلسوف. وهذا ما نلاحظه لدى استعراضنا لمراحل تطور المعرفة الإنسانية. فرجل العلم في مطلع العصور الحديثة كان يحيط بالرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء ويعمل فيها جميعاً إلى جانب اشتغاله بالفلسفة. وربما تقدم لنا المراحل السابقة صوراً أكثر وضوحاً. حيث لم تحد من اهتمامات الحكيم آنذاك إلا إمكاناته ووسائله وأدواته في البحث.
وما قلناه يعني، من زاويةٍ أخرى، أن علوم العصر لم تنشأ صدفة أو فجأة، وإنما جاءت تتويجاً للتطور الحضاري المديد الذي أسهمت فيه الأجيال المتعاقبة عبر العصور. ومع أنَّ ما قاله ابنغهاوس عن علم النفس من "أن له تاريخاً قصيراً وماضياً طويلاً" يمكن تعميمه على جميع العلوم بدرجات متفاوتة، فإننا –كما يقول سيجينيف- لا نكاد نجد في تاريخ أيّ علم من هذه العلوم مثلما نجده في علم النفس.(سيجينيف، 1952، 128).
وعلى أساس ما تقدم يمكن القول أن ظهور علم النفس كعلم قائم بذاته وانفصاله عن الفلسفة والعلوم الأخرى ما هو إلا محصلة للنشاط الفكري الذي بدأه الفلاسفة اليونانيون، وقبلهم الفلاسفة المصريون والبابليون والهنود والصينيون القدماء وطوره الفلاسفة العرب والمسلمون ومن ثُمّ فلاسفة أوربة في عصور نهضتها. وسنتناول فيما يلي أهم التصورات والآراء السيكولوجية عند اليونانيين والعرب والمسلمين والأوربيين.
أ-الفكر السيكولوجي في الفلسفة اليونانية:

إن الحديث عن الفكر السيكولوجي بدءاً من الفلسفة اليونانية لا يعني مطلقاً أنَّ الفلسفات التي سبقتها لم تعن بهذا الجانب المعرفي، بل إنها حملت الكثير من الآراء والملاحظات التي عكست اهتمام أصحابها بطبيعة الإنسان ونشاطه النفسي، على الرغم من الطابع الميتافيزيائي لها. ولقد أثرت هذه الفلسفات على التطور الذي عرفه الفكر الفلسفي في بلاد اليونان. ويشير مؤرخو الفلسفة، مثلاً، إلى بصمات الفلسفة المصرية الواضحة على تعاليم الفلاسفة اليونانيين، وخاصة تاليس الذي يعتبر مؤسس الفلسفة القديمة.
تنسب إلى تاليس (640-547 ق. م) الحكمة المشهورة "اعرف نفسك" التي أصبحت المبدأ الرئيسي الذي اعتمد عليه سقراط في تعاليمه. وتقدم مدلولات هذه الحكمة الدليل الواضح على محاولة حكماء تلك الحقبة فهم السلوك الإنساني ومكانة الإنسان في هذا الكون.
ذلك لأن وجود الإنسان وأصله ومآله كانت إحدى المشكلات التي حاول تاليس البحث فيها ومعالجتها. فقد رأى أن الإنسان كائن يتألف من عنصرين رئيسيين متناقضين، الجسد أو البدن من جهة، والنفس أو الروح من جهة ثانية.
ويشاطر فيثاغورس (578-450 ق. م) وأتباعه تاليس نظرته إلى العلاقة بين الجسم والنفس كجوهرين لا صلة لأحدهما بالآخر من حيث أصله وطبيعته. ويقول فيثاغورس بإمكانية انتقال الروح من إنسان إلى آخر، أو إلى أي كائن حي، بعد الموت. وهذا ما يعرف بتناسخ الأرواح. وقد لاقت هذه الفكرة صدى إيجابياً لدى بعض الفلاسفة اليونانيين. كما وجدت طريقها إلى معتقدات عدد من المذاهب الدينية المختلفة في مراحل متأخرة من التاريخ العالمي. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن فيثاغورس لم يكن أول من طرح هذه الفكرة، وإنما نقلها عن الفلسفتين القديمتين: المصرية والهندية.
ثم جاء الفيلسوف سقراط(470-399ق. م) ليطوّر نظرة تاليس إلى الإنسان، معلناً أن الجوهر الأول، أي النفس العاقلة أو الروح، هو جزء من العقل الكلي أو الروح الإلهية. أما البدن فيتألف من عناصر العالم المحسوس: الماء والتراب والنار والهواء. وبما أن النفس الإنسانية هي جزء من الروح الإلهية التي تسيطر على الظواهر والحوادث والأشياء الكونية، فإنَّ بإمكان الإنسان السيطرة على بدنه والتحكم برغباته وشهواته.
وعلى هذا فالنفس، من خلال هذا التصور، تشارك فيما هو إلهي، وهنا يبرز مغزى الشعار الذي رفعه سقراط "اعرف نفسك بنفسك". فمعرفة الإنسان لذاته تتوقف، في رأي سقراط، على الارتداد أو الرجوع إلى النفس وتأملها والوقوف على ما هو مشترك بينها وبين الروح الإلهية، أي بين الإنسان وبين الله.
وانطلاقاً من طبيعة كل من الجوهرين(النفس والبدن) يعتقد سقراط أن للنفس القدرة على البقاء بذاتها والخلود بعد مفارقتها الجسد، ما دامت تستمد حركتها من ذاتها، أي من الروح الإلهية. وهي على العكس من الجسد الذي يفنى لأنه يستمد حركته من الخارج.
تأثر أفلاطون(427-347 ق.م) بأستاذه إلى حد كبير. وهذا ما يظهر بجلاء عبر نظرته إلى طبيعة الروح والجسد ومصير كل منهما. والبرهنة على خلود الروح –بالنسبة له- تكون عن طريق المعرفة ذاتها؛ إذ من غير الممكن في رأيه تقديم تفسير صحيح وكامل للمعرفة من غير أن تتأمل الروح المثل التي تنتمي إليها قبل أن تحل في البدن. وهنا يطرح أفلاطون نظريته في المعرفة.
فالمعرفة الحقة تتم –في اعتقاد أفلاطون- عن طريق عملية التذكر التي يقوم بها الإنسان أثناء نشاطه الحياتي لما كانت النفس قد تمثلته قبل هبوطها إلى الأرض. فما ينتاب الإنسان من مشاعر وأحاسيس خلال مراحل حياته. وما يدركه من حوادث وأشياء وعلاقات على هذه الأرض، ما هو إلا الانطباعات والصور التي حملتها الروح معها من عالم المثل.
ويجد أفلاطون أن النشاط النفسي الدائم هو دليل خلود الروح. فالروح لا تعرف السكون، ولا تكف عن الحركة لأنها تستمد هذه الحركة من ذاتها. وهي، فوق ذلك، منزهة عن الموت باعتبارها مبدأ كل حركة. ولما كان هذا شأنها، فهي تشبه المثل المطلقة الخالدة، خلافاً للجسد الذي ينتمي إلى العالم المحسوس ويتركب من العناصر الفانية.
وعلى هذا فالإنسان –كما يراه أفلاطون- نفس وبدن. ويعتبر الارتباط بينهما ضرباً من تلاقي الأضداد واجتماعها. فالبدن يحول دون المعرفة الحقيقية لما يثيره من فوضى وتشويش في العمليات المعرفية. أما النفس فهي عقل خالص يتأمل جوهر الأشياء ويدرك كنهها. ولكنها تتعرض للعديد من المصاعب والضلالات حين يجرها البدن نحو الأشياء المحسوسة وتلبية الرغبات والشهوات الجسدية(الكهف الأفلاطوني).
وبما أن النفس كانت تعيش في عالم القيم السامية والمثل الرفيعة، ثم هبطت إلى عالم الفناء والتفسخ والفساد عقاباً لها، فإنها تتميز بعد اتحادها بالجسد عن النفس في ذاتها، أي قبل اتحادها به، إذ تتحول عندئذ إلى جسدية على نحو ما. وتبعاً لنسبة هذا التحول تتحدد قدرتها على معرفة الحقيقة وتجاوز الرغبات والشهوات واللذات الجسدية. وهذا ما حدا بأفلاطون إلى تقسيم النفس إلى ثلاثة أقسام:
1-الحكمة، ومركزها الرأس. وهي أعلى أقسام النفس مرتبة وأرقاها منزلة.
2-الشهوة، ومركزها البطن. وهي أدنى مراتب النفس وأحطها.
3-الشجاعة، ومركزها القلب. وهي تشغل الموقع الوسط بين الحكمة والشهوة.
ويرى أفلاطون أنَّ هذه الأقسام توجد عند الناس بأشكالٍ متباينة ودرجاتٍ متفاوتة. فقد تتغلب الحكمة على الشجاعة والشهوة عند البعض، في حين تسود الشهوة على الحكمة والشجاعة عند البعض الآخر، أو الشجاعة على الحكمة والشهوة عند الفئة الثالثة.
ويربط أفلاطون بين هذه الأقسام والانتماء الاجتماعي والطبقي للناس. فيجد أن المجتمع يتألف من ثلاث طبقات، تضمّ أولاها الحكام والفلاسفة الذين تسيطر الحكمة على أفعالهم وسلوكياتهم. وينتمي إلى الثانية منها العبيد والحرفيون وعامة الناس. ويتّسم هؤلاء بغلبة الشهوة على القسمين الآخرين. أما الطبقة الثالثة فتشمل القادة العسكريين والجند والمقاتلين. ويطغى جانب الشجاعة لديهم على سواه.
وهنايتجلى الموقف الطبقي لأفلاطون وانحيازه إلى الطبقة(الأرستقراطية) الحاكمة، باعتبارها الطبقة المختارة التي أعطيت من النفس أرقى أجزائها وأسمى جوانبها، ووهبت أفضل القدرات العقلية لتتمكن –حسب زعمه- من تدبير أمور البلاد وتنظيم شؤون المجتمع. أما العبيد والحرفيون والعامة من الناس والفلاحون فقد خلقوا للعمل من أجل الطبقة الحاكمة والجيش وسخروا من أجل خدمتهم.
إن موقف أفلاطون الطبقي ينعكس في آرائه التربوية. فقد اقترح إقامة بيوت عامة تتولى رعاية الأطفال منذ ولادتهم وحتى السابعة من العمر، ويشرف على تسييرها أناس مدربون ومختصون ومن ثم يجب أن يلتحق هؤلاء الأطفال بالمدرسة ليتلقوا فيها مختلف أنواع المعرفة.
ويظل حالهم هكذا حتى يبلغوا العشرين من العمر، فمن يظهر منهم ميلاً نحو الحكمة ينبغي على الدولة تشجيعه وتوفير الشروط اللازمة لتلقي العلوم من أجل أن يصبح قادراً على الإسهام في تسيير شؤون الدولة بعد الثلاثين من العمر. بينما يتوجب على من تبقى من الشباب بعد العشرين أن يلتحق بالجيش.
وعندما يتحدث أفلاطون عن تربية الأطفال ورعايتهم وإعدادهم، فإنه لا يعني سوى أبناء الطبقة الغنيّة في المجتمع. أما أبناء العبيد والسواد الأعظم من الشعب فلم يكونوا موضوع اهتمامه وحديثه عن التربية والتعليم.
جاء أرسطو(384-322 ق. م) بعد ذلك وحاول تذليل الثنائية التي قال بها سابقوه.
ولعلَّ المعطيات المتقدمة نسبياً في مجال الطب وعلم الأحياء يومذاك من ناحية، وملاحظاته العلمية التي قام بها أثناء مرافقته للقائد اليوناني الإسكندر المكدوني في حملاته العسكرية من ناحية ثانية مكنته من إدراك الكثير من الظواهر الطبيعية والحيوية والإنسانية، والانطلاق من الأسس العلمية في وصفها وتفسيرها. ويعتبر كتابه(في النفس) دليلاً على أن علم النفس قد صار حتى ذلك الحين ميداناً متميزاً إلى حدٍّ لا بأس به من ميادين المعرفة.
لقد وجد المعلم الأول أن ثمة علاقة بين الصفات والخصائص التي تتمتع بها النباتات والحيوانات من جهة، والشروط الطبيعية المحيطة بها من جهة ثانية. فهناك تباين بين الكائنات الحية التي تعيش في الجبال ونظيراتها التي تعيش في السهول، وبين هذه وتلك ومثيلاتها التي تعيش في الصحارى أو في المناطق الساحلية.
وانطلاقاً من هذه النظرة المورفولوجية حدد أرسطو موقفه من النفس، وطرح موضوعة اتحاد البدن والروح، وعدم إمكانية الفصل بينهما إلا عن طريق التجريد. ورأى أنَّ من غير الممكن تقسيم النفس أو الروح إلى أجزاء كما فعل أفلاطون. ولكنه وجدها تتخذ أشكالاً متعددة، وتتجسد في مستويات وقدرات متباينة، كالقدرة على التغذية، والقدرة على الحس، والقدرة على الحركة، والقدرة على الفهم. وإن هذه القدرات مجتمعة هي –في اعتقاده- خاصية الإنسان وحده دون سائر الكائنات الحيّة الأخرى. والقدرات الثلاث الأولى خاصية الحيوان. بينما لا يتمتع النبات إلا بالقدرة على التغذية فقط.
وعلى هذا الأساس الارتقائي أكد أرسطو أن الإنسان هو النفس والجسد في وحدتهما. بيد أنه يعود في فصل لاحق من كتابه المذكور ليفرق بين النفس في ذاتها كعقل خالص، والنفس كعرض تتمتع بثلاث قوى: الحس المشترك والذاكرة والتخيل. ولما كان العقل –في رأيه- جوهراً لا تتناوله الحركة ولا يعرف التغير ولا التبدل، فإنه ليس عرضة للفناء. وإن كان فناؤه أو فساده بعد أن ينتابه الضعف والوهن في المراحل المتقدمة من عمر الإنسان، فلا يعني ذلك أن النفس قد أصيبت بأمر ما، وإنما يعني أن الفرد الذي تقيم فيه النفس هو الذي أصيب.
أما القوى الثلاث(الحس المشترك والذاكرة والتخيل) فترجع من حيث الطبيعة والنشأة، إلى الإنسان الذي يحمل النفس. وهي لا تشترك مع العقل في شيء. ويذهب أرسطو إلى أن وظيفة هذه القوى هي تمكين الإنسان من التفاعل مع محيطه عن طريق ما تزوده به من معارف حسية حول أشياء هذا المحيط ومظاهره.
إن الفصل بين العقل والوظائف النفسية الأخرى على نحو ما فعل أرسطو ما هو في نهاية التحليل سوى فصل ما هو خالد عمّا هو فان. وهذا أمر يعيده إلى موقع معلمه الذي ألح على ضرورة التفريق بين النفس والجسد، وأكد على خلود الأول وفناء الثاني.
لم تكن الثنائية فكرة مشتركة لدى الفلاسفة اليونانيين. فقد عرف الفكر اليوناني مجموعة من الفلاسفة الذين عارضوا سقراط وأفلاطون وأرسطو فيما يتعلق بمسألة النفس والجسد وجوهر العلاقة بينهما. ويأتي في مقدمتهم هيروقليطس(القرن السادس ق. م) وديمقريطس(القرن الخامس ق. م).
يرى كل من هيروقليطس وديمقريطس أن النفس تتألف من ذرات نارية، تخضع في ظهورها وتبدلها إلى نفس القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية والاجتماعية. وبذا يدخل هذان المفكران الحياة النفسية ضمن المسار الشامل للظواهر والعمليات الكونية. وتتوضح هذه النظرة إلى النفس من خلال موقف الفيلسوفين من العلاقة بين النمو النفسي والتعليم. فقد أكد ديمقريطس على أن خصائص الشخصية والقدرات المعرفية تكتسب عن طريق التعلم. وفي هذا المعنى يقول: "إنّ من غير الممكن الوصول إلى الفن والحكمة، إذا لم يتمّ تعلمهما.(بيسكونوف، 1981، 9).
كما اعتقد ديمقريطس بأن النشاط شرط أساسي لتعلّم القواعد والموسيقا والحكمة، وبالجملة لنمو الإنسان نمواً كاملاً ومتكاملاً. يقول: "فالناس يصبحون جيّدين بالتدريب أكثر ممّا يصبحون عن طريق الطبيعة".(بيسكونوف،
1981، 10).

لقد اعتمد كل من هيروقليطس وديمقريطس في تصوراتهما على النجاحات التي حققها الفكر الإنساني بصدد بنية الكائن الحي والوظائف التي تؤديها أعضاؤه. ففي القرن السادس قبل الميلاد وجد الطبيب اليوناني ألكميون- ولأول مرة في التاريخ- أن الدماغ هو عضو النفس.
ووقف الطبيب والفيلسوف هيبوقريطس على أن الظواهر النفسية مرتبطة بالعضوية ارتباطاً مباشراً. فقد تصور أن الجسم البشري مؤلف من عناصر أربعة: الدم والصفراء والبلغم والسوداء. وأن هذه العناصر توجد بنسبٍ متفاوتةٍ. ويطبع العنصر الغالب شخصية الإنسان بطابعه.
وعلى هذا الأساس صنف هيبوقريطس الناس في أربعة أنماط أو طرز: الدموي والصفراوي والبلغمي السوداوي. فكل نمطٍ من هذه الأنماط يتسم بصفات جسدية وخصائص نفسية محددة. وقد احتفظ هذا التصنيف بقيمته العلمية حتى يومنا هذا، على الرغم من ظهور العديد من التصنيفات في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وهكذا فالمنجزات الضخمة الأولى على طريق الفهم العلمي للنفس البشرية جاءت نتيجةً حتمية لتأكيد أصحابها على خضوع النشاط النفسي لقوانين معينة، شأنها شأن الظواهر الأخرى في المجتمع والطبيعة، وكذا ارتباطها بالبناء العضوي لجسم الإنسان. إلا أن اعتماد هؤلاء المفكرين على الشروط المادية لم يمكنهم من معرفة طبيعة التفكير المجرد وتفسير ظهور وتطور المثل والقيم الروحية والأخلاقية والجمالية والاجتماعية عند الإنسان.
ب-مدرسة الإسكندرية الطبية وغالينوس:

وفي القرن الثالث قبل الميلاد عرفت البحوث والدراسات التجريبية تطوراً كبيراً، ولا سيما في مجال العلوم الطبيعة والفيزيولوجيا، الأمر الذي أدت إلى وضع تصورات متقدمة حول النفس والصلة القائمة بين مظاهرها وأوجه نشاطها من جهة وبنية الجسم ووظائف أعضائه من جهة ثانية. فقد كشفت مجموعة أطباء الإسكندرية بإشراف هيروفيل وايراز سترات عن الأعصاب ودور النسيج العصبي في أفعال الإنسان ومواقفه إزاء العالم الخارجي. ودرست المجموعة علاقة الوظائف النفسية(الحس والإدراك) والحركات بتلافيف المخ. وأكد هؤلاء الأطباء على وجود علاقة وثيقة بين النفس وبعض أعضاء الجسم(الدماغ والأنسجة العصبية) فقط، خلافاً لما كان شائعاً في تلك الفترة من أن العلاقة هي علاقة النفس بالجسد ككل.
أما في القرن الثاني قبل الميلاد فقد قام الطبيب الروماني غالينوس بتعميم المنجزات العلمية في ميدان الطب ووظائف الأعضاء وأثرى الأفكار التي كانت سائدة في عصره حول الأساس الفيزيولوجي للنفس؛ حيث ربط الجانب النفسي بالبناء العضوي لجسم الإنسان. وبذا يكون غالينوس قد اقترب من أحد عناصر الوعي.
لقد ميز غالينوس ثلاثة مستويات أو أنواع للروح، وهي: الروح النفسي ومركزه الدماغ والأعصاب، والروح الحيواني ومركزه القلب والشرايين، والروح الطبيعي ومركزه الكبد والعروق. ومن خلال ذلك أشار إلى وجود نوعين من الحركات عند الإنسان: الحركات الإرادية التي تشارك فيها العمليات النفسية كالإدراك والانتباه والتذكر والتفكير، والحركات غير الإرادية التي تصدر عن الإنسان دون تدخل الشعور أو الوعي، كما هو الحال أثناء النوم مثلاً.
ج. الفكر السيكولوجي في الفلسفة العربية-الإسلامية:

وفي ظل الحضارة العربية –الإسلامية لمعت أسماء كثيرة من المفكرين والعلماء في دنيا المعرفة وكان لأصحابها فضل كبير في حفظ التراث الفكري الإنساني وترجمته ورفده بالعديد من المعطيات الجديدة الأصلية، مما اعتبره المؤرخون مقدمة أساسية من مقدمات النهضة الأوربية.
ومن بين هؤلاء المفكرين والعلماء نذكر على وجه الخصوص الكندي والفارابي وابن سينا وابن الهيثم وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل.
لقد حظيت مسألة النفس بقسطٍ وافرٍ من اهتمام الكندي، وأفرد لها عدداً من مؤلفاته الكثيرة([1]).
يرى الكندي(801-866م) إن النفس مباينة للجسد، منفردة عنه بنية ووظيفة ومآلاً.
فهي جزء من الجوهر الإلهي ********، تسكن البدن بعد الولادة لتقف على ما يقوم به، وتقوم زلات الإنسان وأخطاءه التي تدفعه إلى الوقوع فيها قوة الشهوة أو قوة الغضب. يقول الكندي في هذا الصدد: "وذلك أن القوة الغضبية قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات، فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم، فتضادها هذه النفس، وتمنع الغضب من أن يفعل فعله، أو أن يرتكب الغيظ وتوتره، وتضبطه كمل يضبط الفارس الفرس، إذا همَّ أن يجمح به أو يمده"(قمير، 1982، 61، 62). ويقول في هذا السياق: "فأما القوة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات، فتفكر النفس العقلية في أنه خطأ... فتمنعها عن ذلك وتضادها"(قمير، 1982، 62).
والتفاعل بين الإنسان ومحيطه يتم –حسب ما يرى الكندي- على ثلاثة مستويات: الإدراك الحسي، وتتولى القيام به الحواس الخمس. والمصورة أو المتوهمة، التي تقوم بوظيفة التصور، أي الاحتفاظ بصور الأشياء والموضوعات بعد إدراكها وأثناء غيابها من جهة، ووظيفة تخيل هذه الصور وتركيبها من جهة ثانية. وأخيراً العقل الذي يتولى معرفة الظواهر والحوادث وجواهرها على نحو أعمق وأشمل مما تقوم به النفس في المستويين السابقين.
ويلاحظ مدى تأثر الكندي بآراء الفلاسفة اليونانيين القدماء، ومنهم أفلاطون وأرسطو بشكل خاص. وهذا ما نلمسه أيضاً لدى الإطلاع على موقفه من النفس ومصيرها. فالكندي يجد أن الموت يلحق بالبدن وحده دون النفس، ذلك لأن النفس –عنده- جوهر شبيه بجوهر الباري عز وجل. فهي تتحول حالما تفارق البدن إلى "... عالم العقل فوق الفلك..." لتصير عالمة بكل شيء، وتصير "الأشياء كلها بارزة لها كمثل ما هي بارزة للباري عز وجل".(قمير، 1982، 17).
ولعلنا نجد موقفاً شبيهاً بموقف الكندي ونظريته في الإنسان والمعرفة عند الفارابي(870-950م). فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى القول بأن النفس الإنسانية وجدت بطريقة الفيض. وهي تسكن البدن بعد ولادة الإنسان. ولا تفنى أو تموت بعد موته، وإنما ترجع إلى الله ليثيبها على ما قدّمت ويعاقبها على ما أخرت.
وتشمل النفس عند الفارابي خمس قوى متعاقبة من حيث وجودها الزماني وأهميتها، وهي: القوة الغاذية، والقوة الحاسة، والقوة النزوعية والقوة المتخلية، والقوة الناطقة. وتتركب كل واحدة من هذه القوى من قوة رئيسية واحدة، وقوى أخرى ثانوية تعمل لمصلحتها، باستثناء القوة الناطقة التي لا تتفرع عنها أية قوة، لأنها قوة رئيسية بين سائر قوى النفس. فالقلب يقوم بوظيفة التغذية الرئيسية، بينما تناط بأعضاء الجسد الأخرى كالمعدة والكبد والطحال وسواها الوظائف الثانوية في التغذية. وهي، إذ تقوم بهذه الوظائف، إنما ترفد بذلك القوة الغاذية الرئيسية.
وتتولى الحواس الخمس المعروفة إدراك العالم الخارجي وإمداد القوة الرئيسية(الحس المشترك) بالأخبار والمعلومات عن العالم الخارجي. فكل عضو من أعضاء الحس الخمسة يقوم بدور ثانوي أو بوظيفة فرعية تخدم الوظيفة الرئيسية التي يتولى القلب أداءها. وهكذا بالنسبة للقوة المتخيلة.
وما ينبغي ملاحظته في تقسيم الفارابي لقوى النفس هو اهتمامه بالجانب الانفعالي والإرادي وعلاقته بالجانب المعرفي في السلوك الإنساني. ومع أن الفلاسفة الذين سبقوا الفارابي قد تعرضوا إلى موضوع الانفعال إلا أنهم لم يتبينوا علاقته بالعمليات المعرفية وتأثيره عليها وتأثره بها.
لقد نظر الفارابي إلى الإرادة بوصفها المحرك الذي يدفع الإنسان إلى المعرفة، على اختلاف درجاتها. كتب في مدينته الفاضلة يقول: "والقوى النزوعية وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه... وهذه القوى هي التي بها تكون الإرادة. فإن الإرادة هي نزوع إلى ما أدرك، وعن ما أدرك، إما بالحس، وإما بالتخيل، وإما بالقوة الناطقة، وحكم فيه أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك. والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما، وقد يكون إلى عمل شيء ما، وعلم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة، وقد يكون بالإحساس".(قمير، 1983، 63-64).
وتبرز مقارنة رأي الفارابي بآراء سابقيه من الفلاسفة في النفس الأثر الكبير الذي تركه كل من أرسطو وأفلاطون بصورةٍ خاصة على موقفه ونظرته. ولكنّ ذلك يجب أن لا يدفع الباحث إلى إنكار الجهد الذي بذله الفارابي في نقل تعاليم هذين الفيلسوفين وترجمتها إلى اللغة العربية من ناحية، وتطويرها في اتجاهات شتى بالقدر الذي كانت تسمح به وسائل البحث وأدواته في ذلك العصر من ناحية ثانية.
لقد مهد نشاط الفارابي الفكري السبيل أمام ظهور أفكار عظيمة أكثر نضجاً في ميدان علم النفس ووفرت أعماله كثيراً من الوقت والجهد على من جاء بعده ممّا يمكن اعتباره بحق شرطاً من شروط نشوء علم النفس السينوي. هذا ما يعترف به ابن سينا ذاته عبر الحديث عن الصعوبات التي لاقاها في فهم كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو. وحسب روايته فقد قرأ هذا المؤلف أربعين مرةً، دون أن يتمكن من الوقوف على أغراضه، وأنه عثر بعد ذلك وبالصدفة على كتاب الفارابي "أغراض ما بعد الطبيعة"، فاطلع عليه واستوعب مضمونه وأدرك غاياته. (نجاتي، 1980، ص 31).
انطلق ابن سينا(980-1037م) من نظرته الثنائية إلى الإنسان، حيث وجد أن النفس تختلف جوهرياً عن الجسد. ولما كانت –حسب رأيه- جزءاً من العالم العلوي، على العكس من الجسد الذي يتكون من العناصر الأربعة(التراب والماء والنار والهواء)، فإنها تتحد به عقب الولادة، وتفارقه بعد الموت لتعود إلى الباري عزّ وجلّ فتحاسب على ما فعلت أثناء وجودها على الأرض. فهي، من هذا المنظور، صورة الجسد، وذات آلة به، ولكنها لا تفسد بفساده، ولا يغيّر موته جوهرها، وإنما تبقى كسائر الجواهر الخالدة.
ولقد كرس ابن سينا عدداً من رسائله لإيضاح موقفه من النفس وعلاقتها بالبدن، وأصلها ومصيرها. ولعلَّ أهم ما وصل إلينا من تراثه في هذا المجال "رسالة الطير" و "سلامان وأبسال" و "حي بن يقظان" وقصيدته العينية المشهورة التي يستهلها بقوله:
"هبطت إليك من المحلّ الأرفع



ورقاء ذات تعزّزٍ وتمنّع"


"محجوبة عن كل مقلة عارفٍ



وهي التي سفرت، ولم تتبرقع"


وصلت على كره إليك، وربّما



كرهت فراقك، وهي ذات تفجّع


"(زيعور، 1980، 67).
وهكذا أبقى ابن سينا على الثنائية التي ميّزت نظريات الفلاسفة السابقين أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو والكندي والفارابي.
على أن هذا الجانب الميتافيزيائي لا يمثل إلا جزءاً من علم النفس السينوي. فالإحاطة بتعاليم ابن سينا السيكولوجية تقتضي الرجوع إلى جميع أعماله، والإطلاع على ما تتضمنه فصولها من آراء في وظائف النفس ونشاطها.
وأول ما تجدر الإشارة إليه هو أن الإنسان كان بالنسبة لابن سينا –موضوعاً رئيسياً أولى معرفة أبعاده جلّ اهتمامه وأنفق في سبيله وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً، وخصص له عدداً من مؤلفاته. وإن قراءة متأنية لما وصل إلينا من هذه المؤلفات تعرف الباحث على مراحل تطور فكر ابن سينا عامة، وما يميز نظريته في النفس من ترابط في المفاهيم والأفكار ودقة في البسط والتفسير والتعليل ممّا يعكس سعة إطلاع هذا المفكر الكبير وحدة ذهنه وقوة إرادته.
اعتمد ابن سينا على التراث الفلسفي اليوناني والهندي والفارسي والعربي-الإسلامي، اعتماده على معطيات الطب والتشريح. وقد ساعده توظيف هذه المعطيات وذاك التراث توظيفاً مبدعاً، إلى جانب خبرته وتجاربه وملاحظته العلمية الدقيقة، في صياغة نظريته السيكولوجية على نحو متناسق ومنتظم جعلها تفوق جميع ما سبقها من نظريات دقّةً وشموليةً.
ينظر ابن سينا إلى النفس من خلال مستويات ثلاثة: المستوى النباتي والمستوى الحيواني والمستوى الإنساني. وكلّ مستوى من هذه المستويات يتولى القيام بوظائف معينة. فالمستوى النباتي من النفس يقوم بوظائف التغذية والنمو والتكاثر وهو ما نجده عند النبات والحيوان والإنسان. وتقوم النفس الحيوانية بوظائف الإحساس والتخيل والحركة التي نجدها عند الإنسان والحيوان. أما المستوى الإنساني ووظيفته العقل، فهو يخص الإنسان وحده. ويشبه هذا التصنيف التصنيف الذي قدمه أرسطو. وهذا ما يحمل على الاعتقاد بأن ابن سينا تأثر بأرسطو في وضع هذه الحدود العريضة للنفس. غير أن الدخول في تفصيلاتها الدقيقة يضعنا أمام تباين وجهتي نظرهما. صحيح أن كلاً منهما تحدث عن وجود إدراك ظاهري تقوم به الحواس الخمس الخارجية وإدراك باطني تقوم به حواس داخلية، وأن أرسطو تحدث عن ثلاث من هذه الحواس(الحس المشترك والذاكرة والتخيل)، ولكنّ ابن سينا يضيف إليها حاستين أخريين. وهما: المصورة والوهم.
وزيادة على ذلك فإن ابن سينا قدم وصفاً متقدماً لآليات الإحساس الظاهري وشروطه الداخلية(العصبية) والخارجية(الصفات الفيزيائية والكيميائية للأشياء) متجاوزاً تعاليم المفكرين القدماء الذين درسوا الوظائف النفسيّة دون أن يربطوها بالعمليات العصبية التي تتم أثناء تفاعل الإنسان أو الحيوان مع الوسط الخارجي، لاعتقادهم باستقلالية كلّ من المجالين: النفسي والفيزيولوجي وعدم وجود علاقة تربط أحدهما بالآخر. كتب ابن سينا في هذا الشأن يقول: "... قال قوم من الأوائل إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلا واسطة آلية ولا آلات. أما الوسائط فمثل الهواء للإبصار. وأما الآلات فمثل العين للإبصار. وقد بعدوا عن الحق. فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات، لكانت هذه الآلات معطلة في الخلقة لا ينتفع بها. وأيضاً فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع، فيستحيل أن يكون بعض الأجسام قريباً منها ومتجهاً إليها فيحس، وبعضها بعيداً عنها محتجباً منها فلا يحس...".(ج1، الشفاء، 298).
وتتجسد نظرة ابن سينا المبدئية إلى العلاقة بين النفس والجسد بصورة واضحة عبر دراسته للجانب الوجداني من النفس البشرية. فقد حاول التعرف على السبب النفسي للضعف العضوي الذي كان يعاني منه أحد الفتيان من خلال إسماعه مجموعة من الكلمات، وتحديد ما يثيره منها بالاعتماد على تغيّر نبضات القلب وتبدلها كرد فعل تقوم به العضوية على مثيرات العالم الخارجي. وتعدّ هذه التجربة أول محاولة للتشخيص النفسي في تاريخ الفكر الإنساني. حيث سبق ابن سينا بها محاولات علماء النفس في العصر الحديث لوضع اختبارات تمكنهم من الكشف عن الجوانب الانفعالية والوجدانية لدى الإنسان("كاشف الكذب" مثلاً) بعدّة قرون.
ولعل من اليسير أن يقف المؤرخ الموضوعي للفكر السيكولوجي على عدد من الوقائع الصريحة والأدلة الثابتة التي تجعله ينظر إلى ابن سينا باعتباره رائداً من رواد هذا الميدان المعرفي.
فهناك، للمثال، تجربة أخرى أجراها ابن سينا لإبراز أثر الحالة النفسية(الانفعال) في حياة الحيوانات والإنسان. وتتلخص هذه التجربة في مقارنة الوضع النفسي لخروفين كان يقدم لهما نفس الغذاء من حيث الكمية والنوعية. ولكنّه وضع أحدهما في شروط عادية آمنة، بينما وضع الثاني قبالة ذئب. وبصرف النظر عن شروط التغذية المتشابهة فإنّ صحة الخروف الثاني كانت تتدهور بصورة ملحوظة حتى هلك.
من هنا يتجلى اهتمام ابن سينا بالعلاقة بين مظاهر النفس وتجلياتها المختلفة من جهة، وبالبيئة من جهة ثانية. فدور التربية –عنده- لا يقتصر على النمو الجسمي عند الفرد فحسب، وإنما يشمل الخصائص النفسية أيضاً. ذلك لأن النفس تؤثر على البنية الثابتة للعضوية. فمواقف الإنسان ومشاعره نحو العالم الخارجي تغير مجرى العمليات الفيزيولوجية لديه. ووجودها لا يحدث بشكل عفوي أو تلقائي، وإنما هو –في نظر ابن سينا- نتيجة تأثير الآخرين عليه خلال مراحل حياته المتعاقبة.(ياروشيفسكي، 1985، 95).
لقد دفع مبدأ وحدة العمليات النفسية والعمليات الجسمية ابن سينا للبحث في مركبات الجهاز العصبي باعتباره مصدر الإحساس والإدراك عند الإنسان والحيوان. وقد مكّنه ذلك من تطوير الأفكار المتعلقة بوظيفة الدماغ وعمل الأعصاب، والتصورات التي كانت سائدة آنذاك حول النشاط الحسي وتصنيف الحواس حسب أهميتها وفائدتها في المعرفة الحسية على وجه الخصوص. واقترب بها في بعض المواضع من المعطيات العلمية الحديثة. فمتابعته لموضوع الحواس بدءاً من مؤلّفه "مبحث عن القوى النفسانية" حتى كتابه "الشفاء" تعكس، دون شك، دأب العالم واهتمامه بمادة بحثه وحرصه على الوصول إلى أحكام دقيقة بشأنها. مثلما هو دليل على إسهامه في تطوير هذا الباب من الفكر ودفعه إلى الأمام.
ويلاحظ الدكتور محمد عثمان نجاتي في هذا الشأن أن فكر ابن سينا في مرحلة الشباب هو، في غالب الأحيان، محاكاة لتعاليم أرسطو وتقديم لها، ولذا فإنه يحيل القارئ إلى ما كتبه ابن سينا في مراحل لاحقة من حياته ليجد ما يعبر من خلاله عن آرائه الخاصة وفكره الأصيل(نجاتي، 1980، 86). فابن سينا على سبيل المثال، يرى في المرحلة الأولى أن "اللحم متوسط بين القوى اللامسة وبين الكيفية الملموسة"(نجاتي، 1980، 86). ولكنه يعود في "الشفاء" ليقرر "أن عضو حاسة اللمس هو اللحم والجلد المحيطان بالبدن والعصب المنتشر فيهما"(نجاتي، 1980، 87).
ولم تقتصر إعادة نظر ابن سينا في رأيه بالجهاز العصبي على تفسير عمل الحواس الخمس فقط، وإنما شملت كذلك دراسته للوظائف الحسية الباطنية بصورة أكثر موضوعية. فقد ربط هذا الجانب من النفس الحيوانية(الحس المشترك والمصورة والذاكرة والوهم والمتخيلة) بمناطق محددة من الدماغ. وهكذا صار الحس المشترك يقع في أول التجويف المقدم من الدماغ، والمصورة في آخر التجويف المقدم، والمتخيلة في أول التجويف الأوسط، والوهم في نهاية التجويف الأوسط، والذاكرة في التجويف المؤخر.(نجاتي، 1980، 29-144).
وعلى الرغم من الأخطاء التي وقع فيها ابن سينا لدى تحديده لأجزاء البدن المسؤولة عن الوظائف الحسية والحركية عند الكائن الحيواني، فإن عمله هذا يبقى محاولة جديرة بالاهتمام لمعرفة آثارها على المفكرين الأوربيين في القرون الوسطى ومطالع عصر النهضة.
والشيء ذاته يمكن أن يقال عن نظرية ابن سينا في المعرفة. فمع أنه اعتبر التصور والتخيل والتذكر من بين وظائف الإدراك الحسي، فإن ذلك لم يحل بينه وبين تبيان مهمة كل واحدة من العمليات النفسية بدءاً من الإحساس وانتهاء بالتفكير أو، كما يسميه هو، العقل. إذ وجد أن الحواس تقدم المادة الأولية والتصور يرتبها، ثم يأتي الخيال والوهم لينقيانها من الشوائب(اللواحق المادية) ويقدمانها للعقل الذي "يقوم بتجريدها عن كل ما له صلة بالمادة".
وعند الحديث عن العقل يجد ابن سينا أن هناك عقلاً هيولانياً وعقلاً بالملكة وعقلاً مستفاداً وعقلاً بالفعل. ولكلّ عقل –في رأيه- طبيعته المتميزة ودوره في المعرفة واكتساب العلوم. وتكون نسبة وجود هذه العقول متفاوتة عند الناس، بل وقد يكون بعضها مما لا يشتركون فيه جميعاً.
لقد لاقت تعاليم ابن سينا في النفس ونظريته في المعرفة أصداء واسعة وعميقة في أعمال الفلاسفة العرب والمسلمين ومن بعدهم(وغالباً عن طريقهم) الفلاسفة اللاتينيين من توما الأكويني إلى رينيه ديكارت.
وليس بعيداً عن ابن سينا نحا أحد معاصريه، و هو الفيزيائي والرياضي العربي ابن الهيثم(965-1039) منحى آخر في نشاطه العلمي، واقترح أفكاراً جديدة في علم النفس الفيزيولوجي. فقد درس الإدراك البصري، وانطلق في تفسيره لهذه الظاهرة من قوانين البصريات. وقادته ملاحظته الدقيقة إلى القول بأنها تتم نتيجة انعكاس الموضوع الخارجي وتكون شكله على شبكية العين بوصفها جهازاً بصرياً.
إن ما اصطلح العلماء فيما بعد على تسميته إسقاط الشكل، أي نسبته إلى الموضوع الخارجي، اعتبره ابن الهيثم ثمرة لنشاط عقلي متمم ذي نظام راق. فحادثة الإبصار تعني بالنسبة لابن الهيثم، وجود الأثر المباشر للمنبهات الخارجية أولاً، ونشاط العقل الذي يمكن من إدراك أوجه الاختلاف والتشابه بين الموضوعات المرئية ثانياً. وقد افترض ابن الهيثم أن هذه العملية تتم بصورة لا شعورية. وبهذا يكون قد سبق كلا من هيلمهولتز وسيجينيف بأكثر من ثمانية قرون ونصف القرن إلى القول بـ "الاستنتاج اللاشعوري" كآلية رئيسية للإدراك البصري.
إن الإدراك البصري ليس مجرد عملية انعكاس سلبية للموضوع الخارجي على شبكية العين كما هو الشأن بالنسبة للمرآة التي تعكس الأشياء التي ترد إليها وفق قوانين فيزيائية، وإنما هو عملية نشطة وفعالة تتجلى في حركة العينين وتحول المحورين البصريين وانتقالهما. كما أنها ترتبط بزمن ديمومتها. فوجد ابن الهيثم أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الموضوعات إدراكاً صحيحاً لدى عرضها أمامه لفترة قصيرة إلا إذا كانت معروفة بالنسبة له من قبل. ويرجع ذلك –برأيه- إلى أن التأثير المباشر للمثيرات الضوئية لا يكفي وحده لتكون الشكل البصري، ولا بدّ –بالإضافة إليه- من وجود الآثار التي خلفتها الانطباعات السابقة في الجهاز العصبي.
وهكذا يكون ابن الهيثم قد تجاوز الأفكار الخاطئة باعتماده على خبرته الواسعة والعميقة في الرياضيات والفيزياء والفيزيولوجيا التي تحاكي في الكثير من الجوانب خبرات علماء القرن التاسع عشر.
وفي المغرب العربيّ كان الإنسان والمجتمع محور نشاط الفلاسفة والمفكرين في تلك الفترة من الزمن. ويعد ابن خلدون(1322-1406م) واحداً من أبرزهم.
يحتل الإنسان –في نظر ابن خلدون- مكانة رفيعة لما يتمتع به من قدرات فكرية تجعله كائناً متميّزاً عن سواه باعتباره الحلقة الأخيرة في سلسلة التكوين والنشوء التي عرفها الكون، والتي تعتبر كلّ حلقة فيها نتيجة لسابقتها ومقدمة للحلقة التي تليها. وتتمثل الحلقة الأولى، عنده، في ظهور العناصر المادية بدءاً من التراب وانتهاء بالنار، مروراً بالماء ثم الهواء. وبفعل تحولات هذه العناصر وتفاعلها بعضها مع بعض تتكون المعادن فالنباتات فالحيوانات، وأخيراً الإنسان بصورة تدريجيةٍ ومحكمة ويستمد الكائن الأعلى وجوده من الأدنى. وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته: "ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئةٍ بديعةٍ من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، مثل الحشائش وما لا(بزرة) له. وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان(كالحلزون) والصدف لم يوجد لهما إلاّ قوة اللمس فقط... واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة* الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك(في) أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا".(ابن خلدون، 1984، 137).
وعلى أساس هذه النظرة التطورية يميّز ابن خلدون مراتب عديدة للنفس الإنسانية، تتحدد عبرها وبفضلها موضوعات النشاط البشري، بل وموقع الإنسان في هذا الكون. فالنفس في المرتبة الأولى تكون مرتبطة ارتباطاً كلياً بالبدن. وتعتمد في تفاعلها مع العالم الخارجي على القوى الحسية والخيال والذاكرة والتفكير بالمحسوسات. بينما تستطيع في المرتبة الثانية من الإفلات من عالم المحسوسات لتّتجه نحو "عالم المشاهدات الباطنية" و "التعقل ********".
وما يميز المرتبة الثالثة من النفس البشرية هو ما فُطرت عليه من قدرة التخلّي عن كلّ ما هو محسوس بصورةٍ كليةٍ والتحول إلى عقل محض أو "ذات روحانية".
إن المرتبة الأولى من النفس تسم أوجه النشاطات الحسية التي يقوم بها الناس عامة، والعلماء منهم خاصة. بينما تتبدى المرتبة الثانية في الرؤى ونشاطات الكهّان والعرافين أما المرتبة الثالثة فهي خاصية الأنبياء وحدهم، وتتجسد في ظاهرة الوحي.
ولعله من الواضح أن ابن خلدون في حديثه عن أصناف النفوس البشرية ومراتبها، شأنه شأن العديد من المفكرين الذين سبقوه، يركز على ساحة واحدة من ساحات النفس التي كشف عنها علم النفس، وهي الساحة المعرفية التي تشتمل على الإحساس والإدراك والانتباه والتصور والكلام والتخيل والتذكر والتفكير. وبقيت الحالات النفسية(الانفعالات والعواطف والإرادة) وخصائص الشخصية كالطبع والمزاج وسواهما خارج مجال مشاغله واهتمامه، وكأنها ظواهر ذات طبيعة خاصة وأصولٍ متميّزة.
ولقد شدّد ابن خلدون على أثر العوامل المحيطة كالمناخ والظروف المعيشية للإنسان في صفاته الجسمية والنفسية وعلاقاته بالآخرين. كما أشار إلى الترتيب والأحكام اللذين تتصف بهما المخلوقات والعلاقة السببية القائمة بينها. ولكنّه لم يعمّم هذا الأثر على الصعيد المعرفي، الأمر الذي لم يمكنه من تقديم صورة كاملة ومتكاملة للنفس الإنسانية، وأضفى على نظريته طابعاً ميتافيزيائياً وصوفياً.
صحيح أن هناك درجات متفاوتة للمعرفة في الزمان والمكان. فالتطور الثقافي للمجتمع يقود –وفق آليات معينة- إلى النمو المعرفي للفرد بنيةً وأسلوباً وطريقةً. وفي ضوء ذلك انتقل الإنسان خلال عملية التطور هذه من المستوى الحسيّ(المباشر) في التفاعل مع العالم الخارجي وإدراك ظواهره وأحداثه إلى المستوى المجرد، حيث يستخدم الرموز والجداول والمخططات والمفاهيم... الخ، في نشاطه المعرفي. ولكن مهما كان شأو المعرفة كبيراً فإنها تبقى ذات طبيعة إنسانية، تقدم العمليات الأولى(الإحساس والإدراك) المادة الخام. وعلى هذا يصبح تصور الكهانة و***** والأحلام على أنها ضرب من ضروب النشاط الذهني الراقي بعيداً عن الفهم العلمي لهذا النشاط.
ولكنّ ذلك يجب أن لا يحجب عنا الطابع العلمي الذي ميّز آراء ابن خلدون، ولا سيّما الأسس التي بنى عليها تفسيره لحركة المجتمع والعلائق الاجتماعية أي الحتمية. فقد تجسد ذلك في ربطه الظواهر، موضوع البحث، بعضها ببعض وفق مبدأ السبب والنتيجة. وتبعاً لذلك يجدر التنويه بنظرة ابن خلدون إلى التربية ودورها الإيجابي في عملية النمو النفسي للطفل وإعداده للمستقبل. وتكفي الإشارة، هنا، إلى الأساليب التربوية والتعليمية التي نصح بإتباعها كتحديد المواد الدراسية لكي لا يختلط على الدارسين طبيعتها ومحتوياتها، وتناول الموضوعات من جوانبها المختلفة، ومتابعة استيعاب الطفل لها دون اللجوء إلى العقاب والعنف. بالإضافة إلى المبادئ التي ينبغي أن تخضع لها العملية التربوية والتعليمية، كالانتقال من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المعقد، ومن المعلوم إلى المجهول. ولعلَّ هذا ما جعل ابن خلدون يتجاوز سابقيه في فهم أهمية التعليم وضرورة إقامته حسب قواعد علميّة مدروسة، ويقترب به من النظريات الحديثة.
إننا، ونحن نعرض لأهم آراء بعض المفكرين العرب-المسلمين، علينا أن لا ننسى ابن طفيل وابن رشد. فقد كرس الأول قصة "حي بن يقظان" ليبيّن دور البيئة في تكوين الإنسان على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والعقلي. وأخضع الثاني السلوك الإنساني العادي والشاذ إلى الملاحظة العلمية، ممّا يسّر له التعرف على الكثير من العلل التي تؤدي إلى نشوء أنماط مختلفة من السلوك.
كما وجه ابن رشد نقداً عنيفاً إلى نظرة أهل عصره إلى الأمراض النفسية. فقد وجد أنها تعتمد في أساسها على معتقدات باطلة، وتقوم على ***** والخرافة. ولذا تراه يلّح على ضرورة التخلّي عن الأساليب والطرائق المستخدمة في معالجة هذه الأمراض، وينصح بإقامة مراكز خاصة تعنى بالمرضى النفسيين ومعالجتهم عن طريق العقاقير الطبية والراحة والاستجمام والتدريبات الخاصة.
ومن ناحية أخرى أخضع ابن رشد منجزات علم النفس الفيزيولوجي إلى التحليل العلمي. وقاده ذلك إلى القول بأن الشبكيّة هي الجزء المسؤول عن الإحساس البصري، وليست عدسة العين- كما كان شائعاً آنئذٍ.
وفي ضوء ذلك يمكن اعتبار ابن رشد واحداً من العلماء العرب المسلمين "الذين جعلت أعمالهم(وعلى امتداد عدد من الأجيال) من الانطلاقة الرائعة للفكر العلمي في القرون اللاحقة أمراً ممكناً".(ياروشيفسكي، 1985، 98).
د-الفكر السيكولوجي
في الفلسفة الأوربية خلال عصور النهضة.


ومع انتقال المعارف والعلوم إلى أوربة وبزوغ فجر النهضة في البلدان الأوربية ظهرت أفكار أكثر تحديداً وتركيزاً فيما يتعلق بقضايا الطبيعة والمجتمع عامة، وبموضوع النفس خاصة. ويجمع المؤرخون على أن أول من أولى موضوع النفس اهتماماً خاصاً هو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت
(1596-1650م).

اعتقد ديكارت أن سلوك الحيوانات والإنسان أشبه ما يكون بعمل الآلة. ولذا فهو ينطلق في تفسيره للسلوك من المبدأ الذي تفسر به الظواهر الفيزيائية، وهو مبدأ الانعكاس REFLEX. والانعكاس –عنده- هو الاستجابة اللا إرادية والآلية التي ترد بها العضوية على مثيرات العالم الخارجي بهدف التكيف معه.
إن فهماً كهذا يقود إلى الحكم بأن تصورات ديكارت حول الآلية الفيزيولوجية للظاهرة النفسية لم تتجاوز تصورات ابن سينا قبل عدة قرون. فآلية الوظيفة النفسية(الحس، مثلاً،) عند ديكارت تتمثل في أن "الأشياء الخارجية"، عندما تؤثر على أعضاء الحس، تحدث توتراً في ما أسماه بـ "الخيوط العصبية" التي تتصل بالمخ عبر "أنابيب" عصبية، الأمر الذي يؤدي إلى انفتاح صمامات تسمح بعبور تيار من الأجزاء الدقيقة "الأرواح الحيوانية" التي تستقر في تجاويف المخ، إلى الأعصاب ومنها إلى العضلات فتنتفخ هذه الأخيرة وتحدث الاستجابة الحركية. لقد حاول ديكارت تطبيق مبدأ الانعكاس على جميع الوظائف النفسية. وتبين له، فيما بعد، عدم كفاية هذا المبدأ لتفسير الظواهر النفسية المعقدة كالتذكر والتفكير والإرادة والعاطفة. وهذا ما قاده إلى القول بوجود "عقل عال" لدى الإنسان كمظهر من مظاهر نشاط الروح، متميز تماماً عن البدن وما يصدر عنه من أفعال حسية وحركية.
وهكذا وجد ديكارت في الثنائية مخرجاً من المأزق الذي أوصله إليه منهجه؛ فطرح موضوعة الروح مقابل الجسد، والعقل العالي نظير الظواهر النفسية الانعكاسية.
ومهما يكن من أمر فقد كانت آراء ديكارت في السلوك الإنساني والحيواني الأساس الذي اجتهد المفكرون والفلاسفة لتطويره وتوسيعه، وسعوا لصياغة أفكار أكثر تحديداً من خلاله وفي هذا الشأن يمكن تمييز تيارين رئيسيين؛ اتخذ ممثلو أولهما من الانعكاس منطلقاً لهم في تفسير كافة المظاهر السلوكية. بينما اعتمد ممثلو التيار الثاني في دراستهم للإنسان على الفصل بين ما هو نفسي أو روحي، وما هو عضوي أو جسمي، وأسبقية الروح وثانوية الجسد.
وكان على الثنائية التي طبعت تعاليم ديكارت أن تنتظر الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز(1588-1679) لكي يحلها ويتجاوزها. فقد وجد هذا الفيلسوف أن الظواهر الكونية، بما فيها مظاهر السلوك، تقوم أساساً على الحركة الآلية. فالموضوعات الخارجية تؤثر على أعضاء الحس، فتنتقل منها إلى القلب والمخ بوساطة الأعصاب، حيث تحتفظ بحركتها هناك على شكل مشاعر وصور وأفكار. وبذا يعدّ هوبز أول مفكر حذف مفهوم الروح واكتفى بدراسة دور الأفعال الآلية التي تصدر عن الجسم. وقد اعتبرت آراؤه حجر الزاوية في نشأة الارتباطيّة في القرن الثامن عشر ومن ثم تطورها عبر القرن التاسع عشر.
ولعلنا نجد موقفاً مماثلاً عند باروخ سبينوزا(1632-1677م). فالأفكار والأحاسيس والمشاعر تخضع في حركتها وديناميتها –من وجهة نظر هذا الفيلسوف- إلى نفس النظام الذي تخضع له الأشياء والحوادث الطبيعية في تشكلها وتطورها. ويشير سبينوزا إلى أن الظواهر النفسية، مثلها مثل الظواهر المادية، تنشأ وتتطور بفعل جملة من الأسباب والعوامل الموضوعية.
والنتيجة التي يخلص إليها هذا الفيلسوف هي أن دراسة هذه الظاهرة أو تلك تقتضي النظر إليها كمعلول يتوجب على الباحث معرفة العلّة والإحاطة بكافة عناصرها. ويمكن اعتبار هذه النتيجة إسهاماً من جانب سبينوزا في وضع مبدأ هام من مبادئ علم النفس، وهو مبدأ الحتمية.
إننا، ونحن نتحدث عن الأفكار السيكولوجية التي ظهرت أثناء عصر النهضة الأوربية، نجد لزاماً علينا أن نشير إلى مظاهر هذه النهضة وتجلياتها في العلوم الميكانيكية والرياضيات والفيزياء، وأثر ذلك كله في تطور هذه الأفكار. فلقد مكنت المعطيات العلمية في شتى الميادين فلاسفة القرن السابع عشر من تطوير وسائل البحث وأدواته وتعميق تصوراتهم حول موضوعات نشاطهم. وهذا ما نلمسه من خلال أفكار الفيلسوف الألماني غوتفريد ويلهلم ليبنتز(1646-1716). إذ كشف هذا المفكر عن مفهوم اللا شعور، وميّز في الحياة النفسية بين الظواهر اللا شعورية التي تنشأ على مستوى الإدراك من جهة، وبين الشعور أو الوعي الذي يتجلى في الانتباه والتذكر من جهة ثانية.
كان ليبنتز من أبرز ممثلي النزعة المثالية في عصره. فالعالم –عنده- يقوم في جوهره على مجموعة من الأرواح أو كما يسميها "المونادات". والموناد هو الجوهر الذي لا يتجزأ. ولدى تعميم هذا المبدأ على الكائن الحي، فإن الروح هي التي تؤلف جوهر كينونته وتعتبر العلة الأولى لكافة أنواع حركته.
إن أفكار ليبنتز بوجه العموم هي نموذج للاتجاه العقلاني الذي صبغ الفكر الأوروبي في القرن السابع عشر بصبغته الخاصة. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن المعرفة الخالصة هي نتاج العقل وحده. بيد أن تطور الحياة الاجتماعية والعلمية كانعكاس للثورة الصناعية الأولى التي شهدتها أوربة خلال القرن الثامن عشر كان لـه الفضل في ولادة اتجاه آخر، هو الاتجاه التجرُبي الحسي(الأمبيريقي). فالإحساس والإدراك والتجربة الحياتية للفرد هي، برأي أصحاب الاتجاه التجربي، مصدر المعرفة الإنسانية. ويعتبر الفيلسوف والمربي الإنكليزي جون لوك(1632-1704) مؤسس هذا الاتجاه.
يرفض لوك وجود قدرات أو صفات نفسيّة موروثة. فالطفل، من هذا المنطلق، يُولد صفحة بيضاء. والمجتمع هو الذي يتولى تشكيل الظواهر النفسية وتطويرها لديه بعد الولادة. وعلى هذا النحو تتكون خبرة الإنسان وتتعاظم تجاربه بصورة تدريجية مع انتقاله من سن إلى أخرى.
فلا غرو، والحالة هذه، أن يولي لوك أهميةً كبيرةً للتربية. ويرى أن عليها أن تتجه نحو تكوين بنية جسدية متينة وعقل سليم وإرادة قوية وأخلاق فاضلة لدى الفرد كيما يكون قادراً على مواجهة مشكلات الحياة.
لقد تركت الأحداث السياسية التي مرت بها إنكلترا في القرن السابع عشر بصماتها على موقف جون لوك وآرائه الفلسفية والتربوية. فقد عاش في عصر شهد فيه المجتمع الإنكليزي صراعاً حاداً بين الطبقة البرجوازية الفتية الصاعدة والطبقة الإقطاعية الهرمة، انتهى بلقاء الطرفين في منتصف الطريق وإقرار الملكية الدستورية. وكان لوك واحداً من أنصار هذا الحل الطبقي الوسط.
وانتقد لوك وجهة النظر التقليدية في التربية نقداً عنيفاً ودافع عمّا أسماه في كتابه "أفكار حول التربية"(1693) التربية الواقعية التي ترمي إلى تسليح الدارسين بالمعارف المفيدة في اللغات والرياضيات والعلوم والمحاسبة والجغرافية والحقوق... الخ. واعتبر مهمة التعليم الرئيسية إنما تكمن في تطوير التفكير المبدع والمستقل عند التلاميذ بالاعتماد على ميولهم وحبهم للمعرفة والإطلاع.
وفي كتاب "مقال عن الفهم البشري"(1690) يتحدث لوك عن مصدرين للخبرة الإنسانية: يغطّي أولهما الخبرة الخارجية، وثانيهما الخبرة الداخلية. ويتمثل المصدر الأول في نشاط أعضاء الحس. أما المصدر الثاني فيتمثل في نشاط العقل ذاته. ويقسم لوك الأفكار والتصورات عند الإنسان تبعاً لمصدرها إلى بسيطة ومركبة. فالبسيطة تتكون بفضل النشاط الحسي، والمركبة هي نتاج النشاط العقلي. إن الوعي، في الحالة الثانية، يبدو مغلقاً على ذاته، ومن غير الممكن دراسته إلا عن طريق رجوع الإنسان إلى ذاته وتتبعه لمجرى أفكاره في الداخل، أي عن طريق الملاحظة الذاتية أو ما يسمى بالاستبطان.
وهكذا يضع لوك العالم الخارجي الذي يعيش فيه الإنسان ويستمد منه تجربته الأولى وأفكاره البسيطة، من جهة، والعالم الداخلي أو الشعور من جهة أخرى على طرفي نقيض.
لقد حاول أتباع لوك من بعده، كل من موقعه، حل هذا التناقض وتجاوز ثنائيته. وألفت محاولاتهم اتجاهين متعارضين، كانا يتبلوران مع تزايد استقطابهما على مدى الحقبة الزمنية الممتدة من أيام لوك حتى الوقت الراهن. وقد مثل الاتجاه الأول كل من جورج بركلي ودافيد هيوم في إنكلترا. ومثل الاتجاه الثاني دافيد هارتلي في إنكلترا، وديدرو غولباخ وكوندياك وغيرهم من فلاسفة القرن الثامن عشر في فرنسا، وراديشيف في روسيا.
يجد ممثلو الاتجاه الأول أن التجربة الداخلية هي المصدر الرئيسي لمعارف الإنسان وأفكاره وتصوراته. في حين يرى أصحاب الاتجاه الثاني أن التجربة الخارجية هي المصدر الرئيسي لتشكل كافة الظواهر النفسية وتطورها. فالعلاقة القائمة بين الإنسان وعالمه الخارجي تؤلف –بالنسبة لهم- مضمون الصفات والخصائص النفسية.
لقد كانت هذه الآراء المتناقضة حجر الأساس لدراسات وبحوث كثيرة ومتنوعة في وقت لاحق، وخاصة في القرن التاسع عشر، ركز الباحثون اهتمامهم من خلالها على إثبات صحة أحد الاتجاهين.

¾¾



([1]) من أهم أعمال الفيلسوف الكندي التي ضمنها آراءه في النفس ما يلي: 1-كلام في النفس مختصر وجيز.
2-رسالة في أنّه جواهر لا أجسام. 3-رسالة في ماهية النوم والرؤيا. 4-رسالة في العقل. 5- رسالة في القول في النفس. 6-المختصر في كتاب أرسطو وأفلاطون وسائر الفلاسفة.

* ثبتنا كلمة القردة بدلاً من القدرة لأنها تنسجم مع روح النص. وهذا ما يتفق مع نسخة لجنة البيان العربي، ويختلف مع جميع النسخ كما هو وارد في الحاشية رقم 75 في الصفحة 137 من الجزء الأول من مقدمة ابن خلدون. الدار التونسية للنشر- المؤسسة الوطنية للكتاب، تونس 1984.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
العشرين, النفــس, القرن, عمـل


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع علـم النفــس في القرن العشرين
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
خلافات سياسية واقتصادية تنتظر قمة العشرين ام زهرة أخبار اقتصادية 0 09-01-2013 02:42 PM
ورقـة عمـل حـــول مجتمع الإعلام وثيقة عمل مقترحة من منظمة المؤتمر الإسلامي Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 10-30-2012 12:17 PM
المدن العشرين الأكثر استقبالاً للزائرين عالميًا يقيني بالله يقيني الصور والتصاميم 19 07-13-2012 03:19 AM
ملامح الآداب الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 02-19-2012 10:59 AM
المجتمع الأوربي في عصر الإقطاع من القرن 9 م إلى القرن 14 م Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 01-29-2012 07:38 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:18 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59